رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
تكون في حال الاضطرار لما لا يكون ابتداؤه جرما لك، وتكون ضرورتك لسراية جنايتك.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 15]
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)
رافع الدرجات للعصاة بالنجاة «1» ، وللمطيعين بالمثوبات، وللأصفياء والأولياء بالكرامات، ولذوى الحاجات بالكفايات، وللعارفين بتنقيبهم عن جميع أنواع الإرادات.
ويقال درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا فيرفع درجاتهم عن النظر إلى الكونين دون المساكنة إلهما. وأمّا المحبون فيرفع درجاتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئا غير رضاء محبوبهم «2» .
«ذُو الْعَرْشِ» : ذو الملك الرفيع. ويقال العرش الذي هو قبلة الدعاء، خلقه أرفع المخلوقات وأعظمها جثة «3» .
«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» روح بها ضياء أبدانهم- وهو سلطان عقولهم، وروح بهاء ضياء قلوبهم- وهو شفاء علومهم، وروح بها ضياء أرواحهم
__________
(1) واضح أن القشيري لا يكاد يترك فرصة دون أن يفتح أبواب الأمل أمام العصاة حتى لا يقنطوا من رحمة الله.. وهذا نابع من سياحته الصوفية الأصيلة.
(2) هنا نلاحظ أن القشيري جعل المحب أعلى درجة من العارف- مع أن العرفان الذي غايته التوحيد- هو أعلى مراتب الطريق الصوفي. ولكن نظرا لأن الحب والفناء والمعرفة كلها من الحب وإلى الحب فكثيرا ما نجد كتاب التصوف كالقشيرى والغزالي وغيرهما لا يتقيدون تقيدا حرفيا بهذا الترتيب الذي يفيد في الدراسة فقط، وقد تناولنا هذه النقطة بالتفصيل في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف» فى مقدمة باب «المذاقات» .
(3) نلاحظ أن القشيري هنا يصف (العرش) مرة بأنه الملك أو قبلة الدعاء ثم يعود فيقول (.... وأعظمها جثة) بمعنى أن يجرد العرش مرة من المادية ثم يعود ليخلع عليه النسبة المادية، فإذا كان ذلك بقصد مخاطبة الناس على قدر فهومهم- كما قلنا من قبل فهذا جائز.. ولكن الواقع أن القشيري يعبر عن شىء من الاضطراب الذي أصاب الأشاعرة إزاء المتشابهات، وهو أمر تحدثنا عنه بالتفصيل في كتابنا (لإمام القشيري- تصوفه وأدبه) ... ولعل خير ما انتهى إليه الرازي قوله «حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله منها شىء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله، ولا يجوز الخوض في تفسيرها» (أساس التقديس للرازى ط الكردي ص 223) :(3/300)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
- والذي هو للرّوح روح- بقاؤهم بالله.
ويقال: روح هو روح إلهام، وروح هو روح إعلام، وروح هو روح إكرام.
ويقال: روح النبوة، وروح الرسالة، وروح الولاية، وروح المعرفة.
ويقال: روح بها بقاء الخلق، وروح بها ضياء الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 16]
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16)
يعلم الحاصل الموجود، ويعلم المعدوم المفقود، والذي كان والذي يكون، والذي لا يكون مما علم أنه لا يجوز أن يكون، والذي جاز أن يكون أن لو كان كيف كان يكون.
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لا يتقيد ملكه بيوم، ولا يختصّ ملكه بوقت، ولكنّ دعاوى الخلق- اليوم- لا أصل لها إذ غدا تنقطع تلك الدعاوى وترتفع تلك الأوهام.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 17]
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
يجازيهم على أعمالهم بالجنان، وعلى أحوالهم بالرضوان، وعلى أنفاسهم بالقربة، وعلى محبتهم بالرؤية.
ويجازى المذنبين على توبتهم بالغفران، وعلى بكائهم بالضياء والشفاء.
«لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» : أي أنه يستحيل تقدير الظلم منه، وكل ما يفعل فله أن يفعله. «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» مع عباده لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب مع أوليائه في الحال يطالبهم بالصغير والكبير، والنقير والقطمير.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 18]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)(3/301)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قيامه الكلّ مؤجلّة، وقيامة المحبين معجّلة فلهم في كلّ نفس قيامة من العقاب والعذاب والثواب، والبعاد والاقتراب، وما لم يكن لهم في حساب «1» ، وتشهد عليهم الأعضاء فالدمع يشهد، وخفقان القلب ينطق، والنحول يخبر، واللون يفصح ... والعبد يستر ولكن البلاء يظهر:
يا من تغيّر صورتى لمّا بدا ... لجميع ما ظنّوا بنا تصديقا «2»
وأنشدوا:
لى في محبته شهود أربع ... وشهود كلّ قضية اثنان
ذوبان جسمى وارتعاد مفاصلى ... وخفوق قلبى واعتقال لسانى
وقلوبهم- إذا أزف الرحيل بلغت الحناجر، وعيونهم شرقت بدموعها إذا نودى بالرحيل وشدّت الرواحل.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 19]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
فحائنة أعين المحبين استحسانهم شيئا، ولهذا قالوا:
يا قرّة العين: سل عينى هل اكتحلت ... بمنظر حسن مذ غبت عن بصرى؟
ولذلك قالوا:
فعينى إذا استحسنت غيركم ... أمرت السّهاد بتعذيبها
__________
(1) أي وما لم يخطر لهم ببال.
(2) معنى الشاهد الشعرى فيما نظن: يا أيها الذي تتغير صورتى عند تجليه عليّ، فينكشف أمرى رغم محاولتى ستر حالى، وبذا تصدق ظنون العاذلين واللائمين. [.....](3/302)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
ومن خائنة أعينهم أن تأخذهم السّنة والسّبات في أوقات المناجاة وقد جاء في قصة داود عليه السلام: كذب من ادّعى محبتى، فإذا جنّة الليل نام عنّى! ومن خائنة أعين العارفين أن يكون لهم خبر بقلوبهم عمّا تقع عليه عيونهم.
ومن خائنة أعين الموحّدين أن تخرج منها قطرة دمع تأسّفا على مخلوق يفوت في الدنيا والآخرة، ولا على أنفسهم.
ومن خائنة أعين المحبين النظر إلى غير المحبوب بأى وجه كان، ففى الخبر: «حبّك الشىء يعمى ويضم» .
«وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» : فالحقّ به خبير «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 20]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يقضى للأجانب بالبعاد، ولأهل الوصال بالوداد، ويقضى يوم القدوم بعزل عمال الصدود، وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح فلا غرابة أن يذبح الفراق على رأس سكّة «2» الأحباب في صورة شخص منكر ويصلب على جذوع العبرة لينظر إليه أهل الحضرة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 21]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21)
__________
(1) كان عبد الله بن أبى سرح يكتب الوحى لرسول الله (ص) ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله (ص) بقتله يوم فتح مكة.
ويروى أنه لما جىء به إلى الرسول (ص) بعد ما اطمأن أهل مكة، وطلب عثمان رضى الله عنه له الأمان صمت الرسول طويلا ثم قال: «نعم» ، فلما انصرف قال الرسول (ص) لمن حوله: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا تكون له خائنة أعين»
(2) السكة الطريق المستوي.(3/303)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
أو لم يسيروا في أقطار الأرض بنفوسهم، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ليعتبروا بها فيزهدوا فيها؟ أو لم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان الفكر ليشهدوا أنوار التجلّى فيستبصروا بها؟
أو لم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ليستهلكوا في سلطان الحقائق، وليتخّلصوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 22]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
إن بنى من أهل السلوك قاصد لم يصل إلى مقصوده فليعلم أنّ موجب حجبه اعتراض خامر قلبه على بعض شيوخه في بعض أوقاته فإنّ الشيوخ بمحلّ السفراء للمريدين. وفي الخبر:
«الشيخ في قومه كالنبىّ في أمته» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 24]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)
أكرم خلقه في وقته كان موسى عليه السلام، وأخسّ خلقه وأذلّهم في حكمه وأشدّهم كفرا كان فرعون فما قال أحد غيره: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «2» .
فبعث الله- أخصّ عباده إلى أخسّ عباده، فقابله بالتكذيب، ونسبه إلى السّحر،
__________
(1) يقول السهروردي في عوارفه: «وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله (ص) وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب وأنكر وأوجب (ص 293) عوارف المعارف، وفي موضع آخر يقول: «فليعلم المريد أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ص 285.
(2) آية 38 سورة القصص.(3/304)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
وأنّبه بكل أنواع التأنيب. ثم لم يعجّل الله عقوبته، وأمهله إلى أن أوصل إليه شقوته- إنه سبحانه حليم بعباده.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 25]
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)
عزم على إهلاكه وإهلاك قومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، ولكن كان كما قال الله: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» ، لأنه إذا حفر أحد لوليّ من أولياء الله تعالى حفرة ما وقع فيها غير حافرها ... بذلك أجرى الحقّ سنّته.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 27]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
«وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» أي ليستعن بربه، وإنى أخاف أن يبدّل دينكم، وأخاف أن يفسد فى الأرض، وكان المفسد هو فرعون، وهو كما قيل في المثل: «رمتنى بدائها وانسلّت» .
ولكن كادله له الكيد، والكائد لا يتخلص من كيده.
فاستعاذ موسى بربه، وانتدب في الردّ عليهم مؤمن بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه:
[سورة غافر (40) : آية 28]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
- م (20) لطائف الإشارات- ج 3-(3/305)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
نصحهم واحتجّ عليهم فلم ينجع فيهم نصح ولا قول. وكم كرّر ذلك المؤمن من آل فرعون القول وأعاد لهم النّصح! فلم يستمعوا له، وكان كما قيل:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 34]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
بيّن أنّ تكذيبهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل، وكما أهلك أولئك قديما كذلك يفعل بهؤلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
السبب ما يتوصّل به إلى الشيء أي لعلّى أصل إلى السماء فأطّلع إلى إله موسى. ولو لم يكن من المضاهاة بين من قال إن المعبود في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفى به خزيا لمذهبهم «1» .
وقد غلط فرعون حين توهّم أنّ المعبود في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيبا فى طلبه من السماء.
قوله جل ذكره: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» .
أخبر أنّ اعتقاده بأنّ المعبود في السماء خطأ، وأنّه بذلك مصدود عن سبيل الله.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 39]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)
__________
(1) هنا يغمز القشيري بالمشبهة غمزة قاسية (انظر ص 345 من هذا المجلد) .(3/306)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
أصرّ على دعائه لهم وأصرّوا على جحودهم وعنودهم.
[سورة غافر (40) : آية 40]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
«فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» : فى المقدار لا في الصفة لأن الأولى سيئة، والمكافأة من الله عليها حسنة وليست بسئة.
«وَهُوَ مُؤْمِنٌ» يعنى في الحال «1» ، لأنّ من لا يكون مؤمنا في الحال لا يكون منه العمل الصالح، «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» : أي رزقا مؤبّدا مخّلدا، لا يخرجون من الجنة ولا ممّا هم عليه من المآل.
[سورة غافر (40) : آية 41]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
وهذا كلّه من قول مؤمن آل فرعون، يقوله على جهة الاحتجاج لقومه، ويلزمهم الحجة به.
[سورة غافر (40) : آية 42]
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لى بصحة قولكم، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان، وأقيم عليه البيان.
__________
(1) فى الحال هنا معناها في هذه الحياة الدنيا.(3/307)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
[سورة غافر (40) : آية 43]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43)
لا جرم أنّ ما تدعوننى إليه باطل فليس لتلك الأصنام حياة ولا علم ولا قدرة، وهي لا تنفع ولا تضرّ. ولقد علمنا- بقول الذين ظهر صدقهم بالمعجزات- كذبكم فيما تقولون.
[سورة غافر (40) : آية 44]
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)
أفوض أمرى إلى الله، وأتوكل عليه، ولا أخاف منكم، ولا من كيدكم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 46]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
والآية تدلّ على عذاب القبر «1» .
ويقال إنّ أرواح الكفار في حواصل طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا إلى يوم القيامة حيث تدخل النار «2» .
«أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي يا آل فرعون أدخلوا أشدّ العذاب، فنصبه على النداء المضاف. ويقرأ «أَدْخِلُوا» على الأمر «3» .
__________
(1) بدليل قوله تعالى فيما بعد عن عذاب الآخرة: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» وممن استنتج هذه النتيجة مجاهد وعكرمه ومقاتل ومحمد بن كعب.
(2) أي هذا دأبها في الدنيا تذهب في الغداة أفواجا بيضا صغارا ثم تعود في العشاء سودا قد احترقت رياشها (الأوزاعى- والنص عند القرطبي ح 15 ص 319)
(3) فيكون الأمر عندئذ لملائكة العذاب.(3/308)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
«أَشَدَّ الْعَذابِ» : أي أصعبه، وأصعب عذاب للكفار في النار يأسهم من الخروج عنها.
أمّا العصاة من المؤمنين فأشدّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يوم لقاء المؤمنين، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليوم أشدّ أيام عذابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 48]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)
يقول الضعفاء للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، ويقول لهم المستكبرون: أنتم وافقتمونا باختياركم «1» فمحاجة بعضهم لبعض تزيد في غيظ قلوبهم، فكما يعذّبون بنفوسهم يعذبون بضيق صدورهم وببغض بعضهم لبعض.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
وهذه أيضا من أمارات الأجنبية، فهم يدخلون واسطة بينهم وبين ربّهم «2» . ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كى لا يستشفعوا لهم.
__________
(1) لإحظ هنا كيف يحرص القشيري على إبراز عنصر الاختيار لدى الإنسان، مع معرفتنا السابقة بأنه ينادى بأن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد، وقد حاول أن يوفق بين الاتجاهين فقال: يجرى هذا من العبد فعلا ومن الله حكما.
(2) من ذلك نفهم أن القشيري لا يرى بالواسطة عند الدعاء، بل ينبغى أن تدعو الله مباشرة.(3/309)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 51]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
ننصرهم بالآيات وفنون التعريفات حتى يعرفوا ويشهدوا أن الظّفر وضدّه من الله، والخير والشرّ من الله.
ويقال ننصرهم على أعدائهم بكيد خفّى ولطف غير مرئيّ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون ننصرهم في الدنيا بالمعرفة «1» وباليقين بأنّ الكائنات من الله، وننصرهم فى الآخرة بأن يشهدوا ذلك، ويعرفوا- بالاضطرار «2» - أنّ التأثير من الله، وغاية النصرة أن يقتل الناصر عدوّ من ينصره، فإذا أراد حتفه «3» تحقّق بأن لا عدوّ على الحقيقة، وأنّ الخلق أشباح تجرى عليهم أحكام القدرة فالوليّ لا عدوّ له، ولا صديق له إلا الله، قال تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 52]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
دليل الخطاب أن المؤمنين ينفعهم تنصّلهم، ولهم من الله الرحمة، ولهم حسن الدار، وما بقي من هذه الدنيا إلا اليسير قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 54]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)
مضى طرف من البيان في قصة موسى.
__________
(1) فى ص (بالمغفرة) والملاثم للسياق (بالمعرفة واليقين) كما جاء في م.
(2) أي تكون معرفة ضرورية، ونحن نعلم من مذهب القشيري أن المعرفة في الابتداء كسبية (من العبد) وفي الانتهاء ضرورية (من الرب) .
(3) فى ص (حققه) والملائم للسياق أنه يريه (حتف) عدوه. [.....]
(4) آية 257 سورة البقرة.(3/310)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 55]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
الصبر في انتظار الموعود من الحقّ على حسب الإيمان والتصديق فمن كان تصديقه ويقينه أتمّ وأقوى كان صبره أتمّ وأوفى.
«إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» : وهو- سبحانه- يعطى وإن توهّم العبد أنه يبطى.
ويقال الصبر على قسمين: صبر على العافية، وصبر على البلاء، والصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، فصبر الرجال على العافية وهو أتمّ الصبر «1» .
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» . وفي هذا دليل على أنه كانت له ذنوب، ولم يكن جميع استغفاره لأمته لأنه قال في موضع آخر «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «2» وهنا لم يذكر ذلك. ويمكن حمل الذّنب على ما كان قبل النبوة إذ يجوز أن يكون العبد قد تاب من الزّلّة ثم يجب عليه الاستغفار منها كلما ذكرها، فإن تجديد التوبة يجب كما يجب أصل التوبة «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
«بِغَيْرِ سُلْطانٍ» : أي بغير حجة.
«إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ» أي ليس في صدورهم إلا كبر يمنعهم عن الانقياد للحق، ويبقون به عن الله، ولا يصلون إلى مرادهم.
__________
(1) لأن قوة الإنسان قد تنسيه ذكر المنعم فيصبر عنه- وهذا جفاء، ولكن ضعف الإنسان في البلاء يدعوه إلى الصبر في الله، قال قائلهم:
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
(2) آية 19 سورة محمد.
(3) تفيد هذه الآراء عند بحث قضية كلامية هى: عصمة الأنبياء.(3/311)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 57]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
أي خلق السماوات والأرض أكبر من بعثهم وخلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا رميما فالقوم كانوا يقرّون بخلق السماوات والأرض، وينكرون أمر البعث.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 58]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)
أراد به: ما يستوى المؤمن والكافر، ولا المربوط بشهوته كالمبسوط بصفوته، ولا المجذوب بقربته كالمحجوب بعقوبته، ولا المرقى إلى مشاهدته كالمبقّى في شاهده، ولا المجدود «1» بسعادته كالمردود لشقاوته.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 59]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
إنّ ميقات الحساب لكائن وإن وقعت المدة في أوانه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 60]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
معناه: أدعونى أستجب لكم إن شئت لأنه قال في آية أخرى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» «3» .
__________
(1) جدّ فهو مجدود أي كان له حظ.
(2) أي إن وقت الحساب لكائن مهما طالت المدة بيننا وبين وقت حصوله.
(3) آية 41 سورة الأنعام.(3/312)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
ويقال ادعوني بشرط الدعاء، وشرط الدعاء الأكل من الحلال إذ يقال الدعاء مفتاحه الحاجة، وأسبابه اللقمة الحلال.
ويقال كلّ من دعاه استجاب له إمّا بما يشاء له، أو بشىء آخر هو خير له منه.
ويقال الكافر ليس يدعوه لأنه إنما يدعو من له شريك، وهو لا شريك له.
ويقال: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئا.
إلا أعطاه في الدنيا، فأما في الآخرة فيقول له: هذا ما طلبته في الدنيا، وقد ادخرته لك لهذا اليوم حتى ليتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئا في الدنيا قط.
ويقال أدعونى بالطاعات استجب لكم بالثواب والدرجات.
ويقال أدعونى بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة. ويقال ادعوني بالتنصل أستجب لكم بالتفضّل. ويقال ادعوني بحسب الطاقة أستحب لكم بكشف الفاقة ويقال ادعوني بالسؤال أستجب لكم بالنّوال والأفضال.
«إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي..» أي يستكبرون عن دعائى، سيدخلون جهنم صاغرين.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 62]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
... الآيات سكون الناس في الليل على أقسام: أهل الغفلة يسكنون إلى غفلتهم، وأهل المحة يسكنون بحكم وصلتهم، وشتّان بين سكون غفلة وسكون وصلة! قوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقوم يسكنون إلى حلاوة أعمالهم لبسطهم واستقلالهم، وقوم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم وأولئك أصحاب الاشقاق ...
أبدا في الاحتراق.(3/313)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي جعل سكونكم معه، وانزعاجكم له، واشتياقكم إليه، ومحبتكم فيه، وانقطاعكم إليه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 64]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
«صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» : خلق العرش والكرسيّ والسماوات والأرضين وجميع المخلوقات ولم يقل هذا الخطاب، وإنما قال لنا: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» وليس الحسن ما يستحسنه الناس بل الحسن ما يستحسنه الحبيب:
ما حطك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرّك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- عليك عندى بالذي عابوا لم يقل للشموس في علائها، ولا للأقمار في ضيائها: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» .
ولمّا انتهى إلينا قال ذلك، وقال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «1» ويقال إن الواشين قبّحوا صورتكم عندنا «2» ، بل الملائكة كتبوا في صحائفكم قبيح ما ارتكبتم.. ومولاكم أحسن صوركم، بأن محا من ديوانكم الزّلّات، وأثبت بدلا منها الحسنات، قال تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» «3» ، وقال:
«فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «4» .
قوله جل ذكره: «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» .
ليس الطيب ما تستطيبه النفس إنما الطيب ما يستطيبه القلب، فالخبز
__________
(1) آية 4 سورة التين.
(2) ربما يقصد القشيري بذلك إبليس الذي استعلى بكونه مخلوقا من نار على آدم المخلوق من الطين.
(3) آية 39 سورة الرعد.
(4) آية 70 سورة الفرقان.(3/314)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
القفار أطيب للفقير الشاكر من الحلواء للغنىّ المتسخّط.
ورزق النفوس الطعام والشراب، ورزق القلوب لذاذات الطاعات.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 65]
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
«هُوَ الْحَيُّ» : الذي لا يموت، ولا فضله يفوت، فادعوه بلسان القوت، وذلك عليه لا يفوت.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)
قل- يا محمد- إنى نهيت عن عبادة ما تدعون من دون الله أي أمرت بالتبرّى عمّا عبدتم، والإعراض عمّا به اشتغلتم، والاستسلام للذى خلقنى، وبالنبوة استخصّني.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
فمن تربة إلى قطرة ومن قطرة إلى علقة.. ثم من بطون أمهاتكم إلى ظهوركم في دنياكم.. ثم من حال كونكم طفلا ثم شابا ثم شيخا..
وهو الذي يحيى ويميت، ثم يبعث في أخرى الدارين.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 69]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)(3/315)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
فى آيات الله يتبلّدون فلا حجة يوردون، ولا عذاب عن أنفسهم يردّون، سيعلمون حين لا ينفعهم علمهم، ويعتذرون حين لا يسمع عذرهم، وذلك عند ما:
[سورة غافر (40) : الآيات 71 الى 76]
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
.. الآيات.
يسحبون في النار والأغلال في أعناقهم، ثم يذاقون ألوان العذاب.. فإذا أقرّوا بكفرهم وذنوبهم يقال لهم: أدخلوا أبواب جهم خالدين فيها، فبئس مثواهم ومصيرهم، وساء ذهابهم ومسيرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 77]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)
كن بقلبك فارغا عنهم، وانظر من بعد إلى ما يفعل بهم، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم.. فإن لقيت بعض ما نتوعدهم به وإلّا فلا تك في ريب من مقاساتهم ذلك بعد. ثم أكّد تسليته إياه وتجديد تصبيره وتعريفه بقوله:
[سورة غافر (40) : آية 78]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)(3/316)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قصصنا عليك قصص بعضهم، ولم نخبرك عن قصص الآخرين.
ولم يكن في وسع أحد الإتيان بمعجزة إلا إذا أظهرنا نحن عليه ما أردنا إذا ما أردنا. فكذلك إن طالبوك بآية فقد أظهرنا عليك من الآيات ما أزحنا به العذر، وأوضحنا صحّة الأمر.. وما اقترحوه ... فإن شئنا أظهرنا، وإن شئنا تركنا.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
ذكّرهم عظيم إنعامه بتسخير الأنعام فقال جعلها لكم لتنتفعوا بها بالركوب والحمل والعمل، ولتستقوا ألبانها، ولتأكلوا لحومها وشحومها، ولتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وأشعارها، ولتقطعوا مسافة بعيدة عليها ... فعلى الأنعام وفي الفلك تنتقلون من صقع إلى صقع.. وأنا الذي يسّرت لكم هذا، وأنا الذي ألهمتكم الانتفاع به فثقوا في ذلك واعرفوه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
.. الآيات أمرهم بالاعتبار بمن كانوا قبلهم كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا، فانجرّوا في حبال آمالهم، فوقعوا في وهدة غرورهم، وما بقي الحقّ(3/317)
عن مراده فيهم، واغتروا بسلامتهم في مدّة ما أرخينا لهم عنان إمهالهم، ثم فاجأناهم بالعقوبة، فلم يعجزوا لله في مراده منهم.
فلمّا رأوا شدّة البأس، ووقعوا في مذلّة الخيبة واليأس تمنّوا أن لو أعيدوا إلى الدنيا من الرأس.. فقابلهم الله بالخيبة «1»
وخرطهم في سلك من أبادهم من أهل الشّرك والسّخط.
__________
(1) لأن التوبة لا تكون بعد حصول العلم الضروري ورؤية العذاب، فإن أوانها يكون قد انقضى.(3/318)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
سورة فصلت
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أفلج من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» ، وما ربح من بقي عن «بِسْمِ اللَّهِ» .
من صحب لسانه «بِسْمِ اللَّهِ» وصحب جنانه «بِسْمِ اللَّهِ» كفى له شفيعا «بِسْمِ اللَّهِ» إلى من يعيذنا بذكر «بِسْمِ اللَّهِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)
بحقي وحياتى، ومجدى في صفاتى وذاتى.. هذا تنزيل من الرحمن الرحيم.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 3]
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
بينّت آياته ودلالاته.
«قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» : الدليل منصوب للكافة ولكنّ الاستبصار به للعالمين- دون المعرضين الجاحدين.
[سورة فصلت (41) : آية 4]
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
«بَشِيراً» : لمن اخترناهم واصطفيناهم.
«وَنَذِيراً» : لمن أقميناهم، وعن شهود آياتنا أعميناهم.
«فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ..» عند دعائنا إياهم، فهم مثبتون فيما أردناهم، وعلى ذلك(3/319)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
(الوصف) «1»
علمناهم «2»
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 5]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
قالوا ذلك على الاستهانة والاستهزاء، ولو قالوه عن بصيرة لكان ذلك منهم توحيدا «3»
، فمنوا بالمقت لما فقدوا من تحقيق القلب.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 7]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)
إنما أنا بشر مثلكم في الصورة والبنية، والذات والخلقة. والفرقان بينى وبينكم أنّه يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فالخصوصية من قبله لا من قبلى، ولقد بقيت فيكم عمرا، ولقيتمونى دهرا.. فما عثرتم منى على غير صواب، ولا وجدتم في قولى شوب كذاب. وأمرى إليكم أن استقيموا في طاعته، واستسلموا لأمره.. وطوبى لمن أجاب، والويل لمن أصرّ وعاب!.
__________
(1) سقطت (الوصف) من ص وهي موجودة في م.
(2) روى أن قريشا اختارت عتبة بن ربيعة كى يعرض على النبي (ص) أن يكف عن سب آلهتها وتسفيه أحلامها مقابل رياسة أو مال.. إلخ وظل يتحدث، فى ذلك حتى انتهى، وعندئذ سأله النبي (ص) : أفرغت يا أبا الوليد؟
قال: نعم.. فقال: اسمع.. بسم الله الرّحمن الرّحيم. حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت....»
إلى قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فوثب عتبة، ووضع يده على فم النبي وناشده ليسكتن ... ثم مضى إلى قريش فأنبأها بما سمع، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، لأن ما سمعه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر.. ثم أردف: ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لا يكذب.. [.....]
(3) لأنه يكون حينئذ اعترافا منهم بوجود غطاء من ظلمة البشرية يحجبهم عن حقيقة الأحدية، ويكون اعترافهم بقصورهم بداية لاستمدادهم لفضل من الله.(3/320)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
«آمَنُوا» : شاهدوا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : لازموا بساط العبودية.
«آمَنُوا» : شهدوا الحضرة، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : وقفوا بالباب.
«آمَنُوا» : حضروا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : بعد ما حضروا لم ينصرفوا.
«لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» : غير منقوص «1»
فأجر النفوس الجنة، وأجر القلوب الرضا بالله، وأجر الأرواح الاستئناس بالله، وأجر الأسرار دوام المشاهدة لله.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 9]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9)
خلق الزمان ولم يكن قبله زمان، وخلق المكان، ولم يكن قبله مكان فالحقّ- سبحانه- كان ولا مكان ولا زمان فهو عزيز لا يدركه المكان، ولا يملكه الزمان.
«وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً» .. وكيف يكون الذي لم يكن ثم حصل «2»
ندّا للذى لم يزل..
ولا يزال كما لم يزل؟ ذلك ربّ العالمين.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 10]
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)
الجبال أوتاد الأرض في الصورة، والأولياء أوتاد ورواس للأرض في الحقيقة.
__________
(1) يقال مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذى الإصبع:
إنى لعمرك ما بابى بذي غلق ... على الصديق ولا خيرى بمنون
وقيل نزلت الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
(2) الذي لم يكن ثم حصل هو الحادث، المخلوق من العدم.. كيف يكون ندا للقديم الأزلى السرمدي؟!
م (21) لطائف الإشارات- ج 3-(3/321)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
«وَبارَكَ فِيها» : البركة الزيادة.. فيأتيهم المطر ببركات الأولياء، ويندفع عنهم البلاء ببركات الأولياء.
«وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» : وجعلها مختلفة في الطّعم والصورة والمقدار. وأرزاق القلوب والسرائر كما مضى ذكره فيما تقدم.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 11]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)
«اسْتَوى» أي قصد، وقيل فعل فعلا هو الذي يعلم تعيينه «1» .
ويقال رتّب أقطارها، وركّب فيها نجومها وأزهارها.
«فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» : هذا على ضرب المثل أي لا يتعسّر عليه شىء مما خلقه، فله من خلقه ما أراده. وقيل بل أحياهما وأعقلهما وأنطقهما فقالتا ذلك. وجعل نفوس العابدين أرضا لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فلكا لنجوم علمه وشموس معرفته.
وأوتاد النفوس الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. وفي القلوب ضياء العرفان، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقول والنفوس. والقلوب بيده يصرّفها على ما أراد من أحكامه.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 12]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) .
__________
(1) تقول الغرب: فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض (النسفي ح 4 ص 89) .
ومن قال إنه صفة ذاتية زائدة تكون على معنى استوى في الأزل بصفاته (القرطبي ح 15 ص 343) وعلى الرأى الأول يكون الاستواء من صفات الفعل وعلى الثاني يكون من صفات الذات.(3/322)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
زيّن السماء الدنيا بمصابيح، وزيّن وجه الأرض بمصابيح هي قلوب الأحباب فأهل السماء إذا نظروا إلى قلوب الأولياء بالليل فذلك متنزههم كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء استأنسوا برؤية الكواكب.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 13]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)
أي أخبر المكذّبين لك أنّ لكم سلفا.. فإن سلكتم طريقهم في العناد، وأبيتم إلّا الإصرار ألحقناكم بأمثالكم.
[سورة فصلت (41) : آية 15]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)
ركنوا إلى قوة نفوسهم فخانتهم قواهم، واستمكنت منهم بلواهم.
[سورة فصلت (41) : آية 16]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
«1»
فلم يغادر منهم أحدا.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) .
__________
(1) فى قراءة أبى عمرو «نحسات» وبإسكان الحاء على أنها جمع المصدر «نحس» مستدلا بقوله تعالى:
«فى يوم نحس مستمر» ولو كان صفة لم يضف اليوم إليه.(3/323)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قيل إنهم في الابتداء آمنوا وصدّقوا، ثم ارتدّوا وكذّبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم فى الاستئصال.
«وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا..» : منهم من نجّاهم من غير أن رأوا النار فعبروا القنطرة ولم يعلموا، وقوم كالبرق الخاطف وهم أعلاهم، وقوم كالراكض.. وهم أيضا من الأكابر، وقوم على الصراط يسقطون ويردّهم الملائكة على الصراط. فبعد وبعد.. قوم بعد ما دخلوا النار فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ثم إلى ركبتيه ثم إلى حقويه «1»
، فإذا ما بلغت النار القلب قال الحقّ لها: (لا تحرقى قلبه) «2»
فإنه محترق فيّ. وقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا «3»
فصاروا حمما «4»
:
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 23]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
__________
(1) الحقو الخصر.
(2) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
(3) أمحش الخر أو النار جلده أي أحرقه وقشره عن اللحم. ويقال هذه سنة أمحشت كل شىء إذا كانت جدبة.
(4) الحمم الفحم أو الرماد.. وكل ما احترق من النار.(3/324)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
شهدت عليهم أجزاؤهم، ولم يكن في حسابهم أن الله سينطقها وهو الذي أنطق كلّ شىء، ولم يدر بخلدهم ما استقبلهم من المصير الأليم.
«ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ ... » : وكذا من قعد في وصف الأقوال، ووسم موضعه، وحكم لنفسه أنه مقدّم بلده. فلا يسمع منه إلا ببرهان ودليل من حاله، فإن خالف الحال قوله فلا يعتمد عليه بعد ذلك «1» .
والظنّ بالله إذا كان جميلا فلعمرى يقابل بالتحقيق، أمّا إذا كان نتيجة الغرور وغير مأذون به في الشرع فإنه يردى صاحبه.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 24]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
فإن يصبروا على موضع الخسف فسينقلبون إلى النار. وإن يستعتبوا- فعلى ما قال- فما هم بمعتبين «2» .
[سورة فصلت (41) : آية 25]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
إذا أراد الله بعبد خيرا قيّض له قرناء خير يعينونه على الطاعات، ويحملونه عليها، ويدعونه إليها. وإذا كانوا إخوان سوء حملوه على المخالفات، ودعوه إليها.. ومن ذلك الشيطان فإنه مقيّض مسلّط على الإنسان يوسوس إليه بالمخالفات.. وشرّ من ذلك النّفس.
فإنها بئس القرين!! فهى تدعو العبد- اليوم- إلى ما فيه هلاكه، وتشهد عليه غدا بفعل الزلّة. فالنفس- وشرّ قرين للمرء نفسه- والشياطين وشياطين الإنس.. كلها تزيّن لهم
__________
(1) يعود القشيري بعد قليل إلى هذا المعنى نفسه حين يتحدث عمن يكلفون بالقالة دون صفاء الحالة.
(2) أي أن النار مثوى لهم في الحالين، ولا مهرب لهم منها فلا صبرهم بنافع، ولا طلب الرضا عنهم بنافع، ولا بد لهم من النار.(3/325)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
«ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» من طول الأمل، «وَما خَلْفَهُمْ» من نسيان الزّلل، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 26]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
استولى على قلوبهم الجحد والإنكار، ودام على العداوة فيهم الإصرار فاحتالوا بكل وجه، وتواصوا فيما بينهم بألا يستمعوا لهذا القرآن لأنه يغلب القلوب، ويسلب العقول، وكل من استمع إليه صبا إليه.
وقالوا: إذا أخذ محمد في القرآن فأكثروا عند قراءته اللّغو واللغط حتى يقع في السهو والغلط.
ولم يعلموا أن الذي نوّر قلبه بالإيمان، وأيّد بالفهم، وأمدّ بالنصرة، وكوشف بسماع السّرّ من الغيب هو الذي يسمع ويؤمن. والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمان قلبه، ولا يباشر السماع سرّه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 27]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27)
اليوم بإدامة الحرمان الذي هو الفراق، وغدا بالتخليد في النار التي هي الاحتراق.
[سورة فصلت (41) : آية 28]
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28)
لهم فيها الخزي والهوان بلا انقطاع ولا انصرام.
[سورة فصلت (41) : آية 29]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
__________
(1) إذا تذكرنا أن السر أعلى من القلب ومن الروح عرفنا أن «السماع» عند الشيخ ذو مرتبة عالية على عكس ما يظنه المغرضون(3/326)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
من الجنّ إبليس. ومن الإنس قابيل بن آدم فهو أول من سنّ المعصية (حين قتل أخاه) «1» .
«نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» هذه الإرادة وهذا التمني زيادة في عقوبتهم أيضا لأنهم يتأذون بتلك الإرادة وهذا التمني فهم يجدون أنه لا نفع لهم من ذلك إذ لن يجابوا في شىء، ولن يمنع عنهم العذاب.
ويفيد هذا الإخبار عنهم عن وقوع التبرّى فيما بينهم، فبعضهم يتبرأ من بعض، كما يفيد بأن الندم في غير وقته لا جدوى منه.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 30]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
«ثُمَّ» استقاموا: ثم حرف يقتضى التراخي، فهو لا يدل على أنهم في الحال لا يكونون مستقيمين، ولكن معناه استقاموا في الحال، ثم استقاموا في المآل بأن استداموا إيمانهم إلى وقت خروجهم من الدنيا، وهو آخر أحوال كونهم مكلّفين.
ويقال: قالوا بشرط الاستجابة أولا، ثم استبصروا بموجب الحجة، ولم يثبتوا على وصف التقليد، ولم يكتفوا بالقالة دون صفاء الحالة.
«اسْتَقامُوا» : الاستقامة هي الثبات على شرائط الإيمان بجملتها من غير إخلال بشىء من أقسامها. ويقال: هم على قسمين:
__________
(1) زيادة من عندنا للتوضيح وليست موجودة بالمتن.(3/327)
مستقيم (فى أصول) «1»
التوحيد والمعرفة.. وهذه صفة جميع المؤمنين «2» .
ومستقيم في الفروع من غير عصيان.. وهؤلاء مختلفون فمنهم.. ومنهم، ومنهم.
«وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» : الذين لهم البشارة هم كل من استقام في التوحيد، ولم يشرك.. فله الأمان من الخلود «3»
. ويقال: من كان له أصل الاستقامة أمن «4»
من الخلود في النار، ومن له كمال الاستقامة أمن من الوعيد من غير أن يلحقة سوء بحال.. ثم الاستقامة لهم على حسب أحوالهم فمستقيم في عهده. ومستقيم في عقده، ومستقيم في جهده ومراعاة حدّه، ومستقيم فى عقده وجهده وحدّه وحبّه وودّه.. وهذا أتمّهم.
ويقال: استقاموا على دوام الشهود وعلى انفراد القلب بالله.
ويقال: استقاموا في تصفية العقد ثم في توفية العهد ثم في صحة القصد بدوام الوجد.
ويقال: استقاموا بأقوالهم ثم بأعمالهم، ثم بصفاء أحوالهم في وقتهم وفي مآلهم.
ويقال: أقاموا على طاعته، واستقاموا في معرفته، وهاموا في محبته، وقاموا بشرائط خدمته.
ويقال: استقامة الزاهد ألا يرجع إلى الدنيا، وألا يمنعه الجاه بين الناس عن الله. واستقامة العارف ألا يشوب معرفته حظّ في الدارين فيحجبه عن مولاه. واستقامة العابد ألا يعود إلى فترته واتباع شهوته، ولا يتداخله رياء وتصنّع. واستقامة «5»
المحبّ ألا يكون له أرب من محبوبه، بل يكتفى من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام عزّه ووجوده.
«أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا» : إنما يكون الخوف في المستقبل من الوقت، من حلول مكروه أو فوات محبوب، فالملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون، وكل محذور لهم لا يكون.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (على أصل) وهي مقبولة حسب قوله تعالى في موضع آخر (استقاموا على الطريقة) ولكننا آثرنا (فى أصول) لتنسجم مع الفروع. [.....]
(2) عن أنس قال: لمّا نزلت هذه الآية قال النبي (ص) : «هم أمتى ورب الكعبة» .
(3) أي التخليد في النار.. ويقصد بهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين.
(4) لاحظ الربط بين الأمن والأمان من ناحية والإيمان من ناحية أخرى.
(5) أي أن مجرد ذكر المحب لله (الباقي) يكفيه عن تذكر أي عطاء أو منع، فحسبه الله.(3/328)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
والحزن من حزونة الوقت، ومن كان راضيا بما يجرى فلا حزن له في عيشه. والملائكة يبشرونهم بأنهم لا حزونة في أحوالهم، وإنما هم في الرّوح والراحة.
«وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» : أي بحسن المآب، وبما وعد الله من جميل الثواب.
والذي هو موعود للأولياء بسفارة الملك موجود اليوم لخواص عباده بعطاء الملك فلا يكون لأحدهم مطالعة في المستقبل من حاله بل يكون بحكم الوقت فلا يكون له خوف لأن الخوف- كما قلنا من قبل- ينشأ من تطلع إلى المستقبل إمّا من زوال محبوب أو حصول مكروه، وإن الذي بصفة الرضا «1»
لا حزونة في حاله ووقته.
ويمكن القول: «أَلَّا تَخافُوا» من العذاب، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما خلفتم من الأسباب، «وَأَبْشِرُوا» بحسن الثواب في المآب.
ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» من عزل الولاية، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما أسفلتم من الجناية، «وَأَبْشِرُوا» بحسن العناية في البداية.
ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» مما أسلفتم، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما خلّفتم، «وَأَبْشِرُوا» بالجنة التي لها تكلفتم.
ويقال: «أَلَّا تَخافُوا» المذلّة، «وَلا تَحْزَنُوا» على ما أسلفتم من الزلّة، «وَأَبْشِرُوا» بدوام الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 32]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
الولاية من الله بمعنى المحبة، وتكون بمعنى النصرة.
__________
(1) هذا من أدق الشروح لمعنى «الرضا» الذي كما نعرف من مذهب القشيري مرحلة انتقال من المقامات إلى الأحوال.(3/329)
وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من قبل الملائكة الذين تنزلوا عليهم، ويحتمل أن يكون ابتداء خطاب من الله.
والنصرة تصدر من المحبة فلو لم تكن المحبة الأزلية لم تحصل النصرة في الحال.
ويقال: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
بتحقيق المعرفة، «وَفِي الْآخِرَةِ»
بتحصيل المغفرة.
ويقال «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
بالعناية، «وَفِي الْآخِرَةِ»
بحسن الكفاية وجميل الرعاية.
«فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
بالمشاهدة، «وَفِي الْآخِرَةِ»
بالمعاينة.
فى الدنيا بالرضاء بالقضاء، وفي الآخرة باللقاء في دار البقاء.
فى الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالغفران.
فى الدنيا بالمحبة، وفي الآخرة بالقربة.
«وَلَكُمْ فِيها»
أي في الجنة «ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ»
: الولاية نقد، وتحصيل الشهوات وعد، فمن يشتغل بنقده قلّما يشتغل بوعده «1» .
«وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
: أي ما تريدون، وتدعون الله ليعطيكم.
«نُزُلًا» : أي فضلا وعطاء، وتقدمة لما يستديم إلى الأبد من فنون الأفضال ووجوه المبارّ «2» .
__________
(1) تفيد هذه الإشارة الممتعة حقا في توضيح الفكرة الصوفية الشائعة التي تقول إن العبادة الحقة هي المجردة عن الطمع في الثواب والخوف من العقاب.. وهي عند القشيري من أمارات الولاية والمحبة الصافية.. ويمعن بعض الصوفية في ذلك فيدفعهم طلب الله لذاته إلى القول:
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكنى أريدك للعقاب
فكل مآربى قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدى بالعذاب
(2) فتكون (نزلا) منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا. وقيل: على الحال. وقيل هو جمع نازل أي لكم ما تدعون نازلين.(3/330)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
«مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» : وفي ذلك مساغ لآمال المذنبين لأنهم هم الذين يحتاجون إلى المغفرة، ولولا رحمته لما وصلوا إلى مغفرته.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 33]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
أي لا أحد أحسن قولا منه، ويكون المراد منه النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون جميع الأنبياء عليهم السلام.
ويقال هم المؤمنون. ويقال هم الأئمة الذين يدعون الناس إلى الله.
وقيل هم المؤذنون. ويقال الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله وترك طلب العوض من الله، ويكل أمره إلى الله، ويرضى من الله بقسمة الله.
«وَعَمِلَ صالِحاً» : أي كما يدعو الخلق إلى الله يأتى بما يدعوهم إليه.
ويقال هم الذين عرفوا طريق الله، ثم سلكوا طريق الله، ثم دعوا الناس إلى الله.
ويقال بل سلكوا طريق الله فبسلوكهم وبمنازلاتهم عرفوا الطريق إلى الله، ثم دعوا الخلق إليه بعد ما عرفوا الطريق إليه.
«وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» : المسلمون لحكمه هم الراضون بقضائه وتقديره.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 34]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
ادفع بالخصلة التي هي أحسن السيئة يعنى بالعفو عن المكافأة، وبالتجاوز والصفح عن الزلة، وترك الانتصاف «1» .
«فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» يشبه الوليّ الحميم- ولم يصر وليا مخلصا.. وهذا من جملة حسن الأدب في الخدمة في حقّ صحبتك مع الله تحلم مع عباده لأجله.
__________
(1) هذه الأوصاف التي ذكرها القشيري من أمارات الفتوة- كما ورد في الفصل الذي عقده لها فى «رسالته» .(3/331)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
ومن جملة حسن الخلق في الصحبة مع الخلق ألا تنتقم لنفسك، وأن تعفو عن خصمك.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 35]
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
لا يقوم بحق هذه الأخلاق إلّا من أكرم بتوفيق الصبر، ورقّى عن سفساف الشيم إلى معالى الأخلاق. ولا يصل أحسن الدرجات إلا من صبر على مقاساة الشدائد.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 36]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
إذا اتصلت بقلبك نزغات الشيطان فبادر بذكر ربّك، وارجع إليه قبل أية خطوة «1»
..
فإنك إن لم تخالف أول هاجس من هواجس الشيطان صار فكرة، ثم بعد ذلك يحصل العزم على ما يدعو إليه الشيطان.. فإذا لم تتدارك ذلك تجرى الزلّة، وإذا لم تتدارك ذلك بحسن الرّجعى صار فسقا.. وبتمادي الوقت تصبح في خطر كل آفة.
ولا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة وصدق الاستغاثة وبذلك ينجو من الشيطان، وقد قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» «2»
فكلما ازداد العبد في تبرّيه من حوله وقوته «3»
، وأخلص بين يدى الله بتضرعه واستعانته واستعاذته زاد الله في حفظه، ودفع الشيطان عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 37]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (خطرة) بالراء، ونحن لا نرفض ذلك إذ يقول القشيري في رسالته ص 46:
«الخواطر خطاب يرد على الضمائر وقد يكون الخاطر بإلقاء مسلك، وأو بإلقاء الشيطان، وقد يكون حديث النفس» ..
ويقول في نفس الموضع: كل خاطر لا يشهد الظاهر فهو باطل.
(2) آية 65 سورة الإسراء.
(3) لانه كلما ازداد في ذلك ازدادت عبوديته، فدخل في زمرة «عبادى» الذين ليس الشيطان عليهم سلطان وبهذا الفهم يتأيد السياق ويتماسك في ظل الشاهد القرآنى.(3/332)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
أوضح الآيات، وألاح البينات، وأزاح علّة من رام الوصول. واختلاف الليل والنهار، ودوران الشمس والقمر من جملة أمارات قدرته، ودلالات توحيده.
«لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ» فى علائها، «وَلا لِلْقَمَرِ» فى ضيائه، «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ» فقد غار «1»
عليك أن تسجد لغيره.
والشمس- وإن علت، والقمر- وإن حسن.. فلأجلك خلقناهما، فلا تسجد لهما، واسجد لنا.
ويقال: خلق الملائكة- ومع كثرة عبادتهم، ومع تقدمهم في الطاعة- قال لهم:
اسجدوا لآدم، وحين امتنع واحد منهم لعن إلى الأبد. وقال لأولاد آدم العصاة المذنبين: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ... » فشتّان ما هما!! والحقّ- سبحانه وتعالى- يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر.. وأنت لأجل كلّ حظّ خسيس تنقل قدمك إلى كلّ أحد وتدخل بمحياك على كلّ أحد!! قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 38]
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
«2»
أي إن ترفّع الكفار فلا خلل لأن الحقّ غنىّ عن كل أحد، ثم إن الملائكة- الذين هم سكان الآخرة- يسجدون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون من عبادته.
__________
(1) يقول القشيري في رسالته ص 126 «الغيرة كراهية مشاركة الغير، وإذا وصف الحق سبحانه بالغيرة فمعناه أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده» .
(2) هذه آية سجدة، واختلف في موضع السجود منها.. فقال مالك إن موضعه «إن كنتم إياه تعبدون» «لأنه متصل بالأمر» .. وقال الشافعي إنه: «وهم لا يسأمون» لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال.
وقد تضمنت الآية صلاة الكسوف، وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم.. فصلّى النبي (ص) صلاة الكسوف (القرطبي ح 15 ص 364) .(3/333)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 39]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
الأرض تكون جدبة يابسة في الشتاء، فإذا نزل عليها المطر اهتزت بالنبات واخضرّت وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألّمت به من الذنوب أقبل عليها الحق سبحانه، فظهرت فيها بركات الندم، وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم. وكذلك إذا وقعت للعبد فترة في معاملاته، أو غيبة عن بساط طاعاته، ثم تغمّده الحقّ- سبحانه- بما يدخل عليه من التذكر تظهر في القلب أنوار الوفاق، فيعود إلى مألوف مقامه، ويرجع عود سداده غضّا طريا، ويصير شجر وفاقه- بعد ما أصابته الجدوبة- بماء العناية مستقيا.
وكذلك إذا بدت لأهل العرفان وقفة، أو حدثت لهم من جرّاء سوء أدب بدر منهم حجبة ثم نظر الحقّ- سبحانه- إليهم بالرعاية.. اهتزّت رياض أنسهم، واخضرّت مشاهد قربهم، وانهزمت وفود وقفتهم.
«إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» : إن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء النفوس بالحشر والنشر. وكذلك هو قادر على إحياء القلوب بنور العناية بعد الفترة والحجبة.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 40]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
سيلقون من العذاب ما يستوجبونه.. فليعملوا ما شاءوا.. فليسوا يسعون إلّا في ذمهم، وليسوا يمشون إلا إلى هلاكهم بأقدامهم.(3/334)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41)
الجواب محذوف ومعناه: بقوا عنّا، ووقعوا في هوانهم وشقوا إلى الأبد.
«وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» : كتاب عزيز لا مثل له حيث قد عجزوا عن الإتيان بمثله.
كتاب عزيز غالب لشبه المبتدعين والكفار.
عزيز لا يقدر على معارضته أحد.. من قولهم أرض عزاز «1» .
كتاب عزيز لأنه كلام ربّ عزيز إلى رسول عزيز بسفارة ملك عزيز إلى أمّة عزيزة.
كتاب عزيز على المؤمنين لأنه كتاب حبيبهم.. وكتاب الحبيب إلى الحبيب عزيز.
[سورة فصلت (41) : آية 42]
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
أي لا ينقضه كتاب آخر لا مما تقدّمه من الكتب، ولا مما يأتى من بعده.. أي لا كتاب بعده، ولا نسخ له.
ويقال لا يدفع «2» معناه لفظه، ولا يخالف لفظه معناه..
ويقال لا يقدر أحد أن يأتى بمثله.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 43]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
أصول التوحيد لا تختلف بالشرائع فجوهرها في الأحكام واحد: هو أنه تجب موافقة أوامره، واجتناب مزاجره. ثم إن الله تعالى قال في كل كتاب، وشرع لكل أمة أن يعرفوا
__________
(1) الأرض العزاز الأرض الصلبة السريعة السيل (الوسيط) . [.....]
(2) دفع الشيء نحمّاه وأزاله، قال تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» .(3/335)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
أنه للمطيعين مثيب، وللكافرين ذو عذاب شديد.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 44]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
أخبر أنه أزاح العلّة لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة، وصحة الشريعة.
ثم وصف الكتاب بأنه شفاء للمؤمنين، وسبب شقاء للكافرين.
وهو شفاء للعلماء حيث استراحوا به عن كدّ الفكر وتحيّر الخواطر.
وهو شفاء لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته، والتلذّد بالتفكّر فيه.
وهو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق لما به من لطف المواجيد.
وهو شفاء لقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز.
«وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» : هم لا يسمعون بقلوبهم من الحق، ولا يستجيبون.. بقوا في ظلمات الجحد والجهل.
«وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» : لا يزدادون على مر الأيام إلا ضلالا.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 45]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
آتينا موسى التوراة، وأرسلناه إلى قومه، فاختلفوا في أمره.. فمن كحّلنا سرّه بنور التوحيد صدّقه، ومن أعميناه عن مواقع البيان قابله بالتكذيب وجحده.
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي أن عقوبتهم في النار بعد قيام القيامة لعجّلنا(3/336)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
استئصالهم، ولأذقناهم في الحال وبالهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 46]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
«فَلِنَفْسِهِ» لأن النفع عائد إليه. ومن عمل عملا سيئا فإنما ظلم نفسه، وأساء إليها لأنه هو الذي يقاسى ضرّه ويلاقى شرّه.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 47]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
لمّا استعجلوا وقالوا: متى تقوم هذه القيامة التي يتوعّدنا بها؟ قال الله تعالى: إنّ علم القيامة ينفرد به الحقّ فلا يعلمه غيره، فكما لا يعلم أحد ما الذي يخرج من الأشجار من الثمار، وما الذي تنطوى عليه أرحام النساء من أولادها ذكورا وإناثا، وما هم عليه من أوصاف الخلقة، وما يحصل من الحيوانات من نتاجها- فلا يعلم هذه الأشياء إلا الله- فكذلك لا يعلم أحد متى تقوم القيامة.
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي..» : يتبرءون من شركائهم، ولكن في وقت لا تنفعهم كثرة ندمهم وبكائهم.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : آية 49]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) .
__________
(1) فى موضع سبق أوضح القشيري أنه ربما كان من أسباب الحكمة الإلهية في تأخير عقوبة أمة النبي «ص» - كما حدث للأمم السابقة- هو تأخير العذاب بسبب ما يخرج من أصلابهم من المؤمنين.(3/337)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
لا يملّ الإنسان من إرادة النفع والسلامة، وإن مسّه الشرّ فيئوس لا يرجو زواله لعدم علمه بربه، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إليه.
[سورة فصلت (41) : آية 50]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)
لئن كشفنا عنه البلاء، وأوجبنا له الرجاء لادّعاه استحقاقا أو اتفاقا، وما اعتقد أن ذلك منّا فضل وإيجاب.
ويقول: لو كان لى حشر ونشر لكان لى من الله لطف وخير، وغدا يعلم الأمر، وأنه بخلاف ما توهّم.. وذلك عند ما نذيقه ما يستوجبه من عذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 51 الى 52]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
هو لا يميز بين البلاء والعطاء فكثير مما يتوهمه عطاء هو مكر واستدراج.. وهو يستديمه. وكثير مما هو فضل وصرف «1» وعطاء يظنه من البلاء فيعافه «2» ويكرهه.
ويقال إذا أنعمنا عليه صاحبه بالبطر، وإذا أبليناه قابله بالضجر.
ويقال إذا أنعمنا عليه أعجب بنفسه، وتكبّر مختالا في زهوه، لا يشكر ربّه، ولا يذكر فضله، ويتباعد عن بساط طاعته.
__________
(1) صرف الله المكاره صرفا أي أبعدها.
(2) فى م (فيعافيه) وهي خطأ في النسخ.(3/338)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
والمستغنى عنّا يهيم على وجهه، وإذا مسّه الشرّ فذو دعاء كثير، وتضرّع عريض، وابتهال شديد، واستكشاف «1» دائم.
ثم إذا كشفنا عنه ذلك فله إلى عتوّه ونبوّه عود، ولسوء طريقته في الجحود إعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
«سَنُرِيهِمْ» : السين للاستقبال أي سيظهر لهم من الآيات، ومن الأحداث التي تجرى فى أحوال العالم، وما سيحلّ بهم من اختلاف الأمور ما يتبيّن لهم من خلاله أنّ هذا الدّين حقّ، وأنّ هذا الكتاب حقّ، وأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- حقّ، وأن المجرى لهذه الآيات والأحداث والأمور والمنشئ له هو الحقّ- سبحانه.
ومن تلك الآيات ما كان من قهر الكفار، وعلوّ الإسلام، وتلاشى أعداء الدين.
ويقال من تلك الآيات في الأفاق اختلاف أحكام الأعين مع اتفاق جواهرها في التجانس..
وهذه آيات حدوث العالم، واقتضاء المحدث لصفاته.
«وَفِي أَنْفُسِهِمْ» : من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف ما يمكنهم إدراكه.
ويقال: «فِي الْآفاقِ» للعلماء، «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» لأهل المعرفة مما يجدونه من العقاب إذا ألمّوا بذنب، ومن الثواب إذا أخلصوا في طاعة.
وكذلك ما يحصل لهم من اختلاف الأحوال من قبض وبسط، وجمع وفرق، وحجب
__________
(1) الاستكشاف والاستصراف طلب كشف الغمّة وصرفها(3/339)
وجذب.. وما يجدونه بالضرورة فى معاملاتهم ومنازلاتهم «1» .
«أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» : هو الكافي، ولكنهم- أي الكفار- فى مرية من لقاء ربهم في القيامة. والإشارة فيه: أن العوامّ لفى شك من تجويز ما يكاشف به أهل الحضور من تعريفات السرّ.
«أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» : عالم لا يخفى عليه شىء.
__________
(1) يتفق هذا مع ما يذهب إليه جمهور الصوفية حين يميزون الأحوال والمقامات، فالأحوال مواهب من الحق، والمقامات مكاسب للعبد- وإن كانت هذه المكاسب تتم هي الأخرى بفضل الله وعونه.(3/340)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
سورة الشّورى
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» سلوة العاصين في سماع رحمة الله، وحظوة العابدين في رجائهم نعمة الله، وراحة الفقراء فى رضاهم بقسمة الله.. لكل من حاله نصيب، وكلّ في متنفسّه مصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2)
الحاء مفتاح اسمه: حليم وحافظ وحكيم، والميم مفتاح اسمه: ملك وماجد ومجيد ومنّان ومؤمن ومهيمن، والعين مفتاح اسمه: عالم وعدل وعال، والعين مفتاح اسمه: سيّد وسميع وسريع الحساب، والقاف مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدير وقدوس «1» .
[سورة الشورى (42) : آية 3]
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
أقسم بهذه الأسماء وهذه الحروف إنه كما أوحى إلى الذين من قبلك كذلك يوحى إليك العزيز الحكيم، كما أوحى إليهم العزيز الحكيم.
[سورة الشورى (42) : آية 4]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
له ما في السماوات وما في الأرض ملكا.
«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» : علوّه وعظمته استحقاقه لأوصاف المجد أي وجوب أن يكون بصفات المجد والجلال.
__________
(1) ربما يتأيد اتجاه القشيري في تفسير هذه الحروف المقطعة هنا بالأسماء والأوصاف الإلهية بختام الآيات التالية بالعزيز الحكيم والعلى العظيم والغفور الرحيم.. كأن هذا هو المناخ الذي توحى به افتتاحية السورة.(3/341)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 5]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
أي تكاد السماوات تتشقق من عظمة من فوقهن وهو الله تعالى، والفوقية هنا فوقية رتبة «1» وذلك من شدة هيبتهن من الله.
ويقال من ثقل الملائكة الذين هم فوق السماوات لكثرتهم. وفي الخبر: «أطت «2» السماء أطا وحق لها أن تئط ما من موضع قدم في السماوات إلا وعليه قائم أو راكع أو ساجد» .
ويقال إنه على عادة العرب إذا أخبروا عن شىء قالوا كادت السماوات تنشقّ له.. وهنا لقبح قول المشركين ولجرأتهم على الله تعالى، ولعظم قولهم كادت السماوات تنشقّ.. قال تعالى: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» «3» وعلى هذا التأويل: «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» أي إلى أسفلهن، أي تتفطر جملتها «4» .
ومع أنّ أولاد آدم بهذه الصفة إلا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم لا يفترون، ويستغفرون لمن في الأرض.. ثم قال: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» : أي يغفر لهم مع كثرة عصيانهم. وفي الوقت الذي يرتكب فيه الكفار هذا الجرم العظيم بسبب شركهم فإنه- سبحانه- لا يقطع رزقه ونفعه عنهم- وإن كان يريد أن يعذّبهم في الآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 6]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
__________
(1) لجأ القشيري إلى التأويل كى يتفادى نسبة المكانية إلى الألوهية.
(2) أطّ الظّهر- صوّت من ثقل الحمل (الوسيط) .
(3) آيات 89، 90، 91 سورة مريم.
(4) يقول النسفي: كان القياس أن يقال يتفطرن من نحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل: كدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن.
(النسفي ح 4 ص 100) .(3/342)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
المشركون اتخذوا الشياطين أولياء من دونه، وذلك بموافقتهم لها فيما توسوس به إليهم.
وليس يخفى على الله أمرهم، وسيعذبهم بما يستوجبونه. ولست- يا محمد- بمسلّط عليهم.
وفي الإشارة: كلّ من يعمل بمتابعة هواه ويترك لله حدّا أو ينقض له عهدا فهو يتخذ الشياطين أولياء، والله يعلمه، ولا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه.. ثم إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 7]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
أنزلنا عليك قرآنا يتلى بلغة العرب لتخوّف به أهل مكة والذين حولها. وجميع العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرّة الأرض.
«وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» : تنذرهم بيوم القيامة. والإنذار الإعلام بموضع المخافة. ويوم الجمع- وهو اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلّهم، ويجمع بين المرء وعمله، وبين الجسد وروحه «1» ، وبين المرء وشكله في الخير والشرّ- لا شكّ في كونه. وفي ذلك اليوم فريق يبعث إلى الجنة وفريق يحصل في السعير. وكما أنهم اليوم فريقان فريق في راحة الطاعات وحلاوة العبادات، وفريق في ظلمة الشّرك وعقوبة الجحد.. فكذلك غدا فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 9]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
إن أراد أن يجمعهم كلّهم على الهدى والرشاد لم يكن مانع.. وإذا لا زين لهم. ولو شاء
__________
(1) من هذا نفهم أن القشيري يؤمن بالبعث الكامل أي بعودة الجسد والروح معا إلى الحياة مرة أخرى.(3/343)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
أن يجمعهم كلّهم على الفساد والعناد لم يكن دافع- وإذا لاشين منه. وحيث خلقهم مختلفين- على ما أراد- فلا مبالاة بهم.. إنه إله واحد جبّار غير مأمور، متول جميع الأمور من الخير والشر، والنفع والضر. هو الذي يحيى النفوس والقلوب اليوم وغدا، ويميت النفوس والقلوب اليوم وغدا «1» .. وهو على كل شىء قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 10]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
«فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» : أي إلى كتاب الله، وسنّة نبّيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأئمة، وشواهد القياس. والعبرة بهذه الأشياء فهى قانون الشريعة، وجملتها من كتاب الله فإنّ الكتاب هو الذي يدلّ على صحة هذه الجملة «2» .
ويقال: إذا لم تهتدوا إلى شىء وتعارضت منكم الخواطر فدعوا تدبيركم، والتجئوا إلى ظلّ شهود تقديره، وانتظروا ما ينبغى لكم أن تفعلوه بحكم تيسيره «3» .
ويقال إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم لا تدرون أبا لسعادة جرى حكمكم أم بالشقاوة مضى اسمكم؟ فكلوا الأمر فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكّر فيما ليس لكم سبيل إلى علمه عن عواقبكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
خلق لكم من أنفسكم «أزواجا: أي أشكالا فخلق حواء من آدم وخلق
__________
(1) الإحياء والإماتة اليوم مرتبطان بالمعاني الصوفية من صفاء وكدورة ونحو ذلك.
(2) هذا ردّ على من يتهمون الصوفية بعدم الاحتفال بالمصادر الأساسية للشريعة، فضلا عن أننا نشعر باهتمامهم بالجانب العقلي حين يبرزون «القياس» كمصدر من مصادر التشريع. [.....]
(3) وهذا المصدر الأخير خاصة بالسادة الأولياء الأصفياء- يهمنا أمره حين ندرس مصادر الفقه الصوفي.(3/344)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
- بسبب بقاء التناسل- جميع الحيوانات أجناسا.
«يَذْرَؤُكُمْ» : يكثر خلقكم. «فِيهِ» الهاء تعود إلى البطن أي في البطن، وقيل:
فى الرّحم، وقيل: فى التزويج «1» .
«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» : لأنه فاطر السماوات والأرض، ولأنه لا مثل يضارعه، ولا شكل يشاكله. والكاف في ليس «كَمِثْلِهِ» صلة أي ليس مثله شىء. ويقال: لفظ «مثل» صلة ومعناه ليس كهو شىء. ويقال معناه ليس له مثل إذ لو كان له مثل لكان كمثله شىء وهو هو، فلما قال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» فمعناه ليس له مثل، والحقّ لا شيبه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أحكامه.
وقد وقع قوم في تشبيه ذاته بذات المخلوقين فوصفوه بالحدّ والنهاية والكون في المكان، وأقبح قولا منهم من وصفوه بالجوارح والآلات فظنوا أن بصره في حدقة، وسمعه في عضو، وقدرته في يد.. إلى غير ذلك.
وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده فقالوا: ما يكون من الخلق قبيحا فمنه قبيح، وما يكون من الخلق حسنا فمنه حسن!! وهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه- والحقّ مستحقّ للتنزيه دون التشبيه، مستحق للتوحيد دون التحديد، مستحق للتحصيل دون التعطيل والتمثيل.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 12]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
«مَقالِيدُ» أي مفاتيح، والمفاتيح للخزائن، وخزائنه مقدوراته. وكما أن في الموجودات معادن مختلفة فكذلك القلوب معادن جواهر الأحوال فبعض القلوب معادن المعرفة، وبعضها معادن المحبة، وبعضها للشوق، ويعضها للأنس.. وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والرضا. وفائدة التعريف بأن المقاليد له: أن يقطع العبد أفكاره عن الخلق، ويتوجّه
__________
(1) يقول النسفي: اختير «فيه» على «به» لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع أو المعدن للبث والتكثير.(3/345)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
فى طلب ما يريد من الله الذي «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» ، والذي هو «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» :
يوسّع ويضيّق أرزاق النفوس وأرزاق القلوب حسبما شاء وحكم وعلم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 13]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
«شَرَعَ» : أي بيّن وأظهر. «مِنَ الدِّينِ» أراد به أصول الدين فإنها لا تختلف في جميع الشرائع، وأمّا الفروع فمختلفة، فالآية تدلّ على مسائل أحكامها في جميع الشرائع واحدة.
ثم بيّن ذلك بقوله: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» .. وفي القصة أن تحريم البنات والأخوات إنما شرع في زمان نوح عليه السلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 14]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
يعنى أنهم أصرّوا على باطلهم بعد وضوح البيان وظهور البرهان حين لا عذر ولا شكّ «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» .. وهو أنه حكم بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة لعجّل لهم ما يتمنونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)(3/346)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
أي ادع إلى هذا القرآن، وإلى الدين الحنيفي، واستقم في الدعاء، وفي الطاعة. أمر الكلّ من الخلق بالاستقامة، وأفرده بذكر التزام الاستقامة.
ويقال: الألف والسين والتاء في الاستقامة للسؤال والرغبة أي سل منى أن أقيمك، «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» : أمرت بالعدل في القضية، وبأن أعلم أنّ الله إله الجميع، وأنّه يحاسب غدا كلّا بعمله، وبأن الحجة لله على خلقه، وبأن الحاجة لهم إلى مولاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 16]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
يجادلون في الله من بعد ما استجيب لدعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر على المشركين.
حجّة هؤلاء الكفار داحضة عند ربهم لأنهم يحتجون بالباطل، وهم من الله مستوجبون للعنة والعقاب «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 17]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
أنزل الكتاب، وأنزل الحكم بالميزان أي بالحق.
ويقال ألهمهم وزن الأشياء بالميزان، ومراعاة العدل في الأحوال.
«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» : يزجرهم عن طول الأمل، وينبههم إلى انتظار هجوم الأجل.
__________
(1) سماها حجة حسب زعمهم- وإن كانت شبهة في حقيقة أمرها. ومن أمثلة حجج أهل الكتاب أنهم كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم وأولى بالحق.. وكل هذه الحجج داحضة بعد ما دخل الناس في الإسلام، وتركوا الجاهلية وآثامها، استجابة لدعاء الرسول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن نعبد في الأرض.(3/347)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 18]
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
المؤمنون يؤمنون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة، ويكلون أمورهم إلى الله فلا يتمنون الموت حذر الابتلاء، ولكن إذا ورد الموت لم يكرهوه، وكانوا مستعدين له «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 19]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
«لَطِيفٌ» «2» أي عالم بدقائق الأمور وغوامضها. واللطيف هو الملطف المحسن..
وكلاهما في وصفه صحيح. واللطف في الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليوم هو لطف منه به.
وأكثر ما يستعمل اللطف- فى وصفه- فى الإحسان بالأمور الدينية.
ويقال: خاطب العابدين بقوله: «لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» : أي يعلم غوامض أحوالهم من دقيق الرياء والتصنّع لئلا يعجبوا بأحوالهم وأعمالهم. وخاطب العصاة بقوله: «لَطِيفٌ» : لئلا ييأسوا من إحسانه.
ويقال: خاطب الأغنياء بقوله: «لَطِيفٌ» : ليعلموا أنه يعلم دقائق معاملاتهم في جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطب الفقراء. بقوله: «لَطِيفٌ» أي أنه محسن يرزق من يشاء.
ويقال: سماع قوله: «اللَّهُ» يوجب الهيبة والفزع، وسماع «لَطِيفٌ» يوجب السكون
__________
(1) لأن الموت يقربهم من اللقاء.. لقاء المحبوب.
(2) تضاف أقوال القشيري هنا فى «اللطيف» إلى ما ذكره في كتاب التحبير في التذكير (تحقيق بسيونى) وما ذكره في كتاب: شرح أسماء الله الحسنى (تحقيق الحلواني) صدر بالقاهرة سنة 1969 ص 176 وما بعدها.(3/348)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
والطمأنينة. فسماع قوله: «اللَّهُ» أوجب لهم تهويلا، وسماع قوله: «لَطِيفٌ» أوجب لهم تأميلا.
ويقال: اللطيف من يعطى قدر الكفاية وفوق ما يحتاج العبد إليه.
ويقال: من لطفه بالعبد علمه بأنه لطيف، ولولا لطفه لما عرف أنه لطيف.
ويقال: من لطفه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكلفّه دون الطاقة.
ويقال: من لطفه بالعبد إبهام عاقبته عليه لأنه لو علم سعادته لاتّكل عليه، وأقلّ عمله.
ولو علم شقاوته لأيس ولترك عمله.. فأراده أن يستكثر في الوقت من الطاعة.
ويقال: من لطفه بالعبد إخفاء أجله عنه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله.
ويقال: من لطفه بالعبد أنه ينسيه ما عمله في الدنيا من الزّلة لئلا يتنغّص عليه العيش فى الجنة.
ويقال: اللطيف من نوّر الأسرار «1» ، وحفظ على عبده ما أودع قلبه من الأسرار «2» ، وغفر له ما عمل من ذنوب في الإعلان والإسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 20]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ» : نزده- اليوم- فى الطاعات توفيقا، وفي المعارف وصفاء الحالات تحقيقا. ونزده في الآخرة ثوابا واقترابا وفنون نجاة وصنوف درجات.
«وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» : مكتفيا به نؤته منها ما يريد، وليس له في الآخرة نصيب.
__________
(1) هذه (الأسرار) جمع السر وهو الملكة الباطنية التي تعلو الروح- كما نعرف من المذهب العرفانى للقشيرى.
(2) وأما (الأسرار) الثانية فهى جمع السر كما نعرفه- بمعنى الشأن الخفي.(3/349)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 21]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)
«ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» : أي ليس ذلك مما أمر به، وإنما هو افتراء منهم.
«وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» .. أي ما سبق به الحكم بتأخير العقوبة إلى القيامة..
[سورة الشورى (42) : آية 22]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
إذا حصل الإجرام فإلى وقت ما لا يعذّبهم الله في الغالب، ولكنه لا محالة يعذبهم وربما يثبت ذلك لبعض أصحاب القلوب فيتأسفون، ويعلمون أنّ ذلك من الله لهم معجّلّ قد أصابهم، أمّا الكفار..
فغدا يشفقون مما يقع بهم عند ما يقرءونه في كتابهم، لأنّ العذاب- لا محالة- واقع بهم.
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» : فى الدنيا جنان الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأنس في أوقات الخلوة. وفي الآخرة في روضات الجنة: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : إن أرادوا دوام اللطف دام لهم، وإن أرادوا تمام الكشف كان لهم.. ذلك هو الفضل الكبير.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 23]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
ذلك الذي يبشّر الله عباده قد مضى ذكره في القرآن متفرقا من أوصاف الجنة وأطايبها، وما وعد الله من المثوبة.. ونحو ذلك.
«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» .
قل- يا محمد- لا أسألكم عليه أجرا. من بشّر أحدا بالخير طلب عليه أجرا، ولكنّ الله- وقد بشّر المؤمنين على لسان نبيّه بما لهم من الكرامات الأبدية- لم يطلب عليه أجرا(3/350)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
فالله- سبحانه- لا يطلب عوضا، وكذلك نبيّه- صلى الله عليه وسلم- لا يسأل أجرا فإن المؤمن قد أخذ من الله خلقا حسنا.. فمتى يطلب الرسول منهم أجرا؟! وهو- صلوات الله عليه- يشفع لكلّ من آمن به، والله- سبحانه- يعطى الثواب لكل من آمن به.
«إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» : أراد أن تثبت مودتك في القربى فتودّ من يتقرّب إلى الله فى طاعته «1» .
«وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» .
تضعيف الثواب في الآخرة للواحد من عشرة إلى سبعمائة.. هذه هي الزيادة.
ويقال: الزيادة هي زيادة التوفيق في الدنيا.
ويقال: إذا أتى زيادة في المجاهدة تفضّلنا بزيادة.. وهي تحقيق المشاهدة.
ويقال من يقترف حسنة الوظائف «2» نزد له فيها حسن اللطائف.
ويقال: تلك الزيادة لا يصل إليها العبد بوسعه فهى مما لا يدخل تحت طوق «3» البشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 24]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
أي أنّك إن افتريته ختم الله على قلبك، ولكنك لم تكذب على ربّك.
ومعنى الآية أنّ الله يتصرّف في عباده بما يشاء: من إبعاد وتقريب، وإدناء وتبعيد «4» .
__________
(1) استغلت هذه الآية الكريمة استغلالا عقديا وسياسيا في عصور متأخرة خصوصا من جانب المتشيعين لعلى كرم الله وجهه وبيته.. وواضح أن القشيري أطلق القرابة على كل من يتقرب إلى الله بالطاعة فهى عنده قرابة في الله، وربما كان ذلك نتيجة سنيته وحرصه على سنيته. (أنظر مدخل اللطائف ح 1 ص 25) .
(2) المقصود بالوظائف أداء العبادات والتزام آداب الشريعة.
(3) فى ص وردت (طرق) بالراء وهي خطأ في النسخ.
(4) يقول مجاهد: «يختم على قلبك» أي يربط عليه بالصبر على أذاهم واتهامهم له بالافتراء والكذب لئلا تدخله شقة بسبب تكذيبهم.(3/351)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 25]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)
«وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» الألف واللام للجنس مطلقا، وهي هنا للعهد أي تلك السيئات التي تكفى التوبة المذكورة في الشريعة لقبولها فإنه يعفو عنها إذا شاء «1» . «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» :
من الأعمال على اختلافها «2» .
وهو «الَّذِي» ..: الذي من الأسماء الموصولة التي لا يتم معناها إلا بصلة، فهو قد تعرّف إلى عباده على جهة المدح لنفسه بأنه يقبل توبة العبد فالزّلّة- وإن كانت توجب للعبد ذميم الصّفة- فإنّ قبولها يوجب للحقّ حميد الاسم.
ويقال: قوله: «عِبادِهِ» اسم يقتضى الخصوصية (لأنه أضافه إلى نفسه) «3» حتى تمنّى كثير من الشيوخ أن يحاسبه حساب الأولين والآخرين لعلّه يقول له: عبدى. ولكن ما طلبوه فيما قالوه موجود فى «التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وإذا فلا ينبغى لهم أن يتمنوا كذلك، وعليهم أن أن يتوبوا لكى يصلوا إلى ذلك.
ويقال لمّا كان حديث العفو عن السيئات ذكرها على الجمع والتصريح «4» فقال: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» . ثم لمّا كان حديث التهديد قال: «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» فذكره على التلويح فلم يقل: ويعلم زلّتك- بل قال ويعلم «ما» تفعلون، وتدخل في ذلك الطاعة والزّلة جميعا «5» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 26]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
__________
(1) يشير القشيري إلى الآية الكريمة «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» .
(2) ويدخل في ذلك- كما سيأتى بعد قليل- المعاصي والطاعات.
(3) ما بين القوسين إضافة من عندنا طبقا لما نعرفه من أسلوب القشيري في مثل هذا الموضع. [.....]
(4) هكذا في م وهي في ص (والتضرع) وهي خطأ في النسخ لعدم ملامتها السياق فالتصريح يقابل «التلويح» المذكور فيما بعد.
(5) فى هذه الإشارة وما تلاها يبدو انفتاح باب الأمل أمام العصاة، وكيف يحثهم هذا الإمام الجليل على التوبة الآملة والرجاء الوطيد في رحمة الله.(3/352)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
(أي إذا دعوه استجاب لهم) «1» بعظيم الثواب في الآخرة.
«وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» : يقول المفسرون من أهل السّنّة في هذه الزيادة إنها الرؤية.
ذكر التوبة وأهلها، وذكر العاصين بوصفهم، ثم ذكر المطيعين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فلمّا وصل إلى الزيادة- التي هي الرؤية- قال: «وَيَزِيدُهُمْ» على الجمع والكناية «2» إذا تلمت مذكورات رجعت إليها جميعا فيكون المعنى أن الطاعات في مقابلها الدرجات، وتكون بمقدارها في الزيادة والنقصان، وأمّا الرؤية فسبيلها الزيادة والفضل..
والفضل ليس فيه تمييز.
ويقال: لمّا ذكر أنّ التائبين تقبل توبتهم، ومن لم يتب غفر زلّته «3» ، وأنّ المطيعين لهم الجنة.. فلربما خطر ببال أحد: وإذا فهذه النار لمن هى؟! فقال جل ذكره:
«وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» .
فالعصاة من المؤمنين لهم عذاب.. أمّا الكافرون فلهم عذاب شديد لأنّ دليل الخطاب يقتضى هذا وذاك يقتضى أن المؤمنين لهم عذاب.. ولكن ليس بشديد، وأمّا عذاب الكافرين فشديد.
ويقال: إن لم يتب العبد خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة لكان من حقّه أن يتوب ليقبل الحقّ- سبحانه.
ويقال إن العاصي يكون أبدا منكسر القلب، فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن ليت له طاعة ميسّرة ليقبلها، فيقول الحقّ: عبدى، إن لم تكن لك طاعة تصلح للقبول فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولها.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 27]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من عندنا وجدناها ضرورية لتوضيح العبارة.
(2) يقصد القشيري بالكناية الضمير فى «ويزيدهم» .
(3) لأنه ربط ذلك بمشيئته- سبحانه- فقال «ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» .(3/353)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
هذا الخطاب في الظاهر يشبه الاعتذار في تخاطب الآدميين. والمعنى: أننى لم أبسط عليك أيها الفقير في الدنيا لما كان لى من العلم أننى لو قسمت عليك الدنيا لطغيت، ولسعيت فى الأرض بالفساد.
ويقال: قوله: «وَلكِنْ..» : لكن كلمة استدراك، فالمعنى: لم أوسّع عليك الرزق بمقدار ما تريد ولم أمنع عنك (الكلّ) «1» لأنّ أنزّل بقدر ما أشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 28]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
الله- سبحانه محيى القلوب فكما أنه «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» ، فبعدما أصابت الأرض جدوبة، وأبطأ نزول الغيث، وقنط الناس من مجىء المطر، وأشرف الوقت على حدّ الفوات ينزّل الله بفضله الغيث، ويحيى الأرض بعد قنوط أهلها.. فكذلك العبد إذا ذبل غصن وقته، وتكدّر صفو ودّه، (وكسفت) «2» شمس أنسه، (وبعد) «3» عن الحضرة وساحات القرب عهده فلربما ينظر إليه الحقّ برحمته فينزل على سرّه أمطار الرحمة، ويعود عوده طريّا، وينبت في مشاهد أنسه وردا جنيّا..
وأنشدوا:
إن راعنى منك الصدود ... فلعلّ أيامى تعود
ولعلّ عهدك باللّوى ... يحيا فقد تحيا العهود
والغصن ييبس تارة ... وتراه مخضرّا يميد
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 29]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)
__________
(1) هكذا في م، وهي في ص (الكيل) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح من السياق.
(2) هكذا في ص، وهي في م (كشفت) بالشين وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
(3) سقطت في ص وموجودة في م والسياق يتطلبها.(3/354)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
جعل الله في كلّ شىء من المخلوقات دلالة على توحّده في جلاله، وتفرّده بنعت كبريائه وجماله «1» .
«وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» : والإشارة منها أنّ الحقّ- سبحانه- يغار على أوليائه أن يسكن بعضهم بقلبه إلى بعض فأبدا يبدّد شملهم، ولا تكاد الجماعة من أهل القلوب تتفق في موضع واحد إلا نادرا، وذلك لمدة يسيرة.. كما قالوا:
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنّهم ... بأكناف أطراف السماء نجوم
وفي بعض الأحايين قد يتفضّل الحقّ عليهم فتدنو بهم الديار، ويحصل بينهم- فى الظاهر- اجتماع والتقاء، فيكون في ذلك الوقت قد نظر الحقّ- سبحانه- بفضله إلى أنّ في اجتماعهم بركات لحياة العالم.
وهذا- وإن كان نادرا- فإنه على جمعهم- إذا يشاء- قدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 30]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)
إذا تحقّق العبد بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظية أو حالة مما يسوءه، وعلم أن ذلك جزاء له، وعقاب على ما بدر منه من سوء الأدب لاستحيى بخجلته من فعله، ولشغله ذلك عن رؤية الناس، فلا يحاول أن ينتقم منهم أو يكافئهم أو يدعو عليهم، وإنما يشغله تلافى ما بدر منه من سوء الفعل عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلّط عليه من الخلق.. تاركا الأمر كلّه لربّه.
ويقال: إذا كثرت الأسباب من البلايا على العبد، وتوالى عليه ذلك.. فليفكّر فى أفعاله للذمومة.. كم يحصل منه حتى يبلغ جزاء ما يفعله- مع العفو الكثير- هذا المبلغ؟! فعند ذلك يزداد حزنه وتأسّفه لعلمه بكثرة ذنوبه ومعاصيه.
__________
(1) سبق أن نبا القشيري إلى توحيد القالة وتوحيد الدلالة.(3/355)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 32]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32)
يريد بها السفن التي تجرى في البحار يرسل الله الريح فتسيّرها مرة، ويسكّنها أخرى، وما يريهم خلال ذلك من الهلاك أو السلامة.. وهو بهذا يحثّهم على التفكّر والتنبّه دائما.
والإشارة في هذا إلى إمساك الناس «1» فى خلال فترة الوقت عن الأنواء المختلفة، وحفظهم في إيواء السلامة، فالواجب الشكر في كل حالة، وإذا خلص الشكر استوجب جزيل المزيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 36]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
يعنى أنّ الراحات في الدنيا لا تصفو، ومن المشائب لا تخلو. وإن اتفق وجود البعض منها في أحايين فإنها سريعة (الزوال) «2» ، (وشيكة) «3» الارتحال.
«وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الموعود «خَيْرٌ» من هذا القليل الموجود.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 37]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
«كَبائِرَ الْإِثْمِ» : الشرك. و «الْفَواحِشَ» : ما دون ذلك من الزلّات. فإذا تركوها لا يتجرّعون كاسات الغضب بل تسكن لديهم سورة النّفس لأنهم يتوكلون على ربهم فى عموم الأحوال.
[سورة الشورى (42) : آية 38]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
__________
(1) المقصود بإمساك الناس هنا حفظ الله سبحانه وتعالى لهم.
(2) وردت (العذاب) فى ص وهي خطأ في النسخ.
(3) وردت (وسكية) فى ص وهي خطأ في النسخ.(3/356)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
«اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» : فيما دعاهم إليه وما أمرهم به من فنون الطاعات فهؤلاء هم الذين لهم حسن الثواب وحميد المآب.
والمستجيب لربّه هو الذي لا يبقى له نفس إلا على موافقة رضاه «1» ، ولا تبقى منه لنفسه بقية.
«وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» : لا يستبدّ أحدهم برأيه لأنه يتّهم أمره ورأيه أبدا «2» .
ثم إذا أراد القطع بشىء يتوكل على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 39]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
«الْبَغْيُ» : الظلم، فيعلم أحدهم أن الظلم الذي أصابه هو من قبل نفسه، فينتصر على الظالم وهو نفسه بأن يكبح عنانها عن الركض في ميدان المخالفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 40]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
(يعنى لا تجاوزوا حدّ ما جنى الجاني عليكم في المكافأة أو الانتقام) «3» .
«فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» : من عفا عن الجاني، وأصلح ما بينه وبين الله- أصلح الله ما بينه وبين الناس. «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» : فالذى للعبد من الله وعلى الله، وعند الله خير مما يعمله باختياره.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 41 الى 42]
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) .
__________
(1) هذا ما يعرف عند الصوفية بمراعاة الأنفاس.
(2) هذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية. [.....]
(3) ما بين القوسين سقط في ص وموجود في م.(3/357)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
علم الله أن الكلّ من عباده لا يجد التحرر من أحكام النّفس، ولا يتمكن من محاسن الخلق فرخّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط- وإن كان الأولى بهم الصفح والعفو.
«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ..» : السبيل بالملامة لمن جاوز الحدّ، (وعدا الطّور) «1» ، وأتى غير المأذون له من الفعل.. فهؤلاء لهم عذاب أليم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 43]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر- بالتجاوز عن الخصم- ولم تبق لنفسه عليه دعوى، بل يبرىء خصمه من كل دعوى، فى الدنيا والعقبى.. فذلك من عزم الأمور.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
إنّ الذين أضلّهم الله، وأعمى أبصارهم وبصائرهم، وأوقعهم في كدّ عقوبتهم، وحرمهم برد الرضا لحكم ربّهم ليس لهم وليّ من دون الله، ولا مانع لهم من عذابه. وتراهم إذا رأوا العذاب يطلبون منه النجاة فلا ينالونها.
وتراهم يعرضون على النار وهم خاشعون من الذّلّ لا تنفعهم ندامة، ولا تسمع منهم دعوة، ويعيّرهم المؤمنون بما ذكّروهم به فلا يسمعون، فاليوم لا ناصر ينصرهم، ولا راحم يرحمهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 47]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
الاستجابة لله الوفاء بعهده، والقيام بحقّه، والرجوع عن مخالفته إلى موافقته، والاستسلام
__________
(1) فى ص (وعد) وهي خطأ في النسخ. ويقال عدا وتعدى الطور أي جاوز حدّه وقدره (الوسيط) .(3/358)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
فى كل وقت لحكمه. والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح. وعن قريب سيغلق الباب على القلب بغتة، ويؤخذ فلتة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 48]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
فإن أعرضوا عن الإجابة فليس عليك إلا تبليغ الرسالة، ثم نحن أعلم بما نعاملهم به.
«وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» .
إذا أذقنا الإنسان منّا رفاهية ونعمة فرح بتلك الحالة، وقابلها بالبطر، وتوصّل بتمام عافيته إلى المخالفة، وجعل السلامة ذريعة للمخالفة. وإن أصابته فتنة وبلية، ومسّته مصيبة ورزية فإنه كفور بنعمائنا، جحود لآياتنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
«1» ...
يهب لمن يشاء الذكور، ولمن يشاء الإناث، ولمن يشاء الجنين، ويجعل من يشاء عقيما، فلا اعتراض عليه في تقديره، ولا افتيات في اختياره، فهو أولى بعباده من عباده.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : آية 51]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
لله بحقّ ملكه أن يفعل ما يشاء، ويعطى من يشاء من عباده ما يشاء، ولكن أجرى
__________
(1) يرى النسفي أنه قدم الإناث على الذكور هنا ليوضح أنه فاعل لما يشاؤه لا لما يشاء الإنسان، فكان تقديم الإناث اللاتي من جملة مالا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم. ح 4 ص 111.(3/359)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
العادة وحكم بأنه لا يفعل إلا ما ورد في هذه الآية فلم يكلّم أحدا إلا بالوحى، أو من وراء حجاب يعنى وهو لا يرى الحقّ، فالمحجوب هو العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق فى محل الرؤية ضد الرؤية.. تعالى الله عن أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام المحدودة التي يسبل عليها ستر. إنه «عَلِيٌّ» : فى شأنه وقدره، «حَكِيمٌ» : فى أفعاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
أي ذلك مثلما أوحينا إليك «رُوحاً» من أمرنا يعنى القرآن سمّاه روحا لأنه من آمن به صار به قلبه حيّا.
ويقال «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» : أي جبريل عليه السلام، ويسمى جبريل روح القدس.
«ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ..» : ما كنت تدرى قبل هذا ما القرآن، «وَلَا الْإِيمانُ» :
أي تفصيل هذه الشرائع.
«وَلكِنْ جَعَلْناهُ» : أي القرآن «نُوراً» نهدى به من نشاء من عبادنا المؤمنين.
«أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» : لأن منه ابتداء الأمور.(3/360)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
سورة الزّخرف
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم «الله: اسم عزيز من وثق بجوده وكرمه لم يعلّق بغيره صواعد هممه، ولم يقف على سدّة مخلوق بقدمه في ابتغاء كرمه. اسم عزيز من عوّده خفايا لطفه «1» لم يتذلّل «2» فى طلب شىء من غيره، ولم يرجع إلى غيره في شرّه وخيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
الحاء تدل على حياته والميم على مجده.. وهذا قسم ومعناه: وحياتى ومجدى وهذا القرآن إنّ الذي أخبرت عن رحمتى بعبادي المؤمنين حق وصدق. وجعلناه قرآنا عربيا ليتيسّر عليكم فهم معناه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 4]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
«فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا» : أي أنه مكتوب في اللّوح المحفوظ.
«لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» لعليّ القدر، حكيم الوصف لا تبديل له ولا تحويل.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 5]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
أي أننا لا نفعل ذلك (فيكون معنى الاستفهام) «3» أفنقطع عنكم خطابنا وتعريفنا
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (خفاء حكمه) . وقد آثرنا الأولى لأنها أكثر تدعيما للسياق.
(2) هكذا في م وهي في ص (لم تبدلل) وواضح الخطأ الناسخ.
(3) ما بين القوسين إضافة من عندنا ليتماسك السياق. والاستفهام في الآية يفيد الإنكار.(3/361)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
إن أسرفتم في خلافكم؟ لا ... إننا لا نرفع التكليف بأن خالفتم، ولا نهجركم- بقطع الكلام عنكم- إن أسرقتم.
وفي هذا إشارة لطيفة وهو أنه لا يقطع الكلام- اليوم- عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شانه. فأحرى أنّ من لم يقصّر في إيمانه- وإن تلطّخ بعصيانه، ولم يدخل خلل في عرفانه- ألا يمنع عنه لطائف غفرانه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 7]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7)
ما أتاهم من رسول فقابلوه بالتصديق، بل كذّب به الأكثرون وجحدوا، وعلى غيّهم أصرّوا ...
[سورة الزخرف (43) : آية 8]
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
أي لم يعجزنا أحد منهم، ولم نغادر منهم أحدا، وانتقمنا من الذين أساءوا.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 9]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
كانوا يقرّون بأنّ الله خالقهم، وأنّه خلق السماوات والأرض، وإنما جحدوا حديث الأنبياء، وحديث البعث وجوازه.
[سورة الزخرف (43) : آية 10]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
كما جعل الأرض قرارا لأشباحهم جعل الأشباح قرارا لأرواحهم فالخلق سكّان الأرض، فإذا انتهت المدة- مدة كون النفوس على الأرض- حكم الله بخرابها..
كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة قضى الله بخرابها.
__________
(1) هكذا تتجلى نزعة الأمل والتفاؤل عند هذا الصوفي حيث يحاول في إشارته أن يبين كيف أن رحمة الله تمتد لتشمل المؤمنين العصاة حتى من أسرف منهم على نفسه.(3/362)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 11]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
يعنى كما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 12]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)
أي الأصناف من الخلق «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» كذلك جنّس عليكم الأحوال كلها فمن رغبة في الخيرات إلى رهبة مما توعدّكم به من العقوبات. ومن خوف يحملكم على ترك الزلّات إلى رجاء يبعثكم على فعل الطاعات طمعا فى المثوبات.. وغير ذلك من فنون الصفات
[سورة الزخرف (43) : آية 13]
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
يعنى الفلك والأنعام..
«ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» مطيعين، وكما سخّر لهم الفلك في البحر، والدوابّ للركوب، وأعظم عليهم المنة بذلك فكذلك (سهّل للمؤمنين مركب التوفيق فحملهم عليه إلى بساط الطاعة) «1» ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة فحملهم عليه إلى عرصات الجود، وسهّل للعارفين مركب الهمم فأناخوا بعقوة العزّة. وعند ذلك محطّ الكافة إذ لم تخرق سرادقات العزّة همّة مخلوق: سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا أو وليّا مكرّما، فعند سطوات العزّة يتلاشى كلّ مخلوق، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق «2» .
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م فأثبتناه في هذا الموضع لأن مرتبة المؤمنين عامة تليها مرتبة المريدين وهي خاصة، ثم العارفين وهم خواص الخواص.
(2) يرتبط ذلك بمذهب القشيري فى «الفناء» ، وكيف أن الصمدية تجل عن الاستشراف.. ناهيك بما يزعمه آخرون من حلول واتحاد.. وغير ذلك.(3/363)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 15]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
هم الذين قالوا: الملائكة بنات الله فجعلوا البنات لله جزءا على التخصيص من جملة مخلوقاته.. تعسا لهم في قولهم ذلك وخزيا «1» !! فردّ عليهم ذلك قائلا:
[سورة الزخرف (43) : آية 16]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
قال لهم على جهة التوبيخ، وعابهم بما قالوا إذ- على حدّ قولهم- كيف يؤثرهم بالبنين ويجعل لنفسه البنات؟! ففى قولهم ضلال إذ حكموا للقديم بالولد. وفيه جهل إذ حكموا له بالبنات ولهم بالبنين- وهم يستنكفون من البنات.. ثم.. أي عيب في البنات؟
ثم.. كيف يحكمون بأن الملائكة إناث- وهم لم يشاهدوا خلقتهم؟
كلّ ذلك كان منهم خطأ محظورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 20]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)
إنما قالوا ذلك استهزاء واستبعادا لا إيمانا وإخلاصا، فقال تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» ولو علموا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولا.
ثم قال:
[سورة الزخرف (43) : آية 21]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
أي ليس كذلك، حتى أخبر أنهم ركنوا إلى تقليد لا يفضى إلى العلم، فقال:
[سورة الزخرف (43) : آية 22]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
__________
(1) في م (وحزنا) وهي غير ملائمة- كما هو واضح.(3/364)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
فنحن نقتدى بهم، ثم قال:
[سورة الزخرف (43) : آية 23]
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
سلكوا طريق هؤلاء في التقليد لأسلافهم، ولاستنامة إلى ما اعتادوه من السّيرة والعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 24 الى 25]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
فلم ينجع فيهم قوله، ولم ينفعهم وعظه، وأصرّوا على تكذيبهم، فانتقم الحقّ- سبحانه- منهم كما فعل بالذين من قبلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
أخبر أنّ إبراهيم لمّا دعا أباه وقومه إلى الله وتوحيده أبوا إلّا تكذيبه فتبرّأ منهم بأجمعهم، وجعل الله كلمة التوحيد باقية في عقبه وقومه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 29]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
أرخينا عنان إمهالهم مدة، ثم كان أمرهم «1» أن انتصرنا منهم، ودمّرناهم أجمعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 31]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (آخرهم) وهي مقبولة في السياق على معنى (آخر أمرهم) أو (آخر شأنهم) .(3/365)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
إمّا أبى مسعود الثقفي «1» أو أبى جهل، وهذا أيضا من فرط جهلهم.
[سورة الزخرف (43) : آية 32]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
أهم يقسمون- يا محمد- رحمة ربك في التخصيص بالنبوة؟ أيكون اختيار الله- سبحانه- على مقتضى هواهم؟ بئس ما يحكمون! «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ.....» فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم.... فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء؟! .....
والإشارة من هذا: أن الحقّ- سبحانه- لم يجعل قسمة السعادة والشقاوة إلى أحد، وإنما المردود من ردّه بحكمه وقضائه وقدره، والمقبول- من جملة عباده- من أراده وقبله ... لا لعلّة أو سبب، وليس الردّ أو القبول لأمر مكتسب «2» ...
ثم إنه قسم لبعض عباده النعمة والغنى، وللبعض القلّة والفقر، وجعل لكلّ واحد منهم سكنا يسكنون إليه يستقلون به فللأغنياء وجود الإنعام وجزيل الأقسام.. فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهود المنعم والقسّام.. فحمدوا وافتخروا.
الأغنياء وحدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: «نَحْنُ» فاشتغلوا «3» .
__________
(1) هو أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، وأبو جهل من مكة فالقريتان هما الطائف ومكة.
وروى أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانه قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقا لنزل عليّ أو على أبى مسعود.
(2) مرة أخرى ينبه القشيري إلى أن المعول عليه في الأمر فضل الله وقسمته، ولهذا الرأى شأنه في مسألة الثواب والعقاب التي اتخذها المعتزلة وسيلة من وسائل تبرير الحرية الإنسانية- كما نبهنا إلى ذلك في هوامش كثيرة من الكتاب.
(3) أي (اشتغلوا) بالله وطاعته دون غاية غيريه أو مطمع زائل. ونحن لا نستبعد أنها قد تكون في الأصل (فاستقلوا) فهذا هو تعبير الشيخ المألوف في مثل هذا السياق. [.....](3/366)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: أما ترضون أن يرجع الناس بالغنى وأنتم ترجعون بالنبي إلى أهليكم؟
«لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..» : لو كانت المقادير متساوية لتعطلّت المعايش، ولبقى كلّ عند حاله فجعل بعضهم مخصوصين بالرّفه والمال، وآخرين مخصوصين بالفقر ورقة الحال.. حتى احتاج الفقير في جبر حاجته إلى أن يعمل للغنيّ كى يرتفق من جهته بأجرته فيصلح بذلك أمر الغنيّ والفقير جميعا.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 33]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33)
معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر فالذى يبقى عنّا لو صببنا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبرانا لمصيبته. ولولا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج من فضة، وكذلك ما يكون شبيها بهذا.
ولو فعلنا.. لم يكن لما أعطيناه خطر لأنّ الدنيا بأسرها ليس لها عندنا خطر.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 36]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
من لم يعرف قدر الخلوة مع الله فحاد عن ذكره، وأخلد إلى الخواطر الرديّة قيّض الله له من يشغله عن الله- وهذا جزاء من ترك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبد في خلوته بربّه.. فلو تعرّض له من يشغله عن ربه صرفه الحق عنه بأى وجه كان، وصرف دواعيه عن مفاتحته بما يشغله عن الله.
ويقال: أصعب الشياطين نفسك والعبد إذا لم يعرف خطر فراغ قلبه، واتّبع شهوته، وفتح ذلك الباب على نفسه بقي في يد هواه أسيرا لا يكاد يتخلّص عنه إلا بعد مدّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 37 الى 39]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)(3/367)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
الذي سوّلت له نفسه أمرا يتوهّم أنه على صواب، ثم يحمل صاحبه على موافقته في باطله، ويدّعى أنه على حقّ. وهو بهذا يضر بنفسه ويضر بغيره. ثم إذا ما انكشف- غدا- الغطاء تبيّن صاحبه خيانته، وندم على صحبته، ويقول: «يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» «1» و «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» . ولكنّ هذه الندامة لا تنفع حينئذ لأنّ الوقت يكون قد فات، لهذا قال تعالى:
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 40]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
هذا الاستفهام فيه معنى النفي أي أنه ليس يمكنك هداية من سددنا بصيرته، ولبّسنا عليه رشده، ومن صببنا في مسامع فهمه رصاص الشقاء والحرمان.. فكيف يمكنك إسماعه؟! قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 41]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
يعنى: إن انقضى أجلك ولم يتفق لك شهود ما نتوعّدهم به فلا تتوهّم أنّ صدق كلامنا يشوبه مين «2» ، فإنّ ما أخبرناك عنه- لا محالة- سيكون.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 42]
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
أثبته على حدّ الخوف «3» والرجاء، ووقفه على وصف التجويز لاستبداده «4» - سبحانه
__________
(1) آية 28 سورة الفرقان.
(2) في م (مبين) وهي خطأ في النسخ إذ الصواب (المين) أي الكذب.
(3) فى ص (الحزن) : لكننا آثرنا عليها ما جاء في م فالخوف- لا الحزن- يقابل الرجاء في المصطلح الصوفي (أنظر رسالة القشيري ص 35) .
(4) استبد بالأمر- انفرد به (الوسيط) .(3/368)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
بعلم الغيب. والمقصود كذلك أن يكون كلّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير- فالله يفعل ما يريد.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 43]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
اجتهد من غير تقصير وتوكّل على الله من غير فتور، وقف حيثما أمرت، وثق بأنك على صراط مستقيم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 44]
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
أي إنّ هذا القرآن لذكر لك أي شرف لك، وحسن صيت، واستحقاق منزلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 45]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
حشر أرواح الأنبياء- عليهم السلام- ليلة الإسراء، وقيل له- صلى الله عليه وسلم:
سلهم: هل أمرنا أحدا بعبادة غيرنا؟ فلم يشكّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ولم يسأل «1» ويقال: الخطاب له، والمراد به غيره.. فمن يرتاب في ذلك؟ (ويقال: المراد منه سل أقوامهم، لكى إذا قالوا إن الله لم يأمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم) «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 50]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
كرّر قصة موسى غير مرة في القرآن، وأعادها هنا مجملة أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجة ظاهرة قاهرة، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك
__________
(1) عن ابن عباس أنه قال: «لا أسأل قد اكتفيت» وعنه أيضا: أنه لم يسأل لأنه كان أعلم بالله منهم.
(2) ما بين القوسين ساقط في ص وموجود في م، والمقصود بها: اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوراة والإنجيل- وعلى هذا الرأى جمهور من المفسرين منهم مجاهد والضحاك وقتادة.(3/369)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
والتكذيب. ومع أنّ الله سبحانه لم يجر عليه من البيّنات شيئا إلا كان أوضح مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله. فلمّا عضّهم الأمر قالوا: يا أيها الساحر، ادع لنا ربّك ليكشف عنّا البليّة لنؤمن بك، فدعا موسى.. فكشف الله عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عهدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 51]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51)
تعزّز بملك مصر، وجرى النيل بأمره! وكان في ذلك هلاكه ليعلم أنّ من تعزّز بشىء من دون الله فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء.
[سورة الزخرف (43) : آية 52]
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52)
استصغر موسى وحديثه، وعابه بالفقر.. فسلّطه الله عليه، وكان هلاكه بيديه، فما استصغر أحد أحدا إلا سلّطه الله عليه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 54]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)
أطاعوه طاعة الرهبة، وطاعة الرهبة لا تكون مخلصة، وإنما تكون الطاعة صادقة إذا صدرت عن الرغبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 55]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
«آسَفُونا» أغضبونا، وإنما أراد أغضبوا أولياءنا، فانتقمنا منهم. وهذا له أصل في باب
__________
(1) يحاول القشيري أن يغمز بأولئك الذين يتعرضون للأولياء والعارفين، وكيف أن الحق- سبحانه- يتولى عنهم ردّ كيد الكائدين.(3/370)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
الجمع «1» حيث أضاف إيسافهم لأوليائه إلى نفسه.. وفي الخبر: أنه يقول: «مرضت فلم تعدنى «2» .
وقال في قصة ابراهيم عليه: «يَأْتُوكَ رِجالًا..» «3»
وقال في قصة نبيّنا- صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 57]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
وضرب المثل بعيسى هو قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» «5» خلق عيسى بلا أب كما خلق آدم بلا أبوين. فجحدوا بهذه الآية.
وقيل هو قوله: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» «6» ، فقالوا: رضينا بأن نكون في النار مع عيسى وعزيز والملائكة، وليس لهم في الآية موضع ذكر لأنه سبحانه قال: «وَما» تعبدون، ولم يقل «ومن» تعبدون «7» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 58]
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
ما ضربوه لك إلا جدلا: وذلك أنهم قالوا: إن قال آلهتكم خير فقد أقرّ بأنها معبودة، وإن قال: عيسى خير من آلهتكم فقد أقرّ بأن عيسى يصلح لأن يعبد، وإن قال: ليس واحد منهم
__________
(1) عند ما يضاف الفعل إلى الحق يكون المعنى منصرفا إلى حال الجمع، وعند ما ينسب إلى الخلق يكون منصرفا إلى حال الفرق، مثلما أوضح القشيري هنا، ومثلما أوضح عند قوله تعالى: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» .
(2) أصل الحديث: أنه تعالى يقول: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدنى، واستسقيتك فلم تسقنى، واستطعمتك فلم تطعمنى» القرطبي: ج 20، ص 55.
(3) آية 27 سورة الحج. والخطاب في الآية لابرهيم في مقام الفرق، ولنبينا في مقام الجمع.
(4) آية 80 سورة النساء.
(5) آية 59 سورة آل عمران.
(6) آية 98 سورة الأنبياء.
(7) لأن «من» للعاقل و «ما» لغير العاقل فالمقصود الأصنام. [.....](3/371)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
خيرا فقد نفى ذلك عن عيسى عليه السلام. هم راموا بهذا الكلام أن يجادلوه، ولم يكن سؤالهم للاستفادة. فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم: أن عيسى عليه السلام خير من آلهتكم ولكنه لا يستحق أن يعبد إذ ليس كلّ ما هو خير من الأصنام بمستحق أن يكون معبودا من دون الله. وهكذا بيّن الله- سبحانه- لنبيّه أنهم قوم جدلون «1» ، وأنّ حجتهم داحضة عند ربهم قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 59 الى 60]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
فليس عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوّة.
«وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» ولو شئنا لأنزلنا ملائكة من السماء حتى يكونوا سكّان الأرض بدلكم.
ثم قال:
[سورة الزخرف (43) : آية 61]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
«وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» : يعنى به عيسى عليه السلام إذا أنزله من السماء فهو علامة للساعة، «فَلا تَمْتَرُنَّ» بنزوله بين يديّ القيامة «2» .
[سورة الزخرف (43) : آية 62]
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
ولا يصدنكم الشيطان عن الإيمان بالساعة، وعن اتّباع الإيمان بهداى.
__________
(1) سبب نزول هذه الآية وما سبقها تلك المناظرة التي حاول بها عبد الله بن الزبعرى السهمي أن يستهوى قريشا بإثارة اعتراضات باطلة، فأفحمه المنطق القرآنى، وأخرس لجاجه.
يقول معروف الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل (الروض الفائق، ج 1، ص 139) .
(2) عن أبى هريرة- كما ثبت في صحيح مسلم وابن ماجه- قال قال رسول الله (ص) : لينزلن عيسى ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» .(3/372)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 63]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
ذكر مجىء عيسى عليه السلام أول مرة حيث أتى قومه بالشرائع الواضحة، ودعاهم إلى دين الله، ولكنهم تحزّبوا عليه «1» ، وإن الذين كفروا به لمستحقون للعقوبة.
[سورة الزخرف (43) : آية 67]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
ما كان لغير الله فمآله إلى الضياع. والأخلاء الذين اصطحبوا على مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدو يتبرّأ بعضهم من بعض، فلا ينفع أحد أحدا.
وأمّا الأخلاء في الله فيشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، أولئك هم المتقون الذين استثناهم الله بقوله: «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» .
وشرط الخلّة «2» فى الله ألا يستعمل بعضهم بعضا في الأمور الدنيوية، ولا يرتفق بعضهم ببعض حتى تكون الصحبة خالصة لله لا لنصيب في الدنيا، ويكون قبول بعضهم بعض لأجل الله، ولا تجرى بينهم مداهنة، وبقدر ما يرى أحدهم في صاحبه من قبول لطريق الله يقبله، فإن علم منه شيئا لا يرضاه الله لا يرضى ذلك من صاحبه، فإذا عاد إلى تركه غاد هذا إلى مودته، وإلّا فلا ينبغى أن يساعده على معصيته، كما ينبغى أن يتقيه بقلبه، وألا يسكن إليه لغرض دنيوى أو لطمع أو لعوض.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 68]
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
يقال لهم غدا: «يا عِبادِ «3» لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يلقاه أهل
__________
(1) كان تحزبهم إلى فرق متعددة هم: اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية.
(2) تضاف هذه الآراء إلى ما ذكره القشيري في رسالته في باب «الصحبة» .
(3) بالياء في الوصل والوقف مدنى وشامى وأبو عمرو، وبفتح الياء أبوبكر، والباقون بحذف الياء.(3/373)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
الجمع «1» من الأهوال، ولا أنتم تحزنون فيما قصّرتم من الأعمال ...
أمّا الذنوب.. فقد غفرناها، وأمّا الأهوال ... فكفيناها، وأمّا المظالم.. فقضيناها.
فإذا قال المنادى: هذا الخطاب يطمع الكلّ قالوا: نحن عباده، فإذا قال:
[سورة الزخرف (43) : آية 69]
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69)
أيس الكفار، وقوى رجاء المسلمين «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 70]
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
«3» فى رياض الجنة، وترتعون.
ويقال: «تُحْبَرُونَ» من لذة السماع.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 71]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
العبّاد لهم فيها ما تشتهى أنفسهم لأنهم قاسوا في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوع والعطش، وتحمّلوا وجوه المشاقّ، فيجازون في الجنة بوجوه من الثواب.
وأمّا أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما يلذ أعينهم من النظر إلى الله «4» لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم وما عالجوه من الاحتراق لشدة غليلهم.
__________
(1) يفسر النسفي أهل الجمع بأنهم أهل مكة (آية 45 سورة القمر) .
(2) قريب مما ذكره القشيري ما أورده الحارث المحاسبى في رعابته: (ينادى المنادى يوم القيامة «يا عبادى لا خوف عليكم اليوم ... » فيرفع الخلائق وموسهم، ويقولون: نحن عباد الله. ثم ينادى الثانية: «الذين آمنوا ... »
ثم ينادى الثالثة: «الذين آمنوا وكانوا يتقون» فينكس أهل الكبائر رءوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعى رءوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم) .
(3) تحبرون أي تسرون سرورا يظهر حباره (أثره) على وجوهكم.
(4) الجنة الحقيقية عند أرباب الأحوال رؤية الله، ورد في الخبر: أسألك لذة النظر إلى وجهك.»(3/374)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 72]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
أي يقال لهم- والخطاب للمطيعين غدا-: أنتم يا أصحاب الإخلاص في أعمالكم والصدق في أحوالكم:
[سورة الزخرف (43) : آية 73]
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
من الفاكهة الكثيرة تأكلون، وفي الأنس تتقبلون.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 75]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
هؤلاء هم الكفار المشركون، فهم أهل الخلود «1» ، لا يفتّر عنهم العذاب ولا يخفف.
وأمّا أهل التوحيد: فقد يكون منهم قوم في النار. ولكن لا يخلدون فيها.
ودليل الخطاب يقتضى أنه يفتّر عنهم العذاب. ورد فى الخبر الصحيح: أنه يميتهم الحقّ- سبحانه- إماتة إلى أن يخرجهم من النار- والميت لا يحسّ ولا يتألم «2» .
«لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» الإبلاس «3» من الخيبة، ويدل ذلك على أن المؤمنين لا يأس لهم فيها، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن ينتهى حسابهم.
ولقد قال الشيوخ: إنّ حال المؤمن في النار- من وجه- أروح لقلبه من حاله في الدنيا فاليوم- خوف الهلاك، وغدا- يقين النجاة، وأنشدوا:
عيب السلامة أنّ صاحبها ... متوقّع لقواصم الظّهر
وفضيلة البلوى ترقّب أهلها ... - عقب الرجاء- مودة الدهر
__________
(1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري في أبدية النار، على خلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن القوة الجسمانية متناهية فلا به من فنائها، ولأن دوام الإحراق مع بتاء الحياة خروج عن حكم العقل (انظر شرح المواقف، ج 8، ص 307 وشرح المقاصد، ج 2، ص 228.
(2) روى أحمد في مسنده: «.. أماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجىء بهم بنائر بضائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قبل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فلون لبات الجنة..
(3) أبلس: سكت لمرئه وانقطاع حجته.(3/375)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 76]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
هذا الخطاب يشبه كلمة العذر- وإن جلّ قدره- سبحانه- عن ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 78]
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
لو قالوا: «يا مالِكُ» لعلّ أقوالهم «1» كانت أقرب إلى الإجابة، ولكنّ الأجنبية حالت بينهم وبين ذلك «2» ، فكان الجواب عليهم:
«إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» فيها.. نصحتم فلم تنتصحوا، ولم تقبلوا القول في حينه، وكان أكثرهم للحق كارهين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 79]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
«3» بل أمورهم منتقضة عليهم فلا يتمشى لهم شىء مما دبّروه، ولا يرتفع لهم أمر على نحو ما قدّروه- وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 80]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
إنما خوّفهم بسماع الملك، وبكتابتهم أعمالهم عليهم لغفلتهم عن الله- سبحانه، ولو كان لهم خير عن الله لما خوّفهم بغير الله، ومن علم أنّ أعماله تكتب عليه، وأنه يطالب بمقتضى ذلك- قلّ إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه..
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 81]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) .
__________
(1) فى ص (أحوالكم) وقد آثرنا عليها (أقوالكم) التي في م كما يتضح من السياق القرآنى والسياق التفسيري.
(2) يلفت القشيري نظرنا- من بعيد- إلى أن الدعاء ينبغى أن يتجه بالكلية إلى الرب سبحانه، وقد يكون لذلك أهميته في فكرة الاستشفاع بالوسيلة- كما يتصورها هذا الإمام. [.....]
(3) يقال إن الآية نزلت في تدبير الكائدين المكر بالنبي (ص) فى دار الندوة حين استقر أمرهم- حسب مشورة أبى جهل- على أن يبرز من كل قبيلة رجل، ثم يشتركون في قتله فتضعف المطالبة بدمه صلوات الله عليه. وكانت النتيجة أن قتلوا جميعا يوم بدر.(3/376)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
أي إن كان في ضميركم وفي حكمكم وفي اعتقادكم أنّ للرحمن ولدا فأنا أوّل من يستنكف من هذه القالة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 82]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
تنزّه الله تنزيها، وتقدّس تقديسا عمّا قالوه. وفي هذه الآيات وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة- فيما أخطأوا فيه من وصف المعبود- قصدا للردّ عليهم، وإخبارا بتقبيح أقوالهم، وبطلان مزاعمهم.
ثم قال جلّ ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 83]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
إذ ليس يفوت أمرهم، وهم لا محالة سيلقون صغرهم.
وفي هذا دليل على أنه لا ينبغى للعبد أن يغترّ بطول السلامة فإنّ العواقب غير مأمونة.
قوله جل ذكره
[سورة الزخرف (43) : آية 84]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
المعبود- فى السماء- الله، والمقصود- فى طلب الحوائج في الأرض- الله.
أهل السماء لا يعبدون غير الله، وأهل الأرض لا يقضى حوائجهم غير الله.
«وَهُوَ الْحَكِيمُ» فى إمهاله للعصاة، «الْعَلِيمُ» بأحوال العباد.
[سورة الزخرف (43) : آية 85]
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
تعالى وتقدّس وتنزّه وتكبّر الذي له ملك السماوات والأرض.
السماوات والأرض بقدرته تظهر.. لا هو بظهورها يتعزّز «1» .
__________
(1) الصوفية يستدلون بالخالق على ما خلق، لأنه حاضر ومشهود، وهو قديم قامت به الحادثات..
يقول ابن عطاء الله السكندرى: «متى غبت حتى تكون الأكوان شاهدة عليك؟»(3/377)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : آية 86]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
أي شهد- اليوم- بالتوحيد، فيثبت له الحقّ حقّ الشفاعة. وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين شفاعتهم تكون غدا مقبولة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 87 الى 89]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
فكيف لا يعتبرون؟ وكيف يتكبّرون عن طاعة الله.
«وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي يعلم علم الساعة ويعلم «2» «قِيلِهِ يا رَبِّ» «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ.. أي أمهلهم، وقل لكم منى سلام.. ولكن سوف تعلمون عقوبة ما تستوجبون.
__________
(1) واضح أن القشيري يصرف الآية إلى المسلمين عامة ويخرج المشركين، وتذهب بعض التفاسير إلى أن معنى «الذين من دونه» هم عيسى وعزيز والملائكة، فهم لا يملكون الشفاعة.
(2) عاصم وحمزة يجران (قيله) على الإضافة وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب، والسبعة على النصب:
ويعلم قيله ...(3/378)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
سورة الدّخان
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من ذكرها نال في الدنيا والعقبى بهجته، ومن عرفها بذل فى طلبها مهجته.
كلمة إذا استولت على قلب عطّلته عن كلّ شغل، كلمة إذا واظب على ذكرها عبد أمّنته من كلّ هول.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)
الحاء تشير إلى حقّه والميم تشير إلى محبته. ومعناه: بحقي وبمحبتى لعبادى، وبكتابي العزيز إليهم: إنّى لا أعذّب أهل معرفتى بفرقتى «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
«فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» : قيل هي ليلة القدر، وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصّك «2» .
أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلّ سنة بمقدار ما كان جبريل ينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم «3» .
وسمّاها: «لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» لأنها ليلة افتتاح الوصلة. وأشدّ الليالى بركة ليلة يكون العبد فيها حاضرا بقلبه، مشاهدا لربّه، يتنعّم فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة.
__________
(1) يبدو أن القشيري لم يعتبر «إنا أنزلناه ... » جوابا للقسم، وإلى هذا يذهب بعض النحاة الذين يعتبرون ذلك صفة المقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا القسم (انظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج 16 ص 125) .
(2) من أسماء هذه الليلة: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك.
(3) أي على مدى ثلاث وعشرين سنة.(3/379)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
وأحوال هذه الطائفة «1» فى لياليهم مختلفة، كما قالوا:
لا أظلم الليل ولا ادّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تزول
ليلى كما شاءت: قصير إذا ... جادت، وإن ضنّت فليلى طويل
«فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يكتب من أمّ الكتاب في هذه الليلة ما يحصل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرّ، فى المحن والمنن، فى النصر والهزيمة، فى الخصب والقحط.
ولهؤلاء القوم (يعنى الصوفية) أحوال من الخصب والجدب، والوصل والفصل، والوفاق والخلاف، والتوفيق والخذلان، والقبض والبسط.. فكم من عبد ينزل له الحكم والقضاء بالبعد والشقاء، وآخر ينزل حكمه بالرّفد والوفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 5 الى 6]
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
«رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» : وهي الرسول- صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله عليه:
«أنا رحمة مهداة» ويقال: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق، ولقلوبهم بالتحقيق.
«إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» : «السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين المحبين.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 7]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
مالك السماوات والأرضين، ومالك ما بينهما- وتدخل في ذلك أكساب العباد.
وتملّكها بمعنى القدرة عليها، وإذا حصل مقدور في الوجود دلّ على أنه مفعوله لأن معنى الفعل مقدور وجد «2» .
__________
(1) يقصد طائفة الصوفية.
(2) لا حظ كيف يحاول القشيري أن يدخل في «وما بينهما» أفعال العباد، فحتى أكساب العباد- فى نظر هذا المتكلم داخلة- من حيث هي مقدورة- فى نطاق الخلق المنسوب إلى الله.(3/380)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 8]
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
هذه الكلمة فيها نفى ما أثبتوه بجهلهم، وإثبات ما نفوه بجحدهم.
«رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» : مربّى «1» أصلكم ونسلكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 9]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
اللّعب فعل يجرى على غير ترتيب تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا «2» على نظام مخصوص فوصف المنافق باللّعب وذلك لتردّده وتحيّره نتيجة شكّه في عقيدته.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 10]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10)
هذا من أشراط الساعة إذ يتقدم عليها «3» .
وقيامة هؤلاء (يقصد الصوفية) معجّلة (أي تتم هنا في هذه الدنيا) فيومهم الذي تأتى السماء فيه بدخان مبين هو يوم غيبة الأحباب، وانسداد ما كان مفتوحا من الأبواب، أبواب الأنس بالأحباب وفي معناه قالوا:
فما جانب الدنيا بسهل ولا الضّحى ... يطلق ولا ماء الحياة ببارد
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 11]
يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) .
__________
(1) لاحظ كيف يربط القشيري بين «التربية» و «الرب» .
(2) سقطت (لا) من ص.. وهي ضرورية كما هو واضح من السياق، وهي موجودة في م، ولا تخفى على القارئ روعة الربط بين «اللعب» و «اللعاب» ، ومدى السخرية من دماغ المنافق وقد ماثلت فما تتحرك فيه الشكوك تحرّك اللعاب.
(3) هناك اتجاهان في معنى «الدخان» فى هذه الآية: أحدهما أنه- كما يذكر القشيري أنه من أشراط الساعة، خرّج الثعلبي عن حذيفة أنه سأل النبي (ص) : «يا نبى الله، ما الدخان في هذه الآية؟ فقال: هو دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين ليلة ويوما، فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام، وأمّا الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره» . وأما الاتجاه الثاني فهو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي عليهم، وقد كشفه الله عنهم. ويؤيد ابن مسعود هذا القول الثاني بهذا الكشف، لأنه لو كان قبل يوم القيامة ما كشفه الله عن الناس.(3/381)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
وعذاب هؤلاء (يقصد الصوفية) مقيم في الغالب، وهو عذاب مستعذب، أولئك يقولون:
[سورة الدخان (44) : آية 12]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
وهؤلاء يستزيدون- على العكس من الخلق- العذاب، وفي ذلك يقول قائلهم:
فكلّ مآربى قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب «1»
فهم يسألون البلاء والخلق يستكشفونه، ويقولون:
أنت البلاء فكيف أرجو كشفه ... إنّ البلاء إذا فقدت بلائي
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 13]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
إن خالفوا دواعى قلوبهم من الخواطر «2» التي ترد من الحقّ عليهم عوقبوا- فى الوقت بما لا يتّسع لهم ويسعفهم، فاذا أخذوا في الاستغاثة «3» يقال لهم: أنّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول «4» على قلوبكم فخالفتم؟! قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 15]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) .
__________
(1) البيت للحلاج مسبوق بهذا البيت:
أريدك، لا أريدك للثواب ... ولكنى أريدك للعقاب
(ديوان الحلاج المقطعة السابعة)
(2) الخواطر من الحق، والهواجس والوساوس من الشيطان. [.....]
(3) هكذا في م وهي في ص (الاستعانة) وكلاهما مقبول في السياق.
(4) الرسول هنا- لأن الحديث هنا عن الصوفية- مقصود به ما يرد على قلوبهم من لدن الحقّ من الكشوفات والمواصلات.(3/382)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
حيث نورثكم حزنا طويلا، ولا تجدون في ظلال انتقامنا مقيلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 24]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
فتنهم «1» بعد ما أصرّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم «2» .
«وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» : يطالبهم بازالة الظلم عن بنى إسرائيل، وأن يستبصروا، واستنفرهم لله، وأظهر الحجّة من قبل الله.
«فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» أمره بأن يسرى بعباده المؤمنين، وعرّفهم أنهم سينقذون، وأنّ عدوّهم «جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 28]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)
ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم.
«كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» وأسكنّا قوما آخرين في منازلهم ودورهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 29]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
لم يكن لهم من القدر والخطر ما يتحرك في العالم بسببهم ساكن، أو يسكن متحرك
__________
(1) هكذا في ص وهي مقبولة في السياق إشارة إلى ما في الآية الكريمة: «ولقد فتنا ... » أما في م فهى (فثبتهم) وواضح فيها خطا الناسخ.
(2) نفر الجلد: ورم وتجافي عن اللحم، ونفرت المرأة عن زوجها: أعرضت وصدّت، ونفر من الشيء:
فزع منه وانقبض غير راض به.(3/383)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
فلا الخضراء بسببهم اغبرّت، ولا الغبراء لغيبتهم اخضرّت. لم يبق منهم عين ولا أثر، ولم يظهر من قبلهم على قلب أحد من عبادنا أثر. وكيف تبكى السماء لفقد من لم تستبشر به من قبل؟ بعكس المؤمن الذي تسرّ السماء بصعود عمله إليها، فإنها تبكى عند غيابه وفقده «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 32]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)
نجّاهم، وأقمى عدوّهم، وأهلكه.
«وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ... » أي علمنا ما يحتقبون من أوزارهم «2» ، فرفعنا- باختيارنا- من أقدارهم ما وضعه فعلهم وتدنسّهم بأوضارهم.
ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بأحوالهم أنهم يؤثرون أمرنا على كل شىء.
ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا.
ويقال: «عَلى عِلْمٍ» منا بما نودع عندهم من أسرارنا، وما نكاشفهم به من حقائق حقّنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 33]
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
من مطالبته بالشكر عند الرخاء، والصبر عند الكدر والعناء «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 36]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)
__________
(1) عن شريح الحضرمي: قال النبي (ص) : «ألا لا غربة على مؤمن، فما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» .
(2) في ص (إنذارهم) والسياق يرفضها، والصواب ما في م.
(3) لأن البلاء يكون بالنعمة والنقمة، قال تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .(3/384)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
اقترح أبو جهل على النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يحيى لهم نفسا «1» :
«لتخبرنا: هل أنت صادق أم لا؟» فأخبر الله- سبحانه- أنهم اقترحوا هذا بعد قيام الحجّة عليهم، وإظهار ما أزاح لهم من العذر: ثم قال جلّ ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 37]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
«تُبَّعٍ» هو ملك لليمن، وكان مسلما، وكان في قومه كثرة، وأهلك الله سبحانه قومه على كثرة عددهم، وكمال قوّتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 39]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
ما خلقناهما إلا بالحقّ، بالحكم الحقّ وبالأمر الحقّ ... «فأنا محقّ في خلقهما» : أي كان لى خلقهما.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
__________
(1) حدّد أبو جهل ذلك حين قال النبي: ابعث لنا- إن كنت صادقا- رجلا مثل قصيّ بن كلاب لنسأله عمّا يكون بعد الموت.
وهذا القول من أبى جهل فيه ضعف لأن البعث يكون للجزاء لا للتكليف.(3/385)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
يومئذ لا يغنى ناصر عن ناصر ولا حميم عن حميم، ولا نسيب عن نسيب ... شيئا.
ولا ينالهم نصر إلا من رحمه الله وبفضله ونعمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 46]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
«الْأَثِيمِ» مرتكب الذنوب. «المهل» : النحاس المذاب. «الْحَمِيمِ» : الماء الحار.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 47 الى 50]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
ادفعوا به إلى وسط الحميم. ويقال له:
«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» :
أنت كذلك عند قومك، ولكنك عندنا ذليل مهين.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 53]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53)
آمنين من المجن من جميع الوجوه، لباسهم من حرير، وفراشهم من سندس وإستبرق، «مُتَقابِلِينَ» : لا يبرحون ولا يبغون عنها حولا.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : آية 54]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
تباح لهم صحبتهن، ولا يكون في الجنة عقد تزويج ولا طلاق، ويمكّن الوليّ بهذه الأوصاف من هذه الألطاف. ثم قد يختطف قوم من بين هذه الأسباب، فيتحررون عن هذه الجملة فكما أنهم في الدنيا مختطفون عن كلّ العلائق فإنهم في الآخرة تطمع الحور العين فى صحبتهم فيستلبهم الحقّ عن كلّ شىء. «1»
__________
(1) الصوفية الخلّص يعبدون الله لا طمعا في جنة ولا خوفا من عذاب، فرؤية الله جنتهم، واحتجابه عنهم جهنهم الكبرى. ومبعث ذلك أنهم يحبون الله لذاته، وفي ذلك يقول قائلهم:
إن ذا الحب لمن يفنى له ... لا لدار ذات لهو وطرف
لا ولا الفردوس- لا يألفها ... لا ولا الحوراء من فوق غرف(3/386)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
الزاهد في الدنيا يحميه منها، والعارف في الجنة يحميه من الجنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 56 الى 57]
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
الموتة الأولى هي بقبض أرواحهم في الدنيا، ويقيهم الله في الآخرة العذاب بفضله، وذلك هو الظّفر بالبغية، ونجاح السّؤل.
قوله جل ذكره:
[سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
يا محمد، ليتذكر به أهلك، فارتقب العواقب تر العجائب. إنهم يرتقبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون.(3/387)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
سورة الجاثية
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» باسم ملك لا يستظهر بجيشه، أحد لا يستمسك بعيشه «1» ، جبار ارتدى بكبريائه، قهّار اتصف بعزّ سنائه.
«بِسْمِ اللَّهِ» باسم كريم صمد، لا يستغرق وجوده أمد، أبدىّ عظيم أحد، لا يوجد من دونه مفرّ ولا ملتحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 2]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
«الْعَزِيزِ» : فى جلاله، «الْحَكِيمِ» : فى أفعاله.
«الْعَزِيزِ» : فى آزاله، «الْحَكِيمِ» : فى لطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 3]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
شواهد الربوبية لائحة، وأدلة الإلهية واضحة فمن صحا من سكرة الغفلة، ووضع سرّه في محالّ العبرة «2» حظى- لا محالة- بحقائق الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 4]
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) .
__________
(1) هكذا في ص، وفي م.. ولو صح أنها هكذا عن القشيري فربما كان قصده أن الله سبحانه- حى بدون عوامل استمساك تثبت هذه الحياة.. فهو حى لا بسبب أو عارض لأنه لا يفتقر إلى ذلك، أما المحدث فإنه يعتمد فى حياته على ما يحفظ حياته، وتزول هذه الحياة بزوال عوامل هذا الحفظ.
(2) هكذا في م وهي في ص (بعزه) ونحن تؤثر الأولى لملاءمة الاعتبار لسياق التدبر في المخلوقات.(3/388)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
إذا أنعم العبد نظره في استواء قدّه وقامته، واستكمال عقله وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب فى أجزائها وأعضائها.. ثم وقف على اختصاص وامتياز بنى آدم من بين البريّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان- عرف تخصّصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضائلهم، فاستيقن أن الله كرّمهم، وعلى كثير من المخلوقات قدّمهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 5]
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
جعل الله العلوم الدينية كسبية مصحّحة بالدلائل، محقّقة بالشواهد. فمن لم يستبصر بها زلّت قدمه عن الصراط المستقيم «1» ، ووقع في عذاب الجحيم فاليوم في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 6]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
فمن لا يؤمن بها فبأى حديث يؤمن؟ ومن أي أصل يستمد بعده؟ ومن أي بحر فى التحقيق يغترف؟ هيهات! ما بقي للإشكال في هذا مجال.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 8]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) .
__________
(1) فى هذا ردّ على من يزعمون أن الصوفية يتنكرون العلوم الكسبية فهى كما هو واضح ذات أهمية قصوى في تثبيت الإيمان. هذا في الوقت الذي يقر القشيري بالعلوم الوهبية كما يتضح من الهامش رقم (2) فى الصفحة التالية.(3/389)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
كلّ صامت ناطق يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم «1» .
فمن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد فاز بذخر الدارين، وتصدّى لعزّ المنزلين. ومن تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل، ووسم بكيّ الهجر.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 9]
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
قابله بالعناد، وتأوّله على ما يقع له من وجوه المراد من دون تصحيح بإسناد ...
فهؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» : مذلّ.
وقد يكاشف العبد من بواطن القلب بتعريفات لا يتداخله فيها ريب، ولا يتخالجه منها شكّ فيما هو به من حاله ... فإذا استهان بها وقع في ذلّ الحجبة وهوان الفرقة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 10]
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)
فعند هذه الفترة، وفي وقت هذه المحنة فلا عذر يقبل منهم، ولا خطاب يسمع عنهم، ولهم عذاب متصل، ولا يردّون إلى ما كانوا عليه من الكشف:
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
عند ما يركبون البحر فلربما تسلم السفينة ولربما تغرق.
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى أن كل شىء ناطق بالوحدانية ... إما نطق قالة- كما في حال الإنسان، وإما نطق دلالة- كما في حال الجمادات.
(2) يشير القشيري بذلك إلى العلوم الوهبية، وضرورة اعتبارها رافدا هاما من روافد الإيمان الكشفى والتوحيد الشهودى. [.....](3/390)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشى به رياح العناية، وأشرعة التوكل مرفوعة، والسّبل في بحر اليقين واضحة. وطالما تهب رياح السلامة فالسفينة ناجية. أمّا إن هبّت نكبات الفتنة فعندئذ لا يبقى بيد الملّاح شىء، والمقادير غالبة، وسرعان ما تبلغ قلوب أهل السفينة الحناجر.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 13]
وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
«جَمِيعاً مِنْهُ» : كلّ ما خلق من وجوه الانتفاع بها- كلّه منه سبحانه فما من شىء من الأعيان الظاهرة إلّا- ومن وجه- للانسان به انتفاع.. وكلها منه سبحانه فالسماء لهم بناء، والأرض لهم مهاد.. إلى غير ذلك. ومن الغبن أن يستسخرك ما هو مسخّر لك! «1» وليتأمل العبد كلّ شىء.. كيف إن كان خلل في شىء منها ماذا يمكن أن يكون؟! فلولا الشمس.. كيف كان يمكن أن يتصرّف في النهار؟ «2» ولو لم يكن الليل كيف كان يسكن بالليل؟ ولو لم يكن القمر ... كيف كان يهتدى إلى الحساب والآجال؟ ...
إلى غير ذلك من جميع المخلوقات.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 14]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
«3» ندبهم إلى حسن الخلق، وجميل العشرة، والتجاوز عن الجهل، والتنقى من كدورات البشرية. ومقتضيات الشّحّ.
__________
(1) هذا الكلام ينصرف إلى الدنيا بأسرها.. فلا ينبغى أن يسترقك ما هو هبة لك.
(2) بحثا عن معاشه.
(3) يقال إن الآية نزلت بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهمّ أن يبطش به. ويقال نزلت فى عمر حينما أراد أن يبطش بغلام عبد الله بن أبيّ حين ذهب ليستقى فمنعه حتى ملئت قرب النبي وقرب أبى بكر، فلما بلغ ذلك عبد الله قال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فلما بلغ عمر ذلك اشتمل سيفه وأراد التوجه لقتله، فأنزل الله هذه الآية.(3/391)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
وبيّن أنّ الله- سبحانه- لا يفوته أحد. فمن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءه، وكيف يدمّر أعداءه. فليصبر أياما قلائل ليعلم كيف صارت عواقبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 15]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
من عمل صالحا فله مهناه، ومن ارتكب سيئة قاسى بلواه ... ثم مرجعه إلى مولاه.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 18]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
كرّر في غير موضع ذكر موسى وذكر بنى إسرائيل.. بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل. وهنا أجمل في هذا الموضع، ثم عقبه حديث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فقال:
«ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» أفردناك بلطائف فاعرفها، وسننّا لك طرائق فاسلكها، وأثبتنا لك حقائق فلا تتجاوزها، ولا تجنح إلى متابعة غيرك:
[سورة الجاثية (45) : آية 19]
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
إن أراد بك نعمة فلا يمنعها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد.
فلا تعلّق بمخلوق فكرك، ولا تتوجه بضميرك إلى شىء وثق بربّك، وتوكّل عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 20]
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمة التجويز.
ونظر الناس على مراتب «1» : فمن ناظر بنور نجومه «2» - وهو صاحب عقل،
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (مراكب) بكاف وهي خطأ من الناسخ.
(2) هكذا في م وهي في ص (وما هو) وهي خطأ من الناسخ.(3/392)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
ومن ناظر بنور فراسته وهو صاحب ظنّ يقوّيه لوح- ولكنه من وراء السّرّ «1» ، ومن ناظر بيقين علم بحكم برهان وشرط فكر، ومن ناظر بعين إيمان بوصف اتّباع، ومن ناظر بنور بصيرة هو على نهار، وشمسه طالعة وسماؤه من السحاب «2» مصحية «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 21]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)
أمن خفضناه في حضيض الضّعة كمن رفعناه إلى أعالى المنعة؟
أمن أخذنا بيده ورحمناه كمن داسه الخذلان فرجمناه؟
أمن وهبناه بسط وقت وأنس حال وروح لطف حتى خصصناه ورقيناه، ثم قرّبناه وأدنيناه كمن ترك جهده واستفراغ وسعه وإسبال دمعه واحتراق قلبه.. فما أنعشناه؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 23]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
من لم يسلك سبيل الاتباع، ولم يستوف أحكام الرياضة، ولم ينسلخ عن هواه بالكلّيه، ولم يؤدّبه إمام مقتدى فهو ينجرف في كل وهدة، ويهيم في كلّ ضلالة، ويضلّ فى كل فجّ، خسرانه أكثر من ربحه!! أولئك في ضلال بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم «4» ، زمامهم بيد هواهم، أولئك أهل «5» المكر.. استدرجوا وما يشعرون!.
__________
(1) الفراسة مما يخلقه الله في قلب العبد من غير كسب منه، وهي من ثمرات الإيمان الكامل، وما يسميه القشيري هنا (لوحا) يسميه في موضع آخر (سواطع) أنوار تلمع في القلب تدرك بها المعاني (الرسالة ص 116) .
ولمعرفة الفرق بين اللوائح واللوامع أنظر الرسالة ص 43. ويعرف الجنيد الفراسة فيقول: هى مصادفة الإصابة، ثم يذكر أنها موهبة كائنة دائمة (التعرف الكلاباذى ص 157) .
(2) هكذا في م وهي في ص (الصحاب) بالصاد وواضح في ذلك خطأ الناسخ.
(3) هذه الدرجة الأخيرة- كما هو واضح- أعلى درجات النظر لخلوها من الآفات.
(4) لأن النفس محل المعلومات، فعملهم مرتهن بنفوسهم وأهوائهم.
(5) هكذا فى (ص) وهي في م (أصل) وهي خطأ من الناسخ لأنهم «أهل» المكر إشارة إلى قوله تعالى:
«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» .(3/393)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : آية 24]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
لم يعتبروا بما وجدوا عليه خلفهم وسلفهم، وأزجوا في البهيمية عيشهم وعمرهم، وأعفوا عن كدّ الفكرة قلوبهم ... فلا بالعلم استبصروا، ولا من التحقيق استمدوا. رأس مالهم الظنّ- وهم غافلون.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 28]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
طلبوا إحياء موتاهم، وسوف يرون ما استبعدوا.
ثم أخبر أنّ ملك السماوات والأرض لله، وإذا أقام القيامة يحشر أصحاب البطلان، فإذا جاءهم يوم الخصام:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 34]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
كلّ بحسابه «1» مطالب ... فأمّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا، وأمّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا «2» .. ويقال لهم: أأنتم الذين إذا قيل لكم حديث عقباكم كذّبتم مولاكم؟
فاليوم- كما نسيتمونا- ننساكم، والنار مأواكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
لله الحمد على ما يبدى وينشى، ويحيى ويفنى، ويجرى ويمضى.. إذ الحكم لله، والكبرياء لله، والعظمة والسّناء لله، والرفعة والبهاء لله.
__________
(1) هذا أيضا رأى يحيى بن سلام، وقيل «كتابها» المنزّل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل: الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ.
(2) هكذا في م، وهي في ص (ونادوا) وهي خطأ من الناسخ.(3/394)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
سورة الأحقاف
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة للقلوب سالبة، للعقول غالبة، للمطيعين واهبة، للعارفين ناهبة.. فالذين يهبهم فلهم لطفه، والذين ينهبهم فمن محقه فهو عنه خلفه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
حميت قلوب أهل عنايتى فصرفت عنها خواطر التجويز، وثبّتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق فلاحت فيها شواهد البرهان فأضفنا إليها لطائف الإحسان فكمل منالها من عين الوصلة، وغذيناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة.
«الْعَزِيزِ» : المعزّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم.
«الْحَكِيمِ» ، المحكم لكتابه عن التبديل والتحويل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 3]
ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
الكافرون معرضون عن موضع الإنذار، مقيمون على حدّ الإصرار
__________
(1) وفي ذلك يقول شاعرهم:
ألست لى خلفا؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ولا أمل
ويقول أبو حمزة موضحا كيف أن هذا الموت في سبيل محبوبه عين الحياة:
وتحيى محبا أنت في الحب حتفه ... وذا عجب.. كون الحياة مع الحتف!
(اللمع السراج ص 325) .(3/395)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
أرونى.. أي أثر فيهم في الملك، أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حجّة فأظهروها، أو دلالة فبيّنوها.. وإذ قد عجزتم عن ذلك فهلّا رجعتم عن غيّكم وأقلعتم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 5]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)
من أشدّ ضلالا ممّن عبد الجماد الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 6]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
إذا حشر الناس للحساب وقعت العداوة بين الأصنام وعابديها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
رموا رسلنا بالسّحر ثم بالافتراء والمكر.. قل- يا محمد- كفى بالله بينى وبينكم شهيدا أنتم أشركتم به، وأنا أخلصت له توحيدا. وما كنت بدعا من الرسل فلست بأول رسول أرسل، ولا بغير ما جاءوا به من أصول التوحيد جئت، إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد، والصدق في العبودية، والدعاء إلى محاسن الأخلاق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)(3/396)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وهذا قبل أن نزل قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «1» .
وفي الآية دليل على فساد قول أهل القدر والبدع حيث قالوا: «إيلام البرىء قبيح في العقل» . لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول: أعلم- قطعا- أنى رسول الله، وأنى معصوم..
فلا محالة يغفر لى، ولكنه قال: وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ليعلم أن الأمر أمره، والحكم حكمه، وله أن يفعل بعباده ما يريد «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 11]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
«3» تبيّن له أنه لا عذر لهم بحال، ولا أمان لهم من عقوبة الله. وما يستروحون إليه من حججهم عند أنفسهم كلّها- في التحقيق- باطل. وأخبر أن الكفار قالوا: لو كان هذا الذي يقوله
__________
(1) آية (2) سورة الفتح وبنزولها نسخت هذه الآية، وزال فرح المشركين واليهود والمنافقين الذين كانوا يقولون: كيف نتبع نبيا لا يدرى ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به- وبنزول هذه الآية أرغم الله أنوفهم، وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! وهنيئا لنا! [.....]
(2) القشيري ينكر أن يذهب البشر إلى التماس تعليلات للأفعال الإلهية لأن أفعال الله سبحانه لا تخضع للأغراض، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهو يعود بالأمر كله إلى الحكمة والإرادة الإلهيتين، وطالما هما في غير نطاق الإنسانية فلا ينبغى إخضاعهما للمفاهيم الإنسانية من حسن وقبح، وخير وشر لأن هذه المفاهيم متأثرة بالمصلحة والغرض.. والله منزه عن ذلك، فله أن يفعل بعباده ما يشاء، وإذا كان رب الأسرة لا يقودها إلا إلى الخير فما ظنك برب البرية وخالق كل شىء؟!
(3) هو عبد الله بن سلام عند الجمهور، ولهذا قيل إن هذه الآية مدنية لأن إسلامه كان بالمدينة. وروى أنه سأل النبي عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى: ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه.؟ فقال الرسول (ص) : أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد حوت، وأما الولد فاذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. (صحيح البخاري ح 2 ص 226) .(3/397)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
من الحشر والنشر حقّا لم تتقاصر رتبتنا عند الله عن رتبة أحد، ولتقدّمنا- فى الاستحقاق- على الكلّ. ولمّا لم يجدوا لهذا القول دليلا صرّحوا:
«فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» .
ولقد بعث الله أنبياءه- عليهم السلام- وأنزل عليهم الكتب، وبيّن في كلّ كتاب، وعلى لسان كلّ رسول بأنه يبعث محمدا رسولا، ولكن القوم الذين في عصر نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كتموه، وحسدوه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 13]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
مضى تفسير الاستقامة. وإنّ من خرج على الإيمان والاستقامة حظى بكلّ كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة.
وقيل: السين فى «الاستقامة» سين الطّلب وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى فى أن يقيمه على الحق، ويثبّته على الصدق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
.. أمر الإنسان برعاية حقّ والديه على جهة الاحترام، لما لهما عليه من حق التربية والإنعام، وإذا لم يحسن الإنسان حرمة من هو من جنسه فهو عن حسن مراعاة سيّده أبعد. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا قوله- صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما» لكان ذلك كافيا. ورعاية حق الوالد من حيث الاحترام، ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام. ووعد الله على برّ الوالدين قبول الطاعة بقوله جلّ ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
فقبول الطاعة وغفران الزّلّة مشروطان ببرّ الوالدين. وقد ذمّ الله- سبحانه- الذي(3/398)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
يتصف في حقهما بالتأفّف، وفي ذلك تنبيه على ما وراء ذلك من أي تعنّف، وعلى أنّ الذي يسلك ذلك يكون من أهل الخسران، وبالتالى يكون ناقص الإيمان.
وسبيل العبد في رعاية حق الوالدين أن يصلح ما بينه وبين الله، فحينئذ يصلح ما بينه وبين غيره- على العموم، وأهله- على الخصوص.
وشرّ خصال الولد في رعاية حق والديه أن يتبرّم بطول حياتهما، ويتأذّى بما يحفظ من حقهما. وعن قريب يموت الأصل ويبقى النسل، ولا بدّ من أن يتبع النسل الأصل «1» ، وقد قالوا في هذا المعنى.
رويدك إن الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين.. فانتظر الدهرا «2»
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
سبيل العبد ألا ينسى في كل حال معبوده، وأن يتذكر أنه معه في همّه وسروره، وفي مناجاته عند رخائه وبلائه. فإن اتفق أن حصل له أنس، وغلب عليه رجاء وبسط ثم هجم على قلبه قبض أو مسّه خوف.. فليخاطب ربّه حتى لا يكون من جملة من قيل له: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ... »
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 21]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
«3»
__________
(1) أي أن أولاده سوف يعاملونه بالكيفية التي عامل بها أبويه.
(2) إذا لا حظنا اهتمام القشيري هنا برعاية حقوق الأبوين، وإذا نذكرنا أنه في موضع آخر يرى أن حقوق الشيوخ والمربين لا تقل عن ذلك «لأن الوالدين يربون الأشباح، والشيوخ يربون الأرواح» علمنا أن هذه الإشارة موجهة إلى المريدين بنفس الدرجة الموجهة إلى العموم.
(3) الأحقاف- ج حقف وهي رمال عظام معوجة لا تبلغ أن تكون جبالا. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمن الغرق. وهناك اختلاف في مكان ديار عاد يرجع إليه في كتب التفسير.(3/399)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
أخبر بالشرح عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب، وتوجّه عليهم من العتاب، وأخذهم بأليم العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 26]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
فلم يغن عنهم ما آتيناهم ... وانظروا كيف أهلكناهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 29]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس. وإن قوما أتوه ليلة الجن «1» وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم، وآمن قوم منهم فاليوم في الجن مؤمنون، وفيهم كافرون.
«فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ... » الصيحة على الباب وفوق البساط غيبة ولهذا لما حضر الجنّ بساط خدمته- صلى الله عليه وسلم- تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب، وقالوا لما حضروا بساطه: «أَنْصِتُوا» ، فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون، والهيبة والوقار. والثوران أو الانزعاج يدل على غيبة أو قلّة تيقّظ أو نقصان اطلاع «2» . «فَلَمَّا قُضِيَ..» يعنى الوحى «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» وأخبروهم بما رأوه وسمعوه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 31]
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)
__________
(1) حدث ابن مسعود عن هذه الليلة، وأبان كيف سمع- وقد كان وحده بصحبة النبي وهو يقرأ القرآن- لغطا وغمغمة، وشاهد أمثال النسور تهوى وتمشى في رفرفها ... إلخ.
(2) هنا نجد القشيري ينصح بالكتمان ولا يرى الإفصاح، وقد سئل الجنيد في ذلك فأجاب: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (أنظر بحث هذه القضية في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص 229) .(3/400)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
يقال الإجابة على ضربين: إجابة لله، وإجابة للداعى فإجابة الداعي بشهود الواسطة- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وإجابة الله بالجهر إذا بلغته الرسالة على لسان السفير، وبالسّرّ إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب فمستجيب بنفسه ومستجيب بقلبه ومستجيب بروحه ومستجيب بسرّه. ومن توقف عن دعاء الداعي إيّاه، ولم يبادر بالاستجابة هجر فيما كان يخاطب به «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 33]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
الرؤية هنا بمعنى العلم.
«وَلَمْ يَعْيَ» أي ولم يعجز ولم يضعف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 34]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة:
«أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا. قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ ... »
جزاء لكم على كفركم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (يطالب به) وكلاهما مقبول في السياق فالدعاء خطاب ومطالبة للمدعو.
م (26) لطائف الإشارات- ج 3-(3/401)
أو لو الجد والصبر والحزم. وجاء في التفسير أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم. وقيل: هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام. وقيل: منهم يعقوب وأيوب ويونس.
والصبر هو الوقوف لحكم الله، والثبات من غير بثّ ولا استكراه.
قوله جل ذكره: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» .
ويقال مدّة الخلق: من مبتدأ وقتهم إلى منتهى آجالهم بالإضافة إلى الأزليّة «1» كلحظة بل هي أقلّ إذ الأزل لا ابتداء له ولا انتهاء.. وأي خطر لما حصل في لحظة.. خيرا كان أو شرّا؟!
__________
(1) بالإضافة إلى- بالنسبة إلى.(3/402)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
سورة محمّد «صلى الله عليه وسلم» «1»
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» من ذكر «بِسْمِ اللَّهِ» جلّت رتبته، ومن عرف «بِسْمِ اللَّهِ» صفت حالته، ومن أحبّ «بِسْمِ اللَّهِ» أشكلت قصته «2» ، ومن صحب «بِسْمِ اللَّهِ» امتحقت إنّيته «3» ، وتلاشت- بالكلية- جملته.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)
«الَّذِينَ كَفَرُوا» : امتنعوا، وصدّوا فمنعوا فلأنهم امتنعوا عن سبيل الله استوجبوا الحجبة والغيبة.
«أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : أي أحبطها.
«وَالَّذِينَ آمَنُوا ... » بما نزّل على محمد، «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... »
__________
(1) وتسمى عند بعض المفسرين «سورة القتال» .
(2) الكلام في هذه النقطة كتير لا يتسع له هامش ضيق، ومن أراد أن يعرف كيف أن قصة المحبين الإلهيين مشكلة فيكفى أن يعلم أن قمة هذه القصة الوصول إلى التوحيد.. أن يختفى الموحّد في الموحّد فلا يكون هناك إلا واحد، إن تحدث فبالله، وإن تحرك فبالله. هو بين الناس كائن وعنهم بائن، يقضى عمره بين وجد وفقد ... (أنظر قصة هذا الحب بتفاصيلها الدقيقة في كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى» باب الحب والفناء والمعرفة.
(3) تلاشت آثار بشريته لا بشريته.(3/403)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
أصلح حالهم، فالكفر للأعمال محبط، والإيمان للتخليد «1» مسقط.
ويقال: الذين اشتغلوا بطاعة الله، ولم يعملوا «2» شيئا مما خالف الله- فلا محالة- نقوم بكفاية اشتغالهم بالله.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
أي يضرب أمثال هؤلاء لحسناتهم، وأمثال هؤلاء لسيئاتهم.
ويكون اتباع الحقّ بموافقة السّنّة، ورعاية حقوق الله، وإيثار رضاه، والقيام بطاعته.
ويكون اتباع الباطل بالابتداع، والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ، وارتكاب المعصية.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
إذا حصل الظّفر بالعدوّ فالعفو عنهم وترك المبالغة في التشديد عليهم- للندم موجب، وللفرصة تضييع بل الواجب إزهاق نفوسهم، واستئصال أصولهم، واقتلاع شجرهم من أصله.
وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغى أن يبقى بعد انتفاش شوكها بقية من الحياة، فمن وضع عليها إصبعا بثّت سمّها فيه «3» .
«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطة أو فائدة مثل إفراج
__________
(1) العذاب المؤيد.
(2) هكذا في م وهي في ص (ولم يعلموا) وهي خطأ من الناسخ. [.....]
(3) ذلك لأن نفسك التي بين حنبيك هي أعدى أعدائك، وجهادها هو الجهاد الأكبر ... لأنها تقودك إلى دواعى الهوى، وفي ذلك عند الصوفية شرك خفى.(3/404)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
الكفّار عن قوم من المسلمين، أو بسبب ما يؤخذ من الفداء.. وأمثال هذا، فحينئذ ذلك مسلّم على ما يراه الإمام «1» .
كذلك حال المجاهدة مع النّفس: حيث يكون في إغفاء ساعة أو في إفطار يوم ترويح للنفس من الكدّ، وتقوية على الجهد فيما يستقبل من الأمر- فذلك مطلوب حسبما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد، أو فتوى لسان الوقت، أو فراسة صاحب المجاهدة «2» .
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ إذا قتل أحد في سبيل الحقّ توّلى ورثة المقتول بأحسن من تولية المقتول.
وكذلك يرفع درجاته فيعظم ثوابه، ويكرم مآبه.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)
نصرة الله من العبد نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبيينه.
ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعداء الدين ببركات سعيه وهمّته.
«وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» بإدامة التوفيق لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 8]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) .
__________
(1) للإمام الحق في أن يقبل أو يمن أو يفادى أو يسترق. والرسول نفسه. قتل عقبة بن معيط والنضر ابن الحارث يوم بدر، وفادى سائر أسارى بدر، ومنّ على ثمامة الحنفي وهو أسير، ومن على سبى هوازن، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين.. هذه كلها ثابتة في الصحيح- وهذه الأربعة إليها مذهب الشافعي.
(2) تهمنا هذه الفقرة إذا تذكرنا أن القشيري متشدد في الرخص، وقياس الرخصة هنا على آية القتال وعلى حرب المشركين وعل تصرف الإمام ... فيها دقة تحتاج إلى تدبر. ثم تهمنا في معرفة من الذي يمنح الرخصة للمريد؟(3/405)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
تعسا لهم: لعنا وطردا، وقمعا وبعدا! «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : هتك أستارهم، وأظهر للمؤمنين أسرارهم، وأخمد نارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 10]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)
وكيف أهلكهم وأبادهم وأقماهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 11]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)
المولى «1» هنا بمعنى الناصر «2» فالله ناصر للذين آمنوا، وأمّا الكافرون فلا ناصر لهم.
أو المولى من الموالاة وهي ضد المعاداة، فيكون بمعنى المحب فهو مولى الذين آمنوا أي محبّهم، وأما الكافرون فلا يحبهم الله.
ويقول تعالى في آية أخرى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» «3» .
ويصح أن يقال إنّ هذه أرجى «4» آية في القرآن ذلك بأنه سبحانه يقول: «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: مولى الزهّاد والعبّاد وأصحاب الأوراد والاجتهاد فالمؤمن- وإن كان عاصيا- من جملة الذين آمنوا، (لا سيما و «آمَنُوا» فعل، والفعل لا عموم له) «5» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 12]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
__________
(1) تضاف أقوال القشيري هنا فى (المولى) إلى حديثه عن ذلك الاسم في كتاب «التحبير في التذكير» وإلى حديثه في (الولاية والولي) في مواضع متفرقة من مصنفاته.
(2) جاءت (الناظر) في ص وهي خطأنى النسخ.
(3) آية 257 سورة البقرة.
(4) جاءت (أوحى) فى ص وهي خصأ في النسخ.
(5) سقطت العبارة بين القوسين من ص وجاءت في م. والقشيري مستفيد من السياق القرآنى إذ عبّر عن الإيمان بالفعل وهو «آمَنُوا» وعبر عن الكفر بالاسم فقال: «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» .(3/406)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
مضى الكلام في هذه الآية.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ الأنعام تأكل من أي موضع بلا تمييز، وكذلك الكافر لا تمييز له بين الحلال والحرام.
[كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها بل في كل وقت تقتات وتأكل، وكذلك الكافر، وفي الخبر: «إنه يأكل في سبعة أمعاء» . أمّا المؤمن فيكتفى بالقليل كما في الخبر: «إن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه» ] «1» .
ويقال: الأنعام تأكل على الغفلة فمن كان في حال أكله ناسيا ربّه فأكله كأكل الأنعام.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 13]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)
«2» .
«أَهْلَكْناهُمْ» : يعنى بها من أهلكهم من القرون الماضية في الأعصر الخالية.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 14]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
«البينة» : الضياء والحجّة، والاستبصار بواضح المحجة: فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم «3» فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون.
__________
(1) ما بين القوسين الكبيرين ساقط بتمامه من ص وثابت في م، وهذه الأخبار موجودة في الجامع الصغير ح 2 ص 153 وفي كتاب «الأطعمة» بالجزء الثالث من صحيح البخاري، «والأذكار» للنووى. وتكملة الخبر الأول:
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : يأكل المسلم في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، وروى كذلك عن ابن عمر.
(2) عن ابن عباس قال: لما خرج النبي (ص) من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت احب البلاد إليّ ولولا المشركون أهلك أخرجونى لما خرجت منك» فنزلت الآية- ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح.
(3) هكذا في ص وهي في م (ثباتهم) ولكن ما في ص هو الأصوب لأننا نعرف من مذهب القشيري أن (البيان) للمعارفين والبرهان لأرباب العلم.(3/407)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
كذلك اليوم شأن الأولياء، فلهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب حال اللقاء.
ولكلّ من هذه الأشربة عمل، ولصاحبه سكر وصحو فمن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد في أيام غيبته عن أحبابه:
وما سرّ صدرى منذ شطّ بك النوى ... أنيس ولا كأس ولا متصرف
ومن شرب كأس الصفاء خلص له عن كل شوب، فلا كدورة في عهده، وهو في كلّ وقت صاف عن نفسه، خال من مطالباته «1» ، قائم بلا شغل- فى الدنيا والآخرة- ولا أرب.
ومن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب بسرّه لحظة في ليل أو نهار.
ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه فلم يطلب- مع بقائه- شيئا آخر من عطائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 17]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
__________
(1) أي مطالبات الحظوظ حظوظ النفس.
(2) تنبه إلى أهمية هذه الفقرة التي أطال فيها القشيري حديثه عن الأشربة حيث لم يتاولها بفصيل في رسالته عند بحث مصطلح السّكر.(3/408)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
هم المنافقون الذين كرهوا ما أنزل الله لما فيه من افتضاحهم.
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» «اهْتَدَوْا» : بأنواع المجاهدات، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بأنوار المشاهدات.
«اهْتَدَوْا» : بتأمل البرهان، ف «زادَهُمْ هُدىً» بروح البيان.
«اهْتَدَوْا» : بعلم اليقين، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بحقّ اليقين.
[ «اهْتَدَوْا» : بآداب المناجاة، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بالنجاة ورفع الدرجات.
«اهْتَدَوْا» : إلى ما فيه من الحقّ ولم يختلفوا في أنه الحق، ف «زادَهُمْ هُدىً» بالاستقامة على طريق الحق] «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : الآيات 18 الى 19]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
كان عالما بأنه: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» فأمره بالثبات عليها قال (ص) : «أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له «2» » .
ويقال: كيف قيل له: «فَاعْلَمْ ... » ولم يقل: علمت، وإبراهيم قيل له: «أَسْلَمَ «3» ..»
فقال: «أَسْلَمْتُ ... » ؟ فيجاب بأنّ إبراهيم لمّا قال: «أَسْلَمْتُ» ابتلى، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يقل: علمت فعوفى.
__________
(1) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في ص وموجود في م. [.....]
(2) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له) والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
(3) آية 131 سورة البقرة: «قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .(3/409)
وإبراهيم عليه السلام أتى بعده شرع كشف سرّه، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يأت بعده شرع.
ويقال: نبيّنا صلى الله عليه وسلم أخبر الحقّ عنه بقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ «1» ... » والإيمان هو العلم- وإخبار الحقّ سبحانه عنه أتمّ من إخباره بنفسه عن نفسه: «عَلِمْتَ» .
ويقال: فرق بين موسى عليه السلام لمّا احتاج إلى زيادة العلم فأحيل على الخضر، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «2» » ... فكم بين من أحيل في استزادة العلم على عبد وبين من أمر باستزادة العلم من الحق!!.
ويقال لمّا قال له «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «3» » كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخلق، ثم بالانقطاع منه- أي من الرسول- إليه.. أي إلى الحق سبحانه. والعبد إذا قال هذه الكلمة على سبيل العادة والغفلة عن الحقيقة- أي كان بصفة النسيان- فليس لقوله كثير قيمة كأن تقال عند التعجب من شىء.. فليس لهذا قدر. أمّا إذا قالها مخلصا فيها، ذاكرا لمعناها، متحققا بحقيقتها.. فإن كان بنفسه فهو في وطن التفرقة.. وعندهم «4» هذا من الشّرك الخفيّ، وإن قالها بحقّ فهو الإخلاص. فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجّة فعلمه بنفسه كسبيّ.. وهو أصل الأصول، وعليه ينبنى كل علم استدلالى «5» ! ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمه بنفسه لغلبات ذكر الله على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا. ويقلّ إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافل «6» عن نفسه أو ناس لنفسه.
__________
(1) آية 285 سورة البقرة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» .
(2) آية 114 سورة طه.
(3) هنا يفرق القشيري بين التوحيد المنطوق باللسان، والتوحيد عند أرباب الحقيقة.
(4) أي عند أرباب الحقائق، لأن أي شعور بالغيرية نتيجة عدم الإخلاص نقص في التوحيد.
(5) من هذا يتضح أن الصوفية لا يهملون العقل تماما بل يحترمونه في مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان، ولكنهم لا يعولون عليه تماما في بقية معراجهم الروحي. وهذا رد حاسم على من ينكرون على الصوفية علاقتهم بالعقل والعلوم العقلية.
(6) في ص (وكأنه قال) وهي خطأ من الناسخ كما هو واضح من السياق بعده.(3/410)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
ويقال: الذي على البحر يغلب عليه ما يأخذه من رؤية البحر، فإذا ركب البحر قويت هذه الحالة، حتى إذا غرق في البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك «1» .
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» : اى إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك من هذا فإن الحقّ- على جلال قدره- لا يعلمه غيره «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 20]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)
كان المسلمون تضيق قلوبهم بتباطؤ الوحى، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحى بسرعة فقال تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ «3» وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» رأيت المنافقين يكرهون ذلك لما كان يشق عليهم من القتال، فكانوا يفتضحون عندئذ، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بغاية الكراهة.
... فَأَوْلى لَهُمْ» .
__________
(1) القشيري هنا مستفيد من شيخه أبى على الدقاق حين أوضح مراحل التواجد فالوجد فالوجود قائلا:
«التواجد يوجب استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد، فهو كن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق في البحر» الرسالة ص 37.
(2) يذكرنا هذا بقول رابعة بعد ليال قضتها في الصلاة والاستغفار: «إن صلاتنا في حاجة إلى صلاة، واستغفارنا في حاجة إلى استغفار» كما يذكرنا بقول القشيري في موضع مماثل: « ... جلت الصمدية عن أن يستشرف من إدراكها بشر» ، وفي ذلك يقول أبو عبد الله الجلاء (ت 306 هـ) :
كيفية المرء ليس المرء يدركها ... فكيف كيفية الجبار في القدم؟
هو الذي أحدث الأشياء مبتدعا ... فكيف يدركه مستحدث النسم؟
(شذرات الذهب ح 2 ص 249) .
(3) قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهى محكمة. وقيل معناها مبينة غير متشابهة، لا نحتمل وجها إلا وجوب القتال.(3/411)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
تهديد «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 21]
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
وهو قولهم: «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... » .
ويقال: فأولى لهم طاعة منهم لله ولرسوله. «وقول معروف» بالإجابة لما أمروا به من الجهاد.
ويقال: طاعة وقول معروف أمثل بهم.
قوله جل ذكره «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» .
إذا عزم الأمر- أي جدّ وفرض القتال- فالصدق والإجابة خير لهم من كذبهم ونفاقهم وتقاعدهم عن الجهاد.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 22]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)
أي فلعلكم إن أعرضتم عن الإيمان- بمحمد صلى الله عليه وسلم- ورجعتم إلى ما كنتم عليه أن تفسدوا في الأرض، وتسفكوا الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم، وتعودوا إلى جاهليتكم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 23]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
أصمّهم عن سماع الحقّ وقبوله بقلوبهم، وأعمى بصائرهم.
__________
(1) يقول الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل الدّرّ يحلب من مردّ
وقال الأصمعى معناها: قاربه ما يهلكه وأقشد:
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث
وقال المبرد: يقال لمن همّ بالعطب: أولى لك! أي: قاربت العطب.(3/412)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 24]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
أي إن تدّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان، وأراحهم من ظلمة التحيّر.
«أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» : أقفل الحقّ عل قلوب الكفار فلا يداخلها زاجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب فالباب إذا كان مقفلا ... فكما لا ينخل فيه شىء لا يخرج منه شىء كذلك قلوب الكفار مقفلة، فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم.
وأهل الشّرك والكفر قد سدّت بصائرهم وغطّيت أسرارهم، ولبّس عليهم وجه التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25)
الذي يطلع فجر قلبه، ويتلألأ نور التوحيد فيه، ثم قبل متوع نهار إيمانه انكسفت شمس يومه، وأظلم نهار عرفانه، ودجا ليل شكّه، وغابت هجوم عقله ... فحدّث عن ظلماته ... ! ولاحرج! «1» [ذلك جزاؤهم على مما لأئهم مع المنافقين، وتظاهرهم ... فإذا توّفتهم الملائكة تتصل آلامهم، ولا تنقطع بعد ذلك عقوباتهم.] «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 29]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)
. ليس الأمر كما توهّمموه، بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم، ولقد أخبر الرسول عنهم، وعرّفه أعيانهم.
__________
(1) القشيري هنا يغمز بمن ينتمون إلى طريقة الصوفية ثم يفسخون عقدهم مع الله، ويتخلون عن طريق الإرادة بعد قطعهم مسافة قصيرة.
(2) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في م وثابت في ص. [.....](3/413)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 30]
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)
أي في معنى الخطاب، فالأسرّة تدلّ على السريرة، وما يخامر القلوب فعلى الوجوه يلوح أثره:
لست ممن ليس يدرى ... ما هوان من كرامة
إنّ للحبّ ... وللبغض على الوجه علامة
والمؤمن ينظر بنور الفراسة «1» ، والعارف ينظر بنور التحقيق، والموحّد ينظر بالله فلا يستتر عليه شىء «2» .
ويقال: بصائر الصديقين غير مغطّاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدوا كل خوخة غير خوخة أبى بكر» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 31]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
بالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص، ويفتضح المماذق، وينكشف المنافق، فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا، والذين كفروا ونافقوا وقعوا «4» فى الهوان وأذلّوا، ووسموا بالشقاوة وقطعوا.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 33]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (بعين الفراسة) . روى الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة، والترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم والبزاز بسند صحيح عن أنس «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» .
(2) يفيد هذا الكلام في ترتيب القوم: مؤمن ثم عارف ثم موحد فالموحدون أعلى درجات السائرين.
(3) يقول القشيري في كتابه «المعراج» ص 72: (كان الصديق مخصوصا من البصيرة بما لم يخص به غيره قال (ص) : «سدوا كل خوخة غير خوخه أبى بكر» . وذلك لما فتحوا في المسجد من كل دار خوخة، والإشارة فيه أن الصديق ليس بممنوع من الإبصار بحال)
. (4) سقطت (وقعوا) فى ص، وموجودة في م.(3/414)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالرياء والإعجاب والملاحظة.
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالمساكنة إليها. «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» بطلب الأعواض عليها.
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بتوهمكم أنه يجب بها شىء دون فضل الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 35]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وأنتم الأعلون بالحجة «2» .
أنتم الأعلون بالنصرة. قوله «وَاللَّهُ مَعَكُمْ» . أي بالنصرة ويقال: لا تضعفوا بقلوبكم، وقوموا بالله لأنكم- والله معكم- لا يخفى عليه شىء منكم، فهو على الدوام يراكم.
ومن علم أنّ سيّده يراه يتحمل كلّ مشقة مشتغلا برؤيته:
«وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» أي لا ينقصكم أجر أعمالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 36]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)
تجنبوا الشّرك والمعاصي حتى يفيكم أجوركم.
والله لا يسألكم من أموالكم إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة «3» .
[سورة محمد (47) : آية 37]
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
__________
(1) هذه الإشارة موجهة إلى الذين يزعمون أن الطاعة توجب على الله الثواب. ويرى القشيري أنه لا وجوب على الله فكل شىء من فضله لأن طاعة العبد لا توجب لله زينا، ومعصيته لا تلحق به سبحانه شينا. والله «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» .
(2) عند هذا الحد انتهت النسخة م، ولذا فإننا نعتمد على النسخة ص في بقية السورة، وهي مساحة كبيرة.
(3) وهي على حد تعبير سفيان بن عيينه: غيض من فيض.(3/415)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
«الإحفاء» الإلحاح في المسألة ... وهذا إنما يقوله لمن لم يوق شحّ نفسه، فأمّا الإخوان ومن علت رتبتهم في باب حرية القلب فلا يسامحون في استيفاء ذرّة، ويطالبون ببذل الرّوح، والتزام الغرامات.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (47) : آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
البخل منع الواجب، وإذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لحصل له الثراء- هكذا يظن.
قوله جل ذكره: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» .
«غنى» بنفسه على قول، وغنيّ بوصفه على القول الثاني «1» . وغناه كونه لا تتقيد مراداته. أمّا العبد فهو فقير بنفسه لأنه لا يستغنى عن مولاه فى الابتداء منذ خلقه إلى الانتهاء، وهو في دوام الأوقات مفتقر إلى مولاه.
والفقير الصادق من يشهد افتقاره إلى الله. وصدق الفقير في شهود فقره إلى الله. ومن افتقر إلى الله استغنى بالله، ومن افتقر إلى غير الله وقع في الذّلّ والهوان.
ويقال: الله غنيّ عن طاعتكم، وأنتم الفقراء إلى رحمته.
ويقال: الله غنيّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه.
قوله جل ذكره: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» .
يستبدل قوما غيركم يكونون أشدّ منكم طاعة، وأصدق منكم وفاء فهو قادر على خلق أمثالكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيان والإعراض وترك الشكر والوفاء ...
بل سيكونون خيرا منكم.
__________
(1) أي يمكن أن تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل انظر «الغني» فى كتاب «التحبير في التذكير» للإمام القشيري تحقيق د. بسيونى.(3/416)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
سورة الفتح
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» تشير إلى سموّه في أزله، وعلوّه في أبده وسموّه في أزله نفى البداية عنه بحقّ القدم، وعلوّه في أبده نفى الانتهاء عنه باستحالة العدم فمعرفة سموّه توجب للعبد سموّا، ومعرفة علوّه توجب للعبد علوّا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
قضينا لك قضاء بيّنا، وحكمنا لك بتقوية دين الإسلام، والنصرة على عدوّك، وأكرمناك بفتح ما انغلق على قلب من هو غيرك- من قبلك- بتفصيل شرائع الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه.
نزلت الآية في فتح مكة، ويقال في فتح الحديبية «2» .
ويقال: هديناك إلى شرائع الإسلام، ويسّرنا لك أمور الدين.
[سورة الفتح (48) : آية 2]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)
__________
(1) واضح أن مذهب القشيري في معرفة أسماء الله سبحانه لا يقتصر على المعرفة الكلامية النظرية بل يتجاوز ذلك إلى التأدب بها، والتخلق بأخلاق الله.. فالعمل مترتب على العلم (انظر مقدمتنا لكتاب التحبير في التذكير) .
(2) يقال نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور ابن مخرمة ومروان بن الحكم) وأنها نزلت في شأن الحديبية. (كذلك في البخاري في سماع قتادة عن أنس) . وقال الضحاك: «مبينا» أي بغير قتال. وقال مجاهد: كان فتح الحديبية آية عظيمة إذ نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية فقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ذنبه، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدى محله، وظهرت الروم على الفرس.
م (27) لطائف الإشارات- ج 3-(3/417)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
كلا القسمين- المتقدّم والمتأخّر- كان قبل النبوة «1» .
ويقال «ما تَقَدَّمَ» من ذنب آدم بحرمتك، «وَما تَأَخَّرَ» : من ذنوب أمّتك «2» .
وإذا حمل على ترك الأولى «3» فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها «4» .
ولمّا نزلت هذه الآية قالوا: هنيئا لك! فأنزل الله تعالى:
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» .. ويقال:
حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، وببسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غدا، [وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقسم بحياته، وخصّه بالعيان] «5» .
وبسماع كلامه سبحانه ليلة المعراج، وبأن بعثه إلى سائر الأمم.. وغير ذلك من مناقبه.
«وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هداية على هداية، ويهدى بك الخلق إلى الحقّ.
ويقال: يهديك صراطا مستقيما بترك حظّك.
[سورة الفتح (48) : آية 3]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
__________
(1) نصّ القشيري على «قبل النبوة» لأن الأنبياء معصومون من الذنب.
(2) هذا أيضا قول عطاء الخراسانى.
(3) ترك الأولى تعبير أدبى مهذب عن «الذنب» . ويقال: كان الذنب المتقدم على يوم بدر قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» . والذنب المتأخر كان يوم حنين حيث رمى جمرات فى وجوه المشركين قائلا: «شاهت الوجوه.. حم. لا ينصرون» . فانهزم القوم عن آخرهم، ولم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. وعند عودة النبي مع أصحابه قال لهم: لو لم أرمهم لم ينهزموا! فأنزل الله عز وجل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
(4) روى الترمذي عن أنس أن النبي فرح بهذه الآية فرحا شديدا وقال: لقد أنزلت على آية أحب إلى ما على وجه الأرض» . [.....]
(5) ما بين القوسين الكبيرين موجود في ص وغير موجود في م.(3/418)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
لا ذلّ فيه، وتكون غالبا لا يغلبك أحد.
ويقال: ينصرك على هواك ونفسك، وينصرك بحسن خلقك ومقاساة الأذى من قومك.
ويقال نصرا عزيزا: معزا لك ولمن آمن بك.
وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوه من الأفضال أكرم بها نبيّه- صلى الله عليه وسلم- وخصّه بها من الفتح والظّفر على النّفس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة.. ولكلّ من هذه الأشياء خصائص عظيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
.. السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج، فيرتقى القلب بوجودها عن حدّ الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد، فتصير العلوم ضرورية «1» .. وهذا للخواصّ.
فأمّا عوامّ المسلمين فالمراد منها: السكون والطمأنينة واليقين.
ويقال: من أوصاف القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة.
وفي التفاسير: السكينة ريح هفّافة. وقالوا: لها وجه كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان.
«لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» أي يقينا مع يقينهم وسكونا مع سكونهم. تطلع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين.
ثم تطلع شمس حقّ اليقين على بدر عين اليقين.
«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .
«جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» : قيل: هى جميع القلوب الدالّة على وحدانية الله.
ويقال: ملك السماوات والأرض وما به من قوّى تقهر أعداء الله.
__________
(1) أي لا نعوذ كسبيه حيث لم يعد للإنسان من نفسه لنفسه شىء.(3/419)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
ويقال: هم أنصار دينه.
ويقال: ما سلّطه الحقّ علي شىء فهو من جنوده، سواء سلّطه على وليّه في الشدة والرخاء، أو سلّطه على عدوّه في الراحة والبلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 5]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)
يستر ذنوبهم ويحطها عنهم.. وذلك فوز عظيم، وهو الظّفر بالبغية «1» .
وسؤل كلّ أحد ومأموله، ومبتغاه ومقصوده مختلف.. وقد وعد الجميع ظفرا به.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 6]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6)
يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم.
و «ظَنَّ السَّوْءِ» : هو ما كان بغير الإذن ظنوا أنّ الله لا ينصر دينه ونبيّه عليه السلام.
«عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» : عاقبته تدور عليهم وتحيق بهم.
«وَلَعَنَهُمْ» : أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمته، وما سبقت لهم- من الله سبحانه- قسمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 8]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
«أَرْسَلْناكَ شاهِداً» : على أمّتك يوم القيامة. ويقال: شاهدا على الرّسل والكتب.
ويقال: شاهدا بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال: شاهدا لأمتك بتوحيدنا. «وَمُبَشِّراً» :
لهم منّا بالثواب،. «وَنَذِيراً» للخلق زاجرا ومحذّرا من المعاصي والمخالفات.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص بالنعمة.(3/420)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
ويقال: شاهدا من قبلنا، ومبشّرا بأمرنا، ونذيرا من لدنّا ولنا ومنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 9]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
قرىء «1» : «ليؤمنوا» بالياء لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويؤقروه: أي يعظّموا الرسول. وتسبّحوه: أي تسبّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلا «2» .
وقرىء: «لِتُؤْمِنُوا» - بالتاء- أيها المؤمنون بالله ورسوله وتعزروه- على المخاطبة.
وتعزيره يكون بإيثاره بكلّ وجه على نفسك، وتقديم حكمه على حكمك. وتوقيره يكون باتباع سنّته، والعلم بأنه سيّد بريّته «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سمرة «4» .
وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث عثمان رضى الله عنه إلى قريش ليكلّمهم فأرجفوا بقتله. وأتى عروة بن مسعود «5» إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
جئت بأوشاب الناس لتفضّ بيضتك بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنّى بأصحابك
__________
(1) قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبى عمرو ... وكذلك «يسبحوه» بالياء، والباقون بالتاء على الخطاب
(2) ونلاحظ أن القشيري قد توقف قبل تسبحوه فجعلها بالتاء، وهناك من المفسرين من يرى ذلك أيضا (انظر القرطبي ح 16 ص 267) .
(3) عزرت الرجل أي رددت عنه ونصرته وأيّدته- وهو من الأضداد- لأنه قد يأتى بمعنى أدّبته ولسته.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» والسمرة: شجرة الطلح.
(5) جاء في السيرة لابن إسحاق- 3 ص 778.
بعد أن خرج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، فلما سمعت قريش بذلك استعدت لقتاله مع أنه لم يكن ينوى قتالا وتعاقبت السفراء بينه وبينهم، وكان كل سفير من قريش يذهب إلى النبي ثم يعود ليقنع قريش بحقيقة نية النبي ولكنهم كانوا لا يرضون بما جاء به، حتى جاء دور عروة بن مسعود الثقفي- وهو عند قريش غير متهم وقال للنبى «إن قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها أبدا عليهم عنوة. وحينما قال عروة: وايم الله لكأنى بهؤلاء- يريد أصحاب الرسول- قد انكشفوا عنك غدا. فانبرى أبوبكر قائلا: أنحن ننكشف عنه ... إلخ.(3/421)
قد انكشفوا عنك إذا مسّهم حرّ السلاح! فقال أبو بكر: أتظن أنّا نسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فبايعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا وألا يهربوا «1» ، فأنزل الله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» : أي عقدك عليهم هو عقد الله.
قوله جل ذكره: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» .
أي «يَدُ اللَّهِ» : فى المنة عليهم بالتوفيق والهداية «2» : «فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» بالوفاء حين بايعوك.
ويقال: قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيّه صلى الله عليه وسلم فوق نصرهم لدين الله ولرسوله.
وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع «3» كما قال: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» قوله جل ذكره: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» أي عذاب النكث عائد عليه.
«وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» .
أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجرا عظيما.
وإذا كان العبد بوصف إخلاصه، بعامل الله في شىء هو به متحقّق، وله بقلبه شاهد فإنّ الوسائط التي تظهرها أمارات التعريفات تجعله محوا في أسراره ... والحكم عندئذ راجع إلى الواحد- جلّ شأنه «4» .
__________
(1) قال جابر بن عبد الله بايعنا رسول الله (ص) تحت الشجرة على الموت وعلى ألا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلّا جد بن قيس وكان مناففا اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم.
(2) نلاحظ أن القشيري هنا يؤول اليد حتى ينفى عن الله الاتصاف بالجارحة.
(3) أنت حين بايعت أو حين رميت فأنت من حيث الظاهر تقوم بعمل وأنت في حال الفرق، ولكن الحقيقة أنه لا فاعل إلا الله فمنه التوفيق والسداد والإصابة.. وهذا هو حال الجمع. وبمقدار ما يكون العبد في منزلة التمكين وبعيدا عن التلوين يكون دنوه من حال الجمع، التي بعدها حال جمع الجمع.. ونبينا صلى الله عليه وسلم كان عندها إذ هو صلوات الله عليه محمول لا متحمل اى بربه لا بنفسه.
(4) أي إذا أفضى العبد بشىء من العرفان عندئذ فيكون نطقة وما يظهر عليه من الله وبالله.(3/422)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
لمّا قصد رسول الله عليه وسلم التوجه إلى الحديبية تخلّف قوم من الأعراب عنه. قيل: هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع، وقالوا: «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» وليس لنا من يقوم بشأننا وقالوا: انتظروا ماذا يكون فماهم في قريش إلّا أكلة رأس «1» . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه معتذرين بأنه لم يكن لهم أحد يقوم بأمورهم! وقالوا: استغفر لنا.
فأطلعه الله- سبحانه- على كذبهم ونفاقهم وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصا، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
«قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» فضحهم. ويقال: ما شغل العبد عن الله شؤم عليه.
ويقال: عذر المماذق وتوبة المنافق كلاهما ليس حقائق.
قوله جل ذكره
[سورة الفتح (48) : آية 12]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
حسبتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبدا، وزيّنت لكم الأمانى ألا يعودوا، وأنّ الله لن ينصرهم. «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» أي هالكين فاسدين.
__________
(1) أي هم قليل.(3/423)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
ويقال: إنّ العدوّ إذا لم يقدر أن يكيد بيده يتمنّى ما تتقاصر عنه مكنته، وتلك صفة كلّ عاجز، ونعت كلّ لئيم. ثم إن الله- سبحانه- بعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» » .
ويقال: من العقوبات الشديدة التي يعاقب الله بها المبطل أن يتصّور شيئا يتمنّاه ويوطّن نفسه عليه لفرط جهله. ويلقى الحقّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسه أن ذلك كالكائن..
ثم يعذبه الله بامتناعه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 13]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
وما هو آت فقريب.. وإنّ الله ليرخى عنان الظّلمة ثم لا يفلتون من عقابه.. وكيف- وفي الحقيقة- ما يحصل منهم هو الذي يجريه «2» عليهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 14]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
يغفر- وليس له شريك يقول له: لا تفعل، ويعذّب من يشاء- وليس هناك مانع عن فعله يقول له: لا تفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم الله خيبر،
__________
(1) آية 43 سورة فاطر. [.....]
(2) هكذا في ص وهي في م (يحزيه) بالزاي وقد رجحنا (يجريه) أولا لاتصالها بمذهب القشيري وكون الله- على الحقيقة- فاعل كل شىء حتى أكساب العباد. وثانيا لأنها لو كانت بالزاي لقال: يجزيهم عليه.(3/424)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
وأنّ فيها سيظفر بأعدائه، فلمّا همّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يخرج معى إلى خيبر من خرج إلى الحديبية، والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا» فقال المتخلفون: إنما يقول المؤمنون ذلك حسدا لنا وليس هذا من قول الله! فأنزل الله تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتهم أنهم لم يجدوا مرادهم، وردّوا بالمذلة وافتضح أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 16]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
جاء في التفاسير أنهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة- وقد دعاهم أبوبكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته ... وقيل هم أهل فارس- وقد دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم فالآية تدل على صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبى بكر. «1» «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» أولى شدّة.
فإن أطعتم استوجبتم الثواب، وإن تخّلفتم استحققتم العقاب. ودلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح- كما كان لهؤلاء وأنشدوا:
إذا فسد الإنسان بعد صلاحه ... فرجّ له عود الصلاح.. لعلّه
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
__________
(1) العبارات التي وردت في إثبات صحة الإمامين جاءت في م ولم ترد في ص.(3/425)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
هؤلاء أصحاب الأعذار.. رفع عنهم الحرج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين.
وكذلك من كان له عذر في المجاهدة مع النفس.. فإنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما كما يحب أن تؤتى عزائمه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 20]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
هذه بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ... » .
وكانوا ألفا وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخول مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجا لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرف هذا العام، ويقيم بها ثلاثا ثم يخرج، (وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام بتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا) «2» وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبهم شىء، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمة حتى قال الصّدّيق: لم يقل العام! فسكنت قلوبهم بنزول الآية لأن الله سبحانه علم ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم،
__________
(1) هذه لفتة هامة جدا، حيث لم نتعود من القشيري في سائر مصنفاته أن يستجيز الرخصة. وربما هو يتحدث هنا عن عامة المسلمين، ولكن حينما يتحدث عن الصوفية يعتبر اللجوء إلى الرخصة بمثابة فسخ عقد الإرادة (أنظر الرسالة ص 199) .
(2) ما بين الأقواس تكملة من عندنا اعتمدنا فيها على المصادر المختلفة. أوردناها ليتضح الساق(3/426)
وثبّتهم باليقين. «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» هو فتح خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرة من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة «1» .
وفي الآية دليل على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة، وفي الرّيب موقعة، ولكن لا عبرة بها فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا لازم التوحيد قلبه، وقارن التحقيق سرّه فلا يضرّه كيد الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» «2» .
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ويدخل في ذلك جميع ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجّل لكم هذه- يعنى خيبر «3» ، وقيل: الحديبية.
«وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» لما خرجوا من المدينة حرسهم الله، وحفظ عيالهم، وحمى بيضتهم حين هبّ اليهود «4» فى المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم الله عنهم.
أو يقال: كفّ أيدى الناس من أهل الحديبية.
«وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» لتكون هذه آية للمؤمنين وعلامة يستدّلون بها على حراسة الله لهم.
«وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» : فى التوكل على الله والثقة به.
ويقال: كفّ أيدى الناس عن العبد هو أن يرزقه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاج إلى أن يتكفّف الناس.
ويقال: أن يرفع عنه أيدى الظّلمة.
__________
(1) هذا أيضا قول ابن عباس ومجاهد.
(2) آية 201 سورة الأعراف.
(3) يرجح أنها خيبر، لأن الحديبية كان فيها صلح.
(4) يرجح الطبري ذلك، لأن كف أيدى المشركين في الحديبية مذكور في قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ»(3/427)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
ويقال: ألا تحمله المطالبة بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه فيأخذ من الأشياء- برخصة التأويل- ما ليس بطيّب «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 21]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
قيل: فتح الروم وفارس «2» . وقيل: فتح مكة «3» .
وكان الله على كل شىء قديرا: فلا تعلقوا بغيره قلوبكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 22]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
يعنى: خيبر وأسد وغطفان وغيرهم- لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصرا قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 23]
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
أي سنّة الله خذلانهم ولن تجد لسنة الله تحويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 24]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قيل إن سبعين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله (فأخذناهم سلما فاستحييناهم) فأنزل الله هذه الآية في شأنهم «4» .
__________
(1) مرة أخرى ننبه إلى إضافة هذا الكلام إلى موقف القشيري من الرخصة ومداها.
(2) قال ابن عباس: هى أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبى ليل.
(3) عن الحسن أيضا وقتادة، وقال عكرمة: حنين.
(4) فى ص، وم (فأخذهم سلمان) ، وهما خطأ في النسخ، فالرواية عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أن (ثمانين) رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي (ص) من جبل التنعيم متسلحين يريدون(3/428)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
وقيل أخذ اثنى عشر رجلا من المشركين- بلا عهد- فمنّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» وقيل: هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامى الأحجار بينهم فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل الله هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدى بعضهم عن بعض عن قدرة من المسلمين لا عن عجز فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا وأمّا المسلمون فنهيا من قبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين- أراد الله أن يخرجوا، أو لما علم أن قوما منهم يؤمنون.
والإشارة فيه: أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يسلم الناس منك، وتسلم منهم.
وإن الله يفعل بأوليائه ذلك، فلا من أحد عليهم حيف، ولا منهم على أحد حيف ولا حساب ولا مطالبة ولا صلح ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة.. وكذا من كان بالحق- وأنشدوا:
فلم يبق لى وقت لذكر مخالف ... ولم يبق لى قلب لذكر موافق.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
«كَفَرُوا» وجحدوا، «وَصَدُّوكُمْ» ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية.
«وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً «2» » : أي منعوا الهدى أن يبلغ منحره، فمعكوفا حال من الهدى أي محبوسا.
__________
- غرة (أن يصيبوه على غفلة) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم. (أي أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم (وقال ابن الأثير) السلم (بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح) . وفي رواية قتادة أن النبي سألهم: «هل لكم على ذمة؟ (أي عهد) قالوا: لا، فأرسلهم فنزلت.
وفي رواية الترمذي أنهم ثمانون رجلا هبطوا عليه عند صلاة الصبح، فأخذهم وأعتقهم. وذكر ابن هشام أنهم يسمّون العتقاء.. ومنهم معاوية وأبوه.
(1) عن قتادة: أن المشركين رموا رجلا من أصحاب النبي يقال له زنيم بسهم فقتلوه، فبعث النبي خيلا فأتو باثنى عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي (ص) : هل لكم على ذمة؟ ... إلخ. [.....]
(2) فى البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (ص) معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر الرسول وحلق رأسه، فنحروا بنحره وحلقوا، وقد غضب الرسول ممن توقف عن ذلك.(3/429)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق تلك السّنة سبعين بدنة.
قوله جل ذكره: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «1» فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرّة منكم بغير علم لسلّطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم.
وفي هذا تعريف للعبد بأن أمورا قد تنغلق وتتعسّر فيضيق قلب الإنسان.. ولله في ذلك سرّ، ولا يعدم ما يجرى من الأمر أن يكون خيرا للعبد وهو لا يدرى.. كما قالوا:
كم مرة حفّت بك المكاره ... خير لك الله.. وأنت كاره
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
يعنى الأنفة «2» أي دفعتهم أنفة الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية، فأنزل الله سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحلم.
«وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» وهي كلمة التوحيد تصدر عن قلب صادق: فكلمة التقوى يكون معها الاتقاء من الشّرك.
__________
(1) أن تطئوهم: بالقتل والإيقاع بهم. يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم. فجواب لولا محذوف والمعنى:
ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكننا صنا من كان فيها يكتم وإيمانه.
(2) هكذا في م وهي في ص (الإنية) وقد رجحنا الأولى.(3/430)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
«وَكانُوا أَحَقَّ بِها» حسب سابق حكمه وقديم «1» علمه.. «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ويقال: الإلزام في الآية هو إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراه وعنف وإلزام برّ لا إلزام جبر..
وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفهمو ... لم ينالوا نصيبا!
ويقال كلمة التقوى: التواصي بينهم بحفظ حق الله.
ويقال: هى أن تكون لك حاجة فتسأل الله ولا تبديها للناس.
ويقال: هى سؤالك من الله أن يحرسك من المطامع.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
أي صدقه «2» فى رؤياه ولم يكذبه صدقه فيما أراه «3» من دخول مكة «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأخبر أصحابه. فوطّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شىء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أذن الله في العام القابل، فأنزل الله:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» فكان ذلك تحقيقا لما أراه، فرؤياه صلوات الله عليه حق لأن رؤيا الأنبياء حق
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (وقدر) وقد رجحنا الأولى.
(2) أي على حذف الجار كقوله تعالى: «صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ»
(3) إشارة إلى الرؤيا التي أراه إياها من دخوله وصحبه مكة آمنين.(3/431)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وكان في ذلك نوع امتحان لهم: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم من الحكمة في التأخير «1» .
وقوله: «إِنْ شاءَ اللَّهُ» معناه إذ شاء الله كقوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وقيل. قالها على جهة تنبيههم إلى التأدّب بتقديم المشيئة في خطابهم «2» وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى: إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.
وقيل. يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلّهم أو دخول بعضهم فإن الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين «3» فما من دين لقوم إلا ومنه في أيدى المسلمين سرّ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات.
وقيل: ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام «4» .
وقيل: فى القيامة حيث يظهر الإسلام على كل الأديان.
وقيل: ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
__________
(1) قد تكون الحكمة في التأخير هو ما سيحدث لهم من الخير والصلاح والتفوق وكثرة العدد، فإنه عليه السلام رجع من هذا الموقف إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال وعدة ورجال أضعاف ما كان عليه في ذلك العام، وأقبل على مكة في أهبة وعدة. يدلك على ذلك أنهم كانوا عام الحديبية سنة ست عددهم ألف وأربعمائة، وكانوا بعده عشرة آلاف.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» .
(3) أي أن (الدين) فى الآية اسم جنس، أو اسم بمعنى المصدر، ويستوى فيه المفرد والجمع.
(4) أي عند نزوله لا يبقى على وجه الأرض كافر.(3/432)
«أَشِدَّاءُ» . جمع شديد، أي فيهم صلابة مع الكفار.
«رُحَماءُ» . جمع رحيم، وصفهم بالرحمة والتوادّ فيما بينهم.
« ... تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.
« ... سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» أي علامة التخشع التي على الصالحين.
ويقال: هى في القيامة يوم تبيضّ وجوه، وأنهم يكونون غدا محجلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «1» ويقال في التفسير: «مَعَهُ» أبوبكر، و «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» عمر و «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» :
عثمان، و «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ رضى الله عنهم «2» وقيل: الآية عامة في المؤمنين.
«ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» .
هذا مثلهم في التوراة، وأمّا مثلهم في الإنجيل فكزرع «3» أخرج شطأه أي: فراخه.
__________
(1) جاء في سنن ابن ماجة: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى قال «حدثنا ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته ... » وقال ابن العربي: هو مدسوس على وجه الغلط.
(2) هكذا في م أما في ص فلم يرد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم سوى الجزء الأخير الخاص بعلى كرم الله وجهه، وقد يمكن لو تذكرنا ما جاء في هامش ص 425- أن نستنبط أن ناسخ ص- الذي هو فارسى الأصل كما قلنا فى مدخل الكتاب- ربما كان شيعيا.
(3) فعل هذا يجوز الوقف على (التوراة) ثم يستأنف الكلام فيكون هناك مثلان. وقال مجاهد: هو مثل واحد. وعند النسفي: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (ح 4 ص 164) .(3/433)
يقال: أشطأ الزرع إذا أخرج صغاره على جوانبه. «فَآزَرَهُ» أي عاونه. «فَاسْتَغْلَظَ» أي غلظ واستوى على سوقه وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرع الزرّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار شبّه النبي (صلى الله عليه وسلم) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ما ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.
فمن حمل الآية على الصحابة: فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» أي بأصحابه الكفار. ومن حمله على المسلمين ففيه حجّة على الإجماع، لأنّ من خالف الإجماع- فالله يغايظ به الكفار- فمخالف الإجماع كافر قوله جل ذكره: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» وعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجرا عظيما في الجنة فقوله: «مِنْهُمْ» للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان.(3/434)
بسم الله الرّحمن الرّحيم [ «بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم.
كاشف الأرواح بقوله: «بِسْمِ اللَّهِ» فهيمّها.
وكاشف النفوس بقوله: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيّمها فالأرواح دهشى في كشف جلاله، والنفوس عطشى إلى لطف جماله] .
عبد الكريم القشيري فى بسملة «الشمس»(3/435)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
سورة الحجرات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من تنصّل إليه من زلّاته تفضّل عليه بنجاته، ومن توسّل إليه بطاعاته تطوّل عليه بدرجاته.
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز من تقرّب إليه بمناجاته قابله بلطف أفضاله، ومن تحبّب إليه بإيمانه أقبل عليه بكشف جلاله وجماله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : شهادة للمنادى بالشّرف.
«لا تُقَدِّمُوا» أمر بتحمّل الكلف. قدّم الإكرام بالشرف على الإلزام بالكلف أي لا تقدموا بحكمكم «بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» : أي لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله، أي لا تعملوا من ذات أنفسكم شيئا.
ويقال: قفوا حيثما وقفتم، وافعلوا ما به أمرتم، وكونوا أصحاب الاقتداء والاتّباع ...
لا أرباب الابتداء والابتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)(3/437)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أمرهم بحفظ حرمته، ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته، وألّا ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخلقه يلاينهم فينبغى ألا يتبسّطوا معه متجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به من تخلّقه عن حدودهم زائدين.
ويقال: لا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 3]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
هم الذين تقع السكينة عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى بانتزاع حبّ الشهوات منها، فاتقوا سوء الأخلاق، وراعوا الأدب.
ويقال: هم الذين انسلخوا من عادات البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي لو عرفوا قدرك لما تركوا حرمتك، والتزموا هيبتك.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيرا لهم «1» .
أمّا أصحابه- صلوات الله عليه وسلامه- الذين يعرفون قدره فإنّ أحدهم- كما في الخبر:
«كأنه يقرع بابه بالأظافر» .
__________
(1) يقال: نزلت في قوم من بنى تميم منهم الأقرع بن حابس وسويد بن هاشم، ووكيع بن وكيع، وعيينة ابن حصن، وأن الأقرع نادى النبي (ص) من وراء حجرته أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمّنا شين. وكان ذلك وقت الظهيرة والنبي في راحته وبعض شئونه الخاصة. فاستيقظ وخرج لهم. [.....](3/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
دلّت الآية «1» على ترك السكون إلى خبر الفاسق إلى أن يظهر صدقه.
وفي الآية إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمّام والمغتاب للناس.
والآية تدلّ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا.
والفاسق هو الخارج عن الطاعة «2» . ويقال هو الخارج عن حدّ المروءة.
ويقال: هو الذي ألقى جلباب الحياء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 7 الى 8]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
أي لو وافقكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون منه لوقعتم في العنت- وهو الفساد «3» . ولو قبل قول واحد (قبل وضوح الأمر) لأصابتكم من ذلك شدة.
والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم ير في ذلك مصلحة لكم وللدين.
__________
(1) يقال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبى معيط.. أرسله النبي (ص) ليجبى الصدقات من بنى المصطلق.
فلما أبصروه تقدموا نحوه فهابهم فقد كانت بينه وبينهم إحنة.. فعاد من فوره إلى النبي وأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فلم يقنع النبي (ص) بما سمع وأرسل إليهم خالد بن الوليد ليتثبت من الأمر فأخبروه أنهم على إسلامهم، وأنهم كانوا خارجين إلى سفير النبي لإكرامه، واستيقن خالد من ذلك حين سمع أذانهم وصلاتهم.. فعاد إلى النبي وجلى حقيقة الأمر.
(2) مشتق من فسقت الرطبة أي خرجت من قشرها، والفأرة من جحرها.
(3) للعنت معان أخرى: فهو: الفجور والزنا- كما جاء في سورة النساء. وهو: الوقوع في أمر شاق كما جاء فى آخر سورة براءة.(3/439)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
«وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ» : الإسلام والطاعة والتوحيد، وزيّنها في قلوبكم.
«وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ..» : هذا من تلوين الخطاب.
وفي الآية دليل على صحة قول أهل الحقّ في القدر «1» ، وتخصيص المؤمنين بألطاف لا يشترك فيها الكفار. ولولا أنّه يوفّر الدواعي للطاعات لحصل التفريط والتقصير فى العبادات.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً: أي فعل هذا بكم فضلا منه ورحمة. والله عليم حكيم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 9]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
«2» تدل الآية على أن المؤمن بفسقه- والفسق دون الكفر- لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين- لا محالة- فاسقة إذا اقتتلا.
وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم حيث قال: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ... » .
والإشارة فيه: أن النفس إذا ظلمت القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب
__________
(1) يقصد القشيري أن القائلين بأن الله سبحانه المتفرد بخلق ذوات العباد وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم و ... على صواب لأن الآية صريحة في خلق الأفعال فهو الذي حبّب إلى الإيمان والعكس.
(2) يقال نزلت في ابن أبيّ حين وقف الرسول على مجلس به بعض الأنصار وهو على حمار فقال ابن أبى:
حلّ سبيل حمارك فقد أذانا، فانبرى له عبد الله بن رواحة قائلا:
والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك.
وبعد أن مضى الرسول (ص) طال الخوض بينهما حتى استبّا وتجالدا، واشتبك الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصى. وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع الرسول (ص) إليهم فأصلح بينهم.(3/440)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة. فإن استجابت إلى الطاعة يعفى عنها لأنها هي المطيّة إلى باب الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إيقاع الصلح بين المتخاصمين من أوكد عزائم الدّين.
وإذا كان ذلك واجبا فإنه يدل على عظم وزر الواشي والنّمام والمصدر في إفساد ذات البين.
(ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صدق همة عبد في إصلاح ذات البين) «1» فإنه يرفع عنهم تلك العصبيّة «2» .
فأما شرط الأخوة: فمن حقّ الأخوة في الدّين ألا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تقصّر في تفقّد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك.
ومن حقّه ألا تلجئه إلى الاعتذار لك بل تبسط عذره فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره عليك ومن حقه أن تتوب عنه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض. وإذا أشار عليك بشىء فلا تطالبه بالدليل عليه وإبراز الحجّة- كما قالوا:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لأى مكان
ومن حقّه أن تحفظ عهده القديم، وأن تراعى حقّه في أهله المتصلين به في المشهد والمغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات «3» - كما قيل:
وخليل إن لم يكن ... منصفا كنت منصفا
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
(2) هكذا في م وهي في ص المعصية ونحن نؤثر الأولى لملاءتها للسياق.
(3) فى هذه الفقرة ما يدحض مزاعم الذين يقولون بأن الصوفية قوم انعزاليون، لا يفهمون معنى العلاقات الاجتماعية ولا يقدرونها.(3/441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
تتحسّى له الأمر ... ين وكن ملاطفا
إن يقل لك استو احترف ... ت رضى لا تكلّفا
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
نهى الله- سبحانه وتعالى- عن ازدراء الناس، وعن الغيبة، وعن الاستهانة بالحقوق، وعن ترك الاحترام.
«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» : أي لا يعيبنّ بعضكم بعضا، كقوله: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «1» .
ويقال: ما استصغر أحد أحدا إلا سلّط عليه. ولا ينبغى أن يعتبر بظاهر أحوال الناس فإنّ في الزوايا خبايا. والحقّ يستر أولياءه في حجاب الضّعة «2» وقد جاء في الخبر:
«ربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
__________
(1) آية 29 سورة النساء.
(2) الضعة هنا بمعنى خمول الذكر وانطفاء المنظر.
(3) فى بعض الروايات بزيادة: «وإن البراء منهم» ، وعند مسلم بلفظ «ربّ أشعث أغبر مدفوع إلى الأبواب لو أقسم على الله لأبرّه» .(3/442)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
النّفس لا تصدق، والقلب لا يكذب. والتمييز بين النفس والقلب مشكل ومن بقيت عليه من حظوظه بقيّة- وإن قلّت- فليس له أن يدّعى بيان القلب بل هو بنفسه مادام عليه شىء من نفسه، ويجب أن يتّهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره.. هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب. «كلّ الناس أفقه من عمر..
امرأة أفقه من عمر» .
«وَلا تَجَسَّسُوا» . والعارف لا يتفرغ من شهود الحقّ إلى شهود الخلق.. فكيف يتفرغ إلى تجسّس أحوالهم؟ وهو لا يتفرغ إلى نفسه فكيف إلى غيره؟ «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» : لا تحصل الغيبة للخلق إلّا من الغيبة عن الحقّ.
«أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ... » جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية.. وأخسّ الكفّار وأقلّهم قدرا من يأكل الميتة.. وعزيز رؤية من لا يغتاب أحدا بين يديك.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
إنّا خلقناكم أجمعكم من آدم وحواء، ثم جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا لا لتكاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصول تربة ونطفة وعلقة ... فالتفاخر بماذا؟ أبا لحمأ المسنون؟ أم بالنطفة في قرار مكين؟ أم بما ينطوى عليه ظاهرك مما تعرفه؟! «1» وقد قيل:
__________
(1) ربما نفهم من هذه العبارة ما يقصده القشيري في موضع آخر ماثل من سخرية بالإنسان وتحطيم لتجبره كأن يقول له: من أنت أيها الإنسان؟ أنت كنيف في قميص! ألا ترى إلى ريح إبطك إذا عرقت، وإلى ريح فمك إذا جعت!؟ ... ونحو ذلك.(3/443)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
إنّ آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
أم بأفعالك التي هي بالرياء مشوبة؟ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة؟ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة؟
«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ؟ أتقاكم أي أبعدكم عن نفسه، فالتقوى هي التحرّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرم العباد عند الله من كان أبعد عن نفسه وأقرب إلى الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الإيمان هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذبح النّفس، والنفوس لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يتمّ خير، والاستسلام في الظاهر إسلام. وليس كلّ من استسلم ظاهرا مخلص في سرّه.
«وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» فى هذا دليل على أن محلّ الإيمان القلب. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى:
«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ومرض القلب والإيمان ضدان.
[سورة الحجرات (49) : آية 15]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
جعل الله الإيمان مشروطا بخصال ذكرها، ونصّ عليها بلفظ «إِنَّمَا» وهي للتحقيق الذي يقتضى طرد العكس فمن خرج عن هذه الشرائط التي جعلها للإيمان فمردود عليه قوله.
والإيمان يوجب للعبد الأمان، فما لم يكن الإيمان موجبا للأمان فصاحبه بغيره أولى.(3/444)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 16]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
تدل الآية على أنّ الوقوف «1» فى المسائل الدينية يعتبر واجبا فالأسامى منه تؤخذ، والأحكام منه تطلب، وأوامره متّيعة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 17]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17)
من لاحظ شيئا من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركا، وإن رآها لنفسه كان مكرا فكيف يمن العبد بما هو شرك أو بما هو مكر؟! والذي يجب عليه قبول المنّة ... كيف يرى لنفسه على غيره منّة؟! هذا لعمرى فضيحة! بل المنّة لله فهو وليّ النعمة. ولا تكون المنة منة إلا إذا كان العبد صادقا في حاله، فأمّا إذا كان معلو لا في صفة من صفاته فهى محنة لصاحبها لا منّة.
والمنّة تكدّر الصنيع إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمنّة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (49) : آية 18]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) .
__________
(1) هكذا في م وهي بمعنى (التوقف) (والتوقيف) عند بعض الأمور، ولهذا فما جاء في ص وهو (التوفيق) خطأ في النسخ.
(2) فالاتباع واجب والابتداع مرفوض- كما نهنا القشيري من قبل. [.....](3/445)
ومن وقف هاهنا تكدّر عليه عيشه إذ ليس يدرى ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل:
أبكى.. وهل تدرين ما يبكينى؟
أبكى حذارا أن تفارقينى وتقطعى وصلي وتهجرينى «1»
__________
(1) فى (اللمع) للسراج وتقطعى (حبلى) وتهجرينى (اللمع ص 305) وكلاهما صحيح في المعنى ملائم للوزن.(3/446)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
سورة ق
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم جبر أحوال من رحمه، متجبّر بكبريائه على من أقماه فقهره وحرمه.
«بِسْمِ اللَّهِ» لطيف يعلم خفايا تصنّع العابدين، غافر لجلائل ذنوب العاصين.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
ق مفتاح أسمائه: «قوى وقادر وقدير وقريب» .. أقسم بهذه الأسماء وبالقرآن المجيد.
وجواب القسم محذوف ومعناه لتبعثنّ في القيامة.
ويقال جوابه: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» أي لقد علمنا.
وحذفت اللام لمّا تطاول الخطاب.
ويقال: جوابه قوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 2]
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
«مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» : هو محمد صلى الله عليه وسلم والتعجّب نوع من تعبير النّفس عن استبعادها لأمر خارج العادة لم يقع به علم من قبل.
وقد مضى القول في إنكارهم للبعث واستبعادهم ذلك:
[سورة ق (50) : آية 3]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أي يبعد عندنا أن نبعث بعد ما متنا. فقال جل ذكره:(3/447)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
[سورة ق (50) : آية 4]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
فى هذا تسلية للعبد فإنه إذا وسّد التراب، وانصرف عنه الأصحاب، واضطرب لوفاته الأحباب. فمن يتفقّده ومن يتعهّده ... وهو في شفير قبره، وليس لهم منه شىء سوى ذكره، ولا أحد منهم يدرى ما الذي يقاسيه المسكين في حفرته؟ فيقول الحقّ- سبحانه:
«قَدْ عَلِمْنا ... » ولعلّه يخبر الملائكة قائلا: عبدى الذي أخرجته من دنياه- ماذا بقي بينه من يهواه؟ هذه أجزاؤه قد تفرّقت، وهذه عظامه بليت، وهذه أعضاؤه قد تفتّتت! «وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» : وهو اللّوح المحفوظ أثبتنا فيه تفصيل أحوال الخلق من غير نسيان، وبيّنّا فيه كلّ ما يحتاج العبد إلى تذكّره.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 5]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
«مَرِيجٍ» أي مختلط وملتبس فهم يتردّدون في ظلمات تحيّرهم، ويضطربون في شكّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 6]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6)
أولم يعتبروا؟ أولم يستدلّوا بما رفعنا فوقهم من السماء، رفعنا سمكها فسوّيناها، وأثبتنا فيها الكواكب وبها زيّناها، وأدرنا فيها شمسها وقمرها؟ أولم يروا كيف جلّسنا عينها ونوّعنا أثرها؟
[سورة ق (50) : آية 7]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
والأرض مددناها فجعلناها لهم مهادا، وجعلنا لها الجبال أوتادا، وأنبتنا فيها أشجارا وأزهارا وأنوارا.. كل ذلك:(3/448)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
[سورة ق (50) : آية 8]
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
علامة ودلالة لكل من أناب إلينا، ورجع من شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا، ومن شهود صفاتنا إلى شهود حقّنا وذاتنا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 9]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
أنزلنا من السماء ماء مباركا كثير النفع والزيادة، فأنبتنا به «جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» :
أي الذي يحصد- كما تقول: مسجد الجامع.
الأجزاء متجانسة. ولكنّ أوصافها في الطعوم والروائح والألوان والهيئات والمقادير مختلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : الآيات 10 الى 11]
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
والنخل باسقات: طويلات، لها طلع منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطّلع أو لما فيها من الثمار. وكيف جعلنا بعض الثمار متفرقة كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكيف جعلنا بعضها مجتمعة كالعنب والرطب وغيرهما.. كلّ ذلك جعلناه رزقا للعباد ولكى ينتفعوا به.
« ... وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» .
وكما سقنا هذا الماء إلى بلدة جفّ نباتها، وكما فعلنا كلّ هذه الأشياء ونحن قادرون على ذلك- كذلك نجمعكم في الحشر والنشر، فليس بعثكم بأبعد من هذا.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
__________
(1) هذا الترتيب في منازل الشهود له أهمية في فهم المعراج الروحي عند هذا الإمام، وواضح منه أن أعلى درجات الشهود شهود الذات ... وذلك بشرائط سبقت الإشارة إليها في غير موضع من الكتاب، ولكننا مع ذلك لا نفسى أن القشيري- كما نعرف من منهجه- يرى الاستشراف من (الذات) من المحال، فقد جلت الصمدية عن الدرك واللحوق.. مهما سما العبد في معراجه الروحي.
م (29) لطائف الإشارات- ج 3-(3/449)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
إنّا لم نعجز عن هؤلاء- الذين ذكر أسماءهم- وفيه تهديد لهم وتسلية للرسول.
[سورة ق (50) : آية 15]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
أي إنّا لم نعجز عن الخلق الأول.. فكيف نعجز عن الخلق الثاني- وهو الإعادة؟ لم يعتص علينا فعل شىء، ولم نتعب من شىء.. فكيف يشق علينا أمر البعث؟ أي ليس كذلك «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
نعلم ما توسوس به نفسه من شهوات تطلب استنفاذها، مثل التصنّع مع الخلق، وسوء الخلق، والحقد.. وغير ذلك من آفات النّفس التي تشوّش على القلب والوقت.
«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» فحبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، والمراد من ذلك العلم والقدرة، وأنه يسمع قولهم، ولا يشكل عليه شىء من أمرهم.
وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وسكون وأنس قلب لقوم.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 17]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17)
خوّفهم بشهود الملائكة وحضور الحفظة، وبكتابتهم عليهم أعمالهم، فهما قعيدا «2» كلّ
__________
(1) فالاستفهام هنا للإنكار أو للنفى.
(2) عبر عن المثنى بالمفرد للدلالة بواحد على الاثنين مثل قول الشاعر:
رمانى بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل العلوي رمانى
أي رمانى بأمر كنت منه بريثا وكان والدي منه بريثا.(3/450)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
أحد: ويقال: إذا كان العبد قاعدا فواحد عن يمينه يكتب خيراته، وواحد على يساره يكتب معاصيه، وإذا قام فواحد عند رأسه وواحد عند قدمه، وإذا كان ماشيا فواحد قائم بين يديه وآخر خلفه.
ويقال: هما اثنان بالليل لكلّ واحد، واثنان بالنهار.
ويقال: بل الذي يكتب الخيرات اليوم يكون غيره غدا، وأمّا الذي يكتب الشر والمعصية بالأمس فإنه يكون كاتبا للطاعة غدا حتى يشهد طاعتك.
ويقال: بل الذي يكتب المعصية اثنان كل يوم اثنان آخران وكل ليلة اثنان آخران لئلا يعلم من مساويك إلا القليل منها، ويكون علم المعاصي متفرقا فيهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 19]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
إذا أشرفت النّفس على الخروج من الدنيا فأحوالهم مختلفة فمنهم من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا يتبيّن إلا عند ذهاب الروح حاله. ومنهم من يكاشف قبل خروجه فيسكن روعه، ويحفظ عليه عقله «2» ، ويتم له حضوره وتمييزه، فيسلم الرّوح على مهل من غير استكراه ولا عبوس.. ومنهم، ومنهم.. وفي معناه يقول بعضهم:
أنا إن متّ- والهوى حشو قلبى- فبداء الهوى يموت الكرام ثم قال جل ذكره:
[سورة ق (50) : الآيات 20 الى 21]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
سائق يسوقها إمّا إلى الجنة أو إلى النار، وشهيد يشهد عليها بما فعلت من الخير والشرّ.
__________
(1) واضح من ذلك مقدار ما يبعثه الصوفية في نفوس العصاة من تفاؤل ورجاء أملا في فتح باب التوبة
(2) سقطت (عقله) من النسخة م، وموجودة في ص.(3/451)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
ويقال له:
[سورة ق (50) : آية 22]
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
المؤمنون- اليوم بصرهم حديد يبصرون رشدهم ويحذرون شرّهم.
والكافر يقال له غدا: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» أي: ها أنت علمت ما كنت فيه من التكذيب فاليوم لا يسمع منك خطاب، ولا يرفع عنك عذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 23]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
لا يخفى من أحوالهم شىء إلا ذكر، إن كان خيرا يجازون عليه، وإن كان غير خير يحاسبون عليه: إمّا برحمة منه فيغفر لهم وينجون، وإمّا على مقدار جرمهم يعذّبون.
[سورة ق (50) : آية 25]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
منّاع للزكاة المفروضة.
ويقال: يمنع فضل مائه وفضل كلئه عن المسلمين.
ويقال: يمنع الناس من الخير والإحسان، ويسىء القول فيهما حتى يزهّد الناس فيهما.
ويقال: المناع للخير هو المعوان على الشّرّ.
ويقال: هو الذي قيل فيه: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» «1» .
«مُرِيبٍ» : أي يشكّك الناس في أمره لأنه غير مخلص، ويلبّس على الناس حاله لأنه منافق.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 27]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
يقول الملك من الحفظة الموكّل به: ما أعجلته على الزّلّة.
__________
(1) آية 7 سورة الماعون.(3/452)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
وإنما «1» كتبتها بعد ما فعلها- وذلك حين يقول الكافر: لم أفعل هذا، وإنما أعجلنى بالكتابة علىّ، فيقول الملك: ربّنا ما أعجلته..
ويقال: هو الشيطان المقرون به، وحين يلتقيان في جهنم يقول الشيطان: ما أكرهته على كفره، ولكنه فعل- باختياره- ما وسوست به إليه.
فيقول جل ذكره:
[سورة ق (50) : الآيات 28 الى 30]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
لا تختصموا لديّ اليوم وقد أمرتكم بالرّشد ونهيتكم عن الغيّ.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» «2» «نَقُولُ لِجَهَنَّمَ» ، «وَتَقُولُ» : القول هنا على التوسّع لأنه لو كانت جهنم ممن يجيب لقالت ذلك بل يحييها حتى تقول ذلك.
«هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» : على جهة التغليظ، والاستزادة من الكفار.
ويقال: بل تقول «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» : أي ليس فيّ زيادة كقوله عليه السلام لمّا قيل له:
يوم فتح مكة: هل ترجع إلى دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل دارا؟! «3» أي لم يترك، فإن الله- تعالى- يملأ جهنم من الكفار والعصاة، فإذا ما أخرج العصاة من المؤمنين ازداد غيظ الكفار حتى تمتلئ بهم جهنم.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (ما) والصواب ما أثبتنا.
(2) عن قتادة عن أنس عن النبي (ص) قال: يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول قط قط. وفي رواية أبى هريرة: يقال لجهنم هل امتلأت وتقول: هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط (البخاري ح 3 ص 128) .
(3) عن الزهري عن على بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غدا؟ قال النبي (ص) : وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال: لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن (البخاري ح 3 ص 42) .(3/453)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 31]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
يقال: إنّ الجنّة تقرّب من المتقين، كما أنّ النار تجرّ بالسلاسل إلى المحشر نحو المجرمين.
ويقال: بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين حشرهم إليها.. وهم خواص الخواص.
ويقال: هم ثلاثة أصناف: قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً «1» » - وهم عوام المؤمنين «2» وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصوّرة لهم بصورة حيوان، وهم الذين قال فيهم جلّ وعلا: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «3» - وهؤلاء هم الخواص وأمّا خاص الخاص فهم الذين قال عنهم:
«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي تقرّب الجنة منهم وقوله: «غَيْرَ بَعِيدٍ» تأكيد لقوله: «وَأُزْلِفَتِ» .
ويقال: «غير بعيد» : من العاصين تطييبا لقلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 32]
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
الأوّاب: الراجع إلى الله في جميع أحواله.
«حَفِيظٍ» : أي محافظ على أوقاته، (ويقال محافظ على حواسه في الله حافظ لأنفاسه مع الله) «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 33]
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
الخشية من الرحمن هي الخشية من الفراق. (والخشية من الرحمن تكون مقرونة بالأنس ولذلك لم يقل: من خشى الجبّار ولا من خشى القهّار) «5» .
__________
(1) آية 73 سورة الزمر.
(2) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(3) آية 85 سورة مريم.
(4) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م. [.....]
(5) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م.(3/454)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
ويقال: الخشية من الله تقتضى العلم بأنه يفعل ما يشاء وأنه لا يسأل عمّا يفعل.
ويقال: الخشية ألطف من الخوف، وكأنها قريبة من الهيبة «1» .
«وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» : لم يقل بنفس مطيعة بل قال: بقلب منيب ليكون للعصاة في هذا أمل لأنهم- وإن قصّروا بنفوسهم وليس لهم صدق القدم- فلهم الأسف بقلوبهم وصدق النّدم.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 34]
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
أي يقال لهم: ادخلوها بسلامة من كل آفة، ووجود رضوان ولا يسخط عليكم الحقّ أبدا.
ومنهم من يقول له الملك: ادخلوها بسلام، ومنهم من يقول له: لكم ما تشاءون فيها قال تعالى:
[سورة ق (50) : آية 35]
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
لم يقل: «لهم ما يسئلون» بل قال: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» : فكلّ ما يخطر ببالهم فإنّ سؤلهم يتحقق لهم في الوهلة، وإذا كانوا اليوم يقولون: ما يشاء الله فإنّ لهم غدا منه الإحسان.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
«وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» : اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية، والنظر إلى الله سبحانه «2» . وقوم يقولون: المزيد على الثواب في الجنة- ولا منافاة بينهما.
__________
(1) يقول الدقاق شيخ القشيري: هي مراتب: الخوف والخشية والهيبة: فالخوف من شرط الإيمان «وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» والخشية من شرط العلم: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» . والهيبة من شرط المعرفة:
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» . وقال أبو القاسم الحكيم: الخوف على ضربين: رهبة وخشية فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب إذا خاف وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب (الرسالة ص 65) .
(2) أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار في الآخرة، وأنه يراه المؤمنون دون الكافرين لأن ذلك كرامة من الله تعالى لقوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . وجوزّوا الرؤية بالعقل وأوجبوها بالسمع وإنما جاز في العقل لأنه موجود، وكل موجود تجوز رؤيته إذا وضع الله سبحانه فينا الرؤية له، ولو لم تكن الرؤية جائزة عليه لكان سؤال موسى عليه السلام: «أرنى أنظر إليك» جهلا وكفرا. وجاء السمع بوجوبه في مثل:(3/455)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 36]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
أي اعتبروا بالذين تقدّموكم انهمكوا في ضلالتهم، وأصرّوا، ولم يقلعوا.. فأهلكناهم وما أبقينا منهم أحدا.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 37]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قيل: «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» : أي من كان له عقل. وقيل: قلب حاضر. ويقال قلب على الإحسان مقبل. ويقال: قلب غير قلّب.
«أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» : استمع إلى ما ينادى به ظاهره من الخلق وإلى ما يعود إلى سرّه من الحق «1» . ويقال: لمن كان له قلب صاح لم يسكر «2» من الغفلة. ويقال: قلب يعد أنفاسه مع الله. ويقال: قلب حيّ بنور الموافقة. ويقال: قلب غير معرض عن الاعتبار والاستبصار.
ويقال: «القلب- كما في الخبر- بين إصبعين من أصابع الرحمن» : أي بين نعمتين وهما ما يدفعه عنه من البلاء، وما ينفعه به من النّعماء، فكلّ قلب منع الحقّ عنه الأوصاف الذميمة وألزمه النعوت الحميدة فهو الذي قال فيه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» .
وفي الخبر: «إن لله أوانى ألا وهي القلوب، وأقربها من الله ما رقّ وصفا» شبّه القلوب بالأوانى فقلب الكافر منكوس لا يدخل فيه شىء، وقلب المنافق إناء مكسور، ما يلقى فيه من أوّله يخرج من أسفله، وقلب المؤمن إناء صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمان ويبقى.
__________
- «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» . و «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» .. وقوله «ص» .. «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته يوم القيامة» . وأجمعوا على أنه لا يرى في الدنيا بالأبصار، ولكن بالقلوب لأن الدنيا دار فناء ولا يرى الباقي في الدار الفانية.. وهي على العموم رؤية بلا كيفية ولا إحاطة.
(1) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ.
(2) هكذا في م وهي في ص (يسكن) وهي خطأ في النسخ.(3/456)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
ولكنّ هذه القلوب مختلفة فقلب ملطّخ بالانفعالات وفنون الآفات فالشراب الذي يلقى فيه يصحبه أثر، ويتلطخ به.
وقلب صفا من الكدورات وهو أعلاها قدرا.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 38]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
وأنى يمسّه اللّغوب. وهو صمد لا يحدث في ذاته حادث؟! قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 39]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
إن تأذّ سمعك بما يقولون فيّ من الأشياء التي يتقدّس عنها نعتى فاصبر على ما يقولون، واستروح عن ذلك بتسبيحك لنا.
[سورة ق (50) : آية 40]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فالليل وقت الخلوة- والصفاء في الخلوة أتمّ وأصفى.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : الآيات 41 الى 42]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
النداء من الحقّ- سبحانه- وارد عليهم، كما أنّ النجوى تحصل دائما بينهم. والنداء الذي يرد عليهم يكون بغتة ولا يكون للعبد في فعله اختيار.
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 43]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
إلينا مرجع الكلّ ومصيرهم.(3/457)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 44]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44)
هذا يسير علينا: سواء خلقناهم جملة أو فرادى «1» قال تعالى: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» » .
قوله جل ذكره:
[سورة ق (50) : آية 45]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
ما أنت عليهم بمتسلّط تكرههم.
وإنما يؤثّر التخويف والإنذار والتذكير في الخائفين، فأمّا من لا يخاف فلا ينجح فيه التخويف- وطير السماء على ألّافها تقع.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (فردا)
(2) آية 28 سورة لقمان.(3/458)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
سورة الذّاريات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة عزيزة من ذكرها عزّ لسانه، ومن عرفها اهتزّ بصحبتها جنانه «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة للألباب غلّابة، كلمة لأرواح المحبّين سلّابة.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
وَالذَّارِياتِ: أي الرياح الحاملات «وِقْراً» أي السحاب «فَالْجارِياتِ» أي السفن.
«فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» أي الملائكة.. أقسم بربّ هذه الأشياء وبقدرته عليها. وجواب القسم:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ..» والإشارة في هذه الأشياء أن من جملة الرياح. الرياح الصيحية «1» تحمل أنين المشتاقين إلى ساحات العزّة فيأتى نسيم القربة إلى مشامّ أسرار أهل المحبة..
فعندئذ يجدون راحة من غلبات اللوعة، وفي معناه أنشدوا:
وإنى لأستهدى الرياح نسيمكم ... إذا أقبلت من أرضكم بهبوب
وأسألها حمل السلام إليكمو ... فإن هي يوما بلّغت.. فأجيبى
ومن السحاب ما يمطر بعتاب الغيبة، ويؤذن بهواجم النّوى والفرقة. فإذا عنّ لهم من ذلك شىء أبصروا ذلك بنور بصائرهم، فيأخذون في الابتهال، والتضرّع في السؤال استعاذة منها.. كما قالوا:
__________
(1) إشارة إلى صيحاتهم عند اشتداد الوجد.(3/459)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
أقول- وقد رأيت لها سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحّت عزاليها «1» ببين ... حوالينا الصدود ولا علينا
وكما قد يحمل الملّاح بعض الفقراء بلا أجرة طمعا في سلامة السفينة- فهؤلاء «2» يرجون أن يحملوا في فلك العناية «3» فى بحار «4» القدرة عند تلاطم الأمواج حول السفينة.
ومن الملائكة من يتنزّل لتفقد أهل الوصلة، أو لتعزية أهل المصيبة، أو لأنواع من الأمور تتصل بأهل هذه القصة، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم: هل عندهم خير عن فراقهم ووصالهم- كما قالوا:
بربّكما يا صاحبيّ قفا بيا ... أسائلكم عن حالهم واسألانيا
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» : الحقّ- سبحانه- وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالرحمة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، ووعد أرباب المصائب بقوله:
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «5» » وهم يتصدون لاستبطاء حسن الميعاد- والله رءوف بالعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 8]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
«ذاتِ الْحُبُكِ» أي ذات الطرائق الحسنة- وهذا قسم ثان، وجوابه: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» يعنى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فأحدهم يقول: إنه ساحر، وآخر يقول:
مجنون، وثالث يقول: شاعر.. وغير ذلك.
__________
(1) الأعزل من السحاب مالا مطر فيه (الوسيط ج 2 ص 605) .
(2) يقصد الصوفية.
(3) هكذا في ص وهي في م (الكفاية) .
(4) هكذا في ص وهي في م (محال) .
(5) إشارة إلى الآيتين 156، 157 من سورة البقرة.
«الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» : «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» . [.....](3/460)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
والإشارة فيه إلى القسم بسماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان، وقمر المحبة، ونجوم القرب.. إنكم في باب هذه الطريقة لفى قول مختلف فمن منكر يجحد الطريقة، ومن معترض يعترض على أهلها يتوهّم نقصانهم في القيام بحق الشريعة «1» ، ومن متعسّف «2» لا يخرج من ضيق حدود العبودية ولا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السنية، قال قائلهم:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظنّ غيرتكم ... وصادق ليس يدرى. أنه صدقا
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 9]
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
أي يصرف عنه من صرف، وذلك أنهم كانوا يصدّون الناس عنه «3» ويقولون:
إنه لمجنون.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 11]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
لعن الكذّابون الذين هم في غمرة الضلالة وظلمة الجهالة ساهون لاهون.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 12 الى 14]
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
يسألون أيان يوم القيامة؟ يستعجلون بها، فلأجل تكذيبهم بها كانت نفوسهم لا تسكن
__________
(1) نلاحظ هنا حرص الإمام القشيري على أن أرباب الحقيقة لا يتنكرون بحال من الأحوال لأى حق من حقوق الشريعة.
(2) هكذا في ص وهي في م (متقشف) التي هي خطأ في النسخ.
(3) واضح أن القشيري يرى الضمير فى (عنه) التي في الآية عائدا إلى الرسول (ص) . ويعيده بعض المفسرين إلى القرآن أو إلى الدين أو إلى (ما توعدون) . ومعنى عبارة القشيري أنه يصرف عنه من صرفه في سابق علمه.(3/461)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
إليها. ويوم هم على النار يحرقون ويعذّبون يقال لهم: قاسوا عقوبتكم، هذا الذي كنتم به تستعجلون.
والإشارة فيه إلى الذين يكذبون في أعمالهم لما يتداخلهم من الرياء، ويكذبون في أحوالهم لما يتداخلهم من الإعجاب، ويكذبون على الله فيما يدّعونه من الأحوال.. قتلوا ولعنوا.. وسيلقون غبّ تلبيسهم بما يحرمون من اشتمام رائحة الصدق.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
فى عاجلهم في جنّات وصلهم وفي آجلهم في جنّات فضلهم فغدا درجات ونجاة، واليوم قربات ومناجاة، فما هو مؤجّل حظّ أنفسهم، وما هو معجّل حقّ ربّهم. هم آخذين اليوم ما آتاهم ربهم يأخذون نصيبهم منه بيد الشكر والحمد، وغدا يأخذون ما يعطيهم ربّهم في الجنة من فنون العطاء والرّفد.
ومن كان اليوم آخذه بلا واسطة من حيث الإيمان والإتقان، وملاحظة القسمة في العطاء والحرمان. كان غدا آخذه بلا واسطة في الجنان عند اللقاء والعيان. «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا ولكنهم اليوم بانوا «1» ولكنهم بعد ما أعدناهم حصلوا واستبانوا.. فهم كما في الخبر: «أعبد الله كأنك تراه ... » «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 17 الى 18]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) .
__________
(1) العارف كائن بائن (هذا رأى يحيى بن معاذ: رسالة القشيري ص 157) والمعنى أنه وإن بدا بين الناس يشاركهم ويعاشرهم إلا أنه مشتغل عنهم بمعروفه لا يشغل عنه طرفة عين.
(2) جاء في الحلية عن زيد بن أرقم: «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه نراك، وأحسب نفسك فى الموتى، واتق دعوة المظلوم» كذلك رواه الطبراني والبيهقي عن معاذ بلفظ: «أعبد الله ولا تشرك به شيئا واعمل كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى» .(3/462)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
المعنى إمّا: كانوا قليلا وكانوا لا ينامون إلا بالليل (كقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «1» أو: كان نومهم بالليل قليلا، أو:) «2» كانوا لا ينامون بالليل قليلا «3» .
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» : أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودعائهم- ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين، فيستغفرون استصغارا لقدرهم، واستحقارا لفعلهم.
والليل.. للأحباب في أنس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف، وإمّا لاشتياق أو لفراق- كما قالوا:
كم ليلة فيك لاصباح لها ... أفنيتها قابضا على كبدى
قد غصّت العين بالدموع وقد ... وضعت خدى على بنان يدى
وإمّا لكمال أنس وطيب روح- كما قالوا:
سقى الله عيشا قصيرا مضى ... زمان الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكى انسداد لحاظ ... لعينى عند ارتداد الجفون
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 19]
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
السائل هو المتكفّف، والمحروم هو المتعفّف- ويقال هو الذي يحرم نفسه بترك السؤال..
هؤلاء هم الذين يعطون بشرط العلم «4» ، فأمّا أصحاب المروءة: فغير المستحق لمالهم أولى من المستحق «5» . وأما أهل الفترة فليس لهم مال حتى تتوجه عليهم مطالبة لأنهم أهل الإيثار- فى الوقت- لكلّ ما يفتح عليهم به.
__________
(1) آية 13 سورة سبأ.
(2) ما بين القوسين موجود في م وسقط في ص.
(3) يقول النسفي: ولا يجوز أن تكون ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا تقول: زيدا ما ضربت (النسفي ح 4 ص 184) .
(4) أي حسب شرائط الشريعة في الزكاة.
(5) هكذا في م وهي مشطوبة بخط فوقها في ص ... والعبارة قد تبدو غامضة، وقد يكون مراد القشيري- إن صحت عنه العبارة هكذا- أن اهل المروءة لا يتقيدون في عطائهم بما تفرضه الشريعة للمستحقين وحسب فإن المستحق يأخذ ما هو حق له، وإنما يعطون دائما ويمنحون دائما بغض النظر عن استحقاق أو عدمه.(3/463)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 22]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)
كما أنّ الأرض تحمل كلّ شىء فكذلك العارف يتحمّل كلّ أحد.
ومن استثقل أحدا أو تبرّم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة، ولمطالعته الخلق بعين التفرقة- وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة.
ومن الآيات التي في الأرض أنها يلقى عليها كلّ قذارة وقمامة- ومع ذلك تنبت كلّ زهر ونور.. كذلك العارف يتشرب كلّ ما يسقى من الجفاء، ولا يترشح إلّا بكل خلق علىّ وشيمة زكيّة «1» .
ومن الآيات التي في الأرض (أنّ ما كان منها سبخا يترك ولا يعمّر لأنه لا يحتمل العمارة- كذلك الذي لا إيمان له بهذه الطريقة يهمل، فمقابلته بهذه الصفة) «2» كإلقاء البذر في الأرض السبخة.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» : أي وفي أنفسكم أيضا آيات، فمنها وقاحتها في همتها «3» ، ووقاحتها في صفتها، ومنها دعاواها العريضة فيما ترى منها وبها، ومنها أحوالها المريضة حين تزعم أنّ ذرّة أو ( ... ) «4» بها أو منها.
«وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» : أي قسمة أرزاقكم في السماء، فالملائكة الموكّلون بالأرزاق ينزلون من السماء.
ويقال: السماء هاهنا المطر، فبالمطر ينبت الحبّ والمرعى.
__________
(1) يقول الجنيد: «الصوفى كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح» ، وقال أيضا:
«إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر» (الرسالة ص 139) .
(2) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
(3) هكذا في م وهي في ض (صمتها) ويبدو أن الهاء اشتبهت على الناسخ.
(4) مشتبهة في النسختين. [.....](3/464)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
ويقال: على رب السماء أرزاقكم لأنه ضمنها.
ويقال: قوله: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» وهاهنا وقف ثم تبتدئ: «وَما تُوعَدُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 23]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
أي: إنّ البعث والنشر لحقّ.
ويقال: إنّ نصرى لمحمد ولدينى، وللذى أتاكم به من الأحكام- لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون.
كما يقال: هذا حقّ مثل ما أنك هاهنا.
ويقال: معناه: «أنّ الله رازقكم» - هذا القول حقّ مثلما أنكم إذا سئلتم:
من ربّكم؟ ومن خالقكم؟ قلتم: الله.. فكما أنكم تقولون: إن الله خالق- وهذا حقّ..
كذلك القول بأنّ الله رازق- هو أيضا حقّ.
ويقال: كما أنّ نطقك لا يتكلم به غيرك فرزقك لا يأكله غيرك.
ويقال: الفائدة والإشارة في هذه الآية أنه حال برزقك على السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إلى السماء لتشتغل بما كلفك ولا تتعنّى في طلب مالا تصل إليه.
ويقال: فى السماء رزقكم، وإلى السماء يرفع عملكم.. فإن أردت أن ينزل عليك رزقك فأصعد إلى السماء عملك- ولهذا قالوا: الصلاة قرع باب الرزق، وقال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 24]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
__________
(1) آية 132 سورة طه.
م (30) لطائف الإشارات- ج 3(3/465)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
قيل في التفاسير: لم يكن قد أتاه خبرهم قبل نزول هذه الاية.
وقيل: كان عددهم اثنى عشر ملكا. وقيل: جبريل وكان معه سبعة. وقيل:
كانوا ثلاثة.
وقوله: «الْمُكْرَمِينَ» قيل لقيامه- عليه السلام- بخدمتهم. وقيل: أكرم الضيف بطلاقة وجهه، والاستبشار بوفودهم.
وقيل: لم يتكلّف إبراهيم لهم، وما اعتذر إليهم- وهذا هو إكرام الضيف- حتى لا تكون من المضيف عليه منّة فيحتاج الضيف إلى تحملها.
ويقال: سمّاهم مكرمين لأن غير المدعوّ عند الكرام كريم.
ويقال: ضيف الكرام لا يكون إلا كريما.
ويقال: المكرمين عند الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 25]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
أي سلّمنا عليك (سلاما) فقال إبراهيم: لكم منى (سلام) .
وقولهم: «سَلاماً» أي لك منّا سلام، لأنّ السلام: الأمان.
«قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» : أي أنتم قوم منكرون لأنه لم يكن يعرف مثلهم في الأضياف.
ويقال: غرباء.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 26 الى 28]
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
أي عدل إليهم من حيث لا يعلمون «1» ، وكذلك يكون الروغان «2» .
__________
(1) أي من حيث لا يعلم الأضياف.
(2) وكذلك يكون روغان الكرام: خفية حتى لا يسبب لأضيافه الحرج.(3/466)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
«فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» فشواه، وقرّبه منهم وقال: «أَلا تَأْكُلُونَ؟» وحين امتنعوا عن الأكل:
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ توهّم أنهم لصوص فقالوا له: «لا تَخَفْ» .
«وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» : أي بشّروه بالولد، وببقاء هذا الولد إلى أن يصير عليما والعليم مبالغة من العلم، وإنما يصير عليما بعد كبره.
[سورة الذاريات (51) : آية 29]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
«فِي صَرَّةٍ» أي في صيحة شديدة، «فَصَكَّتْ وَجْهَها» أي فضربت وجهها بيدها كفعل النساء «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» : أي أنا عجوز عقيم. وقيل: إنها يومها كانت ابنة ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة.
[سورة الذاريات (51) : آية 30]
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
أي قلنا لك كما قال ربّك لنا، وأن نخبرك أنّ الله هو المحكم لأفعاله، «الْعَلِيمُ» الذي لا يخفى عليه شىء «1»
[سورة الذاريات (51) : آية 31]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
سألهم: ما شأنكم؟ وما أمركم؟ وبماذا أرسلتم؟
[سورة الذاريات (51) : الآيات 32 الى 36]
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
__________
(1) روى أن جبريل قال لها حين استبعدت: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.(3/467)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
هم قوم لوط، ولم نجد فيها غير لوط ومن آمن به.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 37]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
تركنا فيها علامة يعتبر بها الخائفون- دون القاسية قلوبهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 47]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
أي بحجة ظاهرة باهرة «2» .
.... إلى قوله: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أي جعلنا بينها وبين الأرض سعة، و «إِنَّا لَقادِرُونَ» : على أن نزيد في تلك «3» السعة.
[سورة الذاريات (51) : آية 48]
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48)
أي جعلناها مهادا لكم. ثم أثنى على نفسه قائلا: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» .
دلّ بهذا كلّه على كمال قدرته، وعلى تمام فضله ورحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 49]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
أي صنفين في الحيوان كالذّكر والأنثى، وفي غير الحيوان كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وأصناف المتضادات.
__________
(1) قيل هي ماء أسود منتن.
(2) هكذا في م وهي في ص (قاهرة) وكلاهما مقبول في السياق.
(3) هكذا في م وهي في ص (سلك) والسياق لا يقبل هذه.(3/468)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 50]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أي فارجعوا إلى الله- والإنسان بإحدى حالتين إمّا حالة رغبة في شىء، أو حالة رهبة من شىء، أو حال رجاء، أو حال خوف، أو حال جلب نفع أو رفع ضرّ.. وفي الحالتين ينبغى أن يكون فراره إلى الله فإنّ النافع والضارّ هو الله.
ويقال: من صحّ فراره إلى الله صحّ قراره مع الله.
ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التّقى، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله.
ويقال: يجب على العبد أن يفرّ من فعله- الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه- حيث قال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» إلى نفسه حيث قال: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» «1» :
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 51 الى 53]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)
أخوّفكم أليم عقوبته إن أشركتم به- فإنّه لا يغفر أن يشرك به.
ثم بيّن أنه على ذلك جرت عادتهم في تكذيب الرّسل، كأنهم قد توصوا فيما بينهم بذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 54]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
فأعرض عنهم فليست تلحقك- بسوء صنيعهم- ملامة «2» قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 55]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
ذكّر العاصين عقوبتى ليرجعوا عن مخالفة أمرى، وذكّر المطيعين جزيل ثوابى ليزدادوا
__________
(1) هنا استخدم القشيري ثقافته الكلامية فيما يتصل بصفات (الفعل) وصفات (الذات) (أنظر تقديمنا لكتاب التحبير في التذكير) .
(2) هكذا في م وهي في ص (ملايه) وهي خطأ من الناسخ.(3/469)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
طاعة وعبادة، وذكّر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي، وذكّر الأغنياء ما أتحت «1» لهم من إحسانى وعطائى، وذكّر الفقراء ما أوجبت لهم من صرف الدنيا عنهم وأعددت لهم من لقائى.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 58]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
الذين اصطفيتهم في آزالى، وخصصتهم- اليوم- بحسن إقبالى، ووعدتهم جزيل أفضالى- ما خلقتهم إلّا ليعبدون.
والذين سخطت عليهم في آزالى، وربطتهم- اليوم- بالخذلان فيما كلّفتهم من أعمالى، وخلقت النار لهم- بحكم إلهيتى ووجوب حكمى في سلطانى- ما خلقتهم إلا لعذابى وأنكالى، وما أعددت لهم من سلاسلى وأغلالى.
ما أريد منهم أن يطعموا أو يرزقوا أحدا من عبادى فإنّ الرزّاق أنا.
وما أريد أن يطعمون فإننى أنا الله «ذُو الْقُوَّةِ» : المتين القوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الذاريات (51) : آية 59]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
لهم نصيب من العذاب مثل نصيب من سلف من أصحابهم من الكفار فلم استعجال العذاب- والعذاب لن يفوتهم؟.
[سورة الذاريات (51) : آية 60]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
وهو يوم القيامة.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (الحث) وهي غير ملائمة للسياق.(3/470)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
سورة الطّور
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة ما استولت على قلب عارف إلّا تيّمته بكشف جلاله، وما استولت على قلب متأفّف إلّا أكرمته بلطف أفضاله.. فهى كلمة قهّارة للقلوب.. ولكن لا لكلّ قلب، مذهبة للكروب.. ولكن لا لكلّ كرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
أقسم الله بهذه الأشياء (التي في مطلع السورة) ، وجواب القسم قوله: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» . والطور هو الجبل الذي كلّم عليه موسى عليه السلام لأنه محلّ قدم الأحباب وقت سماع الخطاب. ولأنه الموضع الذي سمع فيه موسى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أمّته حتى نادانا ونحن في أصلاب آبائنا فقال: أعطيتكم قبل أن تسألونى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» :
مكتوب في المصاحف، وفي اللوح المحفوظ.
وقيل: كتاب الملائكة في السماء يقرءون منه ما كان وما يكون.
ويقال: ما كتب على نفسه من الرحمة لعباده.
ويقال ما كتب من قوله: سبقت رحمتى غضبى «1» .
ويقال: هو قوله: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «2» .
__________
(1) فى الحديث أن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: «إن رحمتى سبقت غضبى» .
(2) آية 105 سورة الأنبياء.(3/471)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
ويقال: الكتاب المسطور فيه أعمال العباد يعطى لعباده بأيمانهم وشمائلهم يوم القيامة.
«فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ» «1» : يرجع إلى ما ذكرنا من الكتاب.
[سورة الطور (52) : آية 4]
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
فى السماء الرابعة «2» . ويقال: هو قلوب العابدين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته. ويقال:
هى مواضع عباداتهم ومجالس خلواتهم. وقيل: الكعبة.
[سورة الطور (52) : آية 5]
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
هى السماء. وقيل سماء هممهم في الملكوت.
[سورة الطور (52) : الآيات 6 الى 7]
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7)
البحار المملوءة.
أقسم بهذه الأشياء: إنّ عذابه لواقع. وعذابه في الظاهر ما توعّد به عباده العاصين، وفي الباطن الحجاب بعد الحضور، والستر بعد الكشف، والردّ بعد القبول.
[سورة الطور (52) : آية 8]
ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)
إذا ردّ عبدا أبرم القضاء بردّه:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكن ... إليه بوجه آخر- الدهر- تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 10]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10)
«تَمُورُ» : أي تدور بما فيها، وتسير الجبال عن أماكنها، فتسير سيرا.
[سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 12]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
__________
(1) الرق هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه، منشور لا ختم عليه أو لائح.
(2) يقابل الكعبة معمور بالملائكة. [.....](3/472)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
الويل كلمة تقولها العرب لمن وقع في الهلاك.
«فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» : فى باطل التكذيب يخوضون.
[سورة الطور (52) : الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15)
يوم يدفعون إلى النار دفعا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذّبون..
ثم يسألون: أهذا من قبيل السحر على ما قلتم أم غطّى على أبصاركم؟! قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 16]
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
والصبر على الجزاء في العاقبة لا قيمة له، لأنّ عذابهم عقوبة لهم:
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18)
المتقون في جنات ونعيم عاجلا وآجلا «1» . «فاكِهِينَ» أي معجبين بما آتاهم ربهم وما أعطاهم.
ويقال: «فاكِهُونَ» : أي ذوو فاكهة: كقولهم رجل تامر أي ذو تمر، ولابن أي ذو لبن.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 19]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
قوم يصير لهم ذلك هنيئا بطعمه ولذّته، وقوم يصير هنيئا لهم سماع قولهم
__________
(1) يشير القشيري إلى النعيم العاجل الذي هو الوصلة والقربة. فمن المعلوم أن الصوفية يسلكون طريقهم فى حياة وسطى فيها قيامة وحشر ونشر وثواب وعذاب، بما يشعرون من هجر ووصل، وخوف ورجاء.
ونحو ذلك من الأحوال.(3/473)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
عنه- سبحانه- هنيئا، وقوم يصير لهم ذلك هنيا ليّنا وهم بمشهد منه:
فاشرب على وجهها كغرّتها ... مدامة في الكئوس كالشّرر
[سورة الطور (52) : آية 20]
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
يظلّون في سرور وحبور، ونصيب من الأنس موفور.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 21]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
يكمل عليهم سرورهم بأن يلحق بهم ذرّياتهم فإنّ الانفراد بالنعمة عمّن القلب مشتغل به من الأهل والولد والذرية يوجب تنغص العيش.
وكذلك كلّ من قلب الولىّ يلاحظه من صديق وقريب، ووليّ وخادم، قال تعالى فى قصة يوسف: «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» وفي هذا المعنى قالوا:
إنّى على جفواتها- فبربّها ... وبكلّ متّصل بها متوسّل
لأحبها، وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزل
«وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» أي ما أنقصنا من أجورهم من شىء بل وفينا ووفّرنا. وفي الابتداء نحن أولينا وزدنا على ما أعطينا.(3/474)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
«كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» مطالب بعمله، يوفيّ عليه أجره بلا تأخير، وإن كان ذنبا فالكثير منه مغفور، كما أنه اليوم مستور.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 23]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23)
أي لا يجرى بينهم باطل ولا يؤثمهم كما يجرى بين الشّرب «1» فى الدنيا، ولا يذهب الشّرب بعقولهم فيجرى بينهم ما يخرجهم عن حدّ الأدب والاستقامة.
وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومن المعلوم من يسقيهم، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 24]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
والقوم عن الدار وعمّن في الدار مختطفون لاستيلاء ما يستغرقهم فالشراب يؤنسهم ولكن لا بمن يجانسهم «2» وإذا كان- اليوم- للعبد وهو في السجن في طول عمره ساعة «3» امتناع عن سماع خطاب الأغيار، وشهود واحد من المخلوقين- وإن كان ولدا عزيزا، أو أخا شفيقا- فمن المحال أن يظن أنه يردّ من الأعلى إلى الأدنى.. إن كان من أهل القبول والجنة، ومن المحال أن يظن أنه يكون غدا موسوما بالشقاوة.
وإذا كان العبد في الدنيا يقاسى في غربته من مقاساة اللتيا والتي- فماذا يجب أن يقال إذا
__________
(1) الشرب بالفتح القوم يشربون ويجتمعون على الشراب (الوسيط واللسان) .
(2) هكذا في م وهي أقرب إلى الصواب مما جاء في ص (يجالسهم) باللام لأن السياق يتدعم بالأولى فالأنس الحاصل يومئذ بالحق لا بالخلق.
(3) هذه محاولة طيبة يقدمها التفسير الإشارى عند بحث قضية التنعم في الآخرة ونفى الحسيات عن هذا المتنعم لأنه إذا تصورنا أن العبد في ساعة الفناء يكون محوا فيما يشهد، وأن ذلك يحدث في الدنيا.. فها بالك في الآخرة وهم ناظرون إلى ربهم؟!(3/475)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
رجع إلى منزله؟ أيبقى على ما كان عليه في سفرته؟ أم يلقى غير ما كان يقاسى في سفرته، ويتجرع غير ما كان يسقى من كاسات كربته؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
لولا أنهم قالوا: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» لكانوا قد لا حظوا إشفاقهم، ولكن الحقّ- سبحانه- اختطفهم عن شهود إشفاقهم حيث أشهدهم منّته عليهم حتى قالوا: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 29]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29)
أي أنهم يعلمون أنك ليست بك كهانة ولا جنون، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه فالسّفيه يبسط لسانه فيمن يسبّه بما يعلم أنه منه برىء.
[سورة الطور (52) : الآيات 30 الى 31]
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
نتربص به حوادث الأيام فإنّ مثل هذا لايدوم، وسيموت كما مات من قبله كهّان وشعراء.
ويقال: قالوا: إنّ أباه مات شابا، ورجوا أن يموت كما مات أبوه، فقال تعالى:
«قُلْ تَرَبَّصُوا ... » فإننا منتظرون، وجاء في التفسير أنّ جميعهم ماتوا. فلا ينبغى لأحد أن يؤمّل موت أحد. فقل من تكون هذه صنعته إلّا سبقته المنيّة- دون أن يدرك ما يتمنّاه من الأمنيّة.(3/476)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 32]
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32)
أتأمرهم عقولهم «1» بهذا؟ أم تحملهم مجاوزة الحدّ في ضلالهم وطغيانهم على هذا؟
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 33 الى 34]
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
إذا كانوا يزعمون أنك تقول هذا القول «2» من ذات نفسك فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فيما رموك به! قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 38]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
كلّا ليس الأمر كذلك، بل الله هو الخالق وهم المخلوقون.
أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض؟ أم عندهم خزائن ربّك.
- أي خزائن أرزاقه ومقدوراته؟ أم هم المسيطرون المتسلّطون على الناس؟.
أم لهم سلّم يرتقون فيه فيستمعون ما يجرى في السماوات؟ فليأت مستمعهم بسلطان مبين.
ثم إنه سفّه أحلامهم فقال:
[سورة الطور (52) : الآيات 39 الى 43]
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
أم تسألهم على تبليغ الرسالة أجرا فهم مثقلون من الغرم والإلزام في المال (بحيث يزهدهم ذلك في اتباعك؟.
__________
(1) كانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى- فإسناد الأحلام إلى الكفار في الآية مجاز فيه سخرية منهم.
(2) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يتضح السياق- فالقشيرى كما هو واضح في آخر السورة لا يعطى سوى كلمات مقتضبة، وإنما يهتم بالجانب الإشارى- إن وجد.(3/477)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون ذلك؟
أم يريدون كيدا «1» أي أن يمكروا بك مكرا فالذين كفروا هم المكيدون.
أم لهم إله غير الله يفعل شيئا مما يفعل الله؟ تنزيها له عن ذلك!.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 44]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44)
أي إن رأوا قطعة من السماء ساقطة عليهم قالوا: إنه سحاب مركوم «2» ركم بعضه على بعض والمقصود أنهم مهما رأوا من الآيات لا يؤمنون. ولو فتحنا عليهم بابا من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، وليس هذا عيانا ولا مشاهدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : الآيات 45 الى 46]
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
أي فأعرض عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يموتون، يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا، ولا يمنعون من عذابنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 47]
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47)
دون يوم القيامة لهم عذاب القتل والسّبى، وما نزل بهم من الهوان والخزي يوم بدر وغيره «3» .
«وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» : أنّ الله ناصر لدينه.
قوله جل ذكره:
[سورة الطور (52) : آية 48]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) .
__________
(1) يقال هو كيدهم للرسول وللمؤمنين بدار الندوة- وقد يقصد به الكفار أجمعين.
(2) فى ص (مكروم) وهي خطأ في النسخ.
(3) ويقال عذاب القبر لأنه يسبق القيامة.(3/478)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
أنت بمرأى منّا، وفي نصرة منّا.
«فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «1» : فى هذا تخفيف عليه وهو يقاسى الصبر.
«وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» .
أي تقوم للصلاة المفروضة عليك.
[سورة الطور (52) : آية 49]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
قيل: المغرب والعشاء وركعتا الفجر.
وفي الآية دليل وإشارة إلى أنه أمره أن يذكره في كلّ وقت، وألا يخلو وقت من ذكره.
والصبر لحكم الله شديد، ولكن إذا عرف اطلاع الربّ عليه سهل عليه ذلك وهان.
__________
(1) التعبير بالجمع هنا قد يفيد زيادة الرعاية في حق المصطفى صلوات الله عليه، خصوصا إذا تذكرنا أنه سبحانه قال في حق موسى عليه السلام «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» فالتعبير في هذه الحالة بالمفرد، والله سبحانه أعلم.(3/479)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
سورة النّجم
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم حليم رحيم، يحلم «1» فيما يعلم، ويستر ما يبصر ويغفر «2» ، وعلى العقوبة يقدر، يرى ويخفى، ويعلم ولا يبدى.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2)
والثريا إذا سقط وغرب. ويقال: هو جنس النجوم أقسم بها.
(ويقال: هى الكواكب) «3» . ويقال: أقسم بنجوم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال هي الكواكب التي ترمى بها الشياطين.
ويقال أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من المعراج.
ويقال: أقسم بضياء قلوب العارفين ونجوم عقول الطالبين.
وجواب القسم قوله: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» : أي ما ضلّ عن التوحيد قط، «وَما غَوى» : الغىّ: نقيض الرّشد.. وفي هذا تخصيص للنبى صلى الله عليه وسلم حيث توليّ- سبحانه- الذّبّ عنه فيما رمى به، بخلاف ما قال لنوح عليه السلام وأذن له حتى قال: «لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ «4» » ، وهود قال: «لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ «5» » .. وغير ذلك، وموسى
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (يكلم) وواضح أنها خطأ من الناسخ.
(2) هكذا في م وهي في ص (يضير) وهي خطأ من الناسخ.
(3) موجود في م وساقط في ص.
(4) آية 61 سورة الأعراف. [.....]
(5) آية 67 سورة الأعراف.(3/480)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
قال لفرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» «1» . وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم:
«ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» : معناه ما ضلّ صاحبكم، ولا غفل عن الشهود طرفة عين.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 3 الى 4]
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
أي ما ينطق بالهوى، وما هذا القرآن إلا وحي يوحى. وفي هذا أيضا تخصيص له بالشهادة إذ قال لداود: «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى» «2» .
وقال في صفة نبيّنا صلى الله عليه وسلم: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» .
(ومتى ينطق عن الهوى وهو في محل النجوى؟ فى الظاهر مزموم بزمام التقوى، وفي السرائر في إيواء المولى، مصفّى عن كدورات البشرية، مرقّى إلى شهود الأحدية، مكاشف بجلال الصمدية، مختطف عنه بالكلّيّة، لم تبق منه إلا للحقّ بالحقّ بقية.. ومن كان بهذا النعت.. متى ينطق عن الهوى؟) «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 7]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7)
أي جبريل عليه السلام. و «ذُو مِرَّةٍ» : أي ذو قوة وهو جبريل. «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» أي جبريل.
[سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 9]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
دنا جبريل من محمد عليه السلام، فتدلّى جبريل: أي نزل من العلوّ إلى محمد.
وقيل: «فَتَدَلَّى» تفيد الزيادة في القرب، وأنّ محمدا عليه السلام هو الذي دنا من ربّه دنوّ كرامة، وأنّ التدلّى هنا معناها السجود.
__________
(1) آية 102 سورة الإسراء.
(2) آية 26 سورة ص.
(3) كل ما بين القوسين موجود في مكان آخر، وضعناه في مكانه الصحيح حتى يستقيم السياق.(3/481)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
ويقال: دنا محمد من ربّه بما أودع من لطائف المعرفة وزوائدها، فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه.
«فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» : فكان جبريل- وهو في صورته التي هو عليها- من محمد صلى الله عليه وسلم بحيث كان بينهما قدر قوسين أو أدنى.
ويقال: كان بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين الله قدر قوسين: أراد به دنوّ كرامة لا دنوّ مسافة.
ويقال: كان من عادتهم إذا أرادوا تحقيق الألفة بينهم إلصاق أحدهم قوسه بقوس صاحبه عبارة عن «1» عقد الموالاة بينهما، وأنزل الله- سبحانه- هذا الخطاب على مقتضى معهودهم. ثم رفع الله هذا فقال: «أَوْ أَدْنى» أي بل أدنى.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 10]
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى. ويقال: أحمله أحمالا «2» لم يطلّع عليها أحد.
ويقال: قال له: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟
ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟
ويقال: بشّره بالحوض والكوثر.
ويقال: أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتّك. والأولى أن يقال: هذا الذي قالوه كله حسن، وغيره مما لم يطّلع أحد.. كله أيضا كان له في تلك الليلة وحده إذ رقّاه إلى ما رقّاه، ولقّاه بما لقّاه، وأدناه حيث لا دنوّ قبله ولا بعده، وأخذه عنه حيث لا غير، وأصحاه له في عين ما محاه عنه، وقال له ما قال.. دون أن يطّلع أحد على ما كان بينهما من السّرّ «3» .
__________
(1) كما نقول في أسلوبنا الآن (تعبيرا عن..)
(2) هكذا في ص وهي أصوب مما جاء في م (أجمله إجمالا) بالجيم فالسياق يرفضهما.
(3) هذه الفقرة الأخيرة محاولة من جانب أرباب الحقيقة لفهم بعض جوانب في قصة الإسراء والمعراج.
ومضمون كلام القشيري أننا لو كنا نستسيغ حدوث أحوال الكشوفات والمواصلات التي تتاح للأولياء العارفين..
فكيف لا نتقبلها بالنسبة للمصطفى عليه صلوات الله وسلامه؟ وبمعنى آخر: نجد التفسير الصوفي يبرز نفسه في قوة ونصاعة لتوضيح قضية من قضايا التدين، كانت موضع جدل في زمانها وبعد زمانها.(3/482)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 11]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11)
ما كذّب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من الآيات. وكذلك يقال: رأى ربّه تلك الليلة على الوصف الذي علمه قبل أن يراه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 12]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12)
أفتجادلونه على ما يرى؟
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 15]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)
أي جبريل رأى الله مرة أخرى حين كان محمد عند سدرة المنتهى وهي شجرة في الجنة، وهي منتهى الملائكة، وقيل: تنتهى إليها أرواح الشهداء. ويقال: تنتهى إليها أرواح الخلق، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى- وعندها «جَنَّةُ الْمَأْوى» وهي جنة من الجنان.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 16]
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16)
يغشاها ما يغشاها من الملائكة ما الله أعلم به.
وفي خبر: يغشاها رفرف طير خضر.
ويقال: يغشاها فراش من ذهب.
__________
(1) يقول القشيري في كتابه المعراج ص 94: «واختلفوا في رؤية الله سبحانه ليلة المعراج فقالت عائشة رضى الله عنها: إن النبي (ص) لم ير ربّه ليلة المعراج، ومن زعم أن محمدا رأى ربّه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية. وقال ابن عباس: إن نبينا (ص) رأى ربّه ليلة المعراج.
ثم اختلفت الرواية عن ابن عباس ففى رواية أنه رآه بعين رأسه، وفي رواية أنه رآه بقلبه. وقال أهل التحقيق من أهل السّنّة: اختلافهم في هذه المسألة دليل على إجماعهم أن الحق سبحانه يجوز أن يرى لأنه لولا أنّهم كانوا متفقين على جواز الرؤية لم يكن لاختلافهم في الرؤية في تلك الليلة معنى.
وقد رويت في هذا الباب أخبار، والله أعلم بصحتها، فإن صحّ ذلك فلها وجوه من التأويل، من ذلك ماءروى أنه قال: «رأيت ربى في أحسن صورة» - فهذا الخبر يحتمل وجوها منها: رأيت ربى وأنا في أحسن صورة يعنى في أكمل رتبة وأتم فضيلة، وأقوى ما كنت لم يصحبنى دهش، ولا رهقتنى حيرة.
ويمكن أن تكون الرؤية بمعنى العلم، أي رأيت من قدرة الله تعالى ودلائل حكمته، ولم يشغلنى شهود الصور عن ذكر المصوّر، بل رأيت الفاعل في الفعل.
وقيل: الصورة بمعنى الصفة، يقال: أرنى صورة هذا الأمر أي: صفته. و «فى» على معنى «على» أي رأيت ربى على أحسن صفة من جلالة وصفه وإفضاله معى.(3/483)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
ويقال: أعطى رسول الله (ص) عندها خواتيم البقرة، وغفر لمن مات من أمّته لا يشرك بالله شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 17]
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17)
ما مال- صلوات الله عليه وسلامه- ببصره عمّا أبيح له من النظر إلى الآيات، والاعتبار بدلائلها.
فما جاوز حدّه، بل راعى شروط الأدب في الحضرة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 18]
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
أي «الْآيَةَ» الكبرى، وحذف الآية.. وهي تلك التي رآها في هذه الليلة. ويقال:
هى بقاؤه في حال لقائه ربّه بوصف الصّحو، وحفظه حتى رآه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 22]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
هذه أصنام كانت العرب تعبدها فاللات صنم لثقيف، والعزّى شجرة لغطفان، ومناة صخرة لهذيل وخزاعة «3» .
ومعنى الآية: أخبرونا.. هل لهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله من القدرة أن تفعل بعائذ بها ما فعلنا نحن لمحمد صلى الله عليه وسلم من الرّتب والتخصيص؟.
__________
(1) قال أبو يزيد البسطامي: حفظ النبي (ص) طرفه في المسرى، فما زاغ البصر وما طغى، لعلمه بما يؤهل له من المشاهدة، فلم يشاهد في ذلك شيئا، ولم ير طرفه أحدا، ثم لما ردّ إلى محل التأديب نظر إلى الجنة والنار، والأنبياء والملائكة للإخبار عنها، وتأديب الخلق بها فالمقام الأول مقام خصوص والمقام الثاني مقام عموم.
وقال رويم: لما أكرم عليه الصلاة والسلام بأعظم الشرف في المسرى عملت همّته عن الالتفات إلى الآيات والكرامات والجنة والنار فما زاغ البصر وما طغى أي ما أعار طرفه شيئا من الأكوان، ومن شاهد البحر استقلّ الأنهار والأودية.
(2) سئل الشبلي: «كيف ثبت النبى (ص) فى المعراج للقاء والمخاطبة؟ فقال: إنه هيّىء لأمر فمكّن فيه» ويقارن القشيري في موضع آخر بين موسى عليه السلام إذ خرّ صعقا بمجرد سماع النداء وبين نبيّنا عليه الصلاة والسلام إذ ثبت في محل المشاهدة، ويضيف: إن موسى في حال التلوين، ومحمد في حال التمكين.
(3) هذه الأصنام كلها مؤنثات.. وكانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله!(3/484)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
ثم وبّخهم فقال: أرأيتم كيف تختارون لأنفسكم البنين وتنسبون البنات إلى الله؟ تلك إذا قسمة ناقصة! قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 23]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أنتم ابتدعتم هذه الأسماء من غير أن يكون الله أمركم بهذا، أو أذن لكم به.
فأنتم تتبعون الظنّ، «وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» «1» «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» : فأعرضوا عنه، وكما أنّ ظنّ الكفار أوجب لهم الجهل والحيرة والحكم بالخطأ- فكذلك في هذه الطريقة «2» : من عرّج على أوصاف الظنّ لا يحظى «3» بشىء من الحقيقة فليس في هذا الحديث إلا القطع والتحقّق، فنهارهم قد متع «4» ، وشمسهم قد طلعت، وعلومهم أكثرها صارت ضرورية.
أمّا الظنّ الجميل بالله فليس من هذا الباب، والتباس عاقبة الرجل عليه ليس «5» أيضا من هذه الجملة ذات الظن المعلول في الله، وفي صفاته وأحكامه.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 24]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24)
أي ليس «6» للإنسان ما يتمنّاه فإنّه يتمنى طول الحياة والرفاهية وخصب العيش..
وما لا نهاية له، ولكنّ أحدا لا يبلغ ذلك بتمامه.
__________
(1) آية 28 في السورة نفسها.
(2) يقصد طريقة الصوفية.
(3) فى م (يخطىء) وهي خطأ في النسخ [.....]
(4) فى ص (منع) بالنون وهي خطأ، فمتوع النهار من المصطلحات الصوفية التي زادها القشيري على (اللوائح والطوالع واللوامع) كما نوهنا من قبل.
(5) هكذا في م وهي في ص (ليبين) وهي خطأ من الناسخ.
(6) هى (أم) المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها للإنكار، أي للإنسان- يعنى الكافر- ما تمنى من شفاعة الأصنام، وغير ذلك من التمني.(3/485)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
ويقال: ما يتمنّاه الإنسان أن يرتفع مراده واجبا في كل شىء- وأن يرتفع مراد عبد واجبا في كل شىء ليس من صفات الخلق بل هو لله، الذي له ما يشاء:
[سورة النجم (53) : آية 25]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)
له الآخرة والأولى خلقا وملكا، فهو الملك المالك صاحب الملك التام. فأمّا المخلوق فالنقص لازم للكلّ.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 26]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
وهذا ردّ عليهم حيث قالوا: إنّ الملائكة شفعاؤنا عند الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
هذه التّسمية من عندهم، وهم لا يتبعون فيها علما أو تحقيقا.. بل ظنّا- والظنّ لا يفيد شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 29 الى 30]
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
أي أعرض عمّن أعرض عن القرآن والإيمان به وتدبّر معانيه، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
__________
(1) لا تنفع شفاعة أحد إلا إذا أذن الله.. فإذا كانت الملائكة مع كثرتها وقربها من الله لا تصلح الشفاعة إلا بإذن من الله- فكيف تصلح هذه الأصنام الشفاعة؟!(3/486)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
ذلك مبلغهم من العلم وإنما رضوا بالدنيا لأنهم لم يعلموا حديث الآخرة، وإنّ ربّك عليم بالضالّ، عليم بالمهتدي ... وهو يجازى كلّا بما يستحق.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 31]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
يجزى الذين أساءوا بالعقوبات، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 32]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
الذنوب كلّها كبائر لأنها مخالفة لأمر الله، ولكنّ بعضها أكبر من بعض. ولا شىء أعظم من الشّرك. «وَالْفَواحِشَ» المعاصي.
«إِلَّا اللَّمَمَ» : تكلموا فيه، وقالوا: إنه استثناء منقطع، واللمم ليس بإثم ولا من جملة الفواحش.
ويقال: اللمم من جملة الفواحش ولكن فيها اشتباها- فأخبر أنه يغفرها.
ويقال: اللمم هو أن يأتى المرء ذلك ثم يقلع عنه بالتوبة.
وقال بعض السّلف: هو الوقعة من الزّنا تحصل مرة ثم لا يعود إليها، وكذلك شرب الخمر، والسرقة.. وغير ذلك، ثم لا يعود إليها.
ويقال: هو أن يهم بالزّلّة ثم لا يفعلها.
ويقال: هو النّظر. ويقال: ما لا حدّ عليه من المعاصي، وتكفّر عنه الصلوات.
(والأصحّ أنه استثناء منقطع وأن اللمم ليس من جملة المعاصي) «1» .
قوله جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.(3/487)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
«إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» : يعنى خلق آدم.
ويقال: تزكية النّفس من علامات كون المرء محجوبا عن الله لأنّ المجذوب إلى الغاية والمستغرق في شهود ربّه لا يزكّى نفسه «1» .
«هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» : لأنه أعلم بكم منكم.
ويقال: من اعتقد أنّ على البسيطة أحدا شرّ منه فهو متكبّر.
ويقال: المسلم يجب أن يكون بحيث يرى كلّ مسلم خيرا منه فإن رأى شيخا، قال:
هو أكثر منّى طاعة وهو أفضل منّى، وإن رأى شابا قال: هو أفضل منى لأنه أقلّ منّى ذنبا.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 34]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34)
أعرض عن الحقّ، وتصدّق بالقليل. «وَأَكْدى» أي قطع عطاءه.
[سورة النجم (53) : آية 35]
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
«فَهُوَ يَرى» : فهو يعلم صحّة ذلك. يقال: هو المنافق الذي يعين على الجهاد قليلا ثم يقطع ذلك:
«أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ» : فهو يرى حاله في الآخرة؟
[سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) .
__________
(1) قارن ذلك بقول النسفي في ذكر المرء لطاعته: «.. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر» النسفي ج 4 ص 198. ونظن أن في عبارة النسفي شيئا يستحق التصويب: فالأولى أن يقال: وهذا إذا كان على سبيل الاعتراف بالنعمة- لا على سبيل الإعجاب أو الرياء- فإنه جائز..(3/488)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
أم لم ينبّأ هذا الكافر بما في صحف موسى، وصحف إبراهيم الذي وفّى أي أتمّ ما طولب به في نفسه وماله وولده.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 38 الى 41]
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
الناس في سعيهم مختلفون فمن كان سعيه في طلب الدنيا خسرت صفقته، ومن كان سعيه في طلب الجنة ربحت صفقته، ومن كان سعيه في رياضة نفسه وصل إلى رضوان الله، ومن كان سعيه في الإرادة شكر الله سعيه ثم هداه إلى نفسه.
وأمّا المذنب- فإذا كان سعيه في طلب غفرانه، وندم القلب على ما اسودّ من ديوانه، فسوف يجد من الله الثواب والقربة والكرامة والزلفة.
ومن كان سعيه في عدّ أنفاسه مع الله لا يعرّج على تقصير، ولا يفرّط في مأمور فسيرى جزاء سعيه مشكورا في الدنيا والآخرة، ثم يشكره بأن يخاطبه في ذلك المعنى بإسماعه كلامه من غير واسطة: عبدى، سعيك مشكور، عبدى، ذنبك مغفور.
«ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» : هو الجزاء الأكبر والأجلّ، جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 42]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
إليه المرجع والمصير، فابتداء الأشياء من الله خلقا، وانتهاء الأشياء إلى الله مصيرا.
ويقال: إذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فاسكتوا.
ويقال: إذا وصل العبد إلى معرفة الله فليس بعده شىء إلا ألطافا من مال أو منال أو تحقيق آمال أو أحوال.. يجريها على مراده- وهي حظوظ للعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 43]
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43)
أراد به الضحك والبكاء المتعارف عليهما بين الناس فهو الذي يجريه ويخلقه.(3/489)
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
ويقال: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.
ويقال: أضحك أهل الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار.
ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافر في الدنيا وأبكاه في الآخرة.
ويقال: أضحكهم في الظاهر، وأبكاهم بقلوبهم.
ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة بغفرانه، وأبكى الكافر بهوانه.
ويقال: أضحك قلوب العارفين بالرضا، وأبكى عيونهم بخوف الفراق.
ويقال: أضحكهم برحمته، وأبكى الأعداء بسخطه.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 44]
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44)
أماته في الدنيا، وأحياه في القبر فالقبر إما للراحة وإما للإحساس بالعقوبة.
ويقال: أماته في الدنيا، وأحياه في الحشر.
ويقال: أمات نفوس الزاهدين بالمجاهدة، وأحيا قلوب العارفين بالمشاهدة.
ويقال: أمات نفوسهم بالمعاملات، وأحيا قلوبهم بالمواصلات.
ويقال: أماتها بالهيبة، وأحياها بالأنس.
ويقال: بالاستتار، والتجلّى.
ويقال: بالإعراض عنه، والإقبال عليه.
ويقال: بالطاعة، والمعصية.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 45]
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45)
سماهما زوجين لازدواجهما عند خلقهما من النّطفة.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 48]
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48)
«أَغْنى» : أعطى الغنى، «أَقْنى» : أكثر القنية أي المال. وقيل «أَقْنى» :
أي أحوجه إلى المال- فعلى هذا يكون المعنى: أنه خلق الغنى والفقر.(3/490)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
ويقال: «أَقْنى» أي أرضاه بما أعطاه «1» .
ويقال: «أَغْنى» أي أقنع، «وَأَقْنى» : أي أرضى.
[سورة النجم (53) : آية 49]
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
(الشّعرى: كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها فأعلم الله أنه ربّ معبودهم هذا) «2» .
[سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 52]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
عاد الأولى هم قوم هود، وعاد الأخرى هي إرم ذات العماد، كما أهلك ثمودا فما أبقى منهم أحدا. وأهلك من قبلهم قوم نوح الذين كانوا أظلم من غيرهم وأغوى لطول أعمارهم، وقوة أجسادهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 53 الى 54]
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
أي المخسوف بها، وهي قرى قوم لوط، قلبها جبريل عليهم، فهى مقلوبة معكوسة.
وقوله: «أَهْوى» أي: أسقطها الله إلى الأرض بعد ما اقتلعها من أصلها، ثم عكسها وألقاها في الأرض، فغشاها ما غشاها من العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 55]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)
فبأى آلاء ربك- أيها الإنسان- تتشكك؟ وقد ذكر هذا بعد ما عدّ إنعامه عليهم وإحسانه إليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : آية 56]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) .
__________
(1) أننى: من معانيها أرضى- كما ورد في أكثر المعاجم.
(2) ما بين القوسين إضافة من جانبنا اعتمادا على كتب التفاسير، وهي غير موجودة في نص القشيري.
ولكننا أردنا إضافتها لنلفت النظر إلى خاطرة تراودنا.. أليس هناك ارتباط بين افتتاحية السورة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وبين هذه النهاية؟. عابدون ومعبودون يهوون ويتساقطون ويهلكون ... أبعد هذا أيها الإنسان تتشكك في أن هذا النذير صلوات الله عليه لم يأت بدعا؟!(3/491)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
هو محمد صلى الله عليه وسلم، أرسلناه نذيرا كما أرسلنا الرّسل الآخرين.
[سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
أي قربت القيامة. ولا يقدر أحد على إقامتها إلا الله، وإذا أقامها فلا يقدر أحد على ردّها وكشفها إلا الله.
ويقال: إذا قامت قيامة هذه الطائفة- اليوم- فليس لها كاشف غيره. وقيامتهم تقوم فى اليوم غير مرّة. نقوم بالهجر والنّوى والفراق.
قوله جل ذكره:
[سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 61]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
أفمن هذا القرآن تعجبون، وتكونون في شكّ، وتستهزئون؟
[سورة النجم (53) : آية 62]
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
: أي لاهون..
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا: فاسجدوا لله ولا تعبدوا سواه «1» .
__________
(1) عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال: « ... فسجد رسول الله (ص) وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف» (البخاري ج 3 ص 130) .(3/492)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
سورة القمر
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة بها نور القلوب والأبصار، وبعرفانها يحصل سرور الأرواح والأسرار.
كلمة تدلّ على جلاله- الذي هو استحقاقه لأوصافه. كلمة تدل على نعته الذي هو غاية أفضاله وألطافه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
أجمع أهل التفسير على أنّ القمر قد انشقّ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود «2» : «رأيت حراء بين فلقتى القمر» ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك فقد روى أيضا عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم.. كلهم رووا هذا الخبر.
وفيه إعجاز من وجهين: أحدهما رؤية من رأى ذلك، والثاني خفاء مثل ذلك على من لم يره لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفى كان نقض العادة.
وأهل مكة رأوا ذلك، وقالوا: إنّ محمدا قد سحر القمر.
ومعنى «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» : أي ما بقي من الزمان إلى القيامة إلا قليل بالإضافة إلى ما مضى.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 2 الى 3]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
__________
(1) يسميها البخاري: سورة «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» .
(2) عن يحيى بن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله (ص) : اشهدوا.
وعن قتادة عن أنس قال: انشق القمر فرقتين.
وعن مجاهد عن أبى معمر عن عبد الله قال: انشق القمر ونحن مع النبي (ص) فصار فرقتين. فقال لنا: اشهدوا اشهدوا. (البخاري ح 3 ص 130) .
وقد جاء في النسفي: قال ابن مسعود رضى الله عنه «رأيت حراء بين فلقتى القمر» (النسفي ص 201) .(3/493)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
يعنى أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها، ولو نظروا لحصل لهم العلم واجبا.
«سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» : أي دائم قويّ شديد.. (ويقال إنهم قالوا: هذا ذاهب لا تبقى مدته) «1» فاستمر: أي ذهب.
«وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» : التكذيب واتباع الهوى قريبان فإذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله يلبّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر «2» الرشد.
أما اتباع الرضا فمقرون بالتصديق لأنّ الله ببركات اتباع الحقّ يفتح عين البصيرة فيحصل التصديق.
وكلّ امرئ جرت له القسمة والتقدير فلا محالة يستقر له حصول ما قسم وقدّر له.
«وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» : يستقر عمل المؤمن فتوجب له الجنة، ويستقر عمل الكافر فيجازى.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
جاءهم من أخبار الأنبياء والأمم الذين من قبلهم والأزمنة الماضية ما يجب أن يحصل به الارتداع، ولكنّ الحقّ- سبحانه- أسبل على بصائرهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد.
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ..» : بدل من (ما) فيما سبق: (ما فيه مزدجر) .
والحكمة البالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها.
«فَما تُغْنِ النُّذُرُ» : وأي شىء يغنى إنذار النذير وقد سبق التقدير لهم بالشقاء؟
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(2) هكذا في ص. وهي في م (لا يستبشر) ، والأصوب ما أثبتنا.(3/494)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 7]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» : هاهنا تمام الكلام- أي فأعرض عنهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
ثم استأنف الكلام: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ... » والجواب: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» - أراد به يوم القيامة.
ومعنى «نُكُرٍ» : أي شىء ينكرونه (بهوله وفظاعته) «1» وهو يوم البعث والحشر.
وقوله: «خُشَّعاً» منصوب على الحال، أي يخرجون من الأجداث- وهي القبور- خاشعى الأبصار.
[سورة القمر (54) : آية 8]
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفرقهم، «مُهْطِعِينَ» : أي مديمى النظر إلى الداعي- وهو إسرافيل.
«يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» : لتوالى الشدائد التي فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 11]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
كذب قوم نوح نبيّهم، وقالوا: إنه مجنون، وزجروه وشتموه.
وقيل: «ازْدُجِرَ» : أي استطار عقله، أي قوم نوح قالوا له ذلك.
فدعا ربّه فقال: إنى مغلوب أي بتسلّط قومى عليّ فلم يكن مغلوبا بالحجّة لأنّ الحجّة كانت عليهم، فقال نوح لله: اللهمّ فانتصر منهم أي انتقم.
__________
(1) ما بين القوسين توضيح من جانبنا غير موجود في النص. [.....](3/495)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
ففتحنا أبواب السماء بماء منصبّ، وشققنا عيونا بالماء، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدّر في اللوح المحفوظ، وقدر عليه بإهلاكهم! وفي التفاسير: أن الماء الذي نبع من الأرض نضب. والماء الذي نزل من السماء هو البخار اليوم.
[سورة القمر (54) : آية 13]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
وحملنا نوحا على «ذاتِ أَلْواحٍ» أي سفينة، «وَدُسُرٍ» يعنى المسامير وهي جمع دسار أي مسمار.
[سورة القمر (54) : آية 14]
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)
«بِأَعْيُنِنا» : أي بمرأى منّا. وقيل: تجرى بأوليائنا.
ويقال: بأعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهم.
ويقال: بأعين الماء الذي أنبعناه من أوجه الأرض.
«جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» : أي الذين كفروا بنوح «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 15]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
جعلنا أمر السفينة علامة بيّنة لمن يعتبر بها.
«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» : فهل منكم من يعتبر؟. أمرهم بالاعتبار بها «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 16]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
قالها على جهة التعظيم لأمره.
وقد ذكر قصة نوح هنا على أفصح بيان وأقصر كلام وأتمّ معنى «3» .
__________
(1) يرى بعض المفسرين أن (الذي كفر) هو نوح عليه السلام لأنه مكفور به، فكل نبى رحمة لأمته، فكان نوح رحمة مكفورة.
(2) أي أن الاستفهام- بلغة البلاغيين- قد خرج عن معناه الأصلى إلى الأمر.
(3) كأن القشيري يريد أن يوضح تعليلا (لتكرار) قصة نوح. ونحن نعلم أن القشيري لا يستريج تماما لفكرة القول بالتكرار في القرآن.(3/496)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
وكان نوح- عليه السلام- أطول الأنبياء عمرا، وأشدّهم للبلاء مقاساة ثم إن الله- سبحانه- لما نجّى نوحا متّعه بعد هلاك قومه ومتع أولاده، فكلّ من على وجه الأرض من أولاد نوح عليه السلام. وفي هذا قوة لرجاء أهل الدين، إذا لقوا في دين الله محنة فإنّ الله يهلك- عن قريب- عدوّهم، ويمكّنهم من ديارهم وبلادهم، ويورثهم ما كان إليهم.
وكذلك كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وسنة الله في جميع أهل الضلال أن يعزّ أولياءه بعد أن يزهق أعداءه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته.
ويقال: كاشف الأرواح من قوم- بالقرآن- قبل إدخالها في الأجساد.
«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» لهذا العهد الذي جرى لنا معه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 20]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
كذّبوا هودا، فأرسلنا عليهم «رِيحاً صَرْصَراً» أي: باردة شديدة الهبوب، يسمع لها صوت.
«فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» أي: فى يوم شؤم استمرّ فيه العذاب بهم، ودام ذلك فيهم ثمانية أيام وسبع ليال. وقيل: دائم الشؤم تنزع رياحه الناس عن حفرهم التي حفروها م (32) لطائف الإشارات- ج 3-(3/497)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
حتى صاروا كأنهم أسافل نخل منقطع. وقيل: كانت الريح تقتلع رءوسهم عن مناكبهم ثم تلقى بهم كأنهم أصول نخل قطعت رءوسها.
[سورة القمر (54) : آية 22]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
هوّنا قراءته وحفظه فليس كتاب من كتب الله تعالى يقرأ ظاهرا إلّا القرآن.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 24]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)
هم قوم صالح. وقد مضى القول فيه، وما كان من عقرهم للناقة.. إلى أن أرسل الله عليهم صيحة واحدة أوجبت هذا الهلاك، فصيّرهم كالهشيم، وهو اليابس من النبات، «الْمُحْتَظِرِ» : أي: المجعول في الحظيرة، أو الحاصل في الخطيرة «1» ..
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 34 الى 37]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
فأرسلنا عليهم «حاصِباً» : أي: حجارة رموا بها.
«كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ» : أي: جعلنا إنجاءهم في إهلاك أعدائهم.
وهكذا نجزى من شكر فمثل هذا نعامل به من شكر نعمتنا.
والشّكر على نعم الدفع أتمّ من الشكر على نعم النفع- ولا يعرف ذلك إلا كلّ موفّق كيّس.
«فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ»
__________
(1) يقصد القشيري أنها قد تقرأ بفتح الظاء وبكسرها.(3/498)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
جاء جبريل ومسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا «1» للخروج- وكذلك أجرى سنّته في أوليائه أن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ثم يخلّصهم من كيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 45]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقّق ذلك يوم بدر، فصار ذلك من معجزاته صلوات الله عليه وسلامه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 48]
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
سحبهم على الوجوه أمارة لإذلالهم، ولو كان ذلك مرة واحدة لكانت عظيمة- فكيف وهو التأبيد والتخليد؟!.
وكما أنّ أمارة الذّلّ تظهر على وجوههم فعلامة إعزاز المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم، قال تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» «3» . وقال: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «4» » .
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
أي بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ.
ويقال: خلقناه بقدر ما علمنا وأردنا وأخبرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
أي إذا أردنا خلق شىء لا يتعسّر ولا يتعذّر علينا، نقول له: كن- فيكون
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (لم يتمكنوا) .
(2) عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم- فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك فخرج وهو يقول:
سيهزم الجمع ويولون الدبر (البخاري ج 3 ص 131) .
(3) آية 22 سورة القيامة.
(4) آية 24 سورة المطففين.(3/499)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
بقدرتنا. ولا يقتضى هذا استئناف «1» قول في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القديم أن يكون أمرا لذلك المكون إنما يحصل في ذلك الوقت.
«كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» : أي كما أن هذا القدر عندكم (أي قدر ما يلمح أحدكم ببصره) لا تلحقكم به مشقة- كذلك عندنا: إذا أردنا نخلق شيئا- قل أو كثر، صغر أو كبر- لا تلحقنا فيه مشقة.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
أي أهلكنا القرون التي كانت قبلكم فكلّهم أمثالكم من بنى آدم ...
[سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
فى اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يعمله «2» . وفي صحيفة الملائكة مكتوب. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
[سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
كلّ صغير من الخلق، وكلّ كبير من الخلق- تخترمه المنيّة.
ويقال: كلّ صغير من الأعمال وكبير مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي ديوان الملائكة.
وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هو على جهة التخويف لئلا يتجاسر العبد على الزّلّة إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) .
__________
(1) هكذا في م- وهى- فى ص (استيفاء) وكلاهما يمكن أن يتقبله السياق. على معنى أن قوله القديم «كُنْ» لا (يستأنف) عند خلق الحدث. وعلى معنى أنّه لا يشترط أن يستوفى خلق الحدث الأمر بكن اكتفاء بقوله القديم- والله أعلم.
(2) هكذا في وهى ص أصوب في السياق من (يعلمه) التي جاءت في م لأن ما (فعلوه) التي في الآية تؤدى إلى ذلك.(3/500)
لهم بساتين وأنهار، والجمع إذا قوبل بالجمع فالآحاد تقابل بالآحاد.
فظاهر هذا الخطاب يقتضى أن يكون لكل واحد من المتقين جنة ونهر.
«فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» : أي في مجلس صدق.
«عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» : أراد به عنديّة القربة والزلفة.
ويقال: مقعد الصدق أي مكان الصدق، والصادق في عبادته من لا يتعبّد على ملاحظة الأطماع ومطالعة الأعواض.
ويقال: من طلب الأعواض هتكته الأطماع، ومن صدق في العبوديّة تحرّر عن المقاصد الدّنيّة.
ويقال: من اشتغل بالدنيا حجبته الدنيا عن الآخرة، ومن أسره نعيم الجنة حجب عن القيام بالحقيقة، ومن قام بالحقيقة شغل عن الكون بجملته «1» .
__________
(1) أرباب الحقيقة لا تشغلهم فكرة الثواب والعقاب على النحو المألوف عند العابدين بنفوسهم. فجنّتهم الكبرى هي رؤيهم لمحبوبهم، ولهم في ذلك أقوال كثيرة شعر أو نثرا.. من ذلك:
قول أبى على الروذبارى:
من لم يكن بك فانيا عن حبه ... وعن الهوى والأنس بالأحباب
أو تيمة صبابة جمعت له ... ما كان مفترقا من الأسباب
فكأنه بين المراتب واقف ... لمنال حظّ أو لحسن مآب
ويقول الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة. ويقول يحيى بن معاذ:
إن ذا الحب لمن يفنى له ... لا لدار ذات لهو وطرف
لا ولا الفردوس- لا يألفها- ... لا ولا الحوراء من فوق غرف
ويقول أحدهم:
كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون الجنان حظّا جزيلا
ليس لى في الجنان النار رأى ... أنا لا أبتغى بحبي بديلا
(انظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص 195، ص 196) .(3/501)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
سورة الرّحمن
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن عزّه وعظمته.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن فضله ورحمته.
فبشهود عظمته يكمل سرور الأرواح، وبوجود رحمته يحصل نعيم الأشباح. ولولا عظمته لما عبد الرحمن عابد ولولا رحمته لما أحبّ الرحمن واحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
أي الرحمن الذي عرفه الموحّدون وجحده الكافرون هو الذي علّم القرآن. ويقال:
الرحمن الذي رحمهم، وعن الشّرك عصمهم، وبالإيمان أكرمهم، وكلمة التقوى ألزمهم- هو الذي عرّفهم بالقرآن وعلّمهم.
ويقال: انفرد الحقّ بتعليم القرآن لعباده.
ويقال: أجرى الله تعالى سنّته أنه إذا أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم شيئا «1» أشرك أمّته فيه «2» على ما يليق بصفاتهم فلمّا قال له - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
«3» .
قال لأمته: «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ» .
ويقال: علّم الله آدم الأسماء كلّها ثم أمره بعرضها على الملائكة وذكر آدم ذلك لهم- قال تعالى: «أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» يا آدم، وعلّم (نبيّنا صلى الله عليه وسلم) «4»
__________
(1) (شيئا) غير موجودة في م. وموجودة في ص- والسياق يقوى بها.
(2) هكذا في ص وهي في م (فيه أمته) .
(3) «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» آية 113 سورة النساء. [.....]
(4) ما بين القوسين إضافة من جانبنا ليتضح السياق.(3/502)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
المسلمين «1» القرآن فقال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، والمصلّى مناج ربّه» قال لآدم: أذكر ما علّمتك للملائكة. وقال لنا: ناجنى يا عبدى بما علّمتك «2» . وقد يلاطف مع أولاد الخدم بما لا يلاطف به آباؤهم.
ويقال: لمّا علّم آدم أسماء المخلوقات قال له: أخبر الملائكة بذلك، وعلّمنا كلامه وأسماءه فقال: اقرؤوا علىّ وخاطبوا به معى.
ويقال: علّم الأرواح القرآن- قبل تركيبها في الأجساد بلا واسطة «3» ، والصبيان إنما يعلّمون القرآن- فى حال صغرهم- قبل أن عرفت أرواحنا أحدا، أو سمعنا من أحد شيئا.. علّمنا أسماءه:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا
ويقال: سقيا لأيام مضت- وهو يعلّمنا القرآن.
ويقال: برحمته علّمهم القرآن فبرحمته وصلوا إلى القرآن- لا بقراءة القرآن يصلون إلى رحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
«الْإِنْسانَ» : هاهنا جنس الناس علّمهم البيان حتى صاروا مميّزين «4» - فانفصلوا بالبيان عن جميع الحيوان. وعلّم كلّ قوم لسانهم الذي يتكلمون ويتخاطبون به.
والبيان ما به تبين المعاني- وشرحه في مسائل الأصول.
ويقال: لمّا قال أهل مكة إنما يعلّمه بشر ردّ الله- سبحانه- عليهم وقال: بل علّمه الله فالإنسان على هذا القول هو محمد صلى الله عليه وسلّم. وقيل هو آدم عليه السلام.
ويقال: البيان الذي خصّ به الإنسان (عموما) يعرف به كيفية مخاطبة الأغيار من الأمثال والأشكال. وأمّا أهل الإيمان والمعرفة فبيانهم هو علمهم كيفية مخاطبة مولاهم- وبيان
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (المسلمون) وهي خطأ في النسخ.
(2) أنظر كتابنا (البسملة بين أهل العبارة وأهل الإشارة) ورأينا في معنى (الرحمن) .
(3) إشارة إلى يوم الذرّ.
(4) بتشديد الياء وفتحها على معنى أن البيان علامة تميزهم عن سائر الحيوان، وبكسرها على معنى أن البيان.
وسيلة انفرد بها الإنسان التعبير عمّا تكنه نفسه للتمييز بين الأشياء.(3/503)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
العبيد مع الحقّ مختلف: فقوم يخاطبونه بلسانهم، وقوم بأنفاسهم، وقوم بدموعهم:
دموع الفتى عمّا يحسّ تترجم ... وأشواقه تبدين ما هو يكتم
وقوم بأنينهم وحنينهم:
قل لى بألسنة التنفّس كيف أنت وكيف حالك؟
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 5]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)
يعنى يجرى أمرهما على حدّ معلوم من الحساب في زيادة الليل والنهار، وزيادة القمر ونقصانه، وتعرف بجريانهما الشهور والأيام والسنون والأعوام. وكذلك لهما حساب إذا انتهى ذلك الأجل.. فالشمس تكوّر والقمر ينكدر.
وكذلك لشمس «1» المعارف وأقمار العلوم- فى طلوعها في أوج «2» القلوب والأسرار- فى حكمة الله حساب معلوم، يجريها على ما سبق به الحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 6]
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)
ويقال: النجم من الأشجار: ما ليس له ساق «3» ، والشجر: ماله ساق.
ويقال: النجوم الطالعة والأشجار الثابتة «يَسْجُدانِ» سجود دلالة على إثبات الصانع بنعت استحقاقه للجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 7]
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
سمك السماء وأعلاها، وعلى وصف الإتقان والإحكام بناها، والنجوم فيها أجراها، وبثّ فيها كواكبها، وحفظ عن الاختلال مناكبها، وأثبت على ما شاء مشارقها ومغاربها..
وخلق الميزان بين الناس ليعتبروا الإنصاف في المعاملات بينهم.
ويقال: الميزان العدل.
[سورة الرحمن (55) : آية 8]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)
__________
(1) هكذا بالمفرد في م وهي في ص بالجمع (شموس) ونرجح أنها بالمفرد حسبما نعرف من أسلوب القشيري فشمس الحقائق واحدة إذا طلعت غطّى نورها أقمار العلوم.
(2) هكذا في ص وهي أصوب مما جاء في م (روح) فلا معنى لهاهنا.
(3) لأنه ينجم عن الأرض بلا ساق مثل البقول (النسفي ح 4 ص 207) .(3/504)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
احفظوا العدل في جميع الأمور فى حقوق الآدميين وفي حقوق الله، فيعتبر العدل، وترك الحيف ومجاوزة الحدّ في كل شىء ففى الأعمال يعتبر الإخلاص، وفي الأحوال الصدق، وفي الأنفاس الحقائق ومساواة الظاهر والباطن وترك المداهنة والخداع والمكر ودقائق الشّرك وخفايا النفاق وغوامض الجنايات.
[سورة الرحمن (55) : آية 9]
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
(وأقيموا الوزن بالمكيال الذي تحبون أن تكالوا به، وعلى الوصف الذي ترجون أن تنالوا به مطعمكم ومشربكم دون تطفيف) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 10 الى 12]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12)
خلق الأرض وجعلها مهادا ومثوى للأنام.
ويقال: وضعها على الماء وبسط أقطارها، وأنبت أشجارها وأزهارها، وأجرى أنهارها وأغطش ليلها وأوضح نهارها.
«فِيها فاكِهَةٌ ... » يعنى ألوان الفاكهة المختلفة في ألوانها وطعومها وروائحها ونفعها وضررها، وحرارتها وبرودتها.. وغير ذلك من اختلاف في حبّها وشجرها، وورقها ونورها.
«وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» وأكمام النخل ليفها وما يغطّيها من السّعف.
«وَالْحَبُّ» : حبّ الحنطة والشعير والعدس وغير ذلك من الحبوب.
«ذُو الْعَصْفِ» : والعصف ورق الزرع «2»
__________
(1) ما بين القوسين مضطرب في النص حاولنا تنظيمه ليعطى معنى.
(2) قال الضحاك: العصف التين، وقال بعضهم العصف هو المأكول من الحب، والريحان النضيج الذي لم يؤكل. وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت تسميه النبط هبورا. وقال بعضهم: العصف ورق الحنطة.
(البخاري ح 3 ص 131) . وسميت الرياح عواصف لأنها تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه.(3/505)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
«وَالرَّيْحانُ» الذي يشمّ.. ويقال: الرزق لأن العرب تقول: «خرجنا نطلب ريحان الله» ذكّرهم عظم منّته عليهم مما خلق من هذه الأشياء التي ينتفعون بها من مأكولات ومشمومات وغير ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 13]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
فبأى آلاء ربكما تجحدان؟ والآلاء النّعماء.
والتثنية في الخطاب للمكلّفين من الجنّ والإنس.
ويقال: هى على عادة العرب في قولهم: خليليّ، وقفا، وأرخلاها باغلام، وأزجراها باغلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 14]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
«الْإِنْسانَ» : يعنى آدم، والصلصال الطين اليابس الذي إذا حرّك صوّت كالفخار.
ويقال: طين مخلوط بالرمل.
ويقال: منتّن من قولهم صلّ وأصلّ إذا تغيّر.
[سورة الرحمن (55) : آية 15]
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)
المارج: هو اللهب المختلط بواد النار
[سورة الرحمن (55) : آية 16]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
يذكّر الخلق من الجن والإنس كما سبق- وكرّر الله سبحانه هذه الآية في غير موضع على جهة التقرير بالنعمة على التفصيل، أي نعمة بعد نعمة.
ووجه النعمة في خلق آدم من طين أنه رقاه إلى رتبته بعد أن خلقه من طين.
ويقال ذكّر آدم نسبته وذكّرنا نسبتنا لئلا نعجب بأحوالنا.
ويقال عرّفه قدره لئلا يتعدّى «1» طوره.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (لا يعدو) .(3/506)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
«الْمَشْرِقَيْنِ» : مشرق الصيف ومشرق الشتاء وكذلك مغربيهما.
ووجه النعمة في ذلك جريانهما على ترتيب واحد حتى يكمل انتفاع الخلق بهما.
ويقال: مشرق القلب ومغربه، وشوارق القلب وغواربه إنما هي الأنوار والبصائر التي جرى ذكر بعضها فيما مضى.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 20]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)
«بَرْزَخٌ» أي حاجز بقدرته لئلا يغلب أحدهما الآخر، أراد به البحر العذب والبحر الملح. ويقال: لا يبغيان على الناس ولا يغرقانهم.
[سورة الرحمن (55) : آية 22]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22)
اللؤلؤ: كبار الدرّ، والمرجان: صغار الدّرّ. ويقال: المرجان النّسل.
وفي الإشارة: خلق في القلوب بحرين: بحر الخوف وبحر الرجاء. ويقال القبض والبسط وقيل الهيبة «1» والأنس. يخرج منها اللؤلؤ والجواهر وهي الأحوال الصافية واللطائف المتوالية.
ويقال: البحران. إشارة إلى النفس والقلب، فالقلب هو البحر العذب والنفس هي البحر الملح. فمن بحر القلب كلّ جوهر ثمين، وكلّ حالة لطيفة.. ومن النفس كل خلق ذميم «2» . والدرّ من أحد البحرين يخرج، ومن الثاني لا يكون إلا التمساح مما لا قدر له من سواكن القلب. «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» : يصون الحقّ هذا عن هذا، فلا يبغى هذا على هذا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 24]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)
«الجوارى» : واحدها جارية، وهي السفينة.
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب أمّا في ص فهى (الهيبط) وهي خطأ في النسخ.
(2) النفس عند الصوفية محلّ المملولات والقلب محل المحمودات.(3/507)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
«كَالْأَعْلامِ» : الجبال (له هذه السفن التي أنشئت وخلقت في البحر كأنها الجبال العالية) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 27]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)
كل من على وجه الأرض في حكم الفناء من حيث الجواز. ومن حيث الخبر: ستفنى الدنيا ومن عليها ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. و «الوجه» : صفة لله- سبحانه- لم يدلّ عليه العقل قطعا ودلّ عليه جوازا، وورد الخبر بكونه قطعا.
ويقال: فى بقاء الوجه بقاء الذات، لأن الصفة لا تقوم بنفسها، ولا محالة شرطها قيامها بنفسه وذاته. وفائدة تخصيص الوجه «2» بالذكر أن ما عداه يعرف بالعقل، والوجه لا يعلم بالعقل، وإنما يعرف بالنقل والأخبار. و «يَبْقى» : وفي بقائه. سبحانه خلف عن كلّ تلف «3» ، وتسلية للمسلمين عمّا يصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 29]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
أهل السماوات يسألون أبدا المغفرة، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة، أي لا بدّ لأحد منه (سبحانه) .
وفي السماوات والأرض من لا يسأله: وهم من قيل فيهم: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين «4» .
ويقال: ليس كلّ من في السماوات والأرض يسألونه ممّا في السماوات والأرض ولكن:
بين المحبين سرّ ليس يغشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه
__________
(1) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة بالنسخة ص. [.....]
(2) سقطت لفظة (الوجه) من النسخة م.
(3) هكذا في م وهي في ص (تالف) وهي صحيحة ولكن السياق والموسيقى الداخلية تتأكد ب (تلف) .
(4) «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» رواه البخاري في التاريخ، والبزار فى المسند، والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب.(3/508)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
«كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» من إحياء وإماتة، وقبض قوم وبسط قوم.. وغير ذلك من فنون أقسام المخلوقات، وما يجريه عليها من اختلاف الصفات.
وفي الآية ردّ على اليهود حيث قالوا: إنّ الله يستريح يوم السبت لا يفعل شيئا، فأخبر أنه كل يوم هو في شأن، ولو أخلى العالم لحظة من حفظه لتلاشى وبطل.
(ومن شأنه أن يغفر ذنبا، ويستر عيبا، ويذهب كربا) «1» ، ويطيّب قلبا، ويقصى عبدا ويدنى عبدا ... إلى غير ذلك من فنون الأفعال. وله مع عباده كلّ ساعة برّ جديد، وسرّ «2» بينه وبين عبده- عن الرقباء- بعيد.
ويقال: كل يوم هو في شأن سوق المقادير إلى أوقاتها.
ويقال: كل يوم هو في شأن إظهار مستور وستر ظاهر، وإحضار غائب وتغييب حاضر.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 31]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31)
«3» أي للحساب يوم القيامة- وليس به اشتغال ... تعالى الله عن ذلك.
ومعنى الآية: سنقصد لحسابكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 33]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
أقطار السماوات والأرض نواحيها. أي إن قدرتم أن تخرجوا من ملكه فاخرجوا.
__________
(1) هذا الرأى أيضا لأبى الدرداء (البخاري ح 3 ص 131) .
(2) هكذا في م، أما في ص فهى (يسر) وقد رجحنا الأولى لأن (السر) يكون بعيدا عن الرقباء.
(3) (الثقلان) الإنس والجن سميّا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.(3/509)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
ثم قال: «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» . أي لا تصلون إلى موضع إلا وهناك سلطانى وملكى ولا تنفذون في قطر إلا وهناك عليكم حجة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 35]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
أي فلا تنتقمان. والشواظ: اللهب من النار لا دخان معه. والنحاس: الصّفر «2» المذاب قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 37]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)
ينفكّ بعضها عن بعض وتصير في لون الورد الأحمر. ويقال: بها الفرش الموردة كالدهان وهو جمع دهن. أي كدهن الزيت وهو دردى الزيت.
ويقال: كما أن الوردة يتلّون لونها إذ تكون في الربيع إلى الصّفرة، فإذا اشتدت الوردة كانت حمراء، وبعد ذلك إلى الغبرة- فكذلك حال السماء تتلون من وصف إلى وصف فى القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 39]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)
أراد في بعض أحوال «3» القيامة لا يسألون، ويسألون في البعض ... فيوم القيامة طويل.
ويقال: لمّا كانت لهم يومئذ علامات: فللكفار سواد الوجه وزرقة العين، وللمسلمين بياض الوجه وغير ذلك من العلامات- فالملائكة لا يحتاجون إلى سؤالهم: من أنتم؟ لأنهم يعرفون كلّا بسيماهم.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (وجهه) . فإذا قبلنا (حجة) فيكون المعنى أنكم أينما توجهتم في بقاع السماوات والأرض فستجدون دائما برهانا على وحدانية الله، وشاهدا على ربوبيته. وإذا قبلنا (وجهه) فهى على معنى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ (وَجْهُ) اللَّهِ» .
(2) الصفر- النحاس الأصفر.
(3) أحوال القيامة هنا بمعنى مواطن القيامة في ذلك اليوم الطويل. وربما كانت (أهوال) .(3/510)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)
ويقال: لا يسألون سؤالا يكون لهم ويسألون «1» سؤالا يكون عليهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 41]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
المؤمنون غرّ محجّلون، والكفّار سود الوجوه زرق العيون، فيعرف الملائكة هؤلاء فيأخذون بنواصيهم، ويجرّونهم مرة بها ومرة بأقدامهم ثم يلقونهم في النار، ويطرحونهم فى جهنم:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 43 الى 44]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون! «حَمِيمٍ» : ماء حارّ. «آنٍ» تناهى في النضج قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 46]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46)
يقال: لمن خاف قرب ربّه منه واطلاعه عليه.
ويقال: لمن خاف وقوفه غدا بين يدى الله- جنتان، ولفظة التثنية هنا على العادة في قولهم:
خليليّ ونحوه.
وقيل: بل جنتان على الحقيقة، معجّلة في الدنيا من حلاوة الطاعة وروح «3» الوقت، ومؤجّلة في الآخرة وهي جنة الثواب. ثم هم مختلفون في جنات الدنيا على مقادير أحوالهم كما يختلفون في الآخرة على حسب درجاتهم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 50]
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
دلّ على أن الجنتين في الآخرة. والأفنان الأغصان. وهي جمع فنن.
__________
(1) سقطت (ويسألون) هذه من م وموجودة في ص وهي ضرورية.
(2) هذه المحاولات التي بذلها القشيري مقصود منها- حسبما نظن- التوفيق بين هذه الآية وبين آيات أخرى مثل: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» ومثل «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» .
ومن قبيل هذه المحاولات قول قتادة: ختم الله على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
(3) هكذا في م وهي في ص (بروح) .(3/511)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
ويقال: ذواتا ألوان من كلّ صنف ولون تشتهيه النّفس والعين- وتكون جمع فن.
«فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل.
ويقال: عينان تجريان غدا لمن كان له- اليوم- عينان تجريان بالدموع.
[سورة الرحمن (55) : آية 52]
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52)
زوجان أي صنفان وضربان كالرطب واليابس، والعنب والزبيب.
ويقال: إنها في نهاية الحسن والجودة.
[سورة الرحمن (55) : آية 54]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)
بطائنها من إستبرق فكيف بظهائرها؟. «والبطائن» : مايلى الأرض. «والاستبرق» :
الديباج الغليظ. وإنما خاطبهم على قدر فهمهم إذ يقال إنه ليس في الجنة شىء مما يشبه ما في الدنيا، وإنما الخطاب مع الناس على قدر أفهامهم «1» .
«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» : أي ما يجتنى من ثمرها- إذا أرادوه- دنا إلى أفواههم فتناولوه من غير مشقّة تنالهم. وفي الخبر المسند: «من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله له شجرة في الجنة أصلها الذهب وفرعها الدر وطلعها كثدى الأبكار ألين من الزبد وأحلى من العسل، كلما أخذ منها شيئا عاد كما كان» - وذلك قوله: ودنا الجنتين دان.
ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 56]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56)
أي في الجنان حور قصرن عيونهن عن غير أزواجهن.
وإذا كانت الزوجات قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن فأولى بالعبد إذ رجا لقاءه- سبحانه- أن يقصر طرفه ويغضّه عن غير مباح.
__________
(1) هذا رأى على جانب كبير من الأهمية يوضح مدى تصور القشيري لنعيم الجنة وابتعادها عن المحسات.(3/512)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
بل عن الكلّ ... إلى أن يلقاه.
ويقال: من الأولياء من لا ينظر إليهن- وإن أبيح له ذلك لتحرّره عن الشهوات، ولعلوّ همته عن المخلوقات «1» - وأنشدوا:
جننّا بليلى وهي جنّت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ويقال: هنّ لمن قصرت يده عن الحرام والشبهة، وطرفه عن الرّيب.
«لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» : لم يصحبهن غير الوليّ ولم يحزن غيره، وفي الخبر.
اشتاقت الجنة لثلاثة «2» .
[سورة الرحمن (55) : آية 58]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
أي: فى صفاء الياقوت ولون المرجان.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 60]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
يقال: الإحسان الأول من الله والثاني من العبد أي: هل جزاء من أحسنّا إليه بالنصرة إلّا أن يحسن لنا بالخدمة؟ وهل جزاء من أحسنّا إليه بالولاء إلا أن يحسن لنا بالوفاء؟.
ويصح أن يكون الإحسان الأول من العبد والثاني من الله أي: هل جزاء من أحسن من حيث الطاعة إلا أن يحسن إليه من حيث القبول والثواب؟.
وهل جزاء من أحسن من حيث الخدمة إلا أن يحسن إليه من حيث النعمة؟
ويصح أن يكون الإحسانان من الحقّ أي: هل جزاء من أحسنّا إليه في الابتداء إلا أن نحسن إليه في الانتهاء؟ وهل جزاء من فاتحناه باللّطف إلا أن نربى له في الفضل والعطف؟.
__________
(1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري في موضوع «الرخصة» . [.....]
(2) إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: على وعمار وسلمان.
(الترمذي عن أنس، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أبى ربيعة الأيادى. وقد حسّن الترمذي حديثه. قاله الحافظ الهيثمي) وترجح أن الموضع الصحيح للخبر هو بعد النص الشعرى السابق، ونرجح أيضا أن السبب في استشهاد القشيري بهذا الخبر هنا هو إثبات اشتياق الجنة لأهل الخصوص، بينما هؤلاء الزهاد الثلاثة لا أرب لهم في الدارين، لأنهم باقون بربّهم.
م (33) لطائف الإشارات- ج 3-(3/513)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
ويصحّ أن يكون كلاهما من العبد أي: هل جزاء من آمن بنا إلّا أن يثبت في المستقبل على إيمانه؟ وهل جزاء من عقد معنا عقد الوفاء إلا أن يقوم بما يقتضيه بالتفصيل؟.
ويقال: هل جزاء من بعد عن نفسه إلّا أن نقرّبه منّا؟
وهل جزاء من فنى عن نفسه إلّا أن يبقى بنا؟.
وهل جزاء من رفع لنا خطوة إلّا أن نكافئه بكل خطوة ألف حظوة، وهل جزاء من حفظ لنا طرفه إلا أن نكرمه بلقائنا؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 64]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64)
هما جنتان غير هاتين اللتين ذكرتا جنتان أخريان. وليس يريد دونهما في الفضل، ولكن يريد «جَنَّتانِ» سواهما «1» .
«مُدْهامَّتانِ» أي: خضراوان خضرة تضرب إلى السواد. فالدهمة السواد»
والفعل منه ادهامّ والاسم منه مدهامّ، وللمؤنث مدهامّة، ولتثنية المؤنث مدهامتان.
[سورة الرحمن (55) : آية 66]
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
والنّضخ فوران العين بالماء.
[سورة الرحمن (55) : آية 68]
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
الأسماء متشابهة ... والعيون «3» فلا.
[سورة الرحمن (55) : آية 70]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70)
__________
(1) قارن ذلك برأى النسفي الذي يقول: هما جنتان من دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين وهما لمن دونهم من أصحاب اليمين وفي موضع آخر من الصفحة ذاتها يقول النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين لأن مدهامتان دون (ذواتا أفنان) ونضاختان دون (تجريان) وفاكهة (دون كل فاكهة) (النسفي ح 4 ص 213) .
(2) هذا رأى الخليل أيضا.
(3) ربما يقصد القشيري (والأعيان) فهذا هو الاصطلاح المألوف استعماله في علمى الفلسفة والكلام- بل إن القشيري نفسه يستعمله في مثل هذا الموضع. والمقصود أن القرآن يتحدث عن نعيم الجنة حسب أفهام الناس، ولكن الأعيان غير الأسماء.(3/514)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
أي: حور خيّرات الأخلاق حسان الوجوه. واحدها خيّرة والجمع خيّرات وهذا هو الأصل ثم خفّف فصارت خيرات.
[سورة الرحمن (55) : آية 72]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72)
محبوسات على أزواجهن. وهنّ لمن هو مقصور الجوارح عن الزّلّات، مقصور القلب عن الغفلات، مقصور السّرّ عن مساكنة الأشكال والأعلال والأشباه والأمثال.
وفي بعض التفاسير: أن الخيمة من درّة مجوفة فرسخ في فرسخ لها ألف باب «1» .
ويقال: قصرت أنفسهن وقلوبهن وأبصارهن على أزواجهن. وفي الخبر: أنهن يقلن: نحن الناعمات «2» . فلا نبؤس، الخالدات فلا نبيد، الراضيات فلا نسخط.
وفي خبر عن عائشة رضى الله عنها: أن المؤمنات أجبنهنّ: نحن المصليات وما صلّيتنّ، ونحن الصائمات وما صمتنّ، ونحن المتصدّقات وما تصدّقتنّ، قالت عائشة يغلبهن قوله.
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «3» قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 76]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
قيل: رياض الجنة، وقيل: المجالس، وقيل: الزرابيّ والوسائد- وهي خضر «وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» : العبقري عند العرب كلّ ثوب موشّى.
قوله جل ذكره:
[سورة الرحمن (55) : آية 78]
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
مضى تفسيره.
__________
(1) حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد: حدثنا أبو عمران الجونى عن أبى بكر بن عبد الله ابن قيس عن أبيه: أن رسول الله (ص) قال: إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون.. البخاري ح 3 ص 132. وذكر ابن جرير الطبري أن الخيمة لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (ح 27 ص 84) .
(2) «نحن الناعمات فلا نبؤس أبدا، نحن الخالدات فلا نموت أبدا ... » رواه الترمذي عن على، وقال:
حديث غريب. ورواه البيهقي وأبو نعيم عن أبى أوفى في صفة الجنة، وذكره السراج في اللمع ص 345.
(3) الطمث: الجماع بالتدمية.(3/515)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
سورة الواقعة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جبّار من اعتنى بشأنه أحضره بإحسانه، فإن أبى إلّا تماديا في عصيانه حال بينه وبين اختياره «1» بقهر سلطانه، وإن لم يلازم هذه «2» الطاعة ألجأه بالبلاء فيأتيها باضطراره.
اسم عزيز أزليّ، جبّار صمديّ، قهّار أحديّ، للمؤمنين وليّ، وبالعاصين حفيّ، ليس لجماله كفيّ، ولا في جلاله سميّ، لكنه «3» للعصاة من المؤمنين وليّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2)
إذا قامت القيامة لا يردّها شىء.
«كاذِبَةٌ» هاهنا مصدر: كالعافية، والعاقبة، أي: هى حقّة لا يردها شىء، وليس فى وقوعها كذب.
ويقال: إذا وقعت الواقعة فمن سلك منهاج الصحة والاستقامة وصل إلى السلامة ولقى الكرامة، ومن حاد عن نهج الاستقامة وقع في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق:
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممّن تباكى
[سورة الواقعة (56) : آية 3]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (إحسانه) .
(2) هكذا في م وهي في ص (شدة) الطاعة.
(3) هكذا في م، وفي ص توجد كلمة غير واضحة الكتابة.(3/516)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
«خافضة» : لأهل الشقاوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الوفاق.
«خافِضَةٌ» : لأصحاب الدعاوى، «رافِعَةٌ» : لأرباب المعاني.
«خافِضَةٌ» : للنفوس، «رافِعَةٌ» : للقلوب.
«خافِضَةٌ» : لأهل الشهوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الصفوة.
«خافِضَةٌ» : لمن جحد، «رافِعَةٌ» : لمن وحّد.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : آية 4]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
حرّكت حركة شديدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 5 الى 6]
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
فتّتت فكانت كالهباء الذي يقع في الكوّة عند شعاع الشمس.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 10]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
«ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» ؟ على جهة التفخيم لشأنهم والتعظيم لقدرهم، (وهم أصحاب اليمن والبركة والثواب) «1» .
«ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» : على جهة التعظيم والمبالغة في ذمّهم، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم ويقال:
أصحاب الميمنة هم الذين كانوا في جانب اليمين من آدم عليه السلام يوم الذّرّ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا على شماله.
__________
(1) موجود في ص وغير موجود في م.(3/517)
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
ويقال: الذين يعطون الكتاب بأيمانهم، والذين يعطون الكتاب بشمائلهم.
(ويقال: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين.. إلى الجنة، والذين يؤخذ بهم ذات الشمال..
إلى النار) «1» .
«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» : وهم الصف الثالث. وهم السابقون إلى الخصال الحميدة، (والأفضال الجميلة) «2» .
ويقال: السابقون إلى الهجرة. ويقال: إلى الإسلام. ويقال: إلى الصلوات الخمس.
ويقال: السابقون بصدق القدم. ويقال: السابقون بعلوّ الهمم. ويقال: السابقون إلى كل خير. ويقال السابقون المتسارعون إلى التوبة من الذنوب فيتسارعون إلى النّدم إن لم يتسارعوا بصدق القدم.
ويقال: الذين سبقت لهم من الله الحسنى فسبقوا إلى ما سبق إليه:
[سورة الواقعة (56) : آية 11]
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
ولم يقل: المتقرّبون، بل قال: أولئك المقرّبون- وهذا عين الجمع، فعلم الكافة أنهم بتقريب ربّهم سبقوا- لا بتقرّبهم «3» .
[سورة الواقعة (56) : آية 12]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
أي: فى الجنة «4» . ويقال: مقربون إلا من الجنة فمحال أن يكونوا في الجنة ثم يقرّبون من الجنة، وإنما يقرّبون إلى غير الجنة: يقرّبون من بساط القربة ...
وأنّى بالبساط ولا بساط؟! مقربون.. ولكن من حيث الكرامة لا من حيث المسافة مقرّبة نفوسهم من الجنة وقلوبهم إلى الحقّ.
مقرّبة قلوبهم من بساط المعرفة، وأرواحهم من ساحات الشهود- فالحقّ عزيز..
لا قرب ولا بعد، ولا فصل ولا وصل.
__________
(1) موجودة في م وغير موجود في ص.
(2) موجود في م وغير موجود في ص.
(3) هذه إشارة إلى أن العمل الإنسانى- وحده- لا يعوّل عليه إذا قيس بالفضل الإلهى. [.....]
(4) يتحدث القشيري هنا في ضوء حالى الفرق والجمع.(3/518)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
ويقال: مقربون ولكن من حظوظهم ونصيبهم. وأحوالهم- وإن صفت- فالحقّ وراء الوراء.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
الثّلة: الجماعة. ويقال: ثلة من الأولين الذين شاهدوا أنبياءهم وقليل من الآخرين الذين شاهدوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
ويقال: ثلّة من الأولين: من السلف وقليل من المتأخرين: من الأمة.
[سورة الواقعة (56) : آية 15] «1»
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
أي منسوجة نسيج الدرع من الذهب. جاء في التفسير: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، إن أراد الجلوس عليه تواضع، وإن استوى عليه ارتفع.
[سورة الواقعة (56) : آية 16]
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
أي لا يرى بعضهم قفا بعض. وصفهم بصفاء المودة وتهذّب الأخلاق.
[سورة الواقعة (56) : آية 17]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
يطوف عليهم وهم مقيمون لا يبرحون ولدان في سنّ واحدة ... لا يهرمون.
وقيل: مقرّطون (الخلدة. القرط)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 18 الى 20]
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
«بِأَكْوابٍ» جمع كوب وهي آنية بلا عروة ولا خرطوم، «وَأَبارِيقَ» : جمع إبريق وهو عكس الكوب (أي له خرطوم وعروة) .
ولا صداع لهم في شربهم إياها، كما لا تذهب عقولهم بسببها.
ولهم كذلك فاكهة مما يتخيرون،
[سورة الواقعة (56) : الآيات 21 الى 24]
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، أي: المصون، جزاء بما كانوا يعملون.
__________
(1) وضن الثوب نسجه بالجوهر، فهو واضن وهي واضنة والمفعول موضون.(3/519)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
اللغو: الباطل من القول، والتأثيم: الإثم والهذيان ولا يسمعون إلا قيلا سلاما، وسلاما: نعت للقيل.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 29]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
«وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ» : لا شوك فيه،
[سورة الواقعة (56) : آية 30]
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
: والطلح شجر الموز، متراكم نضيد بعضه على بعض.
«وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» كما بين الإسفار «1» إلى طلوع الشمس «2» . وقيل: ممدود أي دائم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 31 الى 37]
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37)
«وَماءٍ مَسْكُوبٍ» : جار لا يتعبون فيه.
«وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» : لا مقطوعة عنهم ولا ممنوعة منهم.
«وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» لهم. وقيل: أراد بها النساء «3» .
«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي الحور العين.
«عُرُباً» : جمع عروب «4» وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها. ويقال عربا: أي متشهّيات إلى أزواجهن.
«أَتْراباً» : جمع ترب، أي: هنّ على سنّ واحدة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
«لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» : أي خلقناهن لأصحاب اليمين.
«ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» : أي: ثلة من أولى هذه الأمة، وثلة من أخراها.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 43]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
: والسّموم فيح جهنم وحرّها.
والحميم: الماء الحار.
__________
(1) طلوع الفجر أو الصبح.
(2) سقطت (الشمس) من م.
(3) لأن المرأة يكنى عنها بالفراش.
(4) جاء عند البخاري: عروب مثل: صبور يسميها أهل مكة: العربة وأهل المدينة: الغنجة، وأهل العراق: الشّكلة (البخاري ح 3 ص 132) .(3/520)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 44 الى 47]
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
«وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» ، وهو الدّخان الأسود.
«لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» : لا بارد: أي لا راحة فيه. ولا كريم: ولا حسن لهم (حيث لا نفع فيه) .
«إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» : أي: كانوا في الدنيا ممتّعين.
«وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» أي الذّنب العظيم.
«وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أي: أنهم يكذّبون بالبعث.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 52]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)
ثم يقال لهم: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ» اليوم «لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وجاء في التفسير: أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طرح الكافر في جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفا.
[سورة الواقعة (56) : آية 53]
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 54 الى 55]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
«فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ» شراب لا تهنأون به «فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» : وهي الإبل العطاش. ويقال: الهيم أي الرّمل ينضب فيه كلّ ما يصبّ عليه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 56 الى 57]
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57)
«هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» : يوم القيامة.
قوله جل ذكره: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» نحن خلقناكم: يا أهل مكة- فهلّا آمنتم لتتخلصوا؟ توبّخون وتعاتبون ... واليوم تعتذرون! ولكن لا ينفعكم ذلك ولا يسمع منكم شىء.
وإن أشدّ العقوبات عليهم يومئذ أنهم لا يتفرّغون من آلام نفوسهم وأوجاع أعضائهم إلى التحسّر على مافاتهم في حقّ الله.
ويقال: أشدّ البلاء- اليوم- على قلوب هذه الطائفة «1» خوفهم من أن يشغلهم- غدا- بمقاساة آلامهم عن التحسّر على ما تكدّر عليهم من المشارب في هذا الطريق. وهذه محنة لا شىء أعظم على الأصحاب منها. وإنّ أصحاب القلوب- اليوم- يبتهلون إليه ويقولون: إن
__________
(1) يقصد الصوفية.(3/521)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
حرمتنا مشاهد الأنس فلا تشغلنا بلذّات تشغلنا عن التحسّر على ما فاتنا، ولا بآلام تشغلنا عن التأسّف على ما عدمنا منك.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 58 الى 59]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
يقال: منى الرجل وأمنى. والمعنى: هل إذا باشرتم وأنزلتم وانعقد الولد ... أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ والخلق هاهنا: التصوير أي: أأنتم تجمعون صور المولود وتركّبون أعضاءه.. أم نحن؟
وهم كانوا يقرّون بالنشأة الأولى فاحتجّ بهذا (على جواز النشأة الأخرى عند البعث الذي كانوا ينكرونه. وهذه الآية أصل فى) «1» إثبات الصانع فإن أصل خلقة الإنسان من قطرتين: قطرة من صلب الأب وهو المنى وقطرة من تريبة الأم «2» ، وتجتمع القطرتان في الرّحم فيصير الولد. وينقسم الماء ان المختلطان إلى هذه الأجزاء التي هي أجزاء الإنسان من العظم والعصب والعرق والجلد والشّعر.. ثم يركبها على هذه الصور في الأعضاء الظاهرة وفي الأجزاء الباطنة حيث يشكّل كل عضو بشكل خاص، والعظام بكيفية خاصة.. إلى غير ذلك.
وليس يخلو: إمّا أن يكون الأبوان يصنعانه- وذلك التقدير محال لتقاصر علمهما وقدرتهما عن ذلك وتمنّيهما الولد ثم لا يكون، وكراهتهما الولد ثم يكون! والنّطفة أو القطرة محال تقدير فعلها في نفسها على هذه الصورة لكونها من الأموات بعد، ولا علم لها ولا قدرة.
أو من غير صانع.. وبالضرورة يعلم أنه لا يجوز.
فلم يبق إلّا أن الصانع القديم الملك العليم هو الخالق «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 60 الى 61]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) .
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(2) تريبة الأم عظمة الصدر والجمع ترائب.
(3) هذا نموذج طيب يصوّر طريقة القشيري متكلما.(3/522)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
يكون الموت في الوقت الذي يريده منكم من يموت طفلا ومنكم من يموت شابّا، ومنكم من يموت كهلا، وبعلل مختلفه وبأسباب متفاوتة وفي أوقات مختلفة.
«وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» فى تقديرنا فيقوتنا شىء ولسنا بعاجزين عن أن نخلق أمثالكم، ولا بعاجزين عن تبديل صوركم التي تعلمون إن أردنا مسخكم وتبديل صوركم فلا يمنعنا عن ذلك أحد.
ويقال: وننشئكم فيما لا تعلمون من حكم السعادة والشقاوة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : آية 62]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
أي: أنتم أقررتم بالنشأة الأولى.. فهلّا تذكّرون لتعلموا جواز الإعادة إذ هي في معناها «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 64]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
أي: إذا ألقيتم الحبّ في الأرض.. أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وكذلك وجوه الحكمة في إنبات الزّرع، وانقسام الحبّة الواحدة على الشجرة النابتة منها (فى قشرها ولحائها وجذعها وأغصانها وأوراقها وثمارها) «3» - كل هذا:
[سورة الواقعة (56) : آية 65]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
لو نشاء لجعلناه حطاما يابسا بعد خضرته، فصرتم تتعجبون وتندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، ثم تقولون:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 66 الى 67]
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أي: لملزمون غرامة ما أنفقنا في الزّرع، وقد صار ذلك غرما علينا- فالمغرم من ذهب إنفاقه بغير عوض.
__________
(1) وضع هذا السطر في مكان تال بعد (فى معناها) فنقلناه إلى موصعه الصحيح.
(2) أي أن الإعادة لا تفترق في شىء عن الخلق الأول.
(3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.(3/523)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
«بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» بل نحن محرومون بعد أن ضاع منّا الرزق.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
أأنتم أنزلتموه من السحاب.. أم نحن ننزله متى نشاء أنّى نشاء كما نشاء على من نشاء وعلى ما نشاء؟ ونحن الذين نجعله مختلفا في الوقت وفي المقدار وفي الكيفية، فى القلّة وفي الكثرة.
ولو نشاء لجعلناه ملحا.. أفلا تشكرون عظيم نعمة الله- سبحانه- عليكم في تمكينكم من الانتفاع بهذه الأشياء التي خلقها لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 الى 73]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
ورى الزّند يرى فهو وار ... وأوراه يوريه أي يقدحه.
يعنى: إذا قدحتم الزند.. أرأيتم كيف تظهر النار- فهل أنتم تخلقون ذلك؟
أأنتم أنشأتم شجرتها- يعنى المرخ والعفار «1» - أم نحن المنشئون؟
«نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً» : أي يمكن الاستدلال بها.
«وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» : يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقواء أي: الأرض الخالية.
فالمعنى: أن هذه النار «تَذْكِرَةً» يتذكّر بها الإنسان ما توعده به في الآخرة من نار جهنم، و «مَتاعاً» : يستمتع بها المسافر في سفره في وجوه الانتفاع المختلفة.
__________
(1) المرخ: شجر ينفرش ويطول في السماء ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى يتقدح به.
والعفار: شجيرة من الفصيلة الأريكية لها ثمر لبّى أحمر، ويتخذ منها الزناد فيسرع الورى. وفي أمثال العرب:
«فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» . [.....](3/524)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : آية 74]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أي: اسبح بفكرك في بحار عقلك، وغص بقوة التوحيد فيها تظفر بجواهر العلم، وإيّاك أن تقصّر في الغوص لسبب أو لآخر، وإياك أن تتداخلك الشّبه فيتلف رأس مالك ويخرج من يدك وهو دينك واعتقادك ... وإلّا غرقت في بحار الشّبه، وضللت.
وهذه الآيات «1» التي عدّها الله- سبحانه- تمهّد لسلوك طريق الاستدلال، فكما فى الخبر «فكر ساعة خير من عبادة سنة» - وقد نبّه الله سبحانه بهذا إلى ضرورة التفكير.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
قيل: هى مواقع نجوم السماء. ويقال: مواقع نجوم القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم.
«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» : والكرم نفى الدناءة- أي: أنه غير مخلوق «2» ويقال: هو «قرآن كريم» : لأنه يدل على مكارم الأخلاق.
ويقال هو قرآن كريم لأنه من عند ربّ كريم على رسول كريم، على لسان ملك كريم. «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» : يقال: فى اللوح المحفوظ. ويقال: فى المصاحف. وهو محفوظ عن التبديل. «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» عن الأدناس والعيوب والمعاصي.
__________
(1) إذا تدبرنا هذه الآيات ألفينا القرآن يخاطب العقل الإنسانى بالتدبر في ثلاثة أشياء: الغذاء والماء والنار، وبدون الثلاثة لا تقوم الحياة ولا تنتظم.
(2) هذه إحدى الأفكار الخطيرة التي اشتجر حولها الخلاف بين الأشاعرة الذين يقولون: (القرآن غير مخلوق) وبين المعتزلة الذي يقولون: إنه مخلوق.(3/525)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
ويقال: هو خبر فيه معنى الأمر: أي لا ينبغى أن يمسّ المصحف إلا من كان متطهرا من الشّرك ومن الأحداث «1» .
ويقال: لا يجد طعمه وبركته إلّا من آمن به.
ويقال: لا يقربه إلّا الموحّدون، فأمّا الكفّار فيكرهون سماعه فلا يقربونه.
وقرئ المطهّرون: أي الذين يطهّرون نفوسهم عن الذنوب والخلق الدّنيّ.
ويقال: لا يمس خيره إلّا من طهّر يوم القسمة عن الشقاوة.
ويقال: لا يفهم لطائفة إلّا من طهّر سرّه عن الكون «2» .
ويقال: المطهّرون سرائرهم عن غيره.
ويقال: إلا المحترمون له القائمون بحقّه.
ويقال: إلا من طهّر بماء السعادة ثم بماء الرحمة «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : أي منزّل من قبله- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
أبهذا القرآن أنتم تنافقون، وبه تكذّبون.
«وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ... » : كانوا إذ أمطروا يقولون: أمطرنا بنوء كذا.
يقول: أتجعلون بدل إنعام الله عليكم بالمطر الكفران به، وتتوهمون أن المطر- الذي هو نعمة من الله- من الأنواء والكواكب؟!.
ويقال: أتجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن التكذيب؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) .
__________
(1) هى هنا جمع حدث أي النجاسة التي ترتفع بالوضوء أو الغسل أو التيمم.
(2) لنتذكر أن هذا الكتاب الذي وضعه القشيري هو لفهم (لطائف الإشارات) القرآنية، ولندرك رأيه فى سمات هذا اللون من التفسير وأهله.(3/526)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
يخاطب أولياء الميت «1» فيقول: هلّا إذا بلغت روحه الحلقوم، وأنتم تنظرون إلى هذا المريض، رجعتم إلى الله تعالى، وتحققتم به؟ فنحن أقرب إليه منكم بالعلم والرؤية والقدرة ...
ولكن لا تبصرون! ويقال: أقرب ما يكون العبد من الحقّ عند ما يتم استيلاء ذكره وشهوده عليه، فينتفى إحساس العبد بغيره، وعلى حسب انتفاء العلم والإحساس بالأغيار- حتى عن نفسه- يكون تحقّق العبد في سرّه حتى لا يرى غير الحقّ.
فالقرب والبعد معناهما: أنّ العبد في أوان صحوه وأنه لم يؤخذ- بعد- عن نفسه فإذا أخذ عنه فلا يكون إلا الحق ... لأنه حينئذ لا قرب ولا بعد.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 87]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
ليس لكم من أمر الموت شىء.
«تَرْجِعُونَها» أي: تردّون الروح إلى الجسد.
«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» : فى أنه لا بعث «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 89]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
المقرّبون هم الذين قرّبهم الله بفضله، فلهم «فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ» .
ويقال: الرّوح الاستراحة، والريحان الرزق.
وقيل: الرّوح في القبر، والريحان: فى الجنة.
__________
(1) فى م (البيت) وفي ص (الميت) وهذه هي الصواب.
(2) نشعر أن تفسير القشيري هنا مقتضب، ويلزم التوضيح: ترتيب الآية هو: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين.. أمّا نحن فنحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت.
أمّا أنتم.. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت والمبدئ المعيد؟!(3/527)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
ويقال: لا يخرج مؤمن من الدنيا حتى يؤتى بريحان من رياحين الجنة فيشمه قبل خروج روحه، فالرّوح راحة عند الموت، والريحان في الآخرة.
وقيل: كانت قراءة النبي (ص) «الروح» بضم الراء أي لهم فيها حياة دائمة.
ويقال: الرّوح لقلوبهم، والريحان لنفوسهم، والجنّة لأبدانهم.
ويقال: روح في الدنيا، وريحان في الجنة، وجنّة نعيم في الآخرة.
ويقال: روح وريحان معجّلان، وجنة نعيم مؤجلة.
ويقال: روح للعابدين، وريحان للعارفين، وجنّة نعيم لعوام المؤمنين.
ويقال: روح نسيم القرب، وريحان كمال البسط، وجنة نعيم في محل المناحاة.
ويقال: روح رؤية الله، وريحان سماع كلامه بلا واسطة، وجنة نعيم أن يدوم هذا ولا ينقطع.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 90 الى 91]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)
أن نخبرك بسلامة أحوالهم.
ويقال: سترى فيهم ما تحب من السلامة.
ويقال: أمان لك في بابهم فلهم السلامة. ولا تشغل قلبك بهم ويقال: فسلام لك- أيها الإنسان- إنك من أصحاب اليمين، أو أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 92 الى 94]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إن كان من المكذبين لله، الضالّين عن دين الله فله إقامة في الجحيم.(3/528)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
هذا هو الحق اليقين الذي لا محالة حاصل.
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» أي قدّس الله عمّا لا يجوز في وصفه.
ويقال: صلّ لله. ويقال: اشكر الله على عصمة أمّتك من الضّلال، وعلى توفيقهم فى اتّباع سنّتك.(3/529)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحديد
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
سماع بسم الله الرّحمن الرّحيم شراب يسقى به الحقّ- سبحانه وتعالى- قلوب أحبّائه، فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا انبسطوا «1» ، ثم لشهود حقّه «2» تعرّضوا، وبنسيم قربه استأنسوا «3» ، وعند الإحساس بهم غابوا.. فعقولهم تستغرق «4» فى لطفه، وقلوبهم تستهلك فى كشفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
التسبيح التقديس والتنزيه، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال، فيظفرون بجواهر التوحيد وينظمونها في عقود الإيمان، ويرصّعونها في أطواق الوصلة:
وقوله «ما» فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المراد به «من» فى السماوات والأرض، يسجدون لله طوعا وكرها طوعا تسبيح طاعة وعبادة، وكرها تسبيح علامة ودلالة.
وتحمل «ما» على ظاهرها فيكون المعنى: ما من مخلوق من عين أو أثر إلا ويدلّ على الصانع، وعلى إثبات جلاله، وعلى استحقاقه لنعوت كبريائه.
__________
(1) انبسطوا أي: ذاقوا حال البسط. ويصل العارف إلى القبض والبسط بعد حال الرجاء والخوف. والمبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء، ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شىء بحال من الأحوال (الرسالة ص 35) .
(2) شهود حق الله لا يتم إلا بعد اختفاء حظوظ العبد.
(3) من الأنس. سئل الجنيد عنه فقال: هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة. وسئل ذو النون عنه فقال:
هو انبساط المحب إلى المحبوب.
وسئل الشبلي عنه فقال: هو حشتك منه (التعرف للكلاباذى ص 126، 127) .
(4) ضبطناها هكذا مبنية للمجهول لأن المفروض أن شمس الحقيقة يستغرق نورها نجوم العقل.(3/530)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
ويقال: يسبح لله ما في السماوات والأرض، كلّ واقف على الباب بشاهد الطّلب ...
ولكنه- سبحانه عزيز «1» .
ويقال: ما تقلّب أحد من جاحد أو ساجد إلا في قبضة العزيز الواحد، فما يصرّفهم إلا من خلقهم فمن مطيع ألبسه نطاق وفاقه- وذلك فضله، ومن عاص ربطه بمثقلة الخذلان- وذلك عدله.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» : العزيز: المعزّ لمن طلب الوصول، بل العزيز: المتقدّس عن كل وصول ... فما وصل من وصل إلا حظّه ونصيبه وصفته على ما يليق به.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
الملك مبالغة من الملك، وهو القدرة على الإبداع، ولا مالك إلا الله. وإذا قيل لغيره:
مالك فعلى سبيل المجاز فالأحكام المتعلقة في الشريعة على ملك الناس صحيحة في الشرع، ولكنّ لفظ الملك فيها توسّع كما أن لفظ التيمم في استعمال التراب- عند عدم الماء- فى السفر مجاز، فالمسائل الشرعية في التيمم صحيحة، ولكن لفظ التيمم في ذلك مجاز.
«يُحْيِي وَيُمِيتُ» : يحيى النفوس ويميتها. ويحيى القلوب بإقباله عليها، ويميتها بإعراضه عنها.
ويقال: يحييها بنظره وتفضّله، ويميتها بقهره وتعزّزه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
«الْأَوَّلُ» : لاستحقاقه صفة القدم، و «الْآخِرُ» لاستحالة نعت العدم.
و «الظَّاهِرُ» بالعلو والرفعة، و «الْباطِنُ» : بالعلم والحكمة.
ويقال: «الْأَوَّلُ» فلا افتتاح لوجوده و «الْآخِرُ» فلا انقطاع لثبوته.
«الظَّاهِرُ» فلا خفاء في جلال عزّه، «الْباطِنُ» فلا سبيل إلى إدراك حقّه.
ويقال «الْأَوَّلُ» بلا ابتداء، و «الْآخِرُ» بلا انتهاء، و «الظَّاهِرُ» بلا خفاء، و «الْباطِنُ» بنعت العلاء وعزّ الكبرياء.
__________
(1) أي حلّت الصمدية أن يستشرف من ذاتيتها أحد.. فكل واقف بالباب على البساط.(3/531)
ويقال «الْأَوَّلُ» بالعناية، و «الْآخِرُ» بالهداية، و «الظَّاهِرُ» بالرعاية، و «الْباطِنُ» بالولاية.
ويقال: «الْأَوَّلُ» بالخلق، و «الْآخِرُ» بالرزق، و «الظَّاهِرُ» بالإحياء، و «الْباطِنُ» بالإماتة والإفناء.
قال تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» «1» .
ويقال: «الْأَوَّلُ» لا بزمان، و «الْآخِرُ» لا بأوان، و «الظَّاهِرُ» بلا اقتراب، و «الْباطِنُ» بلا احتجاب.
ويقال: «الْأَوَّلُ» بالوصلة، و «الْآخِرُ» بالخلّة، و «الظَّاهِرُ» بالأدلة، و «الْباطِنُ» بالبعد «2» عن مشابهة الجملة «3» .
ويقال: «الْأَوَّلُ» بالتعريف، «وَالْآخِرُ» بالتكليف، «وَالظَّاهِرُ» بالتشريف «وَالْباطِنُ» بالتخفيف «4» ويقال: «الْأَوَّلُ» بالإعلام، «وَالْآخِرُ» بالإلزام، «وَالظَّاهِرُ» بالإنعام «وَالْباطِنُ» بالإكرام.
ويقال: «الْأَوَّلُ» بأن اصطفاك «وَالْآخِرُ» بأن هداك، «وَالظَّاهِرُ» بأن رعاك، «وَالْباطِنُ» بأن كفاك.
ويقال «5» : من كان الغالب عليه اسمه «الْأَوَّلُ» كانت فكرته في حديث سابقته: بماذا سمّاه مولاه؟ وما الذي أجرى له في سابق حكمه؟ أبسعادته أم بشقائه؟.
__________
(1) آية 40 سورة الروم.
(2) سقط- (بالبعد) فى النسخة م وموجودة في ص
(3) المقصود (بالجملة) هنا جملة المخلوقات. [.....]
(4) هكذا في م وهي في ص (بالتحقيق) وهذه وإن كانت- صحيحة ألا أن السياق الموسيقى الذي جرى عليه المصنف يرجح (بالتخفيف) على معنى أنه علم ضعف عباده فلم يكلفهم فوق طاقتهم.
(5) هذه الفقرة هامة في بيان أن الصوفية حينما يتصدون لدراسة الأسماء والصفات يهتمون بالآداب والسلوك وكيف يتخلّق الصوفي بأخلاق الله ويتأدب بأسمائه أنظر مقدمة كتاب التحبير في التذكير تحقيق بسيونى) .(3/532)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الْآخِرُ» كانت فكرته فى: بماذا يختم له حاله؟ وإلام يصير ما له؟ أعلى التوحيد يخرج من دنياه أو- والعياذ بالله- فى النار غدا- مثواه؟
ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الظَّاهِرُ» فاشتغاله بشكر ما يجرى في الحال من توفيق الإحسان وتحقيق الإيمان وجميل الكفاية وحسن الرعاية.
ومن كان الغالب على قلبه اسمه «الْباطِنُ» كانت فكرته في استبهام أمره عليه فيتعثّر ولا يدرى.. أفضل ما يعامله به ربّه أم مكر ما يستدرجه به ربّه؟
ويقال: «الْأَوَّلُ» علم ما يفعله عباده ولم يمنعه علمه من تعريفهم، «وَالْآخِرُ» رأى ما عملوا ولم يمنعه ذلك من غفرانهم «وَالظَّاهِرُ» ليس يخفى عليه شىء من شأنهم، وليس يدع شيئا من إحسانهم «وَالْباطِنُ» يعلم ما ليس لهم به علم من خسرانهم ونقصانهم فيدفع «1» عنهم فنون محنهم وأحزانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
مضى الكلام في ذلك.
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ» أي ما يدخل فيها من القطر، والكنوز، والبذور، والأموات الذين يدفنون فيها، «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات وانفجار العيون وما يستخرج من المعادن.
«وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» .
من المطر والأرزاق. أو ما يأتى به الملائكة من القضاء والوحى.
«وَما يَعْرُجُ فِيها» .
أي وما يصعد إليها من الملائكة، وطاعات العباد، ودعوات الخلق، وصحف المكلّفين، وأرواح المؤمنين.
__________
(1) هنا إشارة لنعم الدفع أو المنع التي لا يفطن إليها الناس.(3/533)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
«وَهُوَ مَعَكُمْ» بالعلم والقدرة.
ويقال «1» : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» إذا دفن العبد فالله سبحانه يعلم ما الذي كان فى قلبه من إخلاص في توحيده، ووجوه أحزانه خسرانه، وشكّه وجحوده، وأوصافه المحمودة والمذمومة.. ونحو ذلك مما يخفى عليكم.
«وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات وفنون الأحوال العزيزة.
«وَما يَعْرُجُ فِيها» من أنفاس الأولياء إذا تصاعدت، وحسراتهم إذا علت.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 6]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
مضى معناه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
صدّقوا بالله ورسوله، وتصدّقوا «مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» بتمليككم ذلك وتصييره إليكم. والذين آمنوا منكم وتصدّقوا على الوجه الذي أمروا به لهم ثواب عظيم فإنّ ما تحويه الأيدى معرّض للزوال، فالسّعيد من قدّم في دنياه ماله في الآخرة عمارة حاله، والشقيّ من سار فيما له في الآخرة وبال مآله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 8]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) .
__________
(1) هذه الفقرة استدراك أثبته القشيري متأخرا عن موضعه الأصل قليلا.(3/534)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
أي شىء لكم في ترككم الإيمان بالله وبرسوله، وما أتاكم به من الحشر والنشر، وقد أزاح العلّة بأن ألاح لكم الحجّة، وقد أخذ ميثاقكم وقت الذّرّ، وأوجب عليكم ذلك بحكم الشّرع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 9]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
ليخرجكم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشكّ إلى نور اليقين.
وكذلك يريهم في أنفسهم من الآيات بكشوفات السّرّ وما يحصل به التعريف مما يجدون فيه النفع والخير فيخرجهم من ظلمات التدبير «1» إلى سعة فضاء التفويض، وملاحظة فنون جريان المقادير.
وكذلك إذا أرادت النّفس الجنوح إلى الرّخص والأخذ بالتخفيف «2» وما تكون عليه المطالبة بالأشقّ- فإن بادر إلى ما تدعوه الحقيقة إليه وجد في قلبه من النور ما يعلم به ظلمة هواجس النّفس «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
ما في أيديكم ميراثه لله، وعن قريب سينقل إلى غيركم ولا تبقون بتطاول أحمالكم. وهو بهذا يحثهم على الصدقة والبدار إلى الطاعة وترك الإخلاد إلى الأمل.. ثم قال:
«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً
__________
(1) أي ظلمات التدبير الإنسانى، والتعويل على النفس، فاعتماد الإنسان على تدبيره مجلبة لشقائه.. وأنيّ للطين أن يكون ذا تدبير؟!
(2) هكذا في م وهي الصواب أما (التحقيق) التي في ص فهى خطأ في النسخ لأن الأسير خاص جنوح إلى (التخفيف) كما نعلم
(3) يتفق هذا مع قول الرسول الكريم «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» .(3/535)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .
لا يستوى منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك. بل أولئك أعظم ثوابا وأعلى درجة من هؤلاء لأنّ حاجة الناس كانت أكثر إلى ذلك وكان ذلك أشقّ على أصحابه «1» .
ثم قال: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» إلّا أنّ فضيلة السّبق لهم، ولهذا قالوا:
السباق السباق قولا وفعلا ... حذّر النّفس حسرة المسبوق
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
المراد بالقرض الصدقة، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييبا لقلوبهم، فكأن المتصدّق وهو يقرض شيئا كالذى يقطع شيئا من ماله ليدفعه إلى المستقرض.
ويقال «يُقْرِضُ» أي يفعل فعلا حسنا، وأراد بالقرض الحسن هاهنا ما يكون من وجه حلال ثم عن طيب قلب، وصاحبه مخلص فيه، بلا رياء يشوبه، وبلا منّ على الفقير، ولا يكدّره تطويل الوعد، ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض.
ويقال: أن تقرضه وتقطع عن قلبك حبّ الدارين «2» ، ففى الخبر: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» «3» ومن لم يتحرّر من شىء فخروجه عنه تكلّف «4» .
__________
(1) لأن الإسلام لم يكن بعد. قد عز واستمكن وانتشر في الأرجاء.
(2) أي دون أن يكون قصدك على ما تفعل عوضا أو عرضا سواء في الدنيا أو في الآخرة إذ يكفى أن تعلم أي شرف لك أن: تقرض الله!!
(3) حدث الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدا بمن تعول» البخاري ح 3 ص 191 (كتاب النفقات) .
(4) هكذا في ص وهي في م «تكلف» كما أثبتنا لأن السياق يقتضى ذلك. وتوجد بعد (تكلف) عبارة منبهة فى الخط والمعنى، تشبه أن تكون: (وهو على من يصل إليه ربى به) .(3/536)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
وهو نور يعطى للمؤمنين والمؤمنات بقدر أعمالهم الصالحة، ويكون لذلك النور مطارح شعاع يمشون فيها والنور يسعى بين أيديهم، ويحيط جميع جهاتهم.
ويقال: «وَبِأَيْمانِهِمْ» كتبهم.
«بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ» أي بشارتكم اليوم- من الله جنات. وكما أن لهم في العرضة هذا النور فاليوم لهم في قلوبهم وبواطنهم نور يمشون فيه، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن ينظر بنور الله» وقال تعالى: «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «1» .
وربما ينبسط ذلك النور على من يقرب منهم. وربما يقع من ذلك على القلوب قهرا- ولأوليائه- لا محالة- هذه الخصوصية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
انتظرونا فنلحق بكم لنقتبس من نوركم. وذلك لأن المؤمنين والمنافقين يعطون كتبهم وهم في النور، فإذا مرّوا ... انطفأ النور أمام المنافقين وسبق المؤمنون، فيقول المنافقون للمؤمنين: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم. فيقول المؤمنون:
«قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» أي إلى الدنيا وأخلصوا! - تعريفا لهم أنهم كانوا منافقين في الدنيا.
ويقال: ارجعوا إلى حكم الأزل فاطلبوا «2» هذا من القسمة! - وهذا على جهة ضرب المثل والاستبعاد.
__________
(1) آية 22 سورة الزمر.
(2) هكذا في ص وهي في م (قاطلعوا) وقد آثرنا الأولى لأنها آكد في الاستبعاد- وهو المقصود.(3/537)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
«فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» .
«بسور: وهو جبل أصحاب الأعراف، يستر بينهم وبين المنافقين، فالوجه الذي يلى المؤمن فيه الرحمة وفي الوجه الآخر العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 14]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
ألم نكن معكم في الدنيا في أحكام الإيمان في المناكحة والمعاشرة؟.
قالوا: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم ...
«وَتَرَبَّصْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .
تربصتم عن الإخلاص، وشككتم، وغرّكم الشيطان، وركنتم إلى الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 15]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
النار مأواكم ومصيركم ومتقلبكم.
وهى «مَوْلاكُمْ» أي هي أولى بكم، وبئس المصير! ويقال: مخالفة الضمائر والسرائر لا تنكتم بموافقة الظاهر «1» ، والأسرار لا تنكتم عند الاختبار قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
__________
(1) السياق حديث عن المنافقين وعن الكفار.. وأراد القشيري أن ينقل هذا السياق إلى الجو الصوفي فوجه تحذيره لأرباب الرياء والدعوى، أولئك الذين يظنون أنهم إن تصاهروا بالقيام بموافقة الشريعة وموافقة القوم فإن الأسرّة سريعا ما تكشف السريرة- على حد تعبير، فى موضع مماثل. [.....](3/538)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
ألم يحن للذين آمنوا أن تتواضع قلوبهم وتلين لذكر الله وللقرآن وما فيه من العبر؟
وألا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل؟ وأراد بهم اليهود، وكثير من اليهود فاسقون كافرون.
وأراد بطول الأمد الفترة التي كانت بين موسى ونبيّنا صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر:
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم ملالة فقالوا: لو حدّثتنا.
فأنزل الله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ... » فبعد مدّة قالوا:
لو قصصت علينا! فأنزل الله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ... » فبعد مدة قالوا: لو ذكّرتنا ووعظتنا! فأنزل الله تعالى هذه السورة.
وفي هذه الآية ما يشبه الاستبطاء.
وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفوة لا تجتمعان فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة. وموجب القسوة هو انحراف القلب عن مراقبة الربّ. ويقال: موجب القسوة أوّله خطرة فإن لمّ تتدارك صارت فكرة وإن لّم تتدارك صارت عزيمة، فإن لم تتدارك جرت المخالفة، فإن لم تتدارك بالتلافى صارت قسوة وبعدئذ تصير طبعا ورينا «1» قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
يحيى الأرض بعد موتها بإنزال المطر عليها وإخراج النّبت منها.
__________
(1) ران الثوب رينا أي تطبع وتدنّس، ورانت النفس أي خبثت وغشت. (الوسيط) .(3/539)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
ويحيى القلوب الميتة- بعد إعراض الحقّ عنها- بحسن إقباله عليها «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 18]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
أي المتصدقين والمتصدقات.
«وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» : يعنى في النوافل.
«يُضاعَفُ لَهُمْ» فى الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها.. إلى ما شاء الله «وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» : ثواب كبير حسن. والثواب الكريم أنّه لا يضن بأقصى الأجر على الطاعة- وإن قلّت.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
الصدّيقون: مبالغة في الصدق، والشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فالمؤمنون بمنزلة الصديقين والشهداء- لهم أجرهم في الجنة ونورهم في القيامة.
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» .
والصدّيق من استوى ظاهره وباطنه.
ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشقّ، ولا ينزل إلى الرّخص، ولا يجنح للتأويلات.
والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة، «وَنُورُهُمْ» : ما كحل الحقّ به بصائرهم من أنوار التوحيد.
__________
(1) كان المفروض أن تكون العبارة هكذا.
(ويحى القلوب الميتة بعد إعراضه عنها) .
فأستعمال (الحق) فى الإضافة مسألة لهم أرباب القلوب المتحققين الفانين عن الخلق الباقين بالحق.(3/540)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
الحياة الدنيا معرّضة للزوال، غير لابثة ولا ماكثة، وهي في الحال شاغلة عن الله، مطمعة «1» وغير مشبعة، وتجرى على غير سنن الاستقامة كجريان لعب «2» الصبيان، فهى تلهى عن الصواب واستبصار الحقّ، وهي تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
«كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» .
الكفار: الزّرّاع.
هو في غاية الحسن ثم يهيج فتراه يأخذ في الجفاف، ثم ينتهى إلى أن يتحطّم ويتكسّر.
«وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ» .
لأهله من الكفّار.
«وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» .
لأهله من المؤمنين.
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .
الدنيا حقيرة- وأحقر منها قدرا طالبها وأقلّ منه خطرا المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر. وأخس أهل الدنيا من بخل بها.
وهذه الدنيا المذمومة هي التي تشغل العبد عن الآخرة!
__________
(1) ربما كانت- (مطعمة) فى الأصل فقد نبدو الدنيا ذات قيمة ولكنها في الحقيقة عديمة القيمة.
(2) فى النسختين (لعاب) الأطفال، ومع ذلك فقد آثرنا أن نثبت هنا (لعب) بالرغم من تحسنا لاستعمال (اللعاب) فى موضع سبق ذلك لأننا نرى إضافة اللعاب إلى الصبيان لا يزيد المعنى تأكيدا، فاللعاب ظاهرة فسيولوجية تجرى على غير نظام- وهذا هو المطلوب- عند الكبار والصفار على حدّ سواء، بينما إضافة اللعب إلى الصبيان تعطى المعنى المطلوب.(3/541)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
أي سارعوا إلى عمل يوجب لكم مغفرة من ربّكم، وذلك العمل هو التوبة.
«وَجَنَّةٍ عَرْضُها ... » ذكر عرضها ولم يذكر طولها فالطول على ما يوافيه العرض.
«أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» : وفي هذا دليل على أنّ الجنة مخلوقة «1» .
«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
وفي ذلك ردّ على من يقول: «إن الجنة مستحقّة على الطاعات، ويجب على الله إيصال العبد إليها» «2» .. لأن الفضل لا يكون واجبا.
ويقال: لمّا سمعت أسرار المؤمنين «3» هذا الخطاب «4» ابتدرت الأرواح مقتضية المسارعة من الجوارح، وصارت الجوارح مستجيبة للمطالبة، مستبشرة برعاية حقوق الله لأنها علمت أن هذا الاستدعاء من جانب الحقّ سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 22]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
المصيبة حصلة «5» تقع وتحصل. فيقول تعالى: لا يحصل في الأرض ولا في أنفسكم شىء
__________
(1) هكذا أيضا يرى ابن القيم فى (اجتماع الجيوش الإسلامية ص 52) .
والأشاعرة والسلف يرون ذلك ويرون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وأنهما باقيتان.
(2) هذا رأى المعتزلة الذين اعتبروا ذلك من مقتضيات العدل الإلهي.
(3) هكذا في م وهي في ص (الموحدين) .
(4) هكذا في ص وهي في م (الخطاة) وواضح فيها خطأ الناسخ لأن الأمر متعلق بالفعل (سابقوا ... )
(5) بمعنى حادث يحصل، وهي فى (خصلة) بالخاء والصواب حصلة. (انظر ما يقوله القشيري في سورة التغابن عند «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ» على معنى: (خصل الهم خصلا وخصلة) أي وقع بلزق الهدف أو أصابه.(3/542)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ على الوجه الذي سبق به العلم، وحقّ فيه الحكم فقبل أن نخلق ذلك أثبتناه في اللوح المحفوظ.
فكلّ ما حصل في الأرض من خصب أو جدب، من سعة أو ضيق، من فتنة أو استقامة وما حصل في النفوس من حزن أو سرور، من حياة أو موت كلّ ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل وقوعه بزمان طويل.
وفي قوله: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» دليل على أن أكساب العباد مخلوقة لله سبحانه. وللعبد فى العلم بأنّ ما يصيبه: من بسط وراحة وغير ذلك من واردات القلوب من الله- أشدّ السرور وأتمّ الأنس حيث علم أنه أفرد بذلك بظهر غيب منه، بل وهو في كنز العدم، ولهذا قالوا:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا «1»
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 23]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
عدم الفرحة بما آتاهم هو من صفات المتحررين من رقّ النّفس، فقيمة الرجال تتبين بتغيّرهم- فمن لم يتغير بما يرد عليه- مما لا يريده- من جفاء أو مكروه أو محنة فهو كامل، ومن لم يتغيّر بالمسارّ كما لا يتغير بالمضارّ، ولا يسرّه الوجود كما لا يحزنه العدم- فهو سيّد وقته «2» .
ويقال: إذا أردت أن تعرف الرجل فاطلبه عند الموارد فالتغيّر علامة بقاء النّفس بأيّ وجه كان:
«وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» .
__________
(1) وهكذا نرى أن الجبرية عند الصوفية ترتبط بالمحبة القديمة، فالله البارئ الخالق للعبد من العدم.. لن يريد به إلا الخير ... وحتى لو أصاب العبد تلف ... فمرحبا به فهو تلف في سبيل المحبوب.
(2) التغير من علامات التلوين، والثبات في المسار والمضار- عند تقلب الأحوال على العارف- من علامات التمكين. فسادات الوقت هم أهل التمكين.(3/543)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
فالاختيال من علامات بقاء النفس ورؤيتها «1» ، والفخر (ناتج) «2» عن رؤية ما به يفتخر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 24]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
بخلوا بكتمان صفة نبيّنا صلى الله عليه وسلم وأمروا أتباعهم بذلك، وذلك لمّا خافوا من كساد سوقهم وبطلان رياستهم.
«ومن يتولّ.. عن الإيمان، أو إعطاء الصّدقة «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .
والبخل- على لسان العلم- منع الواجب «3» ، فأمّا على بيان هذه الطائفة «4» فقد قالوا:
البخل رؤية قدر للأشياء، والبخيل الذي يعطى عند السؤال «5» ، وقيل: من كتب على خاتمه اسمه فهو بخيل «6» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
أي أرسلناهم مؤيّدين بالحجج اللائحة والبراهين الواضحة، وأزحنا العلّة لمن أراد سلوك الحجّة المثلى، ويسّرنا السبيل على من آثر اتّباع الهدى. وأنزلنا معهم الكتب المنزّلة، و «الْمِيزانَ» : أي الحكم بالقرآن، واعتبار العدل والتسوية بين الناس.
«لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» : فلا يظلم أحد أحدا.
__________
(1) هكذا في ص وهي أصوب من (زينتها) التي في م، فرؤية النفس آفة يحذر منها أرباب الطريق- خاصة أهل الملامة.
(2) إضافة من عندنا حتى يتضح السياق.
(3) يقصد منع الزكاة المفروضة حسب علوم الشريعة. [.....]
(4) يقصد طائفة الصوفية.
(5) أي لا ينظر حتى يسأله سائل، وإنما هو يعطى دائما دون انتظار لدعوة داع أو سؤال سائل.
(6) لأنه ينبغى أن يكون مستعدا لاعضائه لغيره عند أي ظرف من الظروف، والمقصود أن يكون في العبد إيثار الفتيان (راجع فصل الفتوة في رسالة القشيري) .(3/544)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قوله جل ذكره: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
«أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» : أي خلقنا الحديد.
ونصرة الله هي نصرة دينه، ونصرة الرسول باتّباع سنّته.
«إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» : أقوى من أن ينازعه شريك، أو يضارعه في الملك مليك، وأعزّ من أن يحتاج إلى ناصر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
أي: أرسلنا نوحا، ومن بعده إبراهيم، وجعلنا من نسلهما النبوّة والكتاب.
«فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ» .
أي: مستجيب.
«وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .
خرجوا عن الطاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
أي: أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم.
«وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» .
بيّن أنّه لم يأمرهم بالرهبانيّة «1» بل هم الذين ابتدعوها
__________
(1) الرهبانية هى: الفعلة المنسوبة إلى الرّهبان وهو الخائف- صيغة فعلان من رهب مثل خشيان من خشى، وكانوا يفرون إلى الجبال والصحراوات ليخلصوا من الفتنة في دينهم، ويقطعون أنفسهم عن الزواج والنسل.(3/545)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ثم قال:
«إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» .
هم الذين انفردوا بما عقدوه معنا (أن يقوموا بحقّنا) «1» «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا.
«كِفْلَيْنِ» : أي نصيبين نصيبا على الإيمان بالله، وآخر على تصديقهم وإيمانهم بالرّسل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ومعناه: يعلم أهل الكتاب، و «لا» صلة. أي: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شىء من فضل الله «2» ، فإن الفضل بيد الله. و «اليد» هنا بمعنى: القدرة، فالفضل بقدرة الله.
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
(2) ونظيره قول ابن جنى فى «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» أي ليعلموا فهى مؤكدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى. (الإتقان للسيوطى ح 1 ص 171) ط الحلبي.(3/546)
والإشارة في هذا: اتّقوا الله بحفظ الأدب معه، ولا تأمنوا مكره أن يسلبكم ما وهبكم من أوقاتكم. وكونوا على حذر من بغتات تقديره في تغيير ما أذاقكم من أنس محبته.
واتّبعوا السّفراء والرّسل، وحافظوا عل اتّباعهم حتى يؤتيكم نصيبين من فضله:
عصمة ونعمة فالعصمة من البقاء عنه، والنعمة هي البقاء به.
ويقال: يؤتكم نصيبين: نصيبا من التوفيق في طلبه، ونصيبا من التحقيق في وجوده «1»
__________
(1) (الوجود) هنا ليس معناه (ضد العدم) بل هو أعلى درجات الشهود، فالتواجد بداية، والوجد واسطة والوجود نهاية (انظر الرسالة ص 37) .(3/547)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من عرفها بذل الرّوح في طلبها- وإن لم يحظ بوصولها، كلمة من طلبها اكتفى بالطلب من «1» قبولها.
كلمة جبّارة لا تنظر إلى كلّ أحد، كلمة قهّارة لا يوجد من دونها ملتحد.
كلمة منها بلاء الأحباب- لكن بها شفاء الأحباب.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
لمّا صدقت «2» فى شكواها إلى الله وأيست من استكشاف ضرّها من غير الله أنزل الله في شأنها: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ..» .
تضرّعت إلى الله، ورفعت قصّتها إلى الله، ونشرت غصّتها «3» بين يدى الله- فنظر إليها الله، وقال: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» .
ويقال: صارت فرجة «4» ورخصة للمسلمين إلى القيامة في مسألة الظّهار «5» ، وليعلم العالمون أنّ أحدا لا يخسر على الله.
وفي الخبر: أنها قالت: يا رسول الله، إنّ أوسا تزوّجنى شابّة غنية ذات أهل،
__________
(1) وتقدير الكلام: اكتفى من القبول بالطلب، أي اكتفى أن يشرف بطلبها وعلى الله إتمام الفضل بالقبول وهذا أساس هام في منهج الطالبين والسالكين.
(2) هى خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخى عبادة.
(3) هكذا في ص وهي في م (قصتها) وقد آثرنا ما جاء في م لتلوين الكلام وخدمة السياق.
(4) فى النسختين (فرحة) ولا بأس بها في المعنى ولكننا نشعر أن (فرجة) تدعم السياق على نحو آكد.
(5) ظاهر امرأته ظهارا أي قال لها: أنت عليّ كظهر أمي أي أنت حرام.(3/548)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
ومال كثير، فلما كبرت سنّى «1» ، وذهب مالى، وتفرّق أهلى جعلنى عليه كظهر أمّه، وقد ندم وندمت، وإنّ لى منه صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.
فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم- فى رواية-: ما أمرت بشىء في شأنك.
وفي رواية أخرى أنه قال لها: بنت عنه (أي حرمت عليه) .
فترددت إلى رسول الله (ص) فى ذلك، وشكت.. إلى أن أنزل الله حكم الظّهار.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قول الذين يقولون لنسائهم- جريا على عادة أهل الشّرك- أنت عليّ كظهر أمي ...
هذا شىء لم يحكم الله به ولا هذا الكلام في نفسه صدق، ولم يثبت فيه شرع، وإنما هو زور محض وكذب صرف.
فعلم الكافة أن الحقائق بالتلبيس لا تتعزّز «2» والسّبب إذا لم يكن صحيحا فبالمعاودة لا يثبت فالمرأة لمّا سمعت من رسول الله (ص) قوله: بنت عنه- كان واجبا عليها السكون والصبر ولكنّ الضرورة أنطقتها وحملتها على المعاودة، وحصلت من ذلك مسألة: وهي أن كثيرا من الأشياء يحكم فيها ظاهر العلم بشىء ثم تغيّر الضرورة ذلك الحكم لصاحبها «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
__________
(1) وفي رواية: خلا سنّى ونثرت بطني- أي كثر ولدي.
(2) ربما كانت في الأصل (لا تتقرر) ومع ذلك فالمعنى هكذا مقبول. [.....]
(3) هذه غمزة رقيقة بأولئك المتشبثين بالظواهر، ودعوة إلى التريث.(3/549)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
الظّهار- وإن لم يكن له في الحقيقة أصل، ولا بتصحيحه نطق أو دلالة شرع، فإنه بعد ما رفع أمره إلى الرسول (ص) ولوّح بشىء ما، وقال فيه حكمه، لم يخل الله ذلك من بيان ساق به شرعه فقضى فيه بما انتظم جوانب الأمر كلّه.
فارتفاع الأمر حتى وصوله إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والتحاكم لديه حمّل المتعدّى عناء فعلته، وأعاد للمرأة حقّها، وكان سبيلا لتحديد المسألة برمّتها.. وهكذا فإنّ كلّ صعب إلى زوال.. وكلّ ليلة- وإن طالت- فإلى إسفار «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)
الذين يخالفون أمر الله ويتركون طاعة رسول الله أذلّوا وخذلوا، كما أذلّ الذين من قبلهم من الكفّار والعصاة.
وقد أجرى الله سنّته بالانتقام من أهل الإجرام فمن ضيّع للرسول سنّة، وأحدث فى دينه بدعة انخرط في هذا السلك، ووقع في هذا الذّلّ.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 6]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
يقال: إذا حوسب أحد في القيامة على عمله تصور له ما فعله وتذكّره، حتى كأنه قائم فى تلك الحالة عن بساط الزّلّة، فيقع عليه من الخجل والنّدم ما ينسى في جنبه كلّ عقوبة.
__________
(1) حدث تدخل من جانبنا في ترميم هذه الفقرة التي جاءت في النسختين منبهمة الكتابة والمعنى.(3/550)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
فسبيل المسلم ألا يحوم حول مخالفة أمر مولاه، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فلتكن زلّته على بال، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
معيّة الحقّ- سبحانه- وإن كانت على العموم بالعلم والرواية، وعلى الخصوص بالفضل والنصرة- فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم، ولهم إلى أن ينتهى الأمر بهم إلى التولّه «1» فالوله فالهيمان في غمار سماع هذا عيش راغد.
ويقال: أصحاب الكهف- وإن جلّت رتبتهم واختصت من بين الناس مرتبتهم- فالحقّ سبحانه يقول: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «2» ولمّا انتهى إلى هذه الآية قال: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ ... » فشتّان بين من رابعه كلبه وبين من رابعه ربّه!! ويقال: أهل التوحيد، وأصحاب العقول من أهل الأصول يقولون: الله واحد لا من طريق العدد «3» ، والحقّ يقول: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ... » ويقال: حيثما كنت فأنا معك إن كنت في المسجد فأنا معك، وإن كنت في المصطبة فأنا معك، إن طلب العلماء
__________
(1) وردت التأويل في ص والتأول في م والصحيح- فى نظرنا- أن تكون التولّه فهو المنزلة التي تسبق الوله والهيمان.
(2) آية 22 سورة الكهف.
(3) الواحد على الحقيقة ليس عددا لأن العدد هو ما بلغ نصف مجموع حاشيتيه، وليس قبل الواحد شىء.(3/551)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
التأويل «1» وشوّشوا قلوب أولى المواجيد فلا بأس- فأنا معهم.
إن حضرت المسجد فأنا معك بإسباغ النعمة ولكن وعدا، وإن أتيت المصطبة فأنا معك بالرحمة وإسبال ستر المغفرة ولكن نقدا.
هبك تباعدت وخالفتنى ... تقدر أن تخرج عن لطفى؟!
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
آذوا قلوب المسلمين بما كانوا يتناجون به فيما بينهم «2» ، ولم تكن في تناجيهم فائدة إلا قصدهم بذلك شغل قلوب المؤمنين، ولم ينتهوا عنه لمّا نهوا عنه، وأصرّوا على ذلك ولم ينزجروا، فتوعّدهم الله على ذلك، وتكون عقوبتهم بأن تتغامز الملائكة في بابهم فيما بينهم، وحين يشاهدون ذلك تترجّم ظنونهم، ويتعذّبون بتقسّم قلوبهم، ثم لا ينكشف الحال لهم إلّا بما يزيدهم حزنا على حزن، وأسفا على أسف.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
إنما قبح ذلك منهم وعظم الخطر لأنه تضمّن إفساد ذات البين، وخير الأمور ما عاد بإصلاح ذات البين، وبعكسه إذا كان الأمر بضدّه.
__________
(1) «فإن حجج أهل هذه الطائفة أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب.
والناس: إما أصحاب النقل والأثر، وإما أرباب العقل والفكر ... وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذى للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه موجود، فهم من أهل الوصال والناس أهل الاستدلال» الرسالة القشيرية ص 198 وانظر تذكرة الحفاظ للذهبى ح 4 ص 15.
(2) كان اليهود والمنافقون يتغامزون فيما بينهم وبأينهم إغاظة للمؤمنين، وكانوا إذا أقبلوا على الرسول قالوا له: السام عليك يا محمد ... والسام هو الموت.(3/552)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
النجوى من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا. وإذا كانت المشاهدة غالبة، والقلوب حاضرة، والتوكل صحيحا والنظر من موضعه صائبا فلا تأثير لمثل هذه الحالات، وإنما هذا للضعفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
«1» لكمال رحمته بهم وتمام رأفته عليهم، علّمهم مراعاة حسن الأدب بينهم فيما كان من أمور العادة (دون أحكام العبادة) «2» فى التفسّح في المجالس والنظام في حال الزّحمة والكثرة ...
وأعزز بأقوام أمرهم بدقائق الأشياء بعد قيامهم بأصول الدين وتحقّقهم بأركانه! قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
«3» لمّا كان الإذن في النجوى مقرونا ببذل المال امتنعوا وتركوا، وبذلك ظهرت جواهر
__________
(1) (انشزوا) أي: انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا من مجلسه صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه، أو انهضوا إلى الصلاة، أو إلى الجهاد، أو إلى أعمال الخير.
(2) هذه موجودة في م وغير موجودة في ص.
(3) رخّص بعدئذ في المناجاة من غير صدقة. وقيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل: ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ.. ويحكى: أن عليا كرّم الله وجهه كان يتصدّق بدرهم كلّما ناجى الرسول- فى بداية الأمر ثم توقّف لمّا نسخت الآية، وأزيلت المؤاخذة.(3/553)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
الأخلاق ونقاوة الرجال- ولقد قال تعالى: «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
من وافق مغضوبا عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو الغضبان فمن تولّ مغضوبا عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هوانا وخسرانا.
«وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هذا وصف للمنافقين «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» أي وقاية وسترا ومن استتر بجنّة طاعته لتسلم له دنياه فإنّ سهام التقدير من ورائه تكشفه من حيث لا يشعر.. فلا دينه يبقى، ولا دنياه تسلم، ولقد قال تعالى: «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 18]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
عقوبتهم الكبرى ظنّهم أنّ ما عملوا مع الخلق يتمشّى أيضا في معاملة الحقّ، ففرط الأجنبية وغاية الجهل أكبّتهم على مناخرهم في وهدة ندمهم.
__________
(1) آية 37 سورة محمد.
(2) آية 10 سورة آل عمران.(3/554)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 19]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
إذا استحوذ الشيطان على عبد أنساه ذكر الله.
والنّفس إذا استولت على إنسان أنسته الله.
ولقد خسر حزب الشيطان، وأخسر منه من أعان نفسه- التي هي أعدى عدوّه، إلّا بأن يسعى في قهرها لعله ينجو من شرّها.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
من أرمته شقوته لم تنعشه قوّته، ومن قصمه التقدير لم يعصمه التدبير، ومن استهان بالدّين انخرط في سلك الأذلّين.
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 21]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
الذي ليس له إلا التدبير ... كيف تكون له مقاومة مع التقدير؟ «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
من جنح إلى منحرف عن دينه، أو داهن مبتدعا في عهده نزع الله نور التوحيد من قلبه فهو في خيانته جائر على عقيدته، وسيذوق قريبا وبال أمره.
«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» .
خلق الله الإيمان في قلوب أوليائه وأثبته، ويقال: جعل قلوبهم مطرّزة باسمه ... وأعزز بحلّة لأسرار قوم طرازها اسم «الله» !!
__________
(1) التدبير للخلق والتقدير للحق.(3/555)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
سورة الحشر
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز- الكون بجملته في طلبه.. وهو عزيز.
الشموس والأقمار والنجوم، والليل والنهار، وجميع ما خلق الله من الأعيان والآثار متنادية على أنفسها: نحن عبيده ... نحن عبيد من لم يزل.. نريد من لم يزل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قدّس الله ونزّهه كلّ شىء خلقه فكلّ ما خلقه جعله على وحدانيته دليلا، ولمن أراد أن يعرف إلهيته طريقا وسبيلا.
أتقن «2» كلّ شىء وذلك دليل علمه وحكمته، ورتّب كلّ شىء، وذلك شاهد على مشيئته وإرادته.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ» فلا شبيه يساويه، ولا شريك له في الملك ينازعه ويضاهيه.
«الْحَكِيمُ» الحاكم الذي لا يوجد في حكمه عيب، ولا يتوجّه عليه عتب «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
هم أهل النضير، وكانوا قد عاهدوا النبيّ (ص) ألّا يكونوا عليه، ثم بعد أحد نقضوا
__________
(1) ويسميها ابن عباس سورة النضير (البخاري ح 3 ص 133) . [.....]
(2) هكذا في ص وهي في م (أيقن) وهي خطأ في النسخ.
(3) هكذا في ص وهي في م (عيب) وهي خطأ في النسخ.(3/556)
العهد، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة، فأخبر الله تعالى رسوله بذلك، فبعث صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصّدقة. وكان رئيسهم كعب ابن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة (غيلة) ، وغزاهم «1» رسول الله (ص) وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام، وما كان المسلمون يتوقّعون الظّفر عليهم لكثرتهم، ولمنعة حصونهم.
وظلّوا يهدمون دورهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا، ويقطعون أشجارهم ليسدوا النقب، فسمّوا أول الحشر، لأنهم أول من أخرج من جزيرة العرب وحشر إلى الشام.
قال جل ذكره: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» .
كيف نصر المسلمين- مع قلّتهم- عليهم- مع كثرتهم. وكيف لم تمنعهم حصونهم إذا كانت الدائرة عليهم. وإذا أراد الله قهر عدوّ استنوق «2» أسده.
ومن مواضع العبرة في ذلك ما قاله: «ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» بحيث داخلتكم الرّيبة فى ذلك لفرط قوّتهم- فصانهم بذلك عن الإعجاب.
ومن مواضع العبرة في ذلك أيضا ما قاله «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ» فلم يكن كما ظنّوه- ومن تقوّ بمخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره «3» ومذلّته.
ومن الدلائل الناطقة ما ألقى في قلوبهم من الخوف والرّعب، ثم تخريبهم بيوتهم بأيديهم علامة ضعف أحوالهم، وبأيدى المؤمنين لقوة أحوالهم، فتمت لهم الغلبة عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم.
هذا كلّه لا بدّ أن يحصل به الاعتبار- والاعتبار أحد قوانين الشّرع.
ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره.
__________
(1) حاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم وأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى أريحا وأذرعات بأرض الشام.
(2) الألف والسين والتاء فيها للصيرورة أي صار ناقة والمقصود: تخاذل المتجبر وصغر شأنه.
(3) الصّغار- الرضى بالمذلة والهوان.(3/557)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
ويقال: يخرّبون بيوتهم بأيديهم، وقلوبهم باتّباع شهوات نفوسهم، ودينهم بما يمزجونه به من البدع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 3]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3)
لولا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا لعذّبهم الله بالقتل والاستئصال «1» ، ثم في الآخرة لهم عذاب النار.
[سورة الحشر (59) : آية 4]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ذلك بأنهم خالفوا أمر الله. والمشاقّة أن يتحول المرء إلى شقّ آخر.
فالعاصى إذا انتقل من المطيعين إلى العاصين فقد شاقّ الله، ولمن شاقّ الله عذاب النار.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
اللّينة: كلّ نوع من النخيل ما عدا العجوة والبرنيّ «2» .
لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع بعض نخيل بنى النضير قالت اليهود:
ما فائدة هذا؟!.
فبقى المسلمون عن الجواب، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليوضّح أن ذلك بإذن الله.
فانقطع الكلام.
وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معلّلة، وأنّ الأمر الشرعيّ إذا جاء بطل التعليل،
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (الاستبصار) وهي خطأ في النسخ.
(2) واحدته البرنيّة، وهو نوع جيد من التمر مدوّر أحمر مشرب بصفرة. (الوسيط) .(3/558)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
وسكتت الألسنة عن المطالبة ب «لم؟» وخطور الاعتراض أو الاستقباح خروج عن حدّ العرفان. والشيوخ.
قالوا: من قال لأستاذه وشيخه «1» : «لم؟» لا يفلح. وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجىء منه شىء. ومن لم يتجرّد قلبه من طلب التعليل، ولم يباشر حسن الرضا بكلّ ما يجرى واستحسان ما يبدو من الغيب لسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
يريد بذلك أموال بنى النضير «2» ، فقد كانت من جملة الفيء لا من الغنيمة فالفىء ما صار إلى المسلمين من أموال الكفّار من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب، وتدخل في جملته أموالهم إذا ماتوا وصارت إلى بيت المال. والغنيمة ما كانت بقتال وإيجاف خيل وركاب.
وقد خصّ رسول الله (ص) بأموال هؤلاء فقراء المهاجرين، واستأثر لنفسه بما شاء، فطابت نفوس الأنصار بذلك، وشكر الله لهم. ذلك لأن تحرّر القلب من الأعواض والأملاك صفة السادة «3» والأكابر. ومن أسرته الأخطار وبقي في شحّ نفسه فهو في تضييقه وتدنيقه، وهو فى مصادقته ومعاملته ومطالبته مع الناس دائما يبحث في استيفاء حظوظه- وهذا ليس له من مذاقات هذه الطريقة «4» شىء.
__________
(1) لاحظ كيف يوجّه القشيري إشارته إلى المريدين، وما ينبغى أن تكون عليه علاقتهم بشيوخهم.
(2) عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضى الله عنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله (ص) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (ص) خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (البخاري ح 3 ص 133) .
(3) هكذا في ص وهي في م (السعادة) وهي خطأ من الناسخ.
(4) يقصد طريقة الصوفية.(3/559)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
وأهل الصفاء لم تبق عليهم من هذه الأشياء بقية، وأمّا من بقي عليه منها شىء فمترسّم «1» سوقيّ.. لا متحقّق صوفيّ.
قوله جل ذكره: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هذا أصل من أصول وجوب متابعته، ولزوم طريقته وسيرته- وفي العلم تفصيله.
والواجب على العبد عرض ما وقع له من الخواطر وما يكاشف به من الأحوال على العلم- فما لا يقبله الكتاب والسّنّة فهو في ضلال «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدار مائة رجل.
«يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» وهو الرزق «وَرِضْواناً» بالثواب في الآخرة.
وينصرون دين الله، «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» : والفقير الصادق هو الذي يترك كلّ سبب وعلاقة، ويفرغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف «3» بقلبه على شىء سوى الله، ويقف مع الحقّ راضيا بجريان حكمه فيه.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (متوسّم) . وعلى الأول يكون المعنى أنه شخص تهمه الرسوم والأشكال، أما باطنه وحقيقته فغير رسمه، وعلى الثاني يكون المعنى أنه يكتفى من التصوف بالسّمة أي العلامة كالثوب مثلا.. وباطنه غير سليم. والربط بين الصفاء والتصوف- كما يتضح من العبارة- عنصر أساسى في مذهب القشيري. (انظر الرسالة باب التصوف) .
(2) نحسب أنه ليس بعد هذا مجال للتخرص بأن الصوفية يجانبون الشريعة أو يقلّلون من قدرها.
فمحصول خواطرهم، ومكاشفاتهم من خلال أحوالهم ... كل ذلك ينبغى ألا يكون مرفوضا من الشرع. ومحاولة عقد لقاء بين الحقيقة والشريعة عنصر أساسى آخر في مذهب القشيري- رحمه الله.
(3) عطف يعطف هنا بمعنى مال وانحنى تجاه ناحية تاركا ناحية أخرى- وهذا هو أصل معنى اللفظة قبل أن تأخذ معانيها التوسعة. [.....](3/560)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
نزلت هذه الآية في الأنصار. «تَبَوَّؤُا الدَّارَ» أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين..
«يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من أهل مكة.
«وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» مما خصّص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجة أو اختلال أحوال.
«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
قيل نزلت الآية «1» فى رجل منهم أهديت له رأس شاة فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول.
وقيل نزلت في رجل منهم نزل به ضيف فقرّب منه الطعام وأطفأ السراج ليوهم ضيفه أنه يأكل، حتى يؤثر به الضيف على نفسه وعلى عياله، فأنزل الله الآية في شأنه «2» .
ويقال: الكريم من بنى الدار لضيفانه وإخوانه (واللئيم من بناها لنفسه) «3» .
وقيل: لم يقل الله: ومن يتّق شحّ نفسه بل قال: ومن يوق شحّ نفسه «4» .
ويقال: صاحب الإيثار يؤثر الشبعان على نفسه- وهو جائع.
__________
(1) حديث القشيري عنه وفيما بعد عن الإيثار يصلح أن يكون متمما للفصل الذي عقده في رسالته عن الفتوة ص 113.
(2) هكذا في رواية أبى هريرة (البخاري ح 3 ص 113) .
(3) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
(4) فتقاه من الله لا من نفسه.(3/561)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
ويقال: من ميّز بين شخص وشخص فليس بصاحب إيثار حتى يؤثر الجميع دون تمييز.
ويقال: الإيثار أن ترى أنّ ما بأيدى الناس لهم، وأن ما يحصل في يدك ليس إلا كالوديعة والأمانة عندك تنتظر الإذن فيها.
ويقال: من رأى لنفسه ملكا فليس من أهل الإيثار.
ويقال: العابد يؤثر بدنياه غيره، والعارف يؤثر بالجنة غيره «1» .
وعزيز من لا يطلب من الحقّ لنفسه شيئا: لا في الدنيا من جاه أو مال، ولا في الجنّة من الأفضال، ولا منه أيضا ذرّة من الإقبال والوصال وغير ذلك من الأحوال «2» .
... وهكذا وصف الفقير يكون بسقوط كلّ أرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
أي والذين هاجروا من بعدهم، ثم أجيال المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة..
كلّهم يترّحمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم، ويسلكون طريق الشفقة على جميع المسلمين، ويستغفرون لهم، ويستجيرون من الله أن يجعل لأحد من المسلمين في قلوبهم غلّا أي حقدا. ومن «3» لا شفقة له على جميع المسلمين فليس له نصيب من الدّين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)
__________
(1) ومن قبيل ذلك ما يقوله له الحسين النوري (ت 295 هـ) :
«اللهم إن يكن قد سبق في مشيئتك التي لا تتخلف أن تملأ النار من الناس أجمعين فإنك قادر على أن تملأها بي وحدي وأن تذهب بهم إلى الجنة» .
(2) لأن الأحوال من الله، فهى من عين الجود، كما أن المقامات ببذل المجهود.
(3) سقطت (ومن) من م وهي موجودة في ص، وهي ضرورية للسياق.(3/562)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
يريد بهم منافقى المدينة ظاهروا بنى النضير وقريظة، وعاهدوهم على الموافقة بكلّ وجه، فأخبر الله- سبحانه- أنهم ليسوا كما قالوا وعاهدوا عليه، وأخبر أنّهم لا يتناصرون، وأنّهم يتخاذلون، ولئن ساعدوهم في بعض الحروب فإنهم يتخاذلون إن رأوهم ينهزمون أمام من يجاهدونهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
أخبر- سبحانه- أن المسلمين أشدّ رهبة في صدورهم من الله «1» ، وذلك لقلّة يقينهم، وإعراض قلوبهم عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
أخبر أنهم لا يجسرون على مقاتلة المسلمين إلّا مخاتلة، أو من وراء جدران.
وإنما يشتدّ بأسهم فيما بينهم، أي إذا حارب بعضهم بعضا، فأمّا معكم ... فلا.
«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .
اجتماع النفوس- مع تنافر القلوب واختلافها- أصل كلّ فساد، وموجب كلّ تخاذل، ومقتضى تجاسر العدوّ.
__________
(1) والمعنى أنهم بنفاقهم يقولون: نحن نخاف الله، ولكنهم في الحقيقة يخافون منكم خوفا أشدّ من خوفهم من الله، وذلك لقلة يقينهم ... إلخ.(3/563)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
واتفاق القلوب والاشتراك في الهمّة والتساوي في القصد يوجب كلّ ظفر وكلّ سعادة.. ولا يكون ذلك للأعداء قطّ فليس فيهم إلا اختلال كلّ حال، وانتقاض كلّ شمل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
مثل بنى قريظة كمثل بنى النضير «1» ذاق النضير وبال أمرهم قبل قريظة بسنة «2» وذاق قريظة بعدهم وبال أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 16]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16)
أي مثل هؤلاء المنافقين مع النضير- فى وعدهم بعضهم لبعض بالتناصر- كمثل الشيطان «إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ ... » .
وكذلك أرباب الفترة وأصحاب الزّلّة وأصحاب الدعاوى.. هؤلاء كلّهم في درجة واحدة فى هذا الباب- وإن كان بينهم تفاوت- لا تنفع صحبتهم في الله قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «3» وكلّ أحد- اليوم- يألف شكله فصاحب الدعوى إلى صاحب الدعوى، وصاحب المعنى إلى صاحب المعنى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) .
__________
(1) يرى النسفي أن: «مثلهم كمثل أهل بدر» (النسفي- ح 4 ص 243) .
(2) وكان ذلك عقب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ففى رواية عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما رجع النبي (ص) من الخندق، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا- وأشار إلى بنى قريظة (البخاري ح 3 ص 23) .
(3) آية 67 سورة الزخرف.(3/564)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
التقوى الأولى على ذكر العقوبة في الحال والفكر في العمل خيره وشرّه «1» .
والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة، ومن لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله.. فعن قريب سيفتضح «2» .
وعلامة من نظر لغده أن يحسن مراعاة يومه ولا يكون كذلك إلّا إذا فكّر فيما عمله فى أمسه والناس في هذا على أقسام: مفكّر في أمسه: ما الذي قسم له في الأزل؟ وآخر مفكّر فى غده: ما الذي يلقاه؟؟ وثالث مستقل بوقته فيما يلزمه في هذا الوقت فهو مصطلم عن شاهده موصول بربّه، مندرج في مذكوره «3» لا يتطلّع لماضيه ولا لمستقبله، فتوقيت الوقت يشغله عن وقته «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
تركوا طاعته فتركهم في العذاب وهو الخذلال حتى لم يتوبوا.. أولئك هم الفاسقون» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لا يستوى أهل الغفلة مع أهل الوصلة.
وأصل كلّ آفة نسيان الربّ، ولولا النسيان لما حصل العصيان، والذي نسى أمر نفسه فهو الذي لا يجتهد في تحصيل توبته، ويسوّف فيما يلزمه به الوقت من طاعته.
__________
(1) ويكون العبد فيها في مرحلة الغيبة (أي قبل السّكر) : فيما دام هناك وارد لثواب أو عقاب أو فكر فى حال أو مآل- فهذه في منازل السالكين دون المرحلة التالية.
(2) تفيد هذه الإشارة في توضيح الفرق في الاصطلاح بين: المراقبة والمحاسبة.
(3) لأن أقصى درجات الذكر أن يفنى الذاكر في المذكور، وقد اعتبرنا الأوصاف أسماء مفعول تعبيرا عن فناء الإرادة الإنسانية، وتجرد العبد من كل فعل في نفسه ولنفسه. [.....]
(4) ولهذا يقولون: الصوفىّ ابن وقته ومعناه أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين، مستسلم لما يبدوله من الغيب من غير اختيار له. ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. (الرسالة ص 34) .
(5) سيعود القشيري لاتمام إشارة هذه الآية بعد الآية التالية.(3/565)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
أي لو كان للجبل عقل وصلاح فكر وسرّ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخضع وخشع.
ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» «1» ويدل عليه أيضا قوله:
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» : ليعقلوا ويهتدوا، أي بذلك أمرناهم، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن.
ويقال: ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إيّاهم بالقوة فقال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ» لم يطق ولخشع- وهؤلاء خصصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابى «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
«الْغَيْبِ» : ما لا يعرف بالضرورة، ولا يعرف بالقياس من المعلومات «3» . ويقال: هو ما استأثر الحقّ بعلمه، ولم يجعل لأحد سبيلا إليه.
«وَالشَّهادَةِ» : ما يعرفه الخلق.
وفي الجملة: لا يعزب عن علمه معلوم.
__________
(1) آية 90 سورة مريم.
(2) يتصل هذا بموضوع السماع عند الصوفية، وقد عقد السراج له فصلا ممتعا فى «اللمع» ، ومن أقواله المتصلة بهذه النقطة الى أثارها القشيري يقول السراج: ألا ترى أحدهم يكون ساكنا فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق، وقد يكون من هو أقوى منه ساكنا في وجده لا يظهر منه شىء من ذلك (اللمع ص 375) ويجيب الجنيد حين سئل عن سكونه وقلة اضطرابه عند السماع: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) .
(3) أي لا يعرف بالضرورة العقلية ولا بالقياس العقلي لأن العقل يستمد أحكامه من المحسات، والغيب بعيد عن المحسات، فلا سبيل للخلق إليه بوسائلهم المحدودة وحدها.(3/566)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 23]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
الملك: ذو القدرة على الإيجاد.
القدوس: المنزّه عن الآفة والنقص.
السلام: ذو السلامة من النقائص، الذي يسلّم على أوليائه، والذي سلم المؤمنون من عذابه.
المؤمن: الذي يصدق عبده في توحيده فيقول له: صدقت يا عبدى.
والذي يصدّق نفسه في إخباره أي يعلم أنه صادق.
ويكون بمعنى المصدق لوعده. ويكون بمعنى المخبر لعباده بأنه يؤمّنهم من عقوبته.
المهيمن: الشاهد، وبمعنى الأمين، ويقال مؤيمن (مفيعل) من الأمن قلبت همزته هاء وهو من الأمان، ويقال بمعنى المؤمن.
العزيز: الغالب الذي لا يغلب، والذي لا مثيل له، والمستحق لأوصاف الجلال، وبمعنى: المعزّ لعباده. والمنيع الذي لا يقدر عليه أحد.
الجبّار: الذي لا تصل إليه الأيدى. أو بمعنى المصلح لأمورهم من: جبر الكسر. أو بمعنى القادر على تحصيل مراده «1» من خلقه على الوجه الذي يريده من: جبرته على الأمر وأجبرته.
المتكبر: المتقدّس عن الآفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (59) : آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (مرات) .(3/567)
هو المنشئ للأعيان والآثار.
«لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : المسمّيات الحسان.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» : مضى معناهما، وقد استقصينا الكلام في معانى هذه الأسماء (فى كتابنا المسمّى: «البيان والأدلة في معانى أسماء الله تعالى» ) «1» .
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في م وهو موجود في ص. وهذه أول مرة نعرف للقشيرى كتابا بهذا الاسم فلم يرد ذكره في كتب الفهارس والتراجم. وكنا نعلم حتى هذه اللحظة أن القشيري قد عالج دراسة الأسماء والصفات في كتابين فقط أولهما: التحبير في التذكير تحقيق بسيونى. والثاني: شرح أسماء الله الحسنى تحقيق الحلواني.(3/568)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
سورة الممتحنة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك لا أصل لملكه عند حدث ولا نسل له، فعنه يرث. ملك لا يستظهر بجيش وعدد، ولا يتعزّز بقوم وعدد. ملك للخلق «1» بأجمعهم- لكنه اختار قوما- لا لينتفع بهم- بل لنفعهم، وردّ آخرين وأذلّهم بمنعهم ووضعهم:
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
«2» قال صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك «3» وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: «عاد نفسك فليس لى في المملكة منازع غيرها» . فمن عادى نفسه فقد قام بحقّ الله، ومن لم يعاد نفسه لحقته هذه الوصمة. وأصل الإيمان الموالاة والمعاداة في الله ومن جنح إلى الكفار أو إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الحق) وهي خطأ من الناسخ.
(2) نزلت الآية في حاطب بن أبى بلتعة الذي بعث في السّرّ بكتاب مع امرأة يقال لها سارة إلى أهل مكة يحذّرهم فيه من استعداد النبي لهم والتهيؤ لقتالهم، فوضعت الكتاب في عقاص شعرها. ونزل جبريل على الرسول ليخبره بالأمر، فأرسل في إثرها فرسانه، فانتزعوا الكتاب منها.
وحينما همّ عمر رضى الله عنه بضرب عنق حاطب قال الرسول: وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ ففاضت عينا عمر، ونزلت الآية.
(3) ينظر الصوفية إلى النفس على أنها محلّ المعلولات (الرسالة ص 48) .(3/569)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله جل ذكره: «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» .
أنا أعلم «بِما أَخْفَيْتُمْ» من دقائق التصنّع وخفيّات الرياء.
«وَما أَعْلَنْتُمْ» من التزيّن للناس.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الاستسرار بالزّلة، «وَما أَعْلَنْتُمْ» ، من الطاعة والبرّ.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الخيانة «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمانة.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من الغلّ والغشّ للناس، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الفضيحة للناس.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من ارتكاب المحظورات، «وَما أَعْلَنْتُمْ» من الأمر بالمعروف.
«بِما أَخْفَيْتُمْ» من ترك الحشمة منى وقلة المبالاة باطّلاعى، وما أعلنتم من تعليم الناس ووعظهم.
«وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» فقد حاد عن طريق الدين، ووقع فى الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
إن يظفروا بكم وصادفوكم يكونوا لكم أعداء، ولن تسلموا من أيديهم بالسوء ولا من ألسنتهم بالذمّ وذكر القبيح.
«وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» : ولن ينفعكم تودّدكم وتقرّبكم إليهم، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام. ثم عقوبة الآخرة تدرككم «1» .
__________
(1) لأنكم حينئذ تكونون قد آثرتم قرابتكم بأعدائكم على حقوق الله.(3/570)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
وكذلك صفة المخالف، ولا ينبغى للمرء أن يتعطّش إلى عشيرته- وإن داهنته في قالة، ولا أن ينخدع بتغريرها- وإن لا ينته في حالة قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 4]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
أي لكم قدوة حسنة بإبراهيم ومن قبله من الأنبياء حيث تبرّءوا من الكفار من أقوامهم فاقتدوا بهم.. إلّا استغفار إبراهيم لأبيه- وهو كافر- فلا تقتدوا به.
ولا تستغفروا للكفار. وكان إبراهيم قد وعده أبوه أنه يؤمن فلذلك كان يستغفر له، فلمّا تبيّن له أنه لن يؤمن تبّرأ منه ويقال: كان منافقا.. ولم يعلم إبراهيم ذلك وقت استغفاره له.
ويقال: يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنّ الله لا يغفر للكفار.
والفائدة في هذه الآية تخفيف الأمر على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنّ من كانوا قبلهم حين كذّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغى لذلك أن يكون بالصبر أمرهم.
قوله جل ذكره: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .
أخبر أنهم قالوا ذلك.
ويصحّ أن يكون معناه: قولوا: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا» .
وقد مضى القول في معنى التوكل والإنابة.(3/571)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 5]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
ربّنا لا تظفرهم بنا، ولا تقوّهم علينا.
والإشارة في الآية: إلى الأمر بسنّة إبراهيم في السخاء وحسن الخلق والإخلاص والصدق والصبر وكلّ خصلة له ذكرها لنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 7]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
وقفهم في مقتضى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ» عند حدّ التجويز ... لا حكما بالقطع، ولا دفع قلب باليأس.. ثم أمرهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم، وعرّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته، وجريان كلّ شىء على ما يريد لهم، وصدّق هذه الترجية بإيمان من آمن منهم عند فتح مكة، وكيف أسلم كثيرون، وحصل بينهم وبين المسلمين مودة أكيدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
أمرهم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خلق حسن،(3/572)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أو كان منه للمسلمين وجه نفع أو رفق- فقد أمرهم بالملاينة معه. والمؤلفة قلوبهم شاهد لهذه الجملة، فإنّ الله يحب الرّفق في جميع الأمور «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهن باليمين، فيحلفن إنّهن لم يخرجن إلّا لله، ولم يخرجن مغايظة لأزواجهن، ولم يخرجن طمعا في مال.
وفي الجملة: الامتحان طريق إلى المعرفة، وجواهر «2» الناس تتبيّن بالتجربة «3» . ومن أقدم على شىء من غير تجربة تحسّى كأس الندم.
«وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» «4» .
لا توافقوا من خالف الحقّ في قليل أو كثير.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) .
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف» .
(2) هكذا في ص وهي في م (وجوابه) وهي خطأ في النسخ.
(3) هكذا في ص وهي في م (المعرفة) . [.....]
(4) العصمة: ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية.(3/573)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
إذا جاءك النساء يبايعنك على الإسلام فطالبهنّ وشارطهنّ بهذه الأشياء.
ترك الشّرك، وترك السرقة والزنا وقتل الأولاد والافتراء في إلحاق النّسب، وألا يعصينك في معروف فلا يخالفنك فيما تأمرهن به، ويدخل في ذلك ترك النياحة وشقّ الجيوب ونتف الشّعر عند المصيبة وتخميش «1» الوجوه والتبرّج وإظهار الزينة ... وغير ذلك مما هو من شعائر الدّين في الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
الذين غضب الله عليهم هم الكفار. يئسوا من الآخرة كما يئس أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويبعثوا (بعد ما تبينوا سوء منقلبهم) .
ويقال: كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخلق لا يبعثون في القيامة «2» .
__________
(1) خمش. أي جرح بشرته.
(2) هكذا في م وهي في ص (الآخرة) وكلاهما صحيح في السياق.(3/574)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
سورة الصّف
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من وقفه الله لعرفانها لم يصبر عن ذكرها بلسانه ثم لا يفتر حتى يصل إلى المسمّى بها بجنانه: فى البداية بتأمّل برهانه لمعرفة سلطانه، ثم لا يزال يزيده في إحسانه حتى ينتهى في شأنه بالتحقق مما هو كعيانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصفّ قلبه من آثار نفسه، ومن أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصفّ من أوضار ذنبه نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
جاء في التفاسير أنهم قالوا: لو علمنا ما فيه رضا الله لفعلنا ولو فيه كل جهد ... ثم لمّا كان يوم أحد لم يثبتوا، فنزلت هذه الآية في العتاب «1» .
وفي الجملة: خلف الوعد مع كلّ أحد قبيح، ومع الله أقبح.
ويقال إظهار التجلّد من غير شهود مواضع الفقر إلى الحقّ في كلّ نفس يؤذن بالبقاء عمّا حصل بالدعوى «2» ... والله يحب التبرّى من الحول والقوة.
__________
(1) قال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيّه (ص) بثواب شهداء بدر قال بعض الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ... ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك.
(2) أي بدعوى النّفس تسوّل له نفسه أن له في الأمر شيئا، وأن تدبيره هو الذي مكّن له.(3/575)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
ويقال: لم يتوعّد- سبحانه- زلّة بمثل ما على هذا حين قال: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
المحبة توجب الإثار، وتقديم مراد حبيبك على مراد نفسك، وتقديم محبوب حبيبك على محبوب نفسك. فإذا كان الحقّ تعالى يحبّ من العبد أن يقاتل على الوجه الذي ذكره فمن لم يؤثر محبوب الله على محبوب نفسه- أي على سلامته- انسلخ من محبته لربّه، ومن خلا من محبة الله وقع في الشقّ الآخر، فى خسرانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
لمّا زاغوا بترك الحدّ أزاغ الله قلوبهم بنقض العهد.
ويقال: لمّا زاغوا عن طريق الرّشد أزاغ الله قلوبهم بالصدّ والردّ والبعد عن الودّ.
ويقال: لمّا زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرهم.
ويقال: لمّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ الله قلوبهم عن التشوّق إلى البساط.
ويقال: لمّا زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
__________
(1) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) : «أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وقت (تمت وطالت) » قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرمون كتاب الله ولا يعلمون» . (ابو نعيم من حديث مالك بن دنيار عن ثمامة) .(3/576)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
بشّر كلّ نبيّ قومه بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله- سبحانه- عيسى بالذّكر فى هذا الموضع لأنه آخر نبيّ قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم: فبيّن بذلك أن البشارة به عمّت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه السلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)
«1» فمن احتال لوهنه، أو رام وهيه انعكس عليه كيده، وانتقض عليه تدبيره.
«وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» : كما قالوا:
ولله سرّ في علاه وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
كأنه قال: من تمنّى أن يطفئ نور الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاع الشمس بنفثه ونفخه فيه- وذلك من المحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
لمّا تقاعد قومه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صدقه قيّض الله له أنصارا من أمته هم: نزّاع القبائل، والآحاد الأفاضل، والسادات الأماثل، وأفراد المناقب- فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مهجهم، ولم يؤثروا عليه شيئا من كرائمهم، ووقوه
__________
(1) حكى عطاء عن ابن عباس: أن الوحى حين أبطا على رسول الله (ص) أربعين يوما قال كعب بن الأشرف:
يا معشر اليهود: أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره فحزن النبي (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحى بعدها.(3/577)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
بأرواحهم، (وأمدّهم الله سبحانه بتوفيقه كى ينصروا دينه، أولئك أقوام عجن الله بماء السعادة طينتهم، وخلق من نور التوحيد أرواحهم) «1» وأهلّهم يوم القيامة للسيادة على أضرابهم.
ولقد أرسل الله نبيّه لدينه موضّحا، وبالحقّ مفصحا، ولتوحيده معلنا، ولجهده فى الدعاء إليه مستفرغا.. فأقرع بنصحه قلوبا نكرا، وبصّر بنور تبليغه عيونا عميا.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
سمّى الإيمان والجهاد تجارة لما في التجارة من الرّبح والخسران ونوع تكسّب من التاجر- وكذلك: فى الإيمان والجهاد ربح الجنّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الأمر بالضّدّ.
وقوله: «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... » أي في ذلك جهادكم وإيمانكم واجتهادكم، وهو خير لكم.
ثم بيّن الربح على تلك التجارة ما هو فقال:
[سورة الصف (61) : آية 12]
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
__________
(1) حا بين القوسين ورد في م وسقط في ص.(3/578)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قدّم ذكر أهمّ الأشياء- وهو المغفرة. ثم إذا فرغت القلوب عن العقوبة قال:
«وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ... » فبعد ما ذكر الجنّة ونعيمها قال: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً» ، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلّا برؤية الحقّ سبحانه، ولذلك قالوا:
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتمو عنها ونحن حضور!
نحن في أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى ... أنكم غيّب ونحن حضور
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 13]
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
أي ولكم نعمة أخرى تحبونها: نصر من الله اليوم حفظ الإيمان وتثبيت الأقدام على صراط الاستقامة، وغدا على صراط القيامة.
«وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» : الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال: الوجود «1» أبد الأبد.
«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» : بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
__________
(1) لفظة (الوجود) بالمعنى الصوفي مقبولة هنا، ولكننا في ذات الوقت لا نستبعد أن تكون (الخلود) إشارة إلى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» .(3/579)
أي كونوا أنصارا لدينه ورسوله كما أنّ عيسى لمّا استعان واستنصر الحواريين نصروه ...
فانصروا محمدا إذا استنصركم.
ثم أخبر أنّ طائفة من بنى إسرائيل آمنوا بعيسى فأكرموا، وطائفة كفروا فأذلّوا، وأظفر أولياء على أعدائه ... لكى يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الله سبحانه يظفر أولياءه على أعدائه.(3/580)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
سورة الجمعة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز إذا تجلّى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرّق بسواه «1» .
ومن تجلّى لسرّه بنعت جلاله اندرجت جملته، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه..
وكم له من إنعام! وكم له من إحسان! وكما في أمثالهم: «جرى الوادي فطمّ على القريّ» «2» قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تسبح في بحار توحيد الحقّ أسرار أهل التحقيق، وبحرهم بلا شاطىء فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح، فحازت أيديهم جواهر التفريد فرصّعوها في تاج العرفان كى يلبسوه يوم اللّقاء.
«الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
«الْمَلِكِ» : الملك المتفرّد باستحقاق الجبروت.
«الْقُدُّوسِ» : المنزّه عن الدرك والوصول: فليس بيد الخلق إلّا عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمّا الوقوف على حقيقة إنّيته- فقد جلّت الصمدية عن
__________
(1) لاحظ هنا دقة استعمال الاصطلاحين (الجمع والفرق) .
(2) القرى- مجرى الماء في الروضة والجمع: أقرية وأقراء وقريان، ويضرب المثل عند تجاوز الشيء حدّه.(3/581)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
إشراف عليه، أو طمع إدراك في حال رؤيته، أو جواز إحاطة في العلم به ... فليس إلا قالة بلسان مستنطق، وحالة بشهود حقّ مستغرق «1» :
وقلن لنا: نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى «2»
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 2]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
جرّده عن كلّ تكلّف لتعلّم، وعن الاتصاف بتطلّب «3» .. ثم بعثه فيهم وأظهر عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.
فكما أيتمه في الابتداء عن أبيه وأمّه، ثم آواه بلطفه- وكان ذلك أبلغ وأتمّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلّفه العلم- ولكن قال: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
«4» .
وقال: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً» «5» ألبسه لباس العزّة، وتوّجه بتاج الكرامة، وخلع عليه حسن التولّى ... لتكون آثار البشرية عنه مندرجة «6» ، وأنوار الحقائق عليه لائحة.
[سورة الجمعة (62) : آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
__________
(1) هذه الفقرة التي كتبها القشيري عن (القدوس) على جانب كبير من الأهمية إذ هي توضح: أن الصوفي مهما ارتفع في معراجه الروحي لا يستشرف من (الذات) فقد جلّت الصمدية عن ذلك، وإنما هو يتحقق من شهود (الفعل) .. ولا شكّ أن أهل السنة المتشددين سيجدون في هذا النصّ ما يعطفهم نحو التصوف وأهله.
(2) أي ولا نستضيف ... والمقصود أن السالكين طريق الله دائما على الدرب سائرون وأن الحق سبحانه لا وقوف على كنهه.
(3) حتى ينتفى عنه سوء الظن في تعلّمه شيئا من الكتب السابقة، وأن ما يدعو إليه ثمرة قراءته. [.....]
(4) آية 113 سورة النساء.
(5) آية 52 سورة الشورى.
(6) هى هكذا في ص وفي م مشتبهة، والمقصود لتنطوى عنه آثار البشرية- لا البشرية نفسها- وتلوح عليه أنوار الحقائق.(3/582)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
أي بعثه في الأميين، وفي آخرين منهم وهم العجم، ومن يأتى.. إلى يوم القيامة فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
يقصد به هنا النبوة، ويؤتيها «مَنْ يَشاءُ» وفي ذلك ردّ على من قال: إنها تستحقّ لكثرة طاعة الرسول- وردّ على من قال: إنها لتخصيصهم بطينتهم فالفضل ما لا يكون مستحقّا، والاستحقاق فرض «1» لا فضل.
ويقال: «فَضْلُ اللَّهِ» هنا هو التوفيق حتى يؤمنوا به.
ويقال: هو الأنس بالله، والعبد ينسى كلّ شىء إذا وجد الأنس.
ويقال: قطع الأسباب، - بالجملة- فى استحقاق الفضل، إذ أحاله على المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
«ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» : ثم لم يعملوا بها.
ويلحق بهؤلاء «2» فى الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون «3» بالتقليد في أي
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (فرد) وهي خطأ في النسخ إذ المقصود أنه منحه الاستحقاق فضلا منه لا (فرضا) عليه فلا وجوب على الله- كما نعرف من مذهب القشيري.
(2) أي باليهود الذين لا فائدة لهم فيما يحملون من الكتب، فهى تبشر بمحمد، وهم يجحدون به.
(3) هكذا في ص وهي في م (المؤمنون) .(3/583)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
معنى شئت: فى علم الأصول، وممّا طريقه أدلة العقول، وفي هذه الطريقة «1» ممّا طريقه المنازلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 7]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
«2» هذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فصرف قلوبهم عن تمنّى الموت إلى هذه المدة دلّ على صدقه صلوات الله عليه «3» .
ويقال: من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب فإذا كان لا يصل إلى لقائه إلا بالموت فتمنّيه- لا محالة- شرط، فأخبر أنهم لا يتنمونه أبدا.. وكان كما أخبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 8]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
الموت حتم مقضيّ. وفي الخبر: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» . والموت جسر والمقصد عند الله.. ومن لم يعش عفيفا فليمت ظريفا «4» .
__________
(1) يقصد طريقة الصوفية.
(2) أخطأ الناسخ في م وجعلها (آمنوا) .
(3) والآية تؤكّد هذا مرتين باستعمال أسلوب إنشائى (فتمنوا) وأسلوب خبرى (ولا يتمنونه أبدا) .
(4) سئل الجنيد عن الظرف فقال: «اجتناب كل خلق دنى واستعمال كل خلق سنى وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت» (اللمع للسراج ص 962) .(3/584)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
أوجب السّعى يوم الجمعة إذا نودى لها، وأمر بترك البيع «1» .
ومنهم من يحمله على الظاهر أي ترك المعاملة مع الخلق «2» ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنى آخر: هو ترك الاشتغال بملاحظة الأعراض «3» ، والتناسى عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر فمنهم من يسعى إلى ذكر الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذكر الله جهرا بجهر، ويسعون إلى الله تعالى سرّا بسرّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 10]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
إنما ينصرف من كان له جمع يرجع إليه، أو شغل يقصده ويشتغل به- ولكن ...
من لا شغل له ولا مأوى.. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال: «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» إذا كان له أرب.. فأمّا من سكن عن المطالبات، وكفى داء الطّلب.. فما له وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رقّه؟! قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
__________
(1) هكذا في ص وهي الصواب حسب الآية، ولكنها في م (الجميع) .
(2) هكذا في ص وهي في م (الحق) وهي خطأ في النسخ.
(3) جمع (عرض) الحياة الدنيا.(3/585)
من أسرته أخطار الأشياء استجاب لكلّ داع جرّه إليه لهو أو حمله عليه سهو ومن ملكه سلطان الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود. «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وما عند الله للعبّاد والزّهّاد- غدا «1» - خير مما «2» نالوه فى الدنيا نقدا. وما عند الله للعارفين- نقدا- من واردات القلوب وبواده «3» الحقيقة خير مما يؤمّل المستأنف «4» فى الدنيا والعقبى.
__________
(1) ويجوز أنها في الأصل «وعدا» لتقابل «نقدا» فهذا نمط في تعبير القشيري مألوف، ومع ذلك فالوعد (غدا) . [.....]
(2) هكذا في ص وهي في م (ممن) والصواب (مما) .
(3) البواده ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة، وهي إما موجبات فرح أو موجبات ترح، وسادات الوقت لا تغيّرهم البواده، لأنهم فوق ما يفجؤهم حالا وقوة (الرسالة- ص 44) .
(4) موجودة في ص وغير موجودة في م وهي ضرورية للسياق، والمستأنف: هو المريد المبتدئ الذي مازال يفكّر في الثواب الآجل والثواب العاجل.(3/586)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
سورة المنافقون
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من تحقّق به صدق في أقواله، ثم صدق في أعماله، ثم صدق في أخلاقه ثم صدق في أحواله، ثم صدق في أنفاسه «1» .. فصدقه في القول ألّا يقول إلّا عن برهان، وصدقه في العمل ألا يكون للبدعة عليه سلطان، وصدقه في الأخلاق ألّا يلاحظ إحسانه مع الكافّة بعين النقصان، وصدقه في الأحوال أن يكون على كشف وبيان، وصدقه في الأنفاس ألا يتنفّس إلا على وجود كالعيان «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)
كذّبهم فيما قالوا وأظهروا، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك، فهم لم يكذبوا في الشهادة «3» ولكنّ كذبهم في قولهم: إنّهم مخلصون لك، مصدّقون لك.
فصدق القالة لا ينفع مع قبح الحالة.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (انعامه) والصواب ما أثبتنا بدليل ما بعده.
(2) لا حظ هنا كيف تتفق إشارة البسملة مع السياق العام للسورة.
(3) أي تقريرهم بأن محمدا رسول الله حقيقة ليس فيها كذب، فمن حيث الظاهر فقد نطقت ألسنتهم بالصدق، ولكن الكذب كامن في القلب.(3/587)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
ويقال: الإيمان ما يوجب الأمان فالإيمان يوجب للمؤمن إذا كان عاصيا خلاصه من العذاب أكثره وأقلّه ... إلّا ما ينقله من (أعلى) «1» جهنم إلى أسفلها.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 2]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)
تستّروا بإقرارهم، وتكشّفوا بنفاقهم عن أستارهم فافتضحوا، وذاقوا وبال أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
استضاءوا بنور الإجابة فلم ينبسط عليهم شعاع السعادة، فانطفأ نورهم بقهر الحرمان، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحكم الشقاوة.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 4]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
أي هم أشباح وقوالب وليس وراءهم ألباب وحقائق- فالجوز «2» الفارغ مزيّن ظاهره ولكنه للعب الصبيان «3» .
«يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ... » وذلك لجبنهم إذ ليس لهم انتعاش بربّهم، ولا استقلال بغيرهم.
__________
(1) سقطت (أعلى) من الناسخ في م وهي موجودة في ص.
(2) هكذا في م وهي في ص «الحوض» وقد رجحنا الأولى.
(3) فى هذه الإشارة تنبيه إلى قاعدة صوفية: أن العبرة بحقائق الأرواح لا بمظاهر الأشباح (أي الأجساد) .(3/588)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
«هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» هم عدوّ لك- يا محمد- فاحذرهم، ولا يغرّنك تبسّطهم فى الكلام على وجه التودّد والتقرّب.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 5]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
سمعوا إلى ما يقال لهم على وجه التكبّر، وإظهار الاستغناء عن استغفارك لهم ... فخلّ سبيلهم فليس للنّصح فيهم مساغ، ولن يصحيهم من سكرتهم إلّا حرّ ما سيلقونه من العقوبة، فما دام الإصرار من جانبهم فإنهم:
[سورة المنافقون (63) : آية 6]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
فقد سبق العلم بذلك:
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 7]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
«1» كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غير متحققّين بتصريف الأيام، فأنطقهم بما خامر قلوبهم من تمنّى انطفاء نور رسول الله، وانتكاث شملهم، فتواصوا فيما بينهم بقولهم: «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» فقال تعالى «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ ... » .
وليس استقلالك- يا محمد- ولا استقلال أصحابك بالمرزوقين.. بل بالرازق فهو الذي يمسككم.
__________
(1) «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بهذا أجاب كثيرون من أرباب الطريق كحاتم الأصم والجنيد والشبل عند ما كانوا يسأل أحدهم: من أين تأكل؟(3/589)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 8]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
إنما وقع لهم الغلط في تعيين الأعزّ والأذلّ فتوهّموا أنّ الأعزّ هم المنافقون، والأذلّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جرم غلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأذلّ المنافقون بقوله: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» : لله عزّ الإلهية، وللرسول عزّ النبوّة، وللمؤمنين عزّ الولاية.. وجميع ذلك لله فعزّة القديم صفته، وعزّ الرسول وعزّ المؤمنين له فعلا ومنّة وفضلا، فإذا لله العزّة جميعا.
ويقال: كما أنّ عزّة الله- سبحانه- لا زوال لها فعزّة الأنبياء بأن لا عزل لهم، وعزّة المؤمنين بألا يبقى منهم مخلّد في النار.
ويقال: من كان إيمانه حقيقيا فلا زوال له.
ويقال: من تعزّز بالله لم يلحقه تغيّر عن حاله بغير الله.
ويقال: لا عزّ إلّا في طاعة الله، ولا ذلّ إلّا في معصية الله ... وما سوى هذا فلا أصل له.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
لا تضيّعوا أمور دينكم بسبب أموالكم وأولادكم بل آثروا حقّ الله، واشتغلوا به يكفكم أمور دنياكم وأولادكم فإذا كنت لله كان الله لك «1» .
__________
(1) لنتذكر ما قلناه في مدخل هذا الكتاب بأن القشيري نفسه قد ضرب المثل على ذلك حين هاجر من بلده تاركا أهله في رعاية الله حينما تعرّضت عقيدته للمحنة.(3/590)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
ويقال: حقّ الله مما ألزمك القيام به، وحقّك ضمن لك القيام به فاشتغل بما كلّفت لا بما كفيت.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (63) : آية 10]
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
لا تغترّوا بسلامة أوقاتكم، وترقّبوا بغتات آجالكم، وتأهّبوا لما بين أيديكم من الرحيل، ولا تعرّجوا في أوطان التسويف.(3/591)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
سورة التّغابن
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ ... » كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يبتذل، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل. ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كلّ ناحية منه خليط، ولا في كلّ زاوية زبيط.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
المخلوقات كلّها بجملتها لله سبحانه مسبّحة ... ولكن لا يسمع تسبيحها من به طرش النكرة.
ويقال: الذي طرأ صممه فقد يرجى زواله بنوع معالجة، أمّا من يولد أصمّ فلا حيلة فى تحصيل سماعه. قال تعالى: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» «1» وقال تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
منكم كافر في سابق حكمه سمّاه كافرا، وعلم أنه يكفرو أراد به الكفر ... وكذلك
__________
(1) آية 52 سورة الروم.
(2) آية 23 سورة الأنفال.(3/592)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
كانوا. ومنكم مؤمن في سابق حكمه سمّاه مؤمنا، وعلم في آزاله أنه يؤمن وخلقه مؤمنا، وأراده مؤمنا ... والله بما تعملون بصير.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» : أي وهو محقّ في خلقه.
«وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» لم يقل لشىء من المخلوقات هذا الذي قال لنا، صوّر الظاهر وصوّر الباطن فالظاهر شاهد على كمال قدرته، والباطن شاهد على جلال قربته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 4]
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
قصّروا حيلكم عن مطلوبكم، فهو تتقاصر عنه علومكم، وأنا أعلم ذلك دونكم ...
فاطلبوا منّى، فأنا بذلك أعلم، وعليه أقدر.
ويقال: «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» . فاحذروا دقيق الرياء، وخفيّ ذات الصدور «وَما تُعْلِنُونَ» :
فاحذروا أن يخالف ظاهركم باطنكم.
فى قوله «ما تُسِرُّونَ» أمر بالمراقبة بين العبد وربه.
وفي قوله «ما تُعْلِنُونَ» أمر بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخلق «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
__________
(1) القربة هنا إشارة إلى تميز الإنسان من بين المخلوقات بقيام المحبة بمعناها الخاص بينه وبين الحق سبحانه، وقد سبق بيان ذلك في مواضع مختلفة. [.....]
(2) مرة أخرى ننبه إلى ضرورة فهم الفرق بين اصطلاحى: المراقبة والمحاسبة- حسب المنهج القشيري.(3/593)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
المراد من ذلك هو الاعتبار بمن سلف، ومن لم يعتبر عثر في مهواة من الأمل، ثم لا ينتعش إلّا بعد فوات الأمر من يده.
«ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ... » . شاهدوا الأمر من حيث الخلق فتطوّحوا فى متاهات الإشكال المختلفة الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلّصوا من تفرقة الأباطيل، واستراحوا بشهود «1» التقدير من اختلاف الأحوال ذات «2» التغيير.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 7]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
الموت نوعان: موت نفس، وموت قلب ففى القيامة يبعثون من موت النّفس، وأمّا موت القلب فلا بعث منه- عند كثير من مخلصى هذه الطائفة، قال تعالى مخبرا عنهم: «قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «3» فلو عرفوه لما قالوا ذلك فموت قلوبهم مسرمد إلى أن تصير معارفهم ضرورية، فهذا الوقت وقت موت قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 8]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
«النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» : القرآن. ويجوز أن يكون ما أنزل في قلوب أوليائه من السكينة وفنون الألطاف.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (من شهود) وهي خطأ من الناسخ.
(2) فى النسختين (ذوى) وقد رأينا أن تكون (ذات) أو (ذوات) .
(3) آية 52 سورة يس، والفرق واضح بين هذه القالة وبين ما قاله أصحاب الكهف المؤمنون.(3/594)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 9]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
المطيع- يومئذ- فى غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلّة «1» .
وليس كلّ الغبن في تفاوت الدرجات قلّة وكثرة، فالغبن في الأحوال أكثر.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 11]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
أيّ حصلة حصلت فمن قبله خلقا، وبعلمه وإرادته حكما.
ومن يؤمن بالله يهد قلبه حتى يهتدى إلى الله في السّرّاء والضّراء- اليوم- وفي الآخرة يهديه إلى الجنة.
ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» للأخلاق السنيّة، والتنقّى من شحّ النّفس.
ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» لاتّباع السّنّة واجتناب البدعة.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 12]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) .
__________
(1) قال بعض الصوفية: إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربّه إلا مغبونا لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب، وفي الأثر قال النبي (ص) : «لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد» القرطبي ح 18 ص 138.(3/595)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
طاعة الله واجبة، وطاعة الرّسل- الذين هم سفراء بينه وبين الخلق- واجبة كذلك. والأنوار التي تظهر عليك «1» وتطالب بمقتضياتها كلّها حقّ، ومن الحقّ.. فتجب طاعتها أيضا.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
إذا دعوك لتجمع لهم الدنيا فهم عدوّ لك، أمّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف «2» فليسوا لكم أعداء.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 15]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
ِتْنَةٌ»
: لأنهم يشغلونكم عن أداء حقّ الله فما تبق عن الله مشغولا بجمعه فهو غير ميمون عليك.
ويقال: إذا جمعتم الدنيا لغير وجهه فإنكم تشغلون بذلك عن أداء حقّ مولاكم، وتشغلكم أولادكم، فتبقون بهم عن طاعة الله- وتلك فتنة لكم ... ترومون إصلاحهم.
فتفسدون أنتم وهم لا يصلحون!.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : آية 16]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) .
__________
(1) الخطاب هنا موجعّه إلى صاحب الأحوال والكشوفات.
(2) عف عفعّة وعفافا أي كفّ عما لا يحل ولا يجمل. ويقال: هم أعفّة الفقر، أي: إذا افتقروا لا يسألون.
(الوسيط) .(3/596)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا الله. والتقوى عن شهود التقوى بعد ألا يكون تقصير في التقوى غاية التقوى.
«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» حتى ترتفع الأخطار «1» عن قلبه، ويتحرّر من رقّ المكونات، فأولئك هم المفلحون.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (64) : الآيات 17 الى 18]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
يتوجّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء لبذل أموالهم، وللفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثار مراد الحقّ على مراد أنفسهم.
فالغنىّ يقال له: آثر حكمى على مرادك في مالك، والفقير يقال له: آثر حكمى فى نفسك وقلبك ووقتك وزمانك.
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» جلّ شأنه.
__________
(1) المقصود بالأخطار هنا: حسبان أن للشىء أهمية وشأنا.(3/597)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سورة الطّلاق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لا سبيل إلى وصاله، ولا غنية- فى غيره- عن فعاله، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة «1» ، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا، والعارفون بسلطان حكمه اصطلموا عن شواهدهم..
فبادوا وطاحوا.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
الطلاق- وإن كان فراقا- فلم يجعله الحقّ محظورا ... وإن كان من وجه مكروها.
وللطلاق وقتية «2» : سنّية وبدعية، ومباحة، لا سنية ولا بدعية فالسنية: أن تطلّق في طهر لم تباشر فيه طلقة واحدة، والبدعية: فى حال الحيض وطهر جومعت فيه، والمباحة:
فى طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها «3» - والطلاق أكثر من واحدة.
__________
(1) أطاحه إطاحة أي أفناه وأذهبه.
(2) أي وجوه مرتبطة بأوقات خاصة. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: الطلاق على أربعة وجوه:
وجهان حلالان ووجهان حرامان: فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا من غير جماع، وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها.
وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها لا تدرى اشتمل الرّحم على ولد أم لا.
(3) قال السّدىّ: نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضا تطليقة واحدة، فأمره رسول الله (ص) بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر- من قبل أن يجامعها.
ويقال: إنها نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.. فلم يكن قبلها للمطلقة عدّة، وحين طلقت على عهد النبي (ص) طلقت بالعدة (هكذا في كتاب أبى داود) .(3/598)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
والعدّة- وإن كانت في الشريعة لتحصين ماء الزوج (محاماة على الأنساب) «1» لئلا يدخل على ماء الزوج ماء آخر- فالغالب والأقوى في معناها أنها للوفاء للصحبة الماضية في وصلة النكاح «2» .
والإشارة في الآيات التالية إلى أنه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلّ من الوفاء مدة لهذه الصغيرة التي لم تحض، وهذه الآيسة من الحيض، وتلك التي انقطع حيضها، والحبلى حتى تلد ... كل ذلك مراعاة للحرمة: وعدّة الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول لأن حرمة الميت أعظم «3» وكذلك الإمداد في أيام العدّة ... المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة.
قوله جل ذكره: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .
العبودية: الوقوف عند الحدّ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه، ومن راعى مع الله حدّه أخلص الله له عهده ...
«لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .
قالوا: أراد ندما، وقيل: ولدا، وقيل: ميلا إليها، أولها إليه فإن القلوب تتقلب:
والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبر مع الأشكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاص من مساكنة الأمثال، والتجرّد لعبادة الله تعالى أولى وأحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
__________
(1) موجودة في ص وغير موجودة في م.
(2) القشيري يركز جهده في استخراج إشارات في الصحبة والصاحب وغير ذلك من المعاني من آيات الطلاق غير مهم بتفاصيل هذا الموضوع الواسع الذي تعنى به كتب الفقه المتخصصة.
(3) يقول القشيري في الصفحة 188 من المجلد الأول من هذا الكتاب: كانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم، ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بدّ من انتهاء مدة الحداد.
«وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ» والإشارة فيه ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء. [.....](3/599)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
إذا صدق العبد في تقواه أخرجه من بين أشغاله كالشعرة تخرج من بين العجين لا يعلق بها شىء. ويضرب الله تعالى على المتّقى سرادقات عنايته، ويدخله في كنف الإيواء، ويصرف الأشغال عن قلبه، ويخرجه من ظلمات تدبيره، ويجرّده من كل أمر، وينقله إلى شهود فضاء تقديره.
قوله جل ذكره: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» .
لم يقل: ومن يتوكل على الله فتوكّله حسبه، بل قال: فهو حسبه أي فالله حسبه أي كافيه.
«إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» .
إذا سبق له شىء من التقدير فلا محالة يكون، وبتوكّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنّ التوكّل بنيانه على أن يكون العبد مروّح القلب غير كاره.. وهذا من أجلّ النّعم.
قوله:
[سورة الطلاق (65) : آية 4]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
التوكل: شهود نفسك خارجا عن المنّة «1» تجرى عليك أحكام التقدير من غير تدبير منك ولا اطّلاع لك على حكمه، وسبيل العبد الخمود والرضا دون استعلام الأمر، وفي الخبر:
«أعوذ بك من علم لا ينفع» : ومن العلم الذي لا ينفع- ويجب أن تستعيذ منه- أن يكون لك شغل أو يستقبلك مهمّ من الأمر ويشتبه عليك وجه التدبير فيه، وتكون مطالبا بالتفويض- فطلبك العلم وتمنّيك أن تعرف متى يصلح هذا الأمر؟ ولأى سبب؟ ومن أيّ وجه؟ وعلى يد من؟ ... كل هذا تخليط، وغير مسلّم شىء منه للأكابر.
فيجب عليك السكون، وحسن الرضا. حتى إذا جاء وقت الكشف فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينتظر العبد في هذه الحالة تعريفا في المنام أو ينظر فى ( ... ) «2» من الجامع،
__________
(1) المنة بضم الميم هي ما في إمكان الإنسان وحيلته واستطاعته.
(2) مشتبهة في النسختين.(3/600)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
أو يرجو بيان حاله بأن يجرى على لسان مستنطق في الوقت.. كلّ هذا ترك للأدب، والله لا يرضى بذلك من أوليائه، بل الواجب السكون.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : آية 7]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
إذا اتسع رزق العبد فعلى قدر المكنة يطالب بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه- أي ضيّق- فلينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت، ومن رأس المال- إن لم يكن من الربح، ومن ثمن الضيعة- إن لم يكن من الغلّة.
ومن ملك ما يكفيه الوقت، ثم اهتمّ بالزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرضيّ «1» عنه، وصاحبه غير معان. فأمّا إذا حصل العجز بكلّ وجه، فإن الله تعالى: لا يكلف نفسا إلّا ما آتاها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. هذا من أصحاب المواعيد- وتصديقه على حسب الإيمان، وذاك على قدر اليقين- ويقينه على حسب القسمة. وانتظار اليسر «2» من الله صفة المتوسطين فى الأحوال، الذين انحطّوا عن حدّ «3» الرضا واستواء وجود السبب وفقده، وارتقوا عن حدّ اليأس والقنوط، وعاشوا في أفياء «4» الرجال يعلّلون «5» بحسن المواعيد.. وأبدا هذه حالتهم وهي كما قلنا «6» :
إن نابك الدهر بمكروهه ... قعش بتهوين تصانيفه
فعن قريب ينجلى غيمه ... وتنقضى كلّ تصاريفه
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (مرحوم) .
(2) هكذا في م وهي في ص. (البرّ) وقد آثرنا الأولى نظرا لسياق الآية ذاتها.
(3) هكذا في م وهي في ص (درجة) وقد آثرنا الأولى بدليل ورودها فيما بعد.
(4) هكذا في ص ولكنها في م (إفناء) والصواب الأولى.
(5) أي يملّلون النفس.
(6) أي أن النص الشعرى القشيري نفسه. (انظر القشيري الشاعر في كتابنا: الإمام القشيري) .(3/601)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 9]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)
من زرع الشوك لم يجن الورد، ومن أضاع حقّ الله لا يطاع في حظّ نفسه «1» . ومن اجترأ «2» بمخالفة أمر الله فليصبر على مقاساة عقوبة الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 10 الى 11]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
إنّ كتاب الله فيه تبيان لكلّ شىء.. فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى سعة فنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه «3» .
ومن يؤمن بالله، ويعمل صالحا لله، وفي الله، فله دوام النّعمى من الله.. قال تعالى:
«قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» .
والرزق الحسن ما كان على حدّ الكفاية لا نقصان فيه تتعطّل الأمور بسببه، ولا زيادة فيه تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه.
كذلك أرزاق القلوب. أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت من غير
__________
(1) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (حق نفسه) فالحقوق لله والحظوظ للعبد.
(2) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (احترق) فسياق الآية يوحى بذلك.
(3) أصل الجملة (وصل إلى شفائه من داء الجهل) .. ولكن حرص القشيري على التركيب الموسيقى دفعه إلى هذه الصياغة.(3/602)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
نقصان يجعله يتعذّب بتعطّشه، ولا تكون فيه زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلّا بتأييد سماويّ من الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
خلق سبع سموات، وخلق ما خلق وهو محقّ فيما خلق وأمر، حتى نعلم استحقاق جلاله وكمال صفاته، وأنه أمضى فيما قضى حكما، وأنه أحاط بكل شىء علما.
__________
(1) رأى القشيري فى «الرزق الحسن» مفيد في دراسة الجانب النفسي عند الصوفية، والحدود التي يبدأ عندها الصراع الداخلى، وآفات ذلك، وعلاجه.(3/603)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
سورة التّحريم
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» . اسم عزيز يمهل من عصاه، فإذا رجع وناداه.. أجابه ولبّاه «1» فإن لم يتوسّل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصّل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه غفرا «2» ، وقبل منه عذرا، وأكمل له ذخرا، وأجزل له برّا.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
جاء في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه مارية القبطية، وفي الحال حلف ألّا يطأها شهرا مراعاة لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى الله عليه وسلم معها في يومها «3» .
وقيل: حرّم على نفسه شرب العسل لمّا قالت له زوجاته، إنّا نشم منك ريح المغافير! - والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة، ويقال: بقلة كريهة الرائحة ... فعاتبه الله على ذلك.
وهي صغيرة منه على مذهب من جوّز الصغائر عليه، وترك للأولى على مذهب من لم يجوّز.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (أبكاه) وهي خطأ في النسخ.
(2) هكذا في م وهي في ص (عفوا) وهي وإن كانت مقبولة إلا أن التركيب الموسيقى يجعلنا نؤثر (غفرا) . [.....]
(3) الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل الرسول (ص) بأم ولده مارية في بيت حفصة وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها فقالت: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك فقال لها:
لا تذكرى هذا لعائشة فهى حرام علىّ إن قربتها.(3/604)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
وقيل: إنه طلّق حفصة طلقة واحدة، فأمره الله بمراجعتها، وقال له جبريل: إنها صوّامة قوّامة وقيل: لم يطلقها ولكن همّ بتطليقها فمنعه الله عن ذلك.
وقيل: لمّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها: إنّى مسرّ إليك سرّا فلا تخبري أحدا: إنّ هذا الأمر يكون بعدي لأبى بكر ولأبيك.
ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة، وأوحى الله له بذلك، فسأل النبيّ حفصة: لم أخبرت عائشة بما قلت؟.
فقالت له: ومن أخبرك بذلك؟ قال أخبرنى الله، وعرّف حفصة بعض ما قالت، ولم يصرّح لها بجميع ما قالت، قال تعالى: «عَرَّفَ «1» بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» ، فعاتبها على بعض وأعرض عن بعض- على عادة الكرام.
ويقال: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا نزلت هذه الآية كان كثيرا ما يقول:
«اللهم إنى أعوذ بك من كل قاطع يقطعنى عنك» .
وظاهر هذا الخطاب «2» عتاب على أنّه مراعاة لقلب امرأته حرّم على نفسه ما أحلّ الله له.
والإشارة فيه: وجوب تقديم حقّ الله- سبحانه- على كل شىء في كل وقت.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : الآيات 2 الى 3]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
أنزل الله ذلك عناية بأمره عليه السلام، وتجاوزا عنه. وقيل: إنه كفّر بعتق رقبة، وعاود مارية.
__________
(1) وفي قراءة «عرف» بدون التشديد: أي غضب فيه وجازى عليه، وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت أي: لأجازينّك عليه، وجازاها النبي بأن طلقها طلقة واحدة. وكان أبو عبد الرحمن السلمى يحصب بالحجارة من يقرأها مشددة.
(2) أي «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..»(3/605)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
والله- سبحانه- أجرى سنّته بأنه إذا ساكن عبد بقلبه إلى أحد شوّش على خواصّه محلّ مساكنته غيرة على قلبه إلى أن يعاود ربّه، ثم يكفيه ذلك- ولكن بعد تطويل مدة، وأنشدوا في معناه:
إذا علّقت روحى حبيبا تعلّقت ... به غير الأيام كى تسلبنّيه
وقد ألقى الله في قلب رسوله صلى الله عليه وسلم تناسيا بينه وبين زوجاته فاعتزلهن «1» ، وما كان من حديث طلاق حفصة، وما عاد إلى قلب أبيها، وحديث الكفاية، وإمساكه عن وطء مارية تسعا وعشرين ليلة ... كل ذلك غيرة من الحق عليه، وإرادته- سبحانه- تشويش قلوبهم حتى يكون رجوعهم كلّهم إلى الله تعالى بقلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عاتبهما على السير من خطرات القلب، ثم قال: «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ... » .
«صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» من لم يكن منهم في قلبه نفاق، مثل أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
وجاء: أن عمر بن الخطاب لما سمع شيئا من ذلك قال لرسول الله:
لو أمرتنى لأضربنّ عنقها! «2»
__________
(1) دخل عليه عمر في المشربة فإذا هو مضطجع على حصير قد أثّر في جنبه، وبجواره قبضة من شعير وتكاد خزانته تخلو من كل شىء فبكى عمر وقال: يا نبيّ الله.. أنت رسول الله.. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، فقال النبي: يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ فقال عمر: إن كان يشق عليك من أمر النساء.. فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته، وأنا وأبو بكر والمؤمنون! ولم يزل يحدثه حتى تبسّم صلوات الله عليه وخرجا إلى الناس.
(2) لما سمع عمر الناس بالمسجد يقولون: لقد طلق الرسول نساءه! غضب وذهب إلى بيت النبي ليعلم الأمر فذهب أولا إلى عائشة وقال: يا بنة أبى بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله؟ فقالت: يا بن الخطاب عليك بعيبتك، فاتجه إلى حفصة وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لايحبك ولولا أنا لطلقك.. فبكت بكاء شديدا.
وذهب إلى رسول الله قائلا: والله لئن أمر في رسول الله بضرب عنق ابنتي لفعلت.(3/606)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضى الله عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية.
[سورة التحريم (66) : الآيات 5 الى 6]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)
ثم قال تعالى زيادة في العتاب وبيان القصة:
قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» أي: فقّهوهم، وأدّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.
ودلّت الآية: على وجوب الأمر بالمعروف في الدّين للأقرب فالأقرب.
وقيل: أظهروا من أنفسكم العبادات ليتعلّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم.
ويقال: دلّو هم على السّنّة والجماعة.
ويقال: علّموهم الأخلاق الحسان.
ويقال: مروهم بقبول النصيحة.
«وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» : الوقود: الحطب.
ويقال: أمر الناس يصلح بحجرة أو مدرة، فإن أصل الإنسان مدرة، ولو أنه أقام حجرة مقام مدرة فلا غرو من فضل الله.
اللهمّ فألق فيها بدلنا حجرا وخلّصنا منها.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
إذا فات الوقت استفحل الأمر، وانغلق الباب، وسقطت الحيل.. فالواجب البدار والفرار لتصل إلى روح القرار.(3/607)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
التوبة النصوح: هى التي لا يعقبها نقض.
ويقال: هى التي لا تراها من نفسك، ولا ترى نجاتك بها، وإنما تراها بربّك.
ويقال: هى أن تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة كما كنت تجد الراحة لنفسك عند فعلها.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
لا يخزى الله النبيّ بترك شفاعته، والذين آمنوا معه بافتضاحهم بعد ما قبل فيهم شفاعته.
«نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» عبّر بذلك عن أنّ الإيمان من جميع جهاتهم.
ويقال: بأيمانهم كتاب نجاتهم: أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم، وما يخصّهم الله به من الأنوار في ذلك اليوم.
«يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» : يستديمون التضرّع والابتهال في السؤال «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
أمره بالملاينة في وقت الدعوة، وقال: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «2» ثم لمّا أصرّوا- بعد بيان الحجّة- قال: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» : لأن هذا في حال إصرارهم، وزوال أعذارهم.
__________
(1) هذه الإشارة موجهة إلى الصوفية من بعيد كى لا يكفوا عن التضرع والابتهال قط فإن خير العمل أدومه فالاستدامة شرط أساسى لأن الطريق الصوفي طويل وشاق.
(2) آية 125 سورة النحل.(3/608)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
لمّا سبقت لهما الفرقة يوم القسمة لم تنفعهما القربة يوم العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 11]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
قالوا: صغرت همّتها حيث طلبت بيتا في الجنة، وكان من حقّها أن تطلب الكثير.. ولا كما توهّموا: فإنها قالت: ربّ ابن لى عندك، فطلبت جوار القربة، ولبيت في الجوار أفضل من ألف قصر في غير الجوار. ومن المعلوم أنّ العنديّة هنا عنديّة القربة والكرامة.. ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا:
إنى لأحسد جاركم لجواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارك باعني من داره ... شبرا لأعطيه بشبر دارا
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (66) : آية 12]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
ختم السورة بذكرها بعد ما ذكر امرأة فرعون، وهما من جملة النساء، ولمّا كثر في هذه السورة ذكر النساء أراد الله سبحانه ألّا يخلى السورة من ذكرها تخصيصا لقدرها «1»
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (لذكرها) والصواب ما أثبتنا. وجميل من القشيري أن يلفت نظرنا إلى هذا الملحظ- الذي فظن- والله أعلم- أن فيه تنبيها لنساء النبي بعرض نموذجين لامرأتين صالحتين عزفتا عن الدنيا.(3/609)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
سورة الملك
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لم تتعطّر القلوب إلّا بنسيم إقباله، ولم تتقطّر الدموع إلّا للوعة فراقه أو روح وصاله فدموعهم في كلتا الحالتين منسكبة، وقلوبهم في عموم أحوالهم ملتهبة وعقولهم في غالب أوقاتهم منتهبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
تقدّس وتعالى، من إحسانه تواتر وتوالى، فهو المتكّبر في جلال كبريائه، المتجرّد فى علاء بهائه ودوام سنائه.
«بِيَدِهِ الْمُلْكُ» : بقدرته إظهار ما يريد، وهو على كل شىء قدير.
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» خلق الموت والحياة، ابتلاء للخلق، يختبرهم ليظهر له شكرانهم وكفرانهم، كيف يكونان عند المحنة في الصبر وعند النعمة في الشكر- وهو العزيز الغفور.
«الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟»
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم بشأن هذه السورة: «هى المانعة هي المنجية تنجيكم من عذاب القبر» .(3/610)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
عرّفهم كمال قدرته بدلالات خلقه، فسمك السماء وأمسكها بلا عمد، وركّب أجزاءها غير مستعين بأحد في خلقها، وبالنجوم زيّنها، ومن استراق سمع الشياطين حصّنها، وبغير تعليم معلّم أحكمها وأتقنها.
«ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» : لا ترى فيما خلق تفاوتا ينافى آثار الحكمة ولا يدل على كمال القدرة.
ويقال: ما ترى فيها تفاوتا، فى استغنائه عن الجميع.. ما ترى فيها تفاوتا في الخلق فخلق الكثير واليسير عنده سيّان، فلا يسهل عنده القليل ولا يشقّ عليه الكثير لأنه متنزّه عن السهولة عليه ولحوق المشقة به.
فأنعم النظر، وكرّر السّبر والفكر.. فلن تجد فيها عيبا «1» ولا في عزّه قصورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : آية 5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
زيّن السماء بالكواكب والنجوم، وزيّن قلوب أوليائه بأنواع من الأنوار والنجوم فالمؤمنون قلوبهم مزيّنة بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأمّل البرهان، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مزيّنة بشمس التوحيد، وأرواحهم مزيّنة بأنوار التفريد، وأسرارهم مزينة بآثار التجريد «2» .. وعلى القياس: لكلّ طائفة أنوار.
«وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم.. فأخبر أن هذا القدر من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفى، وإنما يعذّبهم مؤبّدين في السعير.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (عبثا) .
(2) يميز الكلاباذى بين التفريد والتجريد فيقول (ملخصا) :
التجريد: أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض، يفعل ذلك لوجوب حقّ الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه، ويتجرد بسره عن المقامات والأحوال التي ينازلها.
والتفريد: أن ينفرد عن الأشكال، وينفرد في الأحوال، ويتوحد في الأفعال ويغيب عن رؤية أحواله برؤية محوّلها ولا بأنس بأشكاله ولا يستوحش (التعرف ص 133) .(3/611)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
أخبر: أنهم يحتجّ عليهم بإرسال الرسل، فتقول لهم الملائكة: ألم يأتكم نذير؟
«قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ... » فأخبر أنهم لم يكن لهم سمع قبول، فاستوجبوا العقوبة لأجله «1» ، لم يسمعوا نصيحة الناصحين ولا وعظ الواعظين، ولا ما فيه لقلوبهم حياة.
وفي الآية للمؤمنين بشارة لأنهم يسمعون ويعقلون ما يسمعون فإنّ من سمع بالحقّ سمع كل ما يقال عن الحق من كل من يقول عن الحق، فيحصل له الفهم لما يسمع، لأنه إذا كان من أهل الحقائق يكون سمعه من الله وبالله وفي الله.
قوله جل ذكره: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» اعترفوا بذنبهم ولكن في غير وقت الاعتراف.. فلا جرم يقال لهم: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» .
__________
(1) من الآية ومن إشارتها يتضح: أن العقوبة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل الذين يبسطون الحجة ويسقطون العذر.(3/612)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
الخشية توجب عدم القرار «1» فيكون العبد أبدا- لانزعاجه- كالحبّ على المقلى لا يقرّ ليله أو نهاره، يتوقّع العقوبات مع مجارى الأنفاس، وكلّما ازداد في الله طاعة ازداد لله خشية.
قوله جل ذكره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» خوّفهم بعلمه، وندبهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السّرّ وأخفى، ويسمع الجهر والنجوى ...
ثم قال مبيّنا:
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وفي كل جزء من خلقه- من الأعيان والآثار- أدلة على علمه وحكمه.
قوله جل ذكره: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» أي إذا أردتم أن تضربوا في الأرض سهّل عليكم ذلك.
كذلك جعل النّفس ذلولا فلو طالبتها بالوفاق وجدتها مساعدة موافقة، متابعة مسابقة ... وقد قيل في صفتها:
هى النّفس ما عوّدتها تتعود ... وللدهر أيام تذمّ وتحمد
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 20]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (الفراق) والصواب ما أثبتنا- بدليل ما بعدها.(3/613)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
«مَنْ فِي السَّماءِ» أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء، فهم موكّلون بالعذاب.
وخوّفهم بالملائكة أن ينزلوا عليهم العقوبة من السماء، أو يخسفوا بهم الأرض، وكذلك خوّفهم أن يرسلوا عليهم حجارة كما أرسلوا على قوم لوط. وبيّن أنّ من كذّب قبل هؤلاء رسلهم كيف كانت عقوبتهم، ثم زاد في البيان وقال:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» أولم يروا كيف خلق الطيور على اختلاف أجناسها، واختصاصها بالطيران لأن لها أجنحة- بخلاف الأجسام «1» الأخر ... من الذي يمسكهن ويحفظهن وهن يقبضن ويبسطن أجنحتهن فى الفضاء؟ وما الذي يوجبه العقل حفظ هذه الطيور أم بقية الأجسام الأخر؟.
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» إن أراد الرحمن بك سوءا.. فمن الذي يوسّع عليكم ما قبضه، أو يمحو ما أثبته، أو يقدّم ما أخّره، أو يؤخّر ما قدّمه؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (67) : الآيات 22 الى 30]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (الأصنام) والصواب ما أثبتناه، لأن المقصود المقارنة بين الطيور وغيرها من (الأجسام) بصفة عامة. [.....](3/614)
وخصّكم بالسمع والبصر والأفئدة، وأنتم لا تشكرون عظيم نعمه.
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» وأجاب عنه حيث قال: لا تستعجلوا العذاب، وبيّن أنهم إذا رأوه كيف يخافون وكيف يندمون.
قوله جل ذكره: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ... »
وإليه أمورنا- جملة- فوّضنا.
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» من الذي يأتيكم بالماء إذا صار غائرا في الأرض لا تناله الأيدى.
وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم.. ولم يكن لواحد عن ذلك جواب.(3/615)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
سورة القلم
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من شهد لطفه لم يتذلّل بعده لمخلوق، ولم يستعن فيما نابه من ضرّ أصابه أو خير أراده بمحدث مرزوق.
إن أعطاه قابله بالشّكر، وإن منعه استجابه بجميل الحمد «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
«ن» قيل: الحوت الذي على ظهره الكون، ويقال: هى الدواة.
ويقال: مفتاح اسمه ناصر واسمه نور.
ويقال: إنه أقسم بنصرة الله تعالى لعباده المؤمنين.
وأقسم بالقلم- وجواب القسم قوله:
«ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ما أوجب لصدره من الوحشة من قول الأعداء عنه:
إنه مجنون، أزاله عنه بنفيه، ومحقّقا ذلك بالقسم عليه ... وهذه سنّة الله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم فما يقوله الأعداء فيه يردّه- سبحانه- عليهم بخطابه وعنه ينفيه.
__________
(1) هكذا في ص، وفي م سورة ن والقلم.
(2) يمكن أن يفيد ذلك في التمييز بين الشكر والحمد- كما يرى القشيري.(3/616)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
«وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» : أي غير منقوص.. لمّا سمت همّته صلى الله عليه وسلم عن طلب الأعواض أثبت الله له الأجر، فقال له: إن لك لأجرا غير منقوص- وإن كنت لا تريده.
ومن ذلك الأجر العظيم هذا الخلق، فأنت لست تريد الأجر- وبنا لست تريد فلولا أن خصصناك بهذا التحرّر لكنت كأمثالك في أنهم في أسر الأعواض.
قوله جل ذكره: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» كما عرّفه الله سبحانه أخبار من قبله من الأنبياء عرّفه أنه اجتمعت فيه متفرقات أخلاقهم فقال له: إنك لعلى خلق عظيم.
ويقال: إنه عرض عليه مفاتيح الأرض فلم يقبلها، ورقّاه ليلة المعراج، وأراه جميع الملكة والجنة فلم يلتفت إليها، قال تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» فما التفت يمينا ولا شمالا، ولهذا قال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. ويقال: «لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» :
لا بالبلاء تنحرف، ولا بالعطاء تنصرف احتمل صلوات الله عليه في الأذى شجّ رأسه وثغره، وكان يقول:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . وغدا كلّ يقول: نفسى نفسى وهو صلوات الله عليه يقول: أمتى أمتى.
ويقال: علّمه محاسن الأخلاق بقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» «1» .
سأل صلوات الله عليه جبريل: بماذا يأمرنى ربى؟ قال: يأمرك بمحاسن الأخلاق يقول لك: صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمّن ظلمك، فتأدّب بهذا فأثنى عليه وقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 6 الى 16]
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
__________
(1) آية 199 سورة الأعراف.(3/617)
المفتون: المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون.
«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» معبودك واحد فليكن مقصودك واحدا ... وإذا شهدت مقصودك واحدا فليكن مشهودك واحدا..
«وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» من أصبح عليلا تمنّى أن يكون الناس كلّهم مرضى.. وكذا من وسم بكيّ الهجران ودّ أن يشاركه فيه من عاداه.
«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» وهو الذي سقط من عيننا، وأقميناه بالبعد عنا.
«هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» محجوب عنّا معذّب بخذلان الوقيعة في أوليائنا.
«مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» «1» مهان بالشّحّ، مسلوب التوفيق.
«مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» ممنوع الحياء، مشتّت في أودية الحرمان.
«عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» لئيم الأصل، عديم الفضل، شديد الخصومة بباطله، غير راجع في شىء من الخير إلى حاصله.
«أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»
__________
(1) عند الجمهور- هو الوليد بن المغيرة، وكان يقول لبنيه العشرة: من أسلم منكم منعته رفدى.(3/618)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
(أي: لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين ... ثم استأنف الكلام فقال) «1» : إذا تتلى ... قابلها بالتكذيب، وحكم أنّ القرآن من الأساطير.
«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» أي سنجعل له في القيامة على أنفه نشويها لصورته كى يعرف بها.
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30)
أي امتحنّاهم «2» .. حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فابتلاهم الله بالجوع، حتى أكلوا الجيف- كما بلونا أصحاب الجنة، قيل: إن رجلا من أهل اليمن كانت له جنة مثمرة وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شىء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فما أخطأه القطاف من نخله وكرمه يدعه للمساكين. وكان يجتمع منه مال، فلما مات هو قال ورثته: إنّ هذا المال تفرّق فينا، وليس يمكننا أن نفعل ما كان يفعله أبونا، وأقسموا ألا يعطوا للفقراء شيئا، فأهلك الله جنّتهم فندمو وتابوا.
وقيل: أبدلهم الله جنة حسنة، فأقسموا ليصرمنّ جنّتهم وقت الصبح قبل أن تفطن المساكين، ولم يقولوا: إن شاء الله:
«فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» أرسل عليها من السماء آفة فأحرقت ثمارهم. وأصبحت «كَالصَّرِيمِ» أي كالليل المسودّ، فنادى بعضهم بعضا وقت الصبح: أن اغدوا على حرثكم إن أردتم الصرام، فانطلقوا
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.. والمعنى: لا تطعه- مع هذه النقائص والمنالب- ليساره وحظه من الدنيا وكثرة أولاده.
(2) يقصد أهل مكة حين دعا عليهم الرسول: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف.(3/619)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
لا يرفعون أصواتهم فيما بينهم لئلا يسمعهم أحد. وقصدوا إلى الصرام «عَلى حَرْدٍ» أي:
قادرين عند أنفسهم، ويقال: على غضب منهم على المساكين.
فلمّا رأوا الجنة وقد استؤصلت قالوا: ليست هذه جنتنا!! ثم قالوا: بل هذه جنّتنا ... ولكنّا حرمنا خيرها.
قال أوسطهم: أي أعدلهم طريقة وأحسنهم قولا:
«أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ؟» أي: تستثنون وتقولون: إن شاء الله «1» .
«قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، ويقولون:
[سورة القلم (68) : آية 33]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قال تعالى: «كَذلِكَ الْعَذابُ» لأهل مكة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» :
وهكذا «2» تكون حال من له بداية حسنة ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله في الوقت نشاطا، وتلوح في باطنه الأحوال. فإذا بدر منه سوء دعوى أو ترك أدب من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال ويقع في قره «3» من الأعمال. فإذا حصل منه بالعبادات إخلال، ولبعض الفرائض إهمال- انقلب حاله، وردّ من الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، فصارت صفوته قسوة. وإن كان له بعد ذلك توبة، وعلى ما سلف منه ندامة- فقد فات الأمر من يده، وقلمّا يصل إلى حاله.
__________
(1) هذا أيضا رأى مجاهد، فجعل قول: إن شاء الله من التسبيح، وهذه هي حقيقة تقديم المشيئة، فهى تنزيه لله بأن لا شىء إلا بمشيئته.
(2) هذه الإشارة موجهة إلى أرباب السلوك يقصد بها إلى التوضيح أن العبرة بالخواتيم، وينبغى الاهتمام بهذه الفقرة كلها عند بحثنا عن «وصايا القشيرى للمريدين» .
(3) جمع أقره وهو ما اسودّ من الجلد وتقشّر.(3/620)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
ولا يبعد أن ينظر إليه الحقّ بأفضاله، فيقبله بعد ذلك رعاية لما سلف في بدايته من أحواله ... فإنّ الله تعالى رءوف بعباده.
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 37]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
الذين يتقون الشّرك والكفر، ثم المعاصي والفسق، لهم عند الله الثواب والأجر.
قوله جل ذكره: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟» كيف تحكمون؟ هل لديكم حجة؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ أم لكم منا عهود فيها تحكمون؟ والمقصود من هذه الأسئلة نفى ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 43]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
«عَنْ ساقٍ» : أي عن شدّة يوم القيامة.
ويقال في التفسير: عن ساق العرش.
يؤمرون بالسجود فأمّا المؤمنون فيسجدون، وأمّا الكفار فتشدّ أصلابهم فلا تنحنى.
وقيل: يكشف المريض عن ساقه- وقت التوفّى- ليبصر ضعفه، ويقول المؤذّن:
حيّ على الصلاة- فلا يستطيع.
وعلى الجملة فقد خوّفهم بهذه القالة: إمّا عند انتهائهم في الدنيا أو ابتدائهم في الآخرة.
« ... وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» يذكّرهم بذلك ليزدادوا حسرة، ولتكون الحجة عليهم أبلغ.(3/621)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 47]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
سنقرّبهم من العقوبة بحيث لا يشعرون.
والاستدراج: أن يريد الشيء ويطوى عن صاحبه وجه القصد فيه، ويدرجه إليه شيئا بعد شىء، حتى يأخذه بغتة.
ويقال: الاستدراج: التمكين من النّعم مقرونا بنسيان الشكر «1» .
ويقال: الاستدراج: أنهم كلما ازدادوا معصية زادهم نعمة.
ويقال: ألّا يعاقبه في حال الزّلّة، وإنما يؤخّر العقوبة إلى ما بعدها.
ويقال: هو الاشتغال بالنعمة مع نسيان المنعم.
ويقال: الاغترار بطول الإمهال.
ويقال: ظاهر مغبوط وباطن مشوّش.
قوله جل ذكره: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أمهلهم.. ثم إذا أخذتهم فأخذى أليم شديد.
قوله جل ذكره: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» أي: ليس عليهم كلفة مقابل ما تدعوهم إليه، وليست عليهم غرامة إن هم اتبعوك.. فأنت لا تسأل أجرا.. فما موجبات التأخّر وترك الاستجابة؟
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟» أَمْ عِنْدَهُمُ شىء من الغيب انفردوا به وأوجب لهم أن لا يستجيبوا؟» .
__________
(1) فى النسختين (بلسان) وهي خطأ قطعا، فقد اشتهت على كلا الناسخين. ويؤيد رأينا قول سفيان الثوري فى «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر (القرطبي ح 18 ص 251) .(3/622)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قوله جل ذكره:
[سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، نادى وهو مكظوم: مملوء بالغيظ على قومه.
فلا تستعجل- يا محمد- بعقوبة قومك كما استعجل يونس فلقى ما لقى، وتثبّت عند جريان حكمنا، ولا تعارض تقديرنا.
«لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ» أي: لولا أنّ الله رحمه بفضله لطرح بالفضاء وهو مذموم ولكن:
«فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» فاصطفاه واختاره، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.
قوله جل ذكره: «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ» كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئا بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام، ثم جاعوا ونظروا إلى ذلك الشيء قائلين: ما أحسنه من شىء! فكان يسقط المنظور في الوقت. وقد فعلوا ذلك بالنبي صلوات الله عليه، فقالوا: ما أفصحه من رجل! ولكنّ الله سبحانه حفظه، ومن بذكره عليه «1» .
__________
(1) ننبه إلى نقطة هامة.. ورود اسم القشيري عند القرطبي لا يعنى أنه إمامنا عبد الكريم القشيري صاحب هذا الكتاب، بل ربما كان أحد أبنائه الستة.. فكلهم أئمة. وربما كان ابنه أبا نصر عبد الرحمن (انظر القرطبي الجزء العشرين ص 54) وليس أدل على ذلك من المقارنة بين قول القشيري هنا وما جاء عند القرطبي في ح 18 ص 255 (قال القشيري: وفي هذا نظر لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض، ولهذا قال: ويقولون إنه لمجنون) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.(3/623)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
سورة الحاقّة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة تحتاج في سماعها إلى سمع عزيز لم يستعمل في سماع الغيبة، وتحتاج فى معرفتها إلى قلب عزيز لم يتبذّل في الغفلة والغيبة، لم ينظر صاحبه بعينه إلى ما فيه رتبة، ولم تتبع نفسه اللّبس «1» والطّبّة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
«الْحَاقَّةُ» : اسم للقيامة لأنها تحقّ «3» كلّ إنسان بعمله خيره وشرّه.
«وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» : استفهام يفيد التعظيم لأمرها، والتفخيم لشأنها.
قوله جل ذكره: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» ذكر في هذه السورة: الذين كذّبوا رسلهم من الأمم، وأصرّوا على كفرهم، ولم يقبلوا النصيحة من أنبيائهم، فأهلكهم، وانتقم لأنبيائه منهم.
والفائدة في ذكرهم: الاعتبار بهم، والتحرّر عمّا فعلوا لئلا يصيبهم ما أصابهم.
وعقوبة هذه الأمة مؤجّلة مؤخّرة إلى القيامة، ولكنّ خواصّهم عقوبتهم معجّلة فقوم
__________
(1) هكذا في ص أما في م فهى (اللهو) .
(2) هكذا في ص وهي في م (الطيبة) وقد رجحنا- وهو ترجيح بعيد- أنها قد تكون (الطّيّبة) بمعنى الحذق والمهارة الناتجين عن الحيلة والتدبير، وربما كانت (ولم يتبع مع نفسه اللين والطيبة فالنفس أعدى الأعداء) .
(3) لأنها تحق كل محاق في دين الله أي كل مخاصم (وهو قول الأزهرى) . وحاقّه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق (الصحاح) . [.....](3/624)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
من هذه الطائفة إذا أشاعوا سرّا، أو أضاعوا أدبا يعاقبهم برياح الحجبة «1» ، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الاحتشام للدّين، ولا ممّا كان لهم من الأوقات، ويصيرون على خطر في أحوالهم بأن يمتحنوا (بالاعتراض على التقدير) «2» والقسمة.
وأمّا فرعون وقومه فكان عذابهم بالغرق.. كذلك من كان له وقت فارغ وهو بطاعة ربّه مشتغل، والحقّ عليه مقبل- فإذا لم يشكر النعمة، وأساء أدبه، ولم يعرف قدر ما أنعم الله به عليه ردّه الحقّ إلى أسباب التفرقة، ثم أغرقه في بحار الاشتغال فيتكدر مشربه، ويصير على خطر بأن يدركه سخط الحقّ وغضبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 11 الى 13]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
وكذلك تكون منّته على خواصّ أوليائه حين يسلمهم في سفينة العافية، والكون يتلاطم فى أمواج بحار الاشتغال على اختلاف أوصافها، فيكونون بوصف السلامة، لا منازعة ولا محاسبة لهم مع أحد، ولا توقع شىء من أحد سالمون من الناس، والناس منهم سالمون.
قوله جل ذكره: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ....»
بدأ في وصف القيامة والحساب..
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 21]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)
وفي كلّ نفس مع هؤلاء القوم «3» محاسبة ومطالبة، منهم من يستحق المعاتبة، ومنهم من يستحق المعاقبة.
__________
(1) فى الإشارة قياس على الرياح التي أهلكت عادا.
(2) موجود في ص أما في م فهى (الإعراض) فقط.
(3) يقصد أهل المجاهدات والمذاقات.(3/625)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» يسلم له السرور بنعمة الله، ويأخذ في الحمد والمدح.
«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» القوم- غدا- فى عيشة راضية أي مرضيّة لهم، وهؤلاء القوم- اليوم- فى عيشة راضية، والفرق بينهما أنهم- غدا- فى عيشة راضية لأنه قد قضيت أوطارهم، وارتفعت مآربهم، وحصلت حاجاتهم، وهم- اليوم- فى عيشة راضية إذ كفّوا مآربهم فدفع عن قلوبهم حوائجهم فليس لهم إرادة شىء، ولا تمسّهم حاجة. وإنما هم في روح الرضا..
فعيش أولئك في العطاء، وعيش هؤلاء في الرضاء لأنه إذا بدا علم من الحقيقة أو معنى من معانيها فلا يكون ثمة حاجة ولا سؤال. ويقال لأولئك غدا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 24 الى 27]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ويقال لهؤلاء: اسمعوا واشهدوا ... اسمعوا منّا.. وانظروا إلينا، واستأنسوا بقربنا، وطالعوا جمالنا وجلالنا.. فأنتم بنا ولنا.
قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» هناك- اليوم- أقوام مهجورون تتصاعد حسراتهم، ويتضاعف أنينهم- ليلهم ونهارهم- فليلهم ويل ونهارهم بعاد تكدّرت مشاربهم، وخربت أوطان أنسهم، ولا بكاؤهم يرحم، ولا أنينهم يسمع.. فعندهم أنهم مبعدون ... وهم في الحقيقة من الله مرحومون، أسبل عليهم الستر فصغّرهم في أعينهم- وهم أكرم أهل القصة! كما قالوا:(3/626)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
لا تنكرن جحدى هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 46]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
«لا» : صلة والمعنى: أقسم كأنه قال: أقسم بجميع الأشياء، لأنه لا ثالث لما يبصرون وما لا يبصرون. وجواب القسم:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» أي وجيه عند الله. وقول الرسول الكريم هو القرآن أو قراءة القرآن.
وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن أي أن محمدا ليس شاعرا ولا كاهنا بل هو:
«تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
قوله جل ذكره: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي لو كان محمد يكذب علينا لمنعناه منه وعصمناه عنه، ولو تعمّد لعذّبناه. والقول بعصمة الأنبياء واجب. ثم كان لا ناصر له منكم ولا من غيركم، وهذا القرآن:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 48 الى 51]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
حقّ اليقين هو اليقين فالإضافة هكذا إلى نفس الشيء «1» .
وعلوم الناس تختلف في الطرق إلى اليقين خفاء وجلاء فما يقال عن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين يرجع إلى كثرة البراهين، وخفاء الطريق وجلائه، ثم إلى كون بعضه ضروريا وإلى بعضه كسبيا، ثم ما يكون مع الإدراكات «2» .
__________
(1) لو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه كما لا تقول: هذا ورد الأحمر، فالإضافة هنا- كما يرى القشيري- إلى الشيء نفسه. فإن القرآن حق يقين ويقين حقّ.
(2) انظر محاولة القشيري التفرقة بين معانيها في رسالته ص 47.(3/627)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
سورة المعارج
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من قالها وجد جمالها، ومن شهدها شهد جلالها.
وليس كلّ من قالها نالها، ولا كلّ من احتالها «1» عرف جلالها.
كلمة رفيعة عن إدراك الألباب منيعة، كلمة على الحقيقة الصمدية دالّة، كلمة لا بدّ للعبد من ذكرها في كل حالة.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
الباء في «بِعَذابٍ» بمعنى عن، أي سأل سائل «2» عن هذا العذاب لمن هو؟
فقال تعالى:
«لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» هذا العذاب للكافرين ليس له دافع من الله ذى المعارج فهذا العذاب من الله.
ومعنى «ذِي الْمَعارِجِ» ذى الفضل ومعالى الدرجات التي يبلغ إليها أولياءه.
قوله جل ذكره: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» .
__________
(1) هكذا في النسختين، ولو صحّ أنها هكذا في الأصل فربما كان المعنى: ليس كلّ من ادّعى أنه بحيلته وتدبيره ومهارته وحذقه وصل إليها قد عرف أسرارها.
(2) هو النضر بن الحارث قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وربما تكون سأل بمعنى دعا، ويكون السائل هو النبي (ص) .(3/628)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
«الرُّوحُ» أي جبريل، فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من أيام الدنيا يعنى به يوم القيامة.
ويقال: معناه يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة، والله يجرى ذلك ويمضيه في يوم واحد.
ويقال: من أسفل المخلوقات إلى أعلاها مسيرة خمسين ألف سنة للناس فالملائكة تعرج فيه من أسفله إلى أعلاه في يوم واحد.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 10]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)
فاصبر- يا محمد «1» - على مقاساة أذاهم صبرا جميلا. والصبر الجميل ما لا شكوى فيه.
ويقال: الصبر الجميل ألا تستثقل الصبر بل تستعذبه.
ويقال: الصبر الجميل ما لا ينتظر العبد الخروج منه، ويكون ساكنا راضيا.
ويقال: الصبر الجميل أن يكون على شهود المبلى.
ويقال: الصبر الجميل ما تجرّد عن الشكوى والدّعوى.
قوله جل ذكره: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» إنّ ما هو آت فقريب، وما استبعد من يستبعد إلّا لأنّه مرتاب فأمّا الواثق بالشيء فهو غير مستبعد له.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» الإشارة فيه أنه في ذلك اليوم من كان في سموّ نخوته ونبوّ صولته يلين ويستكين ويضعف من كان يشرف، ويذلّ من كان يذلّ.
قوله جل ذكره: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» لا يتفرّغ قريب إلى قريب فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (بالحمد) وواضح فيها أنها اشتبهت على الناسخ.(3/629)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
ولا يتعهّد المساكين- فى ذلك اليوم- إلا الله.
[سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 19]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
«يُبَصَّرُونَهُمْ» أي يعرفون أقاربهم، ولكن لا ترقّ قلوب بعضهم على بعض.
ويتمنّى المجرم يومئذ أن يفتدى من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من قريب ونسيب وحميم وولد، وبكلّ من في الأرض حتى يخلص من العذاب.
«كَلَّا إِنَّها لَظى» اسم من أسماء جهنم.
«نَزَّاعَةً لِلشَّوى» «1» قلّاعة للأطراف. تكشط الجلد عن الوجه وعن العظم.
قوله جل ذكره: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى» تقول جهنم للكافر والمنافق: يا فلان ... إليّ إليّ.
والإشارة فيه: أنّ جهنم الدنيا تعلق بقلب المرء فتدعوه بكلاب الحرص إلى نفسه وتجرّه إلى جمعها حتى يؤثرها على نفسه وكلّ أحد له حتى لقد يبخل بدنياه على أولاده وأعزّته ...
وقليل من نجا من مكر الدنيا وتسويلاتها.
قوله جل ذكره: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» .
__________
(1) والشّوى جمع شواة وهي جلدة الرأس، قال الأعشى:
قالت قتيلة: ماله ... قد جللت شيبا شواته
وجاء في الصحاح: الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه أي لم يصب المقتل.
وقال الضحاك: تفرى الجلد واللحم عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. ونرى أن المقصود- والله أعلم.
أن العذاب لا يقضى عليهم، حتى يستمر واقعا بهم إلى الأبد.(3/630)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
وتفسيره ما يتلوه:
[سورة المعارج (70) : الآيات 20 الى 25]
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
والهلع شدّة الحرص مع الجزع. ويقال هلوعا: متقلّبا في غمرات الشهوات.
ويقال: يرضيه القليل ويسخطه اليسير.
ويقال: عند المحنة يدعو، وعند النعمة ينسى ويسهو.
«إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» استثنى منهم المصلين- وهم الذين يلازمون أبدا مواطن الافتقار من صلى بالمكان «1» .
«وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» وهو المتكفّف والمتعفّف.
وهم على أقسام: منهم من يؤثر بجميع ماله فأموالهم لكلّ من قصد، لا يخصّون سائلا من عائل. ومنهم من يعطى ويمسك- وهؤلاء «2» منهم- ومنهم من يرى يده يد الأمانة فلا يتكلّف باختياره، وإنما ينتظر ما يشار عليه به من الأمر إمّا بالإمساك فيقف أو ببذل الكلّ أو البعض فيستجيب على ما يطالب به وما يقتضيه حكم الوقت ...
وهؤلاء أتمّهم.
__________
(1) صليت الناقة أو الحامل ونحوهما استرخى صلاها لقرب نتاجها (الوسيط) .
(2) أي الذين تتحدث عنهم الآية.(3/631)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
[سورة المعارج (70) : الآيات 26 الى 33]
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وأمارتهم الاستعداد للموت قبل نزوله، وأن يكونوا كما قيل:
مستوفزون على رجل كأنهمو ... فقد يريدون أن يمضوا فيرتحلوا
قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» وإنما تكون صحبتهم مع أزواجهم للتّعفّف وصون النّفس، ثم لابتغاء أن يكون له ولد من صلبه يذكر الله. وشرط هذه الصحبة: أن يعيش معها على ما يهون، وألا يجرّها إلى هوى نفسه ويحملها على مراده وهواه.
قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» يحفظون الأمانات التي عندهم للخلق ولا يخونون فيها. وأمانات الحق التي عندهم أعضاؤهم الظاهرة- فلا يدنّسونها بالخطايا فالمعرفة التي في قلوبهم أمانة عندهم من الحق، والأسرار التي بينهم وبين الله أمانات عندهم. والفرائض واللوازم والتوحيد.. كل ذلك أمانات.
ويقال: من الأمانات إقرارهم وقت الذّرّ. ويقال: من الأمانات عند العبد تلك المحبة التي أودعها الله في قلبه.
قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» شهادتهم لله بالوحدانية، وفيما بينهم لبعضهم عند بعض- يقومون بحقوق ذلك كله.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 43]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
والإهطاع أن يقبل ببصره إلى الشيء فلا يرفعه عنه، وكذلك كانوا يفعلون عند النبي صلى الله عليه وسلم و «عِزِينَ» : أي خلقا خلقا، وجماعة جماعة.(3/632)
«أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟» كلا.. إنك لا تدعو عن هذا! وليس هذا بصواب فإنهم- اليوم- كفار، وغدا يعاملون بما يستوجبون.
«فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ..» لا- هنا صلة، والمعنى أقسم. وقد مضى القول فى المشارق والمغارب- «إِنَّا لَقادِرُونَ» على ذلك.
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا» غاية التهديد والتوبيخ لهم.
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً» كأنهم يسرعون إلى أصنامهم، شبّه إسراعهم حين قاموا من القبور بإسراعهم إلى النّصب- اليوم- كى يقوموا بعبادتهم إياها.(3/633)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
سورة نوح
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم لمن قامت السماوات والأرض بقدرته، واستقامت الأسرار والقلوب بنصرته.. دلّت الأفعال على جلال شانه، وذلّت الرّقاب عند شهود سلطانه. أشرقت الأقطار بنوره في العقبى، وأشرقت الأسرار بظهوره في الدنيا، فهو المقدّس بالوصف الأعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
أرسلنا نوحا بالنبوّة والرسالة. «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» أي بأن أنذرهم وإرسال الرّسل من الله فضل «1» ، وله بحق ملكه أن يفعل ما أراد، ولم يجب عليه إرسال الرّسل لأن حقيقته لا تقبل الوجوب.
وإرسال الرسل إلى من علم أنه لا يقبل جائز «2» ، وتكليفهم من ناحية العقل جائز «3» فنوح- علم منهم أنهم لا يقبلون.. ومع ذلك بلّغ الرسالة وقال لهم: إنى لكم نذير مبين:
[سورة نوح (71) : الآيات 4 الى 7]
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)
__________
(1) فى النسختين (فعل) وهي صواب بدليل قوله فيما بعد: (أن يفعل) ما أراد ولكننا رجحنا (فضل) لأن القشيري يستحسن استعمال (الفضل) عند ما يتحدث عن نفى (الوجوب) على الله.
(2) كى يكون ذلك عليهم حجة، قال تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .
(3) ولكن لا عقاب إلا بعد إرسال الرسل لأن العقل وحده غير كاف في قطع المعذرة (قارن ذلك بآراء المعتزلة) . [.....](3/634)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
يغفر لكم «مِنْ» ذنوبكم: من هنا للجنس لا للتبعيض كقوله تعالى:
«فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» .
ويقال: ما عملوه دون ما هو معلوم أنهم سيفعلونه لأنه لو أخبرهم بأنه غفر لهم ذلك كان إغراء لهم.. وذلك لا يجوز. فأبوا أن يقبلوا منه، فقال:
«قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» بيّن أنّ الهداية ليست إليه، وقال: إن أردت إيمانهم فقلوبهم بقدرتك- سبحانك.
قوله جل ذكره: «وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» وإنّى ما ازددت لهم دعاء إلا ازدادوا إصرارا واستكبارا.
ويقال: لمّا دام بينهم إصرارهم تولّد من الإصرار استكبارهم، قال تعالى:
«فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» «1» قوله جل ذكره:
[سورة نوح (71) : الآيات 8 الى 11]
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)
__________
(1) آية 16 سورة الحديد.(3/635)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
ليعلم العالمون: أنّ الاستغفار قرع أبواب النعمة، فمن وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلّا بتقديم الاستغفار.
ويقال: من أراد التّفضّل فعليه بالعذر والتنصّل.
قوله: «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ ... » : كان نوح عليه السلام كلّما ازداد في بيان وجوه الخير والإحسان زادوا هم في الكفر والنسيان.
قوله جل ذكره:
[سورة نوح (71) : آية 13]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)
ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وما لكم لا ترجون ولا تؤمّلون على توقيركم للأمر من الله لطفا ونعمة؟.
[سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21)
ثم نبّههم إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما من الدلالات على أنها مخلوقة، وعلى أنّ خالقها يستحقّ صفات العلوّ والعزّة.
ثم شكا نوح إلى الله وقال:
[سورة نوح (71) : آية 22]
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
يعنى كبراءهم وأغنياءهم الذين ضلّوا في الدنيا وهلكوا في الآخرة.
[سورة نوح (71) : آية 26]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26)
وذلك بتعريف الله تعالى إيّاه أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. فاستجاب الله فيهم دعاءه وأهلكهم.(3/636)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
سورة الجنّ
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز به أقرّ من أقرّ بربوبيته، وبه أصرّ من أصرّ على معرفته، وبه استقرّ من استقرّ من خليقته، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته «2» فمن جحد فبخذلانه «3» وحرمانه، ومن وحد «4» فبإحسانه وامتنانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16)
قيل: إن الجنّ كانوا يأتون السماء فيستمعون إلى قول الملائكة، فيحفظونه، ثم يلقونه إلى الكهنة، فيزيدون فيه وينقصون.. وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيّنا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام. فلمّا بعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم ورجموا بالشّهب علم إبليس أنه وقع شىء «5» ففرّ جنوده، فأتى تسعة منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم آتوا قومهم وقالوا: إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ...
إلى آخر الآيات.
(وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ..» ) «6»
__________
(1) أخطأ الناسخ في ص وجعلها (سورة المزمل) بينما التفسير جار لسورة الجن.
(2) إشارة إلى الجن.. وهنا نوع من الترابط بين إيحاءات البسملة والسورة.
(3) الباء هنا معناها (بسبب) أي أن الجاحد جحد بسبب خذلان الله له في القسمة.
(4) هكذا في ص وهي الصواب بينما هي في م (قصد) ونحن نعلم أن القشيري يستعمل (جحد) و (وحد) متقابلين.
(5) «حدث شىء في الأرض» (الترمذي) .
(6) ما بين القوسين ورد في م ولم يرد في ص، والآية هي رقم 29 سورة الأحقاف.(3/637)
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» الجدّ العظمة، والعظمة استحقاق نعوت الجلال.
«وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» أراد بالسفيه الجاهل بالله يعنى إبليس. والشطط السّرف.
«وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فى كفرهم وكلمتهم بالشّرك.
«وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» أي ذلة وصغار فالجنّ زادوا للانس ذلّة ورهقا «1» (فكانوا إذا نزلوا يقولون: نعوذ بربّ هذا الوادي فيتوهم الجنّ أنهم على شىء فزادوهم رهقا) «2» حيث استعاذوا بهم.
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» أي ظنّوا كما ظنّ الكفار من الجن ألّا بعث ولا نشور- كما ظننتم أيها الإنس.
«وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» يعنى حين منعوا عن الاستماع.
«وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» .
__________
(1) أي أن الجن زادوا الإنس رهقا وهو الخطيئة والإثم حين استعاذوا بغير الله.
وقال مجاهد: زاد الإنس الجنّ رهقا أي طغيانا بهذا التعوذ حتّى قالت الجن: سدنا الإنس والجن.
(2) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.(3/638)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
فالآن قد منعنا.
«وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» الاستقامة على الطريقة تقتضى إكمال النعمة وإكثار الراحة. والإعراض عن الله يوجب تنغص العيش ودوام العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 19]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
للمسجد فضيلة، ولهذا خصّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع فهو محلّ العبادة..
وكيف يحلّ العابد عنده إذا حلّ محلّ قدمه «1» ؟!.
ويقال: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها، أخبر أنها لله، فلا تعبدوا بما لله غير الله.
قوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» لما قام عبد الله يعنى محمدا عليه السلام يدعو الخلق إلى الله كاد الجنّ والإنس يكونون مجتمعين عليه، يمنعونه عن التبليغ، قل يا محمد:
[سورة الجن (72) : الآيات 21 الى 23]
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23)
لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّا، أو أسوق لكم خيرا.. فكلّ شىء من الله. ولن أجد من دونه ملتجأ إلا:
__________
(1) العبارة غامضة وتحتاج إلى توضيح.. وربما قصد القشيري إلى أنه إذا كان المسجد وهو محل قدم العابد مكرما ... فما بالك بالعابد نفسه، ومحله عند الله؟.(3/639)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
«إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» فلن ينجّينى من الله إلا تبليغى رسالاته بأمره.
«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» .
قوله جل ذكره:
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
أي: لا أدرى ما توعدون من العقوبة، ومن قيام الساعة أقريب أم بعيد؟ فكونوا على حذر. ويجب أن يتوقّع العبد العقوبات أبدا مع مجارى الأنفاس ليسلم من العقوبة.
قوله جل ذكره: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فيطلعه بقدر ما يريده.
«لِيَعْلَمَ «1» أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» أرسل مع الوحى ملائكة قدّامه وخلفه.. هم ملائكة حفظة، يحفظون الوحى من الكهنة والشياطين، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالات التي يحملها ... والله يعلم ذلك، وأحاط علمه به.
__________
(1) قرأ ابن عباس (ليعلم) أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم.(3/640)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
سورة المزمّل
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : الحادثات بالله حصلت، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصّديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحّدين بساحات جلاله وقفت، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتّصفت وعقول الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت.
قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
أي: المتزمل المتلفّف في ثيابه. وفي الخبر: أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مرطّ من شعر ووبر، وقالت عائشة رضى الله عنها: كان نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله وهو يصلّى، وطول المرط أربعة عشر ذراعا «1» .
«نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» قم الليل إلا قليلا، نصفه بدل منه أي: قم نصف الليل، وأنقص من النصف إلى الثلث أو زد على الثلث، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مخيّرا ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث. وكان ذلك قبل فرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بعد وجوبها على الأمة- وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقال: يا أيها المتزمّل بأعباء النبوّة ... قم الليل.
__________
(1) معنى هذا: أن السورة مدنية وليست مكية، لأن النبي لم يبن بعائشة إلا في المدينة.(3/641)
ويقال: يا أيها الذي يخفى ما خصصناه به قم فأنذر ... فإنّا نصرناك «1» .
ويقال: قم بنا ... يا من جعلنا الليل ليسكن فيه كلّ الناس ... قم أنت فليسكن الكلّ ... ولتقم أنت.
ويقال: لمّا فرض عليه القيام بالليل أخبر عن نفسه لأجل أمّته وإكراما لشأنه وقدره.
وفي الخبر: «أنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا ... » ولا يدرى التأويل للخبر «2» ، أو أنّ التأويل معلوم ... وإلى أن ينتهى إلى التأويل فللأحباب راحات كثيرة، ووجوه من الإحسان موفورة.
قوله جل ذكره: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ارتع بسرّك في فهمه، وتأنّ بلسانك في قراءته.
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» قيل: هو القرآن. وقيل: كلمة لا إله إلا الله.
ويقال: الوحى وسمّاه ثقيلا أي خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان.
ويقال: ثقيل أي: له وزن وخطر. وفي الخبر: كان إذا نزل عليه القرآن- وهو على ناقته- وضعت جرانها «3» ، ولا تكاد تتحرك حتى يسرّى عنه.
وروى ابن عباس: أنّ سورة الأنعام نزلت مرة واحدة فبركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل القرآن وهيبته.
ويقال «ثَقِيلًا» سماعه على من جحده
__________
(1) هذان تخريجان مجازيان للفظة (المزمل) .
(2) هذا الخبر فعلا كان موضع نظر فقد روى عن طريقين عن أبى هريرة على الشك، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) : «إذا مضى شطر الليل- أو ثلثاه ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا» وفي رواية أخرى: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك، أنا الملك من ذا الذي يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر» . وخرجه ابن ماجه من حديث ابن شهاب عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن الرسول (ص) قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ... » وهكذا انتظم الحديث والقرآن. [.....]
(3) أي: صدرها.(3/642)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
ويقال: «ثقيلا بعبئه- إلّا على من أيّد بقوة سماوية، وربّى في حجر التقريب» قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (73) : الآيات 6 الى 9]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
أي: ساعات الليل، فكلّ ساعة تحدث فهى ناشئة «1» ، وهي أشد وطئا أي: موطّأة أي: هى أشدّ موافقة للسان والقلب، وأشدّ نشاطا.
ويحتمل: هى أشدّ وأغلظ على الإنسان من القيام بالنهار.
«وَأَقْوَمُ قِيلًا» أي: أبين قولا.
ويقال: هى أشدّ مواطأة للقلب وأقوم قيلا لأنها أبعد من الرياء، ويكون فيها حضور القلب وسكون السّرّ أبلغ وأتمّ.
قوله جل ذكره: «إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا» أي: سبحا في أعمالك، والسبح: الذهاب والسرعة، ومنه السباحة في الماء.
فالمعنى: مذاهبك في النهار فيما يشغلك كثيرة- والليل أخلى لك.
قوله جل ذكره: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» أي: انقطع إليه انقطاعا تاما.
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» الوكيل من توكل إليه الأمور أي: توكّل عليه وكل أمورك إليه، وثق به.
ويقال: إنك إذا اتخذت من المخلوقين وكيلا اختزلوا مالك وطالبوك بالأجرة، وإذا اتخذتني وكيلا أوفّر عليك مالك وأعطيك الأجر.
__________
(1) قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام.
فكأن ناشئة الليل مصدر بمعنى قيام الليل ... مثل خاطئة وكاذبة ... فإذا افترضنا أنها كلمة شائعة الاستعمال عند الحبشة بهذا المعنى فإنها ذات أصل عربى أيضا.(3/643)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
ويقال: وكيلك ينفق عليك من مالك، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالى.
ويقال: وكيلك من هو في القدر دونك، وأنت تترفّع أن تكلّمه كثيرا ... وأنا ربّك وسيّدك وأحبّ أن تكلمنى وأكلّمك.
قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 13]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13)
الهجر الجميل: أن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرّك وقلبك.
ويقال: الهجر الجميل ما يكون لحقّ ربّك لا لحظّ نفسك.
ويقال: الهجر الجميل ألا تكلّمهم، وتكلمنى لأجلهم بالدعاء لهم.
وهذه الآية منسوخة بآية القتال «1» .
قوله جل ذكره: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» أي: أولى التّنعّم «2» ، وأنظرهم قليلا، ولا تهتم بشأنهم، فإنى أكفيك أمرهم.
قوله جل ذكره: «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» ثم ذكر وصف القيامة فقال:
«يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .
__________
(1) قال قتادة: كان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. (القرطبي) ح 19 ص 45) .
(2) هم صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال يحيى بنى سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقالت عائشة: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.(3/644)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
ثم قال:
[سورة المزمل (73) : الآيات 20 الى 15]
يعنى: أرسلنا إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا عليكم «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا» ، «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» ثقيلا.
«فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً» من هوله يصير الولدان شيبا- وهذا على ضرب المثل.
«السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» أي بذلك: اليوم لهوله «1» .
ويقال: منفطر بالله أي: بأمره.
«كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» : فما وعد الله سيصدقه.
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ» : يعنى: هذه السورة، أو هذه الآيات موعظة فمن اتعظ بها سعد.
«إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» من المؤمنين.
«وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» فهو خالقهما «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» وتطيعوه.
«فَتابَ عَلَيْكُمْ» أي: خفّف عنكم «2» ، «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» من خمس آيات إلى مازاد. ويقال: من عشر آيات إلى ما يزيد «3» .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (لقوله) والصواب ما جاء في م كما هو واضح من السياق.
(2) كان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم (مقاتل) .
(3) قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقال كعب: كتب من القانتين.
وفي حديث مسند عن عبد الله بن عمرو: أن النبي (ص) قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين (- أعطى من الأجر قنطارا) » خرّجه أبو داود الطيالسي في مسنده.(3/645)
«عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» يسافرون، ويعلم أصحاب الأعذار، فنسخ عنهم قيام الليل.
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة.
«وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» مضى معناه.
«وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ» أي: ما تقدّموا من طاعة تجدوها عند الله ثوابا هو خير لكم من كلّ متاع الدنيا.(3/646)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
سورة المدّثر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها نزهة قلوب الفقراء، كلمة سماعها بهجة أسرار الضعفاء، راحة أرواح الأحبّاء، قوة قلوب الأولياء، سلوة صدور الأصفياء، قرّة عيون أهل البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المدثر (74) : الآيات 7 الى 1]
يا أيها المتدثر بثوبه.
وهذه السورة من أول ما أنزل من القرآن. قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى حراء قبل النّبوة، فبدا له جبريل في الهواء، فرجع الرسول إلى بيت خديجة وهو يقول «دثّرونى دثّرونى» فدثّر بثوب فنزل عليه جبريل وقال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ» «1» .
وقيل: أيها الطالب صرف الأذى عنك بالدثار اطلبه بالإنذار.
ويقال: قم بنا، وأسقط عنك ما سوانا، وأنذر عبادنا فلقد أقمناك بأشرف المواقف، ووقفناك بأعلى المقامات.
ويقال: لمّا سكن إلى قوله: «قُمْ» وقام قطع سرّه عن السّكون إلى قيامه، ومن الطمأنينة في قيامه.
قوله جل ذكره: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» .
__________
(1) حدّث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (ص) : جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى فلم أر أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسى فإذا جبريل على عرش في الهواء فأخذتنى رجفة شديدة فأتيت خديجة فقلت:
دثرونى. فصبوا على ماء. رواه البخاري بهذه النهاية: دثرونى وصبوا على ماء باردا فدثرونى وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» .(3/647)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
كبّره عن كلّ طلب، ووصل وفصل، وعلّة وخلق.
«وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» طهّر قلبك عن الخلائق أجمع، وعن كلّ صفة مذمومة.
وطهّر نفسك عن الزّلّات، وقلبك عن المخالفات، وسرّك عن الالتفاتات.
ويقال: أهلك طهّرهم بالوعظ قال تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ» «1» ، فيعبر عنهن- أحيانا- بالثياب والّلباس.
قوله جل ذكره: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» أي: المعاصي. ويقال: الشيطان. ويقال: طهّر قلبك من الخطايا وأشغال الدنيا.
ويقال: من لا يصحّ جسمه لا يجد شهوة الطعام كذلك من لا يصحّ قلبه لا يجد حلاوة الطاعة.
«وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» لا تعط عطاء تطلب به زيادة على ما تعطيه.
ويقال: لا تستكثر الطاعة من نفسك.
ويقال: لا تمنن بعملك فتستكثر عملك، وتعجب به.
«وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» أي: أنت تؤذى في الله. فاصبر على مقاساة أذاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 17]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12)
وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
يعنى: إذا قامت القيامة، فذلك يوم عسير على الكافرين غير هيّن.
قوله جل ذكره: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» .
__________
(1) آية 187 سورة البقرة.(3/648)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
أي: لا تهتم بشأنهم، ولا تحتفل فإنّى أكفيك أمرهم.
إنّى خلقته وحدي لم يشاركنى في خلقى إيّاه أحد.
ويحتمل: خلقته وحده لا ناصر له.
قوله جل ذكره: «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً» حضورا معه لا يحتاجون إلى السّفر.
«وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» أراد: تسهيل التصرّف، أي: مكّنته من التصرّف في الأمور «1» .
«ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» يطمع أن أزيده في النعمة:
«كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» جحودا.
«سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» سأحمله على مشقّة من العذاب.
[سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
أي: لعن كيف فكّر، وكيف قدّر، ويعنى به: الوليد بن المغيرة «2» الذي قال في النبي صلى الله عليه وسلم: إنّه ليس بشاعر ولا بمجنون ولا بكذّاب، وإنه ليس إلا ساحر، وما يأتى به ليس إلا سحر يروى:
__________
(1) واضح من هذا أن القشيري يؤمن بحرية الإنسان، وأن الجبرية عنده ليست مطلقة.
(2) كان الوليد يدعى ريحانة قريش فلما سمعت منه واصفا القرآن: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمن، وإن أسفله لمغدق ... » قالت قريش: صبأ الوليد لتصبون قريش كلها، فلما ذهب إليه أبو جهل ليتحرى. قال له بعد أن فنّد مزاعمهم: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟(3/649)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
[سورة المدثر (74) : الآيات 28 الى 30]
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
«1» لا تبقى لحما، ولا تذر عظما، تحرق بشرة الوجه وتسوّدها، من لاحته الشمس ولوّحته.
«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال المشركون: نحن جمع كثير ... فما يفعل بنا تسعة عشر؟! فأنزل الله سبحانه:
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 39]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39)
فيزداد المؤمنون إيمانا، ويقول هؤلاء: أي فائدة في هذا القدر؟ فقال تعالى:
«كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .
ثم قال:
«وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» .
أي: تقاصرت علوم الخلق فلم تتعلّق إلا بمقدار دون مقدار، والذي أحاط بكل شىء علما.
هو الله- سبحانه.
__________
(1) بسر أي كلح وجهه وتغير لونه.(3/650)
«كَلَّا وَالْقَمَرِ» كلّا- حرف ردع وتنبيه أي: ارتدعوا عما أنتم عليه، وانتبهوا لغيره وأقسم بهذه الأشياء «كَلَّا وَالْقَمَرِ» : أي بالقمر، أو بقدرته على القمر.
وبالليل إذا أدبر ... وقرىء «ودبر» أي: مضى، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» أي: تجلّى «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» .
أي: النار لإحدى الدواهي الكبر.
ويقال في «كَلَّا وَالْقَمَرِ» إشارة إلى أقمار العلوم إذا أخذ هلالها في الزيادة بزيادة البراهين، فإنها تزداد، ثم إذا صارت إلى حدّ التمام في العلم وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، فالعلم يأخذ فى النقصان، وتطلع شمس المعرفة، فكما أنه إذا قرب القمر من الشمس يزداد نقصانه حتى إذا قرب من الشمس تماما صار محاقا- كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان لزيادة المعارف كالسراج في ضوء الشمس وضياء النهار. «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» أي إذا انكشفت ظلم البواطن، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» وتجلّت أنوار الحقائق في السرائر ... إنها لإحدى العظائم! وذلك من باب التخويف من عودة الظّلم إلى القلوب «1» .
«نَذِيراً لِلْبَشَرِ» فى هذا تحذير من الشواغل التي هي قواطع عن الحقيقة، فيحذروا المساكنة والملاحظة إلى الطاعات والموافقات ... فإنّها- فى الحقيقة- لا خطر لها «2» .
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» عن الطاعات ... وهذا على جهة التهديد.
قوله جل ذكره: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي: مرتهنة بما عملت، ثم استثنى:
«إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» .
__________
(1) من خصائص أسلوب القشيري- كما أوضحنا ذلك في كتابنا عنه- أنه كثيرا ما يستعين بمظاهر الطبيعة: الليل والنهار- والقمر والشمس والجبال والمطر والبحار وغير ذلك كى يوضح عن طريق ذلك دقائق العلم الصوفي.
(2) يقصد أن نظرة الإنسان إلى عمله، وإعطاء هذا العمل قيمة ... من قبيل دعوى النفس ... المهم في الطريق فضل الله واجتباه الله. [.....](3/651)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
فقال: إنهم غير مرتهنين بأعمالهم، ويقال: هم الذين قال الله تعالى في شأنهم: «هؤلاء فى الجنة ولا أبالى» !.
وقيل: أطفال للمؤمنين «1» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 40 الى 56]
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
هؤلاء يتساءلون عن المجرمين، ويقولون لأهل النار إذا حصل لهم إشراف عليهم:
ما سلككم في سقر؟ قالوا: ألم نك من المصلين؟ ألم نك نطعم المسكين؟.
وهذا يدل على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.
«وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» : نشرع في الباطل، ونكذّب بيوم الدين.
«حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» وهو معاينة القيامة.
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» أي: لا تنالهم شفاعة من يشفع.
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» «2» والتذكرة: القرآن:
«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .
__________
(1) قال ابن عباس: هم الملائكة. وقال على بن أبى طالب: هم أولاد المؤمنين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم.
وقال الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى. وقال مقاتل: هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الذر. والله أعلم.
(2) معرضين منصوب على الحال من الهاء والميم في (لهم) ، وفي اللام معنى الفعل فانتصاب الحال على معنى الفعل.(3/652)
كأنهم حمر نافرة فرّت من أسد «1» «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» بل يريد كلّ منهم أن يعطى كتابا منشورا.
«كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» أي: كلّا لا يعطون ما يتمنّون لأنهم لا يخافون الآخرة.
«كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» إلّا أن يشاء الله- لا أن تشاءوا «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى» .
أهل لأن يتّقى.
«وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» .
وأهل لأن يغفر لمن يتّقى- إن شاء.
__________
(1) القسورة بلسان العرب: الأسد، أو أول الليل، أو الشديد. وبلسان الحبشة: الرماة.(3/653)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
سورة القيامة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة من سمعها بشاهد العلم استبصر، ومن سمعها بشاهد المعرفة تحيّر..
فالعلماء في سكون برهانه، والعارفون في دهش سلطانه.. أولئك في نجوم علومهم، فأحوالهم صحو في صحو، وهؤلاء في شموس معارفهم: فأوقاتهم محو في محو.. فشتان ما هما!! قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (75) : الآيات 4 الى 1]
أي: أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» أي: أقسم بالنفس اللّوّامة، وهي النّفس التي تلوم صاحبها، وتعرف نقصان حالها.
ويقال: غدا.. كلّ نفس تلوم نفسها: إمّا على كفرها، وإمّا على تقصيرها- وعلى هذا فالقسم يكون بإضمار «الرّب» أي: أقسم بربّ النفس اللوامة. وليس للوم النّفس في القيامة خطر- وإن حمل على الكلّ «1» ولكنّ الفائدة فيه بيان أنّ كلّ النفوس غدا- ستكون على هذه الجملة. وجواب القسم قوله: بلى ...
قوله جل ذكره: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟» أيظن أنّا لن نبعثه بعد موته؟
«بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «قادِرِينَ» نصب على الحال أي بلى، نسوى بنانه في الوقت قادرين، ونقدر أي نجعل
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الاكل) وهي خطأ قطعا.(3/654)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير وظلف الشاة ... فكيف لا نقدر على إعادته؟!
[سورة القيامة (75) : الآيات 5 الى 10]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
يقدّم الزّلّة ويؤخر التوبة. ويقول: سوف أتوب، ثم يموت ولا يتوب. ويقال: يعزم «1» على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف «2» وقته، وبهذا لا تنحلّ- فى الوقت- عقدة الإصرار من قلبه، وبذلك لا تصحّ توبته لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل. فإذا كان استحلاء الزلّة في قلبه، ويفكر في الرجوع إلى مثلها- فلا تصح ندامته.
قوله جل ذكره: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟» على جهة الاستبعاد، فقال تعالى:
«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» «برق» بكسر الراء معناها تحيّر، «وبرق» بفتح الراء شخص (فلا يطرف) من البريق، وذلك حين يقاد إلى جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف ملك، لها زفير وشهيق، فلا يبقى ملك ولا رسول إلّا وهو يقول: نفسى نفسى! «وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» كأنهما ثوران عقيران «3» .
ويقال: يجمع بينهما في ألّا نور لهما.
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (يزعم) وهي خطأ قطعا بدليل ما بعدها.. من شرطها (العزم) .
(2) أي: فى المستقبل.
(3) قال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران.
وفي مسند أبى داود الطيالسي عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي (ص) قال: قال رسول الله ص «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» .(3/655)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
[سورة القيامة (75) : الآيات 11 الى 15]
كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
والمفرّ موضع الفرار إليه، فيقال لهم:
«كَلَّا لا وَزَرَ» اليوم، ولا مهرب من قضاء الله «1» .
«إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ»
أي: لا محيد عن حكمه.
«يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ»
أي: يعرف ما أسلفه «2» من ذنوب أحصاها الله- وإن كان العبد نسيها.
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
للإنسان على نفسه دليل علامة وشاهد فأعضاؤه تشهد عليه بما عمله.
ويقال: هو بصيرة وحجّة على نفسه في إنكار البعث.
ويقال: إنه يعلم أنه كان جاحدا كافرا، ولو أتى بكلّ حجة فلن تسمع منه ولن تنفعه.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 19]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
لا تستعجل في تلقّف القرآن على جبريل، فإنّ علينا جمعه في قلبك وحفظه، وكذلك علينا تيسير قراءته على لسانك، فإذا قرأناه أي: جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جمعه.
«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» نبيّن لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعجل في التلقف مخافة النسيان، فنهى عن ذلك، وضمن الله له التيسير والتسهيل.
__________
(1) الوزر في اللغة ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو نحوهما: قال الشاعر:
لعمرى ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
(2) هكذا في م وهي في ص (أسفله) وهي خطأ من الناسخ.(3/656)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 23]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)
أي: إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا، أي: يحبون البقاء في الدنيا.
«وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» : أي: تتركون العمل للآخرة. ويقال: تكفرون بها.
قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «ناضِرَةٌ» : أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إِلى رَبِّها «ناظِرَةٌ» أي رائية لله.
والنظر المقرون ب «إِلى» مضافا إلى الوجه «1» لا يكون إلّا الرؤية، فالله تعالى يخلق الرؤية فى وجوههم في الجنة على قلب العادة، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى.
ويقال: العين من جملة الوجه (فاسم الوجه) «2» يتناوله.
ويقال: الوجه لا ينظر ولكنّ العين في الوجه هي التي تنظر كما أنّ النهر لا يجرى ولكنّ الماء في النهر هو الذي يجرى، قال تعالى: «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .
ويقال: فى قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا تتداخلهم حيرة ولا دهش فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمّ من اللقاء.
والرؤية عند أهل التحقيق تقتضى بقاء الرائي، وعندهم استهلاك العبد في وجود الحقّ أتمّ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (75) : الآيات 24 الى 30]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
__________
(1) (مضافا إلى) معناها (منسوبا إلى) .
(2) ما بين القوسين وارد في ص ولم يرد في م وهو هام في توضيح السياق.(3/657)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
«باسِرَةٌ» : أي كالحة عابسة. «فاقِرَةٌ» أي: داهية «1» وهي بقاؤهم في النار على التأييد.
(تظن أن يخلق في وجوههم النظر) «2» .
ويحتمل أن يكون معنى «تَظُنُّ» : أي يخلق ظنّا في قلوبهم يظهر أثره على وجوههم.
«كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي ليس الأمر على ما يظنون بل إذا بلغت نفوسهم التراقيّ «3» ، وقيل: من راق؟
أي يقول من حوله: هل أحد يرقيه؟ هل طبيب يداويه؟ هل دواء يشفيه؟ «4» .
ويقال: من حوله من الملائكة يقولون: من الذي يرقى بروحه أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟.
«وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» : وعلم الميت أنه الموت!.
«وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» : ساقا الميت. فتقترن شدّة آخر الدنيا بشدّة أوّل الآخرة.
«إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي الملائكة يسوقون روحه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه: إمّا إلى عليين ثم لها تفاوت درجات، وإمّا إلى سجّين- ولها تفاوت دركات.
ويقال: الناس يكفّنون بدن الميت ويغسلونه ويصلّون عليه.. والحقّ سبحانه يلبس روحه ما تستحق من الحلل، ويغسله بماء الرحمة، ويصلى عليه وملائكته.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 36]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)
__________
(1) الفاقرة لها معان كثيرة منها: الداهية، والأمر العظيم، والشر، والهلاك، ودخول النار. وهي فى الأصل: الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم.
(2) العبارة هكذا في م أما في ص فهى ( ... الظن) بدلا من (النظر) ، ويمكن قبول عبارة م على أساس ن (النظر) أمر عظيم- وهو أحد معانى (الفاقرة) كما قلنا.. ولكننا نرجح- والله أعلم- أن العبارة ربما كانت فى الأصل على هذا النحو: [تظن: (أي) يخلق في وجوههم (الظن) ] فحتى هذا الظن مخلوق في وجوههم من قبل الله..
وربما يتأيد ما ذهبنا إليه بما جاء بعدها مباشرة.
(3) جمع (ترقوة) : العظام التي تكتنف مقدم الحلق من أعلى الصدر، وهي موضع الحشرجة. [.....]
(4) معروف ألا رقية ولا دواء للموت ... ولكنهم يتساءلون هكذا على وجه التحير عند الإشفاء على الموت.(3/658)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
يعنى: الكافر ما صدّق الله ولا صلّى له، ولكن كذّب وتولّى عن الإيمان. وتدل الآية على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.
«ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي: يتبختر ويختال.
«أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» العرب إذا دعت على أحد بالمكروه قالوا: أولى لك! وهنا أتبع اللفظ اللفظ على سبيل المبالغة.
ويقال: معناه الويل لك يوم تحيا، والويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار «1» .
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» مهملا لا يكلّف!؟. ليس كذلك.
[سورة القيامة (75) : الآيات 37 الى 40]
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
«مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» أي تلقى في الرّحم، ثم كان علقة أي: دما عبيطا «2» ، فسوّى أعضاءه فى بطن أمه، وركّب أجزاءه على ما هو عليه في الخلقة، وجعل منه الزوجين: إن شاء خلق الذّكر، وإن شاء خلق الأنثى، وإن شاء كليهما.
«أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» أليس الذي قدر على هذا كلّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير «3» .
__________
(1) فى معنى «الويل لك» تقول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسى أولى لها
سأحمل نفسى على آلة ... فإما عليها وإما لها
ويقال: إن الرسول هدد أبا جهل بهاتين الآيتين.. حتى إذا كان يوم بدر، ضرب الله عنقه وقتل شر قتله.
(2) اللحم العبيط: الطريّ الذي لم ينضج (الوسيط) .
(3) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (التقدير) بالدال وهي خطأ.(3/659)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
سورة الإنسان
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم جبّار توحّد في آزاله بوصف جبروته، وتفرّد في آباده بنعت ملكوته فأزله أبده، وأبده أزله، وجبروته ملكوته، وملكوته جبروته.
أحديّ الوصف، صمديّ الذات، مقدّس النّعت، واحد الجلال، فرد التعالي، دائم العزّ، قديم البقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
فى التفسير: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا له خطر ومقدار. قيل:
كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحا جسده بين مكة والطائف. ثم من صلصال أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، فتمّ خلقه بعد مائة وعشرين سنة «1» .
ويقال: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ... » : أي لم يأت عليه وقت إلا كان مذكورا إليّ.
ويقال: هل غفلت ساعة عن حفظك؟ هل ألقيت- لحظة- حبلك على غاربك؟
هل أخليتك- ساعة- من رعاية جديدة وحماية مزيدة.
قوله جل ذكره: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» .
__________
(1) وزاد ابن مسعود أربعين سنة فقال: وأقام وهو من تراب أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ثم نفخ فيه الروح (حكاه الماوردي) .(3/660)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
«مِنْ نُطْفَةٍ» : أي من قطرة ماء، «أَمْشاجٍ» : أخلاط من بين الرجل والمرأة.
ويقال: طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظما، وطورا لحما.
«نَبْتَلِيهِ» : نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه. «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» .
«إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» أي: عرّفناه الطريق أي طريق الخير والشرّ.
وقيل: إمّا للشقاوة، وإمّا للسعادة، إمّا شاكرا من أوليائنا، وإما أن يكون كافرا من أعدائنا فإن شكر فبالتوفيق، وإن كفر فبالخذلان.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)
أي: هيّأنا لهم سلاسل يسحبون فيها، وأغلالا لأعناقهم يهانون بها، «وَسَعِيراً» :
نارا مستعرة.
«إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» قيل: البرّ: الذي لايضمر الشّرّ، ولا يؤذى الذّرّ.
وقيل: الأبرار: هم الذين سمت همّتهم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مساكنة الدنيا.
يشربون «1» من كأس رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور.
ويقال: اختلفت مشاربهم في الآخرة فكلّ يسقى ما يليق بحاله ... وكذلك في الدنيا مشاربهم مختلفة فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا، ومنهم من يسقى على
__________
(1) يتحدث القشيري في هذه السورة عن الشراب على نحو تفصيلى يستحق التأمل، وينبغى أن يضاف إلى حديثه عنه في رسالته عند بحث هذا الموضوع عند هذا الصوفي السنّى الجليل.(3/661)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
النّوب، ومنهم من يسقى بالنّجب ومنهم من يسقى وحده ولا يسقى مما يسقى غيره، ومنهم من يسقى هو والقوم شرابا واحدا.. وقالوا:
إن كنت من ندماى فبالأكبر اسقني ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلم
وفائدة الشراب- اليوم- أن يشغلهم عن كل شىء فيريحهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل.. كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوال الأرب، وسقوط الطلب، ودوام الطّرب، وذهاب الحرب، والغفلة عن كلّ سبب.
ولقد قالوا:
عاقر عقارك واصطبح ... واقدح سرورك بالقدح
واخلع عذارك في الهوى ... وأرح عذولك واسترح
وافرح بوقتك إنما ... عمر الفتى وقت الفرح
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 6 الى 10]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
يشقّقونها تشقيقا، ومعناه أن تلك العيون تجرى في منازلهم وقصورهم على ما يريدون.
واليوم- لهم عيون في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح.. وغير ذلك، وغدا لهم عيون.
«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال: يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجه مخصوص.(3/662)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
«وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» .
قاسيا، منتشرا، ممتدا.
«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» أي: على حبّهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال: على حبّ الله، ولذلك يطعمون.
ويقال: على حبّ الإطعام.
وجاء في التفسير: أن الأسير كان كافرا- لأنّ المسلم ما كان يستأسر في عهده- فطاف على بيت فاطمة رضى الله عنها «1» وقال: تأسروننا ولا تطعموننا «2» ! «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» إنما نطعمكم ابتغاء مرضاة الله، لا نريد من قبلكم جزاء ولا شكرا.
ويقال: إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم.
«إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» أي: يوم القيامة
[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 17]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
__________
(1) هكذا في م، وفي ص (صلى الله عليها) .
(2) قال الأسير وهو واقف بالباب: «السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعمونى فإنى أسير محمد» . فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح.. حتى لصق بطن فاطمة بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع» . فلما رآها النبي (ص) وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال:
«واغوثاه يا ألله! أهل بيت محمد يموتون جوعا» فنزلت الآية. ولكن بعض رجال الحديث يطعنون في هذا الخبر.
يقول الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «هو حديث مزوق مزيف لأن الله تعالى يقول: يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» ، والنبي يقول: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» .(3/663)
«وَلَقَّاهُمْ» أي: أعطاهم «نَضْرَةً وَسُرُوراً» .
«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» كافأهم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنّة وحريرا «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال «1» .
«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي: لا يتأذّون فيها بحرّ ولا برد.
«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة فإن كانوا قعودا تدّلى لهم، وإن كانوا قياما- وهي على الأرض- ارتقت إليهم.
«وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» الاسم فضة، والعين لا تشبه العين «2» «وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً» أي: فى صفاء القوارير وبياض الفضة.. قدّر ذلك على مقدار إرادتهم.
«وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» المقصود منه الطّيب، فقد كانوا (أي العرب) يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته،
__________
(1) جمع حجلة وهي ستر يضرب على سرير العروس كالقبة.
(2) من هذا يتضح أن القشيري برى أن الجنة وصفت بما يمكن أن يكون منتهى تصوراتهم الدنيوية لمجالات النعمة ... فالألفاظ هي الألفاظ ولكن الحقائق شىء آخر.(3/664)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
وبه يشبّهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان «1» .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 18 الى 21]
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)
أي: يسقون من عين- أثبت السقيّ وأجمل من يسقيهم لأنّ منهم من يسقيه الحقّ- سبحانه- بلا واسطة.
قوله جل ذكره: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» أي: يخدمهم ولدان مخلدون (وصفا لا يجوز واحد منهم حدّ الوصائف) «2» .
وجاء في التفسير: لا يهرمون ولا يموتون. وجاء مقرّطون.
إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤا منثورا «3» .
وفي التفسير: ما من إنسان من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام.
قوله جل ذكره: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» «ثَمَّ» : أي في الجنة.
«مُلْكاً كَبِيراً» : فى التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول.
وقيل: هو قوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها» «4» ويقال: أي لا زوال له.
__________
(1) من ذلك قول المسيب بن علس يصف ثغر المرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ... ل باما بفيها وأريا مشورا
(والأرى- هو العسل) .
(2) هكذا في النسختين وفيها شىء من غموض.
(3) قيل: إنما شبههم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة (القرطبي ح 19 ص 144) .
(4) آية 35 سورة ق. [.....](3/665)
«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أولى، والاسم يوافق الاسم دون العين «1» .
«شَراباً طَهُوراً» : الشراب الطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره.
فالشراب يكون طهورا في الجنة- وإن لم يحصل به التطهير لأن الجنة لا يحتاج فيها إلى التطهير.
ولكنه- سبحانه- لمّا ذكر الشراب- وهو اليوم في الشاهد نجس- أخبر أنّ ذلك الشراب غدا طاهر، ومع ذلك مطهّر يطهّرهم عن محبة الأغيار، فمن يحتس من ذلك الشراب شيئا طهّره عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات.
ويقال: يطهّر صدورهم من الغلّ والغشّ، ولا يبقى لبعضهم مع بعض خصيمة (ولا عداوة) «2» ولا دعوى ولا شىء.
ويقال: يطهّر قلوبهم عن محبة الحور العين.
ويقال: إن الملائكة تعرض عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم، ويقولون:
لقد طال أخذنا من هؤلاء، فإذا هم بكاسات تلاقى أفواههم بغير أكفّ من غيب إلى عبد.
ويقال: اليوم شراب وغدا شراب ... اليوم شراب الإيناس «3» وغدا شراب الكأس، اليوم شراب من الّلطف وغدا شراب يدار على الكفّ.
__________
(1) أرأيت كيف يلمح القشيري على هذا المعنى؟
(2) غير موجودة في م وموجودة في ص.
(3) هكذا في ص وهي في م (الأنفاس) ، والصواب ما أثبتنا كما يتضح فيما بعد (آنسه) .(3/666)
ويقال: من سقاه اليوم شراب محبّته آنسه وشجّعه فلا يستوحش في وقته من شىء، ولا يضنّ بروحه عن بذل. ومن مقتضى شربه بكأس محبته أن يجود على كلّ أحد بالكونين من غير تمييز، ولا يبقى على قلبه أثر للأخطار.
ومن آثار شربه تذلّله لكلّ أحد لأجل محبوبه، فيكون لأصغر الخدم تراب القدم، لا يتحرّك فيه للتكبّر عرق.
وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضا في بعض الأحايين أن يتيه على أهل الدارين.
ومن مقتضى ذلك الشراب أيضا أن يملكه سرور ولا يتمالك معه من خلع العذار وإلقاء قناع الحياء «1» ويظهر ما هو به من المواجيد:
يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من ماله عذار؟
ومن موجبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يستخرج منه- فى حال صحوه- سفيه بالمناقيش «2» ... وعلى هذا حملوا قول موسى: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» «3» فقالوا: سكر من سماع كلامه «4» ، فنطق بذلك لسانه. وأمّا من يسقيهم شراب التوحيد فينفى عنهم شهود كلّ غير فيهيمون في أودية العزّ، ويتيهون في مفاوز الكبرياء، وتتلاشى
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (الحياة) ، والملائم لخلع العذار إلقاء قناع (الحياء) . والمقصود بهما تجاوز حد الصبر على المكتوم من الحب، ونطق العبد وهو في غلبات الشهود بشطحات ظاهرها مستشنع وإن كان باطنها فى غاية السلامة (انظر تعريف السراج للشطح في اللمع) .
(2) المناقيش جمع منقاش، ويقال في المثل: استخرجت منه حقى بالمناقيش أي تعبت كثيرا حتى استخرجت منه حقى (الوسيط) .
(3) آية 143 سورة الأعراف.
(4) الضمير فى (كلامه) يعود على الرب سبحانه حينما قال: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ» ، وفي موضع آخر يصف القشيري موسى عليه السلام بأنه كان في حال التلوين فظهر عليه ما ظهر، بينما المصطفى (ص) ليلة المعراج كان فى حال التمكين فما زاغ بصره وما طغى.(3/667)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
جملتهم في هواء الفردانية.. فلا عقل ولا تمييز ولا فهم ولا إدراك.. فكلّ هذه المعاني ساقطة.
فالعبد يكون في ابتداء الكشف مستوعبا ثم يصير مستغرقا ثم يصير مستهلكا..
«وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 22 الى 27]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
يقال لهم: هذا جزاء لكم، «مَشْكُوراً» : وشكره لسعيهم تكثير الثواب على القليل من العمل- هذا على طريقة العلماء، وعند قوم شكرهم جزاؤهم على شكرهم.
ويقال: شكره لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام.
قوله جل ذكره: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» فى مدّة «2» سنين.
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» أي: ارض بقضائه، واستسلم لحكمه.
«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» : أي: ولا كفورا، وهذا أمر له بإفراد ربّه بطاعته.
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» الفرض في الأول، ثم النّفل «3» «إِنَّ هؤُلاءِ ... »
__________
(1) آية 42 سورة النجم.
(2) هكذا في النسختين ولا نستبعد أنها في الأصل (عدة) وكلاهما صحيح في السياق.
(3) فالصلاة جاءت في الأول (بكرة وأصيلا) صلاة الصبح ثم الظهر والعصر (ومن الليل) المغرب والعشاء ثم من بعد ذلك النفل وهو (وسبحه ليلا طويلا) : لأنه تطوع، قيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: هو خاص بالنبي (ص) وحده.(3/668)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
أي كفّار قريش.
«يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» .
أي: لا يعملون ليوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 28 الى 31]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
أعدمناهم، وخلقنا غيرهم بدلا عنهم. ويقال: أخذنا عنهم الميثاق «1» .
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ... »
أي: القرآن تذكرة.
«فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» .
بطاعته.
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي: عذابا أليما موجعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.
__________
(1) تأخرت هذه العبارة عن موضعها، فأرجعناها إلى مكانها.(3/669)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
سورة المرسلات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها بسمع الوجد وفي له فلم ينظر إلى أحد، ومن سمعها بسمع العلم جادله فلم يبخل بروحه على أحد.
ومن سمعها بسمع التوحيد جرّد سرّه عن إيثار «1» ما سواه في الدنيا والعقبى عينا وأثرا فما كان هذا كله إلا حاصلا به كائنا منه.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
«الْمُرْسَلاتِ» : الملائكة، «عُرْفاً» أي: أرسلوا بالمعروف من الأمر، أو كثيرين كعرف الفرس.
«فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» الرياح الشديدة (العواصف تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه) .
«وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» الأمطار (لأنها تنشر النبات. فالنشر بمعنى الإحياء) . ويقال: السّحب تنشر الغيث.
ويقال: الملائكة.
«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» الملائكة تفرق بين الحلال والحرام.
«فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً» .
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (ثياب) وهي خطأ من الناسخ.(3/670)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
الملائكة: تلقى الوحى على الأنبياء عليهم السلام إعذارا وإنذارا..
وجواب القسم:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» فأقسم بهذه الأشياء: إنّ القيامة لحقّ.
قوله جل ذكره: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» إنما تكون هذه القيامة. و «طُمِسَتْ» : ذهب ضوؤها.
«وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» ذهب بها كلّها بسرعة، حتى لا يبقى لها أثر.
«وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي: جعل لها وقتا وأجلا لفصل القضاء يوم القيامة.
ويقال: أرسلت لأوقات معلومة.
«وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» على جهة التعظيم له.
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» مضى تفسير معنى الويل.
ويقال في الإشارات: فإذا نجوم المعارف طمست بوقوع الغيبة.
وإذا الجبال نسفت: القلوب الساكنة بيقين الشهود حرّكت عقوبة على ما همّت بالذي لا يجوز. فويل يومئذ لأرباب الدعاوى الباطلة الحاصلة من ذوى القلوب المطبقة الخالية من المعاني.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 20]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
الذين كذّبوا رسلهم، وجحدوا آياتنا فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثل فعلهم.(3/671)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» الذين لا يستوى ظاهرهم وباطنهم في التصديق.
وهكذا كان المتقدمون من أهل الزّلّة والفترة في الطريقة، والخيانة في أحكام المحبة فعذّبوا بالحرمان في عاجلهم، ولم يذوقوا من المعاني شيئا.
قوله جل ذكره: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ؟.
أي: حقير. وإذ قد علمتم ذلك فلم لم تقيسوا أمر البعث عليه؟
ويقال: ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم فإنه لا جنس من المخلوقين والمخلوقات أشدّ دعوى من بنى آدم. فمن الواجب أن يتفكّر الإنسان في أصله ... كان نطفة وفي انتهائه يكون جيفة، وفي وسائط حاله كنيف في قميص!! فبالحريّ ألّا يدلّ ولا يفتخر:
كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه
فهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحشّ «1» ... بصغر فيطيعه؟!!
ويقال: يذكّرهم أصلهم.. كيف كان كذلك.. ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة، قال تعالى:
«وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» ، والذي يفعل ذلك قادر على أن يرقّيك من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 31]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
«كِفاتاً» أي: ذات جمع فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياء وأمواتا فهم يعيشون على ظهرها، ويودعون بعد الموت في بطنها..
«وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً» .
__________
(1) الحش بفتح الحاء وضمها- الكنيف.
والمقصود: كيف ترهو أيها الإنسان، وإن ما يقذفه جسمك من فضلات ملازم لك حياتك: ليلك ونهارك، وأنت تطيعه صاغرا إذا أمرك ودعاك بالذهاب إلى الحش؟(3/672)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
أي: جبالا مرتفعات، وجعلنا بها الماء سقيا لكم. يذكّرهم عظيم منّته بذلك عليهم.
والإشارة فيه إلى عظيم منّته أنّه لم يخسف بكم الأرض- وإن عملتم ما عملتم.
«انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» يقال لهم: انطلقوا إلى النار التي كذّبتم بها.
«انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» كذلك إذا لم يعرف العبد قدر انفتاح طريقه إلى الله بقلبه، وتعزّزه بتوكله.. فإذا رجع إلى الخلق عند استيلاء الغفلة نزع الله عن قلبه الرحمة، وانسدّت عليه طرق رشده، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا.
ويقال لهم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون. والاستقلال بالله جنّة المأوى، والرجوع إلى الخلق قرع باب جهنم ... وفي معناه أنشدوا:
ولم أر قبلى من يفارق جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنم
ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصّل والاعتذار:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 38]
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فإلى أن تنتهى مدّة العقوبة فحينئذ: ان استأنفت وقتا استؤنف لك وقت. فأمّا الآن ...
فصبرا حتى تنقضى أيام العقاب.
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ» فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)(3/673)
اليوم ... فى ظلال العناية والحماية، وغدا ... هم في ظلال الرحمة والكلاءة.
اليوم.. فى ظلال التوحيد، وغدا.. فى ظلال حسن المزيد.
اليوم.. فى ظلال المعارف، وغدا.. فى ظلال اللطائف.
اليوم.. فى ظلال التعريف، وغدا.. فى ظلال التشريف.
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» اليوم تشربون على ذكره.. وغدا تشربون على شهوده، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغدا تشربون بكاسات الولاء.
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» والإحسان من العبد ترك الكلّ لأجله! كذلك غدا: يجازيك بترك كلّ الحاصل عليك لأجلك.
قوله جل ذكره: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هذا خطاب للكفار، وهذا تهديد ووعيد، والويل يومئذ لكم.
قوله جل ذكره: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» كانوا يصروّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم «1» .
[ذكر في التفسير: أن المتقين دائما في ظلال الأشجار، وقصور الدرّ مع الأبرار، وعيون جارية وأنهار.، وألوان من الفاكهة والثمار ... من كل ما يريدون من الملك الجبّار. ويقال لهم في الجنة: كلوا من ثمار الجنات، واشربوا شرابا سليمان من الآفات. «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» من الطاعات. «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» من الكرامات. قيل: كُلُوا وَاشْرَبُوا «هَنِيئاً» :
لا تبعة عليكم من جهة الخصومات، ولا أذيّة في المأكولات والمشروبات.
وقيل: الهنيء الذي لا تبعة فيه على صاحبه، ولا أذيّة فيه من مكروه لغيره.]
__________
(1) إلى هنا انتهى تفسير السورة في م النسخة ص. وكل ما بين القوسين الكبيرين موجود في النسخة م. [.....](3/674)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
سورة النّبإ
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك تجمّل عباده بطاعته، وتزيّن خدمه بعبادته، وهو سبحانه لا يتجمّل بطاعة المطيعين، ولا يتزيّن بخدمة العابدين فزينة العابدين صدار طاعتهم، وزينة العارفين حلّة معرفتهم، وزينة المحبّين تاج ولايتهم.. وزينة المذنبين غسل وجوههم بصوب «2» عبرتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17)
مختلفون بشدة إنكارهم أمر البعث، ولا لتباس ذلك عليهم، وكثرة مساءلتهم عنه، وكثرة مراجعتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في معناه.
تكرّر من الله إنزال أمر البعث، وكم استدلّ عليهم في جوازه بوجوه من الأمثلة ...
فهذا من ذلك، يقول: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» : عن الخبر العظيم «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» قال الله تعالى على جهة الاحتجاج عليهم:
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟» ذلّلناهم لهم حتى سكنوها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟» .
__________
(1) هذا هو اسم السورة كما جاء في ص أما في م فعنوانها (سورة عم يتساءلون) .
(2) هى في م (بضرب) وهي في ص (بصوت) وكلاهما غير مقبول في السياق، وقد رجحنا أن تكون فى الأصل (بصوب) على أساس أن القشيري يستعمل الفعل (تتقطر) مع (العبرة) فى مواضع مماثلة، كما أنها أقرب في الرسم.(3/675)
أوتادا للأرض حتى تميد بهم.
«وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» ذكرا وأنثى، وحسنا وقبيحا.. وغير ذلك «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» أي راحة لكم، لتنقطعوا عن حركاتكم التي تعبتم بها في نهاركم.
«وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» تغطّى ظلمته كلّ شىء فتسكنوا فيه.
«وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» أي وقت معاشكم.
«وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» أي سبع سموات.
«وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» أي الشمس، جعلناها سراجا وقّادا مشتعلا.
«وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً» «الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب «1» .
«ماءً ثَجَّاجاً» مطرا صبّابا.
«لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» «حَبًّا» كالحنطة والشعير، «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» بساتين يلتفّ بعضها ببعض.
وإذا قد علمتم ذلك فهلّا علمتم أنّى قادر على أن أعيد الخلق وأقيم القيامة؟
__________
(1) والمعصرات أيضا السحائب تعتصر بالمطر، وأعصر القوم أي: أمطروا، وسنه «وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» والمعصر الجارية أول ما أدركت الحيض. فالمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر (الصحاح) .(3/676)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
فبعد أن عدّ عليهم بعض وجوه إنعامه، وتمكينهم من منافعهم.. قال:
[سورة النبإ (78) : الآيات 18 الى 30]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22)
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27)
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
مضى معناه «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» أي في ذلك اليوم تأتون زمرا وجماعات.
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» أي: تشقّقت وانفطرت.
«وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» أي كالسراب.
«إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً» أي ممرا. ويقال: ذات ارتقاب لأهلها.
«لِلطَّاغِينَ مَآباً» أي مرجعا.
«لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» أي دهورا، والمعنى مؤبّدين «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» مضى معناه. ثم يعذّبون بعد ذلك بأنواع أخر من العذاب.
«جَزاءً وِفاقاً» أي: جوزوا على وفق أعمالهم. ويقال: على وفق ما سبق به التقدير، وجرى به الحكم.
«إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً»(3/677)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
لا يؤمنون فيرجون الثواب ويخافون العقاب.
«وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» «1» أي: تكذيبا.
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي: كتبناه كتابا، وعلمناه علما.
والمسبّح الزاهد يحصى تسبيحه، والمهجور البائس يحصى أيام هجرانه، والذي هو صاحب وصال لا يتفرّغ من وصله إلى تذكّر أيامه في العدد، أو الطول والقصر.
والملائكة يحصون زلّات العاصين، ويكتبونها في صحائفهم. والحق سبحانه يقول:
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» فكما أحصى زلّات العاصين وطاعات المطيعين فكذلك أحصى أيام هجران المهجورين وأيام محن الممتحنين، وإنّ لهم في ذلك لسلوة ونفسا:
ثمان قد مضين بلا تلاق ... وما في الصبر فضل عن ثمان
وكم من أقوام جاوزت أيام فترتهم الحدّ! وأربت أوقات هجرانهم على الحصر! قوله جل ذكره: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» يا أيها المنعّمون في الجنة.. افرحوا وتمتعوا فلن نزيدكم إلا ثوابا.
أيها الكافرون.. احترقوا في النار.. ولن نزيدكم إلا عذابا «2» ويا أيها المطيعون.. افرحوا وارتعوا فلن نزيدكم إلا فضلا على فضل.
يا أيها المساكين.. ابكوا واجزعوا فلن نزيدكم إلّا عزلا على عزل.
قوله جل ذكره:
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 38]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38)
__________
(1) فى «كِذَّاباً» يقول الفراء: هى لعة يمانية فسيحة يقولون: كذبت به كذابا وخرقت القميص خرّاقا.
فكل فعل في وزن (فعّل) مصدره فعال مشددة في لغتهم.
(2) قال أبو برزة: سألت النبي (ص) عن أشد آية في القرآن فقال: قوله تعالى: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» أي: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» و «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» .(3/678)
مسلّم للمتقين ما وعدناهم به.. فهنيئا لهم ما أعددنا لهم من الفوز بالبغية والظّفر بالسّؤل والمنية: من حدائق وأعناب، ومن كواعب أتراب وغير ذلك.
فيا أيها المهيّمون المتيّمون هنيئا لكم ما أنتم فيه اليوم في سبيل مولاكم من تجرّد وفقر، وما كلّفكم به من توكل وصبر، وما تجرعتم من صدّ وهجر.
أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به ... يوم التزاور «1» فى الثوب الذي خلعا
قوله: «لا يَسْمَعُونَ فِيها ... » آذانهم مصونة عن سماع الأغيار، وأبصارهم محفوظة عن ملاحظة الرسوم والآثار.
قوله جل ذكره: «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» وكيف تكون للمكوّن المخلوق الفقير المسكين مكنة أن يملك منه خطابا؟ أو يتنفّس بدونه نفسا؟ كلّا.. بل هو الله الواحد الجبّار.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» إنما تظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم، وأمّا الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العزّ بنعت الهيبة، لا نفس «2» لهم ولا راحة أحاط بهم سرادقها واستولت عليهم حقائقها.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (التزاول) وهي خطأ من الناسخ، والمقصود من النص الشعرى: أن الله يحب أن يرى على الفقراء ثياب التجرد لأنها الثياب التي خلعها عليهم بنفسه حينما آثروا حقه على حظوظهم.
(2) هكذا في ص وهي في م (لا نفر لهم ولا فرحة) وربما كانت (فرجة) بالجيم.(3/679)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
قوله جل ذكره:
[سورة النبإ (78) : الآيات 39 الى 40]
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
هم بمشهد الحقّ، والحكم عليهم الحقّ، حكم عليهم بالحق، وهم مجذوبون بالحقّ للحقّ.
قوله جل ذكره: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً»
وهو عند أهل الغفلة بعيد، ولكنّه في التحقيق قريب.
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ
«1» الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» .
مضوا في ذلّ الاختيار والتعنّى «2» ، وبعثوا في حسرة التمنّى، ولو أنهم رضوا بالتقدير لتخلّصوا «3» عن التمنّى.
__________
(1) قيل: يراد بالكافر هنا أبى بن خلف أو عقبة بن أبى معيط. ويرى أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الكريم القشيري- صاحب هذا الكتاب: هو إبليس، يقول: يا ليتنى خلقت كآدم من تراب ولم أقل أنا خير منه لأنى من نار. (القرطبي ح 19 ص 189) .
(2) وردت في النسختين (التمني) وهي مقبولة، ولكننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (التعنى) لأن الاختيار. كان في الدنيا، واختيار المرء- حسب نظرية القشيري- مجلبة لعنائه وشقائه.. هذا فضلا عن أن إثبات (التعنى) يزيد المعنى- نظرا لتلون الفاصلة- قوة وجمالا.
(3) هكذا في م وهي في ص (لتحصلوا) وواضح فيها خطأ الناسخ.(3/680)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
سورة النّازعات
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز لربّ عزيز، سماعه يحتاج إلى سمع عزيز، وذكره يحتاج إلى وقت عزيز، وفهمه يحتاج إلى قلب عزيز.
وأنّى لصاحب سمع بالغيبة مبتذل، ووقت معطّل في الخسائس مستغرق، وقلب فى الاشتغال بالأغيار مستعمل.. أنّى له أن يصلح لسماع هذا الاسم؟!.
قوله جل ذكره:
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12)
أي الملائكة تنزع أرواح الكفّار من أبدانهم.
«غَرْقاً» : أي إغراقا كالمغرق في قوسه «2» .
ويقال: هى النجوم تنزع من مكان إلى مكان.
«وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» هى أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت.
ويقال: هى الملائكة تنشط أرواح الكفّار، وتنزعها فيشتدّ عليهم خروجها.
ويقال: هى الوحوش تنشط من بلد إلى بلد.
ويقال: هى الأوهاق «3» .
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (سورة والنازعات) بإثبات الواو.
(2) إغراق النازع في القوس أن يبلغ مداها ويستوفى شدها.
(3) هكذا في م وهي فى (ص الارهاق) بالراء وهي خطأ في النسخ، والأوهاق جمع وهق بحركتين وقد يسكن: الحبل تشد به الإبل والخيل حتى تؤخذ وفي طرفه أنشوطة. وأوهق الدابة أي طرح في عنقها الوهق، وعن عكرمة وعطاء: الأوهاق تنشط السهام.(3/681)
ويقال: هى النجوم تنشط من المشارق إلى المغارب ومن المغارب إلى المشارق.
«وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» الملائكة تسبح في نزولها.
ويقال: هى النجوم تسبح في أفلاكها.
ويقال: هى السفن في البحار.
ويقال: هى أرواح المؤمنين تخرج بسهولة لشوقها إلى الله.
«فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» الملائكة يسبقون إلى الخير والبركة، أو لأنها تسبق الشياطين عند نزول الوحى، أو لأنها تسبق بأرواح الكفار إلى النار.
ويقال: هى النجوم يسبق بعضها بعضا في الأفول.
«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» الملائكة تنزل بالحرام والحلال.
ويقال: جبريل بالوحى، وميكائيل بالقطر والنبات، وإسرافيل بالصّور، وملك الموت يقبض الأرواح.. عليهم السلام.
وجواب القسم قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» «1» قوله جل ذكره: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» تتحرك الأرض حركة شديدة.
«تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» النفخة الأولى في الصّور. وقيل: الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية.
__________
(1) هذه هي الآية رقم 26 بالسورة وهو اختيار الترمذي أيضا.. وهي كما ترى متأخرة جدا. ويرى بعض المفسرين أن جواب القسم مضمر لأنه لا يخفى على السامع، ويرى آخرون- كالفراء- أنه البعث بدليل «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» .
ويرى القرطبي: أنه قسم جوابه: إن القيامة حق. [.....](3/682)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
«قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» خائفة.
«يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» «1» أي إلى أول أمرنا وحالنا، يعنى أئذا متنا نبعث ونردّ إلى الدنيا (ونمشى على الأرض بأقدامنا) ؟. قالوه على جهة الاستبعاد.
«أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» أي بالية.
«تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» رجعة ذات خسران (مادام المصير إلى النار) .
قوله جل ذكره:
[سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 19]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
«2» جاء في التفسير إنها أرض المحشر، ويقال: إنها أرض بيضاء لم يعص الله فيها «3» ويقال: الساهرة نفخة الصّور تذهب بنومهم وتسهرهم.
قوله جل ذكره: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي الأرض المطهرة المباركة. «طُوىً» اسم الوادي هناك.
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» .
__________
(1) سميت الأرض الحافرة لأنها مستقر الحوافر.
(2) سميت الأرض بالساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره (الفراء) ، وقال أبو كبير الهذلي:
يرتدن ساهرة كأن جميعها ... وعميمها أسداف ليل مظلم
(3) هذا رأى ابن عباس.(3/683)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
قلنا له: اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل له: هل يقع لك أن تؤمن وتتطهر من ذنوبك.
وفي التفسير: لو قلت لا إله إلا الله فلك ملك لا يزول، وشبابك لا يهرم، وتعيش أربعمائة سنة في السرور والنعمة.. ثم لك الجنة في الآخرة.
«وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» أقرّر لك بالآيات صحّة ما أقول، وأعرفك صحة الدين.. فهل لك ذلك؟ فلم يقبل.
ويقال: أظهر له كل هذا التلطّف ولكنه في خفيّ سرّه وواجب مكره به أنه صرف قلبه عن إرادة هذه الأشياء، وإيثار مراده على مراد ربّه، وألقى في قلبه الامتناع، وترك قبول النّصح.. وأيّ قلب يسمع هذا الخطاب فلا ينقطع لعذوبة هذا اللفظ؟ وأيّ كبد تعرف هذا فلا تتشقّق لصعوبة هذا المكر؟
قوله جل ذكره:
[سورة النازعات (79) : الآيات 20 الى 24]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
جاء في التفسير: هى إخراج يده بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس. فقال فرعون: حتى أشاور هامان «1» ، فشاوره، فقال له هامان: أبعد ما كنت ربّا تكون مربوبا؟! وبعد ما كنت ملكا تكون مملوكا؟
فكذّب فرعون عند ذلك، وعصى، وجمع السّحرة، ونادى:
«فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ويقال: إنّ إبليس لمّا سمع هذا الخطاب فرّ وقال: لا أطيق هذا! ويقال قال: أنا ادّعيت الخيرية على آدم فلقيت ما لقيت.. وهذا يقول:
أنا ربّكم الأعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة النازعات (79) : الآيات 26 الى 41]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30)
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
__________
(1) يقصد القشيري من بعيد إلى شيئين: أو لهما أن فساد الملوك قد يكون بسبب وزرائهم وحاشيتهم.. ولعلنا نذكر ما قلناه في المدخل عن أن أشد المحنة التي ألمت بالقشيري كانت بسبب الكندري وزير السلطان طغرل.
وثانيهما أن الصحبة السيئة قد تؤدى إلى هلاك الصاحب والمصحوب، وفي هذا تحذير لأرباب الطريق (راجع باب الصحبة في الرسالة ص 145) .(3/684)
أي في إهلاكنا فرعون لعبرة لمن يخشى.
قوله جل ذكره: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» «فَسَوَّاها» جعلها مستوية. «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلم ليلها. «ضُحاها» ضوؤها ونهارها.
«دَحاها» بسطها ومدّها.
«أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها» أخرج من الأرض العيون المتفجرة بالماء، وأخرج النبات..
«وَالْجِبالَ أَرْساها» أثبتها أوتادا للأرض.
«مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» أي أخرجنا النبات ليكون لكم به استمتاع، وكذلك لأنعامكم.
«فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» الداهية العظمى ... وهي القيامة.
«يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى» وبرزت الجحيم لمن يرى، فأمّا من طغى وكفر وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم له المأوى والمستقرّ والمثوى.
«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» «مَقامَ رَبِّهِ» : وقوفه غدا في محل الحساب. ويقال: إقبال الله عليه وأنّه راء له.. وهذا عين المراقبة، والآخر محلّ المحاسبة.(3/685)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
«وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» أي لم يتابع هواه.
قوله جل ذكره:
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
أي متى تقوم؟
«فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» من أين لك علمها ولم نعلمك ذلك «1» .
«إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» أي إنما يعلم ذلك ربّك.
«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي تخوّف، فيقبل تخويفك من يخشاها ويؤمن.
«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» كأنهم يوم يرون القيامة لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها فلشدة ما يرون تقل عندهم كثرة ما لبثوا تحت الأرض.
__________
(1) روى الإمام البخاري في نهاية حديثه عن هذه السورة قال: حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله (ص) قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلى الإبهام بعثت والساعة كهاتين.» (البخاري ح 3 ص 142) .(3/686)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
سورة عبس
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» .. اسم كريم بسط للمؤمنين بساط جوده، اسم عزيز انسدّ على الأولين والآخرين طريق وجوده.. وأنّى بذلك ولا حدّ له؟ من الذي يدركه بالزمان والزمان خلقه؟
ومن الذي يحسبه في المكان والمكان فعله؟ ومن الذي يعرفه- إلّا وبه يعرفه؟ ومن الذي يذكره «2» - إلا وبه يذكره؟
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
نزلت في ابن أمّ مكتوم، وكان ضريرا.. أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان عنده العباس ابن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحىّ «3» - يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانهما، فكره أن يقطع حديثه معهما، فأعرض عن ابن أمّ مكتوم، وعبس وجهه، فأنزل الله هذه الآية.
وجاء في التفسير: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على أثره، وأمر بطلبه، وكان بعد ذلك يبرّه ويكرمه، فاستخلفه على المدينة مرتين.
وجاء في التفسير: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعبس- بعد هذا- فى وجه فقير قط، ولم يعرض عنه.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (سورة الأعمى)
(2) هكذا في ص. هى في نظرنا أصوب من (يدركه) التي في م لأن السياق بعدها سيكون: (إلا وبه يدركه) والله سبحانه منزه عن الدرك واللحوق كما نعرف من مذهب القشيري. أما الذكر فهذا مقبول على حد تعبير. ذى النون المصري: (لا أعرفك إلا بك ولا أذكرك إلا بك) .
(3) يقول ابن العربي: غير صحيح أن أمية هذا كان في هذا المجلس، فقد كان بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة وكان موته كافرا، ولم يقصد المدينة، ولا اجتمع بالنبي.(3/687)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
ويقال: فى الخطاب لطف.. وهو أنه لم يواجهه بل قاله على الكناية «1» ، ثم بعده قال:
«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» أي يتذكر بما يتعلم منك أو.
«أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى» .
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 5 الى 8]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
أمّا من استغنى عن نفسه فإنه استغنى عن الله.
ويقال: استغنى بماله فأنت له تصدّى، أي تقبل عليه بوجهك.
«وَما عَلَيْكَ..» فأنت لا تؤاحذ بألا يتزكّى هو فإنما عليك البلاغ.
«وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى» لطلب العلم، ويخشى الله فأنت عنه تتلهّى، وتتشاغل ... وهذا كله من قبيل العتاب معه لأجل الفقراء.
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 12]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12)
القرآن تذكرة فمن شاء الله أن يذكره ذكره، ومن شاء الله ألا يذكره لم يذكّره أي بذلك جرى القضاء، فلا يكون إلا ما شاء الله.
ويقال: الكلام على جهة التهديد ومعناه: فمن أراد أن يذكره فليذكره، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره! كقوله «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» «2» .
وقال سبحانه: «ذَكَرَهُ» ولم يقل «ذكرها» لأنه أراد به القرآن.
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 23]
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
__________
(1) أي تحدث عن عبوس الوجه بضمير الغائب، ثم جاء العتاب بضمير الخطاب.
(2) آية 29 سورة الكهف.(3/688)
أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك، وفي اللوح المحفوظ.
«مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ» مرفوعة في القدر والرتبة، مطهرة من التناقض والكذب.
«بِأَيْدِي سَفَرَةٍ» أي: الملائكة الكتبة.
«كِرامٍ بَرَرَةٍ» كرام عند الله بررة.
قوله جل ذكره: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ!» لعن الإنسان ما أعظم كفره!.
«مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» خلقه وصوّره وقدّره أطوارا: من نطفة، ثم علقة، ثم طورا بعد طور.
قوله جل ذكره: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» يسّر عليه السبيل في الخير والشرّ، وألهمه كيف التصرّف.
ويقال: يسّر عليه الخروج من بطن أمّه يخرج أولا رأسه منكوسا.
«ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» أي: جعل له قبرا لئلا تفترسه السّباع والطيور ولئلا يفتضح.
«ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» بعثه من قبره.
«كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» أي: عصى وخالف ما أمر به.(3/689)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
ويقال: لم يقض الله له ما أمره به، ولو قضى عليه وله ما أمره به لما عصاه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 25 الى 37]
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
فى الإشارة: صببنا ماء الرحمة على القلوب القاسية فلانت للتوبة، وصببنا ماء التعريف على القلوب فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوار التجريد.
«وَقَضْباً» أي القت «2» .
«وَحَدائِقَ غُلْباً» متكائفة غلاظا.
«وَفاكِهَةً وَأَبًّا» الفاكهة: جميع الفواكه، و «أَبًّا» : المرعى.
«مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ... »
«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي: القيامة فيومئذ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، ثم بيّن ما سبب ذلك فقال:
«لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» لا يتفرّغ إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذه. كذلك قالوا: الاستقامة أن تشهد الوقت
__________
(1) أي: كلّا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له- وهذا الرأى للإمام ابن فورك شيخ القشيري.
(2) سمىّ القت قضبا لأنه يقضب، أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة (الحسن) ويرى ابن عباس أنه الرطب لأنه يقضب من النخل، ولأنه ذكر العنب قبله.(3/690)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
قيامة، فما من وليّ ولا عارف إلّا وهو- اليوم- بقلبه يفرّ من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
فالعارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه- قالوا:
فلقد جعلتك في الفؤاد محدّثى ... وأبحت جسمى من أراد جاوسى «1»
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 41]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41)
وسبب استبشارهم مختلف فمنهم من استبشاره لوصوله إلى جنّته، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته.. ومنهم ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربّه فرآه.
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» وهي غبرة الفسّاق. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» . وهي ذلّ الحجاب.
__________
(1) أحد بيتين ينسبان إلى رابعة العدوية، والثاني:
فالجسم منى للجليس مؤانس ... وحبيب قلبى في الفؤاد أنيسى
(نشأة التصوف الإسلامى ص 191 ط المعارف تأليف بسيونى) .(3/691)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
سورة التّكوير
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة أثلجت من قوم قلوبا، وأوهجت من آخرين قلوبا من المطيعين أثلجتها، ومن العاصين أوهجتها، ومن المريدين أبهجتها، ومن العارفين أزعجتها.
قوله جل ذكره:
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
ذهب ضوؤها.
«وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» تناثرت وسقطت على الأرض.
قوله جل ذكره: «وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» «1» أزيلت عنها مناكبها.
«وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» وهي النّوق الحوامل التي أتى حملها عشرة أشهر.. أهملت في ذلك اليوم لشدة أهواله، (واشتغال الناس بأنفسهم عنها) .
«وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» أحييت، وجمعت في القيامة ليقتصّ لبعضها من بعض فيقتصّ للجمّاء من القرناء «2» - وهذا على جهة ضرب المثل إذ لا تكليف عليها.
__________
(1) تأخرت هذه الآية بعد آية (العشار) فى م فوضعناها في مكانها الصحيح. [.....]
(2) هذا رأى ابن عباس كما رواه عنه عكرمة، والجماء: ما ليس لها قرن، وفي أمثالهم «عند النطاح يغلب الكبش الأجم» .(3/692)
ولا يبعد أن يكون بإيصال منافع إلى ما وصل إليه الألم- اليوم- على العوض..
جوازا لا وجوبا على ما قاله أهل البدع.
«وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أو قدت- من سجرت التنور أسجره سجرا، أي: أحميته.
«وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» «1» بالأزواج.
«وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» نشرت، أي: بسطت.
«وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» أي: نزعت وطويت.
«وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ» أوقدت.
«وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» أي: قرّبت من المتقين.
قوله جل ذكره: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» هو جواب لهذه الأشياء، وهذه الأشياء تحصل عند قيام القيامة.
وفي قيام قيامة هذه الطائفة (يقصد الصوفية) عند استيلاء هذه الأحوال عليهم، وتجلّى هذه المعاني لقلوبهم توجد هذه الأشياء.
__________
(1) قرنت بأشكالها في الجنة والنار، قال تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ» . وقال صلى الله عليه وسلم: «يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله» .(3/693)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
فمن اختلاف أحوالهم: أنّ لشموسهم في بعض الأحيان كسوفا وذلك عند ما يردّون «1» .
ونجوم علومهم قد تنكدر لاستيلاء الهوى على المريدين في بعض الأحوال، فعند ذلك «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 24]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
أي: أقسم، والخنّس والكنّس هي النجوم إذا غربت «2» .
ويقال: البقر الوحشي «3» .
قوله جل ذكره: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» عسعس: أي جاء وأقبل. «تَنَفَّسَ» : خرج من جوف الليل.
أقسم بهذه الأشياء، وجواب القسم:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» .
إن هذا القرآن لقول رسول كريم، يعنى به جبريل عليه السلام.
«ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» «مَكِينٍ» من المكانة، وقد بلغ من قوته أنه قلع قرية آل لوط وقلبها.
«وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» وهذا أيضا من جواب القسم.
«وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» رأى محمد جبريل عليه السلام بالأفق المبين ليلة المعراج.
__________
(1) «عند ما يردّون» فى أحوال القبض بعد البسط والهجر بعد الوصل، والخوف بعد الرجاء والفرق بعد الجمع.. ونحو ذلك.
(2) قيل هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل، والمشترى، وعطارد، والمريخ، والزّهرة (فى رواية عن على ابن أبى طالب) .
(3) فسرت هكذا في رواية عن عبد الله بن مسعود، وأخرى عن ابن عباس.(3/694)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
ويقال: رأى ربّه وكان صلى الله عليه وسلم بالأفق المبين.
«وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» بمتّهم «1» قوله جل ذكره:
[سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
إلى متى تتطوحون في أودية الظنون والحسبان؟
وإلى أين تذهبون عن شهود مواضع الحقيقة؟
وهلّا رجعتم إلى مولاكم فيما سرّكم أو أساءكم؟
«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» ما هذا القرآن إلّا ذكرى لمن شاء منكم أن يستقيم ... وقد مضى القول فى الاستقامة.
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» أن يشاءوا «2» .
__________
(1) لا تكون بهذا المعنى إلا إذا قرئت (بظنين) بالظاء، وهي قراءة ابن كثير، وأبى عمرو والكسائي.
والآخرين بالضاد فيكون المعنى (ببخيل) أي لا يبخل عليكم بما يعلم من أخبار السماء.
(2) كنا ننتظر من القشيري الذي ينادى بأن كل شىء من الله وإلى الله حتى أكساب العباد أن يفيض في توضيح هذه الآية أكثر من ذلك لأنها ناصعة صريحة في نسبة المشيئة- كل المشيئة- لله، وأن الإنسان إذا وصف بالمشيئة فهى مرتبطة بالمشيئة الإلهية.(3/695)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
سورة الانفطار
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة منيعة ليس يسمو إلى فهمها كلّ خاطر فإذا كان الخاطر غير عاطر فهو عن علم حقيقتها متقاصر.
قوله جل ذكره:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
أي: انشقت.
«وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» تساقطت وتهافتت.
«وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» أي: فتح بعضها على بعض.
«وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» أي: قلب ترابها، وبعث الموتى الذين فيها، وأخرج ما فيها من كنوز وموتى.
«عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» جواب لهذه الأمور أي إذا كانت هذه الأشياء: علمت كلّ نفس ما قدّمت من خيرها وشرّها.
قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»(3/696)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
أي: ما خدعك وما سوّل لك حتى عملت «1» بمعاصيه؟
ويقال: سأله وكأنما في نفس السؤال لقّنه الجواب يقول: غرّنى كرمك بي، ولولا كرمك لما فعلت لأنّك رأيت فسترت، وقدّرت فأمهلت.
ويقال: إن المؤمن «2» وثق بحسن إفضاله فاغترّ بطول إمهاله فلم يرتكب الزلّة لاستحلاله، ولكنّ طول حلمه عنه حمله على سوء خصاله، وكما قلت «3» :
يقول مولاى: أما تستحى ... مما أرى من سوء أفعالك
قلت: يا مولاى رفقا فقد ... جرّأنى «4» كثرة أفضالك
قوله جل ذكره:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 7 الى 12]
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11)
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
أي: ركّب أعضاءك على الوجوه الحكميّة «5» فى أي صورة ماشاء، من الحسن والقبح، والطول والقصر. ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصّفة، و «فِي» بمعنى «على» فيكون معناه: على أي صفة شاء ركّبك من السعادة أو الشقاوة، والإيمان أو المعصية..
قوله جل ذكره: «كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ» أي: القيامة «6» .
«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» هم الملائكة الذين يكتبون الأعمال. وقد خوّفهم برؤية الملائكة وكتابتهم الأعمال لتقاصر
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (علمت) وهي خطأ في النسخ.
(2) يقصد القشيري هنا (المؤمن العاصي) .. المنزلة بين المنزلتين (بين المؤمن والكافر) .
(3) ينبغى ملاحظة ذلك إذا أردنا أن ندرس (القشيري الشاعر) : أنظر هذه الدراسة في كتابنا عن (الإمام القشيري) .
(4) هكذا في م وهي في ص (أفسدنى) وكلاهما صحيح.
(5) هكذا في النسختين، وقد كنا نريد أن نظن أنها ربما كانت (الحكيمة) ، ولكن ارتباط السياق بالمشيئة (.. ما شاء ركّبك) جعلنا نحجم عن هذا الظن.
(6) بدليل قوله تعالى فيما بعد (يصلونها يوم الدين) .(3/697)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
حشمتهم من اطّلاع الحق، ولو علموا ذلك حقّ العلم لكان توقّيهم عن المخالفات لرؤيته- سبحانه، واستحياؤهم من اطّلاعه- أتمّ من رؤية الملائكة.
قوله جل ذكره:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
«الْأَبْرارَ» : هم المؤمنون اليوم في نعمة العصمة، وغداهم في الكرامة والنعمة «الْفُجَّارَ» : اليوم في جهنم باستحقاق اللعنة والإصرار على الشّرك الموجب للفرقة، وغدا فى النار على وجه التخليد والتأييد.
ويقال: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» . فى روح الذّكر، وفي الأنس في أوان خلوتهم.
«وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» . فى ضيق قلوبهم وتسخّطهم على التقدير، وفي ظلمات تدبيرهم، وضيق اختيارهم.
«يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» «يَصْلَوْنَها» أي النار. «يَوْمَ الدِّينِ» . يوم القيامة.
«وَما هُمْ عَنْها» عن النار. «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟» قالها على جهة التهويل.
«يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» الأمر لله يومئذ، ولله من قبله ومن بعده، ولكن «يَوْمَئِذٍ» تنقطع الدعاوى، إذ يتضح الأمر وتصير المعارف ضرورية.(3/698)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
سورة المطفّفين
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وسناؤه علاؤه، وعلاؤه بهاؤه، وجلاله جماله، وجماله جلاله. الوجود له غير مستفتح، والموجود منه غير مستقبح. المعهود منه لطفه، المأمول منه لطفه.. كيفما قسم للعبد فالعبد عبده إن أقصاه فالحكم حكمه، وإن أدناه فالأمر أمره «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
«وَيْلٌ» : الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، فيقال: ويل لك، وويل عليك! و «المطفّف» . الذي ينقص الكيل والوزن، وأراد بهذا الذين يعاملون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلّى ذلك فى: الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاء فمن لم يرض لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه
__________
(1) هذا هو نصر تفسير البسملة كما جاء في م أمّا في ص فهى على النحو التالي: -[بسم الله: اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغواض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال] .
وهذا هو تفسير بسملة سورة الانشقاق كما جاء في م وكما سنرى، ومعنى هذا أن اضطرابا حدث في الأمر.
وما دمنا نعرف أن القشيري لا يستوحى إشارته من كل بسملة بطريقة عفوية، ولكن على أساس المغزى العام للسورة.. فقد اخترنا أن تكون بسملة «المطففين» هى هذه على أساس أن قسمة الله للعبد قسمة عادله لبس فيها (تطفيف) ، وأن ما أوجده الله من وجود (غير مستقبح) . [.....](3/699)
فليس بمنصف. وأمّا الصّدّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلّ من لهم معهم معاملة- والصدق عزيز، وكذلك أحوالهم في الصّحبة والمعاشرة.. فالذى يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة- جملة المطففين- كما قيل:
وتبصر في العين منّى القذى ... وفي عينك الجذع لا تبصر
ومن اقتضى حقّ نفسه- دون أن يقضى حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه- فهو من جملة المطففين.
والفتى من يقضى حقوق الناس ولا يقتضى من أحد لنفسه حقّا.
قوله جل ذكره: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ؟ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» أي: ألا يستيقن هؤلاء أنهم محاسبون غدا، وأنهم مطالبون بحقوق الناس؟.
ويقال: من لم يذكر- فى حال معاملة الناس- معاينة القيامة ومحاسبتها فهو فى خسران في معاملته.
ويقال: من كان صاحب مراقبة لله ربّ العالمين استشعر الهيبة في عاجله، كما يكون حال الناس في المحشر لأنّ اطلاع الحقّ اليوم كاطلاعه غدا.
قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ» «سِجِّينٍ «1» » قيل: هى الأرض السابعة، وهي الأرض السفلى، يوضع كتاب أعمال الكفار هنالك إذلالا لهم وإهانة، ثم تحمل أرواحهم إلى ما هنالك.
__________
(1) فى رواية عن أنس أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «سجّين أسفل الأرض السابعة» .(3/700)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
ويقال: «السّجين» جبّ في جهنم. وقيل: صخرة في الأرض السفلى، وفي اللغة السّجين: فعيل من السجن.
«وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» . استفهام على جهة التهويل «كِتابٌ مَرْقُومٌ» . أي مكتوب كتب الله فيه ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون.
وإنما المكتوب على بنى آدم في الخير والشر، والشقاوة والسعادة فهو على ما تعلّق به علمه وإرادته، وإنما أخبر على الوجه الذي علم أن يكون أو لا يكون، وكما علم أنه يكون أو لا يكون أراد أن يكون أو لا يكون. ثم إنه سبحانه لم يطلع أحدا على أسرار خلقه إلّا من شاء من المقربين بالقدر الذي أراده فإنه يجرى عليهم في دائم أوقاتهم ما سبق لهم به التقدير.
ثم قال:
[سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 21]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
ويل للذين لا يصدّقون بيوم الدين، وما يكذّب به إلا كل مجاوز للحدّ الذي وضع له إذا يتلى عليه القرآن كفر به.
«كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» أي: غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي.. وكما أنهم- اليوم- ممنوعون عن معرفته فهم غدا ممنوعون عن رؤيته. ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه غدا كما يعرفونه اليوم.
قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» «عِلِّيِّينَ» أعلى الأمكنة، تحمل إليه أرواح الأبرار تشريفا لهم وإجلالا.(3/701)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
ويقال: إنها سدرة المنتهى. ويقال: فوق السماء السابعة. كتاب مرقوم فيه أعمالهم مكتوبة يشهده المقربون «1» من الملائكة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 24]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
اليوم وغدا: اليوم في روح العرفان، وراحة الطاعة والإحسان، ونعمة الرضا وأنس القربة وبسط الوصلة. وغدا- فى الجنة وما وعدوا به من فنون الزلفة والقربة.
قوله تعالى: «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» أثبت النظر ولم يبيّن المنظور إليه لاختلافهم في أحوالهم فمنهم من ينظر إلى قصوره.
ومنهم من ينظر إلى حوره، ومنهم ومنهم.. ومنهم الخواصّ فهم على دوام الأوقات إلى الله- سبحانه- ينظرون.
قوله جل ذكره: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» من نظر إليهم علم أنّ أثر نظره إلى مولاه ما يلوح على وجهه من النعيم فأحوال المحبّ شهود عليه أبدا. فإن كان الوقت وقت وصال فاختياله ودلاله، وسروره وحبوره، ونشاطه وانبساطه. وإن كان الوقت وقت غيبة وفراق فالشهود عليه نحوله وذبوله، وحنينه وأنينه، ودموعه وهجوعه.. وفي معناه قلت «2» .
يا من تغيّر صورتى لمّا بدا ... - لجميع ما ظنوا بنا- تحقيق
__________
(1) هكذا في ص وفي م (يشهد) بدون ضمير غائب، وحسب النسخة الأولى تكون عودة الضمير على الكتاب المرقوم، وحسب النسخة الثانية يكون الكلام مستمرا خصوصا ولم يبدأ كالعادة بعلامة نشعر ببدء الآية مثل:
قوله تعالى أو قوله جل ذكره.. أي: يشهد المقربون أن الأبرار لفى نعيم، ويتقوّى الرأى الأول بما قاله القشيري منذ قليل: إن الله يطلع بعض المقربين على أسرار خلقه بالقدر الذي يريده سبحانه، كذلك فإن السياق- على الفهم الثاني- يقتضى فتح همزة (إن الأبرار ... ) ولكنها مكسورة مما يدل على أن الكلام مستأنف- اللهم إلا إذا كانت يشهد بمعنى يقسم- فالشهادة ترد بمعنى القسم- كما مرّ من قبل ... وهمزة إن تكسر بعد القسم.
(2) نسعد كثيرا جدا بهذا الشعر الذي صاغه القشيري، فهو شاعر مقلّ، ولكنه- كما هو واضح- رقيق دقيق.
وربما كان معنى النص الأول على هذا الترتيب: يا من تغيّر صورتى- لمّا بدا- تحقيق لجميع ما ظنوا بنا أي أن ما ظهر على أسرّتى من أشياء حاولت كتمانها قد حقّق ظنون الواشين والعاذلين.. فلا فائدة.. فالصبّ تفضحه عيونه! ونحسب أن ما قبل النص، وما يقصده النص الثاني يؤيدان تذوقنا على هذا النحو.(3/702)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
وقلت:
ولمّا أتى الواشين أنّى زرتها ... جحدت حذارا أن تشيع السرائر
فقالوا: نرى في وجهك اليوم نضرة ... كست محيّاك «1» .. وهاذاك ظاهر!
وبردك لا ذاك الذي كان قبله ... به طيب نشر لم تشعه المجامر
فما كان منّى من بيان أقيمه ... وهيهات أن يخفى مريب مساتر!
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (83) : الآيات 25 الى 28]
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
«مَخْتُومٍ» أي رحيق لا غشّ فيه.
ويقال: عتيق طيّب.
ويقال: إنهم يشربون شرابا آخره مسك.
ويقال: بل هو مختوم قبل حضورهم.
ويقال: «خِتامُهُ مِسْكٌ» . ممنوع من كلّ أحد، معدّ مدّخر لكلّ أحد باسمه.
«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» . وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، والسباق إلى القرب، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ عن الأخلاق الدّنيّة، وجولان الهمم فى الملكوت «2» ، واستدامة المناجاة.
قوله جل ذكره: «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» «تَسْنِيمٍ» أي: عين تسنّم عليهم من علوّ.
وقيل: ميزاب ينصبّ عليهم من فوقهم.
ويقال: سمّى تسنيما لأن ماءه يجرى في الهواء متسنّما فينصبّ في أوانى أهل الجنة
__________
(1) كذا بالأصل ولعلّها (بدت في محياك) كى يستقيم الوزن.
(2) هكذا في ص وهي أصح مما في م (المكتوب) فهى مشتبهة على الناسخ.(3/703)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا.. الأولياء يسقون مزجا، والخواص يسقون صرفا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
كانوا يضحكون استهزاء بهم.. فاليوم.. الذين آمنوا من الكفار يضحكون! «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟» «هَلْ ... » استفهام يراد منه التقرير.
ويقال: إذا رأوا أهل النار في النار يعذّبون لا تأخذهم بهم رأفة، ولا ترقّ لهم قلوبهم، بل يضحكون ويستهزئون ويعيّرونهم.
__________
(1) نفهم من هذا أن الخواص أعلى درجة من الأولياء.(3/704)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
سورة الانشقاق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغراض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
«انْشَقَّتْ» : انصدعت.
«وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» أي قابلت أمر ربّها بالسمع والطاعة.. وحقّ لها أن تفعل ذلك.
«وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» بسطت باندكاك آكامها وجبالها حتى صارت ملساء، وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلّت عنها.. وقابلت أمر ربها بالسمع والطاعة.
وجواب هذه الأشياء في قوله: «فَمُلاقِيهِ» أي يلقى الإنسان ما يستحقه على أعماله. «2»
قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» .
__________
(1) نعيد إلى الذاكرة ما قلناه من قبل من حدوث افتراق بين النسختين بين تفسير بسملتى «المطففين» و «الانشقاق» .
(2) يرى الكسائي- ويوافقه أبو جعفر النحاس وغيره- أن جواب القسم هو: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... » أي: إذا انشقت السماء فمن أوتى كتابه بيمينه فحكمه كذا..(3/705)
«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» : يا أيها المكلّف.. إنّك ساع بما لك سعيا ستلقى جزاءه بالخير خيرا وبالشّرّ شرّا.
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» وهو المؤمن المحسن.
«فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» أي حسابا لا مشقّة فيه. ويقال: «حِساباً يَسِيراً» أي يسمعه كلامه- سبحانه- بلا واسطة، فيخفّف سماع خطابه ما في الحساب من عناء.
ويقال: «حِساباً يَسِيراً» : لا يذكّره ذنوبه. ويقال: يقول: ألم أفعل كذا؟ وألم أفعل كذا؟ يعدّ عليه إحسانه.. ولا يقول: ألم تفعل كذا؟ لا يذكّره عصيانه.
«وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» أي بالنجاة والدرجات، وما وجد من المناجاة، وقبول الطاعات، وغفران الزّلّات.
ويقال: بأن يشفّعه فيمن يتعلّق به قلبه. ويقال: بألا يفضحه.
ويقال: بأن يلقى ربّه ويكلّمه قبل أن يدخله الجنة فيلقى حظيّته من الحور العين.
قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» وهو الكافر.
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» ..
أي ويلا.
«وَيَصْلى سَعِيراً» جهنم.
«إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً»(3/706)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
من البطر «1» والمدح.
«إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أنه لن يرجع إلينا، ولن يبعث.
قوله جل ذكره: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» بالحمرة التي تعقب غروب الشمس.
«وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» وما جمع وضمّ.
«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» تمّ واستوى واجتمع.
ويقال: الشّفق حين غربت شمس وصالهم، وأذيقوا الفراق في بعض أحوالهم، وذلك زمان قبض بعد بسط، وأوان فرق عقيب جمع «2» . «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» : ليالى غيبتهم وهم بوصف الاستياق أو ليالى وصالهم وهم في روح التلاقي، أو ليالى طلبهم وهم بنعت القلق والاحتراق.
«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» : إذا ظهر سلطان العرفان على القلوب فلا بخس ولا نقصان.
قوله جل ذكره:
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 19 الى 25]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
أي حالا بعد حال. وقيل: من أطباق السماء. ويقال: شدّة بعد شدّة.
ويقال: تارات الإنسان طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا.
ويقال: طالبا ثم واصلا ثم متّصلا.
ويقال: حالا بعد حال، من الفقر والغنى، والصحة والسّقم.
ويقال: حالا بعد حال في الآخرة.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (النظر) والسياق يقتضى (البطر) فهو من أشد آفات الطريق خطرا- كما نعرف من مذهب القشيري.
(2) فى م (وأوان فراق بعد جمع) والاصطلاحان الصوفيان الملائمان هما (الفرق والجمع) .(3/707)
قوله جل ذكره: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟» أي فما لكفّار أمّتك لا يصدّقون.. وقد ظهرت البراهين؟
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» «يُوعُونَ» أي تنطوى عليه قلوبهم- من أوعيت المتاع في الظّرف أي جعلته فيه.
«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم ليسوا منهم، ولهم أجر غير مقطوع.(3/708)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
سورة البروج
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم من لا عقل يكتنهه «1» ، اسم من لا مثل يشبهه، اسم من لا فهم «2» يرتقى إليه بالتصوير، اسم من لا علم ينتهى إليه بالتقدير «3» ، اسم من لم يره بصر إلّا واحد- وهو أيضا مختلف فيه «4» ، اسم من لا يجسر أحد أن يتكلّم بغير ما إذن فيه، اسم من لا قطر يحويه، ولا سرّ يخفيه، ولا أحد يصل إلى معرفته إلّا من يرتضيه.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
أراد البروج الاثني عشر «5» .
«وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» يوم القيامة.
وجواب القسم قوله: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» .
قوله جل ذكره: «وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» يقال: الشاهد الله، والمشهود الخلق.
__________
(1) أي يدرك كنهه.
(2) هكذا في النسختين، ومع ذلك فإننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (من لا وهم ... ) فمن أقوال ذى النون: (كل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك) الرسالة ص 4.
(3) نعرف في الاصطلاح أن (التقدير) لله و (التدبير) للإنسان، ولكن (التقدير) مستعمل هنا خاصا بالإنسان أي أن أحدا لا يستطيع أن (يقدر) الله حق قدره.
(4) يشير بذلك إلى اختلاف الآراء حول رؤية النبي (ص) ربه ليلة المعراج رؤية بصرية (الرسالة ص 175) . [.....]
(5) وهي التي تسير الشمس في كل منها شهرا، وهى: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت.(3/709)
ويقال: الشاهد الخلق، والمشهود الله يشهدونه اليوم بقلوبهم، وغدا بأبصارهم.
ويقال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود القيامة، قال تعالى: «وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «1» ، وقال في القيامة: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» «2» .
وقيل: الشاهد يوم الجمعة «3» ، والمشهود يوم عرفة.
ويقال: الشاهد الملك الذي يكتب العمل، والشاهد الإنسان يشهد على نفسه، وأعضاؤه تشهد عليه فهو شاهد وهو مشهود.
ويقال: الشاهد يوم القيامة، والمشهود الناس.
ويقال: المشهود هم الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم يشهد لهم وعليهم.
ويقال: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم.
ويقال: الشاهد الحجر الأسود لأنّ فيه كتاب العهد.
ويقال: الشاهد جميع الخلق يشهدون لله بالوحدانية، والمشهود الله.
ويقال: الشاهد الله شهد لنفسه بالوحدانية، والمشهود هو لأنه شهد لنفسه.
قوله جل ذكره: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» أي لعنوا. والأخدود: الحفرة في الأرض إذا كانت مستطيلة، وقصتهم في التفسير معلومة «4» و «الْوَقُودِ» الحطب.
وهم أقوام كتموا إيمانهم فلمّا علم ملكهم بذلك أضرم عليهم نارا عظيمة، وألقاهم فيها.
__________
(1) آية 41 سورة النساء.
(2) آية 103 سورة هود.
(3) خرّج ابن ماجة وغيره رواية عن أبى الدرداء قوله: قال رسول الله (ص) : «أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة» .
(4) قيل هم من السجستان، وقيل من نجران، وقيل من القسطنطينية، وقيل: هم من المجوس. وقيل من اليهود، وقيل من النصارى.(3/710)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وآخر من دخلها امرأة كان معها رضيع، وهمّت أن ترجع، فقال لها الولد: قفى واصبري..
فأنت على الحقّ.
وألقوها في النار، واقتحمتها، وبينما كان أصحاب الملك قعودا حوله يشهدون ما يحدث ارتفعت النار من الأخدود وأحرقتهم جميعا، ونجا من كان في النار من المؤمنين وسلموا.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (85) : الآيات 8 الى 13]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
ما غضبوا منهم إلّا لإيمانهم.
قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» أي أحرقوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا عن كفرهم «فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ» : نوع من العذاب، «وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» : نوع آخر «1» .
قوله جل ذكره: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» «ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» : النجاة العظيمة.
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة.
«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» يبدئ الخلق ثم يعيدهم بعد البعث.
__________
(1) قد يكون العذاب الأول بالزمهرير في جهنم، والثاني بنار الحريق فكأنهم يعذبون ببردها وحرها والله أعلم.(3/711)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ويقال: يبدئ بالعذاب ثم يعيد، وبالثواب ثم يعيد.
ويقال: يبدئ على حكم العداوة والشقاوة ثم يعيد عليه، ويبدئ على الضعف ويعيدهم إلى الضعف.
ويقال: يبدى الأحوال السّنيّة فإذا وقعت حجبة يعيد ثانية.
ويقال: يبدى بالخذلان أمورا قبيحة ثم يتوب عليه، فإذا نقض توبته فلأنه أعاد له من مقتضى الخذلان ما أجراه في أول حاله.
ويقال: يبدى لطائف تعريفه ثم يعيد لتبقى تلك الأنوار أبدا لائحة، فلا يزال يبدى ويعيد إلى آخر العمر.
قوله جل ذكره:
[سورة البروج (85) : الآيات 14 الى 22]
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
«الْغَفُورُ» كثير المغفرة، «الْوَدُودُ» مبالغة من الوادّ، ويكون بمعنى المودود فهو يغفر لهم كثيرا لأنه يودّهم، ويغفر لهم كثيرا لأنهم يودّونه.
قوله جل ذكره: «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» ذو الملك الرفيع، والمجد الشريف.
«فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لأنه مالك على الإطلاق فلا حجر عليه ولا حظر.
قوله جل ذكره: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ» الجموع من الكفار.
«فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» وقد تقدم ذكر شأنهما.
«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ» «الَّذِينَ كَفَرُوا» يعنى مشركى مكة «فِي تَكْذِيبٍ» للبعث والنشر.
«وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ»(3/712)
عالم بهم.
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» مكتوب فيه. وجاء في التفسير: أنّ اللوح المحفوظ خلق من درّة بيضاء، دفّتاه من ياقوتة حمراء عرضها بين السماء والأرض، وأعلاه متعلّق بالعرش، وأسفله فى حجر ملك كريم.
والقرآن كما هو محفوظ في اللوح كذلك محفوظ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فهو في اللوح مكتوب، وفي القلوب محفوظ.(3/713)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
سورة الطارق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز إذا أراد إعزاز عبد وفّقه لعرفانه، ثم زيّنه بإحسانه، ثم استخلصه بامتنانه فعصمه من عصيانه، وقام بحسن التولّى- فى جميع أحواله- بشانه، ثم قبضه على إيمانه، ثم بوّأه في جنانه، وأكرمه برضوانه، ثم أكمل عليه نعمته برؤيته وعيانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
أقسم بالسماء، وبالنجم الذي يطرق ليلا.
«وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟» استفهام يراد منه تفخيم شأن هذا النجم.
«النَّجْمُ الثَّاقِبُ» المضيء العالي. وقيل: الذي ترمى به الشياطين.
ويقال: هى «1» نجوم المعرفة التي تدل على التوحيد يستضىء بنورها ويهتدى بها أولو البصائر.
«إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عليه عمله ورزقه وأجله، ويحمله على دوام التيقّظ وجميل التحفّظ.
قوله جل ذكره: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (هو نجم المعرفة ... إلخ) .(3/714)
مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» يخرج من صلب الأب، وتريبة الأم.
وهو بذلك يحثّه على النّظر والاستدلال حتى يعرف كمال قدرته وعلمه وإرادته- سبحانه.
«إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ» إنه على بعثه، وخلقه مرة أخرى لقادر لأنه قادر على الكمال- والقدرة على الشيء تقتضى القدرة على مثله، والإعادة في معنى الابتداء.
«يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» يوم تمتحن الضمائر.
«فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ» أي ما لهذا الإنسان- يومئذ- من معين يدفع عنه حكم الله.
«وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ» أي المطر.
«وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» «الصَّدْعِ» : الانشقاق بالنبات للزرع والشجر.
«إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ» أي: إن القرآن لقول جزم.
«وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الهزل ضد الجدّ، فليس القرآن بباطل ولا لعب.
قوله جل ذكره: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً»(3/715)
أي يحتالون حيلة.
«وَأَكِيدُ كَيْداً» هم يحتالون حيلة، ونحن نحكم فعلا ونبرم خلقا، ونجازيهم على كيدهم، بما نعاملهم به من الاستدراج والإمهال.
«فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» أي أنظرهم، وأمهلهم قليلا، وأرودهم رويدا.(3/716)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
سورة الأعلى
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز من قصده وجده، ومن استسعفه حمده. من طلبه عرفه، ومن عرفه لاطفه، فإذا وجد لطفه ألفه، وإذا ألفه أنف أن يخالفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
أي سبّح ربّك بمعرفة أسمائه، واسبح بسرّك في بحار علائه، واستخرج من جواهر علوّه وسنائه ما ترصّع به عقد مدحه وثنائه.
«الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» خلق كلّ ذى روح فسوّى أجزاءه، وركّب أعضاءه على ما خصّه به من النظم العجيب والتركيب البديع.
«وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» أي قدّر ما خلقه، فجعله على مقدار ما أراده، وهدى كلّ حيوان إلى ما فيه رشده من المنافع، فيأخذ ما يصلحه ويترك ما يضره- بحكم الإلهام.
ويقال: هدى قلوب الغافلين إلى طلب الدنيا فعمروها، وهدى قلوب العابدين إلى طلب العقبى فآثروها. وهدى قلوب الزاهدين إلى فناء الدنيا فرفضوها، وهدى قلوب العلماء إلى النظر في آياته والاستدلال بمصنوعاته فعرفوا تلك الآيات ولازموها.
(وهدى قلوب المريدين إلى عزّ وصفه فآثروه، واستفرغوا جهدهم فطلبوه) «1» ، وهدى
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.(3/717)
العارفين إلى قدس نعته فراقبوه ثم شاهدوه، وهدى الموحّدين إلى علاء سلطانه في توحد كبريائه فتركوا ما سواه وهجروه، وخرجوا عن كلّ مألوف لهم ومعهود «1» حتى قصدوه.
فلمّا ارتقوا عن حدّ البرهان ثم عن حدّ البيان ثم عمّا كالعيان علموا أنّه عزيز، وأنّه وراء كلّ فصل ووصل، فرجعوا إلى موطن العجز فتوسّدوه.
«وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى» أي النبات.
«فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» جعله هشيما كالغثاء، وهو الذي يقذفه السيل. و «أَحْوى» أسود.
«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» «2» سنجمع القرآن في قلبك- يا محمد- حفظا حتى لا تنسى لأنا نحفظه عليك.
«إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» مما لا يدخل تحت التكليف فتنساه قبل التبليغ ولم يجب عليه أداؤه.
وهو- سبحانه- يعلم السّرّ والعلن.
قوله جل ذكره: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» والذّكرى تنفع لا محالة «3» ، ولكن لمن وفّقه الله للاتعاظ بها، أمّا من كان المعلوم من حاله الكفر والإعراض فهو كما قيل:
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (معبود) وقد رجحنا (معهود) لتلاؤمها مع (مألوف) . ولكن إذا تذكرنا أن الصوفية يرون الانسياق وراء الهوى نوعا من الشرك الخفي- قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» - فيمكن في ضوء ذلك قبول (معبود) أيضا.
(2) يرى الجنيد أن المعنى «فلا تنسى العمل به» ، وهذا من الآراء الحسنة التي يتمشى معها رأى القشيري فى «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» .
(3) ولهذا تفسر (إن) فى الآية على معنى (ما) : أي فذكر ما نفعت الذكرى، ولا يكون لها حينئذ معنى الشرط، وتفسر على معنى (إذ) مثل: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ، وعلى معنى (قد) .(3/718)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
[سورة الأعلى (87) : الآيات 10 الى 19]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
الذي يخشى الله ويخشى عقوبته.
«وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» أي يتجنّب الذّكر الأشقى الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها موتا يريحه، ولا يحيا حياة تلذّ له.
قوله جل ذكره: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» من تطهّر من الذنوب والعيوب، ومشاهدة الخلق وأدّى الزكاة- وجد النجاة، والظّفر بالبغية، والفوز بالطّلبة.
«وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ذكر اسم ربّه في صلاته. ويقال: ذكره بالوحدانية وصلّى له.
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا» تميلون إليها فتقدّمون حظوظكم منها على حقوق الله تعالى.
[ «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» والآخرة للمؤمنين خير وأبقى- من الدنيا- لطلّابها.] «1»
قوله جل ذكره: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» إن هذا الوعظ لفى الصحف المتقدمة، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما لأنّ التوحيد، والوعد والوعيد.. لا تختلف باختلاف الشرائع.
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.(3/719)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
سورة الغاشية
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة من سمعها وفي قلبه عرفانه تلألأت أنوار قلبه، وتفرّقت أنواع كربه، وتضاعفت في جماله طوارق حبّه، وتحيّرت في جلاله شوارق لبّه.
كلمة من عرفها- وفي قلبه إيمانه- أحبّها من داخل الفؤاد، وهجر- فى طلبها- الرّقاد، وترك- لأجلها- كلّ همّ ومراد.
قوله جل ذكره:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
«الْغاشِيَةِ» المجلّلة، يريد بها القيامة تغشى الخلق، تغشى وجوه الكفّار.
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً» وجوه- إذا جاءت القيامة- خاشعة أي ذليلة. عاملة ناصبة: النّصب التعب.
جاء في التفسير: أنهم يجرّون على وجوههم.
«تَصْلى ناراً حامِيَةً» تلزم نارا شديدة الحرّ.
ويقال: «عامِلَةٌ» فى الدنيا بالمعاصي، «ناصِبَةٌ» فى الآخرة بالعذاب.
ويقال: «ناصِبَةٌ» فى الدنيا «عامِلَةٌ» لكن من غير إخلاص كعمل الرهبان «1» ، وفي معناه عمل أهل النفاق.
__________
(1) روى الضحاك عن ابن عباس قوله: «هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله- جل ثناؤه- منهم إلا ما كان خالصا» .(3/720)
«تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» تناهى حرّها.
َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
نبت ينمو بالحجاز له شوك، وهو سمّ لا تأكله الدواب، فإذا أكلوا ذلك في النار يغصّون، فيسقون الزقّوم.
وإن اتصاف الأبدان- اليوم- بصورة الطاعات مع فقد الأرواح وجدان المكاشفات (وفقد) «1» الأسرار أنوار المشاهدات، (وفقد) القلب الإخلاص والصدق في الاعتقادات لا يجدى خيرا، ولا ينفع شيئا- وإنما هي كما قال: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» أي: متنعّمة، ذات نعمة ونضارة.
«لِسَعْيِها راضِيَةٌ» حين وجدت الثواب على سعيها، والقبول لها.
«فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» عالية في درجتها ومنزلتها وشرفها. هم بأبدانهم في درجاتهم، ولكن بأرواحهم مع الله فى عزيز مناجاتهم.
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» لأنهم يسمعون بالله فليس فيها كلمة لغو.
قوم يسمعون بالله، وقوم يسمعون لله، وقوم يسمعون من الله، وفي الخبر: «كنت له سمعا وبصرا فبى يسمع وبى يبصر «2» .
__________
(1) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يكون السياق أكثر وضوحا. [.....]
(2) «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبعسر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها» أورده السراج في لمعه ص 88. وهو حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة وأحمد عن عائشة، والطبراني في الكبير عن أبى أمامة، وابن السنى عن ميمون.(3/721)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
«فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» أراد عيونا لأن العين اسم جنس، والعيون الجارية هنالك كثيرة ومختلفة.
ويقال: تلك العيون الجارية غدا لمن له- اليوم- عيون جارية بالبكاء «1» ، وغدا لهم عيون ناظرة بحكم اللقاء.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 15]
النمارق المصفوفة في التفسير: الطنافس المبسوطة.
الزرابي المبثوثة في التفسير: البسط المتفرقة.
وإنما خاطبهم على مقادير فهو مهم «2» .
قوله جل ذكره: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟» لمّا ذكر وصف تلك السّرر المرفوعة المشيّدة قالوا: كيف يصعدها المؤمن؟ فقال:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ كيف إذا أرادوا الحمل عليها أو ركوبها تنزل؟
فكذلك تلك السّرر تتطامن حتى يركبها الوليّ.
وإنما أنزلت هذه الآيات على وجه التنبيه، والاستدلال بالمخلوقات على كمال قدرته سبحانه.
فالقوم كانوا أصحاب البوادي لا يرون شيئا إلا السماء والأرض والجبال والجمال ...
فأمرهم بالنظر في هذه الأشياء.
__________
(1) منذ عهد مبكر ظهرت طائفة البكّائين في صفوف الزهاد، وإن كان بعض الصوفية لا يتحمس البكاء إمّا لأن الدموع علامة شكوى، وهم لا يحبون أن يشكوا، وإمّا لأنها تنم عن ضعف الحال، وهم يتمنون أن يكونوا راسخين كالجبال.
(2) يتبع هذا فكرة القشيري الأساسية عن وصف الآخرة: الأسماء أسماء، والأعيان بخلاف ذلك.(3/722)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وفي الإبل خصائص تدل على كمال قدرته وإنعامه جل شأنه منها: ما في إمكانهم من الانتفاع بظهورها للحمل والركوب، ثم بنسلها، ثم بلحمها ولبنها ووبرها ... ثم من سهولة تسخيرها لهم، حتى ليستطيع الصبيّ أن يأخذ بزمامها، فتنجرّ وراءه. والإبل تصبر على مقاساة العطش في الأسفار الطويلة، وهي تقوى على أن تحمل فوق ظهورها الكثير من الحمولات..
ثم حرانها إذا حقدت، واسترواحها إلى صوت من يحدوها عند الإعياء والتعب، ثم ما يعلّل المرء بما يناط بها من برّها «1» .
[سورة الغاشية (88) : الآيات 26 الى 21]
«2» لست عليهم بمسلّط فذكّر- يا محمد- بما أمرناك به، فبذلك أمرناك «3» .
«إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» إلا من تولّى عن الإيمان وكفر فيعذبه الله بالخلود في النار.
«إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» إن إلينا رجوعهم، ثم نجازيهم على الخير والشرّ.
__________
(1) إشارة القشيري الخاصة بالإبل استوفت المراد، فمن المعلوم أن ضروب الحيوان المختلفة لا تخرج عن أربعة:
حدوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. وقد استطاع القشيري أن يقنع أن الإبل جمعت كل هذه المنافع.
(2) بمصيطر ومسيطر، أي بالصاد والسين (الصحاح) .
(3) لم يقع القشيري فيما وقع فيه بعض المفسرين حين قالوا: «إن في الآية نسخا بآيات القتال والجهاد» ...
فالعذاب الأكبر في الآخرة لا ينفى تعذيب الكفار بشتى ألوان التعذيب في الدنيا، ومنها القتل والأسر.(3/723)
وَالْفَجْرِ (1)
سورة الفجر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
بسم الله كلمة ما استولت على قلب فقير فأقلقته، وما تمكّنت من سرّ متيّم فشتّته، وما استولت على روح محبّ فرحمته «1» . كلمة قهّارة للقلوب.. ولكن لا لكلّ قلب، كلمة لا سبيل لها لكلّ عقل، كلمة تكتفى من العابدين بقراءتهم لها، ولكنها لا ترضى من المحبين إلا ببذل أرواحهم فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
الفجر انفجار الصّبح وهو اثنان: مستطيل وقصير «2» ففى التفسير: إنه فجر المحرّم لأنه ابتداء السنة كلها، وقيل: فجر ذى الحجة.
ويقال: هو الصخور ينفجر منها الماء.
ويقال: أقسم به لأنّه وقت عبادة الأولياء عند افتتاحهم النهار.
«وَلَيالٍ عَشْرٍ» قيل: هى عشر ذى الحجة، ويقال: عشر المحرم لأن آخرها عاشوراء.
ويقال: العشر الأخيرة من رمضان.
ويقال: هى العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام تمّ به ميعاده بقوله:
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» .
__________
(1) هكذا في النسختين، ولا نستبعد أنها في الأصل: (فأراحته) ذلك لأن رحمة الله عامة، للخاصة والكافة، أما محبته- التي هي رحمة خاصة بالخواص- فهى المقصودة هنا (الرسالة ص 158) وهذه المحبة إذا استولت على روح محب أزعجته وما (أراحته) لأنها تتطلب بذل الروح، واسترخاص المهجة.
(2) فى النسختين (مستطيل ومستطير) ولم نفهم المقصود، فوضعنا (قصير) محل مستطير كى يكون هناك بين فجر لعام كامل. وفجر ليوم واحد- والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/724)
ويقال: هو «فجر» قلوب العارفين إذا ارتقوا عن حدّ العلم، وأسفر صبح معارفهم، فاستغنوا عن ظلمة طلب البرهان «1» بما تجلّى في قلوبهم من البيان.
«وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ» جاء في التفاسير: الشفع يوم النّحر، والوتر يوم عرفة «2» .
ويقال: آدم كان وترا فشفع بزوجته حواء.
وفي خبر: إنها الصلوات منها وتر (كصلاة المغرب) ومنها شفع كصلاة الصّبح.
ويقال: الشفع الزوج من العدد، والوتر الفرد من العدد.
ويقال: الشفع تضادّ أوصاف الخلق: كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت. والوتر انفراد صفات الله سبحانه عمّا يضادّها علم بلا جهل، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت.
ويقال: الشفع الإرادة والنية، والوتر الهمّة لا تكتفى بالمخلوق ولا سبيل لها إلى الله- لتقدّسه عن الوصل والفصل. فبقيت الهمّة غريبة.
ويقال: الشفع الزاهد والعابد، لأن لكل منهما شكلا وقرينا، والوتر المريد فهو كما قيل:
فريد من الخلّان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
«وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» «يسرى» يمضى.
قوله جل ذكره: «هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟» «حِجْرٍ» . لبّ. وجواب القسم: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» .
__________
(1) أي عن النطاق العقلي.. والعقل- فى نظر الصوفية- مصاب بآفات التجويز والتحير والارتباط بالمحسات.
(2) يوم عرفة وتر، لأنه تاسع الأيام العشرة، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها.. وقد روى حديث بهذا المعنى عن جابر بن عبد الله.(3/725)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ... »
ذكر قصص هؤلاء المتقدمين.. إلى قوله: «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» أي: شدة العذاب.
[سورة الفجر (89) : الآيات 14 الى 17]
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
لا يفوته شىء.
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» : أي: شكره.
«فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» . أي: ضيّق، «فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» . أي: أذلّنى. كلا.. ليس الإذلال بالفقر إنما الإذلال بالخذلان للعصيان «1» .
قوله جل ذكره: «كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» أي: أنتم تستحقون الإهانة على هذه الخصال المذمومة فلا تكرمون اليتيم.
[سورة الفجر (89) : الآيات 19 الى 25]
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
لمّا. أي شديدا.
«وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» جمّا أي كثيرا.
__________
(1) كما نعرف من مذهب القشيري، أقصى درجات الغضب: الخذلان للعصيان وأقصى درجات الرضا:
التوفيق الطاعة.. وكلاهما من الله.(3/726)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
قوله جل ذكره: «كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا» أي: قامت القيامة.
«وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» «وَجاءَ رَبُّكَ» أي الملائكة بأمره «1» .
ويقال: يفعل فعلا فيسميه مجيئا.
«وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟!» يقال: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام»
وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان.. ولا ينفعه التذكّر، ولا يقبل منه العذر.
«يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» أي: أطعت ربّى ونظرت لنفسى.
«فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ» أي: لا يعذّب في الدنيا أحد مثلما يعذّبه الله في ذلك اليوم.. إذا قرئت الذال بالكسر.
أما إذا قرئت بالفتح «3» «لا يُعَذِّبُ» فالمعنى: لا يعذّب أحد مثلما يعذّب هذا الكافر «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
__________
(1) أي: جاءهم ربّك. أي: ظهرت آياته، وأزيل الشك، وصارت المعارف ضرورية، وظهرت القدرة الإلهية. والمقصود نفى التحول من مكان إلى مكان عن الله، فقد جلّت الصمدية عن الارتباط بالتحول الحركى والتقيد الزمانى والمكاني.
(2) « ... كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش» (ابن مسعود) وفي صحيح مسلم حديث يرويه ابن مسعود بهذا المعنى.
(3) بالفتح قراءة الكسائي «لا يُعَذِّبُ» «وَلا يُوثِقُ» . [.....]
(4) قيل: هو إبليس لأنه أشد المخلوقات عذابا، وقيل «هو أمية بن خلف لتناهيه في كفره وعناده.(3/727)
الروح المطمئنة إلى النفس.
ويقال: المطمئنة بالمعرفة: ويقال: المطمئنة بذكر الله.
ويقال: بالبشارة بالجنة. ويقال: النفس المطمئنة: الروح الساكنة «1» «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» راضية «2» عن الله، مرضية من قبل الله.
«فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» أي: فى عبادى الصالحين.
__________
(1) تأخرت هذه العبارة الأخيرة إلى نهاية السورة في النسختين فنقلناها إلى موضعها.
(2) وردت (من) ولكننا وجدنا أن المعنى حينئذ لن يتغير فيما بين اسم الفاعل واسم المفعول، فوضعنا (عن) بدلا من (من) مسترشدين بقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» . وإن كنا لا نستبعد أن (من) تؤدى معنى صوفيا: هو أنه حتى رضاهم عن الله (من) الله، فليس للعبد حول ولا طول حتى يرضى أو يسخط ... إلا إذا كان ثمة فضل إلهى (من) الله.(3/728)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
سورة البلد
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة تخبر عن جلال أزليّ، وجمال سرمديّ، جلال ليس له زوال، وجمال ليس له انتقال، جلال لا بأغيار «2» وأمثال، جمال لا بصورة ومثال، وجلال هو استحقاقه لجبروته وجمال هو استيجابه لملكوته، جلال من كاشفه به فأوصافه فناء في فناء، وجمال من لاطفه به فأحواله بقاء في بقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
أي: أقسم بهذا البلد، وهو مكة.
«وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» وإنما أحلّت له ساعة واحدة «3» .
«وَوالِدٍ وَما وَلَدَ» كلّ والد وكلّ مولود. وقيل: آدم وأولاده وجواب القسم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» .
ويقال: أقسم بهذا البلد لأنك حلّ به.. وبلد الحبيب حبيب.
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ»
__________
(1) مرة أخرى حدث اضطراب.. فتفسير البسملة هنا كما جاء في م موضوع في ص في أول السورة القادمة:
سورة الشمس.. والعكس في م.
(2) هكذا في م وهي في ص (باعتبار) والصحيح ما أثبتنا.
(3) عن ابن عباس قال: «أحلّت له ساعة من نهار ثم أطبقت وحرّمت إلى القيامة وذلك يوم فتح مكة.
وثبت أن النبي (ص) قال: «إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد بعدى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار» .(3/729)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
أي: فى مشقة فهو يقاسى شدائد الدنيا والآخرة.
ويقال: خلقه في بطن أمه (منتصبا رأسه) فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمّه تنكّس رأسه عند خروجه، ثم في القماط وشدّ الرّباط ... ثم إلى الصّراط هو في الهياط والمياط «1» .
قوله جل ذكره: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» أي: لقوّته وشجاعته عند نفسه يقول:
«يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» «لُبَداً» كثيرا، فى عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. «2»
«أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» أليس يعلم أنّ الله يراه، وأنه مطّلع عليه؟
قوله جل ذكره: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟» أي: ألم نخلقه سميعا بصيرا متكلّما.
«وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ألهمناه طريق الخير والشّر.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
أي: فهلّا اقتحم العقبة. «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ استفهام على التفخيم لشأنها.
ويقال: هى عقبة بين الجنة والنار يجاوزها من فعل ما قاله: وهو فكّ رقبة: أي: إعتاق مملوك، والفكّ الإزالة. وأطعم في يوم ذى مجاعة وقحط وشدّة يتيما ذا قرابة، أو «مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» : لا شىء له حتى كأنه قد التصق بالتراب من الجوع.
__________
(1) يقال: هم في هياط ومياط أي في شر وجلبة، وقيل: فى دنو وتباعد (الوسيط) .
(2) يقال: نزلت في رجل من بنى جمح كان يقال له: أبو الأشدين، وكان من أشد أعداء النبي (ص) .
(قاله الكلبي) .(3/730)
قوله جل ذكره: «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» أي: من الذين يرحم بعضهم بعضا.
«أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» أي: أصحاب اليمن والبركة.
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» هم المشائيم على أنفسهم، عليهم نار مطبقة يعنى أبواب النيران (عليهم مغلقة) .
والعقبة التي يجب على الإنسان اقتحامها: نفسه وهواه، وما لم يجز تلك العقبة لا يفلح و «فَكُّ رَقَبَةٍ» هو إعتاق نفسه من رقّ الأغراض والأشخاص.
ويكون فك الرقبة بأن يهدى من يفكّه- من رق هواه ونفسه- إلى سلامته من شحّ نفسه، ويرجعه إليه، ويخرجه من ذلّه.
ويكون فكّ الرقبة بالتّحرّز من التدبير، والخروج من ظلمات الاختيار إلى سعة الرضاء.
ويقال: يطعم من كان في متربة ويكون هو في مسغبة.
«ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... » أي تكون خاتمته على ذلك «1» .
__________
(1) أي يبقى على ذلك حتى الوفاة.(3/731)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
سورة الشمس
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم. «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم.
كاشف الأرواح بقوله: «بِسْمِ اللَّهِ» فهيّمها، وكاشف النفوس بقوله: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيمّها فالأرواح دهشى في كشف جلاله، والنفوس عطشى إلى لطف جماله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
ضحا الشمس صدر وقت طلوعها.
«وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» أي: تبعها وذل في النصف الأول من الشهر.
«وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها» إذا جلّى الشمس وكشفها.
«وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» أي: يغشى الشمس (فيذهب بضوئها) .
«وَالسَّماءِ وَما بَناها» أي وبنائها. ويقال: ومن بناها «2»
__________
(1) نذكر بما قلناه آنفا عن تعاكس وضع تفسيرى البسملة فيما بين «البلد» و «الشمس» فى النسختين م، وص.
(2) هذا القول الأخير اختاره الطبري، وقاله الحسن ومجاهد. وأهل الحجاز يقولون: سبحان (ما) سبّحت له.
أي سبحان من سبحت له.(3/732)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
«وَالْأَرْضِ وَما طَحاها» أي: وطحوها. ويقال: ومن طحاها (أي بسطها أو قسمها أو خلقها) .
«وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» ومن سوّى أجزاءها وأعضاءها.
«فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» أي: بأن خذلها ووفّقها.
ويقال: فجورها: حركتها في طلب الرزق، وتقواها: سكونها بحكم القدير.
وقيل: طريق الخير والشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 15]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
هذا جواب القسم. أي: «لقد أفلح من زكّاها» .
ويقال: من زكّاها الله عزّ وجلّ.
«وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» أي: دسّاها الله. وقيل: دسّها «1» فى جملة الصالحين وليس منهم.
وقيل: خاب من دسّ نفسه بمعصية الله. وقيل دسّاها: جعلها خسيسة حقيرة.
وأصل الكلمة دسسها «2» قوله جل ذكره: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» «بِطَغْواها» : لطغيانها، وقيل: إن صالحا قد مات، فكفر قومه، فأحياه الله، فدعاهم إلى الإيمان، فكذّبوه، وسألوه علامة وهي الناقة، فأتاهم صالح بما سألوا.
«إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» .
__________
(1) أي دسها صاحبها.
(2) من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياء كما يقال: قصّيت أظفارى والأصل قصصت، ومثله قولهم في تضّض: تقضّى.(3/733)
«أَشْقاها» عاقرها.
«فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» أي: احذروا ناقة الله، واحذروا سقياها: أي: لا تتعرّضوا لها.
«فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها ... »
أي كذّبوا صالحا، فعقروا الناقة.
« ... فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها» .
أي: أهلكهم بجرمهم، «فَسَوَّاها» : أي أطبق عليهم العذاب «1» .
ويقال: سوّى بينهم ربّهم في العذاب لأنهم كلهم رضوا بعقر الناقة.
قوله جل ذكره: «وَلا يَخافُ عُقْباها» أي: أن الله لا يخاف عاقبة ما فعل بهم من العقوبة.
ويقال: قد أفلح «2» من داوم على العبادة، وخاب من قصّر فيها.
وفائدة السورة: أنه أفلح من طهّر نفسه عن الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأعواض والأغراض، ثم أبعد نفسه عن الاعتراض على الأقسام، وعن ارتكاب الحرام.
وقد خاب من خان نفسه، وأهملها عن المراعاة، ودنّسها بالمخالفات فلم يرض بعدم المعاني حتى ضمّ إلى فقرها منها الدعاوى المظلمة ... فغرقت في بحر الشقاء سفينته.
__________
(1) بأن سوى عليهم الأرض. [.....]
(2) هكذا في ص وهي في م (أصلح) وقد رجّحنا ما أثبتنا، فهكذا الآية، ثم ما تلا هذه العبارة.(3/734)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
سورة اللّيل
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة تخبر عن إلهية الله وهي استحقاقه لنعوت المجد والتوحّد، وصفات العزّ والتفرّد فمن تجرّد في طلبه عن الكسل، ولم يستوطن مركب العجز والفشل، ووضع النظر موضعه وصل بدليل العقل إلى عرفانه، ومن بذل روحه ونفسه وودّع في الطلب راحته وأنسه، ولم يعرّج في أوطان الوقفة ظفر بحكم الوصل إلى شهود سلطانه، والناس فيه بين موفّق ومخذول، أو مؤيّد ومردود.
قوله جل ذكره:
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
يغشى الأفق، وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته.
والليل لأصحاب التحيّر يستغرق جميع أقطار أفكارهم فلا يهتدون الرشد.
«وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» أنار وظهر، ووضح وأسفر.
ونهار أهل العرفان بضياء قلوبهم وأسرارهم، حتى لا يخفى عليهم شىء، فسكنوا بطلوع الشمس «1» عن تكلّف إيقاد السراج «2» «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» أي: «من» خلق الذكر والأنثى وهو الله سبحانه:
«إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هذا جواب القسم، والمعنى: إنّ عملكم لمختلف فمنكم: من سعيه في طلب دنياه، ومنكم من سعيه في شهوات نفسه واتباع هواه، ومنكم من في طلب جاهه ومناه، وآخر في طلب عقباه،
__________
(1) يقصد شمس التوحيد.
(2) إذا طلعت شمس التوحيد لم تغن محاولات العقل، لأن نورها يطغى على كل الأنوار.(3/735)
وآخر في تصحيح تقواه، وآخر في تصفية ذكراه، وآخر في القيام بحسن رضاه، وآخر في طلب مولاه.
ومنكم: من يجمع بين سعى النّفس بالطاعة، وسعى القلب بالإخلاص، وسعى البدن بالقرب، وسعى اللسان بذكر الله، والقول الحسن للناس، ودعاء الخلق إلى الله والنصيحة لهم.
ومنهم من سعيه في هلاك نفسه وما فيه هلاك دنياه ... ومنهم.. ومنهم.
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى» من ماله، «وَاتَّقى» مخالفة ربّه ...
ويقال: «أَعْطى» الإنصاف من نفسه، «وَاتَّقى» طلب الإنصاف لنفسه «1» ...
ويقال: «اتَّقى» مساخط الله. «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى» : بالجنة، أو بالكرّة الآخرة، وبالمغفرة لأهل الكبائر، وبالشفاعة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالخلف «2» من قبل الله ... فسنيسّره لليسرى: أي نسهّل عليه الطاعات، ونكرّه إليه المخالفات، ونشهّى إليه القرب، ونحبّب إليه الإيمان، ونزيّن في قلبه الإحسان.
ويقال: الإقامة على طاعته والعود إلى ما عمله من عبادته.
«وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» أما من منع الواجب، واستغنى في اعتقاده، وكذّب بالحسنى: أي بما ذكرنا، فسنيسره للعسرى فيقع في المعصية ولم يدبّرها، ونوقف «3» له أسباب المخالفة.
ويقال «أَعْطى» أعرض عن الدارين، «وَاتَّقى» أن يجعل لهما في نفسه مقدارا. «4»
__________
(1) من الفتوة أن تتحلّى بالإنصاف وأن تتخلّى عن الانتصاف.. هكذا قال الشيوخ.
(2) (الخلف) بالمعنى العام: إن الله يرث الأرض ومن عليها، وبالمعنى الصوفي: «فالذين يهبهم- فى حال لفناء والحق- فهو عنهم خلف (انظر بسملة الأحقاف من هذا المجلد) .
(3) هكذا في ص وهي في م (ونوفّق) وهي مقبولة أيضا (فالتوفيق) العسرى هو التيسير لها كما في الآية..
بل لعلّها أقرب إلى السياق مما في ص.
(4) حتى يبتعد عن الأعواض والأغراض، وينقى قلبه لله وحده.(3/736)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الليل (92) : الآيات 11 الى 21]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20)
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
يعنى: إذا مات.. فما الذي يغنى عنه ماله بعد موته؟
قوله جل ذكره: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» لأوليائنا، الذين أرشدناهم. ويقال: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» بنصيب الدلائل.
«وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» ملكا، نعطيه من نشاء.
«فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى» أي: تتلظّى.
«لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى» أي: لا يعذّب بها إلّا الأشقى، وهو:
«الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» يعنى: كفر.
«وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى» يعطى الزكاة المفروضة.
ويقال يتطهّر من الذنوب.
ونزلت الآية فى (أبى بكر) «1» رضى الله عنه. والآية عامة.
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في م، ويوجد فقط «رضى الله عنه» وفي م: يوجد فقط (والآية عامة) فأكملنا السياق.
ويروى: أن النبي (ص) مر ببلال وهو يعذب في الله ويقول:
أحد أحد، فلما نقل ذلك إلى أبى بكر، عرف أبوبكر ما يريده النبي، فذهب إلى أمية بن خلف، واشترى بلالا وأعتقه، فلما قال المشركون: ما أعتقه أبوبكر إلا ليد كانت له عنده، نزل قوله تعالى: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» .(3/737)
«وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى» حتى تكون هذه مكافأة له. ولا يفعل هذا ليتّخذ عند أحد يدا، ولا يطلب منه مكافأة:
«إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» أي: ليتقرّب بها إلى الله.
«وَلَسَوْفَ يَرْضى» يرضى الله عنه، ويرضى هو بما يعطيه.(3/738)
وَالضُّحَى (1)
سورة الضّحى
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم لا يشبهه كفو «1» فى ذاته وصفاته، ولا يستفزّه «2» لهو في إثبات مصنوعاته، ولا يعتريه سهو في علمه وحكمته، ولا يعترضه لغو في قوله وكلمته.
فهو حكيم لا يلهو، وعليم لا يسهو، وحليم يثبت ويمحو فالصدق قوله، والحقّ حكمه، والخلق خلقه والملك ملكه.
قوله جل ذكره:
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)
«وَالضُّحى» : ساعة من النهار. أو النهار كلّه يسمّى ضحى. ويقال: أقسم بصلاة الضّحى.
ويقال: الضحى الساعة التي كلّم فيها موسى عليه السلام.
«وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» أي: ليلة المعراج، و «سَجى» : أي سكن، ويقال: هو عامّ فى جنس الليل.
ويقال: «الضُّحى» وقت الشهود. «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» الذي قال: إنه ليغانّ على قلبى «3» ... »
__________
(1) أصلها «كفؤ» أي مماثل، أو قوى قادر على تصريف العمل.
ويقرأ بضم الفاء وسكونها، فإن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان إلا قوله تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» (آية 15 سورة الزخرف) .
(2) استفزه الشيء- استخفه، واستفزه فلان- أثاره وأزعجه.
(3) عن أغر مزينة قال: قال رسول الله (ص) : إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية لمسلم: «توبوا إلى ربكم، فو الله إنى لأتوب إلى ربى تبارك وتعالى في اليوم مائة مرة» .(3/739)
ويقال: «اللَّيْلِ إِذا سَجى» حين ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا- على التأويل الذي يصحّ في وصفه «1» .
«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» ما قطع عنك الوحى وما أبغضك «2» .
وكان ذلك حين تأخّر جبريل- عليه السلام- عنه أياما «3» ، فقال أهل مكة: إن محمدا قد قلاه ربّه. ثم أنزل الله هذه السورة.
وقيل: احتبس عنه جبريل أربعين يوما، وقيل: اثنى عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين يوما.
ويقال: سبب احتباسه أن يهوديا سأله عن قصة ذى القرنين وأصحاب الكهف، فوعد الجواب ولم يقل: إن شاء الله» .
«وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» أي: ما يعطيك في الآخرة خير لك مما يعطيك في الدنيا.
ويقال: ما أعطاك من الشفاعة والحوض، وما يلبسك من لباس التوحيد- غدا- خير مما أعطاك اليوم.
«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» قيل: أفترضى بالعطاء عن المعطى؟ قال: لا.
قوله جل ذكره: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟»
__________
(1) تقدّم التعليق على هذا الخبر في هامش سبق.
(2) هكذا في ص وهي في م (يغضبك) .
(3) فى البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله (ص) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة (هى العوراء بنت حرب أخت أبى سفيان، وهي حمالة الحطب، زوج أبى لهب) فقالت: يا محمد، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل «والضحى» . [.....]
(4) يقال: إن جروا دخل تحت السرير في حجرته ومات، فلما تغيب الوحى سأل خادمه خولة: يا خولة ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتينى؟ فلما قامت إلى البيت فكنسته وأخبرته بما وجدت ... فلما عاده الوحى سأله عن سرّ تأخره فقال جبريل: أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة؟(3/740)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
قيل: إلى عمّه أبى طالب.
ويقال: بل آواه إلى كنف ظلّه، وربّاه بلطف رعايته.
ويقال: فآواك إلى بساط القربة بحيث انفردت بمقامك، فلم يشاركك فيه أحد
[سورة الضحى (93) : الآيات 7 الى 11]
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أي: ضللت في شعاب مكة، فهدى إليك عمّك أبا طالب في حال صباك.
ويقال: «ضَالًّا» فينا متحيّزا ... فهديناك بنا إلينا.
ويقال: «ضَالًّا» عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها بأن عرّفناك تفصيلها.
ويقال: فيما بين الأقوام ضلال فهداهم بك.
وقيل: «ضَالًّا» للاستنشاء «1» فهداك لذلك.
ويقال «ضَالًّا» فى محبتنا، فهديناك بنور القربة إلينا.
ويقال: «ضَالًّا» عن محبتى لك فعرّفتك أنّى أحبّك.
ويقال: جاهلا بمحلّ شرفك، فعرّفتك قدرك.
ويقال: مستترا في أهل مكة لا يعرفك أحد فهديناهم إليك حتى عرفوك «2» «وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» فى التفسير: فأغناك بمال خديجة.
ويقال: أغناك عن الإرادة والطلب بأن أرضاك بالفقد «3» ويقال: أغناك بالنبوّة والكتاب. ويقال: أغناك بالله.
__________
(1) الكلمة غير واضحة الرسم في النسختين، وقد رجحنا هذه الكلمة لأنها أقرب إلى ما في م، ولأن من القصص السابقة ما يشير إلى أنه لم يقدم المشيئة فعوتب في ذلك «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ»
(2) ربما تتفق هذه الإشارة مع ما جرت عليه العرب في وصف الشجرة المنفردة في الفلاة لا شجر معها بأنها ضالة يهتدى بها إلى الطريق لأنها علامة مميزة، فهى معروفة لذاتها، ولأنها علامة على الطريق هادية إليه.
(3) هكذا في م، وهي في ص (بالعقل) ، ولكننا نرجح ما جاء في م، ولا نستبعد أنها في الأصل (الفقر) .. فالرضا في حال الفقر أو (الفقد) أتم في النعمة من الرضا في حال الغنى ... وهل أعظم من الغنى بالله؟!(3/741)
ويقال: أغناك عن السؤال حينما أعطاك ابتداء بلا سؤال منك.
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ» فلا تخفه، وارفق به، وقرّبه.
«وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» أي: إمّا أن تعطيه.. أو تردّه برفق، أو وعد.
ويقال: السائل عنّا، والسائل المتحيّر فينا- لا تنهرهم، فإنّا نهديهم، ونكشف مواضع سؤالهم عليهم.. فلاطفهم أنت في القول.
«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» فاشكر، وصرّح بإحسانه إليك، وإنعامه عليك.(3/742)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
سورة ألم نشرح
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز عزّ من التجأ إليه، وجلّ من توكّل عليه، وفاز في الدنيا والعقبى من توسّل به إليه فمن تقرّب منه قرّبه ومن شكا إليه حقّق له مطلبه، ومن رفع قصّته إليه قضى مأربه.
قوله جل ذكره:
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
ألم نوسّع قلبك للإسلام؟ ألم نليّنه للإيمان؟
ويقال: ألم نوسع صدرك بنور الرسالة؟ ألم نوسّع صدرك لقبول ما نورد عليك.
«وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» أي: إثمك قبل النبوّة.
ويقال: عصمناك عن ارتكاب الوزر فوضعه عنه بأنّه لم يستوجبه قطّ.
ويقال: خفضنا عنك أعباء النبوّة وجعلناك محمولا لا متحمّلا «1» .
ويقال: قويناك على التحمّل من الخلق، وقوّيناك لمشاهدتنا، وحفظنا عليك ما استحفظت «2» ، وحرسناك عن ملاحظة الخلق فيما شرّفناك به.
__________
(1) وهذه أقصى درجات الحب، وقد مر بنا كيف قارن القشيري بين مواقف موسى، ومواقف المصطفى صلوات الله عليهما، وكيف أوضح لنا أن موسى كان متحملا بينما كان نبيا محمولا.
(2) إشارة إلى القرآن، الذي حفظ من التغيير والتحريف.. إلى الأبد.(3/743)
«الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» : أي: أثقله، ولولا حملنا عنك لكسر.
«وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» بذكرنا فكما لا تصحّ كلمة الشهادة إلا بي، فإنها لا تصحّ إلا بك. «1»
ويقال: رفعنا لك ذكرك بقول الناس: محمد رسول الله! ويقال: أثبتنا لك شرف الرسالة.
«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» وفي الخبر: «لن يغلب عسر يسرين» «2» ومعناه: أن العسر بالألف واللام في الموضعين للعهد- فهو واحد، واليسر منكّر في الموضعين فهما شيئان. والعسر الواحد: ما كان في الدنيا، واليسران: أحدهما في الدنيا من الخصب، وزوال البلاء، والثاني في الآخرة من الجزاء وإذا فعسر جميع المؤمنين واحد- وهو ما نابهم من شدائد الدنيا، ويسرهم اثنان: اليوم بالكشف والصّرف «3» ، وغدا بالجزاء.
قوله جل ذكره: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» فإذا فرغت من الصلاة المفروضة عليك فانصب في الدعاء.
ويقال: فإذا فرغت من العبادة فانصب في الشفاعة.
ويقال: فإذا فرغت من عبادة نفسك فانصب بقلبك.
«وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» فى جميع الأحوال.
ويقال: فإذا فرغت من تبليغ الرسالة فارغب في الشفاعة.
__________
(1) فلا تصح الشهادة شرعا إلا إذا قلنا: ... وأن محمدا رسول الله.
(2) البخاري ص 145 ح 3.
(3) (الكشف) هنا ليس كما قد نفهم من قبيل المصطلح الصوفي، بل هو كشف الغمة وصرف المحنة، فهى لفظة عامة في هذا السياق.(3/744)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
سورة التّين
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» اسم «اللَّهِ» يدلّ على جلال من لم يزل، ويخبر عن جمال من لم يزل، ينبه على إقبال من لم يزل، يشير إلى إفضال من لم يزل فالعارف شهد «1» جلاله فطاش، والصفىّ شهد جماله فعاش، والوليّ شهد إقباله فارتاش، والمريد يشهد إفضاله فلا يطلب مع كفايته المعاش.
قوله جل ذكره:
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
أقسم بالتين لما به من عظيم المنّة على الخلق حيث لم يجعل فيه النّوى، وخلّصه من شائب التنغيص، وجعله على مقدار اللّقمة لتكمل به اللذّة. وجعل فى «الزَّيْتُونِ» من المنافع مثل الاستصباح والتأدّم والاصطباغ به.
«وَطُورِ سِينِينَ» الجبل الذي كلّم الله موسى عليه. ولموضع قدم الأحباب حرمة.
«وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» يعنى: مكة، ولهذا البلد شرف كبير، فهى بلد الحبيب، وفيها البيت ولبيت الحبيب وبلد الحبيب قدر ومنزلة. «2»
__________
(1) من هنا يبدأ في النسخة بياض في النسخة ص يتلوه. سقوط حتى بداية سورة العاديات. ولهذا نعتمد فيما بين الموضعين على النسخة م وحدها.
(2) بما ذهب المفسرون في تفسير: التين والزيتون وطور سنين، والبلد الأمين قول بعضهم: إن التين إشارة إلى جبل دمشق وهو مأوى عيسى عليه السلام، وبالزيتون جبل بيت المقدس فهو مقام الأنبياء جميعهم، وطور سينين إشارة إلى موسى كليم الله، والبلد الأمين إشارة إلى أن مكة بها بيت إبراهيم وبها دار محمد صلى الله عليه وسلم..
فكأن مطالع السورة تشير إلى النبوات البارزة.(3/745)
قوله جل ذكره: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» فى اعتدال قامته، وحسن تركيب أعضائه. وهذا يدل على أنّ الحقّ- سبحانه- ليس له صورة ولا هيئة لأنّ كلّ صفة اشترك فيها الخلق والحقّ فالمبالغة للحقّ ... كالعلم، فالأعلم الله، والقدرة: فالأقدر الله فلو اشترك الخلق والخالق في التركيب والصورة لكان الأحسن في الصورة الله ... فلمّا قال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» علم أنّ الحقّ- سبحانه- منزّه عن التقويم وعن الصورة. «1»
قوله جل ذكره: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» أي: إلى أرذل العمر وهو حال الخرف «2» والهرم.
ويقال: «أَسْفَلَ سافِلِينَ» : إلى النار والهاوية في أقبح صورة فيكون أوّل الآية عامّا وآخرها خاصّا بالكفّار ... كما أنّ التأويل الأول- الذي هو حال الهرم- خاصّ في البعض إذ ليس كلّ الناس يبلغون حال الهرم.
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي: غير منقوص.
ويقال: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» أي: إلى حال الشقاوة والكفر إلّا المؤمنين.
قوله جل ذكره: «فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ» أيها الإنسان.. مع كل هذا البرهان والبيان؟
«أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» ؟
__________
(1) فى هذا ردّ جميل مقنع على المشبهة، وعلى كل ذى تصور وهمي للألوهية.
(2) الخرف- فساد العقل بسبب كبر السنّ.(3/746)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
سورة العلق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يوجب أحد أمرين: «إمّا صحوا وإمّا محوا صحوا لمن سمعها بشاهد العلم فيستبصر بواضح برهانه، أو محوا لمن سمعها بشاهد المعرفة لأنه يتحيّر في جلال سلطانه.
قوله جل ذكره:
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
هذه السورة من أوّل ما نزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لما تعرّض له جبريل فى الهواء، ونزل عليه فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» . فالناس كلّهم مريدون وهو صلى الله عليه وسلم كان مرادا. فاستقبل الأمر بقوله: «ما أنا بقارئ، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فقال له: اقرأ كما أقول لك اقرأ باسم ربك الذي خلق. أي خلقهم على ما هم به.
«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» العلق جمع علقة كشجر وشجرة ... (والعلقة الدم الجامد فاذا جرى فهو المسفوح) .
«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» «الْأَكْرَمُ» : أي الكريم.
ويقال: الأكرم من كلّ كريم.
«الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» علّمهم ما لم يعلموا: الضروريّ، والكسبيّ.(3/747)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 16]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)
«1»
أي: يتجاوز جدّه إذا رأى في نفسه أنه استغنى لأنه يعمى عن مواضع افتقاره.
ولم يقل: إن استغنى بل قال: «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» فإذا لم يكن معجبا بنفسه، وكان مشاهدا لمحلّ افتقاره- لم يكن طاغيا «2» .
قوله جل ذكره: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
أي: الرجوع يوم القيامة.
قوله جل ذكره: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» أليس لو لم يفعل هذا كان خيرا له؟ ففى الآية هذا الإضمار.
«أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى» لكان خيرا له؟
«أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» كذّب بالدّين، وتولّى عن الهداية.
قوله جل ذكره: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ؟
أي: ما الذي يستحقّه من هذه صفته؟
والتخويف برؤية الله تنبيه على المراقبة- ومن لم يبلغ حال المراقبة لم يرتق منه إلى حال المشاهدة.
قوله جل ذكره: «كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ»
__________
(1) قيل نزلت في أبى جهل حين نهى النبي «ص» عن الصلاة، فأمر الله نبيه أن يصلى في المسجد ويقرأ باسم الرب ...
والذين يرون ذلك يرون أن السورة ليست من أوائل ما نزل من القرآن. أو يجوزون أن تكون أوائل السورة كذلك وأن بقيّتها في شأن أبى جهل- أي متأخرة.
روى البخاري عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي ذلك فقال: لو فعل لأخذته الملائكة. (البخاري ح 3 ص 146) . [.....]
(2) من أشد آفات الطريق خطرا ملاحظة النفس، وناهيك بدعاواها.(3/748)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
لنأخذنّ بناصيته (وهي شعر مقدّم الرأس) أخذ إذلال. ومعناه لنسوّدنّ وجهه.
وقوله: «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» بدل من قوله: «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» «1»
[سورة العلق (96) : الآيات 17 الى 19]
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
فليدع أهل ناديه وأهل مجلسه، وسندعو الزبانية ونأمرهم بإهلاكه.
قوله جل ذكره: أي: اقترب من شهود الربوبية بقلبك، وقف على بساط العبودية بنفسك.
ويقال: فاسجد بنفسك، واقترب بسرّك «2» .
__________
(1) نسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية يقصد بها صاحب الناصية كقولهم: نهاره صائم وليله قائم، أي هو صائم في نهاره وقائم في ليله.
(2) السجود عبادة الظواهر، ولهذا ربطها القشيري بالنفس، فكل ما يتصل بالظاهر يرتبط- عنده- بالنفس، وأمّا الاقتراب «فهو عبادة الباطن المرتبطة بالسرّ.(3/749)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
سورة القدر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة تحضر قلوب العلماء لتأمّل الشواهد، وتسكر قلوب العارفين إذا وردوا المشاهد ... فهؤلاء أحضرهم فبصّرهم، وعلى استدلالهم نصرهم.
وهؤلاء بشراب محابّه أسكرهم، وفي شهود جلاله حيّرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
فى ليلة قدّر فيها الرحمة لأوليائه، فى ليلة يجد فيها العابدون قدر نفوسهم، ويشهد فيها
العارفون قدر معبودهم.. وشتان بين وجود قدر ... وشهود قدر! فلهؤلاء وجود قدر
ولكن قدر أنفسهم، ولهؤلاء شهود قدر ولكن قدر معبودهم.
«وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؟
استفهام على جهة التفخيم لشأن تلك الليلة.
«لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» أي: هى خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر. هى ليلة قصيرة على الأحباب لأنهم فيها فى مسامرة وخطاب.. كما قيل:
يا ليلة من ليالى الدهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
ولم تكن عن شفق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر(3/750)
قوله جل ذكره: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «الرُّوحُ فِيها» : قيل جبريل. وقيل: ملك عظيم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» : أي بأمر ربهم.
«مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ» : أي مع كل مأمور منهم سلامى على أوليائى «1» .
«هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» : أي هي باقية إلى أن يطلع الفجر.
__________
(1) قد يتأيه رأى القشيري في اختيار هذا النسق الذي يتم به الكلام بما يرويه أنس- قال: قال رسول الله (ص) :
إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة (جماعة) من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى.(3/751)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
سورة لم يكن
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز تنصّل إليه المذنبون فغفر لهم وجبرهم «1» وتوسّل إليه المطيعون فوصلهم ونصرهم.
تعرّف إليه العالمون فبصّرهم، وتقرّب منه العارفون فقرّبهم ... لكنه- سبحانه- فى جلاله حيّرهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
«مُنْفَكِّينَ» : منّتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البيّنة: وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لم يزالوا مجتمعين على تصديقه لما وجدوه في كسب إلى أن بعثه الله تعالى.
فلمّا بعثه حسدوه وكفروا.
«رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» .
__________
(1) فى النسخة م توجد بعد هذا الموضع العبارة التالية «وتوكّل إليه العارفون فجبرهم» . ونستبعد وجودها فى الأصل لأن ترتيب العارفين لا يأتى بين المذنبين والمطيعين، وإنما يأتى بعد «العالمين» ، كما هو ثابت فى النسخة على هذا النحو الذي أثبتناه هنا. كما أنّ «جبرهم» فعل يتصل بالزلّات والذنوب ... فيبدو أن العبارة متصلة بالمذنبين، ويتأيد ما اخترناه بالسياق الذي نألفه في أسلوب البسملة عند الشيخ، فضلا عن خدمته للموسيقى والمعنى ... وهما العنصران الأساسيان في نسيج البسملة عنده.
(2) التحيّر في الجلال صفة مدح، ولذا يقول يحيى بن معاذ: يا دليل المتحيرين زدنى تحيرا.. لأنه غرق فى بحر الوجود عند الشهود.(3/752)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
أي حتى يأتيهم رسول من الله يقرأ كتبا مطهّرة عن تبديل الكفار.
«فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» «1» : مستوية ليس فيها اعوجاج.
قوله جل ذكره: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» يعنى: القرآن.
قوله جل ذكره: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» أي موحّدين لا يشركون بالله شيئا فالإخلاص ألّا يكون شىء من حركاتك وسكناتك إلّا لله.
ويقال: الإخلاص تصفية العمل من الخلل.
«حُنَفاءَ» : مائلين إلى الحقّ، عادلين عن الباطل «2» .
«وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ.. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» : أي دين الملّة القيمة، والأمة القيّمة، والشريعة القيّمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
«خالِدِينَ فِيها» : مقيمين. «الْبَرِيَّةِ» : الخليقة.
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» .
__________
(1) يرى القرطبي: أن «كتبا» هنا بمعنى الأحكام لأن كتب بمعنى حكم، قال تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ» سورة المجادلة.
(2) كلمة «حنيف» من الأضداد، فهى تحمل معنى (الميل) عن الباطل و (الاستقامة) فى طريق الحق.(3/753)
أي: خير الخلق، وهذا يدل على أنهم أفضل من الملائكة.
قوله جل ذكره: «جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» «جَزاؤُهُمْ» : أي ثوابهم في الآخرة على طاعاتهم.
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي: من تحت أشجارها الأنهار.
«رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .
فلم تبق لهم مطالبة إلّا حقّقها لهم.
«ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» .
أي: خافه في الدنيا.
والرضا سرور القلب بمرّ القضا.
ويقال: هو سكون القلب تحت جريان الحكم.(3/754)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
سورة الزّلزلة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من تأمّلها بمعانيها ووقف على ما أودع فيها رتعت أسراره في رياض من الأنس مونقة، وأينعت أفكاره بلوائح من اليقين مشرقة، فهى على جلال الحقّ شاهدة، وهي على ما يحيط به الذّكر ويأتى عليه الحصر زائدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
أي: أمواتها، وما فيها من الكنوز والدفائن.
«وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها» ؟
يعنى الكافر الذي لا يؤمن بها أي بالبعث «1» .
«يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» يومئذ تخبّر الأرض:
«بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» أي: إنما تفعل ذلك بأمر الله.
__________
(1) روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: «هو الأسود بن عبد الأسد» ويرى بعض المفسرين: أن الإنسان هنا هو كل إنسان من مؤمن وكافر لأن الجميع لا يعلمون أشراط الساعة في ابتداء أمرها إلى أن يتحققوا عمومها، ولذا يسأل بعضهم بعضا.
أمّا القشيري فقد نظر إليها من ناحية الاعتراف وجعل من يسأل عنها كافرا بها جاحدا لها. أمّا المؤمن فلا حاجة له في السؤال.(3/755)
«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا «1» أَعْمالَهُمْ» «أَشْتاتاً» : متفرّقين. «لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» ليحاسبوا.
قوله جل ذكره: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فيقاسى عناءه.
__________
(1) هذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج وابن عاصم وطلحة بفتحها: «لِيُرَوْا» .(3/756)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
سورة العاديات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة غيور لا يصلح لذكرها إلّا لسان مصون «1» ، عن اللّغو والغيبة، ولا يصلح لمعرفتها إلّا قلب محروس عن الغفلة والغيبة «2» ، ولا يصلح لمحبتها إلّا روح محفوظة عن العلاقة والحجبة.
قوله جل ذكره:
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
«الْعادِياتِ» : الخيل التي تعدو «3» .
«ضَبْحاً» أي إذا ضبحن ضبحا، والضبح: هو صوت أجوافها إذا عدون. ويقال:
ضبحها هو شدة نفسها عند العدو.
وقيل: «الْعادِياتِ» الإبل «4» .
وقيل: أقسم الله بأفراس الغزاة «5» .
«فَالْمُورِياتِ قَدْحاً» تورى بحوافرها النار إذا عدت وأصابت سنابكها الحجارة بالليل.
__________
(1) من هذا الموضع تبدأ النسخة ص بعد البياض والسقوط اللذين أشرنا إليهما من قبل.
(2) الغيبة المتصلة باللسان هي الكلام في حقّ الغائب، والغيبة المتصلة بالقلب هي ورود وارد من أي نوع يعطّل الاتجاه الكامل نحو المحبوب، كالتفكير في الثواب أو الخوف من العقاب، أو الطمع في الأعواض، أو استعجال شىء.. ونحو ذلك مما يشوب كأس المحبة من غيرية ...
(3) العدو: هو تباعد الأرجل في سرعة المشي.
(4) هكذا في ص وهي في م (الليل) وهي خطأ في النسخ والفعل المستعمل مع الإبل هو (ضبع) فتكون (ضبحا) هنا بحاء مبدلة عن عين (القرطبي ح 20 ص 156) [.....]
(5) فى الخبر: «من لم يعرف حرمة فرس الغازى ففيه شعبة من النفاق» .(3/757)
ويقال: الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب.
ويقال: هى الأسنّة.
«فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً» تغير على العدوّ صباحا.
«فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» أي: هيّجن به غبارا.
«فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» أي: توسّطن المكان، أي: تتوسط الخيل بفوارسها جمع العدوّ.
«إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» هذا هو جواب القسم.
«لَكَنُودٌ» : أي لكفور بالنعمة «1» .
«وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» أي: وإنه على كنوده لشهيد «وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» أي: وإنه لبخيل لأجل حبّ المال «2» .
قوله جل ذكره: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» أي: بعث الموتى.
«وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» بيّن ما في القلوب من الخير والشرّ.
«إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .
__________
(1) روى عن ابن عباس: أن الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور، بلسان كنانة: البخيل السيّء الملكة.
(2) قال تعالى: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» آية 180 سورة البقرة.(3/758)
أفلا يعلم أن الله يجازيهم- ذلك اليوم- على ما أسلفوا، ثم قال على الاستئناف:
«إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .
ويقال في معنى الكنود «1» : هو الذي يرى ما إليه من البلوى، ولا يرى ما هو به من النّعمى.
ويقال: هو الذي رأسه على وسادة النعمة، وقلبه في ميدان الغفلة.
ويقال: الكنود: الذي ينسى النّعم ويعدّ المصائب.
وقوله: «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» ، يحتمل: وإنّ الله على حاله لشهيد.
__________
(1) لعل القشيري هنا مستفيد من قول ذى النون المصري: الكنود: هو الذي إذا مسته الشر جزوع، وإذا مسسّه الخير منوع. يجزع من البلوى، ويمنع الشكر على النعمى.(3/759)
الْقَارِعَةُ (1)
سورة القارعة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة إذا سمعها العاصون نسوا زلّتهم في جنب رحمته، وإذا سمعها العابدون نسوا صولتهم في جنب إلهيته.
كلمة من سمعها ما غادرت له شغلا إلّا كفته، ولا أمرا إلّا أصلحته، ولا ذنبا إلّا غفرته، ولا أربا إلّا قضته.
قوله جل ذكره:
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
القارعة: اسم من أسماء القيامة، وهي صيغة «فاعلة» من القرع، وهو الضرب بشدّة.
سمّيت قارعة لأنها تقرعهم.
«وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» ؟.
تهويلا لها.
«يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» أي: المتفرّق ... وعند إعادتهم يركب بعضهم بعضا.
«وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» أي: كالصوف المصبوغ.
والمعنى فيه: أن أصحاب الدعاوى «1» وأرباب القوة في الدنيا يكونون- فى القيامة إذا
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (الدواعي) وهي خطأ من الناسخ، وقد وردت صحيحة فيما بعد فالمقصود دعوى النفس.(3/760)
بعثوا- أضعف من كلّ ضعيف لأن القوى هنالك تسقط، والدعاوى تبطل.
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» من ثقلت موازينه بالخيرات فهو في عيشة راضية أي مرضية.
ووزن الأعمال يومئذ يكون بوزن الصحف. ويقال: يخلق بدل كلّ جزء من أفعاله جوهرا، وتوزن الجواهر ويكون ذلك وزن الأعمال.
«وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» من خفّت موازينه من الطاعات- وهم الكفار- فمأواه هاوية.
«وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ» سؤال على جهة التهويل «1» . ولم يرد الخبر بأن الأحوال توزن، ولكن يجازى كلّ بحالة مما هو كسب له، أو وصل إلى أسبابها بكسب منه. «2»
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (التحويل) وهي خطأ من الناسخ.
(2) بعد أن تحدث عن ميزان الأعمال تحدث عن ميزان الأحوال ... ومن المعلوم أن الأعمال جهود كسبية، والأحوال مواهب فيضية ... ولكن قد يكون فيها شىء من الكسب فمثلا: إذا رضى العبد بالقبض أنعم الحقّ عليه بالبسط، وإذا راعى حدود الوقت ظفر بمقضيات الوقت وإلا.. كان الوقت عليه مقتا والإنسان لا يحاسب إلا على ما كسب.(3/761)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
سورة التكاثر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز تقدّس في آزاله عن كل مكان، ولم يحتج في آباده إلى زمان أو إلى مكان لا يقطعه حدّ فأنّى يجوز في وصفه المكان؟ ولا يقطعه عدّ فأنّى تجوز في وصفه الزيادة والنقصان؟ «1» قوله جل ذكره:
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أي: شغلكم تفاخركم فيما بينكم إلى آخر أعماركم إلى أن متّم.
ويقال: كانوا يفتخرون بآبائهم وأسلافهم فكانوا يشيدون بذكر الأحياء، وبمن مضى من أسلافهم.
فقال لهم: شغلكم تفاخركم فيما بينكم حتى عددتم أمواتكم مع أحيائكم. وأنساكم تكاثركم بالأموال والأولاد طاعة الله.
«كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» على جهة التهويل.
«كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ» أي: لو علمتم حقّ اليقين لارتدعتم عمّا أنتم فيه من التكذيب.
__________
(1) واضح مدى ارتباط اتجاه القشيري في إشارة البسملة بالجوّ العام للسورة الذي ينبنى على اتخاذ الزيادة والنقصان مقياسا للتفاخر والادعاء.(3/762)
«لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» أراد جميع ما أعطاهم الله من النعمة، وطالبهم بالشكر عليها.
ومن النعيم الذي يسأل عنه العبد تخفيف الشرائع والرّخص في العبادات.
ويقال: الماء الحار في الشتاء، والماء البارد في الصيف.
ويقال: منه الصحّة في الجسد، والفراغ. «1»
ويقال: الرضاء بالقضاء. ويقال: القناعة في المعيشة.
ويقال: هو المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في البخاري وفي سنن ابن ماجه: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» .
ومعنى الغبن: أنهما نعمتان ولكن غالب الناس يصرفهما في غير محالهما.(3/763)
وَالْعَصْرِ (1)
سورة العصر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كلمة من سمعها لم يدّخر عنها «1» ماله لأنّه علم أنه- سبحانه- يحسن مآله، ومن عرفها لم يؤثر عليها نفسه لأنّه لم يجد بدونها أنسه.
كلمة من صحبها لم يمنع عنها روحه إذ وجد الحياة الأبدية له ممنوحة. «2»
قوله جل ذكره:
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
«الْعَصْرِ» : الدهر- أقسم به ويقال: أراد به صلاة العصر. ويقال: هو العشيّ.
«الْإِنْسانَ» : أراد به جنس الإنسان. و «الخسر» : الخسران.
والمعنى: إن الإنسان لفى عقوبة من ذنوبه. ثم استثنى المؤمنين فقال:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» الذين أخلصوا في العبادة وتواصوا بما هو حقّ، وتواصوا بما هو حسن وجميل، وتواصوا بالصبر.
وفي بعض التفاسير: قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» يعنى أبابكر، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : يعنى عمر
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (عنة) .
(2) هكذا في م وهي في ص (مفتوحة) وإن كانت هناك زيادة كالميم تتلو الميم الأولى.(3/764)
و «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ» يعنى عثمان، و «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» يعنى عليّا- رضى الله عنهم أجمعين. «1»
والخسران الذي يلحق الإنسان على قسمين: فى الأعمال ويتبيّن ذلك في المآل، وفي الأحوال ويتبيّن ذلك في الوقت والحال وهو القبض بعد البسط، والحجبة بعد القربة، والرجوع إلى الرّخص بعد إيثار الأشقّ والأولى.
«وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ» : وهو الإيثار مع الخلق، والصدق مع الحقّ.
«وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» : على العافية ... فلا صبر أتمّ منه.
ويقال: بالصبر مع الله ... وهو أشدّ أقسام الصبر «2»
__________
(1) تنسب هذه الرواية إلى أبيّ بن كعب الذي قال: قرأت على رسول الله (ص) «وَالْعَصْرِ» ثم قلت:
ما تفسيرها يا نبيّ الله؟ فقال: «وَالْعَصْرِ» قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» :
أبو جهل ... إلى آخر الرواية كما نقلها القشيري.
(2) انظر «الرسالة» باب الصبر ص 92.(3/765)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
سورة الهمزة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم من لا غرض له في أفعاله، اسم من لا عوض عنه في جلاله وجماله.
اسم من لا يصبر العبد عنه مختارا، اسم من لا يجد الفقير «1» من دونه قرارا، اسم من لا يجد أحد من حكمه فرارا.
قوله جل ذكره:
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
يقال: رجل همزة لمزة: أي كثير الهمز والّلمز للناس وهو العيب والغيبة.
ويقال: الهمزة الذي يقول في الوجه، والّلمزة الذي يقول من خلفه.
ويقال: الهمز الإشارة بالرأس والجفن وغيره، واللّمز باللسان.
ويقال: الهمزة الذي يقول ما في الإنسان، واللّمزة الذي يقول ما ليس فيه.
قوله جل ذكره: «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ» «جمّع» بالتشديد «2» على التكثير، وبالتخفيف.
«يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي: يبقيه في الدنيا.. كلّا ليس كذلك:
__________
(1) الفقير هنا المقصود به الصوفيّ المفتقر إلى الله، انظر آخر السورة. [.....]
(2) هكذا في م وهي في ص غير موجودة، مما قد يشعر باحتمال انصراف الكلام إلى «عَدَّدَهُ» فهى أيضا تقرأ على التشديد والتخفيف.(3/766)
«كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» ليطرحنّ في جهنّم. «وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ» ؟ على جهة التهويل لها.
فهم في نار الله الموقدة التي يبلغ ألمها الفؤاد.
«إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» مطبقة.
«فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» «عَمَدٍ» : جمع عماد. وقيل: إنها عمد من نار تمدّد وتضرب عليهم كقوله:
«أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» «1» ويقال: الغنى بغير الله فقر، والأنس بغيره وحشة، والعزّ بغيره ذلّ.
ويقال: الفقير من استغنى بماله، والحقير: من استغنى بجاهه، والمفلس: من استغنى بطاعته، والذليل: من استغنى بغير الله، والجليل: من استغنى بالله.
ويقال: بيّن أن المعرفة إذا اتّقدت في قلب المؤمن أحرقت كلّ سؤل وأرب فيه، ولذلك تقول جهنّم- غدا- للمؤمن: «جز، يا مؤمن ... فإنّ نورك قد أطفأ لهبى» !
__________
(1) آية 29 سورة الكهف.(3/767)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سورة الفيل
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم غنيّ من أطاعه أغناه، ومن خالفه أضلّه وأعماه.
اسم عزيز من وافقه رقّاه إلى الرتبة العليا، ومن خالفه ألقاه في المحنة الكبرى.
قوله جل ذكره:
[سورة الفيل (105) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
ألم ينته إليك فيما أنزل عليك علم ما فعل ربّك بأصحاب الفيل؟.
وفي قصة أصحاب الفيل دلالة على تخصيص الله البيت العتيق بالحفظ والكلاءة.
وذلك: أنّ أبرهة- ملك اليمن- كان نصرانيا، وبنى بيعة لهم بصنعاء، وأراد هدم الكعبة ليصرف الحجّ إلى بيعتهم.
وقيل: نزل جماعة من العرب ببلاد النجاشي، وأوقدوا نارا لحاجة لهم، ثم تغافلوا عنها ولم يطفئوها، فهبّت الريح وحملت النار إلى الكنيسة وأحرقتها، فقصد أبرهة الكعبة ليهدمها بجيشه.
فلمّا قرب من مكة أصاب مائتى جمل لعبد المطلب، فلمّا أخبر بذلك ركب إليهم، فعرفه رجلان، فقالا له:
ارجع.. فإن الملك غضبان.(3/768)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
فقال: واللات والعزّى لا أرجع إلّا بإبلى.
فقيل لأبرهة: هذا سيّد قريش ببابك فأذن له، وسأله عن حاجته فأجاب أبرهة: إنها لك غدا، إذا تقدّمت إلى البيت «1» .
فعاذ عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم بما حدث، ثم قام وأخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول:
لا همّ إنّ العبد ... يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
إن يدخلوا البلد الحرا ... م فأمر ما بدا لك «2»
فأرسل الله عليهم طيرا أخضر «3» من جهة البحر طوال الأعناق، فى منقار كل طائر حجر وفي مخلبه حجران.
قيل: الحجرة منها فوق العدس دون الحمص.
وقيل: فوق الحمص دون الفستق، مكتوب على كل واحدة اسم صاحبها.
وقيل: مخطّطة بالسّواد. فأمطرت عليهم، وماتوا كلّهم.
وقيل: كان الفيل ثمانية وقيل: كان فيلا واحدا.
وفي رواية: إنه كان قبل مولده صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة.
وقيل: بثلاثة وعشرين سنة. وفي رواية «ولدت عام الفيل» «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفيل (105) : الآيات 2 الى 5]
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أي: مكرهم في إبطال.
__________
(1) قيل: إن النجاشي قال له: لقد أعجبتنى حين رأيتك، ولكنى زهدت فيك حين كلمتنى.. أتكلمنى في بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟ فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل ...
أما البيت فله رب سيمسكه.
(2) الحلال جمع حل. والمحال: القوة. والعدو بالعين المهملة: الاعتداء.
(3) قال سعيد بن جبير: هى طير خضر لها مناقير صفر.
(4) وفي رواية: «ولدت يوم الفيل» . وقال قيس بن مخرمة: «ولدت أنا ورسول الله (ص) عام الفيل» .
م (49) لطائف الإشارات- ج 3-(3/769)
«وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» «أَبابِيلَ» : مجتمعة ومتفرّقة.
«تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» قيل بالفارسية: سنگك أو گل- أي طين طبخ بالنار كالآجر «1» .
«فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» «كَعَصْفٍ» : كأطراف الزرع قبل أن يدرك. «مَأْكُولٍ» أي ثمره مأكول.
ويقال: إذا كان عبد المطلب- وهو كافر- أخلص في التجائه إلى الله في استدفاع البلاء عن البيت- فالله لم يخيّب رجاءه ... ، وسمع دعاءه ... فالمؤمن المخلص إذا دعا ربّه لا يردّه خائبا.
ويقال: إنما أجيب لأنّه لم يسأل الله لنفسه، وإنما لأجل البيت.. وما كان لله لا يضيع.
__________
(1) أخرج الفريابي عن مجاهد قال: سجيل بالفارسية أولها حجارة وآخرها طين. (نقله السيوطي في إتقانه ح 1 ص 138 في باب ما وقع في القرآن بغير لغة العرب.(3/770)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
سورة قريش
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ» : الباء فى «بِسْمِ» تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان، وعن كلّ شىء ممّا لم يكن فكان، وتشير إلى الانقطاع إلى الله في السّرّاء والضرّاء، والشّدّة والرخاء.
والسين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب بشرط مراعاة الأدب.
والميم تشير إلى منّة الله عليهم بالتوفيق «1» لما تحقّقوا به من معرفته، وتخلّقوا به من طاعته «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
«الإيلاف» : مصدر آلف، إذا جعلته يألف ... وهو ألف إلفا «3» .
والمعنى: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي ليألفوا رحلتهم في الشتاء والصيف.
وكانت لهم رحلتان للامتيار «4» : رحلة إلى الشام في القيظ، ورحلة إلى اليمن في الشتاء.
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (بالتحقيق) .
(2) يستطيع القارئ أن يربط بين فحوى البسملة كما يتذوقها القشيري هنا وبين الجو العام للسورة.
(3) عند هذه النقطة تنتهى النسخة (ص) ونعتمد فيما بقي من الكتاب على النسخة م.
(4) الامتيار طلب السيرة وجمعها.(3/771)
والمعنى: أنعم الله عليهم بإهلاك عدوّهم ليؤلّفهم رحلتيهم.
وقيل: فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش، كأنه أعظم المنّة عليهم. وأمرهم بالعبادة:
«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» فليعبدوه لما أنعم به عليهم.
وقيل: فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع بعد ما أصابهم من القحط حينما دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» .
«وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .
حين جعل الحرم آمنا، وأجارهم من عدوّهم.
ويقال: أنعم عليهم بأن كفاهم الرحلتين بجلب الناس الميرة إليهم من الشام ومن اليمن.
ووجه المنّة في الإطعام والأمان هو أن يتفرّغوا إلى عبادة الله فإنّ من لم يكن مكفىّ الأمور لا يتفرّغ إلى الطاعة، ولا تساعده القوة ولا القلب- إلّا عند السلامة بكلّ وجه وقد قال تعالى.
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ «2» » فقدّم الخوف على جميع أنواع البلاء.
__________
(1) دعا عليهم الرسول (ص) لمّا كذّبوه وقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنّا مؤمنون، فدعا فأخصبت الأرض، وحملوا الطعام إلى سائر البلدان.
(2) آية 155 سورة البقرة.(3/772)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
سورة الدّين
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها غذاء أرواح المحبين، ضياء أسرار الواجدين، شفاء قلوب المتيّمين بلاء مهج المساكين، دواء كلّ فقير مسكين «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
نزلت الآية على جهة التوبيخ، والتعجّب من شأن تظلّم اليتيم من الكفار.
فقال: أرأيت الذي يكذّب بالدين، وبالحساب والجزاء؟
«فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ» يدفعه بجفوة، ويقال: يدفعه عن حقّه «3» .
«وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» أي: لا يحثّ على إطعام المسكين، وإنما يدعّ اليتيم لأنّ الله تعالى قد نزع الرحمة من قلبه، ولا تنزع الرحمة إلّا من قلب شقيّ.
وهو لا يحث على طعام المسكين، لأنه في شحّ نفسه وأمر بخله.
قوله جل ذكره: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ»
__________
(1) يقول السيوطي في إتقانه: تسمى سورة أرأيت، وسورة الدين، وسورة الماعون (الإتقان ح 1 ص 55) [.....]
(2) مرة أخرى نلفت النظر إلى ما بين إشارات البسملة والجو العام للسورة.
(3) قال ابن جريح: نزلت في أبى سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه.(3/773)
السّاهى عن الصبرة الذي لا يصلّى. ولم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون.. ولو قال ذلك لكان الأمر عظيما.
«الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ» : أي يصلون ويفعلون ذلك على رؤية الناس- لا إخلاص لهم «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» الماعون. مثل الماء، والنار، والكلأ، والفأس، والقدر وغير ذلك من آلة البيت، ويدخل في هذا: البخل، والشّحّ بما ينفع الخلق مما هو ممكن ومستطاع.(3/774)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم يجلّ العبد بإجلاله ولا يجل هو إلا باستحقاق علوّه في آزاله.
اسم عزيز أعزّ من شاء بأفضاله وإقباله وأذلّ أعداءه بسلاسله وأغلاله، والتخليد فى جحيمه وأنكاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
«الْكَوْثَرَ» : أي الخير الكثير. ويقال: هو نهر في الجنة.
ويقال: النبوّة والكتاب. وقيل: تخفيف الشريعة.
ويقال: كثرة أمّته.
ويقال: الأصحاب والأشياع. ويقال: نور في قلبه.
ويقال: معرفته بربوبيته.
«فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» أي صلّ صلاة العيد «وَانْحَرْ» النّسك «1» ويقال: جمع له في الأمر بين: العبادة البدنية، والمالية.
ويقال «وَانْحَرْ» أي استقبل القبلة بنحرك. أو ارفع يديك في صلاتك إلى نحرك «2»
__________
(1) فى البخاري وغيره: قال رسول الله (ص) «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّى، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النّسك في شىء لأن ترتيب الآية: صلاة ثم نحر. وقال أنس: كان النبي (ص) ينحر ثم يصلى حتى نزلت.
(2) عن على رضى الله عنه: لمّا نزلت الآية سأل النبيّ جبريل: ما هذه النحيرة التي أمرنى الله بها؟
قال: ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت.. فزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره.(3/775)
ويقال: ضع يمينك على يسارك في الصلاة واجعلها تحت نحرك.
«إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» أي: لا يذكر بخير، منقطع عنه كل خير. «1»
__________
(1) قيل: هو العاص، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو عقبة بن أبى معيط. والأبتر من الرجال:
من لا ولد له، أو مات أبناؤه وبقيت بناته.(3/776)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
سورة الكافرون
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من آمن بها أمن من زوال النّعمى، وحظى بنعيم الدنيا والعقبى، وسعد سعادة لا يشقى، ووجد ملكا لا يفنى، وبقي في العزّ والعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
من أصنامكم.
«وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» «ما» أعبد أي «من» أعبد.
«وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» فى زمانكم.
«وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» كرّر اللفظ على جهة التأكيد.
«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» أي: لكم جزاؤكم على دينكم، ولى الجزاء على دينى.
__________
(1) من أسمائها: سورة العبادة، والمقشقشة.(3/777)
والعبودية «1» القيام بأمره على الوجه الذي به أمر، وبالقدر الذي به أمر، وفي الوقت الذي فيه أمر.
ويقال: صدق العبودية في ترك الاختيار، ويظهر ذلك في السكون تحت تصاريف الأقدار من غير انكسار.
ويقال: العبودية انتفاء الكراهية بكلّ وجه من القلب كيفما صرّفك مولاك.
__________
(1) واضح أن إشارة القشيري تستند إلى «العبودية» بينما الآيات تتحدث عن «العبادة» ولكن الصلة وثيقة بين كليهما وبين «العبودة» : ارجع في ذلك إلى رسالة القشيري ص 99.(3/778)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
سورة النّصر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم كريم يبصر ويستر، ويعلم ويحلم «1» ، ويمدح ولا يفضح، ويعفو عن جميع ما يجترم العبد ويصفح يعصى العبد على التوالي، ويغفر الحقّ ولا يبالى.
قوله جل ذكره:
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
النصر الظّفر بالعدوّ، و «الْفَتْحُ» فتح مكة.
«وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» يسلمون جماعات جماعات.
«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» أكثر حمد ربّك، وصلّ له، وقدّسه.
ويقال: صلّ شكرا لهذه النعمة.
«وَاسْتَغْفِرْهُ» وسل مغفرته.
«إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» .
لمن تاب فإنه يقبل توبته.
ويقال: نصرة الله- سبحانه- له بأن أفناه عن نفسه، وأبعد عنه أحكام البشرية، وصفّاه من الكدورات النفسانية. وأمّا «الْفَتْحُ» : فهو أن رقّاه إلى محلّ الدنوّ، واستخلصه بخصائص الزلفة، وألبسه لباس الجمع، واصطلمه عنه، وكان له عنه، ولنفسه- سبحانه- منه، وأظهر عليه ما كان مستورا من قبل من أسرار الحقّ، وعرّفه- من كمال معرفته به- ما كان جميع الخلق متعطشا إليه «2» .
__________
(1) فى ص (يحكم) ولكننا آثرنا أن تكون (يحلم) مرجحين أن ذلك أقرب إلى الأصل لأن الحلم هنا أقرب إلى السياق.
(2) تعبر هذه الفقرة تعبيرا صادقا عن مدى نظرة الصوفية إلى المصطفى على أنه «الصوفيّ الأول» .(3/779)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
سورة أبى لهب
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة جبّارة للمذنبين، تجبر أعمالهم، وتحقّق آمالهم، وهي للعارفين تصغر فى أعينهم أحوالهم، وتكمّل- عن شواهدهم- امتحاءهم «1» واستئصالهم، وتحقّق لهم- بعد فنائهم عنهم- وصالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
أي: خسرت يداه.
«ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» ما أغنى عنه ماله ولا كسبه الخبيث- شيئا.
وقيل: «ما كَسَبَ» : ولده «2» .
قوله جل ذكره: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ «3» الْحَطَبِ» يلزمها إذا دخلها فلا براح له منها. وامرأته أيضا ستصلى النار معه.
«فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .
__________
(1) فى ص (امتحانهم) والصواب أن تكون (امتحاءهم) أي حصول «المحو» لهم.
(2) حين قال أبو لهب: «إن كان ما يقوله ابن أخى حقا فإنى أفدى نفسى بما لى وولدى» فنزل: «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» .
(3) وعلى الرفع قراءة نافع. وقرأ عاصم بالنصب على الذمّ كأنها اشتهرت بذلك- كقوله تعالى: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» آية 61 سورة الأحزاب.(3/780)
«مَسَدٍ» شىء مفتول، وكانت تحمل الشوك وتنقله وتبثه في طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويقال: سحقا لمن لا يعرف قدرك- يا محمد. وبعدا لمن لم يشهد ما خصصناك به من رفع محلّك، وإكبار شأنك ... ومن ناصبك كيف ينفعه ماله؟ والذي أقميناه لأجلك وقد (أساء) «1» أعماله.. فإنّ إلى الهوان والخزي مآله، وإنّ على أقبح حال حال امرأته وحاله.
__________
(1) ما بين القوسين من عندنا فهى في النسخة م مشتبهة.(3/781)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
سورة الإخلاص
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة عزّ لسان ذكرها، وأعزّ منه قلب عرفها، وأعزّ من هذا روح أحبّها، وأعزّ من هذا سرّ شهدها.
ليس كلّ من قصدها وجدها، ولا كلّ من وجدها بقي معها.
قوله جل ذكره:
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
لمّا قال المشركون: أنسب لنا ربّك. أنزل الله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» «1» فمعنى «هُوَ» أي: الذي سألتم عنه «هُوَ» الله. ومعنى «أَحَدٌ» أي: هو أحد.
ويقال: «هُوَ» مبتدأ، و «اللَّهُ» خبره و «أَحَدٌ» خبر ثان كقولهم:
هذا حلو حامض.
«اللَّهُ الصَّمَدُ» «الصَّمَدُ» : السيّد الذي يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في المطالب. ويقال:
الكامل في استحقاق صفات المدح.
ويرجّح تحقيق قول من قال: إنه الذي لا جوف له إلى أنه واحد لا ( ... ) «2»
فى ذاته.
__________
(1) روى الترمذي ذلك عن أبى العالية. وقيل: الآية جواب لسؤال المشركين: صف لنا ربّك ...
أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ [.....]
(2) مشتبهة.(3/782)
«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ليس بوالد ولا مولود.
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تقديره. لم يكن أحد كفوا له.
و «أَحَدٌ» أصله وحد، ووحد، وواحد بمعنى، وكونه واحدا: أنه لا قسيم له ولا شبيه له ولا شريك له.
ويقال: السورة بعضها تفسير لبعض من هو الله؟ هو الله. من الله؟ الأحد، من الأحد؟
الصمد، من الصمد؟ الذي لم يلد ولم يولد، من الذي لم يلد ولم يولد؟ الذي لم يكن له كفوا أحد.
ويقال: كاشف الأسرار بقوله: «هُوَ» . وكاشف الأرواح بقوله: «اللَّهُ» وكاشف القلوب بقوله: «أَحَدٌ» : وكاشف نفوس المؤمنين بباقي السورة.
ويقال: كاشف الوالهين بقوله: «هُوَ» ، والموحّدين بقوله: «اللَّهُ» والعارفين بقوله:
«أَحَدٌ» والعلماء بقوله: «الصَّمَدُ» والعقلاء بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ... إلى آخره.
ويقال: لمّا بسطوا لسان الذمّ في الله أمر نبيّنا بأن يردّ عليهم فقال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» :
أي ذبّ عنى ما قالوا، فأنت أولى بذلك. وحينما بسطوا لسان الذمّ في النبيّ صلى الله عليه وسلم تولّى الحقّ الردّ عليهم، فقال: «ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» وقال:
«وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» أي أنا أذبّ عنك فأنا أولى بذلك منك.
ويقال: خاطب الذين هم خاص الخواص بقوله: «هُوَ» فاستقلوا، ثم زاد لمن نزل عنهم فقال: «اللَّهُ» ، ثم زاد في البيان لمن نزل عنهم.
فقال: «أَحَدٌ» ثم لمن نزل عنهم فقال: «الصَّمَدُ» .
ويقال: الصّمد الذي ليس عند الخلق منه إلا الاسم والصفة(3/783)
ويقال: الصمد الذي تقدّس عن إحاطة علم المخلوق به وعن إدراك بصرهم له، وعن إشراف معارفهم عليه.
ويقال: تقدّس بصمديته عن وقوف المعارف عليه.
ويقال: تنزّه عن وقوف العقول عليه.(3/784)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
سورة الفلق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز إذا تجلّى لقلب فإن لاطفه بجماله أحياه، وإن كاشفه بجلاله أباده وأفناه فالعبد في حالتى: بقاء وفناء، ومحو وإثبات، ووجد وفقد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
أي أمتنع وأعتصم بربّ الفلق. والفلق الصّبح.
ويقال: هو الخلق كلّهم «1» . وقيل الفلق واد في جهنم «2» .
«مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» أي من الشرور كلّها.
«وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» قيل: الليل إذا دخل. وفي خبر. أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عائشة ونظر إلى القمر فقال: «يا عائشة، تعوّذى بالله من شرّ هذا فإنه الغاسق إذا وقب «3» » .
«وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» وهن السواحر اللواتى ينفخن في عقد الخيط (عند الرّقية) ويوهمنّ إدخال الضرر بذلك.
__________
(1) أي هو كل ما انفلق من حيوان وصبح ونوى وحسب ونبات وغيره..
(2) تأخر وضع هذه العبارة قليلا فأثبتناه في موضعه.
(3) رواه الترمذي. وقال أبو عيسى: هو حديث صحيح.
لطائف الإشارات- ج 3-(3/785)
«وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» والحسد شرّ الأخلاق.
وفي السورة تعليم استدفاع الشرور من الله. ومن صحّ توكّله على الله فهو الذي صحّ تحقّقه بالله، فإذا توكّل لم يوفّقه الله للتوكّل إلّا والمعلوم من حاله أنه يكفيه ما توكّل به عليه وإنّ العبد به حاجة إلى دفع البلاء عنه- فإن أخذ في التحرّز من «1» تدبيره وحوله وقوّته، وفهمه وبصيرته في كلّ وقت استراح من تعب تردّد القلب في التدبير، وعن قريب يرقّى إلى حالة الرضا.. كفى مراده أم لا. وعند ذلك الملك الأعظم، فهو بظاهره لا يفتر عن الاستعاذة، وبقلبه لا يخلو من التسليم والرضا. «2»
__________
(1) بعد (من) كلمة مبهمة في الرسم أقرب ما تكون إلى (جيلته) .
(2) معنى هذا أن تمام التوكّل على الله أعظم مانع للعبد من أن يلم به مكروه نتيجة سحر أو حسد ونحوهما، فلن يصيب العبد إلا ما كتبه الله له.(3/786)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
سورة الناس
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله الذي قصرت عنه العقول فوقفت، وعجزت العلوم فتحيّرت، وتقاصره المعاوف فخجلت، وانقطعت الفهوم فدهشت.. وهو بنعت علائه ووصف سنائه وبهائه وكبريائه يعلم ولكنّ الإحاطة في العلم به محال، ويرى ولكنّ الإدراك في وصفه مستحيل ويعرف ولكنّ الإشراف في نعته غير صحيح. «1»
قوله جل ذكره:
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
أعتصم بربّ الناس خالقهم وسيّدهم.
«مَلِكِ النَّاسِ» أي مالكهم جميعهم.
«إِلهِ النَّاسِ» القادر على إيجادهم.
«مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ» من حديث النّفس بما هو كالصوت الخفىّ.
ويقال: من شرّ ذى الوسواس.
ويقال: من شرّ الوسوسة التي تكون بين الجنّة والناس.
__________
(1) فقد جلّت الصمدية أن يستشرف منها عالم بعلمه أو واهم بوهمه، أو عارف بمعرفته.. وكلّ ما هنالك هو شهود (الفعل) الإلهى لا (الذات) الإلهية.(3/787)
و «الْخَنَّاسِ» الذي يغيب ويخنس عن ذكر الله. وهو من أوصاف الشيطان.
«الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» قيل: «النَّاسِ» يقع لفظها على الجنّ والإنس جميعا- كما قال تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» «1» فسمّاهم نفرا، وكما قال:
«يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» «2» فسمّاهم رجالا.. فعلى هذا استعاذ من الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، والشيطان الذي له تسلّط على الناس كالوسواس فللنّفس من قبل العبد هواجس، وهواجس النّفس ووساوس الشيطان يتقاربان إذ أن ما يدعو إلى متابعة الشهوة أو الضلالة في الدين أو إلى ارتكاب المعصية، أو إلى الخصال الذميمة- فهو نتيجة الوساوس والهواجس.
وبالعلم يميّز «3» بين الإلهام وبين الخواطر الصحيحة وبين الوساوس «4» .
(ومما تجب معرفته) «5» أن الشيطان إذا دعا إلى محظور فإن خالفته يدع ذلك (ثم) يدعوك إلى معصية أخرى إذ لا غرض له إلا الإقامة على دعائك ( ... «6» ) غير مختلفة.
__________
(1) آية 29 سورة الأحقاف.
(2) آية 6 سورة الجن.
(3) فى النص كلمة منبهمة اخترنا (يميز) طبقا لرأى القشيري كما سيتضح من الهامش التالي.
(4) «الخاطر خطاب يرد على الضمائر وقد يكون بإلقاء الشيطان وقد يكون من أحاديث النفس أو من قبل الحق فإذا كان من الملك فهو الإلهام، وإذا كان من قبل النفس قيل له: الهواجس، وإذا كان من قبل الشيطان فهو الوسواس، وإذا كان من قبل الله- سبحانه- وإلقائه في القلب فهو خاطر حقّ.. وإذا كان من قبل الملك فإنما يعلم صدقه بموافقة العلم ... » رساله القشيري ص 46 و 47.
(5) هذه إضافة من جانبنا ليتماسك السياق ويتضح.
(6) مشتهة.(3/788)
خاتمة الكتاب
بعونه تعالى انتهى تحقيق كتاب «لطائف الإشارات» للإمام القشيري في غرّة رجب من عام 1390 هـ وقد استغرق هذا العمل نحو خمس سنوات كوامل، قطعنا فيها رحلة أضنت الجسم والبصر والفكر، ولكنها أمتعت القلب، وأيقظت الروح، وأنعشت السّرّ.
ولست أحبّ- متأثرا الصوفية- أن أحدّث القارئ عن مقدار ما لقيت من متاعب.. فهذا ضرب من دعوى النفس. وإنما أترك ذلك للقارئ. وقبل كل شىء أضرع إلى الله- وحده- أن يحتسب هذا العمل لى ذخرا عنده، وأن يمحو- إن شاء- من ديوانى بعض خطاياى.
كما أدعو الله أن ينفع به كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمقدار ما له من قيمة علمية نادرة، وبمقدار ما لصاحبه- رضى الله عنه- من قدر جليل في تراثنا العظيم.
والواقع.. أنّ أعظم ما يفعمنى بالسعادة من دواع هو هذا الاستقبال الذي حظى به الكتاب، فقد وصلتني رسائل عديدة من أقطار شتّى، ومن علماء أجلاء من نواح نائية كلها تحثّ على المسير، وتغذّى العزم، وتلهم الصبر على إتمام هذا العمل الشاق.
ولا أحب أن أختم كلمتى قبل أن أعتذر للقارئ عما قد يكون في الكتاب من قصور أو تقصير، ترجع أسباب بعضه لى، وتقع تبعته عليّ، ويعود بعضه إلى المطبعة- فنحن شريكان فيه كما يرجع الكثير منها إلى النّسّاخ..
ولا عجب في ذلك فالرحلة طويلة، ودروبها متشعبة. ولكننا نعد- إذا شاء الله وظهرت للكتاب طبعات أخرى- أن نتحاشى قدر الوسع كل هذه الوجوه. وأكون(3/789)
سعيدا لو أشرك القرّاء أنفسهم معى في ذلك فبعثوا إليّ بملاحظهم، فلم يعد الكتاب منذ الآن قاصرا عليّ وحدي.
كما أعد- إن شاء الله- بتدارك ما جاء في الكتاب من عيوب الشعر التي حالت الظروف القاهرة دون تداركها.
لقد كان رائدنا في هذه المرحلة من التحقيق أن يصل المتن الصوفيّ للناس، ولكننا فى المراحل التالية سننهض- بحول الله وقوته- بكثير من الأعمال التي تتصل بالشروح، وبالمصطلحات، وبالقضايا الأساسية التي نهض بها الكتاب.. فليس «لطائف الإشارات» بأقلّ من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الأجيال المتعاقبة.
وأخيرا، فإنى أتمنى أن أكون بإخراج هذا الكتاب قد وفيت بعض الّذين الذي فى عنقى للإمام الجليل عبد الكريم القشيري- رضى الله عنه وأرضاه.
وفقنا الله جميعا إلى الخير.
دكتور إبراهيم بسيونى أستاذ بكلية الألسن- الزيتون- القاهرة(3/790)
الفهرس
اسم السورة الصفحة الشعراء 5 النمل 23 القصص 53 العنكبوت 86 الروم 107 لقمان 127 السجدة 138 الأحزاب 149 سبأ 175 فاطر 190 يس 211 الصافات 227 ص 245 الزمر 266 المؤمن (غافر) 294 فصلت 319 الشورى 341 الزخرف 361 الدخان 379 الجاثية 388(3/791)
الأحقاف 395 محمد (صلى الله عليه وسلم) 403 الفتح 417 الحجرات 437 ق 447 الذاريات 459 الطور 471 النجم 480 القمر 493 الرحمن 502 الواقعة 516 الحديد 530 المجادلة 548 الحشر 556 الممتحنة 569 الصف 575 الجمعة 581 المنافقون 587 التغابن 592 الطلاق 598 التحريم 604 الملك 610 القلم 616 الحاقة 624 المعارج 628 نوح 634 الجن 637 المزمل 641 المدثر 647 القيامة 654(3/792)
الإنسان 660 المرسلات 670 النبأ 675 النازعات 681 عبث 687 التكوير 692 الإنفطار 696 المطففين 699 الإنشقاق 705 البروج 709 الطارق 714 الأعلى 717 الغاشية 720 الفجر 724 البلد 729 الشمس 732 الليل 735 الضحى 739 ألم نشرح 743 التين 745 العلق 747 القدر 750 لم يكن 752 الزلزلة 755 العاديات 757 القارعة 760 التكاثر 762 العصر 764(3/793)
الهمزة 766 الفيل 768 قريش 771 الدين 773 الكوثر 775 الكافرون 777 النصر 779 أبا لهب 780 الإخلاص 782 الفلق 785 الناس 787 خاتمة الكتاب 789 انتهى(3/794)