إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 40]
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
يريد به إذا قبض أرواح بنى آدم بجملتهم، ولم يبق على وجه الأرض منهم واحد، وليس يريد به استحداث ملكه، وهو اليوم مالك الأرض ومن عليها، ومالك الكون وما فيه.
ويقال إن زكريا قال- لمّا سأل الولد: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقال تعالى فى صفة بنى إسرائيل: «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» «1» وقال: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «2» ، ولما انتهى إلى هذه الأمة «3» قال: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها» .. فشتان بين من وارثه الولد وبين من وارثه الأحد! ويقال هان على العبد المسلم إذا مات إذا كان الحقّ وارثه.. وهذا مخلوق يقول فى صفة مخلوق:
فإن يك عتّاب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد
وقال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ» «4» لماذا؟ لأنّ وارثهم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 41]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41)
الصّديق الكثير الصدق، الذي لا يمازج صدقه شوب.
ويقال هو الصادق فى أقواله وأعماله وأحواله.
ويقال الصدّيق لا يناقض سرّه علنه.
__________
(1) آية 59 سورة الشعراء.
(2) آية 128 سورة الأعراف. [.....]
(3) يقصد امة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
(4) آية 168 سورة آل عمران.(2/430)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
ويقال هو الذي لا يشهد غير الله مثبتا ولا نافيا.
ويقال هو المستجيب لما يطالب به جملة وتفصيلا.
ويقال هو الواقف مع الله فى عموم الأوقات على حدّ الصدق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 42]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)
دلّت الآية على استحقاق المعبود الوصف بالسمع والبصر على الكمال دون نقصان فيه، وكذلك القول فى القدرة على الضّرّ والنفع.
وإذا رجع العبد إلى التحقيق علم أن كلّ الخلق لا تصلح قدرة واحد منهم للإبداع والإحداث، فمن علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم شظية منه من النفي والإثبات فقد ضاهى عبدة الأصنام.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 43]
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43)
أمره باتباعه لمّا ترجح عليه جانبه فى كون الحقّ معه- وإن كان أكبر منه سنّا، وبيّن أن الخلاص فى اتباع أهل الحقّ، وأنّ الهلاك فى الابتداع والتطوح فى مغاليط الطرق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 44]
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44)
بيّن أنّ العلة فى منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فبان أنّه لا ينبغى أن تكون طاعة لمن يعصى الله بحال.
ويقال أساس الدّين هجران أرباب العصيان.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 45]
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)(2/431)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
لم يغادر الخليل شيئا من الشفقة على أبيه، ولم ينفعه جميل وعظه، ولم تنجع فيه كثرة نصحه فإنّ من أقصته سوابق التقدير لم تخلّصه لواحق التدبير.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 46]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
مناه ابراهيم بجميل العقبي، فقابله بتوعّد العقوبة فقال:
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
فأجابه الخليل بمقتضى سكون البصيرة فقال:
[سورة مريم (19) : آية 47]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47)
وهذا قبل أن ييأس من إيمانه، إذ كانت لديه بعد بقية من الرجاء فى شانه، فلمّا تحقق أنه مختوم له بالشقاوة قال له:
[سورة مريم (19) : آية 48]
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
«ما تَدْعُونَ» : أي ما تعبدون، «وَأَدْعُوا رَبِّي» : أي أعبده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 49]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49)
لما أيس من أصله آنسه الله بما أكرمه من نسله، فأنبتهم نباتا حسنا، ورزقهم النبوة، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام «1» فقال:
__________
(1) ربما يشير القشيري بذلك إلى: (الصلاة على ابراهيم وعلى آل ابراهيم) فى تشيد كل صلاة،(2/432)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 51]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)
مخلصا خالصا لله، ولم يكن لغيره بوجه فلم تأخذه فى الله لومة لائم، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظ، ولم يغض فى الله على شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 52]
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)
للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفين: النداء فى بدايته، والسماع والنجوى فى نهايته فوقفه الحقّ وناداه، وفى جميع الحالين تولّاه.
«مِنْ جانِبِ الطُّورِ» : ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 53]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبّيّا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
كان صادق الوعد إذ وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه «2» ، وصبر على ذلك إلى أن ظهر الفداء. وصدق الوعد لأنه حفظ العهد. وكان يأمر أهله بالصلاة- بأمر الله إياه- وبالزكاة، ويشتمل هذا على ما أمره إياهم بالعيادة البدنية والمالية حينما وكيفما كان.
__________
(1) بهذا يتجنب القشيري مزلقا خطرا فلا يكون النداء الإلهى من جهة. وعلى هذا تكون (وقربناه) تقريب مكانة لا مكان.
(2) من هذه الاشارة نعرف أن القشيري يرى أن إسماعيل- لا إسحاق- هو مدار قصة الذبح والفداء.(2/433)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
«وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» وكان هذا أشرف خصاله وأجلّ صفاته.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
الصّدّيق كثير الصدق، لا يشوب صدقه مذق «1» ، ويكون قائما بالحقّ للحق، ولا يكون فيه نفس لغير الله.
«وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» : درجة عظيمة فى التربية لم يساوه فيها أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن منّته كامنة فى تخصيصهم بأحوالهم، وتأهيلهم لما رقّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم ومما أنعم به عليهم من الخصائص رقّة قلوبهم فهم إذا تتلى عليهم الآيات سجدوا، وسجود ظواهرهم يدل على سجود سرائرهم بما حقّق لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبنعت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 59]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
__________
(1) مذق اللبن والشراب بالماء مذقا اى مزجه وخلطه، ومذق الود اى شابه ولم يخلصه.
(2) هذا من أشد البراهين نصاعة على تمسك القشيري بالشريعة فإن صدق العبد فى التوجه أمارته ان يكون محفوظا- من قبل الحق- كى يؤدى فرائض الشرع.(2/434)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
الذين حادوا عن طريقهم، وضيّعوا حقّ الشرع، وتخطوا واجب الأمر، وزاغوا عن طريق الرشد، وأخلوا بآداب الشرع، وانخرطوا فى سلك متابعة الشهوات- سيلقون عن قريب ما يستوجبونه، ويعاملون بما يستحقونه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 60 الى 63]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
فأولئك الذين تداركتهم الرحمة الأزلية، وسيبقون فى النعم السرمدية. يستنجز الحقّ لهم عداتهم، ويوصّلهم إلى درجاتهم، ويحقّق لهم ما وعدهم.
«إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» : لأن ما أتيته فقد أتاك أو ما أتاك فقد أتيته «1» .
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» : فإن أسماعهم مصونة عن سماع الأغيار، لا يسمعون إلا من الله وبالله، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا الله.
قوله جل ذكره: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا كانوا يعدّون من عنده طعام البكرة والعشية من جملة المياسير والأغنياء لكونهم فقراء إن وجدوا غداءهم ففى الغالب يعدمون عشاءهم، وإن وجدوا عشاءهم فقلّما كانوا يجدون غداءهم. ويقال فى «لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» فيها: بمقدار الغدو والعشى من الزمان فى الجنة أي كالوقت. ثم إن الأرزاق تختلف فى الجنة فللأشباح رزق من مطعوم ومشروب، وللأرواح رزق من سماع وشهود، ولكل- على قدر استحقاقه- قسط معلوم.
قوله جل ذكره: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا
__________
(1) أي أن (ماتيا) إما اسم مفعول، أو اسم مفعول بمعنى اسم الفاعل مثل مجروح وجريح.(2/435)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
فالجنة للأتقياء من هذه الأمة معدّة لهم، والرحمة لعصاة المسلمين مدّخرة لهم. الجنة لطف من الله تعالى، والرحمة وصف لله تعالى. وقوله: «مِنْ عِبادِنا» : فعبده على الخصوصية من كان اليوم فى قيد أمره. وقوله: «مَنْ كانَ تَقِيًّا» : قوم يتقون المعاصي والمخالفات، وقوم يتقون الشهوات، وآخرون يتقون الغفلات، وآخرون يتقون شهود كلّ غير.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 64]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
إن الملائكة- عليهم السلام- أبدا ينزلون بإذن الحقّ تعالى، فبعضهم بإنجاد المظلومين، وبعضهم بإغاثة الملهوفين، وبعضهم بتدمير الجاحدين، وبعضهم بنصرة المؤمنين، وبعضهم إلى ما لا يخصى من أمور الناس أجمعين. والله- سبحانه- لا يترك جاحدا ولا عابدا من حفظ وإنعام، أو إمهال ونكال ...
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 65]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربّها، ويكون مالكها، ويكون قادرا عليها.
وإذا وجدت فهو فاعلها، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه فى مقدوره وجوده.
ويقال إذا كان ربّ الأكبر من الأقوياء فهو أيضا ربّ الأصاغر من الضعفاء، وقيمة العبد بمالكه وقدره «1» ، ولا بثمنه فى نفسه وخطوه.
قوله: «فَاعْبُدْهُ» أي قف حيثما أمرك، ودع ما يقع لك، وخلّ رأيك وتدبيرك.
قوله: «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» : الاصطبار غاية الصبر.
قوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» : أي كفوا ونظيرا. ويقال هل تعرف أحدا يسمى «الله» غير الله؟ ويقال أنّى بالنظير ... وهو بالقدم متوحد! والتشبيه يقتضى التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له.. لا موجودا ولا موهوما.
__________
(1) أي قدر هذا المالك.(2/436)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 67]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)
أنكروا حديث البعث غاية الإنكار، فأقام الحجّة عليهم بالنشأة الأولى فقال: إن الذي قدر على خلق الخلق فى الابتداء وهم نطف ضعفاء، وقبل كانوا فى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ففطرهم، وعلى ما شاء صوّرهم، وفى الوقت الذي أراد- عن «1» بطون أمهاتهم أخرجهم.
قوله: «وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» فيه دليل على صحة أهل البصائر أنّ المعدوم لم يك شيئا فى حال عدمه «2» .
ويقال أبطل لهم كلّ دعوى حيث ذكّرهم نسبهم وكونهم من العدم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 68]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
نحشرهم جميعا فيجتمعون فى العرصة «3» . ثم يختلف منقلبهم فيصير قوم إلى النار ثم إلى دركات بعضها أسفل من بعض- واسم جهنم يجمع أماكنهم. ويصير قوم إلى الجنة ثم هى درجات بعضها أعلى رتبة ودرجة من بعض- واسم الجنة يشتمل على جميع مساكنهم.
ويقال التفاوت فى الجنة بين الدرجات أكثر من التفاوت بين أهل الدارين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 69 الى 70]
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
__________
(1) الأصوب أن تكون (من) كما ورد فى الآية 78 سورة النحل: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» .
(2) وفيه ردّ على القائلين بأن المادة لا تستحدث.
(3) العرصة ساحة الدار أو صفيحة من الحديد توضع فى التنور لينضج عليها الخبز وغيره (الوسيط)(2/437)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
من تقدّم عليهم فى الإضلال والضلال ضوعف عليه غدا العذاب والأغلال.
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ينزل فى كل دركة من دركاتها من هو أهل لها، فمن كان عتوّه اليوم أشدّ غلوا كان فى النار أبعد من الله وأشدّ عقوبة وإذلالا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 71]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)
كلّ يرد النار ولكن لا ضير منها ولا احتباس بها لأحد إلا بمقدار ما عليه من ( ... ) «1»
والزلل فأشدّهم انهماكا أشدهم بالنار اشتعالا واحتراقا. وقوم يردونها- كما فى الخبر:
«إن للنار عند مرورهم عليها إذوابة كإذوابة اللّبن، فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أو ليس وعدنا جهنم على طريق؟ فيقال لهم. عبرتم وما شعرتم «2» ! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 72]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
ينجّى من كان مؤمنا، بعضهم قبل بعض، وبعضهم بعد بعض، ولكن لا يبقى من
__________
(1) مشتبهة وهى في الرسم هكذا (الالتبات) وربما كانت فى الأصل (الالتباس) أي الوقوع فى (اللبس) والالتباس مناسب (للزلل) .
(2) الإذواية: الزبد حين يوضع فى البرمة ليذاب (مقايبس اللغة لابن فارس ج 2 ص 362) .
وعن جابر أنه عليه السلام سئل عن ذلك فقال: إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم قد ورد نموها وهى خامدة (القاضي البيضاوي ط الجسّال بجدة) ص 410.
وعن جابر أيضا، الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين يردا وسلاما كما كانت على إبراهيم» [الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج 11 ص 136 سلسلة التراث] .
وعن الحسن «ليس الورود الدخول، إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها فالورود أن يمروا على الصراط «وقد استند كثير إلى رأى الحسن واحتجوا بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها. [.....](2/438)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
المؤمنين من لا ينجيهم. ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها، وعند ذلك يشتدّ عليهم البلاء، وتطبق عليهم أبواب جهنم، وينقطع منهم الرجاء والأمل.
وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم فزيادة التقوى توجب لهم التعجيل فى النجاة فمن سابق ومن لاحق، ومن منقطع، ومن محترق.. إلى كثير من الأصناف والألوان.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 73]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
يعنى إذا قرئت عليهم آيات القرآن قابلوها بالردّ والجحد والعتو والزيغ، ويدّعون أنهم على حق، ولا يعتمدون فى ذلك إلا على الحدس والظّن.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 74]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74)
أي إن هؤلاء ينخرطون فى سلك من تقدّمهم، كما سلكوا فى الريب منهاجهم، وسيلقون ما يستوجبونه على سوء أعمالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 75]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75)
«1» إن الله تعالى يمهل الكفار ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويغترّوا بسلامة أحوالهم، فينسونه فى غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم قوله «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ... » أي يحل بهم موعود العقوبة عاجلا أو قيام
__________
(1) سقطت (قل) من الناسخ فأثبتناها.(2/439)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
الساعة «1» آجلا، فعند ذلك يتضح لهم ما تعاموا عنه من شدة الانتقام، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 76]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
أي يغنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإذا متع نهار العرفان فلا ظلمة ولا تهمة.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : الشهادة بالربوبية خير من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص.
ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : التي تبقى عند الله مقبولة.
قوله تعالى: «خَيْرٌ» لأن فى استحقاق القبول زيادة للهدى فيصير علم اليقين عين اليقين، وعين يقينهم حق اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 77]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77)
أخبر بقصة ذلك الكافر «2» الذي قال بيمين- من غير حجة- لأعطينّ مالا وولدا، ورأى أن يكون ليمينه تصديق، فهل هو:
[سورة مريم (19) : آية 78]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78)
__________
(1) وردت (السرعة) والصواب أن تكون (الساعة) فهكذا الآية:
(2) عن الحسن: أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة. والمشهور انها فى العاص بن وائل فقد روى ان خباب ابن الأرت صاغ للعاصى حليا فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون انكم تبعثون وان فى الجنة ذهبا وفضة فأنا أقضيك ثم فإنى اوتى مالا وولدا حينئذ! وقد ذكر الواحدي ثلاث وروايات تؤيد ذلك عن مسروق وعن الكلبي وعن مقاتل. (أسباب النزول ط مؤسسة الحلبي) ص 204.
ورواه البخاري عن الحميدي عن سفيان، ورواه مسلم عن الأعمش.(2/440)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
هل يقول ما يقول بتعريف منا؟ أم هل اتخذ مع الله عهدا؟ ليس الأمر كذلك.
ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظنا جميلا، أو أمّل منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له، ويصدق ظنّه لأنه على عهد مع الله تعالى، والله تعالى لا يخلف عهده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 79 الى 80]
كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
كلا.. ليس الأمر على ما يقول، وليس لقولهم تحقيق، بل سنمدلهم من العذاب مدا أي سنطيل فى العذاب مدتهم.
«وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ... » لن نمتّعه بأولاده وحشمه وخدمه وقومه، ويعود إلينا منفردا عنهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 82]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
حكموا بظنهم الفاسد أنّ أصنامهم تمنعهم، وأنّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجب عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلة.. وهيهات! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق، بل إذا حشروا وحشرت أصنامهم تبّرأت أصنامهم منهم، وما أمّلوا نفعا منها عاد ضررا عليهم.
ويقال طلبوا العزّ فى أماكن الذل، فأخفقوا فى الطلب، ونفوا عن المراد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 83]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
تؤزهم أي تزعجهم، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغمّة، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكينة، وهذه إحدى الدلائل بينهما.(2/441)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 84]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
الأنفاس فى الحكم معدودة فمن لم يستوف فلا انقضاء لها. وإذا انتهى الأجل فلا تنفع بعد ذلك الحيل، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 85]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
قيل ركبانا على نجائب طاعاتهم، وهم مختلفون فمن راكب على صدور طاعاته، ومن راكب على مراكب هممه، ومن راكب على نجائب أنواره. ومن محمول يحمله الحقّ فى عقباه كما يحمله اليوم فى دنياه. وليس محمول الحقّ كمحمول الخلق! قوله جل ذكره
[سورة مريم (19) : آية 86]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)
فأولئك يساقون بوصف العزّ، وهؤلاء يساقون بنعت الذّلّ، فيجمعهم فى السّوق، ولكن يغابر بينهم فى معانيه.. فشتّان ما هما!! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 87]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
وذلك العهد حفظهم فى دنياهم ما أخذ عليهم- يوم الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 91]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91)
ما أعظم بهتانهم فى مقالتهم! وما أشدّ جرأتهم فى قبيح حالتهم! لكنّ الصمدية متقدّسة عن عائد يعود إليها من زين بتوحيد موحّد، أو شين بإلحاد ملحد.. فما شاهت إلّا وجوههم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يتجمّل بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا على القائل مقابل من عاجل أو آجل.(2/442)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 92 الى 95]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
أنّى بالولد وهو واحد؟! وأنّى بالولادة ولا جنس له وجوبا «1» ولا جوازا؟! «لَقَدْ أَحْصاهُمْ..» : لا يعزب عن علمه معلوم، ولا ينفكّ عن قدرته- مما يصح أن يقال حدوثه- موهوم.
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً: لا خدم يصحبهم، ولا حشم يلحقهم، كلّ بنفسه مشتغل، وعن غيره منفرد.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
يجعل فى قلوبهم ودا لله نتيجة لأعمالهم الخالصة، وفى الخبر: «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه» «2» .
ويقال يجعل لهم الرحمن ودا فى قلوب عباده، وفى قلوب الملائكة، فأهل الخير والطاعة محبوبون من كلّ أحد من غير استحقاق بفعل «3» .
__________
(1) وردت (وجودا) والأرجح ان تكون (وجوبا) لتتلاءم مع (جوازا) اى لا يجب عليه ولا يجوز فى وصفه- لتقدسه وتنزهه- ان يكون له جنس.
(2) ( ... فإذا أجبته كنت عينه التي يبصر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها) وهو حديث قدسى ورواه البخاري عن أبى هريرة، واحمد عن عائشة، والطبراني فى الكبير عن ابى امامة، وابن السنى عن ميمون، وقد اخطأ من زعم ان البخاري انفرد بروايته.
(3) اخرج مسلم والترمذي عن ابى هريرة ان النبي (ص) قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبه، فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى الأرض.. وذلك قوله تعالى: «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .
السيوطي فى إتقانه ص 199 ج 2 ط مصطفى الحلبي.(2/443)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 97]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)
«1» الكلام واحد والخطاب واحد، وهو لقوم تيسير، ولآخرين تخويف وتحذير. فطوبى لمن يسّر لما وفّق به، والويل لمن خوّف بل خذل فيه. والقوم بين موفق ومخذول.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 98]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
أثبتهم وأحياهم، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم، ثم بعد ذلك- لما شاء- أماتهم وأفناهم، فبادوا بأجمعهم، وهلكوا عن آخرهم، فلا كبير منهم ولا صغير، ولا جليل ولا حقير، وسيطالبون- يوم النشور- بالنقير والقطمير.
سورة طه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز من تحقّق بجلال عزّته تمحض «2» فى خلوص عبوديته، وإذا وصل إلى ضياء صفوته نزل عن سيماء نعوته.
اسم عزيز من عرفه سمت همّته، وإذا سمت همته سقطت عن الدارين طلبته.
اسم من عرفه زال كربه وطاب قلبه دينه ربّه «3» وجنّته حبّه.
اسم عزيز من وسمه بعبوديته حرّره من رقّ شهواته، وأعتقه من أسر مطالبه فلا له لمحبوب طلب، ولا يستفزّه لمحذور هرب.
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ جعلها (وإنما)
(2) المحض- اللبن الخالص، وتمحض- خلص من الشوائب.
(3) أي عبادته لربه لذاته لا طلبا لثواب ولا خوفا من عقاب كما هو الشأن فى العبادة التقليدية.(2/444)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2)
الطاء إشارة إلى قلبه- عليه السلام- من غير الله، والهاء إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله.
وقيل طأ بسرّك بساط القربة فأنت لا تهتدى إلى غيرنا.
ويقال طوينا عن سرّك ذكر غيرنا، وهديناك إلينا.
ويقال طوبى لمن اهتدى بك. ويقال طاب عيش من اهتدى بك.
«ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» : أي ليس المقصود من إيجابنا إليك تعبدك، وإنما هذا استفتاح الوصلة، والتمهيد لبساط القربة.
ويقال إنه لما قال له: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» «1» وقف بفرد قدم تباعدا وتنزها عن أن يقرب من الدنيا استمتاعا بها بوجه فقيل له: طأ الأرض بقدميك.
لم كل هذا التعب الذي تتحمله؟ فزاد فى تعبده، ووقف، حتى تقدمت قدماه «2» وقال:
«أفلا أكون عبدا شكورا» أي لما أهلني من التوفيق حتى أعبده.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 3]
إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)
فالقرآن تبصرة لذوى العقول، تذكرة لذوى الوصول، فهؤلاء به يستبصرون فينالون به راحة النّفس فى آجلهم، وهؤلاء به يذكرون فيجدون روح الأنس فى عاجلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 4]
تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
__________
(1) آية 88 سورة الحجر.
(2) نرجح انها (تورمت قدماه) لأن السياق يذكرنا بالحديث:
[انه كان يصلى حتى تورمت قدماه فقيل له: يا رسول الله» أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا] الشيخان، والنسائي. والترمذي عن المغيرة بن شعبة.
(وسيعود القشيري إلى فكرة «طأ بقدميك الأرض» فى آخر السورة عند تفسير آية: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... آية 131) .(2/445)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
جعل الأرض قرارا لعباده. ونفوس العابدين أرض وقرار لطاعتهم، وقلوب العارفين قرار لمعارفهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 5]
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)
استواء عرشه فى السماء معلوم، وعرشه فى الأرض قلوب أهل التوحيد.
قال تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» «1» وعرش القلوب: قال تعالى:
«وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» «2» . أمّا عرش السماء فالرحمن عليه استوى، وعرش القلوب الرحمن عليه استولى. عرش السماء قبلة دعاء الخلق، وعرش القلب محلّ نظر الحق.
فشتّان بين عرش وعرش! قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 6]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
له الأشياء على العموم ملكا، والأولياء تخصيصا وتشريفا. له ما بين السماوات والأرض مما أظهر من العدم فالكلّ له إثباتا وخلقا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 7]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7)
النّفس لا تقف على ما فى القلب، والقلب لا يقف على أسرار الرّوح، والروح لا سبيل له إلى حقائق السرّ والذي هو أخفى من السّرّ فهو ما لا يطّلع عليه إلا الحق «3» .
ويقال الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان، ولا يكتبه الملكان، ويستأثر بعلمه الجبّار، ولا تقف عليه الأغيار.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 8]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
__________
(1) آية 17 سورة الحاقة.
(2) آية 70 سورة الإسراء.
(3) يسميه القشيري فى مواضع أخرى من مصنفاته (سر السر) أو (عين السر) الرسالة ص 48 [.....](2/446)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
نفى كل موهوم من الحدثان بأن يكون شىء منه صالحا للإبداع، وأثبت كلّ ما فى الوجود له باستحقاق القدم.
«لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي صفاته، على انقسامها إلى صفة ذات وصفة معنى «1» ويقال «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : تعريف للخلق بأنّ استحقاق العلو والتقدّس عن النقائص له على وصف التفرّد به.
قوله جل ذكره
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 10]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)
سؤال فى صيغة الاستفهام والمراد منه التقرير «2» والإثبات. وأجرى- تعالى- سنّته فى كتابه أن يذكر قصة موسى عليه السلام فى أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فيعقبه بذكر موسى عليه السلام.
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ألاح له النار حتى أخرجه من أهله يطلبها، وكان المقصود إخراجه من بينهم، فكان موسى عليه السلام يدنو والنار تنأى، وقال لأهله:
«امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» فقال أهله: كيف تتركنا والوادي مسبع؟
فقال: لأجلكم أفارقكم فلعلّى آتيكم من هذه النار بقبس.
ويقال استولى على موسى عند رؤيته النار الانزعاج، فلم يتمالك حتى خرج. ففى القصة أنه لما أتاها وجد شجرة تشتعل من أولها إلى آخرها، فجمع موسى- عليه السلام- حشائش ليأخذ من تلك النار، فعرف أن هذه النار لا تسمح نفسها بأن تعطى إلى أحد شعلة:
__________
(1) الأرجح- حسب الذي ذكره القشيري فى كتابه التحيير فى التذكير- أنها (وصفه فعل) .
(2) وردت (التقدير) والصواب أن تكون (التقرير) فهذا هو المصطلح البلاغى الذي يطلق على مثل هذا الاستفهام.(2/447)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
وقلن لنا نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى
يا موسى هذه النار تضىء ولكن لا تعطى لأحد منها شعلة. يا موسى هذه النار تحرق القلوب لا النفوس.
ويقال كان موسى عليه السلام فى مزاولة قبس من النار فكان يحتال كيف يأخذ منها شيئا، فبينما هو فى حالته إذ سمع النداء من الحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 11 الى 12]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12)
علم موسى أنه كلام الحق- سبحانه- لمّا سمع فيه الترتيب والتنظيم والتركيب، فعلم أنه خطاب الحق.
ويقال إنما عرف موسى- عليه السلام- أنه كلام الله بتعريف خصّه الحق- سبحانه- به من حيث الإلهام دون نوع من الاستدلال.
«قوله: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ..» فإن بساط حضرة الملوك لا يوطأ بنعل.
ويقال ألق عصاك يا موسى، واخلع نعليك، وأقم عندنا هذه الليلة ولا تبرح.
ويقال الإشارة فى الأمر بخلع النعلين تفريغ القلب من حديث الدارين، والتجرد للحقّ بنعت الانفراد.
ويقال «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» : تبرّأ عن نوعى أفعالك «1» ، وامح عن الشهود جنسى أحوالك من قرب وبعد، ووصل وفصل، وارتياح واجتياح، وفناء وبقاء ... وكن بوصفنا فإنما أنت بحقنا.
أثبته فى أحواله حتى كان كالمجرد عن جملته، المصطلم عن شواهده.
__________
(1) ربما حدث سقوط، فالكلام يحتاج إلى توضيح (نوعى أفعالك) قياسا على ما ذكر فى (جنسى أحوالك) ونرجح أن نوعى الفعل هما الأمر والنهى، أو المأمور به والمزجور عنه ... أو ما فى هذا المعنى.(2/448)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
قوله: «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» : أي إنك بالوادي المقدس عن الأعلال وساحات الصمدية تجلّ عن كل شين، وإيمان وزين عن زين بإحسان وشين بعصيان لأنّ للربوبية سطعات عزّ تقهر كلّ شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 13]
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
وعلى علم منى بك اصطفينك، وجرّدتك ونقّيتك عن دنس الأوهام وكلّ ما يكدّر صفوك.
ويقال بعد ما اخترتك فأنت لى وبي، وأنت محو فى فنائك عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 14]
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
تقدّست عن الأعلال فى أزلى، وتنزهت ( ... ) «1» والأشكال باستحقاقى لجلالى وجمالى.
ويقال «لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» : الأغيار فى وجودى فقد، والرسوم والأطلال عند ثبوت حقّى محو قوله: «فَاعْبُدْنِي» : أي تذلّل لحكمى، وأنفذ أمرى، واخضع لجبروت سلطانى.
قوله جل ذكره: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إقامتها من غير ملاحظة مجريها ومنشيها يورث الإعجاب. وإذا أقام العبد صلاته على نعت.
الشهود والتحقق بأن مجريها غيره «2» كانت الصلاة بهذا فتحا لباب المواصلة، والوقوف على محل النجوى، والتحقق بخصائص القرب والزلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 15]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)
الفائدة فى تعريف العباد بقرب الساعة أن يستفيقوا من غفلات التفرقة، فإذا حضروا
__________
(1) حدث هنا طمس أفقدنا بقية الجملة، وربما كانت (عن الأمثال) .
(2) الضمير فى (غيره) يعود على العبد والمقصود أن يتحقق العبد بأن الرب هو الذي يجرى عليه تعبده.(2/449)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
بقلوبهم- ففى حال استدامة الذكر- فما هو موعود فى الآجل أكثره للحاضرين موجود فى العاجل والحاضرة لهم كالآخرة. وكذلك جعلوا من أمارات الاستقامة شهود الوقت قيامة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 16]
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
إذا أكرمه الله بحسن التنبيه، وأحضره بنعت الشهود فلا ينبغى أن ينزل عن سماء صفاته إلى جحيم أهل الغفلة فى تطوحهم فى أودية التفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 17]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17)
كرّر عليه السؤال فى غير آية عن عصاه لمّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة.
ويقال إنما قال ذلك لأنه صحبته هيبة المقام عند فجأة سماع الخطاب فليسكن بعض ما به من بواده الإجلال.. ردّه إلى سماع حديث العصا، وأراه ما فيها من الآيات.
ويقال لو تركه على ما كان عليه من غلبات الهيبة لعلّه كان لا يعى ولا يطيق ذلك..
فقال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟
[سورة طه (20) : الآيات 18 الى 21]
قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
قال هى عصاى، وأخذ يعدّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له:
قالَ أَلْقِها يا مُوسى
__________
(1) (فالقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) و (جهنم الفراق أشد هولا من جهنم الاحتراق) . اللطائف فى مواضع أخرى.(2/450)
فإنّك بنعت التوحيد «1» ، واقف على بساط التفريد، ومتى يصحّ ذلك، ومتى يسلم لك أن يكون لك معتمد تتوكأ عليه، ومستند عليه تستعين، وبه تنتفع؟
ثم قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» : أوّل قدم فى الطريق ترك كلّ سبب، والتّنقّى عن كل طلب فكيف كان يسلم له أن يقول: أفعل بها، وأمتنع «2» ، ولى فيها مآرب أخرى.
ويقال ما ازداد موسى- عليه السلام- تفصيلا فى انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأولى بأن يؤمن بإلقائها، والتنقى عن الانتفاع بها على موجب التفرّد لله.
ويقال التوحيد التجريد، وعلامة صحته سقوط الإضافات «3» بأسرها فلا جرم لما ذكر موسى- عليه السلام- ذلك أمر بإلقائها فجعلها الله حيّة تسعى، وولّى موسى هاربا ولم يعقّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة إذا كوشف صاحبها بسرّها يهرب منها.
ويقال لمّا باسطه الحقّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يسأل وعمّا لم يسأل فقال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، وذكر وجوها من الانتفاع منها أنه قال تؤنسني «4» فى حال وحدتي، وتضىء لى الليل إذا أظلم، وتحملني إذ عييت فى الطريق فأركبها، وأهشّ بها على غنمى، وتدفع عنى عدوّى. وأعظم مأرب لى فيها أنّك قلت: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟» وأية نعمة أو مأرب أو منفعة تكون أعظم من أن تقول لى: وما تلك؟ ويقال قال الحقّ- بعد ما عدّد موسى وجوه الآيات وصنوف انتفاعه بها- ولك يا موسى فيها أشياء أخرى أنت غافل عنها وهى انقلابها حية، وفى ذلك لك معجزة وبرهان صدق.
__________
(1) إذا صح نقل هذه العبارة عن الأصل فالقشيرى يقصد بها (فإنك موحد) ، والموحد أعلى درجات العارفين.
(2) أي تكون لى بها منعة وقوة، وربما كانت (وأنتفع) وكلاهما صحيح فى المعنى.
(3) سقوط الإضافات أي لا يقول لى ولا بي ولا منى- وهذه آية صحة التوحيد عندهم (أنظر الرسالة ص 149) .
(4) وردت (تسعى) ، وقد وجدنا (تؤنسني) أقرب إلى المعنى وإن كانت بعيدة فى الرسم، فآثرناها ونبهنا إلى الأصل. أو ربما سقطت (معى) بعد (تسعى) ويكون السياق آنذاك منسجما.(2/451)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
ويقال جميع ما عدّد من المنافع فى العصا كان من قبل الله.. فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه، ولهذا قالوا:
يا جنّة الخلد، والهدايا إذا ... تهدى إليك فما منك يهدى
ويقال قال موسى لما رآها حية تهتز: لقد علمت كلّ وصف بهذه العصا، أمّا هذه الواحدة فلم أعرفها.
قوله جل ذكره: قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى لا عبرة بما يوهم ظاهر الأشياء فقد يوهم الظاهر بشىء ثم يبدو خلافه فى المستقبل فعصا موسى صارت حية.
ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آية ومعجزة لا بلاء وفتنة «1» .
قوله: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ... » : أشهده- بانقلاب العصا من حال إلى حال مرة عصا ثم ثعبانا ثم عصا مرة أخرى- أنّه يثبّت عباده فى حال التلوين مرة ومرة فمن أخذ ومن ردّ، ومن جمع ومن فرق إلخ «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 22 الى 23]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
كما أراه آية من خارج أراه آية من نفسه، وهى قلب يده بيضاء إذ جعلها فى جيبه من غير البرص. قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «3»
__________
(1) وهذا الكلام يتطبق. ذلك على الكرامة التي تظهر على يدى الولي، وهذا فرق بين المعجزة الكرامة من ناحية وبين السحر من ناحية أخرى.
(2) حتى يصلوا إلى حال (التمكين) .
(3) آية 53 سورة فصلت.(2/452)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وإنما قال: أدخل يدك فى جيبك ولم يقل كمّك لانه لم يكن لما عليه من اللّباس كمّان.
قوله: «لنريك «1» من آياتنا الكبرى» : الآية الكبرى هى ما كان يجده فى نفسه من الشهود والوجود، وما لا يكون بتكلّف العبد وتصرّفه من فنون الأحوال التي يدركها صاحبها ذوقا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 24]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24)
بعد ما أسمعه كلامه من غير واسطة، وشرّف مقامه، وأجزل إكرامه أمره بالذهاب ليدعو فرعون إلى الله- مع علمه بأنه لا يؤمن ولا يجيب ولا يسمع ولا يعرف- فشقّ على موسى ذهابه إلى فرعون، وسماع جحده منه، بعد ما سمع من الله كلامه سبحانه، ولكنه آثر أمر محنته على مراد نفسه.
ويقال لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون سأل الله أهبة النّقل وما به يتمّ تبليغ ما حمل من الرسالة، ومن ذلك قوله:
[سورة طه (20) : الآيات 25 الى 28]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
ليعلم أنّ من شرط التكليف التّمكّن من أداء المأمور به.
ويقال إنّ موسى لم أخذ فى المخاطبة مع الله كاد لا يسكت من كثرة ما سأله فظل يدعو:
«رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ... » وهكذا إلى آخر الآيات والأسئلة.
قوله «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» : حتى أطيق أن أسمع كلام غيرك بعد ما سمعت منك. «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» : حتى ينطلق بمخاطبة غيرك، وقوّنى حتى أردّ ما أردّ ... بك لا بي قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 29 الى 31]
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ جعلها (لنريه) . [.....](2/453)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
سأل أن يصحب أخاه معه، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» «1» كان بمفرده، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة.
ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ففى ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه، ولمّا كان الذهاب إلى الميقات لم يكن للغير سبيل إلى صحبته، إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصا بحاله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 33 الى 34]
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)
بيّن أنّ طلبه مشاركة أخيه له بحقّ ربه لا بحظّ نفسه حيث قال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 36]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)
أعطيناك ما سألت، وتناسيت ابتداء حالك حين حفظناك فى اليمّ ونجّينا أمّك من ذلك الغمّ، وربّيناك فى حجر العدوّ.. فأين- حينذاك- كان سؤالك واختيارك ودعاؤك «2» ؟
وأثبتنا فى قلب امرأة فرعون شفقتك، وألقينا عليك المحبة حتى أحبك عدوّك، وربّاك حتى قتل بسببك ما لا يحصى من الولدان، والذي بدأك بهذه المنن هو الذي آتاك سؤلك، وحقّق لك مأمولك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 38 الى 39]
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
__________
(1) آية 143 سورة الأعراف.
(2) أي أن فضل الله دائم، وسابق للدعاء، وغير مرتبط بالاختيار الإنسانى ولا بالعمل الإنسانى، وهذه نظرة فى الشمول قلما يفطن إليها غير الصوفية. فأين منهم المعتزلة الذين يوجبون على الله؟! ذلك أحد المرامى البعيدة التي يقصد إليها القشيري.(2/454)
كان ذلك وحي إلهام، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل، ففعلت، فألقاه النهر على الساحل، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون، ولكنها كانت أضعف قلبا، فسبقت بقولها «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ..» «1» ، ولولا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» .
قوله: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» : ربّاه فى حجر العدو، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان.. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليه السلام فإنه تقدّم عليه بسنين ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده.. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار.
ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه- ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر «2» موسى- ولم تكن فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة.. هكذا الحديث والقصة «3» .
ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال: إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل، فقالت امرأته: إنه صبيّ لا تمييز له، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليه السلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه- ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق- فعند ذلك قالت امرأة فرعون: ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له فقد أخذ الجمرة إلى فيه.
وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.
__________
(1) آية 9 سورة القصص.
(2) الظئر. المرضعة لغير ولدها.
(3) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية.(2/455)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق من أخذ الجمرة وهو صبي رضيع، ثم احترق لسانه، فعلم الكلّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعّال لما يريد.
قوله جل ذكره: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي أحببتك. ويقال فى لفظ الناس: فلان ألقى محبته على فلان أي أحبّه. ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي طرحت فى قلوب الناس محبة لك، فالحقّ إذا أحبّ عبدا فكلّ من شاهده أحبّه. ويقال لملاحة فى عينيه فكان لا يراه أحد إلا أحبّه.
ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي أثبتّ فى قلبك محبتى فإن محبه العبد لله لا تكون إلا بإثبات الحق- سبحانه- ذلك فى قلبه، وفى معناه أنشدوا:
إنّ المحبة أمرها عجب ... تلقى عليك وما لها سبب
قوله جل ذكره: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي بمرأى منى ويقال لا أمكّن غيرى بأن يستبعدك عنى.
ويقال أحفظك من كل غير، ومن كلّ حديث سوى حديثنا. ويقال ما وكلنا حفظك إلى أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 40]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
البلاء على حسب قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى «1» ، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمّ موسى ضعيفة فردّ إليها ولدها بعد أيام، وكان يعقوب أقوى فى حاله فلم يعد إليه يوسف إلا بعد سنين طويلة.
قوله جل ذكره: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» رواه الترمذي، وابن ماجه والحاكم عن سعد بن أبى وقاص.(2/456)
أجرى الله عليه ما هو فى صورة كبيرة من قتل النّفس بغير حق، ثم بيّن الله أنه لا يضره ذلك، فليست العبرة بفعل العبد فى قلّته وكثرته إنما العبرة بعناية الحقّ، بشأن أحد أو عداوته.
ويقال قد لا يموت كثير من الخلق بفنون من العذاب، وكم من أناس لا يموتون وقد ضربوا ألوفا من السياط! وصاحب موسى عليه السلام ومقتوله مات بوكزة! إيش «1» الذي أوجب وفاته لولا أنه أراد به فتنة لموسى؟ وفى بعض الكتب أنه- سبحانه- أقام موسى كذا وكذا مقاما، وأسمعه كلامه كل مرة بإسماع آخر، وفى كل مرة كان يقول له:
«وَقَتَلْتَ نَفْساً» .
«فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» : أريناك عين الجمع حتى زال عنك ما داخلك من الغمّ بصفة مقتضى التفرقة، فلمّا أريناك سرّ جريان التقدير نجيّناك من الغم.
قوله جل ذكره: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً.
استخلصناك لنا حتى لا تكون لغيرنا. ويقال جنّسنا عليك البلاء ونوّعناه حتى جرّدناك عن كل اختيار وإرادة، ثم حينئذ رقّيناك إلى ما استوجبته من العلم الذي أهلناك له.
قوله جل ذكره: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.
وكنت عند الناس أنك أجير لشعيب، ولم يظهر لهم ما أودعنا فيك، وكان يكفى- عندهم- أن تكون ختنا «2» لشعيب.
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى.
أي عددنا أيام كونك فى مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرفك ومحبّتك منتظرين لك فجئت على قدر.
__________
(1) أي (أي شىء) وهى لفظة ترد فى مصنفات القشيري من حين إلى آخر. وجاء فى الوسيط ج 1 ص 34 أن العرب تكلمت بها.
(2) أي زوجا لابنته، وفي الحديث «علىّ ختن رسول الله»(2/457)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
ويقال إنّ الأجل إذا جاء للأشياء فلا تأخير فيه ولا تقديم، وأنشدوا فى قريب من هذا المعنى:
بينما خاطر المنى بالتلاقى ... سابح فى فؤاده وفؤادى
جمع الله بيننا فالتقينا ... هكذا بغتة بلا ميعاد
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 41]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
استخلصتك لى حتى لا تصلح لأحد غيرى، ولا يتأتّى شىء منك غير تبليغ رسالتى، وما هو مرادى منك.
ويقال أفردت سرّك لى، وجعلت إقبالك علىّ دون غيرى، وحلت بينك وبين كل أحد ممن هو دونى.
ويقال «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» : قطعه بهذا عن كلّ أحد، ثم قال له: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 43]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43)
تعلّل موسى عليه السلام لمّا أرسله الحقّ إلى فرعون بوجوه من العلل مثل قوله:
«يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» «1» ، «إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» «2» .
إلى غير ذلك من الوجوه، فلم ينفعه ذلك، وقال الله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» ، فاستقل «3» موسى عليه السلام بذلك، وقال: الآن لا أبالى بعد ما أنت معى.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 44]
فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) .
__________
(1) آية 13 سورة القصص.
(2) آية 33 سورة القصص.
(3) الاستقلال هنا معناه الاكتفاء.(2/458)
إنما أمرهما بالملاينة معه فى الخطاب لأنه كان أول من دعوه إلى الدّين، وفى حال الدعوة يجب اللّين «1» فإنه وقت المهلة، فلا بدّ من الإمهال ريثما ينظر «2» قال الله لنبينا صلى الله عليه وسلم: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «3» » : وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا، وكذلك قال: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» «4» .
ثم إذا ظهر من الخصم التمرّد والإباء فحينئذ يقابل بالغلظة والحتف.
ويقال علّمهما خطاب الأكابر ذوى الحشمة ففرعون- وإن كان كافرا- إلا أنه كان سلطان وقته، والمتسلّط على عباد الله.
ويقال إذا كان الأمر فى مخاطبة الأعداء بالرّفق والملاينة.. فكيف مع المؤمن فى السؤال؟
ويقال فى هذا إشارة إلى سهولة سؤال الملكين فى القبر للمؤمن.
ويقال إذا كان رفقه بمن جحده فكيف رفقه بمن وحده؟
ويقال إذا كان رفقه بالكفّار فكيف رفقه بالأبرار؟
ويقال إذا كان رفقه بمن قال: أنا.. فكيف رفقه بمن قال: أنت؟
ويقال إنه «5» أحسن تربية موسى عليه السلام فأراده أن يرفق به اليوم فى الدنيا على جهة المكافأة.
وقيل تفسير هذا ما قال فى آية أخرى «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» «6» .
وقوله: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» : أي كونا على رجاء أن يؤمن. ولم يخبرهما أنه لا يؤمن
__________
(1) وردت (التمكين) وهى خطأ فى النسخ وقد انتبه أحد القراء إلى هذا الخطأ فوضع علامة استفهام صغيرة.
(2) النظر هنا معناها التفكر فى الأمر.
(3) آية 125 سورة النحل. [.....]
(4) آية 46 سورة سبأ.
(5) أي فرعون.
(6) آية 18 سورة النازعات.(2/459)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
لئلا تتداخلهما فترة فى تبليغ الرسالة علما منه «1» بأنه لا يؤمن ولا يقبل.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 45]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
فى الآية دليل على أنّ الخوف «2» الذي تقتضيه جبلة الإنسان غير ملوم صاحبه عليه، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما السلام: «إِنَّنا نَخافُ» .
ثم إنّه سبحانه سكّن ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما.
ويقال لم يخافا على نفسيهما شفقة عليهما، ولكن قالا: إننا نخاف أن تحل بنا مكيدة من جهته، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيام بأمرك، فكان ذلك الخوف لأجل حقّ الله لا لأجل حظوظ أنفسهما.
ويقال لم يخافا من فرعون، ولكن خافا من تسليط الله إياه عليهما، ولكنهما تأدّبا فى الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 46]
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
تلطّف فى استجلاب هذا القول من الحق سبحانه، وهو قوله: «إِنَّنِي مَعَكُما» بقولهما:
«إِنَّنا نَخافُ» ، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما: «إِنَّنِي مَعَكُما» وإلا فأنّى بالخوف لمن هو مخصوص بالنبوّة؟! ويقال سكّن فيهما الخوف بقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما» ، فقويا على الذهاب إليه إذ من شرط التكليف التمكين.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 47]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47)
__________
(1) وردت (منهم) وهى خطأ فى النسخ لأن المقصود: مع انه سبحانه عليم بانه لن يؤمن ولن يقبل.
(2) فى هذه الإشارة توضيح هام لاصطلاح (الخوف) .(2/460)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
طال البلاء ببني إسرائيل من جهة فرعون، فتدراكهم الحقّ سبحانه ولو بعد حين، بذلك أجرى سنّته أنه يرخى عنان الظالم، ولكن إذا أخذه فإنّ أخذه أليم.
قوله جل ذكره: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ من شرط التكليف التمكين بالبيّنة والآية للرسول حتى يتّضّح ما يدلّ على صدقه فيما يدعو إليه من النبوة. ثم إن تلك الآية وتلك البيّنة ما نفعتهم، وإنما تأكدت بهما عليهم الحجّة فإذا عمى بصر القلب فأنّى تنفع بصيرة الحجة؟ وفى معناه قالوا:
وفى نظر الصادي إلى الماء حسرة ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد
قوله جل ذكره: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إنما يتّبع الهدى من كحلّ قلبه بنور العرفان، فأما من كانت على قلبه غشاوة الجهل..
فمتى يستمع إلى الهدى؟
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 48 الى 50]
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)
ما بعث الله نبيا إلّا وقد نذر قومه بالعذاب على ترك الأمر، وبشّرهم بالثواب على حفظ الأمر. والعذاب معجّل ومؤجّل فمؤجّله لا يوقف على تفصيله الأعداء، وكذلك مؤجّل الثواب، قال تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «1» .
وأما معجّل العقوبة فأنواع، وعلى حسب مقام المرء تتوجّه عليه المطالبات، والزيادة فى العقوبة تدلّ على زيادة استحقاق الرّتبة كالحرّ والعبد فى الحدّ. وقسوة القلب نوع عقوبة، وما يتداخل الطاعة نوع عقوبة، وخسران نصيب فى المال والأنفس نوع عقوبة..
إلى غير ذلك.
قوله جل ذكره: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.
__________
(1) آية 17 سورة السجدة.(2/461)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
«فَمَنْ رَبُّكُما» على التثنية، ثم قال: «يا مُوسى» فأفرده بالخطاب بعد ما قال: «فَمَنْ رَبُّكُما؟» . فيحتمل أن ذلك لمشاكلة رءوس الآي، ويحتمل أن موسى كان مقدّما على هارون فخصّه بالنداء.
وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فعله- سبحانه فقال: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» ليعلم أنّ الدليل على إثباته- سبحانه- ما دلّت عليه أفعاله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 51 الى 52]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52)
لا يمكننى أن أخبركم إلا بما أخبرنى به ربى، فما عرّفنى عرّفت، وما ستره علىّ وقفت.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 53]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
جعل الأرض مستقرا لأبدانهم، وجعل أبدانهم مستقرا لعبادته، وقلوبهم مستقرا لمعرفته «1» ، وأرواحهم مستقرا لمحبته، وأسرارهم مستقرا لمشاهدته.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 54]
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)
هيّأ لهم أسباب المعيشة، وكما انظر إليهم ورزقهم رزق دوابّهم التي ينتفعون بها،
__________
(1) وردت (وأرواحهم مستقرا لعبادته) والصواب ان تكون (وقلوبهم مستقرا لمعرفته) حسبما نعرف من مذهب القشيري فى ترتيب الملكات الباطنية (انظر بحثنا فى الدكتوراه عن الإمام القشيري وتصوفه) ط مؤسسة الحلبي.(2/462)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
وأمرهم أن يتقووا بما تصل إليه أيديهم، وأن ينتفعوا- ما أمكنهم- بأنعامهم ليكمل لديهم إنعامهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 55]
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
إذ خلقنا آدم من التراب، وإذ أخرجناكم من صلبه.. فقد خلقناكم من التراب أيضا.
والأجساد قوالب والأرواح ودائع، والقوالب نسبتها التّربة «1» ، والودائع صفتها القربة «2» ، فالقوالب يزيّنها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله. وللقوالب اليوم اعتكاف على بساط عبادته، وللودائع اتصاف بدوام معرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 56]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)
أمره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بسره، فما نجع فيه كلامه، وما انتفع بما حذّره من انتقامه، ويسر له من إنعامه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 57 الى 58]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58)
دعاهم موسى إلى الله، وخاطبهم فى حديث الآخرة من تبشير بثواب، وإنذار بعذاب، فلم يجيبوا إلّا من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيرا إلا ازدادوا غفلة وجهاله.
__________
(1) ، (2) وردتا (البرية) و (القوية) ولم نجد للجملتين معنى على ذلك- فى حدود ما نعرف- بينما لو صارت النسبة إلى (التربة) كما تشير الآية وكما يشير كلام المصنف فى بداية الفقرة، ثم لو جعلنا (القرية) بدل (القوية) لا نسجم السياق، ونحن فى هذا لا نصدر إلا عن استخدام القشيري لهذا الأسلوب فى مواضع مماثلة- والله اعلم.(2/463)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
كذلك صفة من وسمه الحقّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بمال يقال إيمان، ولا يتأسّف على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده.
قوله: «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ..» تأهّبوا لمناصبة الحقيقة وتشمّروا للمخالفة، فقصمتهم المشيئة وكبستهم القدرة، وكما قيل:
استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 59]
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
فكان فى ذلك اليوم افتضاحهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 60]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)
كان فرعون فكيد له، وأراد فارتدّ إليه، ودعا للاستعداد فأذلّ وإذ يقال بأس.
ولم يدع موسى شيئا من الوعظ والرّفق، ولم يغادر فرعون شيئا من البله والحمق، ولكن:
[سورة طه (20) : الآيات 61 الى 62]
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62)
اعلموا أنه لا طاقة لأحد مع الله- سبحانه- إذا عذّبه، فحملوا مقالته على الإفك، ورموا معجزته بالسحر فقالوا:
[سورة طه (20) : الآيات 63 الى 65]
قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65)
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى شاهد شعرى سبق وروده:
من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان
ويهدف إلى أن يثبت ان تزين الظاهر لا جدوى منه فى الحقيقة.(2/464)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
هما فى دعواهما كاذبان يقصدان إلى إخراجكم من بلدكم، والتشويش عليكم فى معتقدكم.
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أظهروا من أنفسهم التجلّد ظنّا بأنّ النصرة لهم، وإخلادا إلى ما كان السّحرة يسوّلون لهم، فخيّروا موسى فى الابتداء بناء على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى:
[سورة طه (20) : الآيات 66 الى 71]
قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)(2/465)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذنا لهم فى السحر، ولكن أراد الحقّ إظهار تمويههم، فلمّا خيّلوا للناس بإلقاء الحبال أنها حيات ابتلعت عصا موسى جملة ما صنعوا، وتحقّق السّحرة أنّ ذلك أمر سماوىّ حيث تلاشى عين ما كان معهم من أوقار «1» الحبال، وصار الثعبان عصا كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعون وقومه خائبين، وتوعّدهم بالقتل والصّلب، وفنون من العذاب الصعب، وبعد ما كانوا يقسمون بعزّة فرعون صاروا يحلفون بالله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 72]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72)
أي بالله الذي فطرنا إنّا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات. ولما طلعت فى أسرارهم شموس العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقّ سبحانه بأسرارهم فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء «2» ، فكانوا فى الغداة كفارا سحرة، وأمسوا أخيارا بررة «3» .
قوله «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ... » علموا أنّ البلاء فى الدنيا ينقضى- وإن تمادى، وينتهى وإن تناهى «4» قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 73]
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73)
أهمّ الأشياء- على من عرفه- مغفرته لخطاياه فهذا آدم- عليه السلام- لما
__________
(1) الأوقار جمع وقر- الحمل الثقيل.
(2) اللأواء- ضيق المعيشة وشدة المرض (الوسيط) .
(3) فى هذه الإشارة فتح الباب الأمل امام العصاة نظرا لقصر المسافة بين الكفر والايمان، فهى كما بين الغداة والمساء.
(4) أي وإن تناهى فى الشدة.(2/466)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
استكشف «1» من حاله، وحلّ به ما حلّ قال: َبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ... »
«2» وقال لنبينا- صلى الله عليه وسلم- «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» «3» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة» «4» . ومنّ عليه بقوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «5» قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحر منفلقا والطريق فيه يبسا عيّر قومه بتلبيسه فقال: «إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربّكم الأعلى!» وحصل- كما فى القصة- من دخوله بعسكره البحر حتى دخل آخرهم، وهمّ أن يخرج أوّلهم، فأمر الله البحر حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأس «6» ، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصراره، وقد أدركته الشقاوة التي سبقت له من التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 80]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80)
__________
(1) يقصد القشيري حين (بدت لهما سوآتهما وانكشفت) وربما كانت فى الأصل (استنكف) اى خجل مما فعل فهى قريبة فى الكتابة وملائمة السياق. [.....]
(2) آية 16 سورة القصص
(3) آية 55 سورة غافر.
(4) عن أغر مزينة رضى الله عنه قال: قال رسول الله: إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله تعالى فى اليوم والليل مائة مرة. أخرجه مسلم وأبو داود.
(5) آية 2 سورة الفتح.
(6) ربما كانت (البأس) بالباء فهى ملائمة للسياق.(2/467)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
يذكّرهم آلاءه، ويعدّ عليهم نعماءه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لما أسبغ عليهم من فنون النّعم، ثم يذكرهم ما منّ به على أسلافهم من إنزال المنّ والسلوى، وضروب المحن وفنون البلوى.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 81]
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
الطيب ما كان حلالا. ويقال الطيب من الرزق ما لا يعصى الله مكتسبه. ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق. ويقال الطيب من الرزق ما حصل منه الشكر. ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبد من الله فما لأهل الجنة مؤجّل فى عقباهم جهرا، معجّل لأصفيائه فى دنياهم سرّا، قال تعالى: «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ «1» » .
والأرزاق مختلفة فلأقوام حظوظ النفوس ولآخرين حقوق القلوب، ولأقوام شهود الأسرار فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق «2» .
قوله: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» : بمجاوزة الحلال إلى الحرام.
ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالزيادة على الكفاف «3» ، وما لا بدّ منه مما زاد على سدّ الرمق.
ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالأكل على الغفلة والنسيان.
قوله جل ذكره: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى.
فيحل عليكم غضبى بالخذلان لمتابعة الزّلّة بعد الزّلّة.
ويقال فيحل عليكم غضبى لفقدكم التأسّف على ما فاتكم.
ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال.
__________
(1) آية 16 سورة الذاريات.
(2) نضع ذلك فى اعتبارنا عند بحث الملكات الباطنية، ووظائفها وآفاتها ... وأرزاقها.
(3) الكفاف من الرزق ما كان على مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان.(2/468)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 82]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
الغفّار كثير المغفرة فمنك التوبة عن زلّة واحدة ومنه المغفرة لذنوب كثيرة، ومنه السّرّية التي لا اطلاع لأحد غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع. وهو يغفر لمن عمل مثل عملك، وهو يغفر لمن قلبك مريد له بالخير والنعمة، وكما قالوا.
إنى- على جفواتها- فبربّها ... وبكل متّصل بها متوسّل
وأحبّها وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحبّ أهل المنزل
قوله «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ» : فلا تصحّ التوبة إلا لمن يكون مؤمنا.
وقوله هنا: «وَآمَنَ» : أي آمن فى المآل كما هو مؤمن فى الحال.
ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاته برحمته.
ويقال «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ» : من الزّلّة «وَآمَنَ» : فلم ير أعماله من نفسه، وآمن بأن جميع الحوادث من الحقّ- سبحانه- «وَعَمِلَ صالِحاً» : فلم يخلّ بالفرائض ثم اهتدى للسّنّة والجماعة «1» .
ويقال «ثُمَّ» : للتراخى أي آمن فى الحال «ثُمَّ» اهتدى فى المآل.
ويقال من سمع منه «وَإِنِّي» لا يقول بعد ذلك: «إِنِّي» «2» ويقال من شغله سماع قوله: «وَإِنِّي» استهلك فى استيلاء ما غلب عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت «لَغَفَّارٌ» صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتنى بشأنه.
ويقال «إِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة لمن تاب مرة فيغفر له أنواعا من ذنوبه التي لم يتب منها سرّها وجهرها، صغيرها وكبيرها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر. ولا ينبغى أن يقول:
__________
(1) واضح حرص القشيري السنى على التمسك بسنيته- وهذا أصل ثابت فى مذهبه سواء فى علم الكلام أو فى علم التصوف.
(2) فالتوحيد الصادق إسقاط الياءات ونفى كل دعوى للنفس.(2/469)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
عملت «عملا صالِحاً» : بل يلاحظ عمله بعين الاستصغار، وحالته بغير الاستقرار.
وقوله «ثُمَّ اهْتَدى» : أي اهتدى إلينا بنا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 83]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83)
أخرجهم مع نفسه لمّا استصحبهم، ثم تقدّمهم «1» بخطوات فتأخروا عنه، فقيل له فى ذلك مراعاة لحقّ صحبتهم.
ويقال قوم يعاتبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم.. فشتان ماهما! قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 84]
قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84)
أي عجلت إليك شوقا إليك، فاستخرج منه هذا الخطاب، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به موسى «2» .
قوله «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي..» أي ما خلّفتهم لتصييعى أيامى، ولكنى عجلت إليك لترضى. قال: يا موسى إنّ رضائى فى أن تكون معهم وألّا تسبقهم، فكونك مع الضعفاء الذين استصحبتهم- فى معانى حصول رضائى- أبلغ من تقدّمك عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 85]
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
فتنّا قومك فضلّوا وعبدوا العجل فأخبر الحقّ- سبحانه- أنّ ذلك منه تقدير، وفى هذا تكذيب لمن جحد القول بالقدر.
ويقال طلب موسى- عليه السلام- رضاء الحق، وقدّر الحقّ- سبحانه- فتنة.
قومه فقال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» ، ثم الحكم لله و، لم يكن بد لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء الله- فلا اعتراض على الله- ومن العلم بحقّ الله فى أن يفعل ما يشاء، وأنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد
__________
(1) حين ذهب لميقات ربه.
(2) وإلا كان دعوى من النفس. ويفيدنا هذا الرأى في قضية الإفصاح والكتمان.(2/470)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
قوله جل ذكره: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وهو نوع من التغرير، وحصل ما حصل، وظهر ما ظهر من ( ... ) «1»
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 86]
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
ورجع نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- من المعراج بنعت البسط، وجاء بالنجوى «2» لأصحابه فيما أوجب الله عليهم من الصلاة، وأكرمهم به من القربة بالزلفة.. فشتان ماهما! ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف، وخاطبهم ببيان العتاب:
قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ظنوا بنبيّهم ظنّ السّوء فى خلفه الوعد، فلحقهم شؤم ذلك حتى زاغوا عن العهد، وأشركوا فى العقد.. وكذلك يكون الأمر إذا لم يف المرء بعقده، فإنه ينخرط فى هذا السّلك قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 87]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
قالوا لم نكن فى ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حصل منّا، ولا عالمين بما آلت إليه عاقبة
__________
(1) مشتبهة، وهى قريبة فى الخط من (التعدية) وربما كانت صحيحة بمعنى التعدي لأنهم تركوا عبادة الله إلى عبادة العجل فظلموا أنفسهم وتجاوزوا حدودهم.
(2) ربما كانت (بالنجاة) حيث تتضح المقابلة بين أمة عاد إليها نبيها من عند ربه (بالنجاة) وأمة عاد إليها نبيها منذرا بالعقوبة ومع ذلك فقد قبلنا (النجوى) على أساس أنها جوهر الصلاة. [.....](2/471)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
حالنا، وإن الذي حملنا من حلّى القبط صاغ السامرىّ منه العجل.. وكذلك الحرام من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره. فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراما عليهم، فاستعاروا الحلىّ من القبط، وآل إليهم ما كان فى أيديهم من الملك، فكان سبب عبادتهم العجل.. كذلك من انهمك فى طلب الدنيا من غير وجه حلال يكون على خطر من رقّة دينه، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 88 الى 89]
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
يقال إنهم لمّا مرّوا على قوم يعبدون أصناما لهم قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان ميلهم إلى عبادته مستكنّا فى قلوبهم، فصاغ السامرىّ العجل على تلك الصورة. وفى هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنّت فى القلب فما لم ينقش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يخشى أن يلقى صاحبه ( ... ) «2» .
ويقال إن موسى- عليه السلام- خرج من بين أمته أربعين يوما فرضى قومه بعبادة العجل، ونبيّنا- عليه السلام- خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذكر واحد عند من أخلص من أمته فى التوحيد حديثا فى التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرة ليس له منها مخلص «3» .
كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدّلوه تبديلا، بينما ضمن الحقّ- سبحانه- إعزاز هذا الكتاب بقوله: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «4» .
__________
(1) آية 23 سورة الجاثية.
(2) مشتبهة وهى فى الرسم تقرب من (نعيبه) والنعيب صوت الغراب.. فهل يقصد القشيري- ما ذكره منذ قليل- أن صاحبه يلقى شؤم أثر ذلك؟ أم أن اللفظة فى الأصل غير ذلك؟ ربما كانت (نحبه) أو (نعيه) أو (مغبته) .
(3) لأن المشبهة يدنون بتصوراتهم المادية عن الألوهية من عيدة العجل.
(4) آية سورة الحجر.(2/472)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
وقال: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «1» .
قوله: «أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ... » بيّن أنّ من لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة، وفيه رد على من لم يثبت له فى الأزل القول، ولم يصفه بالقدرة على الخير والشر:
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 90]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة فى هذا أن من لم يحفظ أمر من هو أعلى رتبة كيف يحفظ أمر من هو أدنى منزلة؟ فمن ترك أمر الحقّ.. كيف يطمع فيه أن يحترم الشيوخ وأكل الناس؟ لهذا قيل: لا حرمة لفاسق لأنه إذا ترك حقّ الحقّ فمتى يحفظ حقّ الخلق؟
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 91]
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
كان ذلك تعلّلا منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على ترك عبادة العجل إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة غير الله.. ولكن كلّ متعلّل يستند إلى ما يحتج به من الباطل.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 92 الى 93]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
ضاق قلب موسى- عليه السلام- لمّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل، ولقد كان سمع من الله أنّ السامرىّ أضلّهم حين قال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ» ، ولكن قديما قيل: ليس الخبر كالعيان، فلمّا عاين ذلك ضاق قلبه، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر «2» ،
__________
(1) آية 28 سورة الفتح.
(2) إشارة إلى أنه أخذ بشعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله غضبا، وغيرة فى الله.(2/473)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
وقيل: من ضاق قلبه اتسع لسانه. ولما ظهر لموسى- عليه السلام- ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المداراة.. وكذلك الواجب فى الصحبة لئلا يرتقى الأمر إلى الوحشة، فاستلطفه فى الخطاب واستعطفه بقوله:
[سورة طه (20) : آية 94]
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
أنت أمرتنى ألّا أفارقهم. وقد يقال إن هارون لو قال لموسى: فى الوقت الذي احتجت أن تمضى إلى فرعون قلت: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» ، وقلت: «فَأَرْسِلْهُ مَعِي» ، وقلت حين مضيت إلى سماع كلام الحق: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» .. فما اكتفيت بأن لم تستصحبنى.. وخلّفتنى! وقد علمت أنى برىء الساحة مما فعلوا فأخذت بلحيتي وبرأسى.. ألم ترض بما أنا فيه حتى تزيدنى حريا على حرى «1» ؟! ... لو قال ذلك لكان موضعه، ولكن لحلمه، ولعلمه- بأنّ ذلك كلّه حكم ربّهم- فقد قابل كلّ شىء بالرضا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 95]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95)
سأل موسى كلّ واحد منهم بنوع آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتغيّره فى نفسه، واستيلاء الغضب عليه- لم يغيّر التقدير، ولم يؤخّر المحكوم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 96]
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيت جبريل، فقبضت التراب من موضع حافر
__________
(1) الحرى- الغضب (الوسيط ج 1 ص 169)(2/474)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
دابته، وألقى فى روعى أن ذلك سبب حياة العجل فطرحتها فى جوفه.. هكذا زيّنت لى نفسى فاتّبعت هواها.
ثم كان هلاكه.. لئلا يأمن أحد حفىّ مكر التقدير، ولا يركن إلى ما فى الصورة من رفق فلعلّه- فى الحقيقة- يكون مكرا، ولقد أنشدوا:
فأمنته فأتاح لى من مأمني ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 97]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
لم يخف على موسى- عليه السلام- تأثير التقدير وانفراد الحقّ بالإبداع، فلقد قال فى خطابه مع الحق: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» ، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبة بالسامري والأمر فى بابه بما يستوجبه ليعلم أن الحكم فى الإبداع والإيجاد- وإن كان لله- فالمعاتبة والمطالبة تتوجهان على الخلق فى مقتضى التكليف، وإجراء الحقّ ما يجريه ليس حجّة للعبد ولا عذرا له.
قوله جل ذكره: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً كلّ ما تعلّق به القلب من دون الله ينسفه الحقّ- سبحانه بمحبّه «1» ولهذا يلقى الأصنام غدا فى النار مع الكفار، وليس لها جرم، ولا عليها تكليف، ولا لها علم ولا خبر.. وإنما هى جمادات.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 98]
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
إي إلهكم الذي تجب عليكم عبادته بحقّ أمره هو الله الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شىء من المعلومات هو الله، وليس مثل الذي هو جماد لا يعلم
__________
(1) الباء هنا معناها (مع) .(2/475)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
ولا يقدر، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر. ويمكنه أن يسحق هذا الجماد ويحرقه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 99]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99)
نعرّفك أحوال الأولين والآخرين لئلا يلتبس عليك شىء من طرقهم فتتأدب بآدابهم وتجتمع فيك متفرّقات مناقبهم.. ولكن اعلم أنّا لم نبلغ أحدا مبلغك، ولم يكن لأحد منّا مالك آتيناك من عندنا شرفا وفخرا لم يشركك فيهما أحد، وذكّرناك ما سلف لك من العهد معنا، وجدّدنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريم إقبالنا عليك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 100]
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100)
المعرضون عنه شركا يحملون غدا وزرا وثقلا، أولئك بعدوا عن محلّ الخصوصية، ولم يكن لهم خطر فى التحقيق فعقوبتهم لا تزيد على آلام نفوسهم وإحراق أشباحهم، وأمّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعة، ونسوه لحظة لدار- فى الحال- على رؤوسهم البلا بحيث تتلاشى فى جهنّم عقوبة كلّ أحد (بالإضافة إلى هذه العقوبة) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 102 الى 103]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
قوم يوم القيامة لهم مؤجّل، وهو بعد النفخ فى الصّور على ما ورد فى الكتاب وفى الخبر المأثور.
__________
(1) ما بين القوسين أضفناه من عندنا ليتضح المعنى المطلوب حسبما نعرف من مذهب الصوفية أن عذاب الفراق أشد من عذاب الاحتراق.(2/476)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
وللآخرين قيامة معجّلة «1» فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهو ان حاضر وعذاب حاصل، فكما ترد على ظواهر قوم فى الآخرة عقوبات، ترد على سرائر آخرين عقوبات فى الحياة الحاضرة، والمعاملة مع كلّ أحد تخالف المعاملة مع صاحبه.
قوله «يتخافتون بينهم ... » من تفرّغ لعدّ الأوقات والتمييز بين اختلاف الحالات فنوع غير مستوف فى بلائه، وأمره سهل ... ومن كان يراد المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال فالأحوال تخبر عنه وهو لا يسأل عن الخبر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 107]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107)
كما أنّ فى القيامة الموعودة تغيّر الجبال عن أحوالها فهى كالعهن المنفوش فكذلك فى القيامة الموجودة ... فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسى ثباتا فإنه يدخل عليهم من الأحوال ما يمحقهم عن شواهدهم، ويأخذهم عن أقرانهم ... كذا سنّته سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 108]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، وتنخنس العقول، وتندرس العلوم، وتتحير المعارف، ويتلاشى ما هو نعت الخلق، ويستولى سلطان الحقيقة.. فعند ذلك لا عين ولا أثر، ولا رسم ولا طلل ولا غبر، فى الحضور خرس، وعلى البساط فناء، وللرسوم امتحاء، وإنما الصحة على الثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 109] «2»
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
__________
(1) أي القيامة التي تحل بأرباب القلوب فى هذه الحياة الدنيا.
(2) لأنه يكون فانيا عن نفسه، والقائم عنه ربّه.(2/477)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
دليل الخطاب انّ من أذن له فى الشفاعة تنفعه الشفاعة، وإذا قبلت شفاعة أحد بإذن الرحمن فمن المحال ألّا تقبل شفاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الكافة، وشفاعة الأكابر من صفوته مقبولة فى الأصاغر في المؤجّل وفى المعجّل. والحقّ سبحانه يشفّع الشيوخ فى مريديهم اليوم «1» ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غدا للمطيعين بزيادة الدرجة، وللعاصين بغفران الزّلّة، كذلك شفاعة الشيوخ- اليوم- للمريدين على قسمين: للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق، وللذين هم أصحاب التّخبّط والغرّة فبالتجاوز عنهم، وعلى هذا يحمل قول قائلهم:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر!
وحكايات السّلف من الشيوخ مع مريديهم فى أوقات فترتهم معروفة، وهى مشاكلة لهذه الجملة، وإن شفاعتهم لا تكون إلا بتعريف من قبل الله فى الباطن، ويكون ذلك أدبا لهم فى ذلك قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 110]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)
لا يخفى على الحق شىء مما مضى من أحوالهم ولا من آتيها، ولا يحيطون به علما.
والكناية «2» فى قوله: «بِهِ» يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يعود إلى الحقّ- سبحانه-، وهو طريقة السّلف يقولون. يعلم الخلق ولا يحيط به العلم كما قالوا: إنه يرى ولا يدرك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 111]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) .
__________
(1) بينما ينكر المعتزلة الشفاعة (أنظر الملل والنحل للشهرستانى) يثبت القشيري الشفاعة لا للرسول فقط بل للأولياء فى الدارين، وللشيوخ في هذه الحياة الدنيا.. على نحو ما هو واضح من إشارته.
(2) الكناية فى تعبير القشيري معناها (الضمير) ، وهو هنا الهاء فى (به) .(2/478)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
ذلّت له الرقاب واستسلم لحكمه الخلق، وخضعت له الجبابرة، ومن اقترف الظلم بقي فى ظلماته، وعلى حسب ذلك فى الزيادة والنقصان.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 112]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
العمل الصالح ما يصلح للقبول، فاعله هو المتجرّد عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر.
ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبه أجرا.
قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما هو مؤمن فى الحال.
ويقال هو مؤمن مصدّق لربّه أنه لا يعطى المؤمن لأجل إيمانه شيئا، ولكن بفضله، وإيمانه أمارة لذلك لا موجب له «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 113]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
أتبعنا دليلا بعد دليل، وبعثنا رسولا بعد رسول، وحذّرناهم بوجوه من التعريفات، وإظهار كثير من الآيات قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 114]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
تعالى الله فى كبريائه وكبرياؤه: سناؤه وعلاه ومجده، ورفعته وعظمته، كل ذلك بمعنى واحد، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم.
و «الْمَلِكُ» : مبالغة من المالك، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد، والانفراد بذلك.
و «الْحَقُّ» : فى وصفه- سبحانه- بمعنى الموجود، ومنه قوله عليه السلام:
«العين حق» «2» أي موجود.
__________
(1) على خلاف قول المعتزلة الذين يوجبون على الله أن يثبت من أطاع ويعاقب من أذنب. [.....]
(2) يقول القشيري فى تحبيره ص 68 «الحق من أسمائه سبحانه بمعنى الموجود الكائن، وكذا معناه فى اللغة، ومنه قوله عليه السلام: «السحر حق» أي كائن موجود، وكذا يقال الجنة حق، والنار حق.(2/479)
ويكون الحق بمعنى ذى الحقّ، ويكون بمعنى محقّ الحق. كل ذلك صحيح.
قوله جل ذكره: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافة النسيان، فأمره بالتثبت فى التلقين، وأمّنه من طوارق النسيان، وعرّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو الله.
والآية تشير إلى طرف من الاحتياط فى القضاء بالظواهر قبل عرضها على الأصول، ثم إن لم يوجد ما يوجب بالتحقيق أجراه على مقتضى العموم بحقّ اللفظ، بخلاف قول أهل التوقف.
فالآية تشير إلى التثبت فى الأمور وضرورة التمكث واللبث قصدا للاحتياط «1» .
قوله: (وقل ربّ زدنى علما) : فإذا كان أعلم البشر، وسيّد العرب والعجم، ومن شهد له الحقّ بخصائص العلم حين قال «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
«2» يقال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» - علم أنّ ما يخصّ به الحقّ أولياءه من لطائف العلوم لا حصر له.
ويقال أحاله على نفسه «3» فى استزادة العلم. وموسى عليه السلام أحاله على الخضر حتى قال له: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» فشتان بين عبد أحيل على عبد فى ذلك ثم قيل له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ثم بعد كل ذلك التلطف قال له فى آخر الأمر:
«هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» ... وبين عبد أمره عند استزادة العلم بأن يطلبه من قبل ربه فقال: قل يا محمد: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ! ويقال لما قال عليه السلام: «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» «4» ، قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ليعلم أنّ أشرف خصال العبد الوقوف فى محلّ الافتقار، والاتصاف بنعت الدعاء دون الوقوف فى معرض الدعوى «5» .
__________
(1) هذا يوضح مدى تحفظ المصنف واحتياطه في تناول النص النقلى.
(2) آية 113 سورة النساء.
(3) (على نفسه) الضمير هنا يعود على الحق سبحانه كما سيتضح بعد قليل.
(4) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم الله وأتقاكم له) .
والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
(5) أي أن يكون العبد داعيا لا دعيا.(2/480)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 115]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)
لم نجد له قوة بالكمال، وانكماشا فى مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سمة العصيان بقوله:
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» «1» .
ويقال «لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» : على الإصرار على المخالفة.
ويقال لم نجد له عزما فى القصد على الخلاف «2» ، وإن كان.. فذلك بمقتضى النسيان، قال تعالى «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» على خلاف الأمر، وإن كان منه اتباع لبعض مطالبات الأمر.
ويقال شرح قصة آدم- عليه السلام- لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله فإن آدم عليه السلام وقع عليه هذا الرقم، واستقبلته هذه الخطيئة، وقوله تعالى «فَنَسِيَ» من النسيان، ولم يكن فى وقته النسيان مرفوعا عن الناس.
ويقال عاتبه بقوله: «فَنَسِيَ» ثم أظهر عذره فقال: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 116]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116)
السجود نوع من التواضع وإكبار القدر، ولم تتقدم «3» [من آدم عليه السلام طاعة- ولا عبادة فخلقه الحقّ بيده، ورفع شأنه بعد ما علّمه، وحمل إلى الجنة، وأمر الملائكة فى كل سماء أن يسجدوا له تكريما له على الابتلاء، واختبارا لهم. فسجدوا بأجمعهم، وامتنع إبليس من بينهم، فلقى من الهوان ما سبق له فى حكم التقدير. والعجب ممن يخفى عليه أنّ مثل هذا يجرى من دون إرادة الحقّ ومشيئته وهو عالم بأنه كذلك يجرى، واعتبروا الحكمة فى أفعاله وأحكامه، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته، وكثرة مخالفات
__________
(1) آية 121 من السورة نفسها.
(2) الخلاف- المخالفة.
(3) ابتداء من هذا الموضع وحتى ينتهى الكلام بين القوسين الكبيرين وضعه الناسخ خطأ فيما بين الورقة 418 والورقة 422 عند تفسير سورة الفرقان أي فى مكان متأخر كثيرا وقد سمعنا وضعه، ونبهنا إلى ذلك فى مدخل هذا الكتاب (المجلد الأول) .(2/481)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
أولاد آدم، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم ... ثم يقولون إن الحقّ سبحانه أراد خلاف ما علم، وأجرى فى سلطانه ما يكرهه وهو عالم، وكان عالما بما سيكون! ثم خلق إبليس ومكّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك! ويدّعون حسن ذلك فى الفعل اعتبارا انما هو الحكمة ... فسبحان من أعمى بصائرهم، وعمّى حقيقة التوحيد عليهم! قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 117]
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)
وما كان ينفعهم النّصح وقد أراد بهم ما حذّرهم، وعلم أنهم سيلقون ما خوّفهم به.
قوله: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» : علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء: وأمّا إنّه أضاف الشقاء إلى آدم وحده- وكلاهما لحقه شقاء الدنيا- فذلك لمضارعة رءوس الآي، أو لأن التعب على الرجال دون النساء. ومن أصغى إلى قول عدوّه فإنه يتجرّع النّدم ثم لا ينفعه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
لا تصديق أتمّ من تصديق آدم، ولا وعظ أشدّ رحمة من الله، ولا يقين أقوى من يقينه.. ولكن ما قاسى آدم الشقاء قبل ذلك، فلمّا استقبله الأمر وذاق ما خوّف به من العناء والكدّ ندم وأطال البكاء، ولكن بعد إبرام التقدير.
«وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» أوثر بكل وجه فلم يعرف قدر العافية والسلامة، إلى أن جرى ما هو محكوم به من سابق القسمة.
ويقال تنعّم آدم فى الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى فى الدنيا عليه الجوع والعطش، والبلاء من كل ( ... ) «1»
__________
(1) هنا طمس أخفى لفظة فى نهاية السطر وهى أقرب إلى أن تكون (فن) ونحن نتقبلها، فالقشيرى يستعملها فى مواضع مماثلة (أنظر مثلا استعماله (فنون الخذلان) عند تفسير الآية التي ستأتى بعد قليل: ومن اعرض عن ذكرى ... ) ، و (فن) تكون بمعنى (نوع) كما سيأتى فى العبارة التالية.(2/482)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
وكان آدم عليه السلام إذا تجدّد له نوع من البلاء أخذ فى البكاء، وجبريل عليه السلام يأتى ويقول: «ربّك يقرئك السلام ويقول: لم تبكى؟ فكان يذكّر جبريل عليه السلام وهو يقول: أهذا الذي قلت: «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ..! وغير هذا من وجوه الضمان والأمن؟! قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 120]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120)
وسوس إليه الشيطان وكان الحقّ يعلم ذلك ولم يذكر آدم فى الحال أن هذا من نزغات من قال له- سبحانه: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ» .
ويقال: لو عمّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها، ولو لم يكن ( ... ) «1»
حتى دلّه على تلك الشجرة (إيش) «2» الذي كان يمنعه منه إلا أنّ الحكم منه بذلك سبق، والإرادة به تعلّقت؟
ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه السلام بعد ذلك فقال له: يا شقىّ، فعلت وصنعت..!
فقال إبليس لآدم: إن كنت شيطانك فمن كان شيطانى «3» ؟
ويقال سمّى الشيطان شيطانا لبعده عن طاعة الله، فكلّ بعيد عن طاعة الله يبعد الناس عن طاعة الله فهو شيطان، ولذلك يقال: شياطين الإنس، وشياطين الإنس شرّ من شياطين الجن.
ويقال لما طمع آدم فى البقاء خالدا وجد الشيطان سبيلا إليه بوسوسته.
والناس تكلموا فى الشجرة: ما كانت؟ والصحيح أن يقال إنها كانت شجرة المحنة.
ويقال لو لم تخلق فى الجنة تلك الشجرة لما كان فى الجنة نقصان فى رتبتها «4»
__________
(1) مشتبهة.
(2) معناها (فأى شىء؟) وهى هنا استفهامية.
(3) فى ذلك تنصل من اللعين أساسه المغالطة والتلبيس.
(4) أي أن الجنة فى عرف هذا المتكلم (مخلوقة) و (حادثة) . [.....](2/483)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ويقال لولا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لتصل إليها يده، ولكنه- كما فى القصة- كانت لا تصل إلى أوراقها يده- بعد ما أكل منها- حينما أراد أن يأخذ منها ليسترد عورته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 121]
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
لمّا ارتكبا المنهىّ عنه ظهر ما يستحي من ظهوره، ولكنّ الله- سبحانه- ألطف معهما فى هذه الحالة بقوله: فبدت لهما سوآتهما، ولم يقل- مطلقا- فبدت سوءتهما أي أنه لم يطلع على سوءتهما غيرهما.
ويقال لمّا تجرّدا عن لباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر.
قوله جل ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أول الحرف والصناعات- على مقتضى هذا- الخياطة، وخياطة الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراث من أبينا آدم- عليه السلام «2» .
ويقال كان آدم- عليه السلام- قد أصبح وعليه من حلل الجنة وفنون اللّباس ما الله به أعلم، ثم لم يمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة، وهكذا كان فى الابتداء ما هو موروث فى أولاده من هناء بعده بلاء.
قوله تعالى: «وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» «3» : عند ذلك وقعت عليهما الخجلة لمّا ورد عليهما خطاب الحقّ: «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ ... » ولهذا قيل: كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء قوله تعالى: «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا..» «4» : لم يتكلما بلسان الحجة فقالا: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» ، ولم يقولا: بظلمنا صرنا من الخاسرين، بل قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»
__________
(1) وفى هذا تحذير ضمنى للأكابر من الوقوع فى الزلة، وكيف أن كرامة الولى تتلاشى بزلته.
(2) لاحظ أهمية ذلك عندما نؤرخ للخرقة والمرقعة عند الصوفية.
(3) آية 22 سورة الأعراف.
(4) آية 23 سورة الأعراف.(2/484)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
ليعلم أنّ المدار على حكم الربّ لا على جرم الخلق.
قوله جل ذكره: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لمّا وقعت عليه سمة العصيان- وهو أوّل البشر- كان فى ذكر هذا تنفيس لأولاده أن تجرى عليهم زلّة وهم بوصف الغيبة فى حين الفترة.
ويقال كانت تلك الأكلة شيئا واحدا، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيان إلى يوم القيامة.
وعصى آدم ربّه ليعلما أن عظم الذنوب لمخالفة الآمر وعظم قدره.. لا لكثرة المخالفة فى نفسها.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 122]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)
أخبر أنه بعد ما عصى، وبعد كلّ ما فعله اجتباه ربّه فالذى اصطفاه أوّلا بلا علّة «1» اجتباه ثانيا بعد الزّلّة، فتاب عليه، وغفر ذنبه، «وَهَدى» : أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 123]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123)
أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية، وقد توالت المحن على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان، ومفارقة الجنة، ودخول الدنيا، وعداوة الشيطان، والابتلاء بالشهوات. ثم قال:
«فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ... » وترك هواه، ولم يعمل بوسوسة العدوّ فله كلّ خير، ولا يلحقه ضير.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : الآيات 124 الى 126]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)
الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك فى الدنيا، وفي القبر،
__________
(1) تفيد هذه العبارة فى بيان أهمية الاصطفاء الإلهى، وأن العمل الإنسانى له الدرجة الثانية فى الأهمية. ثم تفيد فى بيان الفرق فى الاصطلاح بين (الاصطفاء) و (الاجتباء) .(2/485)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
وفى النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقت من حيث انغلاق الأمور.
ويقال من أعرض عن الانخراط فى قصايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان، ومن أعرض عن استدامة ذكره- سبحانه- بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلّ روح.
ومن أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بما يوجب له وحشة الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط.
ويقال من أعرض عن ذكر الله فى الخلوة قيّض الله له فى الظاهر من القرين السوء ما توجب رؤيته له قبض القلوب واستيلاء الوحشة.
قوله جل ذكره: نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
فى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن كان فى الدنيا أعمى القلب يحشر على حالته، ومن يعش على جهل يحشر على جهل، ولذا يقولون: «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «1» إلى أن تصير معارفهم ضرورية.
وكما يتركون- اليوم- التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 127]
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
جرت سنّته بأن يجازى كلا بما يليق بحاله، فما أسلفه لنفسه سيلقى غبّه على الخير خيرا، وعلى الشرّ شرّا.
__________
(1) آية 52 سورة يس.(2/486)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 128]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)
أي أفلا ينظرون فيتفكرون «1» ؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم- فى ميادين غفلاتهم يركضون، وعن سوء معاملاتهم لا يرجعون؟ ألا ساء ما يعملون! قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 129]
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
لولا أنّ كلمة الله سبقت بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وأنه لا يستأصلهم لأنّ جماعة من الأولياء فى أصلابهم لعجّل عقوبتهم، ولكن ... كما ذكر من الأحوال أمهلهم مدة معلومة، ولكنه لم يهملهم أصلا.
وإذا كانت الكلمة بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت، والعلم بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى- فالسعى والجهد، والانكماش والجدّ.. متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضا ما ظهر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 130]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)
سماع الأذى يوجب المشقة، فأزال عنه ما كان لحقه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون، وأمره: إن كان سماع ما يقولون يوحشك فتسبيحنا- الذي تثنى به علينا- يروّحك.
«قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» : أي فى صدر النهار ليبارك لك فى نهارك، وينعم صباحك.
«وَقَبْلَ غُرُوبِها» أي عند نقصان النهار ليطيب ليلك، وينعم رواحك.
__________
(1) (الفاء) هنا حرف عطف لا (فاء) سبب، ولو اعتبرناها سببيه نقول (فيتفكروا) لوقوعها بعد أسلوب طلبى، ولكننا أثبتنا ما جاء فى النص لتكرار ذلك فيما تلاه.(2/487)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
«وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ» أي فى ساعات الليل فإن كمال الصفوة فى ذكر الله فى حال الخلوة.
«وَأَطْرافَ النَّهارِ» أي استدم ذكر الله فى جميع أحوالك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 131]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131)
فضل «1» الرؤية فيما لا يحتاج إليه معلول كفضل الكلام، والذي له عند الله منزل وقدر فللحقّ على جميع أحواله غيرة إذ لا يرضى منه أن يبذل شيئا من حركاته، وسكناته وجميع حالاته فيما ليس لله- سبحانه- فيه رضاء، وفى معناه أنشدوا:
فعينى إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
ويقال لما أدّبه فى ألا ينظر إلى زينة الدنيا بكمال نظره وقف على وجه الأرض بفرد قدم تصاونا عنها حتى قيل له: «طه» أي طأ الأرض بقدمك.. ولم كلّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفرد قدم؟! طأ الأرض بقدميك.
«زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... » الفتنة ما يشغل به عن الحقّ، ويستولى حبّه على القلب، ويجسّر وجوده على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البطر والأشر.
قوله جل ذكره: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى القليل من الحلال- وفيه رضاء الرحمن- خير من الكثير من الحرام والحطام.
ومعه سخطه. ويقال قليل يشهدك ربّك خير من كثير ينسيك ربّك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 132]
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
الصلاة استفتاح باب الرزق، وعليها أحال فى تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه.
ويقال الصلاة رزق القلوب، وفيها شفاؤها، وإذا استأخر قوت النّفس قوى قوت القلب.
وأمر- الرسول- عليه السلام- بأن يأمر أهله بالصلاة، وأن يصطبر عليها.
__________
(1) الفضل هنا معناه الزيادة (وفضل الرؤية) زيادة التطلع إلى أكثر من المباح.(2/488)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
وللاصطبار مزية على الصبر وهو ألّا يجد صاحبه الألم بل يكون محمولا مروّحا.
قوله جل ذكره: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نكلفك برزق أحد فإنّ الرازق الله- سبحانه- دون تأثير الخلق، فنحن نرزقك ونرزق الجميع.
قوله جل ذكره: نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى هما شيئان: وجود الأرزاق وشهود الرزاق فوجود الأرزاق يوجب قوة «1» النفوس، وشهود الرزاق يوجب قوة «2» القلوب.
ويقال استقلال «3» العامة بوجود الأرزاق، واستقلال الخواص بشهود الرزّاق.
ويقال نفى عن وقته الفرق بين أوصاف الرزق حين قال: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» فإنّ من شهد وتحقق بقوله: «نَحْنُ» سقط عنه التمييز بين رزق ورزق.
ويقال خفّف على الفقراء مقاساة قلّة الرزق وتأخّره عن وقت إلى وقت بقوله:
«نَحْنُ» «4» قوله: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» : أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى.
ويقال المراد بالتقوى المتّقى، فقد يسمّى الموصوف بما هو المصدر «5» قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 133]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
عميت بصائرهم وادّعوا أنه لا برهان معه، ولم يكن القصور فى الأدلة بل كان الخلل فى بصائرهم، ولو جمع الله لهم كلّ آية اقترحت على رسول ثم لم يرد الله أن يؤمنوا لما
__________
(1) ، (2) ربما كانا (قوت النفوس، وقوت القلوب) بالتاء المفتوحة فقد سبقا هكذا منذ قليل، وإن كان السياق لا يمنع (قوة النفوس وقوة القلوب) .
(3) (استقلال) هنا بمعنى اكتفاء.
(4) لأن من عاش (نحن) اكتفى بها ولم يستعجل شيئا.
(5) كما يقال مثلا (رجل عدل) ونحو ذلك.(2/489)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
ازدادوا إلا طغيانا وكفرا وخسرانا ... وتلك سنّة أسلافهم فى تكذيب أنبيائهم، ولذا قال:
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 134]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134)
إن أرسلنا إليهم الرسل قابلوهم بفنون من الجحد، ووجوه من العلل مرّة يقولون فما بال هذا الرسول بشر؟ هلّا أرسله ملكا؟ ولو أرسلنا ملكا لقالوا هلّا أرسل إلينا مثلنا بشرا؟ ولو أظهر عليهم آية لقالوا: هذا سحر مفترى! ولو أخليناهم من رسول وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا:
هلّا بعث إلينا رسولا حتى كنا نؤمن؟ فليست تنقطع أغلالهم، ولا تنفك- عما لا يرضى- أحوالهم. وكذلك سبيل من لا يجنح إلى الوصال ولا يرغب فى الوداد، وفى معناه أنشدوا:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... سلّ الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره:
[سورة طه (20) : آية 135]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
الكل واقفون على التجويز غير حاصلين بوثيقة، ينتظرون ما سيبدو فى المستأنف، إلّا أنّ أرباب التفرقة ينتظرون ما سيبدو ممّا يقتضيه حكم الأفلاك، وما الذي توجبه الطبائع والنجوم. والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم فى روح التوحيد، والباقون فى ظلمات الشّرك.(2/490)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
السورة التي يذكر فيها الأنبياء
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
بسم الله اسم عزيز من توسّل إليه بطاعته تفضّل عليه بجميل نعمته إن أطاع فضّله، وإن أضاع أمهله، ثم إن آب وأقر.. ذكره، وإن عصى وعاب ستره، فإن تنصّل رحمه، وإن تكبر قصمه «1» .
اسم عزيز ما استنارت الظواهر إلّا بآثار توفيقه، وما استضاءت السرائر إلا بأنوار تحقيقه بتوفيقه وصل العابدون إلى مجاهدتهم، وبتحقيقه وجد العارفون كمال مشاهدتهم، وبتمام مجاهدتهم وجدوا آجل مثوبتهم، وبدوام مشاهدتهم نالوا عاجل قربتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
فالمطيعون منهم عظم لدينا ثوابهم، والعاصون منهم حقّ منّا عقابهم.
«فِي غَفْلَةٍ» يقال الغفلة على قسمين: غافل عن حسابه باستغراقه فى دنياه وهواه، وغافل عن حسابه لاستهلاكه فى مولاه فالغفلة الأولى سمة الهجر والغفلة الثانية صفة الوصل فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد لفنائهم فى وجود الحق تعالى «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 2]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
:
__________
(1) يمكن القول أن هناك نوعا من الترابط والانسجام بين إشارات البسملة- على هذا النحو- وبين جزئيات السورة، حيث انقسم الناس إزاء الأنبياء إلى مصدق ومكذب، ومؤمن وجاحد.. ونال كل جزاءه.
(2) تهمنا هذه الإشارة عند دراسة المصطلح الصوفي فالغفلة نوعان: مذمومة ومحمودة غفلة ناشئة عن الهجر وغفلة ناشئة عن الوصل. [.....](2/491)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
لم يجدد إليهم رسولا إلا ازدادوا نفورا، ولم ينزّل عليهم خطابا إلا ردّوه جحدا وتكذيبا، وما زدناهم فصلا إلا عدوّه هزلا، وما جددنا لهم نعمة إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة، فكان الذي أكرمناهم به محنة بها بلوناهم.. وهذه صفة من أساء مع الله خلقه، وخسر عند الله حقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 3]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
عميت بصائرهم وغامت أفهامهم، فهم فى غباوة لا يستبصرون، وفى أكنة عمّا أقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون.
قوله: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... » لمّا عجزوا عن معارضته، وسقطوا عند التحدي، وظهرت عليهم حجّته رجّموا فيه الفكر، وقسّموا فيه الظن فمرة نسبوه إلى السحر، ومرة وصفوه بقول الشعر، ومرة رموه بالجنون وفنون من العيوب. وقبل ذلك كانوا يقولون عنه:
هو محمد الأمين، كما قيل:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 4]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
الأقاويل التي يسمعها الحقّ- سبحانه- مختلفة فمن خطاب بعضهم مع بعض، ومن بعضهم مع الحق. والذين يخاطبون الحقّ: فمن سائل يسأل الدنيا، ومن داع يطلب كرائم العقبي، ومن مثن يثنى على الله لا يقصد شيئا من الدنيا والعقبى.
ويقال يسمع أنين المذنبين سرا عن الخلق حذرا أن يفتضحوا، ويسمع مناجاة العابدين بنعت التسبيح إذا تهجدوا، ويسمع شكوى المحبين إذا مسّتهم البرحاء «1» فضجّوا من شدة الاشتياق.
__________
(1) البرحاء: الشدة.(2/492)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
ويقال يسمع خطاب من يناجيه سرّا بسرّ، وكذلك تسبيح من يمدحه ويثنى عليه بلسان سرّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 5]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
نوّعوا ما نسبوا إليه- بعد ما نزّلنا إليه الأمر- من حيث كانوا، ولم يشاهدوا هممه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق فى الحال والمقال، وكما قيل:
رمتنى بدائها وأنسلت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 6]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
أخبر أن الله تعالى أجرى سنّته أن يعذّب من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا فى الحال ولا فى المآل. وإنّ هؤلاء الذين كفروا فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثالهم فى الكفران، وقد حكم الحقّ لهم بالحرمان والخذلان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 7]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)
لمّا قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يرسل إلى الناس رسولا فيما سبق من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بشرا، وذكر أنّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم.
ثم قال: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» : الخطاب للكلّ والمراد منه الأمة، وأهل الذكر العلماء من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم.
ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين فى محل الإعلام من الحقّ- سبحانه- أو من يحسن الإفهام عن الحق.(2/493)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
ويقال العالم يرجع إلى الله فى المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعة فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلدا، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصّ وأدى اجتهاده إلى شىء ولم يخالف أصلا مقطوعا بصحته وجب قبول فتواه، وأمّا الحكيم فإذا تكلم فى المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يفتي به فإن لم تتقدم له من قبله المنازلة فتواه فى هذا الطريق كفتوى المقلّد فى مسائل الشرع.
فأمّا العارف فيجب أن يتكلم فى هذا الطريق عن وجده- إن كان- وإلا فلا تقبل فتواه، ولا تسمع «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 8]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8)
لمّا عيّروا الرسول- عليه السلام- بقولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟. أخبر أن أكل الطعام ليس بقادح فى المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تكنّه القلوب والسرائر من وجوه التعريف.
ويقال النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرّ.
قوله: «وَما كانُوا خالِدِينَ» : أي إنهم على ممر ومعبر، ولا سبيل اليوم لمخلوق إلى الخلد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 9]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
الحقّ- سبحانه- يحقّق وعده وإن تباطأ بتحقيقه الوقت فيما أخبر أنه يكون.
والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدّين، وإرغام من نابذ الحقّ من الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ أهل الشبهة.
__________
(1) فهم هذه الإشارة فى توصية الشيوخ إذا استفتاهم المريدون، كما فهم فى توضيح ما يمكن أن نسميه «أصول الفقه عند الصوفية» .(2/494)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 10]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
يريد بالكتاب القرآن، وقوله: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» : أي شرفكم ومحلّكم، فمن استبصر بما فيه من النور سعد فى دنياه وأخراه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 11]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11)
إنّ الله يمهل الظالم حينا لكنه يأخذه أخذ قهر وانتقام، وقد حكم الله بخراب مساكن الظالمين، وقد جاء الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنة لسلّط عليه الخراب» فإذا ظلم العبد نفسه حرّم الله أن يقطنها التوفيق وجعلها موطن الخذلان، فإذا ظلم قلبه بالغفلة سلّط عليه الخواطر الردية التي هى وساوس الشيطان ودواعى الفجور. وعلى هذا القياس فى القلة والكثرة إنّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائق والمحابّ، واستولت عليها العلائق والمساكنات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 12]
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12)
لمّا ذاقوا وبال أفعالهم اضطربوا فى أحوالهم فلم ينفعهم ندمهم، ولم تعد إلى محالّها أقدامهم، وبعد ظهور الخيانة لا تقبل الأمانة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 13]
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)
وللخيانة سراية «1» ، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية، وإذا غرقت السفينة فليس بيد الملّاح إلا إظهار الأسف، وهيهات أن يجدى ذلك! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 14]
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
__________
(1) سرى الجرح او السوء سراية. أي دام الألم منهما حتى حدث الموت. ويقال سرى التحريم وسرى العتق أي تعدى إلى غير المحرم أو المعتق (الوسيط) .(2/495)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
للإقرار زمان فإذا فات وقته فكما فى المثل: يسبق الفريص الحريص. ووضع القوس بعد إرسال السهم لا قيمة له.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 15]
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
إنّ من البلاء أن يشكو المرء فلا يسمع، ويبكى فلا ينفع، ويدنو فيقصى، ويمرض فلا يعاد، ويعتذر فلا يقبل.. وغاية البلاء التّلف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 16]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16)
اللّعب نعت من زال عن حدّ الصواب، واستجلب بفعله الالتذاذ، وانجرّ فى حبل السّفه. وحقّ الحقّ متقدّس عن هذه الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 17]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17)
يخاطبهم على حسب أفهامهم وإلا.. فالذى لا يعتريه سهو لا يستفزّه لهو، والحقّ لا يعتريه ولا يضاهيه كفو.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 18]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام فينقشع سحاب الغيبة، وينجلى ضباب الأوهام، وتنير شمس اليقين، وتصحو سماء الحقائق عن كلّ غبار التّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 19]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)(2/496)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
الحادثات له سبحانه ملكا والكائنات له حكما، وتعالى الله عن أن يتجمل بوفاق أو ينقص بخلاف، وبالقدر ظهور الجميع، وعلى حسب الاختيار «1» تنصرف الكلمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 20]
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
المطيع المختار يسبّحه بالقول الصدق، والكلّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخلقة، وبرهان البيّنة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 21]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
تفرّد الحقّ بالإبداع والإيجاد، وتقدّس عن الأمثال «الأنداد، فالذين يعبدون من دونه أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ. وهم «3» بالضرورة يعرفون.. أفلا يعتبرون وألا يزدجرون؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 22]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
أخبر أنّ كلّ أمر يناط بجماعة لا يجرى على النظام إذ ينشأ بينهم النزاع والخلاف.
ولمّا كانت أمور العالم فى الترتيب منسّقة فقد دلّ ذلك على أنها حاصلة بتقدير مدبّر حكيم فالسماء فى علوّها تدور على النظام أفلاكها، وليس لها عمد لإمساكها، والأرض مستقرة بأقطارها على ترتيب تعاقيب ليلها ونهارها. والشمس والقمر والنجوم السائرة تدور فى بروج، ورقعة السماء تتسع من غير فروج.. ذلك لتقدير العزيز العليم علامة، وعلى وحدانيته دلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 23]
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
لكون الخلق له، وهم يسألون للزوم حقه عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 24]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
__________
(1) الاختيار هنا مقصود به الاختيار الإلهى.
(2) عبر القشيري عن هذا المعنى فى موضع سابق حين ذكر ان كل الكائنات شاهدة على وحدانيته للناطق منها توحيد القالة، ولغير الناطق توحيد الدلالة.
(3) الضمير (هم) يعود على من يعبدون من دون الله آلهة.(2/497)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
دلت الآية على فساد القول بالتقليد، ووجوب إقامة الحجة والدليل.
ودلّت الآية على توحيد المعبود، ودلّت الآية على إثبات الكسب للعبيد إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللوم والعتب «1» . وكلّ من علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم من غير الله حصول شىء فقد دخل فى غمار هؤلاء لأنّ الإله من يصحّ منه الإيجاد.
قوله: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» : الإشارة منه أن الدّين توحيد الحق، وإفراد الربّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية.
ثم قال: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوجب لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنّ العلوم الدينية كلّها كسبية «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 25]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
التوحيد فى كل شريعة واحد، والتعبد- على من أرسل إليه الرسول- واجب، ولكنّ الأفعال للنسخ والتبديل معرّضة، أما التوحيد وطريق الوصول إليه فلا يجوز فى ذلك النسخ والتبديل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 26]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)
فى الآية رخصة فى ذكر أقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردّ عليهم، وكشف
__________
(1) هذا راى على جانب خطير من الأهمية فى علم الكلام، وصدوره عن باحث صوفى يعرف أن المريد- على الحقيقة- من لا إرادة له يزيد فى أهمية الأمر.
(2) فى هذا رد على من يتهمون الصوفية بإنكارهم للعلم.(2/498)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
عوراتهم، والتنبيه على مواضع خطاياهم، وأنّه إن وسوس الشيطان إلى أحد بشئ منه كان فى ذلك حجة للانفصال عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 27]
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره- سبحانه، وأنهم لا يقصّرون فى واجب عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 28]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
علمه القديم- سبحانه- لا يختصّ بمعلوم دون معلوم، وإنما هو شامل لجميع المعلومات، فلا يعزب عن علم الله معلوم.
قوله: «لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» دلّ على أنهم يشفعون لقوم، وأنّ الله يتقبل شفاعتهم «1» .
قوله: «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» : ليس لهم ذنب ثم هم خائفون ففى الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز، فإذا لم يجز أن يعذّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 29]
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
أخبر أنهم معرضون عن الزّلّة بكلّ وجه. ثم قال: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ»
__________
(1) أي أن القشيري يؤمن بالشفاعة- على عكس بعض فرق المتكلمين الذين ينكرونها.
(2) هذا رأى آخر له أهميته من الوجهة الكلامية، حيث يرى المعتزلة- وقد سموا أنفسهم أهل العدل- أن الله لا يعذب البريء.(2/499)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
وقد علم أنهم لا يقولون ذلك، ولكن علم لو كان ذلك كيف كان يكون حكمه، فالحق- سبحانه- يعلم ما لا يكون كيف كان يكون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 30]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
داخلتهم الشبهة فى إعادة الخلق والقيامة والنّشر، فأقام الله الحجة عليهم بأن قال:
أليسوا قد علموا أنه خلق السماوات والأرض سمك السماء وبسط الأرض. فإذا قدر على ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة بعد الإبادة؟
قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ كلّ شىء مخلوق حىّ فمن الماء خلقه، فإنّ أصل الحيوان الذي حصل بالتناسل النطفة، وهى من جملة الماء.
وحياة النفوس بماء السماء من حيث الغذاء، وحياة القلوب بماء الرحمة، وحياة الأسرار بماء التعظيم. وأقوام حياتهم بماء الحياء.. وعزيز هم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 31]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
الأولياء هم الرواسي فى الأرض وبهم «1» يرزقون، وبهم يدفع عنهم البلاء، وبهم يوفى عليهم العطاء. وكما أنه لولا الجبال الرواسي لم تكن للأرض أوتاد.. فكذلك الشيوخ الذين هم أوتاد الأرض (فلولاهم) لنزلت بهم الشدة.
وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ كما أن فى الأرض سبلا يسلكونها ليصلوا إلى مقاصدهم كذلك جعل السبل إليه
__________
(1) الضمير فى (بهم) يعود على الخلق، ولم يكن القشيري بحاجة إلى ذكر (الخلق) هنا لكثرة ما أعاد فى هذا الموضوع من قبل.(2/500)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
مسلوكة بما بيّن على ألسنتهم من هداية المريدين، وقيادة السالكين، كما يسّر بهداهم الاقتداء بهم فى سيرهم إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 32]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)
فى ظاهر الكون السماء منيرة، والأرض مسكونة.. كذلك للنفوس أراض هى مساكن الطاعات، وفى سماء القلوب نجوم العقل وأقمار العلم وشموس التوحيد والعرفان. وكما جعلت النجوم رجوما للشياطين جعل من المعارف رجوما للشياطين. وكما أن الناس عن آياتها معرضون لا يتفكرون فالعوام عن آيات القلوب مما فيها من الأنوار غافلون، لا يكاد يعرفها إلا الخواص قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 33]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
كما أن الحق- سبحانه- فى الظاهر يكوّر الليل على النهار، ويكور النهار على الليل فكذلك يدخل فى نهار البسط ليل القبض. والبسط فى الزيادة والنقصان. فكما أنّ الشمس أبدا فى برجها لا تزيد ولا تنقص، والقمر مرة فى المحاق، ومرة فى الإشراق.. فصاحب التوحيد بنعت التمكين- يرتقى عن حدّ تأمّل البرهان إلى روح البيان، ثم هو متحقق بما هو كالعيان. وصاحب العلم مرة يردّ إلى نجديد نظره وتذكّره، ومرة يغشاه غير فى حال غفلته فهو صاحب تلوين «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 34]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)
إنك فى هذه الدنيا عابر سبيل، لكننا لم نتركك فردا فى الدنيا، ولذلك قال عليه السلام لصاحبه فى الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!» .
__________
(1) فأهل التمكين كالشمس فى ثباتها، وأهل التلوين كالقمر في تدرجه وتغير أحواله.(2/501)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 35]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
الموت به آفة قوم، وفيه راحة قوم لقوم انتهاء مدة الاشتياق، ولآخرين افتتاح باب الفراق، لقوم وقوع فتنتهم ولآخرين خلاص من محنتهم، لقوم بلاء وقيامة ولآخرين شفاء وسلامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 36]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
لو شهدوا بما هو به من أوصاف التخصيص وما رقّاه إليه من المنزلة لظلوا له خاضعين، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا منه جسمه وصورته.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 37]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
العجلة مذمومة والمسارعة محمودة فالمسارعة البدار إلى الشيء فى أول وقته، والعجلة استقباله قبل وقته، والعجلة نتيجة وسوسة الشيطان، والمسارعة قضية التوفيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 38]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
اعتادوا تكذيب الأنبياء عليهم السلام فيما وعدوهم، فاستعجلوا حصول ما توعدوهم به.
ولو علموا ما ينالهم لكان السكون منهم، فالفزع يدلّ على استعجالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 39]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
... لأمسكوا اليوم عن الانخراط فى عذاب «1» الظنون، والاغترار بمواعيد الشيطان.
__________
(1) ضبطناها (عذاب) بكسر العين لتكون جمع (عذب) فقد غرهم ما هيأت لهم الظنون فاستعذبوها.(2/502)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 40]
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
العقوبة إذا أتت فجأة كانت أنكى وأشد. وسنّة الله فى الانتقام أن يثير ريح البغتة فى حال الانغماس فى النّعمة والمنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 41]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
تسلية له، وتعريف بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الذين أي عن قريب ستجدون وبال ما استوجبوه من العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 42]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم، وقد جرّبوا ذلك فى أحوال محنتهم، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شىء، ومما ليس منه نفع ولا ضرّ؟ وفى ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعى النفع والدفع من الله عز وجل، فالواجب دوام اعتكافهم بقلوبهم بعقوة كرمه وجوده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 43]
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
.. بسط القول وكرره فى تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات وأصنامهم التي عبدوها من تلك الجملة، ولم يرد منهم- على تكرار هذه الألفاظ- إلّا عجز وانقطاع قول.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 44]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
طول الإمتاع إذا لم يكن مقرونا بالتوفيق، مشفوعا بالعصمة كان مكرا واستدراجا،(2/503)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
وزيادة فى العقوبة. والحقّ كما يعاقب بالآلام والأهوال يعاقب بالإملاء والإمهال.
وقال: أفلا يرون أنا نأتى الأرض ... » تتوالى القسوة حتى لا يبقى أثر للصفوة فيتعاقب الخذلان حتى يتواتر العصيان، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الايمان.
ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل. وفى هذا أيضا إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل] : «1»
آخر الأمر ما ترى ... القبر واللّحد والثرى
وكما قيل:
طوى العصران «2» ما نشراه منى ... وأبلى جدتى نشر وطيّ
أرانى كلّ يوم فى انتقاص ... ولا يبقى- مع النقصان- شىّ
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 45]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)
أي بأمر الله أعلمكم بموضع المخافة، ويوحى إلىّ فى بابكم أن أخوّفكم بأليم عقابه، ولكنّ الذي عدم سمع التوفيق.. أنى ينفعه تكرار الأمر بالقبول عليه؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 46]
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
أي إنهم لا يصبرون على أقلّ شىء من العقوبة وإنّ الحقّ إذا شاء أن يؤلم أحدا فلا يحتاج إلى مدد وعون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
__________
(1) هنا نهاية الجزء الذي أخطأ الناسخ في نقله من أواخر «طه» وأوائل «الأنبياء» إلى مكان آخر من «الفرقان» . [.....]
(2) العصران: الغداة والعشى، أو الليل والنهار.(2/504)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
توزن الأعمال بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاص لا يقبل، وتوزن الأحوال بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجاب لا يقبل، وتوزن الأنفاس بميزان ( ... ) «1» فما فيه حظوظ ومساكنات لا يقبل.
ويقال ينتصف المظلوم من الظالم، وينتقم الضعيف من القوى.
ويقال ما كان لغير الله لا يصلح للقبول.
ويقال يكافئ كلا بما يليق بعمله فمن لم يرحم عباده فى دنياه لا يرحمه الله، ومن لم يحسن إلى عباده تقاصر عنه إحسانه، ومن ظلم غيره كوفئ بما يليق بسوء فعله.
قوله: «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» : أي يجازى المظلومين وينتقم من الظالمين، وينصف المظلوم من مثقال الذرة ومقياس الحبّة، وإن عمل خيرا بذلك المقدار فسيلقى جزاءه، ويجد عوضه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 48]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)
ما آتاه الحق سبحانه للأنبياء عليهم السلام من الضياء والنّور، والحجّة والبرهان يشاركهم المستجيبون من أممهم فى الاستبصار به ...
فكذلك الأكابر من هذه الأمة يشاركون نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى الاستبصار بنور اليقين.
و «المتّقى» هو المجانب لما يشغله ويحجبه عن الله، فيتقى أسباب الحجاب وموجباتها.
__________
(1) نرى انه قد حدث سقوط للفظة فى هذا المكان، ولا بد انها بمعنى الخلوص لله والتجرد من كل العلائق، وربما كانت أيضا (الحقوق) أي حقوق الله.(2/505)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 49]
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
صار لهم فى استحقاق هذه البصائر والخشية بالغيب إطراق السريرة، وفى أوان الحضور استشعار الوجل من جريان سوء الأدب، والحذر من أن يبدو من الغيب من خفايا التقدير ما يوجب حجبة العبد.
والإشفاق من الساعة على ضربين: خوف قيام الساعة الموعودة للعامة، وخوف قيام الساعة التي هى قيامة هؤلاء القوم «1» فإنّ ما يستأهل الكافة فى الحشر معجّل لهم فى الوقت من تقريب ومن تبعيد، ومن محو ومن إثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 50]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
وصف القرآن بأنه «مُبارَكٌ» ، وهو إخبار عن دوامه «2» ، من قولهم: برك الطائر على الماء أي دام.
وإنّ هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما لا ابتداء له- وهو كلامه القديم- فلا انتهاء للكتاب الدالّ عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 51]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51)
أراد به ما تعرّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول «3» ، لولا أنّه خصّه فى الابتداء بالتعريف.. وإلّا متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خلقه لولا ما أضاء. «4»
عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر فى المخلوق؟
ويقال هو ما كاشف به روحه قبل إبداعها من تجلّى الحقيقة.
__________
(1) اى أرباب الأحوال
(2) وردت (بيانه) وآثرنا- طبقا للسياق- أن نجمعها (دوامه)
(3) إشارة إلى أن إبراهيم لما رأى أفول الشمس والقمر والنجم قال: «إنى لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .
(4) (أضاء) مقبولة فى السياق ولكننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (أفاء) أي (أنعم) .(2/506)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (21) : آية 52]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52)
خاطب قومه وأباه «1» ببيان التنبيه طمعا فى استفاقتهم من سكرة الغفلة، ورجوعهم من ظلمة «2» الغلظة، وخروجهم من ضيق الشّبهة.
ثم سأل الله إعانتهم بطلب الهداية لهم. فلمّا تبيّن له أنهم لا يؤمنون، وعلى كفرهم يصرّون تبرّأ منهم أجمعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 53 الى 55]
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
ما استروحوا فى الجواب إلا إلى التقليد، فكان من جوابه الحكم بالتسوية بينهم وبين آبائهم فى الضلال، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم، فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا: «أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟» فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 الى 60]
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)
فأحالهم على النظر والاستدلال والتعرّف «3» من حيث أدلة العقول «4» لأنّ إثبات الصانع
__________
(1) وردت (وأتاه) والصواب أن تكون (أباه) كما فى الآية.
(2) وردت فى (ظلمة) وفى م (ظل) والصواب أن تكون (ظلمة) فالقشيرى يستعمل الظل للعناية وما فى معناها.
(3) فى ص (والتعريف) وفى م (التعرف) ونحن نرجح هذه.
(4) فى ص (القبول) ونحن نرجح (العقول) لتلاؤمها مع السياق.(2/507)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
لا يعرف بالمعجزات، وإنما المعجزات علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع.
ثم بيّن لهم أنّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة، ثم إنه لم يحفل بما يصيبه من البلاء ثقة منه بأنّ الله هو المتفرّد بالإبداع، فلا أحد يملك له «1» ضرا من دون الله، فتساءلوا فيما بينهم وقالوا:
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون من فعله.. فاسألوه، فسألوه «2» فقال: بل فعله كبيرهم.
فقالوا كيف ندرك الذنب عليه؟ وكيف تحيلنا فى السؤال عليه- وهو جماد؟
فقال: وكيف تستجيزون عبادة ما هو جماد لا يدفع عن نفسه السوء؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 65]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
فقال: شرّ وأمرّ «3» .. كيف تستحق أمثال هذه.. العبادة؟! فلمّا توجّهت الحجة عليهم ولم يكن لهم جواب داخلتهم الأنفة والحمية فقالوا: سبيلنا أن نقتله شرّ قتلة، وأن نعامله بما يخوفنا به من النار. فقالوا: «ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» ، فلما رموه فى النار:
[سورة الأنبياء (21) : آية 69]
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)
__________
(1) الضمير فى (فسألوه) يعود على ابراهيم عليه السلام.
(2) أي أن فى الكلام كما يقول البلاغيون- إيجاز حذف.
(3) أي هذا عذر أقبح من الذنب.(2/508)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
لو عصمه من نار «1» نمرود ولم يمكنه من رميه فى النار من المنجنيق لكان- فى الظاهر- أقرب من النصر، ولكنّ حفظه فى النار من غير أنّ يمسّه ألم أتمّ فى باب النصرة والمعجزة والكرامة.
ويقال إن ابراهيم- عليه السلام- كان كثيرا ما يقول: أواه من النار! قال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «2» فلمّا رمى فى النار، وجعل الله عليه النار بردا قيل له: لا تقل بعد هذا. أواه من النار! فالاستعاذة بالله من الله.. لا من غيره.
قوله: «وَسَلاماً» : أي وسلامة عليه وله، فإنه إذا كان للعبد السلامة فالنار والبرد عنده سيان.
ويقال إن الذي يحرق فى النار من فى النار يقدر على حفظه فى النار.
ولمّا سلم قلبه من غير الله بكل وجه فى الاستنصار «3» والاستعانة وسلم من طلب شىء بكلّ وجه.. تعرّض له جبريل- عليه السلام- فى الهواء وقد رمى من المنجنيق وقال له:
هل من حاجة؟
فقال: أمّا إليك.. فلا! فجعل الله النار عليه بردا وسلاما إذ لمّا كان سليم القلب من الأغيار وجد سلامة النّفس من البلايا والأعلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 70]
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
من حفر لأوليائه وقع فيما حفر، ومن كان مشغولا بالله لم يتولّ الانتقام منه سوى الله.
__________
(1) فى م (يد) نمرود وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(2) آية 114 سورة التوبة.
(3) هكذا فى من وهى أصح من (الاستبصار) فى ص لانسجام (الاستنصار) مع (الاستعانة) .(2/509)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 71]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)
مضت سنّة الله فى أنبيائه- عليهم السلام- أنه إذا نجّى منهم واحدا أشرك معه من كان مساهما له فى ضرّه ومقاساة مشقته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 72]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
منّ عليه بأن أخرج من صلبه من كان عابدا لله، ذاكرا له، فإنّ مفاخر الأبناء مناقب للآباء، كما أنّ مناقب الآباء شرف للأبناء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 73]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
الإمام مقدّم القوم، واستحقاق رتبة الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي فى الأمة فيه، فمن لم تتجمع فيه متفرّقات الخصال المحمودة لم يستحق منزلة الإمامة.
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (21) : آية 74]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74)
أكمل له الأنعام بعصمته من مثل ما امتحن به قومه، ثم بخلاصه منهم بإخراجه إيّاه من بينهم، فميزه عنهم ظاهرا وباطنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 75]
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
بيّن أنه أدخله فى رحمته ثم قال: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» فلا محالة من أدخله فى رحمته كان صالحا.(2/510)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
وقوله: «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» إخبار عن عين الجمع، وقوله: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» :
إخبار عن عين الفرق «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
كان نوح- عليه السلام- أطولهم عمرا، وأكثرهم بلاء. ففى القصة أنه كان يضرب سبعين مرة، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قول هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح- عليه السلام- يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمّا أيس من إيمانهم، وأوحى إليه: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» «2» دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «3» فقال تعالى: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ....» فأزهق الشّرك وأغرق أهله.
سورة الكهف ...
سورة مريم ...
سوره طه ...
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 79]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
أشركهم فى حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت.. ففى مسألة واحدة أثبت لسليمان- عليه السلام- بها خصوصية إذ منّ عليه بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» ولم بمن عليه بشىء من الملك الذي أعطاه بمثل ما منّ عليه بذلك، وفى هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين- وإن اختلفوا- إذا كان اختلافهم فى فروع الدّين حيث قال: «وَكُلًّا آتَيْنا
__________
(1) لأن الرحمة من صفات ذاته- سبحانه، وصلاح العبد فيه شىء من كسب العبد.
(2) آية 36 سورة هود.
(3) آية 26 سورة نوح.(2/511)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
حُكْماً وَعِلْماً» ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئة الآخر فله تعلّق بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» «1» قوله جل ذكره: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ أمر الجبال وسخّرها لتساعد داود- عليه السلام- فى التسبيح، ففى الأثر: كان داود- عليه السلام- يمرّ وصفاح «2» الجبال تجاويه، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 80]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
سخّر الله- سبحانه- لداود الحديد وألانه فى يده، فكان ينسج الدروع، قال تعالى:
«وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» ليتحصن من السهام فى الحروب، قال تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» وأحكم الصنعة وأوثق المسامير.. ولكن لما قصدته سهام التقدير ما أصابت إلا حدقته حين نظر إلى امرأة أوريا- من غير قصد- فكان ما كان.
ولقد خلا ذلك اليوم، وأغلق على نفسه باب البيت، وأخذ يصلى ساعة، ويقرأ التوراة مرة، والزبور أخرى، حتى يمضى وينتهى ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أوحى إليه أنّه يوم فتنة، فأمر الحجّاب والبواب ألا يؤذن عليه أحد، فوقع من كوّة البيت طير لم ير مثله
__________
(1) هذا رأى القشيري فى (الاجتهاد) ومداه، ويجدر الاهتمام به إذا شئنا أن نبحث فى «أصول الفقه عند الصوفية» .
(2) صفاح جمع صفح، وصفح الشيء عرضه (مقاييس اللغة ج 3 ص 293) .
ويقول القرطبي (قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا، والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير) ويضيف القرطبي شيئا هاما بالنسبة للتفسير الصوفي: (كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى بشتاتى، ولهذا قال: «وَسَخَّرْنا» أي جعلناها بحيث تطيعه) .
«الجامع لأحكام القرآن ج 11 ص 319» وبهذه المناسبة نود أن نستدرك شيئا لم نشر إليه فى مدخل الكتاب، وهو أن القرطبي كثيرا ما يستفيد من آراء الصوفية، وبصفة خاصة من القشيري، وهو في معظم الأحيان عبد الرحمن القشيري أحد أبناء المصنف.(2/512)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
فى الحسن، فهمّ أن يأخذه، فتباعد ولم يطر كالمطمع له فى أخذه، فلم يزل يستأخر قليلا قليلا حتى طار من كوّة البيت، فتبعه داود ينظر إليه من الكوة من ورائه، فوقع بصره على امرأة أوريا، وكانت قد تجرّدت من ثيابها تغتسل فى بستان خلف البيت الذي به داود، فحصل فى قلبه ما حصل، وأصاب سهم التقدير حدقته، ولم تنفعه صنعة اللّبوس التي كان تعلّمها لتحّصنه من بأسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 81]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81)
سخّر الله له الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ولو أراد أن يزيد فى قدر مسافتها شبرا لما استطاع، تعريفا بأنه موقوف على حكم التقدير، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أكرم به من التسخير، ولقد نبّه- سبحانه- من حيث الإشارة أن الذي ملكه سليمان كالريح إذا مرّ وفات، أو أنه لا يبقى باليد منه شىء «1» .
وفى القصة أنه لا حظ ذلك يوما فمالت الريح ببساطه قليلا، فقال سليمان للريح: استو.
فقالت له الريح: استو أنت. أي إنما ميلى ببساطك لميلك بقلبك بملاحظتك فإذا استويت أنت استويت أنا «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 82]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
إنما كان ذلك أياما قلائل فى الحقيقة. ثم إنه أراد يوما أن يعود إلى مكانه فجاءه ملك الموت فطالبه بروحه، فقال: إلىّ حين أرجع إلى مكانى.
فقال له: ولا وجه للتأخير، وقبضه وهو قائم يتكئ على عصاه وبقي بحالته، ولم تعلم الجنّ،
__________
(1) فهو كما قيل: باطل وقبض الريح.
(2) فى ذلك إشارة إلى أصحاب الأحوال بأنه إذا تغيرت أو تعذرت الأمور فالسبب كامن فى نفوسهم.(2/513)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
إلى أن أكلت دابة الأرض- كما فى القصة- عصاه، فلما خرّ سليمان علمت الشياطين بموته، وتحققوا أنّ الذي بالعصا قيامه فقهر الموت يلحقه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
أي واذكر أيوب «1» حين نادى ربّه. وسمّى أيوب لكثرة إيابه إلى الله فى جميع أحواله فى السرّاء والضرّاء، والشّدّة والرّخاء.
ولم يقل: ارحمني، بل حفظ أدب الخطاب فقال: «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
ومن علامات الولاية أن يكون العبد محفوظا عليه وقته في أوان البلاء.
ويقال إخباره عنه أنه قال: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» لم يسلبه اسم الصبر حيث أخبر عنه سبحانه بقوله: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» لأنّ الغالب كان من أحواله الصبر، فنادر قالته لم يسلب عنه الغالب من حالته. والإشارة من هذا إلى أنّ الغالب من حال المؤمن المعرفة، أو الإيمان بالله فهو الذي يستغرق جميع أوقاته، ولا يخلو منه لحظة ونادر زلّاته- مع دائم إيمانه- لا يزاحم الوصف الغالب.
ويقال لمّا لم يكن قوله: مسنى الضرّ على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز- فلم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.
ويقال استخرج منه هذا القول ليكون فيه متنفّس للضعفاء فى هذه الأمة حتى إذا ضجّوا فى حال البلاء لم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.
ويقال لم يكن هذا القول منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» الذي تخصّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لما خصصتنى بهذا، ولكن برحمتك أهّلتنى لهذا.
__________
(1) فى تقدير با أن ما كتبه القشيري فى هذا الموضع عن أيوب عليه السلام من أجمل ما كتب فى هذا الموضوع سواء من الناحية الأدبية أو من الناحية الإشارى ة.(2/514)
ويقال لم يكن هذا القول من أيوب ولكنه استغاثة البلاء منه، فلم يطق البلاء صحبته فضجّ منه البلاء لا أيوب ضجّ من البلاء.. وفى معناه أنشدوا.
صابر الصبر فاستغاث به الصبر ... فصاح المحبّ بالصبر صبرا
ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه: أيمسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ» «1» أي أتلك نعمة تمنها علىّ أن عبدت بنى إسرائيل؟
ويقال إن جبريل- عليه السلام- أتى أيوب فقال: لم تسكت؟ فقال: ماذا أصنع؟
فقال: إنّ الله سببان عنده بلاؤك وشفاؤك ... فاسأل الله العافية فقال أيوب: إنى مسنى الضّر، فقال تعالى: «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» والفاء تقتضى التعقيب، فكأنه قال:
فعافيناه فى الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبت العافية قبل هذا لاستجبنا لك.
ويقال سقطت دودة كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوب ووضعها على موضعها، فعقرته عقرة عيل صبره فقال: مسنى الضر، فقيل له: يا أيوب: أتصبر معنا؟
لولا أنى ضربت تحت كل شعرة من شعراتك كذاخيمة من الصبر.. ما صبرت ساعة! ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما علا بدنه، فلم يبق منه إلا لسانه وقلبه، فصعدت دودة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ» ... فلم يبق لى إلا لسان به أذكرك، أو قلب به أعرفك، وإذ لم يبق لى ذلك فلا يمكننى أن أعيش وأصبر! ويقال استعجمت عليه جهة البلاء فلم يعلم أنه يصيبه بذلك تطهيرا أو تأديبا أو تعذيبا أو تقريبا أو تخصيصا أو تمحيصا ... وكذلك كانت صحبته «2» .
ويقال قيل لأيوب عليه السلام سل العافية فقال:
عشت فى النّعم سبعين سنة فحتى يأتى علىّ سبعون سنة فى البلاء.. وعندئذ أسأل الله العافية!
__________
(1) آية 22 سورة الشعراء.
(2) أي وهكذا كانت صحبة الحق لوليه دائما.(2/515)
وقيل لمّا كشف الله عنه البلاء قيل له: ما أشدّ مالقيت فى أيام البلاء؟ فقال شماتة الأعداء:
وفى القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم، وحرّقوا ما كتبوه عنه وقالوا: لو كان لك عند الله منزلة لما ابتلاك بكل هذا البلاء! وقيل لم يبق معه إلا زوجه، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام، فهى التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده.
ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام.
وقيل إنما قال: مسنى الضرّ لمّا قال لها الشيطان: إنّ أردت أن يشفى مريضك فاسجدى لى، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظهر لها فى صورة إنسان، فأخبرت أيوب بذلك فقال عندئذ:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ» .
ويقال لمّا ظهر به البلاء اجتمع قومه وقالوا لها: أخرجى هذا المريض من قريتنا، فإننا نخاف العدوى وأن يمسنّا بلاؤه، وأن نعدى إلينا علّته، فأخرجته إلى باب القرية فقالوا:
إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارنا عليه، فنتشاءم به، فأبعديه عن أبصارنا، فحملته إلى أرض قفر، وكانت تدخل البلد، وتستأجر للخبز والعمل فى الدور، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه، فلما علموا أنّها امرأته استقذروها ولم يستعملوها.
ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه، فباعت ذوائبها برغيف أخذته لتحمله إليه، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء، وأن شعرها جزّ فى ذلك فحلف أيوب أن يجلدها إذا صحّ حدسه، وكانت المحنة على قلب تلك المرأة أشدّ مما على بدن أيوب من كل المحن.
وقيل إن امرأته غابت ودخلت البلد، فعافى الله أيوب عليه السلام، وعاد شابا طريا كما قال فى قصته قوله: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» «1» . فلما رجعت
__________
(1) آية 42 سورة ص(2/516)
امرأته ولم تره حسبت أنه أكله سبع أو أصابته آفة، فأخذت تبكى وتولول، فقال لها أيوب- وهى لم تعرفه لأنه عاد صحيحا- مالك يا امرأة؟
قالت: كان لى هاهنا مريض ففقدته. فقال لها أيوب: أنا ذاك الذي تطلبينه! وفى بعض الأخبار المروية أنه بقي فى بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
وقيل تعرّض له إبليس فقال: إن أردت العافية فاسجد لى سجدة، فقال:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ» .
ويقال إن أيوب- عليه السلام- كان مكاشفا بالحقيقة، مأخوذا عنه، فكان لا يحسّ بالبلاء، فستر عليه مرة، وردّه إليه، فقال: مسّني الضّرّ «1» .
ويقال أدخل على أيوب تلك الحالة، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية.
ويقال أوحى الله إلى أيوب- عليه السلام- أنّ هذا البلاء اختاره سبعون نبيا قبلك فما اخترته إلا لك، فلمّا أراد كشفه عنه قال: مسنّي الضرّ! وقيل كوشف بمعنيّ من المعاني فلم يجد ألم البلاء فقال: مسّنى الصرّ لفقدى ألم الضّرّ.
وقال جعفر الصادق: حبس عنه الوحى أربعين يوما فقال: مسنى الضرّ لما لحقه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأن ردّ عليه قوّته ليقوم بحقّ الطاعة.
ويقال طلب الزيادة فى الرضا فاستجيب له بكشف ما كان به من ضعف الرضا.
ويقال إن الضرّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية، وبليته كانت ببقيته، فلمّا أخذ عنه بالكلية زال البلاء، ولهذا قال «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» وكانت نفسه ضرّه، وردّ عليه السلامة والعافية والأمل- فى الظاهر- لمّا ضار مأخوذا بالكلية عنه، منقّى عن كل بقية، وعند ذلك يستوى البلاء والعافية، والوجود والفقد.
__________
(1) أي ان العبد الواله لا يحس بنفسه وهو فى حال الجمع، ويحس بها وهو فى حال الغرق. وقد حكى القشيري فى الرسالة أن بعضهم قطعت رجله حيث كانت بها غر غرينة فلم يشعر، بينما آلت بعضهم قملة..
وهو في حال الفرق. [.....](2/517)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 85]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال: «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» ، ثم قال:
[سورة الأنبياء (21) : آية 86]
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
بيّن الحكم والمعنى الحكم صبرهم وصلاحهم، والمعنى إدخاله إياهم فى الرحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 87]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
«مُغاضِباً» : على ملك وقته حيث اختاره للنبوة، وسأله: لم اخترتني؟ فقال: لقد أوحى الله إلى نبيّى: أن قل لفلان الملك حتى يختار واحدا ليرسل إلى نينوى بالرسالة.
فثقل على ذى النون لما اختاره الملك لأنه علم أن النبوة مقرونة بالبلاء، فكان غضبه عليه لذلك «1» .
ويقال مغاضبا على قومه لمّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم.
ويقال مغاضبا على نفسه أي شديد المخالفة لهواه، وشديدا على أعداء الدين من مخالفيه.
«فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي أن لن نضيّق عليه «2» بطن الحوت، من قوله:
«وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» «3» أي ضيّق.
__________
(1) عن ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك حزقيا أن يبعثا يونس إلى ملك نينوى الذي كان قد غزا بنى إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بنى إسرائيل وكان الأنبياء فى ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة الى ملك قد اختاروه، فيعمل على وحي ذلك النبي، وقد أوحى لشعيا: ان قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا من بنى إسرائيل إلى أهل نينوى.. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجى؟
قال: لا، قال: فهاهنا أنبياء أمناء أقوياء، فألحوا عليه.. فخرج مغاضبا للنبى والملك وقومه، حتى أنى بحر الروم.. وكان من قصته ما كان، وابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعبا.. قال تعالى «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ»
(2) (ان لن نضيق عليه) مفقودة فى ص وموجودة فى م والسياق يقتضى وجودها.
(3) آية 16 سورة الفجر(2/518)
ويقال فظنّ أن لن نقدر عليه من حبسه فى بطن الحوت.
وخرج من بين قومه لمّا أخبر بأنّ الله يعذّب قومه، وخرج بأهله.
ويقال إن السبع افترس أهله فى الطريق، وأخذ النّمر ابنا صغيرا له كان معه، وجاء موج البحر فأغرق ابنه الآخر، وركب السفينة، واضطرب البحر، وتلاطمت أمواجه، وأشرفت السفينة على الغرق، وأخذ الناس فى إلقاء الأمتعة فى البحر تخفيفا عن السفينة، وطلبا لسلامتها من الغرق، فقال لهم يونس: لا تلقوا أمتعتكم فى البحر بل اطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا: نرى عليك سيماء الصلاح، وليست تسمح نفوسنا بإلقائك فى البحر، فقال تعالى مخبرا عنه: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
«1» أي فقارعهم، فاستهموا، فوقعت القرعة عليه.
وفى القصة أنه أتى حرف السفينة، وكان الحوت فاغزا فاه، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك، حتى جاز كل جانب. ثم لمّا علم أنه مراد بالبلاء ألقى نفسه فى الماء فابتلعه الحوت «وَهُوَ مُلِيمٌ» : أي أتى بما يلام عليه، قال تعالى: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» «2» .
وأوحى الله إلى السمك: لا تخدش منه لحما ولا تكسر منه عظما، فهو وديعة عندك وليس بطعمة لك. فبقى فى بطنه- كما فى القصة- أربعين يوما.
وقيل إن السمك الذي ابتلعه أمر بأن يطوف فى البحر، (وخلق الله له إدراك ما فى البحر) «3» ، وكان ينظر إلى ذلك.
ويقال إن يونس عليه السلام صحب الحوت أياما قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظنّك بعبد عبده- سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طول عمره.. ترى أيبطل هذا؟ لا يظنّ بكرمه ذلك! «فَنادى فِي الظُّلُماتِ ... » يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت- هذا بيان
__________
(1) آية 141 سورة الصافات
(2) آية 142 سورة الصافات
(3) موجودة فى م ومفقودة فى ص(2/519)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
التفسير، ويحتمل «1» أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 88]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
استجبنا له ولم يجر منه دعاء لأنه لم يصدر عنه أكثر من قوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» ، ولم يقر بالظلم إلا وهو يستغفر منه.
ثم قال: «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ... » يعنى: كلّ من قال من المؤمنين- إذا أصابه غمّ، أو استقبله مهم- مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 89]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89)
سأل الولد، وإنما سأله ليكون له معينا على عبادة ربّه، وليقوم فى النبوة مقامه، ولئلا تنقطع بركة الرسالة من بيته «2» ، ولقد قاسى زكريا من البلاء ما قاسى حتى حاولوا قطعه بالمنشار، ولما التجأ إلى شجرة انشقت له وتوسّطها، والتأمت الشجرة، وفطنوا إلى ذلك فقطعوا الشجرة بالمنشار، وصبر لله، وسبحان الله! كان انشقاق الشجرة له معجزة، وفى الظاهر كان حفظا له منهم، ثم لو لم يطلعهم عليه لكان في ذلك سلامته، ولعلّهم- وقتلوه- لم يصبه من الألم القدر الذي لحقه من القطع بالمنشار طول إقامته، وإنما المعنى فيه أن انشقاق الشجرة كان له معجزة، فقوى بذلك يقينه لمّا رأى عجيب الأمر فيه من نقض العادة «3» ، ثم البلاء له بالقتل ليس ببلاء فى التحقيق، ولقد قال قائلهم: «إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى» .
__________
(1) هذا النوع من الظلمات- وهو المرتبط بالنفس- متوقع صدوره عن مفسر صوفى علم بأحوال النفس.
(2) أي أنه لم يسال الولد لحظ نفسه بل لحق ربه، وهذه بشرى إجابة الدعاء.
(3) أي أن المعجزة ليست فقط من أجل القوم الذين فيهم النبي بل فى حسابها تثبيت قلب النبي وترسيخ يقينه.(2/520)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 90]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
سمى يحيى لأنه حي به عقر أمه.
وقوله: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» : لتكون الكرامة لهم جميعا بالولد، ولئلا يستبدّ زكريا بفرح الولد دونها مراعاة لحقّ صحبتها.. وهذه سنّة الله فى باب إكرام أوليائه، وفى معناه أنشدوا:
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم فى المنزل الخشن
ثم قال: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا..» وفى هذا بشارة لجميع المؤمنين، لأن المؤمن لا يخلوا من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطا والقنوط كفر «1» ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنا والأمن كفر «2» .
قوله: «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» الخشوع قشعريرة القلب عند اطلاع الرب، وكان لهم ذلك على الدوام.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
يعنى مريم، وقد نفى عنها سمة الفحشاء وهجنة الذم.
ويقال فنفخنا فيها من روحنا، وكان النفخ من جبريل عليه السلام، ولكن لمّا كان بأمره- سبحانه- صحّت الإضافة إليه، وفى هذا دليل على تأويل خبر النزول، فإنه يكون بإنزال ملك فتصحّ الإضافة إلى الله إذ كان بأمره. وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص.
كقوله: (ناقة الله، وبيتي) .. ونحو ذلك. (وجعلنا وابنها آية للعالمين) : ولم يقل آيتين
__________
(1) قال تعالى: «وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» 56 الحجر.
(2) قال تعالى: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» 99 الأعراف(2/521)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
لأن أمرهما كان معجزة ودلالة، ويصح أن يراد أنّ كلّ واحد منهما آية- على طريقة العرب فى أمثال هذا.
وفيه نفى لتهمة من قال إنها حبلت من الله ... تعالى الله عن قولهم! قوله (آية للعالمين) : وإن لم يهتد بهما جميع الناس.. لكنهما كانا آية. ومن نظر فى أمرهما، ووضع النظر موضعه لاهتدى، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حجّة ودلالة بتقصير المقصّر فى بابها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
أي كلكم خلقته، وكلكم اتفقتم فى الفقر، وفى الضعف، وفى الحاجة. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» :
وخالقكم على وصف التّفرّد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 93]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
اختلفوا وتنازعوا، واضطربت أمورهم، وتفرّقت أحوالهم، فاستأصلتهم البلايا.
قوله: (كلّ إلينا راجعون) : وكيف لا ... وهم ما يتقلبون إلّا فى قبضة التقدير؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 94]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)
من تعنّى لله لم يخسر على الله، ومن تحمّل لله مشقة وجب حقّه (على) «1» الله: قوله: وهو مؤمن) بعد قوله: (يعمل من الصالحات) دليل على أن من لا يكون مؤمنا لا يكون عمله صالحا ففائدة قوله هاهنا: (وهو مؤمن) فى المآل والعاقبة، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يختم له بالسعادة، فيكون فى الحال مؤمنا وعمله يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذ لا يضيع سعيه.
__________
(1) نرجح أنها فى الأصل (من) لأن القشيري فى مواضع شتى عارض أي وجوب (على) الله..
وطا لما أوضحنا ذلك فى الهوامش.(2/522)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 95]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)
أي لا نهلك قوما وإن تمادوا فى العصيان إلا إذا علمنا أنهم لا يؤمنون، وأنه بالشقاوة تختم أمورهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 96]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
أي يحق القول عليهم، ويتم الأجل المضروب لهم، فعند ذلك تظهر أيامهم، وإلى القدر المعلوم فى التقدير لا تحصل نجاة الناس من شرّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 97]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
تأخذهم القيامة بغتة وتظهر أشراط الساعة فجأة، ويقرّ الكاذبون بأنّ الذنب عليهم، ولكن فى وقت لا تقبل فيه معذرتهم، وأوان لا ينفعهم فيه إيمانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 98]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)
«وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» : أي الأصنام التي عبدوها، ولم تدخل فى الخطاب الملائكة التي عبدها قوم، ولا عيسى وإن عبده قوم لأنه قال:
«إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ» ولم يقل إنكم ومن تعبدون «1» . فيحشر الكافرون فى النار، وتحشر أصنامهم معهم. والأصنام جمادات فلا جرم لها، ولا احتراقها عقوبة لها، ولكنه على جهة براءة ساحتها، فالذنب للكفار وما الأصنام إلا جمادات.
__________
(1) لأن (ما) اسم موصول لغير العاقل و (من) اسم موصول للعاقل.(2/523)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
[سورة الأنبياء (21) : آية 99]
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99)
القوم قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «1» فعلموا أن الأصنام جمادات، ولكن توهموا أن لها عند الله خطرا، وأنّ من عبدها يقرب بعبادتها من الله، فيبيّن الله لهم- غدا- بأنّها لو كانت تستحق العبادة، ولو كان لها عند الله خطر لما ألقيت فى النار، ولما أحرقت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 100]
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
«لَهُمْ» : أي لعبدة الأصنام، «فِيها» أي فى النار، «زَفِيرٌ» لحسرتهم على ما فاتهم، «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» من نداء يبشرهم بانقضاء عقوبتهم.
وبعكس أحوالهم عصاة المسلمين «2» فى النار فهم- وإن عذّبوا حينا- فإنهم يسمعون قول من يبشّرهم يوما بانقضاء عذابهم- وإن كان بعد مدة مديدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 101]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)
«سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» : أي الكلمة بالحسنى، والمشيئة والإرادة بالحسنى، لأن الحسنى فعله، وقوله: «سَبَقَتْ» إخبار عن قدمه، والذي كان لهم فى القدم هو الكلمة التي هى صفة تعلّقت بهم فى معنى الإخبار بالسعادة.
ثم قال: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» أي عن النار، ولم يقل متباعدون ليعلم العالمون أن المدار على التقدير، وسابق الحكم من الله، لا على تباعد العبد أو بتقرّبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 102]
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
__________
(1) آية 3 سورة (الزمر) [.....]
(2) تسمى هذه فى علم الكلام: المنزلة بين المنزلتين وهى التي بين المؤمن والكافر، وليست عقوبة هؤلاء- كما هو شأن الكفار- على التأييد.. كما يرى القشيري.(2/524)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
يدل ذلك على أنهم لا يعذّبون فيها بكل وجه. والمراد منه العباد من المؤمنين الذين لا جرم لهم.
«وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» : مقيمين لا يبرحون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 103]
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
قيل الفزع الأكبر قول الملك: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» «1» ويقال إذا قيل: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» »
ويقال إذا قيل: يا أهل الجنة.. خلودا لا موت فيه، ويا أهل النار. خلودا لا موت فيه! وقيل إذا: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «3» وقيل الفزع الأكبر هو الفراق. وقيل هو اليأس من رحمة الله وتعريفهم ذلك.
قوله «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» يقال لهم هذا يومكم الذي كنتم وعدتم فيه بالثواب فمنهم من يتلقّاه الملك، ومنهم من يرد عليه الخطاب والتعريف من الملك «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 104]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)
إنما كانت السماء سقفا مرفوعا حين كان الأولياء تحتها، والأرض كانت فراشا إذ كانوا عليها، فإذا ارتحل الأحباب عنها تخرب ديارهم.. على العادة فيما بين الخلق من خراب الديار بعد مفارقة الأحباب.
__________
(1) آية 22 سورة الفرقان
(2) آية 59 سورة يس
(3) آية 108 سورة المؤمنون.
(4) أي من الله سبحانه- وهؤلاء هم صفوة الأخيار.(2/525)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
ويقال نطوى السماء التي إليها عرجت دواوين العصاة من المسلمين لئلا تشهد عليهم بالإجرام، وتبدّل الأرض التي عصوا عليها غير تلك الأرض حتى لا تشهد عليهم بالإجرام.
أو نطوى السماء لنقرّب قطع المسافات على الأحباب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 105]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
«الذِّكْرِ» هنا هو التوراة، و «كتب» : أي أخبر وحكم، و «الصَّالِحُونَ» أمة محمد- صلى الله عليه وسلم: أنّ «الْأَرْضَ» هم الذين يرثونها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 107]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
أمّا من أسلم فبك ينجون، وأمّا من كفر فلا نعذبهم ما دمت فيهم فأنت رحمة منّا على الخلائق أجمعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 108]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
واحد فى ذاته، واحد فى صفاته، واحد فى أفعاله واحد بلا قسيم، واحد بلا شبيه، واحد بلا شريك.
«فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» مخلصون في عقد التوحيد بالتبرّى عن كل غير فى حسبان صلاحيّته للألوهية؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 109]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109)
إن أعرضوا ولم يؤمنوا فقل: إنى بالالتزام أعلمتكم، ولكن للإكرام ما ألهتكم، فتوجّهت عليكم الحجة واستبهمت عليكم المحجة.(2/526)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قوله: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ..» إنّ علمى متقاصر عن تفصيل أحوالكم فى مآلكم، ووقت ما توعدون به فى القيامة من تحصيل أهوالكم، ولكنّ حكم الله غير مستأخر إذا أراد شيئا من تغيير أحوالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 110]
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110)
لا يخفى عليه سرّكم ونجواكم، وحالكم ومآلكم، وظاهركم وباطنكم.. فعلى قدر استحقاقكم يجازيكم، وبموجب أفعالكم يحاسبكم ويكافيكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 111]
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
ليس يحيط علمى (إلا) «1» بما يعلمنى، وإعلامه إياى ليس باختياري، ولا هو مقصود على حسب مرادى وإيثارى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (21) : آية 112]
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
الرحمن كثير الرحمة عامة لكل أحد، ومنه يوجد العون والنصر حين يوجد وكيف يوجد.
السورة التي يذكر فيها «الحج»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب الهيبة والغيبة وذلك وقت محوهم. وسماع «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يوجب الأنس والقربة، وذلك وقت صحوهم.. فعند سماع هذه الآية انتظم لهم المحو والصحو فى سلك واحد.
سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب انزعاج القلوب وعنده يحصل داء جنونهم «2» ، وسماع «الرَّحْمنِ»
__________
(1) سقطت (إلا) فى ص وموجودة فى م.
(2) ليس الجنون والفتون هنا مرتبطين بفساد العقل كما قد يتبادر للذهن إنما يرتبطان بذهاب العقل والوله فى المحبوب، وهذه هى المرة الأولى التي تصادف فيها هاتين اللفظتين فى مثل هذا السياق، وقد اعتدنا أن نسمع بدلا من (مجنون ومفتون) كلمات أخرى مثل (مهيم ومتيم) [انظر التحبير فى التذكير ص 62] .(2/527)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
«الرَّحِيمِ» يوجب ابتهاج القلوب وبه يحصل شفاء فتونهم، فعودة فتونهم فى لطف جماله كما أن موجب جنونهم فى كشف جلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ» نداء علامة، و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» نداء كرامة، وبكلّ واحد من القسمين يفتتح الحقّ خطابه فى السّور وذلك لانقسام خطابه إلى صفة التحذير مرة، وصفة التبصير أخرى.
والتقوى هى التحرز والاتقاء وتجنب المحظورات. وتجنب المحظورات فرض، وتجنب الفضلات والشواغل- وإن كان من جملة المباحات- نفل، فثواب الأول أكثر ولكنه مؤجّل، وثواب النّفل أقلّ ولكنه معجّل «1» .
ويقال خوّفهم بقوله: «اتَّقُوا» . ثم سكن ما بهم من الخوف بقوله: «رَبَّكُمْ» فإنّ سماع الربوبية يوجب الاستدامة وجميل الكفاية.
قوله: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» : وتسمية المعدوم «شيئا» توسّع بدليل أنه ليس فى العدم زلزلة بالاتفاق وإن كان مطلق اللفظ يقتضيه، وكذلك القول فى تسميته «شيئا» هو توسّع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 2]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
لكل ذلك اليوم شغل يستوفيه، ويستغرقه، وترى الناس سكارى أي من هول ذلك
__________
- ومن المفيد أن نسوق نصا لإحدى المجانين:
معشر الناس ما جننت ولكن ... انا سكرانة وقلبى صاح
أنا مفتونة بحب حبيب ... لست أبغى عن بابه من براح
(الروض الفائق ص 362) وكتابنا (نشأة التصوف الإسلامى ط المعارف ص 178) .
(1) هذا أصل يضاف إلى أصول الفقه الصوفي عند القشيري.(2/528)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
اليوم عقولهم ذاهبة، والأحوال فى القيامة وأهوالها غالبة. وكأنهم سكارى وما هم فى الحقيقة بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، ولشدّته يحيرهم ولا يبقيهم على أحوالهم.
وهم يتفقون فى تشابههم بأنهم سكارى، ولكنّ موجب ذلك يختلف فمنهم من سكره لما يصيبه من الأهوال، ومنهم من سكره لاستهلاكه فى عين الوصال.
كذلك فسكرهم اليوم مختلف فمنهم من سكره سكر الشراب، ومنهم من سكره سكر المحاب.. وشتّان بين سكر وسكر! سكر هو سكر أهل الغفلة، وسكر هو سكر أهل الوصلة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 3]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3)
المجادلة لله- مع أعداء الحق وجاحدى الدّين- من موجبات القربة، والمجادلة فى الله، والمماراة مع أوليائه، والإصرار على الباطل بعد ظهور الدلائل من أمارات الشقوة، وما كان بوساوس الشيطان ونزغاته فقصاراه النار.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 4]
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
من وافق الشيطان بمتابعة دواعيه لا يهديه إلّا إلى الضلال، ثم إنه فى الآخرة يتبرأ من موافقته، ويلعن جملة متّبعيه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته، ومن درك الشقاء وشؤم مفاجآته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
__________
(1) حديث القشيري فى (السكر) هنا مفيد عند دراسة هذا المصطلح.(2/529)
التبس عليهم جواز (بعثه الخلق) «1» واستبعدوه غاية الاستبعاد، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان، واحتجّ عليهم فى ذلك بما قطع حجتهم، فمن تبع هداه رشد، ومن أصرّ على غيّه تردّى فى مهواة هلاكه.
واحتجّ عليهم فى جواز البعث بما أقروا به فى الابتداء أن الله خلقهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها ... إلى أن نقلهم من حال شبابهم إلى زمان شيبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم.
واحتجّ أيضا عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيى الأرض- فى حال الربيع- بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه فى الربيع من الخضرة والحياة. والذي يقدر على هذه الأشياء يقدر على خلق الحياة فى الرّمة البالية والعظام النخرة.
قوله: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : زمان الفترة بعد المجاهدة، وحال الحجبة عقب المشاهدة.
ويقال أرذل العمر السعى للحظوظ بعد القيام بالحقوق.
ويقال أرذل العمر الزلة فى زمان المشيب.
ويقال أرذل العمر الإقامة فى منازل العصيان.
ويقال أرذل العمر التعريج فى (أوطان) «2» المذلة.
ويقال أرذل العمر العشرة مع الأضداد.
ويقال أرذل العمر (عيش) «3» المرء بحيث لا يعرف قدره.
ويقال أرذل العمر بأن يوكل إلى نفسه.
ويقال أرذل العمر التطوح فى أودية الحسبان أن شيئا بغير الله.
ويقال أرذل العمر الإخلاد إلى تدبير النّفس، والعمى عن شهود تقدير الحق.
__________
(1) هكذا فى م أما فى ص فهى (بعثهم الحق) ونرجح الأولى إذ الذي استبعدوه أن يبعث الله واحدا من الخلق.
(2) هكذا فى م وهى غير موجودة فى ص.
(3) فى م (عيش) المرء وفى ص (حبس) المرء. وقد رجحنا (عيش) على معنى أن الله يمنحه من العمر ما لا يكون خلاله تقدير من الخلق له.(2/530)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 6]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
الله هو الحقّ، والحق المطلق الوجود «1» ، وهو الحق أي ذو الحق.
«وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى» أي الأرض التي أصابتها وحشة الشتاء «2» يحييها وقت الربيع.
ويقال يحيى النفوس بتوفيق العبادات، ويحيى القلوب بأنوار المشاهدات.
ويقال يحيى أحوال المريدين بحسن إقباله عليهم.
ويقال حياة الأوقات بموافقة الأمر، ثم بجميل الرضا وسكون الجأش عند جريان التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 9]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)
دليل الخطاب يقتضى جواز المجادلة فى الله إذا كان صاحب المجادلة على علم بالدليل والحجة ليستطيع المناضلة عن دينه، قال سبحانه لنبيّه: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ومن لم يحسن مذهب الخصم وما يتعلق به من الشبه لم يمكنه الانفصال عن شبهته، وإذا لم تكن له قوة الانفصال فلا يستحبّ له أن يجادل الأقوياء «3» منهم، وهذا يدل على وجوب تعلم علم الأصول «4» ، وفى هذا رد على من جحد ذلك.
قوله جل ذكره: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) (الحق المطلق الوجود) هذه عبارة لم تصادفنا من قبل فى أي مصنف القشيري، ونحن نعطيها أهمية خاصة إذا تذكرنا أن هذا اصطلاح لأرباب وحدة الوجود، فهم يعتبرون الوجود المطلق للحق وما عدا فوجوده نسبى متكثر متعدد، وهذا لا بأس به، ولكن النتائج التي رتبوها عليه خطيرة. ونظن أنها (الموجود) بدل (الوجود) بدليل ما سبق ذكره عند تفسير الآية «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» من سورة طه وكنا قد أيدنا ذلك بما ذكره فى كتابه «التحبير في التذكير» . [.....]
(2) هكذا فى م ولكنها فى ص (الشقاء) بالقاف ونحن نؤثر الأولى لأن المقصود المقابلة مبين الربيع و (الشتاء) .
(3) هكذا فى م ولكنها في ص (إلا قوما) .
(4) فى هذا وفيما بعده رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلم، وعدم احترامهم للعقل، كما أن فيه ردا على قضية أنارها بعض المتكلمين حول وجوب أو عدم وجوب تعلم المسلم أصول التوحيد كى يصح إيمانه، ومدى ما يكون عليه إيمان العامة الذين لا تتاح لهم فرصة هذا التعلم.(2/531)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق يريد أنه متكبّر عن قبول الحق، زاهد فى التحصيل، غير واضع نظره موضعه إذ لو فعل ذلك لهان عليه التخلّص من شبهته.
ثم قال: «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» أي مذلة وهوان، وفى الآخرة عذاب الحريق.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)
يعنى يكون على جانب، غير مخلص ... لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جحدا يبين الشقاق فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا. ومن كانت هذه صفته فقد خسر فى الدارين، وأخفق فى المنزلتين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : الآيات 12 الى 13]
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
أي يعبد من المضرّة فى عبادته أكثر من النّفع منه، بل ليس فى عبادته النفع بحال، فالضّرّ المتيقّن فى عبادتهم الأصنام هو بيان ركاكة عقولهم، ورؤية الناس خطأ فعلهم.
والنفع الذي يتوهمونه فى هذه العبادة ليس له تحصيل ولا حقيقة.(2/532)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
ثم قال: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» : أي لبئس الناصر الصّنم لهم، ولبئس القوم هم للصنم، ولم لا.؟ ولأجله وقعوا فى عقوبة الأبد.
قوله جل ذكره
[سورة الحج (22) : آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
«الَّذِينَ آمَنُوا» : أي صدّقوا ثم حقّقوا فالإيمان ظاهره التصديق وباطنه التحقيق، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق.
ويقال الإيمان (انتسام) «1» الحق فى السّرّ.
ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففى الحال يجب الإيمان وفى المآل يوجب الأمان، فمعجّل الإيمان من ( ... ) «2» المسلمين، ومؤجّله الخلاص من صحبة الكافرين الفاسقين.
وقوله: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلّق به الإيمان.
والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة فالمؤجّله ثواب وتوبة، والمعجّلة أحوال وقربة، قال تعالى: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 15]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
أي أنّ الحقّ- سبحانه- يرغم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تطب
__________
(1) فى م (ابتسام) وفى ص (انتسام) ، ونحن نفضل هذه على تلك على أنها صيغة (انفعال) من (تنسم) فلان العلم أو الخبر أي تلطف فى التماسه حتى تبينه وتبعه.
(2) فى م (سيف) وفى ص (سلف) ونحن نؤثر الأولى إذ أن الذي يؤمن يأمن- فى الحال- من بطش المسلمين الذين أمروا بقتال أعدائهم جهادا فى سبيل إعلاء كلمة الإيمان.
(3) آية 46 سورة الرحمن.(2/533)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
نفسه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتل نفسه من الغيظ خنقا، ثم لا ينفعه ذلك، كما قيل:
إن كنت لا ترضى بما قد ترى ... فدونك الحبل به فاخنق
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 16]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
«آياتٍ بَيِّناتٍ» : أي دلالات وعلامات نصبها الحقّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ما هو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ما هو تعريفات فى أوقات المعاملات «1» فما يجده العبد فى حالاته من انغلاق، واشتداد قبض، وحصول خسران، ووجوه امتحان..
لا شكّ ولا مرية إذا أخلّ بواجب أو ألمّ بمحظور «2» . أو تكون زيادة بسط أو حلاوة طاعة، أو تيسير عسير من الأمور، أو تجدد إنعام عند حصول شىء من طاعاته.
ثم قد يكون آيات فى الأسرار، هى خطاب الحقّ ومحادثة معه، كما فى الخبر:
«لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يك فى أمتى فعمر» «3» ثم يقال الآيات ظاهرة، والحجج زاهرة، ولكن الشأن فيمن يستبصر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
أصناف الناس على اختلاف مراتبهم: الولىّ والعدوّ، والموحّد والجاحد يجمعون يوم الحشر، ثم الحقّ- سبحانه- يعامل كلا بما وعده إما بوصال بلا مدى، أو بأحوال
__________
(1) يمكن القول إن هذه هى المصادر الأساسية لما أطلقنا عليه من قبل (أصول الفقه الصوفي) ومنها يتضح اهتمام القشيري بالعقل ثم النقل ثم ما يحصل من العرفان نتيجة المجاهدات.
(2) فإن الإثم ما حاك فى صدرك ... كما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
(3) وهى التي يطلق عليها القشيري (الفراسة) انظر الرسالة ص 115 وما بعدها.(2/534)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
بلا منتهى. الوقت واحد وكلّ واحد لما أعدّ له وافد، وعلى ما خلق له وارد..
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
أهل العرفان يسجدون له سجود عبادة، وأرباب الجحود كلّ جزء منهم يسجد له سجود دلالة وشهادة.
وفى كل شىء له آية ... تدلّ على أنه واحد
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 19]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
أما الذين كفروا فلهم اليوم لباس الشرك وطرازه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفى الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» .
أمّا أصحاب الإيمان فلباسهم اليوم التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشّرك ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكون إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله.
وفى الآخرة لباسهم فيها حرير، وآخرون لباسهم صدار المحبة، وآخرون لباسهم الانفراد به، وآخرون هم أصحاب التجريد فلا حال ولا مقام ولا منزلة ولا محل وهم الغرباء «1» ، وهم الطبقة العليا، وهم أحرار من رقّ كل ما لحقه التكوين.
__________
(1) يقول ابن الجلاء فى تعريف الصوفي: فقير مجرد عن الأسباب، كان مع الله بلا مكان، ولا يمنعه الحق- سبحانه- من علم كل مكان (الرسالة ص 140) ويقول الحصرى: «الصوفى لا تقله أرض ولا تظله سماء» الرسالة (الصفحة ذاتها) .(2/535)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 23]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
التحلية تحصين لهم، وستر لأحوالهم فهم للجنة زينة، وليس لهم بالجنة زينة:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 24]
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
الطيب من القول ما صدر عن قلب خالص، وسرّ صاف (مما يرضى به علم التوحيد، فهو الذي لا اعتراض عليه للأصول) «1» ويقال الطيب من القول ما يكون وعظا للمسترشدين، ويقال الطيب من القول هو إرشاد المريدين إلى الله.
ويقال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويقال الدعاء للمسلمين.
ويقال كلمه حق عند من يخاف ويرجى «2» .
ويقال الشهادتان عن قلب مخلص.
ويقال ما كان قائله فيه مغفورا «3» وهو مستنطق.
__________
(1) هكذا فى ص ولا فرق بين العبارة فى س، م إلا أنها جاءت فى الأخيرة (مما رضى به ... )
والمقصود أن أقوال أرباب القلوب ينبغى ألا تتعارض مع أقوال أرباب أصول التوحيد لأن الحقيقة لا تعارض الشريعة فى شىء. فالضمير (فهو) يعود على الطيب من القول الصادر من القلب الخالص والسر الصافي.
(2) أي عند صاحب سلطان، وقد عرف الصوفية بشجاعتهم الرائعة فى مواجهة أصحاب الأمر والنهى من الحكام وغيرهم.
(3) هكذا فى ص أما فى م فهى (مفقودا) وعلى الأول يكون المعنى أن قوله مسموح به- ظاهريا- حيث لا يستشنع فى الباطن، وعلى الثاني: أي يكون قائله فى حال الفقد فهو لا ينطق بنفسه بل بالله.(2/536)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برىء من الذنوب.
ويقال الإقرار بقوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «1» .
ويقال أن تدعوا للمسلمين بما لا يكون لك فيه نصيب.
وأمّا «صِراطِ الْحَمِيدِ» : فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم: مسجد الجامع (أي المسجد الجامع) والصراط الحميد: الطريق المرضى وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة، وليس للحقيقة عليه نكير.
ويقال الصراط الحميد: ما كان طريق الاتباع دون الابتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
الصدّ عن المسجد الحرام بإخافة السّبل، وبغصب المال الذي لو بقي فى يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام.
قوله: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «2» » وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم.
ومشهد الكرام يستوى فيه الإقدام، فمن وصل إلى تلك العقوة فلا ترتيب ولا ردّ، وبعد الوصول فلا زجر ولا صدّ، أمّا فى الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر قال تعالى:
«وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» «3» ولكن فى الوصول فلا تفاوت ولا تباين، ثم إذا اجتمعت النفوس فالموضع الواحد يجمعهم، ولكن لكلّ حال ينفرد بها.
__________
(1) آية 23 سورة الأعراف. [.....]
(2) البادي- غير المقيم.
(3) آية 24 سورة الحجر.(2/537)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 26]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
أصلحنا له مكان البيت ومسكّناه منه وأرشدناه له، وهديناه إليه، وأعنّاه عليه، وذلك أنه رفع البيت إلى السماء الرابعة فى زمن طوفان نوح عليه السلام، ثم أمر إبراهيم عليه السلام ببناء البيت على أساسه القديم. قوله «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» ، أي لا تلاحظ البيت ولا بناءك له.
«وَطَهِّرْ بَيْتِيَ..» يعنى الكعبة- وذلك على لسان العلم، وعلى بيان الإشارة فرّغ قلبك عن الأشياء كلّها سوى ذكره- سبحانه.
وفى بعض الكتب: «أوحى الله إلى بعض الأنبياء فرّغ لى بيّتا أسكنه، فقال ذلك الرسول: إلهى.. أى بيت تشغل؟ فأوحى الله إليه: ذلك قلب عبدى المؤمن» . والمراد منه ذكر الله تعالى فالإشارة فيه أن يفّرّغ قلبه لذكر الله. وتفريغ القلب على أقسام:
أوله من الغفلة ثم من توهّم شىء من الحدثان من غير الله.
ويقال قد تكون المطالبة على قوم بصون القلب عن ملاحظة العمل، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال.
ويقال «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي قلبك عن التطلع والاختيار بألا يكون لك عند الله حظّ فى الدنيا أو فى الآخرة حتى تكون عبدا له بكمال قيامك بحقائق العبودية.
«ويقال طَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي بإخراج كل نصيب لك فى الدنيا والآخرة من تطلع إكرام، أو تطلّب إنعام، أو إرادة مقام، أو سبب من الاختيار والاستقبال.
ويقال طهّر قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق. «وَالْقائِمِينَ» وهى الأشياء المقيمة من مستودعات «1» العرفان فى القلب من الأمور المغيبة عن البرهان،
__________
(1) هكذا فى م أما فى ص فهى (مستوطنات) .(2/538)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هى كالعيان كما فى الخبر: «كأنك تراه» . «1»
«وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» : هى أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة، والرجاء والمخافة والقبض والبسط، وفى معناه أنشدوا:
لست من جملة المحبين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافى إجالة السّرّ فيه ... وهو ركنى إذا أردت استلاما
قوله: «لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» : لا تلاحظ البيت ولا بناءك «2» للبيت.
ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق فى شهود ربّ البيت.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 27]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
أذّن إبراهيم- عليه السلام- بالحج ونادى، وأسمع الله نداءه جميع الذرية فى أصلاب آبائهم، فاستجاب من المعلوم من حاله أنه يحج.
وقدّم الرّجالة على الركبان لأنّ الحمل على المركوب أكثر «3» .
ولتلك الجمال على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب، وفى قريب من معناه أنشدوا:
وإنّ جمالا قد علاها جمالكم ... - وإن قطّعت أكبادنا- لحبائب
ويقال «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم.
وكم قدر مسافة الدنيا بجملتها!؟ ولكن لأجل قدر أفعالهم وتعظيم صنيعهم يقول ذلك إظهارا لفضله وكرمه.
__________
(1) إشارة إلى الحديث (أعبد الله كأنك تراه وعد نفسك من الموتى) .
الطبراني عن أبى الدرداء، وحسن السيوطي سنده، ورواه البيهقي عن معاذ. وفى الحلية (أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ... ) .
(2) هكذا فى م أما فى ص فقد وردت (ولا تبال) ونحن نرجح ما جاء فى م.
(3) فتقديم الرجالة فيه تخصيص نظرا لما يبذلونه من جهد أكبر.(2/539)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 28]
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
أرباب الأموال منافعهم أموالهم، وأرباب الأعمال منافعهم حلاوة طاعتهم، وأصحاب الأحوال منافعهم صفاء أنفاسهم، وأهل التوحيد منافعهم رضاهم باختيار الحقّ ما يبدو من الغيب لهم.
قوله جل ذكره: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «1» عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ لأقوام عند التقرّب بقرابينهم وسوق هديهم «2» . وآخرون يذكرون اسمه عند ذبحهم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس.. حتى يقوموا بالله لله بمحو ما سوى الله.
قوله جل ذكره: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.
شاركوا الفقراء فى الأكل من ذبيحتكم- الذي ليس بواجب- لتلحقكم بركات الفقراء. والإشارة فيه أن ينزلوا «3» ساحة الخضوع والتواضع، ومجانبة الزّهو والتكبّر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 29]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودهم، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فمن كان عقده التوبة فوفاؤه ألا يرجع إلى العصيان. ومن كان عهده اعتناق الطاعة فشرط وفائه ترك تقصيره. ومن كان عهده ألا يرجع إلى طلب مقام وتطلّع إكرام فوفاؤه استقامته على الجملة فى هذا الطريق بألا يرجع إلى استعجال نصيب واقتضاء حظ.
قوله جل ذكره: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الإشارة فى الطواف إلى أنه يطوف بنفسه حول البيت، وبقلبه فى ملكوت السماء، وبسرّه فى ساحات الملكوت.
__________
(1) أبو حنيفة: هى عشر ذى الحجة وآخرها يوم النحر. وأكثر المفسرين: هى أيام النحر.
(2) الهدى- ما يهدى إلى الحرم من النعم، قال تعالى: «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» .
(3) هكذا فى م وفى س (يتركوا) وربما كانت فى الأصل ألا يتركوا فهكذا يقتضى السياق.(2/540)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 30]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
تعظيم الحرمات «1» بتعظيم أمره وتعظيم أمره بترك مخالفته.
ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره من هواه على رضى مولاه، ولا محالة سيلقى سربعا غبّه «2» .
ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه (وما فجر صاحب حرمة قط «3» ) .
ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجب الفرقة.
ويقال كلّ شىء من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إليه طريق، وترك الحرمة على خطر ألا يغفر.. وذلك بأن يؤدى ثبوته بصاحبه إلى أن يختلّ دينه وتوحيده.
قوله جل ذكره: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.
فالخنزير من جملة المحرمات، وكذلك النطيحة والموقوذة، وما يجىء تفصيله فى نصّ الشرع.
قوله جل ذكره: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.
«مَنْ» هاهنا للجنس لا للتبعيض، وهوى كلّ من اتبعه معبوده، وصنم كلّ أحد نفسه.
«وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» : ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قول القلب ونطقه، ومن عاهد الله بقلبه ثم لا يفى بذلك فهو من جملة قول الزور.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 31]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
__________
(1) هكذا في م وفى ص (الجهات) ونرجح الأول حيث وردت فى الآية.
(2) هكذا في م وفى ص (نحبه) ونرجح (غبه) بمعنى عاقبته.
(3) هكذا فى م وفى ص (وما فجر صاحب ظلمة فظ) والعبارة الأولى أقرب إلى المعنى.(2/541)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
الحنيف المائل إلى الحق عن الباطل فى القلب والنّفس، فى الجهر وفى السّرّ، فى الأفعال وفى الأحوال وفى الأقوال «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» : الشّرك جلىّ وخفىّ «1» .
قوله «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما ... » كيف لا.. وهو يهوى فى جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق.. وكذلك غدا فى صفة قوم يقول الله تعالى:
«نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 32]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
يقف المؤمن على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهرا، وبخواطر الإلهام سرّا.
وكما لا تجوز مخالفة شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإنّ خاطر الحقّ لا يكذب، وعزيز من له عليه وقوف. وكما أنّ النّفس لا تصدق فالقلب لا يكذب، وإذا خولف القلب عمى فى المستقبل، وانقطعت عنه تعريفات الحقيقة، والعبارة «3» والشرح يتقاصران عن ذكر هذا على التعيين والتفسير. ويقوى القلب بتحقيق المنازلة فإذا خرست النفوس، وزالت هواجسها، فالقلوب تنطق بما تكاشف به من الأمور.
ومن الفرق بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبه أولا ثم يعمل مختارا، وما كان من الحق يجرى ويحصل ثم بعده يعلم من جرى عليه
__________
(1) الشرك الجلى معروف أما الشرك الخفي فهو أن ينازعه منازع فى قلبك من هوى أو حظ أو علاقة تنأى بك عنه.
(2) آية 67 سورة التوبة. [.....]
(3) فى م وص (والعبادة) وقد رأينا أن تكون (العبارة) بالراء أي أن التعبير عن ذلك بالكلام والشرح قاصر(2/542)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
ذلك معناه، ولا يكون الذي يجرّى عليه ما يجرى مضطرا إلى ما يجرى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار «1» ، بل يكون مختارا ولكنّ سببه عليه مشكل، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 33]
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
لكلّ من تلك الجملة منفعة بقدره وحدّه «2» فلأقوام بركات فى دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم، ولآخرين فى لذاذات بسطهم، ولآخرين فى حلاوة طاعاتهم، ولآخرين فى أنس أنفاسهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف، ثم هم فيها مختلفون: فقوم هم أصحاب التضعيف «3» فيما أوجب عليهم وجعل لهم، وقوم هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وعد لهم. قوله «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى..» وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام: منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم.. وذلك من حيث الشكر، ثم يذكرون اسمه على ما رفقهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يثيبهم.
قوله جل ذكره: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
أي استسلموا لحكمه بلا تعبيس ولا استكراه من داخل القلب.
__________
(1) هذه وجهة نظر باحث صوفى فيما يشغل المتكلمين عن الجبر والاختيار.
(2) أي بحسب ماله من قدر وهمة، وما هو واقف عنده من حد ورتبة.
(3) أصحاب التضعيف أي أصحاب التشدد الذين يأبون اتباع الرخص، لأن الرخص لا تكون إلا لأرباب الحوائج والأشغال وهؤلاء لا حاجة ولا شغل لهم إلا بالحق.(2/543)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
والإسلام «1» يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس. «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» :
الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومن أمارات الإخبات كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 35]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
الوجل الخوف من المخافة، والوجل عند الذكر على أقسام: إما لخوف عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروج من الدنيا على غفلة من غير استعداد للموت، أو إصلاح أهبة، أو حياء من الله سبحانه فى أمور إذا ذكر اطلاعه- سبحانه- عليها لما بدرت منه تلك الأمور التي هى غير محبوبة.
ويقال الوجل على حسب تجلى الحق للقلب فإن القلوب فى حال المطالعة والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة.
ويقال وجل له سبب ووجل بلا سبب فالأول مخافة من تقصير، والثاني معدود فى جملة الهيبة «2» .
ويقال الوجل خوف المكر والاستدراج، وأقربهم من الله قلبا أكثرهم من الله- على هذا الوجه- خوفا.
قوله جل ذكره: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ.
أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه ولا تمنى خرجة، ولا روم فرجة بل يستسلم طوعا:
__________
(1) هكذا فى م ولكنها فى ص (السلام) والصواب الأولى ففى الآية (أسلموا) .
(2) فالخوف إذن أدنى منزلة من الهيبة، والترتيب هكذا: الخوف والرجاء ثم القبض والبسط ثم الهيبة والأنس (الرسالة ص 35 وص 36) .(2/544)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوة باطلاع الخلق «1» على أحوالهم.
قوله جل ذكره: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ.
أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف فى محلّ النجوى:
إذا ما تمنّي الناس روحا وراحة ... تمنّيت أن أشكو إليك فتسمعا
قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عند المعاملة من أموالهم، وفى قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير فينفقون أبدانهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبهم على التسليم والخمود تحت جريان الاحكام بمطالبات الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 36]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحمل عليها (وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخلقتها كيف سخّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبيان فى البروك عند الحمل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها) «2» وصبرها على العطش فى الأسفار، وعلى قليل العلف، ثم ما فى طبعها من لطف الطبع، وحيث تستريح بالحداء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك.
__________
(1) هكذا فى ص ولكنها فى م (بإطلاق الحق) والصواب الأول لأنهم لا يفزعون للخلق طلبا للسلوة فيما يصيبهم من الحق وفى هذا حفظ لأسرارهم.
(2) ما بين القوسين موجود فى م وساقط من ص.(2/545)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
«فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها» : أي سقطت على وجه الأرض فى حال النّحر فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس، والمعترّ الذي هو فى تحمّله متحمّل، ولمواضع فاقته كاتم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 37]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
لا عبرة بأعيان الأفعال سواء كانت بدنية محضة، أو مالية صرفة، أو بما له تعلّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص «1» ، فإذا انضاف إلى أكساب الجوارح إخلاص القصود، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها للأغيار صلحت للقبول «2» .
ويقال التقوى شهود الحقّ بنعت التفرّد فلا يشاب تقرّبك بملاحظة أحد، ولا تأخذ عوضا على عمل من بشر.
«لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» : أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع.
«وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» : والإحسان كما فى الخبر: «أن تعبد الله كأنك تراه..» .
وأمارة صحته سقوط التعب بالقلب عن صاحبه، فلا يستثقل شيئا، ولا يتبرم بشىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) .
__________
(1) يقال إن سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا إذا تحروا الإبل نضحوا الدماء- حبل البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت الآية.
(2) يرى القشيري ان هذا جوهر العبادات جميعا، أن تكون خالصة لله، وقد فصلنا ذلك عند بحثنا عن القشيري المفسر.
انظر كتابنا (الإمام القشيري ومذهبه فى التصوف) ط مؤسسة الحلبي.(2/546)
يدفع عن صدورهم نزغات الشيطان، وعن قلوبهم خطرات العصيان، وعن أرواحهم طوارق النسيتان.
والخيانة على أقسام: خيانة فى الأموال تفصيلها فى المسائل الشرعية، وخيانة فى الأعمال، وخيانة فى الأحوال فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة، وشرّها الإعجاب، ثم المساكنة وأخفاها الملاحظة «1» .
ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا (على) «2» طلب الأعواض ليجدوا فى الآخرة حسن المآل.. وهذا إخلاص الصالحين. ولكنه عند خواص الزهاد خيانة لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العوض على تركهم ذلك من قبل الله.
وخيانة العابدين أن يدعوا شهواتهم ثم يرجعون إلى الرّخص، فلو صدقوا فى مرماهم لما انحطّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها.
وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب.
وخيانة المحبين روم فرحة «3» مما يمسهم من برحاء المواجيد، وابتغاء خرجة مما يشتدّ عليهم «4» من استيلاء صدّ، أو غلبات شوق، أو تمادى أيام هجر.
وخيانة أرباب التوحيد أن يتحرك لهم للاختيار عرق، ورجوعهم- بعد امتحائهم عنهم- إلى شظية من أحكام الفرق، اللهم إلا أن يكون ذلك منهم موجودا، وهم عنه مفقودون «5» .
__________
(1) نلفت النظر إلى أهمية ذلك عند دراسة المصطلح الصوفي، خاصة وأن القشيري لم يتكلم عن ذلك فى رسالته.
(2) (على) طلب الأعواض معناها لأجل طلب الأعواض.
(3) (روم) فى ص و (روح) فى م، ونظن أنها (فرجة) بالجيم كما سبق منذ قليل حين استعمل القشيري (فرجة، وخرجة) فى سياق مماثل.
(4) هكذا فى م وهى فى ص مما (يشق عليهم) وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(5) معنى هذا أن القشيري يسلم بأنه قد يحدث من العبد الواله ما ينبغى أن يعذر فيه، إن صحّ صدقه فى التوجه، واشتد وقع المحو عليه.(2/547)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 39]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
إذا أصابهم ضرّ أو مسّهم- ما هو فى الظاهر- ذلّ من الأعادى يجرى عليهم ضيم، أو يلحقهم من الأجانب استيلاء وظلم.. فالحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائهم لأجلهم، فهم بنعت التسليم والسكون فى أغلب الأحوال، وتفاصيل الأقدار جارية باستئصال من يناويهم، وبإحالة الدائرة على أعاديهم. وفى بعض الأحايين ينصبهم الحقّ سبحانه بنعت الغلبة والتمكين من نزولهم بساحات من يناوئهم بحسن الظّفر، وتمام حصول الدائرة على من ناصبهم، وأخزاهم بأيديهم، وكلّ ذلك يتفق، وأنواع النصرة من الله- سبحانه- حاصلة، والله- فى الجملة- غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 40]
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
المظلوم منصور ولو بعد حين، ودولة الحق تغلب دولة الباطل، والمظلوم حميد العقبى، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» «1» .
وقد يجرى من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء وأهل القصة- ظلم، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء، وتستولى غاغة النّفس، فتعمل فى القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تنداعى القلوب للخراب من «2» طوارق الحقائق وشوارق الأحوال، كما قال قائلهم:
أنى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الجود فيها أبحر الحكم
فيهزم الحقّ- سبحانه- بجنود الإقبال أراذل الهواجس، وينصر عسكر التحقيق بأمداد الكشوفات. ويتجدّد دارس العهد، وتطلع شموس السّعد فى ليالى الستر، وتكنس القلوب وتتطهر من آثار ظلمة النّفس، كما قيل:
__________
(1) آية 52 سورة النمل.
(2) (للخراب من طوارق الحقائق) أي بسبب خلوها من طوارق الحقائق(2/548)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
أطلال سعدى باللّوى تتجدّد فإذا هبّت على تلك القلوب رياح العناية، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صوب «1» التجلّى، وأنبت فيها أزهار البسط فيتضح فيها نهار الوصل، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد.
قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
يتجاوز عن الأصاغر لقدر الأكابر، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام.. وتلك سنّة أجراها الله لاستنقاء «2» منازل العبادة، واستصفاء من اهل العرفان. ولا تحويل لسنّته، ولا تبديل لكريم عادته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 41]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
إذا طالت بهم المدة، وساعدهم العمر لم يستفرغوا أعمالهم فى استجلاب حظوظهم، ولا فى اقتناء محبوبهم من الدنيا أو مطلوبهم، ولكن قاموا بأداء حقوقنا.
وقوله: «أَقامُوا الصَّلاةَ» : فى الظاهر، واستداموا المواصلات فى الباطن.
__________
(1) الصوب- المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذى (الوسيط) .
(2) هكذا فى م ولكنها فى س (لاستيفاء) . وقد آثرنا (استنقاء) لملاء منها (لاستصفاء) التي بعدها ولا نستبعد أنها قد تكون (لاستبقاء) فى الأصل على معنى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لما بقيت منازل العبادة لأن الكافرين إذا انتصروا لم يتركوا معابد.(2/549)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها فتعلم- بين يدى الله- من أنت، ومن تناجى، ومن الرقيب عليك، ومن القريب منك.
وقوله: «وَآتَوُا الزَّكاةَ» : الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم، وفقراؤهم يؤتون زكاة أحوالهم فزكاة الأموال عن كل مائتين خمسة للفقراء والباقي لهم، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتى نفس تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله، ونصف جزء من نفس- من المائتين- لك.. وذلك أيضا علّة «1» قوله «وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» : يبتدئون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأنفسهم ثم بأغيارهم، فإذا أخذوا فى ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم.
ويقال «الأمر بالمعروف» حفظ الحواس عن مخالفة أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره.
ويقال الأمر بالمعروف على نفسك، ثم إذا فرغت من ذلك تأخذ فى نهيها عن المنكر ومن وجوه المنكر الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 44]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)
فى الآيات تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم، وأمر حتم عليه بالصبر على مقاساة ما كان يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء «2» .
__________
(1) لأنه ينبغى الا تكون لك فى نفسك بقية على الإطلاق، ويجب أن تكون بكليتك للحق.
(2) أسواء- جمع سوء.(2/550)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 45]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فتخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة التي هى غالبة على الظّلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظ من يظلمون عليهم.. كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم، وهو فى الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم.
ويقال خراب منازل الظّلمة ربما يتأخر وربما يتعجل. وخراب نفوسهم فى تعطلها عن العبادات لشؤم ظلمهم، وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا فى أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم.. نقد «1» غير مستأخر.
قوله جل ذكره: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.
الإشارة فى «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» : إلى العيون المتفجرة التي كانت فى بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفى ذلك الاستقاء حياة أوقاتهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد، فإذا اتصفوا بظلمهم غلب غشاؤها «2» وانقطع ماؤها بانسداد عيونها.
والإشارة فى «قَصْرٍ مَشِيدٍ» إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأنس، وخلوّ أرواحهم من أنوار المحابّ، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 46]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
__________
(1) (نقد) هنا معناها معجّل، تقابل (وعد) فى المؤجّل.
(2) الغثاء- الفاسد من الماء، الممتلئ ببقايا الأشياء من وجه الأرض والرغوة القدرة.(2/551)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
كانت لهم قلوب من حيث الخلقة، فلمّا زايلتها صفاتها المحمودة صارت كأنها لم تكن فى الحقيقة. ثم إنه أخير أن العمى عمى القلب وكذلك الصمم، وإذا صحّ وصف القلب بالسمع والبصر صحّ وصفه بسائر صفات الحىّ من وجوه الإدراكات فكما تبصر القلوب بنور اليقين يدرك نسيم الإقبال بمشامّ السّرّ، وفى الخبر:
«إنى لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» وقال تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام:
«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» «1» وما كان ذلك إلا بإدراك السرائر دون اشتمام ريح فى الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 47]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
عدم تصديقهم حملهم على استعمال ما توعدهم به، قال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» «2» ولو آمنوا لصدّقوا، ولو صدّقوا لسكنوا. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»
: أي إنّ الأيام عنده تتساوى، إذ لا استعجال له فى الأمور فسواء عنده يوم واحد وألف سنة إذ من لا يجرى عليه الزمان وهو يجرى الزمان فسواء عليه وجود الزمان، وعدم الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 48]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
: الإمهال يكون من الله- سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأن يدع الظالم فى ظلمه حينا، ويوسّع له الحبل «3» ، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي
__________
(1) آية 94 سورة يوسف.
(2) آية 18 سورة الشورى.
(3) هكذا فى م ولكنها فى ص (الحيل) بالياء جمع حيلة، وربما تتأيد هذه بقوله فيما بعد (وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى لتقدير عدمه) .(2/552)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
أراده، ثم يأخذه من حيث لا يرتقب، فيعلوه ندم، ولات حينه، وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى التقدير عدمه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 49]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
: أشابهكم فى الصورة ولكنى أباينكم من حيث السريرة، وأنا لمحسنكم بشير، ولمسيئكم نذير، وقد أيّدت بإقامة البراهين ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 50]
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
الناس- فى المغفرة- على أقسام: فمنهم من يستر «1» عليه زلّته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر حاله لئلا تصيبه من الشهرة فتنة «2» ، وفى معناه قالوا:
لا تنكرن جحدى هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل
ومنهم من يستره بين أوليائه، لذلك ورد فى الكتب: «أوليائى فى قبائى، لا يشهد أوليائى غيرى» .
«والرزق الكريم» ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يحتسب العبد.
ويقال هو الذي يبدو- من غير ارتقاب- على رفق فى وقت الحاجة إليه.
ويقال هو ما يحمل المرزوق على صرفه فى وجه القربة. ويقال ما فيه البركة.
ويقال الرزق الكريم الذي ينال من غير تعب «3» ، ولا يتقلد منّه مخلوق.
__________
(1) لأن غفر معناها فى اللغة ستر.
(2) وهذه إحدى الأفكار التي نشط أصحاب الملامة فى العمل بها، وحثّ أتباعهم عليها. [.....]
(3) (الذي ينال من غير تعب) هنا معناها من غير استعجال، ومن غير بعد عن التفويض والتوكل، ومن غير اعتماد على مخلوق. ونحو ذلك مما قد يهدم صرح الاستسلام الكامل للرازق الوهاب سبحانه.(2/553)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 51]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
فى الحال فى معجّله الوحشة وانسداد أبواب الرشد، وتغص العيش، والابتلاء بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله.
وفى الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الاجرام.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 53]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)
الشياطين يتعرّضون للأنبياء عليهم السلام ولكن لا سلطان ولا تأثير فى أحوالهم منهم، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة.
وإنما من الشيطان تخييل وتسويل (من التضليل) «1» . وكان لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم- سكتات فى خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلفّظ الشيطان ببعض الألفاظ «2» ، فمن لم يكن له تحصيل توهّم أنه كان من ألفاظ الرسول- عليه الصلاة والسلام وصار فتنة لقوم.
__________
(1) هكذا فى ص ولكن فى م وردت هكذا (وليس به شىء من التضليل) ونحسب ان هذا أكثر ملازمة للسياق حسبما يتضح من الهامش التالي.
(2) قيل كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يقرأ بين قومه سورة النجم حتى إذا وصل إلى (ومناة الثالثة الأخرى) جرى على لسانه. تلك الفرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فنبهه جبريل لما لم يفطن له، وحيث إن النبي معصوم من إجراء الشيطان عليه، ومعصوم من الغفلة، ولأنه لا يعقل أن يجرى على لسانه مدح للأصنام- فقد جاء لتحطيمها- فيرى بعض المفسرين انّ الشيطان تكلم بهذه الكلمات- وقد وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد- وتداخلت الكلمات فى قراءة النبي (ص) أثناء سكتة من سكتاته- كما نبّه القشيري.(2/554)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
أما- الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يضرهم «1» ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 54]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
إذا أراد الله بعبده خيرا أمدّه بنور التحقيق، وأيّده بحسن العصمة، فيميز بحسن البصيرة بين الحق والباطل فلا يظلّه غمام الرّيب، وينجلى عنه غطاء الغفلة، فلا تأثير لضباب الغداة فى شعاع الشمس عند متوع النهار، وهذا معنى قوله:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 56]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
: لم يتخصص ملكه- سبحانه- بيوم، ولم تتحدد له وقتية أمر، ولا لجلاله قدر «2» ، ولكنّ الدعاوى فى ذلك اليوم تنقطع، والظنون ترتفع، والتجويزات تتلاشى «3» فللمؤمنين وأهل الوفاق نعم، وللكفار وأصحاب الشقاق نقم.
__________
(1) ضبطناها هكذا ولا بأس- من حيث المعنى- أن تضبط (ولم يضرهم ذلك) فما حدث من الفتنة لم يلحق بهم ضيرا ولا ضررا فقد أدركتهم العناية.
(2) أي أنه يجل عن التحدد بزمان وقدر فهو المطلق الذي لا يتناهى.
(3) الدعاوى والظنون والتجويزات هى تهم النفس والعقل.(2/555)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : الآيات 57 الى 58]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
هؤلاء لهم عذاب مهين، وهؤلاء لهم فضل مبين.
«وَالَّذِينَ هاجَرُوا ... » : للقلوب حلاوة العرفان، وللأرواح حلّة المحاب، وللأسرار دوام الشهود.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 59]
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
إدخالا فوق ما يتمنّونه، وإبقاء على الوصف الذي يهدونه.. ذلك فى أوان صحوهم لينالوا لطائف الأنس على وصف الكمال، ويتمكنوا من قضايا البسط على أعلى أحوال السرور.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 60]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
نصره- سبحانه- للأولياء نصر عزيز، وانتقامه بتمام، واستئصاله بكمال، وإزهاقه أعداءه بتمحيق جملتهم، وألا يحتاج المنصور إلى الاحتيال أو الاعتضاد بأشكال «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 61]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) .
__________
(1) أي لا يحتاج المنصور إلى حيلة أو أي تدبير إنسانى من جانبه، بل يسقط تدبيره لأن النصر له من عند الله، ولا يحتاج المنصور إلى أن يعتضد بأمثاله من المخلوقين فكفى الله له ناصرا ومعينا.(2/556)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
كما فى أفق العالم ليل ونهار فكذلك للسرائر ليل ونهار فعند التجلي نهار وعند الستر ليل، ولليل السّرّ ونهاره زيادة ونقصان، فبمقدار القبض ليل وبمقدار البسط نهار، ويزيد أحدهما على الآخر وينقص.. وهذا للعارفين. فأمّا المحقّقون فلهم الأنس والهيبة مكان قبض قوم وبسطهم، وذلك فى حالى صحوهم ومحوهم، ويزيد أحدهما وينقص، ومنهم من يدوم نهاره ولا يدخل عليه ليل.. وذلك لأهل الأنس فقط «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 62]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
إذا بدا علم من الحقائق حصلت بمقداره شظية من الفناء لمن حصل له التجلي، ثم يزيد ظهور ما يبدو ويغلب، وتتناقص آثار التفرقة وتتلاشى، قال: صلى الله عليه وسلم:
«إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا» فإذا نأى العبد بالكلية عن الإحساس بما دون الله فلا يشهد أولا الأشياء إلا للحقّ، ثم لا يشهدها إلا بالحق، ثم لا يشهد إلا الحق..
فلا إحساس له بغير الحق، ومن جملة ما ينساه.. نفسه والكون كله «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 63]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
ماء السماء يحيى الأرض بعد موتها، وماء الرحمة يحيى أحوال أهل الزّلة بعد تركها، وماء العناية يحيى أحوال ( ... ) «3» بعد زوال رونقها، وماء الوصلة يحيى أهل القربة بعد لضوبها.
__________
(1) كثير من المصطلحات الصوفية لا يفهم فهما دقيقا إلّا بطريق المقارنة المعتمدة على مظاهر الطبيعة كالليل والنهار والجبال والبحار والسحب ... إلخ.
وقد استغل القشيري- فى ظلال القرآن الكريم- هذا الجانب.
(2) تفيد هذه الفقرة فى توضيح مراتب الشهود.
(3) في م (الناس) وفى ص مكتوبة هكذا (المقاليس) .(2/557)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 64]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
الملك له، وهو عن الجميع غنى، فهو لا يستغنى بملكه، بل ملكه بصير موجودا بخلقه إياه إذ المعدوم له مقدور والمقدور هو المملوك.
ويقال كما أنه «1» غنىّ عن الأجانب ممن أثبتهم فى شواهد الأعداء فهو غنى عن الأكابر وجميع الأولياء.
ويقال إذا كان الغىّ حميدا فمعنى ذلك أنه يعطى حتى يشكر.
ويقال الغنىّ الحميد المستحقّ للحمد: أعطى أو لم يعط فإنّ أعطى استحقّ الحمد الذي هو الشكر، وإن لم يعط استحق الحمد الذي هو المدح «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 65]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
أراد به تسخير الانتفاع بها فما للخلق «3» به انتفاع وميسّر له فى الاستمتاع به فهو كالمسّخّر له على معنى تمكينه منه، ثم يراعى فيه الإذن فمن استمتع بشىء على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعام وإكرام، ومن كان بالعكس فمكر واستدراج.
وأمّا السفينة.. فإلهام العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها بالحمل فيها وركوبها فمن أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قطع المسافات البعيدة، والتوصل بها إلى المضارب
__________
(1) هكذا في م وهى فى ص (أنت) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
(2) لاجل هذا نقول فى صلاتنا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي نشكرك فى السراء، ونمدحك فى الضراء فالحمد أعم والشكر أو المدح أخص.
(3) وردت هكذا فى م وهى فى ص (للحق) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.(2/558)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففى ذلك أعظم نعمة، وأكمل عافية.
وجعل الأرض للخلق قرارا من غير أن تميد، وجعل السماء بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء فى الظلام، ثم هى زينة السماء- وفى ذلك من الأدلة ما يوجب ثلج الصدر وبرد اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 66]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
إحياء النفوس وإماتتها مرات محصورة، وإحياء أوقات العبّاد وإماتتها لا حصر له ولا عدّ، وفى معناه أنشدوا.
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت
ويقال يحي الآمال بإشهاد تفضله، ثم يميتها بالاطلاع على تعزّزه.
ويقال هذه صفة العوام منهم، فأمّا الأفاضل فحياتهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبّد. وأنّى يحيا غيره وفى وجوده- سبحانه- غنية وخلف عن كل فائت «1» !؟
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 67]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)
جعل لكلّ فريق شرعة هم واردوها، ولكلّ جماعة طريقة هم سالكوها.
وجعل لكلّ مقام سكّانه، ولكلّ محلّ قطّانه، فقد ربط كلّا بما هو أهل له، وأوصل كلّا إلى ما جعله محلا له فبساط التّعبّد موطوء بأقدام العابدين، ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب التكلف من المجتهدين، ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلزوم العارفين، ومنازل المحبين مأهوله بحضور الواجدين.
__________
(1) هكذا فى النسختين، ونحن لا نستبعد أن تكون في الأصل (فان) فسواء كان الفناء بالمعنى المعروف أو بالمعنى الصوفي فإنها منسجمة مع السياق. ولأن القشيري يستعمل هذا الأسلوب كثيرا: فكفى به خلفا لك عند فنائك عنك. [.....](2/559)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
قوله: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ... » الأمر اشهد تصاريف الأقدار، واعمل بموجب التكليف، وانته دون ما أذنت له من المناهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 68]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)
كلهم إلينا عند ما راموا من الجدال، ولا تنكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوح قلبك إلى الاستعانة بالأمثال والأشكال، فإنهم قوالب خاوية، وأشباح عن المعاني خالية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 69]
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
أمّا الأجانب فيقول لهم: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «1» ، وأمّا الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حسابا يسيرا، وأقوام مخصوصون يقول لهم: بينى وبينكم حساب فلا جبريل يحكم بينهم ولا ميكائيل، ولا نبيّ مرسل، ولا ملك مقرّب.
«اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميع خصمائه، ويأمر بإرضاء جميع غرمائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 70]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
يعلم السّرّ والنجوى، وما تكون حاجة العبد له أمس وأقوى، وبكلّ وجه هو بالعبد أولى، وله أن يحمل له النّعمى، ويزيل عنه البلوى، ولا يسمع منه الشكوى، فله الحكم تبارك وتعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 71]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
__________
(1) آية 14 سورة الإسراء.(2/560)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
الآية تشير إلى أنّ من كان من جملة خواصّه أفرده- سبحانه- ببرهان، وأيّده ببيان، وأعزّه بسلطان. ومن لا سلطان له يمتد إليه قهره، ومن لا برهان له ينبسط عنه- إلى غيره- نوره، فهو بمعزل عن جملته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 72]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
لسماع الخطاب أثر في القلوب من الاستبشار والبهجة، أو الإنكار «1» والوحشة.
ثم ما تخامره السرائر يلوح على الأسرّة فى الظاهر فكانت الآيات عند نزولها إذا تليت على الكفار يلوح على رجوههم دخان ما تنطوى عليه قلوبهم من ظلمات التكذيب، فما كان يقع عليهم طرف إلّا نبّأ عن جحودهم، وعادت إلى القلوب النّبوءة عن إقلاعهم.
ثم أخبر أنّ الذي هم بصدده فى الآخرة من أليم العقوبة شرّ بكل وجه لهم ممّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظر الوضيئة للرائين مبهجة، والمناظر المنكرة للناظرين إليها موحشة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) .
__________
(1) هكذا فى م ولكنها فى ص (الانكسار) بالسين وهى خطأ لأن المقصود بيان المقابلة بين أثر القرآن على المؤمنين بالاستبشار والبهجة مع أثر القرآن على الكافرين (بالإنكار) والوحشة وظلمات التكذيب.(2/561)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
نبه الأفكار المشتّتة، والخواطر المتفرقة على الاستجماع لسماع ما أراد تضمينه فيها فاستحضرها فقال: «ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ..»
ثم بيّن المعنى فقال إنّ الذين تدعون من دون الله، وتدعونها آلهة أي وتسمونها آلهة (وأنها للعبادة مستحقة) «1» لن يخلقوا بأجمعهم ذبابا، ولا دون ذلك. وإن يسلبهم الذباب شيئا بأن يقع على طعام لهم فليس فى وسعهم استنقاذهم ذلك منه، ومن كان بهذه الصفة فساء المثل مثلهم، وضعف وصفهم، وقلّ خطرهم.
ويقال إن الذي لا يقاوم ذبابا فيصير به مغلوبا فأهون بقدره! قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 74]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
ما عرفوه حقّ معرفته، ولا وصفوه بجلال ما يستحقه من النعوت. ومن لم يكن فى عقيدته نقص لما يستحيل فى وصفه- سبحانه- لم تباشر خلاصة التوحيد سرّه، وهو فى ترجّم فكر، وتجويز ظن، وخطر تعسّف، يقع فى كل وهدة من الضلال.
ويقال العوام اجتهادهم فى رفضهم الأعمال الخبيثة خوفا من الله، والخواص جهدهم فى نقض عقيدتهم للأوصاف التي تجلّ عنها الصمدية، وبينهما ( ... ) «2» بعيد.
«إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» قوى أي قادر على أن يخلق من هو فوقهم فى التحصيل وكمال العقول.
«عَزِيزٌ» : أي لا يقدّر أحد قدره- إلا بما يليق بصفة البشر- بقدر من العرفان.
ويقال من وجد السبيل إليه فليس النعت له إلا بوصف القصور، ولكن كلّ بوجده مربوط، وبحدّه فى همته موقوف، والحق سبحانه عزيز «3» .
__________
(1) ما بين القوسين موجود فى ص مفقود فى م
(2) فى ص جاءت (وفاق) وفى م جاءت (فرقان) والأولى مرفوضة، وفى مثل هذا الموضع يستعمل القشيري (فرق) أو (بون) بعيد.
(3) كلام القشيري هنا فى (قوى) وفى (عزيز) هام لأنه لم يرد فى مبحثه المستقل عن الأسماء والصفات الإلهية الذي ضمنه كتاب (التحبير فى التذكير) الذي حققناه ونشرته دار الكاتب العربي سنة 1969.(2/562)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 75]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
الاجتباء والاصطفاء من الحق سبحانه بإثبات القدر، وتخصيص الطّول، وتقديمهم على أشكالهم فى المناقب والمواهب.
ثم بعضهم فوق بعض درجات فالفضيلة بحقّ المرسل، لا لخصوصية فى الخلقة فى المرسل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 76]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يعلم حالهم ومآلهم، وظاهرهم وباطنهم، ويومهم وغدهم، ويعلم نقضهم عهدهم فإليه منقلبهم، وفى قبضته تقلّبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 77]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
الركوع والسجود والعبادة كلّها بمعنى الصلاة لأنّ الصلاة تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولكن فرّقها فى الذكر «1» مراعاة لقلبك من الخوف عند الأمر بالصلاة فقسّمها ليكون مع كلّ لفظة ومعنى نوع من التخفيف والترفيه، ولقلوب أهل المعرفة فى كل لفظة راحة جديدة.
ويقال لوّن عليهم العبادة، وأمرهم بها، ثم جميعها عبادة واحدة، ووعد عليها من الثواب الكثير ما تقصر عن علمه البصائر.
ويقال علم أن الأحباب يحبّون سماع كلامه فطّول عليهم القول إلى آخر الآية ليزدادوا عند سماع ذلك أنسا على أنس، وروحا على روح، ومعاد خطاب الأحباب هو روح روحهم، وكمال راحتهم.
__________
(1) ما يلى من الكلام فى هذه الفقرة مفيد فى المباحث البلاغية فائدة كبيرة.(2/563)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
ثم قال بعد هذا: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» فأدخل فيه جميع أنواع القرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (22) : آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
( «حَقَّ جِهادِهِ» : حق الجهاد ما وافق الأمر فى القدر والوقت والنوع، فإذا حصلت فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده) «1» .
ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدة بالنّفس، ومجاهدة بالقلب، ومجاهدة بالمال.
فالمجاهدة بالنفس ألا يدّخر العبد ميسورا إلا بذله فى الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق «2» . والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة مثل الغفلة، والعزم على المخالفات، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.
ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإن كان فى الأخفّ أيضا حق.
ويقال حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النّفس لحظة، قال قائلهم.
يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع ... فكلّ أرض لى ثغر طرسوس
قوله جل ذكره: هُوَ اجْتَباكُمْ يحتمل أنه يقول من حقّ اجتبائه إياكم أنّ تعظّموا أمر مولاكم ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لما جاهدتم، فلاجتبائه إياك وفّقك حتى جاهدت.
ويقال علم ما كنت تفعله قبل أن خلقك ولم يمنعه ذلك من أن يجتبيك، وكذلك إن رأى ما فعلت فلا يمنعه ذلك أن يتجاوز عنك ولا يعاقبك
__________
(1) ما بين قوسين موجود فى م وناقص فى ص.
(2) إذا كانت (الإرفاق) فمعناه التسهيل، والقشيري لا يرضى به غالبا لأرباب الطريق لأنهم باحثون عن الأشق، وإذا كانت (الأرفاق) فهى جمع رفق وقد نهى القشيري فى نهاية رسالته عن وفق النسوان والصبيان فهم الأنتان والجيف ... إلخ. والسياق هنا بعيد عن ذلك مما يرجح أنها الإرفاق بكسر الهمزة.(2/564)
قوله جل ذكره: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجب جزيل فضله وإحسانه، وتتخلّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسير «1» من الأمر لا يستغرق كنه إمكانك بمعنى أنّك إن أردت فعله لقدرت عليه، وإن لم توصف فى الحال بأنّك مستطيع ما ليس بموجود فيك.
قوله جل ذكره: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ.
أي اتّبعوا والزموا ملّة أبيكم ابراهيم عليه السلام فى البذل والسخاء والجود والخلة والإحسان.
قوله جل ذكره: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ.
الله هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سمّاكم المسلمين. وقيل ابراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» «2» .
قوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، نصب الرسول بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يبقى للشفاعة موضعا ومحلا.
قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومن كانت له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.
قوله جل ذكره: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
__________
(1) يسير خبر لاسم الموصول (والذي به ... )
(2) آية 128 سورة البقرة.(2/565)
أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.
والاعتصام بالله التبري من الحول والقوة، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسك بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصام بالله حسن الاستقامة بدوام الاستعانة.
«هُوَ مَوْلاكُمْ» : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.
«فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» نعم المولى: إخبار عن عظمته، ونعم النصير: إخبار عن رحمته.
ويقال إن قال لأيوب: «نِعْمَ الْعَبْدُ» «1» ولسليمان «نِعْمَ الْعَبْدُ» «2» فلقد قال لنا «فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ، ومدحه لنفسه أعزّ وأجلّ من مدحه لك.
ويقال «فَنِعْمَ الْمَوْلى» : بدأك بالمحبة قبل أن أحببته، وقبل أن عرفته أو طلبته أو عبدته.
«وَنِعْمَ النَّصِيرُ» : إذا انصرف عنك جميع من لك فلا يدخل القبر معك أحد كان ناصرك، ولا عند السؤال أو عند الصراط.
السورة التي يذكر فيها المؤمنون
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم اشتقاقه من السمو، وللمسمى بهذا الاسم استحقاق العلو، فالاسم اسم لسموّه من القدم، والحقّ حقّ لعلوّه بحق القدم.
ويقال من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» سمت همّته عن المرسومات، ومن أحبّ بسم الله صفت حالته عن مساكنة الموهومات..
اسم من طلبه نسى من الدارين أربه، ومن عرفه وجد بقلبه مالا يعرف سببه.
__________
(1) «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية 44 سورة ص.
(2) «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية 30 سورة ص.(2/566)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)
ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله.
و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود.
والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة، ومخامرة التصديق خلاصة القلب، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد «1» .
والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة، والذوبان تحت سلطان الكشف، والامتحاء عند غلبات التّجلّي.
ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاة آداب الحضرة. ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب.
وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه، (فإذا خنس عن نفسه) «2» وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه، وطاب له العيش، وتمّت له النّعمى، وتجلّت له البشرى، ووجد لذّة الحياة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 3]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
ما يشغل عن الله فهو سهو، وما ليس لله فهو حشو، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر) «3» .
ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 4]
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
__________
(1) يقال اجعل هذا الأمر فى تأمورك أي داخل قلبك (الوسيط: مادة أم ر) .
(2) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى ص. [.....]
(3) موجود فى م وغير موجود فى ص.(2/567)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
الزكاة النّماء، ومن عمله للنماء فأمارة ذلك أن يكون بنقصانه فى نفسه عن شواهده ولا يبلغ العبد إلى كمال الوصف فى العبودية إلا بذوبانه عن شاهده.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 6]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
لفروجهم حافظون ابتغاء نسل يقوم بحقّ الله، ويقال ذلك إذا كان مقصوده التعفف والتصاون عن مخالفات الإثم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 7]
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)
أي من جاوز قصد إيثار الحقوق، وجنح إلى جانب استيفاء الحظوظ.. فقد تعدّى محلّ الأكابر، وخالف طريقتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 8]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8)
الأمانات مختلفة، وعند كلّ أحد أمانة أخرى، فقوم عندهم الوظائف بظواهرهم، وآخرون عندهم اللطائف فى سرائرهم، ولقوم معاملاتهم، ولآخرين منازلاتهم، ولآخرين مواصلاتهم.
وكذلك عهودهم متفاوتة فمنهم من عاهده ألا يعبد سواه، ومنهم من عاهده ألا يشهد فى الكونين سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 9]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
لا تصادفهم الأوقات، وهم غير مستعدين، ولا يدعوهم المنادى وهم ليسوا بالباب، فهم فى الصف الأول بظواهرهم، وكذلك فى الصف الأول بسرائرهم قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 الى 11]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)(2/568)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
الإرث على حسب النّسب، وفى استحقاق الفردوس بوصف الإرث لنسب الإيمان فى الأصل، ثم الطاعات فى الفضل.
وكما فى استحقاق الإرث تفاوت فى مقدار السهمان: بالفرض أو بالتعصيب- فكذلك فى الطاعات فمنهم من هم فى الفردوس بنفوسهم، وفى الأحوال اللطيفة بقلوبهم، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعا لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا ( ... ) «1» عن حالات قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 12]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
عرّفهم أصلهم لئلا يعجبوا بفعلهم.
ويقال نسبهم لئلا يخرجوا عن حدّهم، ولا يغلطوا فى نفوسهم.
ويقال خلقهم من سلالة سلّت من كل بقعه فمنهم من طينته من جردة «2» أو من سبخة «3» أو من سهل، أو من وعر.. ولذلك اختلفت أخلاقهم.
ويقال بسط عذرهم عند الكافة فإنّ المخلوق من سلالة من طين ... ما الذي ينتظر منه؟! ويقال خلقهم من سلالة من طين، والقدر للتربية لا للتربة.
ويقال خلقهم من سلالة ولكنّ معدن المعرفة ومرتع المحبة، ومتعلق العناية منه لهم قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» .
ويقال خلقهم، ثم من حال إلى حال نقلّهم، يغيّر بهم ما شاء تغييره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 13 الى 14]
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)
__________
(1) مشتبهة فى ص، م وربما كانت (ولا ينفكون) .
(2) الأرض الجردة التي لا نبات فيها.
(3) السّبخة التي فيها ملح ونزّ ولا تكاد تنبت.(2/569)
قطرة أجزاؤها متماثلة، ونطفة أبعاضها متشاكلة، ثم جعل بعضها لحما وبعضها عظما، وبعضها شعرا، وبعضها ظفرا، وبعضها عصبا، وبعضها جلدا، وبعضها مخّا، وبعضها عرقا. ثم خصّ كلّ عضو بهيئة مخصوصة، وكلّ جزء بكيفية معلومة. ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة، من السّمع والبصر والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحقد والجود والأوصاف التي يتقاصر عنها الحصر والعدّ.
قوله جل ذكره: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فى التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واختصّ به من السّمع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرّد به بعض منهم بمزايا فى الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات.
ويقال «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» : وهو أن هيّأهم لأحوال عزيزة يظهرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كمال التمييز من فنون الأحوال فلقوم تخصيص بزينة العبودية، ولقوم تحرّر من رقّ البشرية، ولآخرين تحقق بالصفات الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هى أوصاف البشرية.
قوله جل ذكره: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ خلق السماوات والأرضين بجملتها، والعرش والكرسىّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خلقه بنى آدم تخصيصا لهم وتمييزا، وإفرادا لهم من بين المخلوقات.
ويقال إن لم يقل لك إنّك أحسن المخلوقات فى هذه الآية فلقد قال فى آية أخرى:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «1» .
__________
(1) الآية 4 سورة التين.(2/570)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يثن عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» ، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزّ وأجلّ من أن يثنى عليك.
ويقال لما ذكر نعتك، وتارات حالك فى ابتداء خلقك، ولم يكن منك لسان شكر ينطق، ولا بيان مدح ينطلق.. ناب عنك فى الثناء على نفسه، فقال: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 15]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
أنشدوا:
آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى
وأنشدوا:
حياتنا عندنا قروض ... ونحن بعد الموت فى التقاضي
لا بدّ من ردّ ما اقترضنا ... كلّ غريم بذاك راضى
ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» وكلّ ما هو آت فقريب.
ويقال كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله: ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجماد مضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 16]
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
فعند ذلك يتصل الحساب والعقاب، والسؤال والعقاب، ويتبين المقبول من المردود، والموصول من المهجور.
ويوم القيامة يوم خوّف به العالم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة.
وفى القيامة ترى الناس سكارى حيارى لا يعرفون أحوالهم ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيّن لكلّ واحد أمره خيره وشرّه: فيثقل بالخيرات ميزانه، أو يخف(2/571)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
عن الطاعات أو يخلو ديوانه. وما بين الموت والقيامة: فإمّا راحات متّصلة، أو آلام وآفات غير منفصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
الحقّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مدرك، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم فالعادة جارية بأنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب. وكذلك إذا حلّت الغفلة القلوب استولى عليها الذهول، وانسدّت بصائرها، وانتفت فهومها وفوقنا حجب ظاهرة وباطنة ففى الظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمنية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أمّا المريدون فإذا أظلّتهم سحائب الفترة، وسكن هيجان إرادتهم فذلك من الطرائق التي عليهم.
وأما الزاهدون فإذا تحرّك بهم عرق الرغبة انفلّت «1» قوة زهدهم، وضعفت دعائم صبرهم، فيترخّصون بالجنوح إلى بعض التأويلات، فتعود رغباتهم قليلا قليلا، وتختلّ رتبة عزوفهم، وتنهدّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم.
وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحايينهم وقفة فى تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق.
فيصيرون موقفين ريثما يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق.
وفى جميع هذا فإنّ الحقّ سبحانه غير غافل عن الخلق، ولا تارك للعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 18]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) .
__________
(1) انفلّ السيف- انثلم حدّه، وانفلّ القوم- انهزموا.(2/572)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين، وذلك بقدر معلوم. ثم..
البلاد مختلفة فى السّقى: فبعضها خصب، وبعضها جدب، وسنة يزيد وسنة ينقص، سنة يفيض وسنة يغيض.
كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب، وهى مختلفة فى الشّرب: فمن موسّع عليه رزقه منه، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ، ومن وقت هو وقت حبس.
ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم، ويحيى به موات أحوالهم فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 19]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19)
كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار.. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر، وتؤتى أكلها: من طيب عيش، وكمال بسط، ثم وفور هيبة ثم روح أنس، ونتائج تجلّ، وعوائد قرب.. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه، ولا تطمع الإشارات فى حصره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 21]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها، ولا مبالاة فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة، لكنه صاف لم يؤثر
__________
(1) حتى لو كان ما وهبوه أرواحهم.(2/573)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
فيه منها بحكم الجوار، وكذلك الصفاء يوجد أكثره من عين الكدورة إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على (سرّ) «1» التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسقط عنه كلفة التمييز، فالأسرار عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو.
«وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ» : لازمة لكم، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم:
إنّي- على جفواتها- بربّها ... وبكلّ متّصل بها متوسّل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 22]
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
يحفظهم فى السفينة فى بحار القطرة، ويحفظهم فى سفينة السلامة والعصمة فى بحار القدرة، وإنّ بحار القدرة تتلاطم أمواجها، والناس فيها غرقى إلا من يحفظه الحقّ- سبحانه- فى سفينة العناية.
وصفة أهل الفلك إذا مستهم شدّة خوف الغرق ما ذكر الله فى قوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «2» » كذلك من شاهد نفسه على شفا الهلاك والغرق، والتجأ إلى صدق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقّ- سبحانه- من مخلوقات التقدير. ويقال إنّ وجه الأرض بحار الغفلة، وما عليه الناس من أسباب التفرقة بحار مهلكة والناس فيها غرقى، وكما قال بعضهم:
الناس بحر عميق ... والبعد عنهم سفينة
وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المسكينة
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 23]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) .
__________
(1) موجودة فى م وغير موجودة فى ص.
(2) آية 65 سورة العنكبوت.(2/574)
كرّر قصة نوح لما فيها من عظيم الآيات من طول مقامه فى قومه، وشدة مقاساة البلاء منهم، وتمام صبره على ما استقبله فى طول عمره، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه، ثم لم يغادر منهم أحدا، ولم يبال- سبحانه- بأن أهلك جملتهم. ولقد ذكر فى القصص أن امرأة من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولود، فحملته وقامت حاملة له ترفعه عن الطوفان، فلمّا بلغ الماء إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها- قدر ما أمكنها- إبقاء على ولدها، وإشفاقا عليه من الهلاك، إلى أن غلبها الماء وتلفت وولدها. فأوحى الله إلى نوح- عليه السلام- لو أنى كنت أرحم واحدا منهم لرحمت تلك المرأة وولدها.
وفى الخبر أن نوحا كان اسمه يشكر ولكثرة ما كان يبكى أوحى الله إليه: يا نوح..
إلى كم تنوح؟ فسمّاه نوحا. ويقال إنّ ذنبه أنه مرّ يوما بكلب فقال: ما أوحشه! فأوحى الله إليه: اخلق أنت أحسن من هذا! فكان يبكى معتذرا عن قالته تلك.
وكان قومه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوة إلا ازدادوا عن إجابته نبوة، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوة على قسوة.
ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل فى السفينة أهله، تعرّض له إبليس- كما جاء فى القصة- وقال: احملنى معك فى السفينة، فأبى نوح وقال: يا شقّى.. تطمع فى حملى إياك وأنت رأس الكفرة؟! فقال إبليس: أما علمت- يا نوح- أنّ الله أنظرنى إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليوم أحد إلّا فى هذه السفينة؟
فأوحى الله إلى نوح أن احمله فكان إبليس مع نوح فى السفينة، ولم يكن لابنه معه مكان فى السفينة. (وفى هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول) «1» لأنه إن كان المعنى فى أن ابنه لم يكن معه له مكان لكفره فبإبليس يشكل.. ولكنها أحكام غير معلولة، وجاز له- سبحانه- أن يفعل ما يريد: يصل «2» من شاء ويردّ من شاء
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود فى ص.
(2) وردت فى م (يضل) بالضاد ونحن نجد (يصل) أكثر انسجاما مع المعنى لتقابل (يرد)(2/575)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 29]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
الإنزال المبارك أن يكون بالله ولله، وعلى شهود الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفا لأمر الله ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القرب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلّى حتى لا تبقى عين ولا أثر، فإذا تمّ هذا ودام هذا فهو نزول بساحات الحقيقة مبارك لأنك بلا أنت.. بكليتك من غير بقية أو أثر عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 31]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31)
تتابعت القرون على طريقة واحدة فى التكذيب، وغرّهم طول الامهال، وما مكنّهم من رفه العيش وخفض الدّعة، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم، ولم يسم لهم طرف إلى من فوقهم فى الحال والمنزلة، فقالوا: أنؤمن بمن يتردد فى الأسواق، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟
ولئن أطعنا بشرا مثلنا لسلكنا سبيل الغىّ، وتنكبنا سنّة الرّشد. فأجراهم الله فى الإهانة وإحلال العقوبة بهم مجرى واحدا، وأذاقهم عذاب الخزي. وأعظم ما داخلهم من الشّبهة والاستبعاد أمر الحشر والنشر، ولم يرتقوا للعلم بأنّ الإعادة كالابتداء فى الجواز وعدم الاستحالة، والله يهدى من يشاء ويغوى من يريد.
ثم إن الله فى هذه السورة ذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بعده قصة عيسى عليه السلام، وخصّ كلّ واحد منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 51]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
كلوا من الطيبات مما أحلّ لكم وأباح، وما هو محكوم بأنه طيب- على شريطة مطابقة
__________
(1) نلاحظ هنا أن القشيري قد اختصر الكلام فقفز إلى الآية 50 دون تمهل أمام كل آية كما تعودنا منه(2/576)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
رخصة الشريعة- مما كان حلالا فى وقتهم، مطلقا مأذونا لهم فيه. وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقا لأمر الله فى زمانهم بفنون طاعاتهم فى أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 52]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
معبودكم واحد، ونبيّكم واحد، وشرعكم واحد فأنتم فى الأصول شرع سواء، فلا تسلكوا ثنيات الطرق «1» فتطيحوا فى أودية الضلالة. وعليكم باتباع سلّفكم، واحذروا موافقة ابتداع خلفكم.
«وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» خافوا مخالفة أمرى، واعرفوا عظيم قدرى، واحفظوا فى جريان التقدير سرّى، واستديموا بقلوبكم ذكرى، تجدوا فى مآلكم غفرى، وتحظوا بجميل برّى.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 53]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
فمستقيم على حقّه، وتائه فى غيّه، ومصرّ على عصيانه وفسقه، ومقيم على إحسانه وصدقه، كلّ مربوط بحدّه، موقوف بما قسم له فى البداية من شأنه، كلّ ينتحل طريقته ويدّعى بحسن طريقته حقيقة، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار فى الطريق وهم على يقين معارفهم فلا ريب يتخالجهم ولا شبهة.
وأهل الباطل فى عمى جهلهم، وغبار جحدهم، وظلمة تقليدهم، ومحنة شكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 54]
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
إنّ مدة أخذهم لقريبة، والعقوبة عليهم- إذا أخذوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) .
__________
(1) ثنية الطريق- منعطفه.(2/577)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
هذا فى شأن أصحاب الاستدراج من مكر الحقّ بهم بتلبيس المنهاج رأو سرابا فظنوه شرابا، ودس لهم فى شهدهم صابا فتوهموه عذابا «1» ، وحين لقوا عذابا علموا أنهم لم يفعلوا صوابا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
أمارة الإشفاق من الخشية إطراق السريرة فى حال الوقوف بين يدى الله بشواهد الأدب، ومحاذرة بغتات الطّرد، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرّعب، واستولى عليهم من سلطان الهيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 58]
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
تلك الآيات مختلفة فمنها ما يكاشفون به فى الأقطار من اختلاف الأدوار، وما فيه الناس من فنون الهمم وصنوف المنى والإرادات، فإذا آمن العبد بها، واعتبر بها اقتنع بما يرى نفسه مطالبا به.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 59]
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59)
يذرون جلّى الشّرك وخفيّه والشّرك الخفىّ ملاحظة الخلق فى أوان الطاعات، والاستبشار بمدح الخلق وقبولهم، والانكسار والذبول عند انقطاع رؤية الخلق.
ويقال الشّرك الخفىّ إحالة النادر من الحالات- فى المسارّ والمضارّ- على الأسباب كقول القائل. «لولا دعاء أبيك لهلكت» و «لولا همّة فلان لما أفلحت» ... وأمثال هذا قال الله تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «2» .
وكذلك توّهم حصول الشّفاء من شرب الدواء.
فاذا أيقن العبد بسرّه ألا شىء من الحدثان، ولم يتوهم ذلك، وأيقن ألّا شىء إلّا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشّرك «3» .
__________
(1) العذاب جمع عذب وهو السائغ من الطعام والشراب ونحوهما (الوسيط) . [.....]
(2) آيه 106 سورة يوسف.
(3) أي أن القشيري لا ينكر الأسباب ولكن يعنى على من يتوهم أن من الحدثان شيئا.(2/578)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 60]
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60)
يخلصون فى الطاعات من غير إلمام بتقصير، أو تعريح فى أوطان الكسل، أو جنوح إلى الاسترواح بالرّخص. ثم يخافون كأنهم ألمّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالهم بعين الاستصغار، والاستحقار، ويخافون بغتات التقدير، وقضايا السخط، وكما قيل:
يتجنّب الآثام ثم يخافها ... فكأنّما حسناته آثام
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 61]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
«1» مسارع بقدمه من حيث الطاعات، ومسارع بهممه من حيث المواصلات، ومسارع بندمه من حيث تجرّع الحسرات، والكلّ مصيب، وللكلّ من إقباله- على ما يليق بحاله- نصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 62]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
المطالبات فى الشريعة مضمّنة بالسهولة، وأمّا مطالبات الحقيقة فكما قالوا: ليس إلّا بذل الروح، ولهذا فهم لا تشغلهم الترّهات «2» . قال لأهل الرخص والمستضعفين فى الحال:
«وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3» ، وأمّا أرباب الحقائق فقال: «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «4» وقال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «5» ، وقال: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «6» » .
__________
(1) في س أخطأ الناسخ إذ زاد (لهم) بعد يسارعون.
(2) الترهات جمع ترهة وهى القول الباطل الذي لا نفع فيه، أو الطريق الصغيرة المتشعبة عن الطريق الأعظم.
(3) آية 78 سورة الحج.
(4) آية 284 سورة البقرة.
(5) آية 15 سورة النور.
(6) آية 78 سورة الحج.(2/579)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
قوله: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» : لولا غفلتهم عن مواضع الحقيقة لما خوّفهم بكتابة الملك، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوّفهم باطلاع الملائكة، وكتابتهم عليهم أعمالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 63]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)
لا يصلح لهذا الشأن «1» إلا من كان فارغا من جميع الأعمال، لا شغل له فى الدنيا والآخرة، فأمّا من له شغل بدنياه، أو على قلبه حديث عقباه، فليس له نصيب من حديث مولاه، وفى الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» .
ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم، وأرباب العقبى مشغولون بعقباهم، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم وإن الذي له فى الدنيا والآخرة غير مولاه- حين الفراغ- عزيز قال تعالى: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 64]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
إنه- سبحانه- يمهل ولكنّه لا يهمل فإذا أخذ فبطشه شديد، قال تعالى:
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «3» ... فإذا أخذ أصحاب الكبائر- حين يحل بهم الانتقام- فى الجواب ردّوا في الهوان، ويقال لهم:
[سورة المؤمنون (23) : آية 65]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)
فإذا انفصل من الغيب حكم فلا مردّ لتقديره.
__________
(1) (هذا الشأن) يقصد به طريق رباب الأحوال
(2) آية 55 سورة يس.
(3) آية 12 سورة البروج.(2/580)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
ويقال للجنابة سراية فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 الى 67]
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
ذكر هذا من باب إملاء العذر، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفع- الآن- الجزع ولا يسمع العذر والملوك إذا أبرموا حكما، فالاستغاثة غير مؤثّرة فى الحاصل منهم، قال قائلهم:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه- آخر الدهر- تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 68]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
يعنى أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر لاستبصروا فى الحال، ولا نتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال، ولكنهم استوطنوا مركب الكسل، وعرّجوا فى أوطان التغافل، فتعودوا الجهل، وأيسوا من الاستبصار.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 69]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
ذهلوا عن التحقيق فتطوّحوا فى أودية المغاليط، وترجّمت بهم الظنون الخاطئة، وملكتهم كواذب التقديرات «1» ، فأخبر الله (الرسول) «2» عن أحوالهم فمرة قابلوه بالتكذيب، ومرة رموه بالسّحر، ومرة عابوه بتعاطيه أفعال العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب، ومرة قدحوا فيه بما هو فيه من الفقر وقلّة ذات اليد ... فأخبر الله عن تشتّت أحوالهم، وتقسّم أفكارهم
__________
(1) هكذا فى م أما في ص فهى (التقدير) ونحن نرجه الأولى حتى يقتصر إطلاق (التقدير) بالمفرد على الفعل الإلهى أما هنا فهى (التقديرات الإنسانية) أي الظنون.
(2) السياق يتطلب وجود كلمة (الرسول) وهى غير موجودة فى التسخين فوضعناها من عندنا لينسجم الأسلوب.(2/581)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 71]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
وذلك لتضادّ مناهم وأهوائهم إذ هم متشاكسون فى السؤال والمراد، وتحصيل ذلك محال تقديره فى الوجود. فبيّن الله- سبحانه- أنه لو أجرى حكمه على وفق مرادهم لاختلّ أمر السماوات والأرض، ولخرج عن حدّ الإحكام والإتقان.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 72]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
أي إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجر، ولا بإعطاء عوض حتى تكون بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة. أم لعلّك تريد أن يعقدوا لك الرياسة. ثم قال: والذي لك من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يغنيك عن التصدّى لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذا كان سنّة الأنبياء والمرسلين عملوا لله ولم يطلبوا أجرا من غير الله.
والعلماء ورثة الأنبياء فسبيلهم التوقّى عن التّدنّس بالأطماع، والأكل بالدّين فإنه رياء مضرّ بالإيمان فإذا كان العمل لله فالأجر منتظر من الله، وهو موعود من قبل الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 الى 74]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
الصراط المستقيم شهود الربّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء، وفى الإيجاد، والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم.
قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
__________
(1) القشيري هنا يغمز بانحراف كثير من الوعاظ المحترفين الذين امتلأ بهم عصره، ومنذ عهد الحسن البصري- الذي طالما نبه إلى خطورة هذا الأمر- ونحن نسمع هذه الصيحة ناعية ما آل إليه أمر المحترفين إلى التهافت والتهالك على أطماع الدنيا الزائلة. [.....](2/582)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
زاغوا عن الحجة المثلى بقلوبهم فوقعوا فى جحيم الفرقة، وستميل وتزل أقدامهم غدا عن الصراط، فيقعون فى نار الحرقة فهم ناكبون فى دنياهم وعقباهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 75]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حكمه فيهم، فقال: لو كشفنا عنهم فى الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان فى المآل، ولقد علم أنهم سيكفرون، وحكم عليهم بأنهم يكفرون إذ لا يجوز أن يكون حكمه فيهم بخلاف علمه بهم «1» قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 76]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)
أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده.. تنبيها لهم، فما انتبهوا وما انزجروا، ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال لأسرع الله زواله عنهم، ولكنهم أصرّوا على باطلهم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 77]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
لما أجللنا بهم أشدّ العقوبات ضعفوا عن تحمّلها، وأخذوا بغتة، ولم ينفعهم ما قدّموا من الابتهال، فيئسوا عن الإجابة، وعرّجوا فى أوطان القنوط.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 78]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78)
ذكر عظيم منّته عليهم بأن خلق لهم هذه الأعضاء، وطالبهم بالشكر عليها.
وشكرهم عليها استعمالها فى طاعته فشكر السّمع ألا تسمع إلا بالله ولله، وشكر البصر ألا تنظر إلا بالله لله، وشكر القلب ألّا تشهد غير الله، وألّا تحبّ به غير الله.
__________
(1) هذا التمييز بين الحكم والعلم له أهميته الكبيرة فى قضية القدر.(2/583)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 79]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
الابتداء للحادثات من الله بدعا، والانتهاء إليه عودا، والتوحيد ينتظم هذه المعاني فتعرف أنّ الحادثات بالله ظهورا، ولله ملكا، ومن الله ابتداء، وإلى الله انتهاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 80]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
يحيى النفوس ويميتها والمعنى فى ذلك معلوم، وكذلك يحيى القلوب ويميتها فموت القلب بالكفر والجحد، وحياة القلب بالإيمان والتوحيد، وكما أنّ للقلوب حياة وموتا فكذلك للأوقات موت وحياة، فحياة الأوقات بيمن إقباله، وموت الأوقات بمحنة إعراضه، وفى معناه أنشدوا:
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت
قوله: «وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» فليس كلّ اختلافها فى ضيائها وظلمتها، وطولها وقصرها، بل ليالى المحبين تختلف فى الطول والقصر، وفى الروح والنوح فمن الليالى ما هو أضوأ من اللآلى، ومن النهار ما هو أشدّ من الحنادس، يقول قائلهم: ليالىّ بعد الظاعنين شكول.
ويقول قائلهم:
وكم لظلام الليل عندى من ... تخبّر أنّ المانوية تكذّب
وقريب من هذا المعنى قالوا:
ليالى وصال قد مضين كأنّها ... لآلى عقود فى نحور الكواعب
وأيام هجر أعقبتها كأنّها ... بياض مشيب فى سواد الذوائب(2/584)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
سلكوا فى التكذيب مسلك سلفهم، وأسرفوا فى العناد مثل سرفهم، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وتلفهم.
قوله: «لَقَدْ وُعِدْنا ... » لمّا طال عليهم وقت الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنّشر زاد ذلك فى ارتيابهم، وجعلوا ذلك حجّة فى لبسهم واضطرابهم، فقالوا: لقد وعدنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق، فما نحن إلّا أمثالهم.
فاحتجّ الله عليهم فى جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخلق:
فقال جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
أمره- عليه السلام- أن يلوّن عليهم الأسئلة، وعقّب كلّ واحد من ذلك- مخبرا عنهم- أنهم سيقولون: لله، ثم لم يكتف منهم بقالتهم تلك، بل عاتبهم على(2/585)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
تجرّد قولهم عن التّذكّر والفهم والعلم وتنبيها على أن القول- وإن كان فى نفسه صدقا- فلم تكن فيه غنية إذ لم يصدر عن علم ويقين.
ثم نبّههم على كمال قدرته، وأنّ القدرة القديمة إذا تعلّقت بمقدور له ضدّ تعلّقت بضدّه، ويتعلق بمثل متعلقه.
والعجب من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله، ثم تجويزهم عبادة الأصنام التي هى جمادات لا تحيا، ولا تضرّ ولا تنفع.
ويقال أولا قال: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ، ثم قال بعده: «أَفَلا تَتَّقُونَ» ، فقدّم التذكر على التقوى لأنهم بتذكرهم يصلون إلى المغفرة، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاء مخالفته.
ثم بعد ذلك قال: «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي بعد وضوح الحجة فأىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 90]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
بيّن أنهم أصرّوا على جحودهم، وأقاموا على عتوّهم ونبوّهم، وبعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر، وليس لتجويز المساهلة موجب بتا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
اتخاذ الأولاد لا يصحّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعا داخلان فى حدّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة فى القدر، والصمدية تتقدّس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس.
قوله جل ذكره: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ(2/586)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
كلّ أمر نيط باثنين فقد انتفى عنه النظام وصحة الترتيب، وأدلة التمانع مذكور فى مسائل الأصول.
«سُبْحانَ اللَّهِ» تقديسا له، وتنزيها عما وصفوه به. «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» : تنزّه عن أوهام من أشرك، وظنون من أفك.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 93]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)
يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلنى فى جملتهم، ولا توصل إلىّ سوءا مثلما توصل إليهم من عقوبتهم. وفى هذا دليل على أنّ للحقّ أن يفعل ما يريد، ولو عذّب البريء لم يكن ذلك منه ظلما ولا قبيحا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 95]
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)
تدل على صحة قدرته على خلاف ما علم فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك، فصحّت القدرة على خلاف المعلوم «2» قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 96]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)
الهمزة فى «أَحْسَنُ» يجوز ألا تكون للمبالغة ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة.
أو أن تكون للمبالغة فتكون المكافأة جائزة والعفو عنها- فى الحسن- أشدّ مبالغة.
ويقال ادفع الجفاء بالوفاء، وجرم أهل العصيان بحكم الإحسان.
ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له.
ويقال اسلك مسلك الكرم، ولا تجنح إلى طريق المكافأة.
__________
(1) لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، إذ لا يعود عليه سبحانه من هذا أو ذاك مصلحة.
(2) فى هذا ردّ ضمنى على المعتزلة القائلين بإنكار الصفات، إذ يتضح أن صفة العلم متميزة عن صفة القدرة. فالأشاعرة- ومنهم القشيري- حين يثبتون الصفات إنما يثبتون المعاني اللاثقة بذاته، وهى معان وإن تنوعت فليست طوارئ على الذات، وإنما الذات قائمة بها.(2/587)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
ويقال الأحسن ما أشار إليه القلب، والسيئة ما تدعو إليه النّفس.
ويقال الأحسن ما كان بإشارة الحقيقة، والسيئة ما كان بوساوس الشيطان.
ويقال الأحسن نور الحقائق، والسيئة ظلمة الخلائق.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 98]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
الاستعاذة- على الحقيقة- تكون بالله من الله كما قال صلى الله عليه وسلم:
«أعوذ بك منك» «1» ، ولكنه- سبحانه- أراد أن نعبده بالاستعاذة به من الشيطان، بل من كلّ ما هو مسلّط علينا، والحقّ عندئذ يوصل إلينا مضرتنا يجرى العادة.
وإلّا.. فلو كان بالشيطان من إغواء الخلق شىء لكان يمسك على الهداية نفسه! فمن عجز عن أن يحفظ نفسه كان عن إغواء غيره أشدّ عجزا، وأنشدوا:
جحودى فيك تلبيس ... وعقلى فيك تهويس
فمن آدم إلّاك ... ومن فى ( ... ) «2» إبليس
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) .
__________
(1) من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك» .
مسلم، ومالك، وأبو داود، والنسائي، والترمذي.
(2) فى م (ألين) وفي ص (اللبن) ، والبيتان للحلاج فى الطواسين ص 43 وفى ديوانه (المقطعة الثامنة والعشرون) جاءت البين، والمعنى أن آدم الذي خلقته من طين هو سبب بلائي فسجودى له سجود لغيرك.
وفى البيتين بعض الغموض والشطح، ولهذا نعجب من استشهاد القشيري بهما. ونحن نلاحظ أنه بينما لم يكتب القشيري فى رسالته شيئا عن سيرة الحسين بن منصور الحلاج إلا أنه طالما يستشهد بأقواله شعرا ونثرا..
وقد عللنا لذلك في كتابنا «الإمام القشيرى وتصوفه» ط مؤسسة الحلبي.(2/588)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
إذا أخذ البلاء بخناقهم، واستمكن الضّرّ من أحوالهم، وعلموا ألّا محيص ولا محيد أخذوا فى التضرّع والاستكانة، ودون ما يرومون خرط القتاد! ويقال لهم هلّا كان عشر عشر هذا قبل هذا؟ ولقد قيل:
قلت للنفس: إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 101]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)
يومئذ لا تنفع الأنساب وتنقطع الأسباب، ولا ينفع النّدم، وسيلقى كلّ غبّ ما اجترم فمن ثقلت بالخيرات موازينه لاح عليه تزيينه. ومن ظهر ما يشينه فله من البلاء فنونه تلفح وجوههم النار، وتلمح من شواهدهم الآثار، ويتوجه عليهم الحجاج، فلا جواب لهم يسمع، ولا عذر منهم يقبل، ولا عذاب عنهم يرفع، ولا عقاب عنهم يقطع.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 106]
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106)
نطقوا بالحقّ ... ولكن فى يوم لا ينفع فيه الإقرار، ولا يقبل الاعتذار، ثم يقولون:
[سورة المؤمنون (23) : آية 107]
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107)
والحقّ يقول: لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. علم أنّ ردّهم إلى الدنيا لا يكون، ولكنه علم أنّه لو كان فكيف كان يكون.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 108]
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
عند ذلك يتمّ عليهم البلاء، ويشتدّ عليهم العناء، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية، فإذا حيل بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة، وهو أحد ما قيل فى قوله.
«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «1» .
__________
(1) آية 103 سورة الأنبياء.(2/589)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
وفى الخبر: أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواء كعواء الذئب. وبعض الناس تغار من أحوالهم لأن الحق يقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها» ، فيقولون: يا ليتنا يقول لنا! أليس هو يخاطبنا بذلك؟! وهؤلاء يقولون: قدح الأحباب ألذّ من مدح الأجانب، وينشدون فى هذا المعنى:
أتانى عنك سبّك لى.. فسبىّ ... أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبى
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 111]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
الحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه، وتلك خصومة الحق، فيقول: قد كان قوم من أوليائى يفصحون بمدحى وثنائى، ويتصفون بمدحى واطرائى، فاتخذتموهم سخريا ... فأنا اليوم أجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 114]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
عدد سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفى ويربى عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا فى الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية.(2/590)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 115]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)
العبث اللهو، واللّعب والاشتغال بما يلهى عن الحقّ، والله لم يأمر العباد بذلك، ولم يدعهم إلى ذلك، ولم يندبهم إليه.
والعابث فى فعله من فعله على غير حدّ الاستقامة، ويكون هازلا مستجلبا بفعله أحكام اللهو إلى نفسه، متماديا فى سهوه، مستلذّ التفرقة فى قصده. وكلّ هذا من صفات ذوى البشرية، والحقّ- سبحانه- منزّه النّعت عن هذه الجملة، فلا هو بفعل شىء عابث، ولا بشىء من العبث آمر.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 116]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
الحقّ- بنعوت جلاله- متوحّد، وفى عزّ آزاله وعلّو أوصافه متفرّد، فذاته حقّ، وصفاته حقّ، وقوله صدق، ولا يتوجّه لمخلوق عليه حق، وما يفعله من إحسان بعباده فليس شىء منها بمستحق «1» .
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» : ما تجمّل بالعرش، ولكن تعزّز العرش بأنّه أضافه إلى نفسه إضافة خصوصية.
والكريم الحسن، والكرم نفى الدناءة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 117]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117)
حسابه على الله فى آجله. وعذابه من الله له فى عاجله، وهو الجهل الذي أودع قلبه حتى رضى بأن يعبد معه غيره. وقولهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» كلام
__________
(1) معنى هذه العبارة أنه لا يجب على الله شىء فى إحسانه لعباده، فهو إذا أحسن إليهم فهذا من فضله، وليس نتيجة وجوب على الله أو حق للعبد.(2/591)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
حاصل من غير دليل عقل، ولا شهادة خبر أو نقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقول ليس يساعده برهان.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (23) : آية 118]
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
اغفر الذنوب، واستر العيوب، وأجزل الموهوب. وارحم حتى لا تستولى علينا هواجم التفرقة ونوازل الخطوب. والرحمة المطلوبة بالدعاء من صنوف النعمة، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز «1» .
السورة التي يذكر فيها النور
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
بسم الله اسم نذير الوفاة فرقته، اسم بشير الحياة وصلته، اسم سبب الرّوح عرفانه، اسم راحة الرّوح إحسانه، اسم كمال الأنس إقباله، اسم، فتنة قلوب المهيّمين جماله، اسم من شهده دامت سلامته، اسم من وجده قامت قيامته، اسم لا إليه حظوة، ولا بدونه سلوة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
سورة هى شرف لك- يا محمد- أنزلناها لأن أقلّ ما ورد به التحدي سورة «2» فكلّ سورة شرف له عليه السلام لأنها له معجزة، بيّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام، وبيّنا (فيها من الأحكام ما) «3» لكم به اهتداء، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء.
أنزلنا فيها آيات بينات، ودلائل واضحات، وحججّا لائحات لتتذكروا تلك الآيات، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات.
__________
(1) لأن الرحمة- فى الأصل- وصف للذات، والنعمة من صفات الفعل.
(2) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة البقرة: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» ، وإلى قوله تعالى فى سورة يونس: «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .
(3) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م.(2/592)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة، ولكن جعل إثبات أمره وتقرير حكمه والقطع بكونه على أكثر الناس خصلة عسيرة بعيدة إذ لا تقبل الشهادة عليه حتى يقول: رأيت ذلك منه فى ذلك منها! وذلك أمر ليس بالهّين، فسبحان من أعظم العقوبة على تلك الفعلة الفحشاء، ثم جعل الأمر فى إثباتها بغاية الكدّ والعناء! وحين اعترف واحد له بذلك قال له صلى الله عليه وسلّم: لعلّك قبّلت.. لعلّك لا مست، وقال لبعض أصحابه: «استنكهوه» «1» وكلّ ذلك روما لدرء الحدّ عنه، إلى أن ألحّ وأصرّ على الاعتراف.
قوله جل ذكره: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ما يأمر به الحقّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع.
والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطّبع والعادة والسوء فمذموم غير محمود. ونهى عن الرحمة على من خرق الشرع، وترك الأمر، وأساء الأدب، وانتصب فى مواطن المخالفة.
ويقال نهانا عن الرحمة بهم، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم- بتلك الفعلة الفحشاء- رقم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «2» ولولا رحمته لما استبقى عليه حلّة إيمانه مع قبيح جرمه وعصيانه.
__________
(1) وردت الإشارة إلى حادث «ما عز» في هامش سبق، وقوله «استنكهوه» اى ابحثوا هل فى فمه ريح الخمر، وبعدها سأله النبي للمرة الأخيرة «أزتيت؟ فقال نعم. فأمر به فرجم» صحيح مسلم ط أولى سنة 1930 م المصرية بالأزهر ج 11 ص 199.
(2) عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أنهما قالا: عن أبى هريرة أن النبي (ص) قال (لا يزنى ... ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) صحيح مسلم ج 2 ص 41.(2/593)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
قوله جل ذكره: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليكون عليهم أشدّ، وليكون تخويفا لمتعاطى ذلك الفعل، ثم من حقّ الذين يشهدون ذلك الموضع أن يتذكروا عظيم نعمة الله عليهم أنهم لم يفعلوا مثله، وكيف عصمهم من ذلك. وإن جرى منهم شىء من ذلك يذكروا عظيم نعمة الله عليهم كيف ستر عليهم ولم يفضحهم، ولم يقمهم فى الموضع الذي أقام فيه هذا المبتلى به. وسبيل من يشهد ذلك الموضع ألّا يعيّر صاحبه بذلك، وألا ينسى حكم الله تعالى فى إقدامه على جرمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الناس أشكال فكلّ نظير «1» مع شكله، وكلّ يساكن شكله، وأنشدوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدى
فأهل الفساد الفساد يجمعهم- وإن تباعد مزارهم (وأهل السداد السداد يجمعهم- وإن تناءت ديارهم) «2» قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 4]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)
لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين، ولئلا يهتكوا أستار الناس أمر بتأديبهم، وإقامة الحدّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.
__________
(1) هكذا فى ص وهى فى م (وكل طير..) وربما كانت (وكلّ يطير) أو (فكل طير) ، والمثل يقول: (الطيور على أشكالها تقع) .
(2) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى س. [.....](2/594)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
ثم بالغ فى عدد الشهود، وألّا تقبل تلك الشهادة إلّا بالتضرع التام، ثم أكمله بقوله «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» . وفى الخبر المسند قوله عليه السلام: «من أتى منكم بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنّ من أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه حدّ الله» «1» قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 5]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
جعل من شرط قبول شهادته صحّة توبته، وجعل علامة صحة توبته إصلاحه، فقال:
«وَأَصْلَحُوا» ، وهو أن تأتى على توبته مدة تنشر فيها بالصلاح صفته، كما اشتهرت بهتك أعراض المسلمين قالته.. كلّ هذا تشديدا لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 6]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
لمّا ضاق الأمر على من رأى أهله على فاحشة، إذ أن فى ذلك قبول نسب غير صحيح- فقد نهى الشرع عن استلحاقه ولدا من غيره. وكان أمرا محظورا هتك عرض المرأة والشهادة عليها بالفحشاء، إذ يجوز أن يكون الأمر فى المعيب أي بخلاف ما يدّعيه الزوج.
ولأن ذلك أمر ذو خطر شرع الله حكم اللّعان «2» ليكون للخصومة قاطعا، وللمقدم على
__________
(1) رواه البيهقي والحاكم عن ابن عمر بإسناد جيد بلفظ: «اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشىء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» (ص 155 ج 1 فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوى الطبعة الأولى سنة 1356 هـ) .
(2) اللعان فى الشريعة أن يقسم الزوج أربع مرات على صدقه فى قذف زوجته بالزنا، والخامسة باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذبا وبذا يبرأ من حدّ القذف. ثم تقسم الزوجة أربع مرات على كذبه، والخامسة باستحقاقها غضب الله إن كان صادقا فتبرأ من حد الزنا. وقد نزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال وجدت على بطن امرأتى خولة شريك بن سحماء فكذبته، فلا عن النبي (ص) بينهما.
فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا- وهما من أهل الشهادة- صح اللعان بينهما، واختلف الفقهاء هل تقع الفرقة بينهما بالتلاعن أم بتفريق القاضي.(2/595)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
الفاحشة زاجرا، ففى مثل هذه الأحوال عنها خرجة «1» . ولولا أنّ الله على كل شىء قدير وإلا ففى عادة الناس. من الذي يهتدى لمثل هذا الحكم لولا تعريف سماوى وأمر نبوى، من الوحى متلقّاه «2» ، ومن الله مبتداه وإليه منتهاه؟
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 10]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
... لبقيتم فى هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
هذا قصة عائشة رضى الله عنها، وما كان من حديث الإفك.
بيّن الله- سبحانه- أنه لا يخلى أحدا من المحنة والبلاء، فى المحبة والولاء فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه، كذلك قال صلى الله عليه وسلم «يمتحن الرجل على قدر دينه» ، وقال: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «3» .
ويقال إنّ الله- سبحانه- غيور على قلوب خواصّ عباده، فإذا حصلت مساكنة بعض إلى بعض يجرى الله ما يردّ كلّ واحد منهم عن صاحبه، ويردّه إلى نفسه، وأنشدوا:
إذا علقت روحى بشىء، تعلّقت ... به غير الأيام كى تسلبنّيا
وإن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا قيل له: أي الناس أحب إليك؟
__________
(1) الخرجة هى الخروج والخلاص من أمر شديد.
(2) هكذا فى ص وهى فى م (مستفاد) وكلاهما صحيح، ولكن الأولى أقوى مراعاة للموسيقى اللفظية، وربما كانت (مستقاه) .
(3) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ... وقد سبق تخريج هذا الحديث.(2/596)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قال: عائشة. فساكنها.
وفى بعض الأخبار أن عائشة قالت: «يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك» ..
فأجرى الله حديث الافك حتى ردّ قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها إلى الله، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله حيث قال- لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحقة، وأزال الشكّ، وأظهر صدقها وبراءة ساحتها.
ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنّ المؤمن ينظر بنور الله» «1» ، فإذا كانت الفراسة صفة المؤمن فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءة ساحتها، حتى كان يقول: «إن فعلت فتوبى» .
والسبب فيه أنه فى أوقات البلاء يسدّ الله على أوليائه عيون الفراسة إكمالا للبلاء.
وكذلك إبراهيم- عليه السلام- لم يميّز ولم يعرف الملائكة حيث قدّم إليهم العجل الحنيذ، وتوهمهم أضيافا. ولوط عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة.
ويقال إنه كان- صلى الله عليه وسلم- يقول لعائشة: «يا حميراء» .
فلما كان زمان الإفك، وأرسلها إلى بيت أبويها، واستوحش الأبوان معها، ومرضت عائشة- رضى الله عنها- من الحزن والوجد، كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى واحدا من دار أبى بكر يقول:
كيف بيتكم؟ لا عائشة ولا حميراء! فما كان يطيب بالتغافل عنها، فتعبيره- إن لم يفهم بالتصريح- فيفقه بالتلويح.
ثم إنه- سبحانه- قال: «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» : فبمقدار جرمهم احتمل كلّ واحد ما يخصّه من الوزر.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 12]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
__________
(1) الترمذي والطبراني، الترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم بسند حسن عن أنس.(2/597)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبسط ألسنتهم بالسوء عنها، وتركهم الإعراض عن حرم النبي صلى الله عليه. ثم قال: وهلّا جاءوا على ما قالوا بالشهداء؟ وإذا لم يجدوا ذلك فهلّا سكتوا عن بسط اللسان؟
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 14]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14)
لأنه أخبر أن جرمهم- وإن كان عظيما- فإنه فى علم الله عنهم غير مؤثّر، ولولا أن الله- سبحانه- ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه فلعلّه لم يذكر هذه المبالغة فى أمرهم فإنّ الذي يقوله الأجانب والكفار فى وصف الحق- سبحانه- بما يستحيل وجوده وكونه يوفى ويربى على كل سوء- ثم لا يقطع عنهم أرزاقهم، ولا يمنع عنهم أرفاقهم، ولكن ما تتعلّق به حقوق أوليائه- لا سيما حق الرسول صلى الله عليه وسلم- فذاك عظيم عند الله.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 15]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
بالغ فى الشكاية منهم لما أقدموا عليه بما تأذّى به قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقلوب جميع المخلصين من المسلمين.
ثم قال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة، ولا يستصغر فى الخلاف زلّة فإنّ تعظيم الأمر تعظيم للآمر. وأهل التحقيق لا ينظرون ما ذلك الفعل ولكن ينظرون من الآمر به.
ويقال: يسير الزّلّة- يلاحظها العبد بعين الاستحقار- فتحبط كثيرا من الأحوال، وتكدّر كثيرا من صافى المشارب.(2/598)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
واليسير من الطاعة- ربما يستقلّها العبد- ثم فيها نجاته ونجاة عالم معه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 16]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)
استماع الغيبة نوع من الغيبة، بل مستمع الغيبة شرّ المغتابين إذ بسماعة يتمّ قصد صاحبه. وإذا سمع المؤمن ما هو سوء قالة فى المسلمين- مما لا صحّة له فى التحقيق- فالواجب الردّ على قائله، ولا يكفى فى ذلك السكوت دون النكير، ويجب ردّ قائله بأحسن نصيحة، وأدقّ موعظة، ونوع تشاغل عن إظهار المشاركة له فيما يستطيب من نشره من إخجال لقائله موحش، فإن أبى إلا انهما كا فيما يقول فيرد عليه بما أمكن لأنه إن لم يستح فائله من قوله فلا ينبغى أن يستحى المستمع من الرّدّ عليه «1» .
قوله جل ذكره
[سورة النور (24) : آية 17]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
يتعلّق هذا بأنّ من بسط لسانه فى عائشة- رضى الله عنها- بعد ذلك لم يكن مؤمنا لظاهر هذه الآية، (ولعمرى قائل ذلك مرتكب كبيرة ولكن لا يخرج عن الإيمان بذلك) «2» أي ينبغى للمؤمن ألا يتكلم فى هذا، وهذا كما يقول القائل: «إذا كنت أخى فواسنى عند شدّتى فإن لم تواسنى لم تخرج عن الأخوّة بذلك» .. ومعنى هذا القول أنّه ينبغى للأخ أن يواسى أخاه فى حال عثرته، وترك ذلك لا يبطل النّسب.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 19]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)
__________
(1) فى هذه الوصية تتجلى نزعة القشيري فيما يمكن أن نسميه (آداب السلوك) ونزمع بعون الله أن نتجز بحثا شاملا عن «علم الأخلاق عند الصوفية» .
(2) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م، والعبارة هامة فى توضيح الرأى فى مرتكب الكبيرة، ورد على من يلصقون وصمة الكفر- دون حساب- بالكثير من الناس.(2/599)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
هؤلاء فى استحقاق الذمّ أقبح منزلة، وأشدّ وزرا حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرة المسلمين، وإعانة أولى الدّين، وإرادة الخير لكافة المؤمنين.
والذي يودّ فتنة للمسلمين فهو شرّ الخلق، والله لا يرضى منه بحاله، ولا يؤهله لمنال خلاصة التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 20]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
كرّر قوله: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ..» ليبيّن للجميع أنّ حسن الدفع عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم، وكلّ يشهد حسن المنح ويشكر عليه، وعزيز عبد يشهد حسن الدفع عنه فيحمده على ذلك «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
إذا تنقى القلب عن الوساوس، وصفا عن الهواجس بدت فيه أنوار الخواطر، فإذا سما وقت العبد عن ذلك سقطت الخواطر، وبدت فيه أحاديث الحق- سبحانه- كما قال فى الخبر: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر» . وإذا كان الحديث منه فذلك يكون تعريفا يبقى مع العبد، ولا يكون فيه احتمال ولا إشكال ولا إزعاج، وصاحبه يجب أن يكون أمينا، غير مظهر لسرّ ما كوشف به «2» قوله جل ذكره: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
__________
(1) أي يكثر فى الحياة من يشكر على نعمة المنح ويقل من يشكر على نعمة الدفع لأن الأولى تجرى بأثر ملموس، والثانية تجرى ولا يكاد يشعر بها المرء.
(2) هنا نجد القشيري يطالب بالكتمان دون الإفصاح ففى الكتمان حفظ للأمانة.(2/600)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
ردّهم فى جميع أحوالهم إلى مشاهدة ما منّ الحقّ في قسمى النفع والدفع، وحالتى العسر واليسر، والزّكى «1» من الله، والنّعمى من الله، والآلاء من الله، قال تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 22]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
تحرّك فى أبى بكر عرق من البشرية فى وصف الانتقام من مسطح «2» حين شرع وخاض فى ذلك الحديث، وكان فى رفق أبى بكر فقطع عنه ذلك، وأخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- وانتظر الأمر من الله فى ذلك، فأنزل الله تعالى: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ..» فلم يرض من الصديق رضى الله عنه أن يتحرك فيه عرق من الأحكام النفسية والمطالبات البشرية، فأعاد أبو بكر له ما كان يفعله فى ماضى أيامه. والإحسان إلى المحسن مكافأة، وإلى من لا يسىء ولا يحسن فضل، وإلى الجاني فتوّة وكرم «3» ، وفى معناه أنشدوا:
وما رضوا بالعفو عن كلّ زلة ... حتى أنالوا كفّه وأفادوا
قوله: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» : العفو والصفح بمعنى، فكررهما تأكيدا.
ويقال العفو فى الأفعال، والصفح فى جنايات القلوب «4» .
__________
(1) الزكي والزكاء- النماء والزيادة، وزكى الشيء- أصلحه وظهره.
(2) مسطح ابن خالة أبى بكر، وكان مسكينا، بدريا مهاجرا، كان ينفق عليه أبو بكر، فلما قرأ الرسول عليه الآية قال: بلى: أحب أن يغفر الله لى، ورد إلى مسطح نفقته رغم ما خاض فى عائشة رضى الله عنها.
(3) يمكن أن يضاف هذا الشاهد إلى الباب الذي عقده القشيري «للفتوة» في رسالته.
(4) نعرف عن القشيري أنه لا يتحمس كثيرا للقول بأن بالقرآن تكرارا، لأجل ذلك نراه يسرع إلى التمييز بين العفو والصفح عقيب ذكره أنهما بمعنى. [.....](2/601)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قوله جل ذكره: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا من كمال تلطفه- سبحانه. وفى الخبر: أن الله لما أنزل هذه الآية قال أبو بكر- رضى الله عنه: «بلى، أحبّ يا رب» ، وعفا عن مسطح. وإن الله لا يغادر فى قلوب أوليائه كراهة من غيرهم، وأنّى بالكراهة من الخلق والمتفرّد بالإيجاد الله؟! وفى معناه أنشدوا:
ربّ رام لى بأحجار الأذى ... لم أجد بدّا من العطف عليه
فعسى أنّ يطلع الله على ... قدح القوم فيدنينى إليه
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)
بالغ فى توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة فى شأنهم.
ووصف المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما ينسبن إليه فليس الوصف على جهة الذمّ، ولكن لبيان تباعدهن عمّا قيل فيهن.
واستحقاق القذفة للعنة- فى الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 24]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم، ثم كما تشهد بعض أعضائهم عليهم تشهد بعض أعضائهم لهم، فالعين كما تشهد: أنه نظر بي، تشهد بأنه بكى بي.. وكذلك سائر الأعضاء.
__________
(1) عن ابن عباس رضى الله عنه: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض فى أمر عائشة.
وهذا تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.(2/602)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
ويقال شهادة الأعضاء فى القيامة مؤجّلة، وشهادتها فى المحبة اليوم معجّلة من صفرة الوجه إذا بدا المحبوب، وشحوب اللون، ونحافة الجسم، وانسكاب الدموع، وخفقان القلب، وغير ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 25]
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
يجازيهم على قدر استحقاقهم للعابدين بالجنان والمثوبة على توفية أعمالهم، وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفية أحوالهم فهؤلاء لهم علوّ الدرجات، وهؤلاء لهم الأنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة.
«وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» : فتصير المعرفة ضرورية فيجدون المعافاة من النّظر وتذكّره، ويستريح القلب من وصفي تردّده وتغيّره: (لاستغنائه ببصائره عن تبصّره) «1» .
ويقال لا يشهدون غدا إلا الحقّ فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يبيّن لهم أسرار التوحيد وحقائقه، ويكون القائم عنهم، والآخذ لهم منهم من غير أن يردّهم إليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
«الْخَبِيثاتُ» : من الأعمال وهى المحظورات «لِلْخَبِيثِينَ» : من الرجال المؤثرين لها طوعا، والذين يجنحون إلى مثل تلك الأعمال فهم لها، كلّ مربوط بما يليق به فالفعل لائق بفاعله، والفاعل بفعله فى الطهارة والقذارة، والنفاسة والخساسة، والشرف والسّرف.
ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأحوال وهى الحظوظ والمني والشهوات لأصحابها والساعين لها. والساعون لمثلها لها، غير ممنوع أحدهما من صاحبه، فالصفة للموصوف ملازمة، والموصوف لصفته ملازم.
__________
(1) هكذا فى النسختين، ويكون مراد القشيري أنه لم يعد مجال للتبصر فقد أصبح الشهود عيانا، وتحققت لهم الرؤية البصرية التي لم ينالوها فى الدنيا، ونفهم أن القشيري لا يرى الرؤية العيانية إلا فى الآخرة.(2/603)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأشياء للخبيثين من الأشخاص، وهم الراضون بالمنازل السحيقة ... وإنّ طعام الكلاب الجيف.
ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأموال- وهى التي ليست بحلال- لمن بها رتبته، وعليها تعتكف همّته فالخبيثون من الرجال لا يميلون إلّا لمثل تلك الأموال، وتلك الأموال لا تساعد إلا مثل أولئك الرجال.
قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ.
«الطَّيِّباتُ» : من الأعمال هى الطاعات والقرب للطيبين، والطيبون هم المؤثرون لها والساعون فى تحصيلها.
«وَالطَّيِّباتُ» : من الأحوال- وهى تحقيق المواصلات بما هو حقّ الحق، مجرّدا عن الحظوظ- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال، وهم الذين سمت همّتهم عن كلّ مبتذل خسيس، ولهم نفوس تسمو إلى المعالي، وهى التجمّل بالتذلل لمن له العزّة.
ويقال الطيبات من الأموال- وهى التي لا نكير للشرع عليها، ولا منّة لمخلوق فيها- للطيبين من الرجال، وهم الأحرار الذين تخلّصوا من رقّ الكون.
ويقال «الطَّيِّباتُ» من الأشخاص وهن المبرّات من وهج الخطر، المتنقيات عن سفساف أخلاق البشرية، وعن التعريج فى أوطان الشهوات- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال الذين هم قائمون بحقّ الحقّ لا يصحبون الخلق إلا للتعفّف، دون استجلاب الشهوات.
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لهم مغفرة فى المآل، ورزق. كريم فى الحال وهو ما ينالون من غير استشراف، ولا تطلب طمع، ولا ذلّ منّة «1» ، ولا تقديم تعب «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
__________
(1) أي (منّة) من مخلوق.
(2) (التعب) الذي ينشأ عن الاستعجال وعدم التفويض ونقص الثقة.(2/604)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
الخواص لا يرون لأنفسهم ملكا يتفردون به لا من الأموال المنقولة ولا من المساكن التي تصلح لأن تكون مدخولة، فمن فاتحهم بشىء منها فلا يكون منهم منع ولا زجر، ولا حجب لأحد ولا حظر.. هذا فيما نيط بهم. أمّا فيما ارتبط بغيرهم فلا يتعرّضون لمن هى فى أيديهم لا باستشراف طمع، ولا بطريق سؤال، ولا على وجه انبساط «1» . فإن كان حكم الوقت يقتضى شيئا من ذلك فالحقّ يلجىء من فى يده الشيء ليحمله إليه بحكم التواضع والتقرّب، والولىّ يأخذ ذلك بنعت التعزّز، ولا يليق معنى ذلك إلا بأحوال تلك القصة «2» ، وأنشد بعضهم فى هذا المعنى:
وإنى لأستحى من الله أن أرى ... أسير بخيل ليس منه بعير
وأن أسأل المرء اللئيم بعيره ... وبعران ربّى فى البلاد كثير
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 28]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
فى هذا حفظ أمر الله وحفظ حرمة صاحب الدار لأنّ من دخلها بغير إذن صاحبها ربما تكون فيها عورة منكشفة، وربما يكون لصاحب الدار أمر لا يريد أن يطّلع عليه غيره، فلا ينبغى أن يدخل عليه من غير استئذان.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
__________
(1) يقول السرى السقطي فى مثل هذا السياق: «أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة. فقيل له ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئا. ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شىء تعطى منه أحدا «الرسالة ص 11» .
(2) أي بأرباب الطريق الصوفي(2/605)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
إن قيل لكم: ارجعوا.. فارجعوا فقد تكون الأعذار قائمة، وصاحب الملك بملكه أولى.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 29]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
رفع الله الجناح والحرج فى الانتفاع بما لا يستضرّ به صاحبه بغير إذنه كدخول أرض للداخل فيها أغراض لقضاء حاجته- ولا يجد طريقا غير ذلك- إذا لم يكن فى دخوله ضرر على صاحبها، وجرى هذا مجرى الاستظلال بظلّ حائط إذا لم يكن قاعدا فى ملكه، وكالنظر فى المرآة المنصوبة فى جدار غيره.. وكل هذا إنما يستباح بالشرع دون قضية العقل- على ما توهمه قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
: «يَغُضُّوا» : من أبصار الظواهر عن المحرّمات، ومن أبصار القلوب عن الفكر الرّدّية، ومن تصوّر الغائبات عن المعاينة»
، ولقد قالوا: إنّ العين سبب الحين، وفى معناه أنشدوا:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك- يوما- أتعبتك المناظر
وقالوا: من أرسل طرفه اقتضى حتفه.
وإن النظر إلى الأشياء بالبصر يوجب تفرقة القلوب.
ويقال إن العدوّ إبليس يقول: قوسى القديم وسهمى الذي لا يخطىء النظر. وأرباب
__________
(1) ربما يقصد القشيري أن ينهى عن إقحام فكرة النظر بالعين فى الأمور الغيبية، وبمعنى آخر النهى عن إخضاع كل شىء للحس، فطبيعة الغيبيات تختلف عن ذلك وإلا كنت كمن يحاول عبور الماء فوق جواد، أو يعبر اليابسة وهو فى سفينة- على حد تعبير جلال الدين الرومي فى سياق مماثل.(2/606)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
المجاهدات إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المحسّات- وهذا أصل كبير لهم فى المجاهدة فى أحوال الرياضة «1» .
ويقال قرن الله النهى عن النظر إلى المحارم بذكر حفظ الفرج فقال: «وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» تنبيها على عظم خطر النظر فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل.
ويقال قوم لا ينظرون إلى الدنيا وهم الزّهّاد، وقوم لا ينظرون إلى الكون وهم أهل العرفان، وقوم هم أهل الحفاظ والهيبة كما لا ينظرون بقلوبهم إلى الأغيار لا يرون نفوسهم أهلا للشهود، ثم الحق- سبحانه- يكاشفهم من غير اختيار منهم أو تعرّض أو تكلف.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
المطالبة عليهن كالمطالبة على الرجال لشمول التكليف للجنسين، فالواجب عليهن ترك المحظورات، والندب والنّفل لهن صون القلب عن الشواغل والخواطر الردية، ثم إن ارتقين عن هذه الحالة فالتعامى بقلوبهن عن غير المعبود، والله يختص برحمته من يشاء.
قوله: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» : ما أباح الله- سبحانه- على بيان مسائل الفقه فمستثنّى من الحظر، وما وراء ذلك فالواجب عليهن حفظ أنفسهن عن العقوبات فى الآجل، والتصاون عن أن يكون سببا لفتنة قلوب عباده. والله سبحانه كما يحفظ أولياءه عما يضرهم فى الدّين يصونهم عما يكون سببا لفتنة غيرهم، فإن لم يتصل منهم نفع بالخلق فلا تصيب أحدا بهم فتتة.
وفى الجملة ما فيه زينة العبد لا يجوز إظهاره فكما أنّ للنساء عورة ولا يجوز لهن إبداء زينتهن فكذلك من أظهر للخلق ما هو زينة سرائره «2» من صفاء أحواله، وزكاء أعماله
__________
(1) سقطت (الرياضة) من النسخة ص.
(2) هنا يجدد القشيري رأيه بدقة فى قضية الإفصاح والكتمان. فالأصل عنده الكتمان، فإذا افصح العبد فلا يكون ذلك إلّا لاضطرار ويكون عندئذ غير مؤاخذ لأنه بعيد عن التعمل والتكلف.(2/607)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
انقلب زينه شينا، إلا إذا ظهر على أحد شىء- لا بتعمله ولا بتكلّفه- فذلك مستثنى لأنه غير مؤاخذ بما لم يكن بتصرفه وتكلفه، فذوات المحارم على تفصيل بيان الشريعة يستثنى حكمهن عن الحظر «1» .
قوله جل ذكره: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ تراعى فى جميع ذلك آداب الشرع فى الإباحة والحظر.
قوله جل ذكره وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ التوبة الرجوع عن المذمومات من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبة عن الزّلّة وهى توبة العوام، وتوبة عن الغفلة وهى توبة الخواص.
وتوبة على محاذرة العقوبة، وتوبة على ملاحظة الأمر.
ويقال أمر الكافة بالتوبة العاصين بالرجوع إلى الطاعة من المعصية، والمطيعين من رؤية الطاعة إلى رؤية التوفيق، وخاصّ الخاصّ من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الموفّق.
ويقال أمر الكلّ بالتوبة لئلا يخجل العاصي من الرجوع بانفراده.
ويقال مساعدة الأقوياء مع الضعفاء- رفقا بهم- من أمارات الكرم.
ويقال فى قوله: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» يتبين أنّه أمرهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقّ- سبحانه- بتوبتهم وطاعتهم تجمّل.
ويقال أحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنّه ليس يحتاج إلى التوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
__________
(1) يصلح هذا نموذجا (للقياس) إن أردنا بحث ما اسميناه (الفقه الصوفي) .(2/608)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
إذا كان القصد فى المناكحة التأدب بآداب الشرع يكفى الله ببركاته مطالبات النفس والطبع، وإنما يجب أن يكون القصد إلى التعفّف ثم رجاء نسل يقوم بحقّ الله «1» .
قوله: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: يغنيهم الله فى الحال، أولا بالنفس ثم غنى القلب وغنىّ القلب غني عن الشيء، فالغني عن الدنيا أتمّ من الغنى بالدنيا.
ويقال إن يكونوا فقراء فى الحال يغنهم الله فى المستأنف والمآل.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 33]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
من تقاصر وسعه عن الإنفاق على العيال فليصبر على مقاساة التحمل فى الحال، فعن قريب تجيبه نفسه إلى سقوط الأرب، أو الحق- سبحانه- يجود عليه بتسهيل السبب من حيث لا يحتسب، ولا تخلو حال المتعفّف عن هذه الوجوه.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي إن سمحت نفوسكم بإزالة الرّقّ عن المماليك- الذين هم فى الدين إخوانكم- من غير عوض تلاحظون منهم فلن تخسروا على الله فى صفقتكم. وإن أبيتم إلا العوض ودعوا إلى الكتابة، وعلمتم بغالب ظنكم صحة الوفاء بمال الكتابة من قبلهم فكاتبوهم «2» ،
__________
(1) كذلك دعا الأنبياء ربهم حين طلبوا الذرية.
(2) المكاتبة أن يقول لمملوكه: «كاتبتك على ألف درهم» مثلا فإن أداها عتق، ومعناها كتبت عليك بالوفاء وكتبت على بالعتق، ويجوز أداء المال حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم لإطلاق الأمر.(2/609)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
ثم تعاونوا على تحصيل المقصود بكل وجه من قدر يحط من مال الكتابة، وإعانة لهم من فروض الزكاة «1» ، وإمهال بقدر ما يحتمل المكاتب ليكون ترفيها له.
وإذا كنا فى الشرع مأمورين بكل هذا الرّفق حتى يصل المملوك المسكين إلى عتقه فبالحرىّ أن يسمو الرجاء إلى الله بجميل الظنّ أن يعتق العبد من النار بكثرة تضرعه، وقديم سعيه- بقدر وسعه- من عناء قاساه، وفضل من الله- عن قديم- رجاه «2» .
ثم فى الخبر: «إن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم» : والعبد يسعى بجهده ليصل إلى تحرر قلبه، وما دام تبقى عليه بقية من قيام الأخطار وبقية من الاختيار وإرادة شىء من الأغيار فهو بكمال رقّه وليس فى الحقيقة بحرّ.. فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
قوله جل ذكره: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حامل العاصي على زلّته، والداعي له إلى عثرته، والمعين له على مخالفته تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوزر أكثر من غيره، وبعكسه لو كان الأمر فى الطاعة والإعانة على العبادة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 34]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى فى أسهم الزكاة: (وفى الرقاب) وعند الشافعي- رحمه الله- حطوا من بدل الكتابة ربعا.
(2) للنسفى كلام لطيف يصلح لتوضيح مقصد القشيري حيث يقول: العابد كالعبد فهو يشترى نفسه من ربه بنجوم مرتبة ليسعى فى فكاك رقبته خوفا من البقاء فى ربقة العبودية وطمعا فى فتح باب الحرية ليسرح فى رياض الجنة، فعليه فى اليوم والليلة خمس، وفى المائتي درهم خمسة، وفى السنة شهر، وفى العمر زورة إشارة إلى الصلاة والزكاة والصوم والحج على الترتيب. [.....](2/610)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
لم يغادر على وجه الدليل غبرة «1» ، ولم يترك الحقّ- سبحانه- للإشكال محلا بل أوضح المنهاج وأضاء السّراج، وأنار السبيل وألاح الدليل، فمن أراد أن يستبصر فلا يلحقه نصب، ولا يمسّه تعب.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
أي هادى أهل السماوات والأرض، ومنه نورهما. والذي منه الشيء يسمى باسمه الشيء.
ومنه نور السماوات والأرض خلقا فنظام السماوات والأرض وإحكامها وترتيبها بوصف إتقانها حاصل بالله تعالى.
ويقال نور السماوات والأرض أي منوّرها وخالق ما فيها من الضياء والزينة، وموجد ما أودعها من الأدلة اللائحة.
ويقال نوّر الله السماء بنجومها فقال: «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» «2» فكذلك زين القلوب بأنوار هى نور العقل ونور الفهم ونور العلم ونور اليقين ونور المعرفة ونور التوحيد «3» ، فلكلّ شىء من هذه الأنوار مطرح شعاع بقدره فى الزيادة والنقصان.
قوله جل ذكره: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
قوله «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ..» : أراد بهذا نور قلب المؤمن وهو معرفته، فشبّه صدره
__________
(1) الغبرة- لطخ الغبار.
(2) آية 12 سورة فصلت.
(3) نلفت النظر إلى أهمية هذا الترتيب فى توضيح مراحل المعرفة عند الصوفية وهى تتدرج فى الضياء من السراج إلى النجم إلى القمر إلى البدر إلى الشمس إلى شمس الشموس.(2/611)
بالمشكاة، وشبّه قلبه فى صدره بالقنديل فى المشكاة، وشبّه القنديل- الذي هو قلبه- بالكوكب الدرىّ، وشبه إمداده بالمعرفة بالزيت الصافي الذي يمدّ السراج فى الاشتعال.
ثم وصف الزيت بأنّه على كمال إدراك زيتونه من غير نقصان أصابه، أو خلل مسّه. ثم وصف ذلك الزيت- فى صفوته- بأنه بحيث يكاد يضىء من غير أن تمسّه نار.
ويقال إن ضرب المثل لمعرفة المؤمن بالزيت أراد به شريعة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ودينه الحنيفي، فما كان يهوديا- وهم الذين قبلتهم إلى جانب المغرب، ولا نصرانيا- وهم الذين قبلتهم فى ناحية المشرق.
وقوله: «نُورٌ عَلى نُورٍ» : نور اكتسبوه بجهدهم بنظرهم واستدلالهم، ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان أضافه إلى برهانهم، أو عيان أضافه إلى بيانهم، فهو نور على نور.
ويقال أراد به قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- ونور معرفته موقد من شجرة هى إبراهيم عليه السلام، فهو صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم.
قوله: «لا شَرْقِيَّةٍ» بحيث تصيبه الشمس بالعشي دون الغداة، ولا غربية بحيث تصيبه الشمس بالغداة دون العشى، بل تصيبه الشمس طول النهار ليتمّ نضج زيتونه، ويكمل صفاء زيته. والإشارة فيه أنه لا ينفرد خوف قلوبهم عن الرجاء فيقرب من اليأس، ولا ينفرد رجاؤهم عن الخوف فيقرب من الأمن، بل هما يعتدلان فلا يغلب أحدهما الآخر تقابل هيبتهم أنسهم، وقبضهم بسطهم، وصحوهم محوهم، وبقاؤهم فناءهم، وقيامهم بآداب الشريعة تحقّقهم بجوامع الحقيقة «1» .
ويقال «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» : أي أن هممهم لا تسكن شرقيا ولا غربيا، ولا علويا ولا سفليا، ولا جنيا ولا إنسيا، ولا عرشا ولا كرسيا، سطعت «2» عن الأكوان، ولم تجد سبيلا إلى الحقيقة لأن الحقّ منزّه عن اللحوق والدرك، فبقيت عن الحق منفصلة، وبالحق غير
__________
(1) فالقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه بين طرفى الأحوال حتى يصفو له.
(2) هكذا فى م وهى فى ص (شطحت) وربما قبلناها فالسياق لا يرفضها.(2/612)
متصلة «1» وهذه صفة الغرباء.. وإن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ.
ويقال نور القلب: ثم موجبه هو دوام الانزعاج فلا يذره يعرّج فى أقطار الكسل، فيصل سيره بسراه فى استعمال فكره، والحقّ يمده: بنور التوفيق حتى لا يصده عن عوارض الاجتهاد شىء من حبّ رياسة، أو ميل لسوء، أو هوادة. فإذا أسفر صبح غفلته، واستمكن النظر من موضعه حصل العلم لا محالة. ثم لا يزال يزداد يقينا على يقين مما يراه فى معاملته من القبض والبسط، والمكافأة والمجازاة فى زيادة الكشف عند زيادة الجهد، وحصول الوجد عند أداء الورد.
ثم بعده نور المعاملة، ثم نور المنازلة، ثم متوع نهار المواصلة. وشموس التوحيد مشرقة، وليس فى سماء أسرارهم سحاب ولا فى هوائها ضباب، قال تعالى: «نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» .
ويقال نور المطالبة يحصل فى القلب فيحمل صاحبه على المحاسبة، فإذا نظر فى ديوانه، وما أسلفه من عصيانه يحصل له نور المعاينة، فيعود على نفسه باللائمة، ويتجرّع كاسات ندمه، فيرتقى عن هذا باستدامة قصده، والتّنقّى عما كان عليه فى أوقات فترته. فإذا استقام فى ذلك كوشف بنور المراقبة فيعلم أنّه- سبحانه- مطّلع عليه. وبعد هذا نور المحاضرة وهى لوائح تبدو فى السرائر. ثم بعد ذلك نور المكاشفة وذلك بتجلّى الصفات.
ثم بعده نور المشاهدة فيصير ليله نهارا، ونجومه أقمارا، وأقماره بدورا، وبدوره شموسا.
ثم بعد هذا أنوار التوحيد، وعند ذلك يتحقق التجريد بخصائص التفريد، ثم مالا تتناوله عبارة ولا تدركه إشارة، فالعبارات- عند ذلك- خرس، والشواهد طمس، وشهود الغير عند ذلك محال «2» . عند ذلك: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» «3» ، و «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وانْفَطَرَتْ..»
__________
(1) هذا نموذج للتصوف الإسلامى الحق الذي لا تشوبة شائبة حلول أو اتحاد أو امتزاج، فالرب رب والعبد عبد، ولا تداخل بينهما.
(2) لأنه لا وجود عندئذ للغير والسوي، فقد فنى العبد عن نفسه وعن الغير الله تماما فناء ذوقيا شهوديا، لا فناء طبيعيا كما هو الشأن فى بعض التصوفات الأخرى.
(3) سورة التكوير.(2/613)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
فهذه كلها أقسام الكون. وما من العدم لهم صار إلى العدم. القائم عنهم غيرهم، والكائن عنهم سواهم. وجلّت الأحدية وعزّت الصمدية، وتقدّست الديمومية، وتنزهت الإلهية.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 37]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37)
المساجد بيوته- سبحانه- وإنّ الله أذن أن ترفع الحوائج فيها إليه فيقضيها، ورفع أقدار تلك البيوت على غيرها من الأبنية والآثار. المساجد بيوت العبادة والقلوب بيوت الإرادة فالعابد يصل بعبادته إلى ثواب الله، والقاصد يصل بإرادته إلى الله.
ويقال القلوب بيوت المعرفة، والأرواح مشاهد المحبة، والأسرار محالّ المشاهدة.
قوله: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ ... » لم يقل: لا يتجرون ولا يشترون ولا يبيعون، بل قال: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فإن أمكن الجمع بينهما فلا بأس- ولكنه كالمتعذر- إلّا على الأكابر الذين تجرى عليهم الأمور وهم عنها مأخوذون «1» .
ويقال هم الذين يؤثرون حقوق الحقّ على حظوظ النّفس.
ويقال إذا سمعوا صوت المؤذن: حىّ على الصلاة تركوا ما هم فيه من التجارة والبيع، وقاموا لأداء حقه.
ويقال هم الخواص والأكابر الذين لا يشغلهم قوله: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» عن التحقق يذكره من غير ملاحظة عوض أو مطالعة سبب.
قوله جل ذكره: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ
__________
(1) هذا رأى حاسم فى مدى وجوب السعى من أجل الرزق على طوائف أرباب الأحوال وتقدير لموقف من يعجزون عن ذلك.(2/614)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
أقوام ذلك اليوم مؤجّل لهم، وآخرون: ذلك لهم معجّل وهو بحسب ما هم فيه من الوقت فانّ حقيقة الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 38]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
من رفع الحساب من الوسط يرفع معه الحساب «1» ، ومن هو فى أسر مطالباته فالوزن يومئذ الحقّ.
والرزق بغير حساب فى أرزاق الأرواح، فأمّا أرزاق الأشباح فمحصورة معدودة لأن أرزاق الأشباح حظوظ وهى وجود أفضال وفنون نوال. وما حصره الوجود من الحوادث فلا بدّ أن يأتى عليه العدد، وأما مكاشفة الأرواح بشهود الجمال والجلال فذلك على الدوام.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
وقال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «2» ، وقال: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» «3» . ومن أمّل السراب شرابا فلا يلبث إلا قليلا حتى يعلم أنّه كان تخييلا فالعطش يزداد، والروح تدعو للخروج.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 40]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
__________
(1) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة أولئك الذين يعبدون الله لذاته دون حساب فى العلاقة لثواب أو عقاب، ويتأيد ذلك بقوله فى العبارة التالية (ومن هو فى أسر مطالباته..) أي من ابتغى العوض لأنه يكون على حد تعبير رابعة كالأجير السوء.
(2) آية 104 سورة الكهف.
(3) آية 18 سورة المجادلة.(2/615)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
ظلمات الحسبان، وغيوم التفرقة، وليالى الجحد، وحنادس الشّكّ إذا اجتمعت فلا سراج لصاحبها، ولا نجوم، ولا أقمار ولا شموس.. فالويل ثم الويل! قوله: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» : إذا لم يسبق لعبد نور القسمة، ولم يساعده تعلّق فجهده وكدّه، وسعيه وجدّه عقيم من ثمراته، موئس من نيل بركاته.
والبدايات غالبة للنهايات فالقبول لأهله غير مجتلب، والردّ لأهله غير مكتسب.
وسعيد من سعد بالسعادة فى علمه فى آزاله، وأراد كون ما علم من أفعاله يكون، وأخبر أن ذلك كذلك يكون، ثم أجرى ذلك على ما أخبر وأراد وعلم «1» .
وهكذا القول فى الشقاوة فليس لأفعاله علّة، ولا تتوجّه عليه لأحد حجّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 41]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)
التسبيح على قسمين: تسبيح قول ونطق، وتسبيح دلالة وخلق فتسبيح الخلق عام من كل مخلوق وعين وأثر، منه تسبيح خاصّ بالحيوانات، وتسبيح خاص بالعقلاء وهذا منقسم إلى قسمين: تسبيح صادر عن بصيرة، وتسبيح حاصل من غير بصيرة فالذى قرينته البصيرة مقبول، والذي تجرّد عن العرفان مردود.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 42]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
__________
(1) هذا شرح جميل لفكرة القشيري عن: «الله خالق أفعال العباد» التي هى إحدى أصول عقيدته الكلامية.(2/616)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
الملك مبالغة من الملك، والملك القدرة على الإيجاد فالمقدورات- قبل وجودها- للخالق مملوكة، كذلك فى أحوال حدوثها بعد عدمها عائدة إلى ما كانت عليه، فملكه لا يحدث ولا يزول ولا يئول شىء منه إلى البطول.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
تعرّف إلى قلوب العلماء بدلالات صنعه فى بديع حكمته، وبما يدل منها على كمال قدرته، وشمول علمه وحكمته، ونفوذ إرادته ومشيئته. فمن أنعم النظر وصل إلى برد اليقين، ومن أعرض بقي فى وهدة الجحد وظلمات الجهل.
ترتفع بقدرته بخارات البحر، وتصعد بتسيره «1» وتقديره إلى الهواء وهو السحاب، ثم يديرها إلى سمت يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما فى السحاب من ماء البحر قطرة قطرة ويكون الماء قبل حصول بخارات البحر غير عذب فيقلبه عذبا، ويسحّه السحاب سكبا، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما، لا بالجهد من المخلوقين يمسك أو ينزّل، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره «2» .
«يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» : وكذلك جميع الأغيار من الرسوم والآثار.. ذلك تقدير العزيز العليم.
__________
(1) ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(2) نفى الجهد والحيلة من أمارات الاعتماد على التقدير وإسقاط التدبير(2/617)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
يريد خلق كلّ حيوان من ماء، يخرج من صلب الأب وتريبة «1» الأمّ. ثم أجزاء الماء متساوية متماثلة، ثم ينقسم إلى جوارح فى الظاهر وجوارح فى الباطن، فيختصّ كلّ عضو وينفرد كل شلو «2» بنوع من الهيئة والصورة، وضرب من الشكل والبنية. ثم اختلاف هيئات الحيوانات فى الريش والصوف والوبر والظفر والحافر والمخلب، ثم فى القامة والمنظر، ثم انقسام ذلك إلى لحم وشحم وجلد وعظم وسنّ ومخّ وعصب وعرق وشعر.
فالنظر فى هذا- مع العبرة به- يوجب سجود البصيرة وقوة التحصيل.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
الآيات بيّنة ولكنّ الله يهدى إليها قوما ويلبّس على آخرين، والذي سدّ بصره أنّى ينفعه طلوع الشمس والنجوم؟ وكذلك الذي سدّت بصيرته أنّى تنفعه شواهد العلوم ودلائل الفهوم؟ وقالوا فى معناه:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 47]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) .
__________
(1) وردت (تربة) والصواب أن تكون (تريبة) الأم وهى عظمة الصدر مما يلى الترقوتين والجمع ترائب.
(2) الشلو- العضو.(2/618)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
يستسلمون فى الظاهر ويقرّون باللسان، ثم المخلص يبقى على صدقه.
والذي قال لخوف سيف المسلمين، أو لغرض له آخر فاسد يتولّى بعد ذلك، وينحاز إلى جانب الكفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 48]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
علموا أن افتضاحهم فى حكم نيتهم، فمن علم أنه قاسط فى خصومته لم يطب نفسا بحكمه.
وكذلك المريب يهرب من الحقّ، ويجتهد فى الفرار «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 49]
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
منقادين يميلون مع الهوى، ولا يقبلون حكمه إيمانا. وكذلك شأن المريض الذي يميل بين الصحة والسقم فأرباب النفاق مترددون بين الشك والعلم، فليس منهم نفى بالقطع ولا إثبات بالعلم، فهم متطوّحون فى أودية الشك، وهذا معنى قوله:
[سورة النور (24) : آية 50]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
فلمّا انخرطوا فى سلك التجويز ما حصلوا إلا فى ظلم الشك، ولما لم يكن لهم يقين فى القلب لم يكن معهم لأهل القلوب ذكر.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 51]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) .
__________
(1) ذكر الواحدي فى «أسباب النزول» ص 221 ان هذه الآية نزلت فى بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما فى أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله (ص) ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا ... إلخ.(2/619)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
الذين إيمانهم حقيقة بحكم التصديق شأنهم قيامهم بإظهار ما ضمنوه من التحقيق.
ومن يقابل أمر الله بالطاعة، ويستقبل حكمه بالاستخذاء.. فأولئك هم الصادقون فى الحقيقة، السالكون فى الطريقة، الآخذون بالوثيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
أقسموا بالله غاية اليمين، ووعدوا من أنفسهم الطاعة لو أمرهم بالخروج فى المستقبل، فقال: لا تعدوا بما هو معلوم منكم ألا تفوا به فطاعة فى الوقت أولى من تسويف بالوعد.
ثم قال: قل يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. فإن أجابوا سعدوا فى الدارين، وأحسنوا إلى أنفسهم. وإن تولّوا عن الإجابة فما أضرّوا إلا بأنفسهم ويكون الندم فى المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم، وليس على الرسل إلا حسن البلاغ. ويوم الحشر يعطى كلّ أحد كتابه، ويعامل بمقتضى حساب نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
وعد الله حقّ وكلامه صدق، والآية تدل على صحة الخلفاء الأربعة لأنه- بالإجماع-(2/620)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
لم يتقدمهم فى الفضيلة- إلى يومنا- أحد «1» فأولئك مقطوع بإمامتهم، وصدق وعد الله فيهم، وهم على الدين المرضىّ من قبل الله، ولقد أمنوا بعد خوفهم، وقاموا بسياسة المسلمين، والذّبّ عن حوزة الإسلام أحسن قيام.
وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين الذين هم أركان الملّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباده، الهادون من يسترشد فى الله إذ الخلل فى أمر المسلمين من الولاة الظّلمة ضرره مقصور على ما يتعلّق بأحكام الدنيا، فأما حفّاظ الدين فهم الأئمة من العلماء وهم أصناف:
قوم هم حفّاظ أخبار الرسول عليه السلام وحفّاظ القرآن وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول الرادّون على أهل العناد وأصحاب البدع بواضح الأدلة، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه.
وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات وما يتعلق بأحكام المصاهرات وحكم الجراحات والدّيّات، وما فى معانى الأيمان والنذور والدعاوى، وفصل الحكم فى المنازعات وهم فى الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك.
وقوم هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وهم فى الدّين كخواصّ الملك وأعيان مجلس السلطان فالدين معمور بهؤلاء- على اختلافهم إلى يوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 57]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
إنّ الباطل قد تكون له دولة ولكنها تخييل- وما لذلك بقاء- وأقلّ لبثا من عارض ينشأ عن الغيظ.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
__________
(1) فى م بعدها (وما بعدهم مختلف فيهم) .(2/621)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
«1» ضيّق الأمر من وجه ووسّعه من وجه، وأمر بمراعاة الاحتياط وحسن السياسة لأحكام الدين ومراعاة أمر الحرم، والتحرر من مخاوف الفتنة، وإذا كانت الجوانب محروسة صارت المخاوف مأمونة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
يحدث تأثير بالمضرّة لبنات الصدور «2» من دواعى الفتنة واستيلاء سلطان الشهوة فإذا سكنت تلك الثائرة سهل الباب، وأبيحت الرّخص وأمنت الفتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
إذا جاءت الأعذار سهل الامتحان والاختيار، وإذا حصلت القرابة سقطت الحشمة، وإذا صدقت القرابة انتفت التفرقة والأجنبية فبشهادة هذه الآية إذا انتفت هذه الشروط صحّت المباسطة فى الارتفاق.
__________
(1) ذكر ابن عباس أن الرسول (ص) وجّه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال:
يا رسول الله: وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا فى حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل نزلت فى أسماء بنت مرند حين دخل عليها غلام كبير فى وقت كرهته فشكت إلى رسول الله.
فانزل الله هذه الآية.
(2) بنات الصدور تعبير بالكناية عن الأسرار والخواطر.(2/622)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
ثم قال: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» : وعزيز من يصدق فى الصداقة فيكون فى الباطن كما يرى فى الظاهر، ولا يكون فى الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض، وفى معناه ما قلت:
من لى بمن يثق الفؤاد بودّه ... فإذا ترحّل لم يزغ عن عهده
يا بؤس نفسى من أخ لى باذل ... حسن الوفاء بوعده لا نقده
يولى الصفاء بنطقه لا خلقه ... ويدسّ صابا فى حلاوة شهده
فلسانه يبدى جواهر عقده ... وجنانه تغلى مراجل حقده
لاهمّ إنى لا أطيق مراسه ... بك أستعيذ من الحسود وكيده
(وقوله: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» من تؤمن منه هذه الخصال وأمثالها) «1» .
قوله جل ذكره: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ السلام الأمان، وسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من الله على نفسه أي يطلب الأمان والسلامة من الله لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضاه الله، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة بالله حتى لا يرفع عنه- سبحانه- ظلّ عصمته بإدامة حفظه عن الاتصاف بمكروه فى الشرع «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود فى م.
(2) فى هذه الإشارة غمز بأصحاب البدع الذين يرتكبون ما يخالف الشرع بدعوى الوله والانمحاء(2/623)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
شرط الاتباع موافقة المتبوع، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزابا كما قال: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» «1» والعلماء ورثة الأنبياء، والمريدون لشيوخهم كالأّمة لنبيّهم فشرط المريد ألا يتنفّس ينفس إلا بإذن شيخه، ومن خالف شيخه فى نفس- سرّا أو جهرا- فإنه يرى غبّه سريعا فى غير ما يحبّه. ومن خالفة الشيوخ فيما يستسرونه «2» عنهم أشدّ ممّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة. ومن خالف شيخه لا يشمّ رائحة الصّدق، فإن بدر منه شىء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمّا حصّل منه من المخالفة والخيانة، ليهديه شيخه إلى ما فيه كفّارة جرمه، ويلتزم فى الغرامة بما يحكم به عليه. وإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على الشيوخ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوّة أحوالهم بما يكون جبرانا لتقصيرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 63]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
أي عظّموه فى الخطاب، واحفظوا فى خدمته الأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير.
قوله جل ذكره: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «3» أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
__________
(1) آية 14 سورة الحشر.
(2) فى ص (يستبشرونه) وفى م (يستسترونه) ونحن نؤيد هذه حتى تتلاءم مع (ما يظهر بالجهر) فينتظم السياق بها.
(3) يقال خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.(2/624)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
سعادة الدارين فى متابعة السّنّة، وشقاوة المنزلين فى مخالفة السّنّة. ومن أيسر ما يصيب من خالف سنته حرمان الموافقة، وتعذّر المتابعة بعده، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (24) : آية 64]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
«1» «2» إنّ لليوم غدا، ولمّا يفعل العبد حسابا، وسيطالب المكلّف بالصغير والكبير، والنقير والقطمير.
سورة الفرقان
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم جليل شهدت بجلاله أفعاله، ونطقت بجماله أفضاله. دلّت على إثباته آياته، وأخبرت عن صفاته مفعولاته.
بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته، اسم كريم شهدت بفضله نصرته.
بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله فبلطف جماله عرفوا جوده، وبكشف جلاله عرفوا وجوده.
بسم الله اسمه عزيز من دعاه لبّاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن توسّل إليه أكرمه وآواه، ومن تنصّل إليه «3» رحمه وأدناه، ومن شكا إليه أشكاه «4» ، ومن سأله خوّله وأعطاه.
__________
(1) وفى قراءة (يرجعون) بفتح الياء وكسر الجيم.
(2) يروى أن ابن عباس رضى الله عنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت. [.....]
(3) تنصل إليه هنا معناها تبرأ من ذنبه وتاب.
(4) أشكى أي قبل الشكاة وأعان الشاكي.(2/625)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)
يقال برك الطير على الماء إذا دام وقوفه على ظهر الماء. ومبارك الإبل مواضع إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تفاعل تفيد دوام بقائه، واستحقاقه لقدم ثبوته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع.
وفى التفاسير «تَبارَكَ» أي تعظّم وتكبّر. وعند قوم أنه من البركة وهى الزيادة والنفع، فداومه وجوده، وتكبره ستحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فضله وإحسانه ولطفه.
فوجوه الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة: ثناء عليه بذكر ذاته وحقّه، وثناء بذكر وصفه وعزّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله فكلمة «تَبارَكَ» مجمع الثناء عليه- سبحانه.
«الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» وهو القرآن «عَلى عَبْدِهِ» : فأكرمه بأن نبّاه وفضّله، وإلى الخلق أرسله، وبيّن معجزته وأمارة صدقه بالقرآن الذي عليه أنزله، وجعله بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 2]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
تفرّد بالملك فلا شريك يساهمه، وتوحّد بالجلال فلا نظير يقاسمه فهو الواحد بلا قسيم فى ذاته، ولا شريك فى مخلوقاته، ولا شبيه فى حقّه ولا فى صفاته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
اتخذوا من دون الله آلهة لا يملكون قطميرا، ولا يخلقون نقيرا، ولا يدفعون عنهم(2/626)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
كثيرا ولا يسيرا، ولا ينفعونهم ولا يسهّلون عليهم عسيرا، ولا يملكون لأحد موتا «1» ولا نشورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
ظنّوه كما كانوا، ولمّا كانوا بأمثالهم قد استعانوا فيما عجزوا عنه من أمورهم، واستحدثوا لأمثالهم واستكانوا- فقد قالوا من غير حجّة وتقولوا، ولم يكن لقولهم تحصيل، ولأساطير الأولين ترّهاتهم «2» التي لا يدرى هل كانت؟ وإن كانت فلا يعرف كيف كانت ومتى كانت؟
ثم قال: يا محمد، إن هذا الكتاب- الذي أنزله الذي يعلم السّرّ فى السماوات والأرض- لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا «3» من الوقت الذي أتى به أعداء الدين، وهم على كثرتهم مجتهدون فى معارضته بما يوجب مساواته فادّعوا تكذيبه. وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمار، ولم يأت أحد بسورة مثله، فانتفى الرّيب عن صدقه، ووجب الإقرار بحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 10]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)
__________
(1) هكذا فى م وهى في ص (حياة ولا نشورا) والمعنى يتقبلهما أيضا.
(2) هكذا فى م وهى في ص (برهانهم الذي ... ) ولكننا آثرنا (ترهانهم) بدليل التأنيث فى (كانت) مكررا.
(3) هكذا فى ص وهى فى س (ولو تساعدوا) .(2/627)
«1»
لما عجزوا عن معارضته أخذوا يعيبونه بكونه بشرا من جنسهم يمشى فى الأسواق، ويأكل الطعام، وعابوه بالفقر وقالوا: هلّا نزّل عليه الملائكة فيرون عيانا؟ وهلّا جعل له الكنوز فاستكثر مالا؟ وهلّا خصّ بآيات- اقترحوها- فتقطع العذر وتزيل عنّا إشكالا؟! وما هذا الرجل إلا بشر تعتريه من دواعى الشهوات ما يعترى غيره! فأىّ خصوصية له حتى تلزمنا متابعته ولن يظهر لنا حجة؟ فأجاب الله عنهم وقال: إنّ الحقّ قادر على تمليك ما قالوا وأضعاف ذلك، وفى قدرته إظهار ما اقترحوه وأضعاف ذلك، ولكن ليس لهم هذا التخير «2» بعد ما أزيح العذر بإظهار معجزة واحدة، واقتراح ما يهوون تحكّم على التقدير، وليس لهم ذلك. ثم أخبر أنه لو أظهر تفصيل ما قالوه وأضعافه لم يؤمنوا لأن حكم الله بالشقاوة سابق لهم، وقال:
__________
(1) يذكر ابن عباس أنه لم اعبر المشركون محمدا (ص) بالفاقة أقبل رضوان خازن الجنة عليه وقال:
يا محمد، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عنده فى الآخرة مثل جناح بعوضة فقال النبي: يا رضوان لا حاجة لى فيها، لأحب إلى أن أكون عبدا صابرا شكورا فقال رضوان: أصبت أصابك الله. ورفع الرسول بصره فإذا منازله فوق منازل الأنبياء وغرفهم فدعا النبي: اللهم اجعل ما أردت أن تعطينى فى الدنيا ذخيرة عندك فى الشفاعة يوم القيامة.
(2) يمكن أن تكون (التحيز) لتنسجم مع (ما اقترحوه) ومع (ما يهوون) ولكننا لا نستبعد أن تكون (التحيز) بالحاء لكثرة جدلهم حول ما ينبغى- فى تصورهم- للرسول.(2/628)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
[سورة الفرقان (25) : آية 11]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
فهم فى حكم الله من جملة الكفار، والله أعدّ لهم ولأمثالهم من الكفار وعيد الأبد..
فلا محالة يمتحنون به.
قوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» : دليل على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبد فى الحال لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلا، وهم معاتبون مكلّفون.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 12]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)
فوحشة النار توجد من مسافة بعيدة قبل شهودها والامتحان بها، ونسيم الجنة يوجد قبل شهودها والدخول فيها، والنار تسجّر منذ سنين قبل المحترقين بها، والجنة تزيّن منذ سنين قبل المستمتعين بها. وكذب من أحال «1» وجودهما قبل كون سكانهما وقطانهما من المنتفعين أو المعاقبين، لأن الصادق أخبر عن صفاتهما التي لا تكون إلا بموجود حيث قال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 13 الى 14]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
راحة الجنة مقرونة بسعتها، ووحشة النار مقرونة بضيقها، فيضيّق عليهم مكانهم، ويضيّق عليهم قلوبهم، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتهم تبطل وكانوا يتخلصون
__________
(1) لهذا الرأى أهميته حيث يرى كثير من المعتزلة أن الجنة والنار لا يوجدان الآن وإنما يوجدان فى الآخرة عند الجزاء، وأجمع المعتزلة- بخلاف جهم وحده- أنهما لا تفنيان ولا يفنى أهلهما، وهم في هذا يتفقون مع الأشاعرة. أما مخالفة جهم لذلك فقد ذكرها الشهرستاني فى (الملل والنحل ج 1 ص 111 ط الخانجى) بدعوى أن تلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها حركات تتناهى مع أن نصوص القرآن صريحة فى دوامهما.. والقشيري الأشعري يصرح بذلك فى الآيات التالية.(2/629)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
منها لم يكن البلاء كاملا، ولكنها آلام لا تتناهى، ومحن لا تنقضى كلما راموا فرجة قيل لهم:
فلن تريدكم إلا عذابا.
قوله جل ذكره
[سورة الفرقان (25) : آية 15]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15)
المتقون أبدا فى النعيم المقيم حور وسرور وحبور، وروح وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيد، وألذّ شراب وكاسات محابّ، وبسط قلب وطيب حال، وكمال أنس ودوام طرب وتمام جذل، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماء فى الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها «1» . ثم فيها ما يشاءون، وهم أبدا مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 16]
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
ولكن لا يخلق فى قلوبهم إلا إرادة ما علم أنه سيفعله، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتهم، ويمنع من قلوبهم مشيئته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 17]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
الله يحشر الكفار ويحشر الأصنام التي عبدوها من دون الله، فيحييها ويقول لها:
هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيتبرأون.. كلّه تهويل وتعظيم للشأن، وإلا فهو عليم بما كان وما لم يكن. فالأصنام تتبرأ منهم، وتقابلهم بالتكذيب، وهم ينادون على أنفسهم بالخطأ والضلال، فيلقون فى النار، ويبقون فى الوعيد إلى الأبد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
:
__________
(1) هذا تنبيه هام جدا لتوضيح حقيقة النعم التي فى الآخرة.(2/630)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
أخبر أن الذين تقدّموه من الرسل كانوا بشرا، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهور المعجزات عليهم. وفى الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال:
«وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» .
(فضّل بعضا على بعض، وأمر المفضول بالصبر والرضاء، والفاضل بالشكر على العطاء) «1» وخصّ قوما بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصّ قوما بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لمن نعّمه مناقب، ولا لمن امتحنه معايب.. فبحكمه لا يجرمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقداره لا بأوزارهم، وبه لا بهم.
قوله: «أَتَصْبِرُونَ؟» استفهام فى معنى الأمر، فمن ساعده التوفيق صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 21]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21)
«لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» : لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله فى القيامة من الدنيا.
وكما كانوا لا يخافون العذاب، ولا ينتظرون الحشر كذلك كانوا لا يؤمنون لقاء الله.
فمنّكر الرؤية من أهل القبلة- ممن يؤمن بالقيامة والحشر- مشارك لهؤلاء فى جحد ما ورد به الخبر والنقل لأن النّقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان «2» .
فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم، وأنه مسلم لهم ما اقترحوه من نزول
__________
(1) ما بين القوسين فى م وغير موجود فى ص.
(2) يعود القشيري بعد قليل إلى شرح موضوع الرؤية عند تفسيره الآية: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً»(2/631)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان فى القدرة جائزا- إلا أنه لم يكن واجبا بعد إزاحة عذرهم بظهور معجزات الرسول عليه السلام، فلم يكن اقتراح ما قالوه جائزا لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 22]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
اقترحوا شيئين: رؤية الملائكة ورؤية الله، فأخبر أنهم يرون الملائكة عند التوفّى، ولكن تقول الملائكة لهم: «لا بشرى لكم!» .
«حِجْراً مَحْجُوراً» : أي حراما ممنوعا يعنى رؤية الله عنهم، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره، وحمله على ذلك أولى من حمله على الجنة، ولم يجر لها هنا ذكر. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة، قال تعالى: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «1» فكما لا تكون للكفار بشارة بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤية للكفار وتكون للمؤمنين.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 23]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
هذه آفة الكفار ضاع سعيهم وخاب جهدهم، وضاع عمرهم وخسرت صفقتهم وانقطع رجاؤهم، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فى لوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال روحهم، وتتأدّى إلى قلوبهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهم: ويتقاصر عن ثنائه نطقهم، حيث يسمعون قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقّ لأجله: «وَقَدِمْنا إِلى ... » فهم إذا سمعوا ذلك وجب لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله: «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ويقولون: يا ليت
__________
(1) آية 30 سورة فصلت.(2/632)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تقبل منها ذرة وهو يقول بسببها: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ... » ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدّوا ذلك من أجلّ ما ينالون من الإحسان إليهم «1» ، وفى معناه أنشدوا:
سأرجع من حجّ عامى مخجلا ... لأنّ الذي قد كان لا يتقبّل «2»
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 24]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
أصحاب الجنة هم الراضون بها، الواصلون إليها، والمكتفون بوجدانها، فحسنت لهم أوطانهم، وطاب لهم مستقرّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 26]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)
يريد يوم القيامة إذا بدت أهوالها، وظهرت للمبعوثين أحوالها عملوا وتحققوا- ذلك اليوم- أنّ الملك للرحمن، ولم يتخصص ملكه بذلك اليوم، وإنما علمهم ويقينهم حصل لهم ذلك الوقت.
ويقال تنقطع دواعى الأغيار، وتنتفى أوهام الخلق فلا يتجدّد له- سبحانه- وصف ولكن تتلاشى للخلق أوصاف، وذلك يوم على الكافرين عسير، ودليل الخطاب يقتضى أنّ ذلك اليوم على المؤمنين يسير وإلا بطل الفرق فيجب ألا يكون مؤمن إلّا وذلك اليوم يكون عليه هينا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 27 الى 28]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)
«3»
__________
(1) هذه إشارة دقيقة غاية الدقة، نأمل أن يفطن إليها القارئ ويستمتع بها.
(2) معنى البيت مرتبط بالفكرة الصوفية أن عمل الإنسان لا قيمة له، والأمل كله معقود على الفضل الإلهى، فكلما استصغر العابد عبادته بجانب هذا الفضل شعر بقصوره وارتقى فى التجريد والتفويض منزلة بعد منزلة.. وفى هذا تقول رابعة بعد عبادة ليلة كاملة: إن استغفارنا فى حاجة إلى استغفار. [.....]
(3) قيل نزلت هذه الآية فى أبى بن خلف، وقد قتله الرسول (ص) يوم أحد فى مبارزة، وقيل نزلت فى عقبة بن أبى محيط وكان محالفا لأبىّ.(2/633)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضى سرور المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم فى الله، وأمّا الكافر فيضلّ صاحبه فيقع معه فى الثبور، ولكن المؤمن يهدى صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
شكا إلى الله منهم، وتلك سنة المرسلين أخبر الله عن يعقوب- عليه السلام- أنه قال: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ»
فمن شكا من الله فهو جاحد، ومن شكا إلى الله فهو عارف واجد.
ثم إنه أخبر أنه لم يخل نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلّط عليه عدوّا فى وقته، إلا أنّه لم يغادر من أعدائهم أحدا، وأذاقهم وبال ما استوجبوه على كفرهم وغيّهم.
قوله جل ذكره: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً.
كفى بربك اليوم هاديا إلى معرفته، وغدا نصيرا على رؤيته.
ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد فى الخبر: أن كل أمة ترى فى القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار، فيلقون فيها ويبقى المؤمنون، فيقال لهم: ما وقفكم؟ فيقولون:
إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نر معبودنا! فيقال لهم: ولو رأيتموه.. فهل تعرفونه؟
فيقولون: نعم. فيقال لهم: بم تعرفونه؟
فيقولون: بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئا فى صورة شخص فيقول لهم: أنا معبودكم فيقولون: معاذ الله.. نعوذ بالله منك! ما عبدناك. فيتجلّى الحقّ لهم فيسجدون له.(2/634)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 32]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32)
أي إنما أنزلناه متفرقا ليسهل عليك حفظه فإنه كان أميا لا يقرأ الكتب، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه السلام بالرسالة إليه فى كل وقت وكل حين..
وكثرة نزوله كانت أوجب لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أنسه «1» ، فجبريل كان يأتى فى كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقت من الكوائن والأمور الحادثة، وذلك أبلغ فى كونه معجزة، وأبعد عن التهمة من أن يكون من جهة غيره، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلا «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 33]
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)
كان الجواب لما يوردونه على جهة الاحتجاج لهم مفحما، ولفساد ما يقولونه موضحا، ولكن الحقّ- سبحانه- أجرى السّنة بأنه لم يزد ذلك للمسلمين إلا شفاء وبصيرة، ولهم إلا عمى وشبهة.
ثم أخبر عن حالهم فى مآلهم فقال:
[سورة الفرقان (25) : آية 34]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
يحشرون على وجوههم وذلك أمارة لإهانتهم، وإن فى الخبر: «الذين أمشاهم اليوم»
__________
(1) لأنه كتاب يحمله رسول الحبيب من الحبيب إلى الحبيب.
(2) أي أن اتصال القرآن الكريم بحياة الناس وواقع أمورهم آية كونه معجزة بعكس ما يتخرص به المضللون الملحدون الذين يدعون أن محمدا كاتب هذا القرآن، وأنه أوتى ذكاء خارقا كان يجعله يكتب للناس ما يلي احتياجهم ويحل مشاكلهم.. خرست ألسنتهم إن يقولون إلا زورا.(2/635)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
«على أقدامهم يمشيهم غدا على وجوههم» «1» ، وهو على ذلك قادر، وذلك منه غير مستحيل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 35]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)
قلّما يجرى فى القرآن لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ذكر إلا ويذكر الله عقيبه موسى عليه السلام. وتكررت قصته فى القرآن فى غير موضع تنبيها على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور فالتكرير فى الذكر يوجب التفصيل فى الوصف لأن القصة الواحدة إذا أعيدت مرات كثيرة كانت فى باب البلاغة أتمّ لا سيما إذا كانت فى كل مرة فائدة زائدة «2» .
ثم بيّن أنه قال لهما:
[سورة الفرقان (25) : آية 36]
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)
أي فذهبا فجحد القوم فدمرناهم تدميرا «3» أي أهلكناهم إهلاكا، وفى ذلك تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء، ووعد له بالجميل فى أنه سيهلك أعداءه كلّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 37 الى 40]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
أحللنا بهم العقوبة كما أحللنا بأمثالهم، وعاملناهم بمثل معاملتنا لقرنائهم. ثم عقّب هذه الآيات بذكر عاد وثمود وأصحاب الرّسّ، ومن ذكرهم على الجملة من غير تفصيل، وما أهلك
__________
(1) القسم الأول من الخبر على النحو التالي: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم» قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم فقال عليه السلام: الذين أمشاهم ...
(2) يضاف هذا إلى ما سبق أن نبهنا إليه عن موقف القشيري من التكرار.
(3) يلقت القشيري نظرنا إلى ما يعرف فى البلاغة بإيجاز الحذف، فقد اكتفى بذكر أول القصة وآخرها وقد أحسن القشيري حين وطأ لذلك بكلام فى القصة الواحدة التي تعاد أكثر من مرة.(2/636)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
به قوم لوط حيث عملوا الخبائث ... كل ذلك تطييبا لقلبه صلى الله عليه وسلم، وتسكينا لسرّه، وإعلاما وتعريفا بأنه سيهلك من يعاديه، ويدمّر من يناويه، وقد فعل من ذلك الكثير فى حال حياته، والباقي بعد مضيّه- عليه السلام- من الدنيا وذهابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 41]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41)
كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته، فإذا أخبر الله وقصّ عليه ما كان يلاقيه كان أوجب للسّلوة وأقرب من الأنس، وغاية سلوة أرباب المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا فى أيام امتحانهم كما قال قائلهم:
يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله
ويهتزّ للمعروف فى طلب العلى ... لتذكر يوما عند سلمى شمائله
وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه- عليه السلام- بعين الإزدراء والتصغير لشأنه لأنهم كانوا لا يعرفون قدره، قال تعالى: «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 43]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
كانوا يعبدون من الأصنام ما يهوون يستبدلون صنما بصنم، وكانوا يجرون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمن بحكم الله لا بحكم نفسه، وبهذا يتضح الفرقان «2» بين رجل وبين رجل.
والذي يعيش على ما يقع له فعابد هواه، وملتحق بالذين ذكرهم الحقّ بالسوء فى هذه الآية.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 44]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
__________
(1) آية 198 سورة الأعراف.
(2) فرق بين الشيئين فرقا وفرقانا. والفرقان البرهان والحجة، وكل ما فرق به بين الحق والباطل.(2/637)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
كالأنعام التي ليس لها همّ إلّا فى أكلة وشربة، ومن استجلب حظوظ نفسه فكالبهائم. وإنّ الله- سبحانه- خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم، والبهائم وعلى الهوى فطرهم، وبنى آدم وركّب فيهم الأمرين فمن غلب هواه عقله فهو شرّ من البهائم، ومن غلب عقله هواه فهو خير من الملائكة.. كذلك قال المشايخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)
قيل نزل الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره وقت القيلولة فى ظل شجرة وكانوا خلقا كثيرا فمدّ الله ظلّ تلك الشجرة حتى وسع جميعهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام.
وقيل إن الله فى ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرض كلّها ظلا، ثم إذا طلعت الشمس، وانبسط على وجه الأرض شعاعها فكلّ شخص يبسط له ظلّ، ولا يصيب ذلك الموضع شعاع الشمس، ثم يتناقص إلى وقت الزوال، ثم يأخذ فى الزيادة وقت الزوال.
وذلك من أمارات قدرة الله تعالى لأنه أجرى العادة بخلق الظلّ والضوء والفيء.
قوله: «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» : أي دائما. «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» أي حال ارتفاع الشمس ونقصان الظّلّ.
ويقال: ألم تر إلى ربك كيف مدّ ظل العناية على أحوال أوليائه فقوم هم فى ظل الحماية، وآخرون فى ظل الرعاية، وآخرون فى ظل العناية، والفقراء فى ظل الكفاية، والأغنياء فى ظل الراحة من الشكاية.
ظل هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم فى الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبى صلى الله عليه وسلم:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم قوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» سترا لما كان كاشفة به أولا، إجراء للسّنّة(2/638)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
فى إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام: «لَنْ تَرانِي» . وقال لنبينا عليه السلام:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» وشتان ما هما! ويقال أحيا قلبه بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن قال: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» فجعل استقلاله بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن سمع ذكر الظل. ويقال أحياه بقوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم أفناه بقوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وكذا سنّته مع عباده يردّدهم بين إفناء وإبقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 47]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47)
«1» جعل الليل وقتا لسكون قوم ووقتا لانزعاج آخرين فأرباب الغفلة يسكنون فى ليلهم، والمحبون يسهرون فى ليلهم إن كانوا فى روح الوصال، فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم، وإن كانوا فى ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم، فالسّهر للأحباب صفة: إمّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النوم للأحباب وقت التجلّى بما لا سبيل إليه فى اليقظة، فإذا رأوا ربّهم فى المنام يؤثرون النوم على السّهر «2» ، قال قائلهم:
وإنى لأستغفى وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
وقال قائلهم:
رأيت سرور قلبى فى منامى ... فأحببت التّنعّس والمناما
ويقال النوم لأهل الغفلة عقوبة ولأهل الاجتهاد رحمة فإن الحقّ- سبحانه- يدخل عليهم النوم ضرورة رحمة منه بنفوسهم ليستريحوا من كدّ المجاهدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 48 الى 49]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
__________
(1) السبت- القطع. والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته. وقيل السبات- الموت، والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. وهو كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» ، ويعضده ذكر النشور فى مقابلته.
(2) ذكر القشيري فى باب «رؤيا القوم» برسالته أمثلة كثيرة للكرامات التي تحققت للأولياء أثناء نومهم، وكان بعضها ذا تأثير عظيم فى مجرى حيواتهم. (الرسالة ص 192 وما بعدها) .(2/639)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
يرسل رياح الكرم فتهب على قلوب ذوى الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارّه، ويرسل رياح الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتكفى بالله لله، ويرسل رياح الخوف على قلوب العصاة فتحملهم على النّدم، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شىء إلا عن اللواعج فلا تستقرّ إلا بالكشف والتجلّى.
ويقال إذا تنسّم القلب نسيم القرب هام فى ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً.
أنزل من السماء ماء المطر فأحيا به الغياض والرياض، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمة فغسل العصاة ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنّسوا به من الأوزار.
و «الطّهور» هو الطاهر المطهّر، وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح إلى المساكنات، وما يتداخلها فى بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يحيي به قلوب المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلّى حتى يزول عنها عطش الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيى به نفوسا ميتة باتباع «1» الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
قوله جل ذكره
[سورة الفرقان (25) : آية 51]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51)
__________
(1) الباء في (باتباع) معناها (بسبب) .(2/640)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
إنّ الله- سبحانه- خصّ نبينا صلى الله عليه وسلم بأن فضّله على الكافة، وأرسله إلى الجملة، وبالا ينسخ شرعه إلى الأبد. وبهذه الآية أدّبه بأدقّ إشارة، حيث قال:
«وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» وهذا كما قال: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» «1» .
وقصد الحقّ أن يكون خواصّ عباده أبدا معصومين عن شواهدهم.
وفى القصة أن موسى عليه السلام تبرّم وقتا بكثرة ما كان يسأل، فأوحى الله فى ليلة واحدة إلى ألف نبى من بنى إسرائيل فأصبحوا رسلا، وتفرّق الناس عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلب موسى وقال: يا رب، إنى لا أطيق ذلك! فقبض الله أرواحهم فى ذلك اليوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 52]
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
أي كن قائما بحقّنا من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا أو مبالاة بمن سوانا، فإنّا نعصمك بكلّ، وجه، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
البحر الملح لا عذوبة فيه، والعذب لا ملوحة فيه، وهما فى الجوهرية واحد، ولكنه سبحانه- بقدرته- غاير بينهما فى الصفة، كذلك خلق القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محلّ الشكّ والكفران.
ويقال أثبت فى قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء، ولا الرجاء يغلب الخوف.
__________
(1) آية 86 سورة الإسراء.(2/641)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
ويقال خلق القلوب على وصفين: قلب المؤمن مضيئا (مشرقا «1» ) وقلب الكافر أسود مظلما، هذا بنور الإيمان مزيّن، وهذا بظلمة الجحود معلّم.
ويقال قلوب العوام فى أسر المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوب الخواصّ معتقة عن المطالب، مجرّدة عن رقّ الحظوظ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 54]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
الخلق متشاكلون فى أصل الخلقة، متماثلون فى الجوهرية، متباينون فى الصفة، مختلفون فى الصورة فنفوس الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلق بشر.. ولكن ليس كلّ بشر كبشر واحد عدوّ لا يسعى إلا فى مخالفته، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظّه، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقى عن حدّ الوقاحة والخساسة، وواحد ولىّ لا يفتر عن طاعته، ولا ينزل عن همّته، فهو فى سماء تعززه بمعبوده.
وبينهما للناس مناهل ومشارب فواحد يكون كما قال:
[سورة الفرقان (25) : آية 55]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
يكتفى بالمنحوت من الخشب، والمصنوع من الصّخر، والمتّخذ من النحاس، وكلّها جمادات لا تعقل ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع.
أما المؤمن فإنّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش- وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوق- وإنّ اتصف بمناقب لا تحصى
__________
(1) وردت فى م ولم ترد فى ص.(2/642)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 56]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56)
رسولا منّا، مأمورا بالإنذار والتبشير، واقفا حيث وقفناك على نعت التبليغ، غير طالب منهم أجرا، وغير طامع فى أن تجد منهم حظّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 57]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
«إِلَّا» أداة استثناء منقطع إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربّهم ليس بأجر يأخذه منهم، فهو لمن أقبل بشير، ولمن أعرض نذير.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 58]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)
التوكل تفويض الأمور إلى الله. وحقّه وأصله علم العبد بأنّ الحادثات كلّها حاصلة من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحد على الإيجاد غيره.
فإذا عرف هذا فهو فيما يحتاج إليه- إذا علم أن مراده لا يرتفع إلا من قبل الله- حصل له أصل التوكل. وهذا القدر فرض، وهو من شرائط الايمان، فإن الله تعالى يقول:
«وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» »
وما زاد على هذا القدر- وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار- فهى أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.
فإن تقرّر هذا فالناس فى الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلّ درجة من هذه الأقسام اسم: إمّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفى بما فى يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة.. وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحيها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له
__________
(1) آية 23 سورة المائدة.
والمطلوب منا أن نلاحظ دائما ظاهرة هامة نبهنا إليها في مدخل هذا الكتاب، وهى أن القشيري يحاول أولا استمداد المصطلح الصوفي من كتاب الله، (فالتوكل) الذي هو ركن هام من أركان الطريق الصوفي له أصل فى القرآن. ثم تأتى من بعد ذلك مرحلة البحث فى تطور هذا الأصل ونموه في بينة المتصوفة. [.....](2/643)
فلا يستزيد. ثم اكتفاء كلّ أحد يختلف فى القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء فى التخلص من الحرص وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكون القلب فى حالة عدم وجود الأسباب، فيكون مجردا عن الشيء، ويكون فى إرادته متوكلا على الله. وهؤلاء متباينون فى الرتبة، فواحد يكتفى بوعده لأنه صدقه فى ضمانه، فيسكن- عند فقد الأسباب- بقلبه ثقة منه بوعد ربه.. ويسمى هذا توكلا، ويقال على هذا: إن التوكل سكون القلب بضمان الربّ، أو سكون الجأش فى طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نقده، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفى بعلم أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز ما وعده بل يكل أمره إلى الله.. وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض «1» ، وهو أن يكل أمره إلى الله، ولا يقترح على مولاه بحال، ولا يختار ويستوى عنده وجود الأسباب وعدمها فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لمولاه والسيّد أولى بعبده من العبد بنفسه «2» .
فإذا ارتقى عن هذه الحالة، وجد راحة فى المنع واستعذب ما يستقبله من الرّدّ.. وتلك هى مرتبة الرضا «3» ويحصل له فى هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه مالا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.
__________
(1) الواقع أن القشيري هنا متأثر بالآراء الكثيرة التي أدلى بها الشيوخ فى هذا الموضوع، وعلى وجه الخصوص بشيخه الدقاق، الذي يقول: التوكل ثلاث درجات: التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، ويقول كذلك: التوكل بداية والتسليم واسطة، والتفويض نهاية. ويقول كذلك: التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. (الرسالة ص 85) .
(2) يروى فى هذا الباب أن جماعة سألوا الجنيد: أين نطلب الرزق؟
فقال: إن علمتم فى أي موضع هو فاطلبوه. قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك.
فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه. فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟
فقال: التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟
فقال: ترك الحيلة (الرسالة الصفحة ذاتها) .
(3) كذلك ربط السراج فى «لمعه» بين التوكل والرضا بوصفهما مقامين متتاليين فى مقامات الطريق (اللمع ص 79 من أسفل) .(2/644)
وبعد هذا الموافقة وهى ألا يجد الراحة فى المنع، بل يجد بدل هذا عند نسيم القرب زوائد الأنس بنسيان كلّ أرب، ونسيان وجود سبب أو عدم وجود سبب فكما أن حلاوة الطاعة تتصاغر عند برد الرضا- وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجابا- فكذلك أهل الأنس بالله.. بنسيان كلّ فقد ووجد، وبالتغافل عن أحوالهم فى الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف الرضا نقصانا فى الحال.
ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء.. وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أنس ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم «1» . فأمّا ما دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين- على تباين شربهم- يختلف على حسب اختلاف محالّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل فى المهد لا شىء من قبله إلا أن يرضعه من هو فى حضانته «2» .
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجارى الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب يجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح فى توكله «3» .
ويقال عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا، وإذا منعوا صبروا. وخواصّهم إذا أعطوا آثروا، وإذا منعوا شكروا.
__________
(1) هذا الترتيب الذي ذكره القشيري على جانب كبير من الأهمية لأنه أولا يكشف عن التدرج في مراتب التوكل واحدة بعد الأخرى، والدقائق النفسية المرتبطة بكل منها، كما أنه يكشف عن مرحلة الانتقال من المقامات- التي هى جهود- إلى الأحوال التي هى من عين الجود. وواضح أن (الرضا) يحمل فى طياته طبيعة هذه المرحلة الانتقالية، وقد عالج القشيري هذه الظاهرة فى رسالته ص 97.
(2) القشيري متأثر بأقوال الشيوخ فى ذلك: نحو (المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه (الرسالة ص 85 وقولهم) (الصوفية أطفال فى حجر الحق) الرسالة ص 139.
(3) هذه نقطة هامة جدا توضح أن التوكل الصوفي الحق لا يتعارض مع الكسب، ولا يتعارض معه الكسب.. وقد كذب من ادعى التواكل وكذب من انهم الصوفية بالتكاسل.(2/645)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
ويقال الحق يجود على الأولياء- إذا توكلوا- بتيسير السبب من حيث يحتسب ولا يحتسب، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب ... وإذا لم يكن الأرب فمتى يكون الطلب؟
ويقال التوكل فى الأسباب الدنيوية إلى حدّ، فأمّا التوكل على الله فى إصلاحه- سبحانه- أمور آخرة العبد فهذا أشدّ غموضا، وأكثر خفاء. فالواجب فى الأسباب الدنيوية أن يكون الشكون عن طلبها غالبا، والحركة تكون ضرورة أفأمّا فى أمور الآخرة وما يتعلّق بالطاعة فالواجب البدار والجدّ والانكماش، والخروج عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتّصف بالتواني فى العبادات، ويتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم والقيام بحقّ الواجبات، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على الله وأنه- سبحانه- يعفو عنه فهو متّهم معلول الحال، ممكور مستدرج، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه.
ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرّأ بسرّه من حوله وقوّته. ثم يكون حسن الظنّ بربّه، ومع حسن ظنه بربه لا ينبغى أن يخلو من مخافته، اللهم إلا أن يغلب على قلبهما يشغله فى الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب فإن ذلك- إذا حصل- فالوقت غالب، وهو أحد ما قيل فى معانى قولهم: الوقت سيف «1» قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 59]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
انتظم به الكون- والعرش من جملة الكون- ولم يتجمّل الحقّ- سبحانه- بشىء
__________
(1) فى هذا المعنى يقول القشيري «أي كما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب، وكما أن السيف لين مسه قاطع حده فمن لاينه سلم، ومن خاشنه اصطلم كذلك الوقت من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردى، ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت.
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك» الرسالة ص 34.(2/646)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
من إظهار بريّته فعلوّه على العرش بقهره وقدرته، واستواؤه بفعل خص به العرش بتسوية أجزائه وصورته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 60]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
أقبل الحقّ- سبحانه- بلطفه وبفضله على أقوام فلذلك وجدوه، وأعرض عن آخرين بتكبره وتعزّزه فلذلك جحدوه فطرهم على سمة البعد، وعجن طينتهم بماء الشقاوة والصدّ، فلما أظهرهم ألبسهم صدار الجهل والجحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 61]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)
زيّن السماء الدنيا بمصابيح، وخلق فيها البروج، وبثّ فيها الكواكب، وصان عن الفطور والتشويش أقطارها ومناكبها، وأدار بقدرته أفلاكها، وأدام على ما أراد إمساكها.
وكما أثبت فى السماء بروجا (أثبت فى سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجا) «2» فبروج السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.
وبروج السماء (بيوت) «3» شمسها وقمرها ونجومها، وبروج القلوب مطالع أنوارها ومشارق شموسها ونجومها. وتلك النجوم التي هى نجوم القلوب كالعقل، والفهم والبصيرة والعلم، وقمر القلوب المعرفة.
__________
(1) كانت هذه الآية وأمثالها فرصة لآراء كلامية خطيرة سواء من ناحية استواء الله- سبحانه- على العرش ومسألة تنزههه عن المكانية، أو من ناحية خلق الله ما بين السماوات والأرض وهل المقصود بذلك خلق أفعال الإنسان. وقد ناقش الباقلاني فى كتابه (التمهيد فى أصول الدين) كلا الأمرين، والواقع أن القشيري- تلميذ الباقلاني- متأثر بآراء أستاذه إلى حد كبير، وإن كان الباقلاني أقل تأويلا للصفات الخبرية منه.
(2) غير موجودة فى ص وموجودة فى م.
(3) فى ص (ثبوت) وفى م (بيوت) وقد رجحنا هذه لأن البرج (بيت يبنى على سور المدينة وفي أعلاها) كما جاء فى المعاجم.(2/647)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قمر السماء له نقصان ومحاق، وفى بعض الأحايين هو بدر بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبدا له إشراق وليس له نقصان أو محاق، ولذا قال قائلهم:
دع الأقمار تخبو أو تنير ... لها بدر تذلّ له البدور
فأمّا شمس القلوب فهى التوحيد، وشمس السماء تغرب ولكن شمس القلوب لا تغيب ولا تغرب، وفى معناه قالوا:
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب
ويصحّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل، وشمس القلوب سلطانها فى الضوء والطلوع بالليل أتمّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 62]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
الأوقات متجانسة، وتفضيلها بعضها على بعض على معنى أنّ الطاعة فى البعض أفضل والثواب عليها أكثر. والليل خلف النهار والنهار خلف الليل، فمن وقع له فى طاعة الليل خلل فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جبرانه، وإن حصل فى طاعة النهار خلل فإذا حضر بالليل ففى ذلك إتمام لنقصانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 63]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63)
الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفّقوا للطاعات، فبرحمته وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعباد الرحمن الذين يستحقون غدا رحمته هم القائمون برحمته فبرحمته وصلوا إلى طاعته.. هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جنّته.. هكذا لسان الشريعة.
ومعنى «هَوْناً» متواضعين متخاشعين(2/648)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
ويقال شرط التواضع وحده ألا يستحسن شيئا من أحواله، حتى قالوا «1» : إذا نظر إلى رجله لا يستحسن شسع نعله، وعلى هذا القياس لا يساكن أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
قوله: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» : قيل سداد المنطق ويقال من خاطبهم بالقدح فهم يجاوبونه بالمدح له.
ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، الطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرّفق، وحسن الخلق، والقول الحسن والكلام الطيب.
ويقال يخبرون من جفاهم أنهم فى أمان من المجافاة «2» قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 64]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
يبيتون لربهم ساجدين، ويصبحون واجدين فوجد صباحهم ثمرات سجود أرواحهم، كذا فى الخبر: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» أي عظم ماء، وجهه عند الله، وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسّن وباطن بالوجود مزيّن.
ويقال متصفين بالسجود قياما بآداب الوجود.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 66]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التنصّل «3» كما قيل:
وما رمت الدخول عليه حتى ... حللت محلة العبد الذليل
__________
(1) هذا القول سمعه القشيري من شيخه الدقاق (الرسالة ص 74) .
(2) وردت (المكافاة) والصواب أن تكون (المجافاة) بمعنى أنهم لا يقابلون الجفاء بالجفاء، فمن عاداهم أمن من انتقامهم أو على معنى أن مجافاة الأعداء لا تصيبهم بأذى إذ ليس فى مقدور أحد أن يؤذى أولياء الله.
(3) وفى ذلك يقول الرسول صلوات الله عليه: «الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» رواه احمد عن عائشة، والترمذي وابن أبى حاتم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.(2/649)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 67]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
الإسراف أن تنفق فى الهوى وفى نصيب النّفس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتار ما كان ادخارا عن الله. فأمّا التضييق على النّفس منعا لها عن اتباع الشهوات ولتتعود الاجتزاء باليسير فليس بالإقتار المذموم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 68]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68)
«1» «إِلهاً آخَرَ» : فى الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار، المنحوتة من الأشجار.
وكما تتصف بهذا النفوس والأبشار فكذلك توهّم المبارّ والمضارّ من الأغيار شرك.
«وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ... » من النفوس المحرّم قتلها على العبد نفسه المسكينة، قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «2» . وقتل النّفس من غير حقّ تمكينك لها من اتباع ما فيه هلاكها فى الآخرة فإنّ العبد إذا لم ينه مأمور.
__________
(1) (عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا عليه الصلاة والسلام فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو نخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت الآية: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... إلى قوله تعالى: غَفُوراً رَحِيماً» رواه مسلم عن ابراهيم بن دينار عن حجاج. و (عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟
قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك.
قال قلت ثم أي؟
قال: أن تزانى حليلة جارك. فأنزل الله هذه الآية وما بعدها تصديقا لذلك) رواه البخاري، ومسلم عن عثمان بن أبى شيبة، عن جرير.
و (عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي (ص) فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرنى حتى أسمع كلام الله، فقال الرسول: قد كنت أحب أن أراك على غير جوار، فأما إذ أتيتنى مستجيرا فأنت فى جوارى حتى تسمع كلام الله. قال: فإنى أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، فهل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية.. وأسلم وحشي) . [.....]
(2) آية 29 سورة النساء.(2/650)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقّ «1» ، وذلك بذبحها بسكين المخالفات، فما فلاحك إلا بقتل نفسك التي بين جنبيك.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 69]
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)
يضاعف لهم العذاب يوم القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرون يضاعف لهم العذاب اليوم بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل من كان مضاعف العذاب فى عقباه فهو الذي يكون مضاعف العذاب فى دنياه جاء فى الخبر: من كان بحالة لقى الله بها.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 70]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
إِلَّا مَنْ تابَ من الذنب فى الحال وآمن فى المآل.
ويقال «وَآمَنَ» أن نجاته بفضل الله لا بتوبته، «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» لا ينقض توبته.
ويقال إن نقض توبته عمل صالحا أي جدّد توبته «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» . ويخلق لهم التوفيق بدلا من الخذلان «2» .
ويقال يبدل الله سيئاتهم محسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم.
ويقال يمحو ذلّة زلّاتهم، ويثبت بدلها الخيرات والحسنات، وفى معناه أنشدوا:
ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وأفادوا
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 73]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)
__________
(1) تذكر كيف يفرق القشيري بين حظ النفس وحق الله، ولاحظ كيف أحسن استغلال الاستثناء هنا (قتل النفس إلا بالحق) أي ذبحها بسكين المجاهدات في سبيل حق الله.
(2) واضح من هذا الرأى مدى اتساع صدور الصوفية للأمل في الأخذ بيد العصاة، فرحمة الله- فى نظرهم- أكثر رجابة من أن تضيق في وجه من عثرت أقدامه.(2/651)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
يستمكنون فى مواطن الصدق لا يبرحون عنها ليلا ونهارا، وقولا وفعلا. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين معرضين لا بساكنون أهل تلك الحالة.
ويقال نزلت الآية فى أقوام مرّوا- لمّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرة- متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فشكر الله لهم ذلك.
ثم قال فى صفتهم: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» :
بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 74]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
قرة العين من به حياة الروح، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقّ الله قائما.
ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقا، ولمخالفة أمره مفارقا.
«وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» الإمام من يقتدى به ولا يبتدع.
ويقال إن الله مدح أقواما ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدّعوا فيها اختيارهم فالإمامة بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا: «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 75]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)
يعطى- سبحانه- الكثير من عطائه ويعده قليلا، ويقبل اليسير من طاعة العبد ويعده كثيرا عظيما، يعطيهم الجنة قصورا وحورا ثم يقول: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ» ، ويقبل اليسير من العبد فيقول: «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» «1» .
__________
(1) آية 22 سورة الذاريات.(2/652)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» : يسمعون سلامه عليهم بلا واسطة، ويتجلّى لهم ليروه من غير تكلف نقل، ولا تحمل قطع مسافة «1» ويقال «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» «2» : اليوم يحضر العبد بيته لأداء العبادة، وينقل أقدامه إلى المساجد، وغدا يجازيهم بأن يكفيهم قطع المسافة، فهم على أرائكهم- فى مستقرّ عزّهم- يسمعون كلام الله، وينظرون إلى الله.
قوله: «بِما صَبَرُوا» أي صبروا عمّا نهوا عنه، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بترك اختيارهم، وحسن الرضا بتقديره.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 76]
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)
مقيمين لا يبرحون منازلهم «3» ، وفى أحوالهم حسن مستقرهم مستقرا، وحسن مقامهم مقاما.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (25) : آية 77]
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
لولا عبادتكم الأصنام ودعاؤكم إياها باستحقاق العبادة وتسميتكم لها آلهة.. متى كان يخلدكم فى النار؟.
ويقال لولا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء، ولكن لما أخذتم فى الاستكانة والدعاء، وتضرّعتم رحمكم وكشف الضرّ عنكم.
__________
(1) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى موضوع الرؤية فى الآخرة
(2) آية: 60 سورة الرحمن.
(3) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى تأبيد تنعم أهل الجنة.(2/653)
تم المجلد الثاني ويلية المجلد الثالث وأوله سورة الشعراء(2/654)
فهرس
سورة التوبة 5 سورة يونس 76 سورة هود 120 سورة يوسف 164 سورة الرعد 215 سورة إبراهيم 238 سورة الحجر 262 سورة النحل 284 سورة بنى إسرائيل 333 سورة الكهف 375 سورة مريم 418 سورة طه 444 سورة الأنبياء 491 سورة الحج 527 سورة المؤمنون 566 سورة النور 592 سورة الفرقان 625(2/655)
[الجزء الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» ... تلك دلالات كرمنا، وأمارات فضلنا، وشواهد برّنا نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا، ونحقق للأصفياء حفظ عهدنا.
بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيب أمل من أمّل لطفى، بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى.
طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى.
هذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حقّقنا له الإيمان، وأكّدنا له الضمان، وكفلنا له الإحسان» عبد الكريم القشيري عند سورة النمل(3/3)
طسم (1)
السورة التي يذكر فيها الشعراء
بسم الله الرّحمن الرّحيم بسم الله اسم عزيز يرتضى من الزاهد ترك دنياه، ومن العابد مخالفة هواه، ومن القاصد قطع مناه، ولا يرضى من العارف أن يساكن شيئا غير مولاه. إن خرج عن كلّ مرسوم- بالكلية، وانسلخ عن كل معلوم- من غير أن تبقى له منه بقية فلعلّه يجد شظيّة. وإن عرّج على شىء، ولم يصف من الكدورات- حتى عن يسيرها- وإن دقّ- فإنه كما في الخبر: «المكاتب عبد ما بقى عليه درهم» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1)
ذكرنا فيما مضى اختلاف السّلف في الحروف المقطّعة فعند قوم: الطاء إشارة إلى طهارة عزّه وتقدّس علوّه، والسين إشارة ودلالة على سناء جبروته، والميم دلالة على مجد جلاله فى آزاله.
ويقال الطاء إشارة إلى شجرة طوبى، والسين إلى سدرة المنتهى، والميم إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم أي ارتقى محمد ليلة الإسراء عن شهوده شجرة طوبى حتى بلغ سدرة المنتهى، فلم يساكن شيئا من المخلوقات في الدنيا والعقبى «1» .
__________
(1) أورد القشيري في كتابه «المعراج» طائفة كبيرة من الأخبار نفهم منها أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه لم يتطلع إلى شىء مما رأى من عجائب المخلوقات وعظائم النعم في تلك الليلة، بل كان خالص القصد إلى الحق، وبعبارة صوفية دقيقة: كان فانيا بحقوق ربه عن حظوظ نفسه، فما زاغ البصر وما طغى. وفي ذلك يقول رويم: «لما أكرم المصطفى (ص) بأعظم الشرف في المسرى علت همته عن الالتفات إلى الآيات والكرامات، والجنة والنار، فما زاغ البصر أي ما أعار طرفه شيئا من الأكوان، ومن شاهد البحر استقلّ الأنهار والأودية.
(المعراج ص 112) ويقول القشيري في ص 102 من الكتاب نفسه: يروى في الخير أنه «لما ركب البراق لم يعرّج على شىء،(3/5)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
ويقال الطاء طرب أرباب الوصلة على بساط القرب بوجدان كمال الروح، والسين سرور العارفين بما كوشفوا به من بقاء الأحدية باستقلالهم بوجوده «1» والميم إشارة إلى موافقتهم لله بترك التخيّر على الله، وحسن الرضا باختيار الحق لهم.
ويقال الطاء إشارة إلى طيب قلوب الفقراء عند فقد الأسباب لكمال العيش بمعرفة وجود الرزّاق بدل طيب قلوب العوام بوجود الأرفاق والأرزاق.
ويقال الطاء إشارة إلى طهارة أسرار أهل التوحيد، والسين إشارة إلى سلامة قلوبهم عن مساكنة كلّ مخلوق، والميم إشارة إلى منّة الحقّ عليهم بذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 3]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
أي لحرصك على إيمانهم ولإشفاقك من امتناعهم عن الإيمان فأنت قريب من أن تقتل نفسك من الأسف على تركهم الإيمان.
فلا عليك- يا محمد- فإنه لا تبديل لحكمنا فمن حكمنا له بالشقاوة لا يؤمن.
ليس عليك إلا البلاغ فإن آمنوا فبها، وإلّا فكلّهم «2» سيرون يوم الدّين ما يستحقون.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 4]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
أخبر عن قدرته على تحصيل مراده من عباده، فهو قادر على أن يؤمنوا كرها لأن التقاصر عن تحصيل المراد يوجب النقص والقصور في الألوهية.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 6]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) .
__________
كان ينادى من يمينه ومن يساره، ثم قال له جبريل عليه السّلام: الذي ناداك من يمينك داعى اليهودية، والذي ناداك من يسارك داعى النصرانية، ولو التفتّ يا محمد لتهودت أو تنصرت أمتك» .
(1) استقل الشيء رآه قليلا واستقل بالشيء لم يشتغل بسواه اكتفاء به.
(2) السياق مقبول على هذا النحو، ولكننا لا نستبعد أن يكون هناك سقوط لكلمة «لنا» ، وعندئذ يكون السياق «فكلهم لنا....» :(3/6)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
أي ما نجدّد لهم شرعا، وما نرسل لهم رسولا.. إلا أعرضوا عن تأمل برهانه، وقابلوه بالتكذيب. فلو أنهم أنعموا النظر في آيات الرسل لا تضح لهم صدقهم، ولكن المقسوم لهم من الخذلان في سابق الحكم يمنعهم من الإيملن والتصديق. فقد كذّبوا، وعلى تكذيبهم أصرّوا، فسوف تأتيهم عاقبة أعمالهم بالعقوبة الشديدة، فيذوقون وبال شركهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 7 الى 9]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
فنون ما ينبت في الأرض وقت الربيع لا يأتى عليه الحصر، ثم اختصاص كلّ شىء منها بلون وطعم ورائحة مخصوصة، ولكلّ شكل وهيئة ونور مخصوص، وورق مخصوص ... إلى ما تلطف عنه العبارة، وتدق فيه الإشارة. وفي ذلك آيات لمن استبصر، ونظر وفكّر.
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» : القاهر الذي لا يقهر، القادر الذي لا يقدر، المنيع الذي لا يجبر.
«الرَّحِيمُ» : المحسن لعباده، المريد لسعادة أوليائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 11]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11)
أخبر أنه لما أمره بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى الله علم أنه شديد الخصومة، قد غرّته نفسه فهو لا يبالى بما فعل. وأخذ (موسى) «1» يتعلّل- لا على جهة الإباء والمخالفة- ولكن على وجه الاستعفاء والإقالة إلى أن علم أنّ الأمر به جزم، والحكم به عليه حتم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 15]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
__________
(1) ليست موجودة في النص وقد وضعناها بين قوسين منعا للبس.(3/7)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
سأل موسى- عليه السلام- أن يشفعه بهارون ويشركه في الرسالة. وأخبر أنه قتل نفسا، وأنه في حكم فرعون عليه دم، فقال: «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» إلى أن قال له الحقّ: - «قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» «كَلَّا» حرف ردع وتنبيه أي كلا أن يكون ذلك كما توهمت، فارتدع عن تجويز ذلك، وانتبه لغيره. إنى معكما بالنصرة والقوة والكفاية والرحمة، واليد ستكون لكما، والسلطان سيكون لكما دون غيركما، فأنا أسمع ما تقولون وما يقال لكم، وأبصر ما يبصرون وما تبصرون أنتم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 16 الى 19]
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
ويقال في القصة: إن موسى وهارون كانا يترددان على باب فرعون سنة كاملة ولم يجدا طريقا إليه: ثم بعد سنة عرضا الرسالة عليه، فقابلهما بالتكذيب، وكان من القصة ما كان..
وقال فرعون لمّا رأى موسى:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 20 الى 21]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
فلم يكن لموسى- عليه السلام- جواب إلا الإقرار والاعتراف، فقال:
«قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» قال: كل ذلك قد كان، وفررت منكم لمّا خفتكم، فأكرمنى الله بالنبوة، وبعثني رسولا إليكم..(3/8)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
ويقال: لم يجحد حقّ تربيته، والإحسان إليه في الظاهر، ولكن بيّن أنه إذا أمر الله بشىء وجب اتباع أمره. ولكن إذا كانت تربية المخلوقين توجب حقّا فتربية الله أولى بأن يعظّم العبد قدرها «1» .
قوله: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» : يجوز حمله على ظاهره، وأنه خاف منهم على نفسه.
والفرار- عند عدم الطاقة- غير مذموم عند كلّ أحد «2» .
ويقال: فررت منكم لمّا خفت أن تنزل بكم عقوبة من الله لشؤم شرككم، أو من قول فرعون: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 22]
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
ذكر فرعون- من جملة ما عدّ على موسى من وجوه الإحسان إليه- أنه استحياه بين بنى إسرائيل، ودفع عنه القتل، فقال موسى: أو تلك نعمة تمنها عليّ؟ هل استعبادك لبنى إسرائيل يعدّ نعمة؟ إنّ ذلك ليس بنعمة، ولا لك فيها منّة» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 23]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
نظر اللعين بجهله، وسأل على النحو الذي يليق بغيّه فسأل بلفظ «ما» - و «ما» يستخبر بها عمّا لا يعقل، فقال: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» .
ولكنّ موسى أعرض عن لفظه ومقتضاه، وأخبر عمّا يصحّ في وصفه تعالى فقال:
[سورة الشعراء (26) : آية 24]
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) .
__________
(1) هذه إشارة إلى قيمة تربية الشيوخ بالقياس إلى تربية الوالدين فالوالدان يربيان الأشباح والشيوخ يربون الأرواح.
(2) نتذكر كيف فر القشيري نفسه من المشرق الإسلامى عند ما أحدقت به الأخطار، وهدد السلطان الجائر حياته وعقيدته، فلم تلن قناته، وهرب بعقيدته إلى حيث يسلم هو ورفاقه (أنظر مدخل الكتاب) . [.....]
(3) آية 38 سورة القصص.
(4) لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هما سببا حصوله عنده وتربيته له، ولو تركهم لرباه أبواه شأن أي طفل.. فليس هنا نعمة ولا منة، لأن القصد كان إذلال أهله لا الإحسان إليهم أو إليه.(3/9)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
فذكر صفته- سبحانه وتعالى- بأنّه إله ما في السماوات والأرض، فأخذ فى التعجب، وقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 25 الى 26]
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
قال موسى: «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» فحاد فرعون عن سنن الاستقامة في الخطاب، وأخذ في السفاهة قائلا:
[سورة الشعراء (26) : آية 27]
قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
لأنه «1» يزعم أنّ هناك إلها غيره. ولم يكن في شىء مما يجرى من موسى- عليه السلام- أو مما يتعلّق به وصف جنون. ولم يشغل بمجاوبته في السفاهة فقال:
[سورة الشعراء (26) : آية 28]
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
أي إن كنتم من جملة من له عقل وتمييز. فقال فرعون:
[سورة الشعراء (26) : آية 29]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
مضى فرعون يقول: لأفعلنّ، ولأصنعنّ ... إن اتخذت إلها غيرى. وجرى ما جرى ذكره وشرحه في غير موضع.
ثم إنه أظهر معجزته بإلقاء العصا، وقلبها- سبحانه- ثعبانا كاد يلتقم دار فرعون بمن فيها، ووثب فرعون هاربا، واختفى تحت سريره، وهو ينتفض من الخوف، وتلطّخت بزّته «2» ، وافتضح في دعواه، واتضحت حالته، فاستغاث بموسى واستجاره، وأخذ موسى الثعبان فردّه الله عصا.
__________
(1) أي موسى عليه السلام.
(2) البزة الهيئة أو الشارة.(3/10)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
ولمّا فارقه موسى- عليه السلام- تداركته الشقاوة، وأدركه شؤم الكفر، واستولى عليه الحرمان، فجمع قومه وكلّمهم في أمره، وأجمعوا كلّهم على أنه سحرهم. وبعد ظهور تلك الآية عاد إلى غيّه.. كما قيل:
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضّنى عاد إلى نكسه
ثم إنه جمع السّحرة، واستعان بهم، فلمّا اجتمعوا قالوا: «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» . فنطقوا بخساسة همّتهم، فضمن لهم أجرهم. وإنّ من يعمل لغيره بأجرة ليس كمن يكون عمله لله.
ومن لا يكون له ناصر إلّا بضمان الجعالة وبذل الرّشا فعن قريب سيخذل.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 42]
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قال فرعون: «وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ، ومن طلب القربة عند مخلوق فإنّ ما يصل إليه من الذّلّ يزيد على ما أمّله من العزّ في ذلك التّقرّب. والمقرّبون من الله أوّل من يدخل عليه يوم اللقاء، فهم أول من لهم وصول. والمقرّبون من الله لهم على الله دخلة، والناس بوصف الغفلة والخلق في أسر الحجبة.
ثم لمّا اجتمع الناس، وجاء السّحرة بما موّهوا، التقمت عصا موسى جميع ما أتوا به، وعادت عصا، وتلاشت أعيان حبالهم «1» التي جاءوا بها، وكانت أوقارا، وألقى السحرة سجّدا، ولم يختلفوا «2» بتهديد فرعون إياهم بالقتل والصّلب والقطع، فأصبحوا وهم يقسمون بعزّة فرعون، ولم يمسوا حتى كانوا يقولون: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ «3» » .
ثم لمّا ساعدهم التوفيق، وآمنوا بالله كان أهمّ أمورهم الاستغفار لما سلف من ذنوبهم، وهذه هي غاية همّه الأولياء، أن يستجيروا بالله، وأن يستعيذوا من عقوبة الله، فأعرفهم بالله أخوفهم من الله.
__________
(1) يتصل ذلك برأى القشيري في المعجزة وأنها قد تكون قلب الأعيان، أما كرامة الولي فقد لا تكون كذلك، وهي مع ذلك متصلة بنبي الأمة التي يتبعها هذا الولي.
(2) وردت (يختلفوا) والسياق يرفضها ويؤيد (يحتلفوا) كما هو واضح.
(3) آية 72 سورة طه.
ويقصد القشيري إلى أن يوضح أن العبرة بالخواتيم، وهو بهذا يحث- بطريق غير مباشر- على التوبة، وعدم القنوط من رحمة الله.(3/11)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
ولمّا أمر الله موسى بإخراج بنى إسرائيل، وتبعهم فرعون بجمعه، وقال أصحاب موسى.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 61 الى 62]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
فكان كما قال، إذ هداهم الله وأنجاهم، وأغرق فرعون وقومه وأقصاهم، وقد قال سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» «1» : ينجّيهم من كلّ بلاء، ويخصّهم بكل نعمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 74]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
عاتب «2» ابراهيم أباه وقومه، وطالبهم بالحجة على ما عابهم به وقال لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ، ولا يحسّ ولا يشعر؟ فلم يرجعوا في الجواب إلا إلى تقليدهم أسلافهم، وقالوا:
على هذه الجملة وجدنا أسلافنا. فنطق إبراهيم- عليه السلام- بعد إقامة الحجة عليهم والإخبار عن قبيح صنيعهم بمدح مولاه والإغراق في وصفه، وقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 75 الى 77]
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) .
__________
(1) آية 36 سورة التوبة.
(2) ربما كانت (عاب) بدليل قوله بعد قليل (على ما عابهم) ، لكن السياق يلتم ب (عاتب) أكثر، إذ العتاب أليق بالنسبة للأب، كذلك فإن ابراهيم لم يكن يدرى في ذلك الوقت أن أباه لن يؤمن.(3/12)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
ذكرهم بأقلّ عبارة فلم يقل: فإنهم أعداء لى، بل وصفهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصف به الواحد والجماعة فقال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» .
ثم قال: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ، وهذا استثناء منقطع، وكأنه يضرب بلطف عن ذكرهم صفحا حتى يتوصّل إلى ذكر الله، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت، إذ مضى يقول: والذي.. والذي.. والذي..، ومن أمارات المحبة كثرة ذكر محبوبك، والإعراض عن ذكر غيره، فتنزّه المحبين بتقلّبهم في رياض ذكر محبوبهم، والزهّاد يعددون أورادهم، وأرباب الحوائج يعددون مآربهم، فيطنبون في دعائهم، والمحبون يسهبون في الثناء على محبوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 78]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
كان مهتديا، ولكنه يقصد بالهداية التي ذكرها فيما يستقبله من الوقت، أي: يهدينى إليه به، فإنّى محق في وجوده وليس لى خبر عنّى!.
والقوم حين يكونون مستغرقين في نفوسهم لا يهتدون من نفوسهم إلى معبودهم، فيهديهم عنهم إلى ربهم، ويصيرون في نهايتهم مستهلكين في وجوده، فانين عن أوصافهم، وتصير معارفهم- التي كانت لهم- واهية ضعيفة، فيهديهم إليه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 79]
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
لم يشر إلى طعام معهود أو شراب مألوف ولكن أشار إلى استقلاله به من حيث المعرفة بدل استقلال غيره بطعامهم، وإلى شراب محبته الذي يقوم بدل استقلال غيره بشرابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 80]
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
لم يقل: وإذا أمرضنى لأنه حفظ أدب الخطاب.
__________
(1) يشرح القشيري قول الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار. فيقول: أراد الواسطي بهذا أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه لأنهما من صفاته. (الرسالة ص 155) ويقول ذو النون: عرفت ربى ولولا ربى ما عرفت ربى (الرسالة ص 156) .(3/13)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
ويقال لم يكن ذلك مرضا معلوما، ولكنه أراد تمارضا، كما يتمارض الأحباب طمعا فى العيادة، قال بعضهم:
إن كان يمنعك الوشاة زيارتى ... فادخل عليّ بعلّة العوّاد
ويقول آخر:
يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله
ويقال ذلك الشفاء الذي أشار إليه الخليل هو أن يبعث إليه جبريل ويقول له: يقول لك مولاك ... كيف كنت البارحة؟
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 81]
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
أضاف الموت إلى الله فالموت فوق المرض لأن الموت لهم غنيمة ونعمة إذ يصلون إليه «1» بأرواحهم.
ويقال «يُمِيتُنِي» بإعراضه عنى وقت تعزّزه، «ثُمَّ يُحْيِينِ» بإقباله عليّ حين تفضّله. ويقال يميتنى عنى ويحيينى به.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 82]
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
خطيئة الأحباب شهودهم محنتهم، وتعنّيهم عند شدة البلاء عليهم، وشكواهم مما يمسّهم من برحاء الاشتياق، قال بعضهم:
وإذا محاسنى- اللاتي أدلّ بها- كانت ذنوبى ... فقل لى: كيف أعتذر؟
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 83]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
«هَبْ لِي حُكْماً» : على نفسى، فإنّ من لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره.
«وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» : فأقوم بحقّك دون الرجوع إلى طلب الاستقلال بشىء دون حقك.
__________
(1) (إليه) الضمير هنا يعود إلى محبوبهم- سبحانه.(3/14)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 84]
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
فى التفاسير: «لِسانَ صِدْقٍ» : أي ثناء حسنا على لسان أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال لا أذكرك إلا بك، ولا أعرفك إلا بك.
ويقال أن أذكرك ببيان آلائك «1» ، وأذكرك بعد قبض روحى إلى الأبد بذكر مسرمد.
ويقال أذكرنى على لسان المخبرين عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 86]
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
على لسان العلماء: قاله بعد يأسه من إيمان أبيه، وأمّا على لسان الإشارة فقد ذكره فى وقت غلبات البسط، ويتجاوز ذلك عنهم «2» .
وليست إجابة العبد واجبا على الله في كل شىء، فإذا لم يجب فإنّ للعبد سلوة في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدى إليه كلّ أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 87]
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
أي لا تخجلنى بتذكيرى خلّتى، فإنّ شهود ما من العبد- عند أرباب القلوب وأصحاب الخصوص- أشدّ عقوبة «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 88 الى 89]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قيل: «القلب السليم» اللديغ.
وقيل هو الذي سلم من الضلالة ثم من البدعة ثم من الغفلة ثم من الغيبة ثم من الحجبة ثم من المضاجعة ثم من المساكنة ثم من الملاحظة. هذه كلها آفات «4» ، والأكابر سلموا منها، والأصاغر امتحنوا بها.
__________
(1) وردت (الآية) ونرجح أن الناسخ قد أخطأ في النقل، فأثبتنا (آلائك) أي نعمك لأنها أقرب إلى السياق.
(2) معنى هذا أن القشيري يرى اغتفار ما ينطق به الصوفي من أقوال وهو في حال الانمحاء.
(3) لأن شهود ما من العبد معناه أن التوحيد مازال يشوبه كدر الغيرية. [.....]
(4) يفيد ذكر هذه الآفات على هذا النحو من الترتيب والدقة أجل فائدة عند دراسة المصطلح الصوفي- خصوصا وأن هذه المصطلحات لم ترد علىّ هذا النحو في الفصل الذي خصصه القشيري لهذا الموضوع في الرسالة.(3/15)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
ويقال: «القلب السليم» الذي سلم من إرادة نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 91]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91)
«أُزْلِفَتِ» : أي قرّبت وأدنيت في الوقت، فإنّ ماهو آت قريب، وبالعين أحضرت. وكما تجرّ النار إلى المحشر بالسلاسل فلا يبعد إدناء الجنة من المتقين.
«وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» أظهرت فتؤكّد الحجّة على أرباب الجحود، ويعرضون على النار، وتعرض عليهم منازل الأشرار، فيكبكبون فيها أجمعين، ويأخذون يقرّون بذنوبهم، ومن جملتها ما أخبر أنهم يقولون: -
[سورة الشعراء (26) : الآيات 97 الى 98]
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
ولا فضيحة أقبح ولا عيب فيهم أشنع مما يعترفون به على أنفسهم بقولهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» فإنّ أقبح أبواب الشّرك وأشنع أنواع الكفر وأقبح أحوالهم- التشبيه فى صفة المعبود.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 100 الى 101]
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
فى بعض الأخبار «1» : يجىء- يوم القيامة- عبد يحاسب فتستوى حسناته وسيئاته ويحتاج إلى حسنة واحدة يرضى عنها خصومه، فيقول الله- سبحانه: عبدى.. بقيت لك حسنة واحدة، إن كانت أدخلتك الجنة.. أنظر.. وتطلّب من الناس لعلّ واحدا يهب لك حسنة واحدة. فيأتى العبد في الصفين، ويطلب من أبيه ثم من أمه ثم من أصحابه، ويقول لكلّ واحد في بابه فلا يجيبه أحد، فالكلّ يقول له: أنا اليوم فقير إلى حسنة واحدة، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقّ- سبحانه: ماذا جئت به؟
__________
(1) فى م (فى بعض الأحيان) والأصوب أن تكون (فى بعض الأخبار) كما في ص.(3/16)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
فيقول: يا ربّ.. لم يعطنى أحد حسنة من حسناته.
فيقول الله- سبحانه: عبدى.. ألم يكن لك صديق (فيّ) «1» ؟
فيتذكر العبد ويقول: فلان كان صديقا لى.
فيدله الحقّ عليه، فيأتيه ويكلّمه في بابه، فيقول: بلى، لى عبادات كثيرة قبلها اليوم فقد وهبتك منها، فيسير هذا العبد ويجىء إلى موضعه، ويخبر ربّه بذلك، فيقول الله- سبحانه: قد قبلتها منه، ولن أنقص من حقّه شيئا، وقد غفرت لك وله، وهذا معنى قوله:
«فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 111]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
ذكر قصة نوح وما لقى من قومه، وأنهم قالوا: - «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟» إنّ أتباع كلّ رسول إنما هم الأضعفون، لكنهم- فى حكم الله- هم المتقدّمون الأكرمون. قال عليه السلام: «نصرت بضعفائكم» .
وإنّ الله أغرق قومه لمّا أصرّوا واستكبروا.
وكذلك فعل بمن ذكرتهم الآيات في هذه السورة من عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين.. كلّ منهم قابلوا رسلهم بالتكذيب، فدمّر الله عليهم أجمعين، ونصر رسوله على مقتضى سنّته الحميدة فيهم. وقد ذكر الله قصة كل واحد منهم ثم أعقبها بقوله: -
[سورة الشعراء (26) : آية 122]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
«الْعَزِيزُ» : القادر على استئصالهم، «الرَّحِيمُ» الذي أخّر العقوبة عنهم بإمهالهم، ولم يقطع الرزق مع قبح فعالهم.
__________
(1) هكذا في م وص وهي صحيحة مقبولة في المعنى والسياق غير أننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (صديق وفيّ) حيث تقابل ما جاء في الآية (صديق حميم) فالبحث يومئذ يكون عن الصديق الوفى الحميم.
م (2) لطائف الإشارات- ج 3-(3/17)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وهو «عزيز» لم يستضرّ بقبيح أعمالهم، ولو كانوا أجمعوا على طاعته لمّا تجمّل بأفعالهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 127]
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أخبر عن كل واحد من الأنبياء أنه قال: «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» ليعلم الكافة أنّ من عمل لله فلا ينبغى أن يطلب الأجر من غير الله. وفي هذا تنبيه للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء- أن يتأدّبوا بأنبيائهم، وألّا يطلبوا من الناس شيئا في بثّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم أنه من ارتفق في بثّ ما يذكّر به من الدّين وما يعظ به المسلمين فلا يبارك الله للناس فيما منه يسمعون، ولا للعلماء أيضا بركة فيما من الناس يأخذون، إنهم يبيعون دينهم بعرض يسير، ثم لا بركة لهم فيه، إذ لا يبتغون به الله، وسيحصلون على سخط الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 195]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
كلام الله «2» العزيز منزّل على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى الحقيقة بسفارة جبريل عليه السلام. والكلام من الله غير منفصل، وبغير الله غير متصل.. وهو- على الحقيقة لا على المجاز- منزّل. ومعناه أن جبريل- عليه السلام- كان على السماء. فسمع من الربّ، وحفظ، ونزل، وبلّغ الرسول. فمرّة كان يدخل عليه حالة تأخذه عنه «3» عند
__________
(1) لأن الله- سبحانه- لا يلحقه زين بطاعة ولا شين بمعصية.
(2) ينبغى الاهتمام برأى القشيري هنا عند بحث قضية «خلق القرآن» ، ومدى النظرة إلى ما بين دفّى المصحف، ومقارنة ذلك (بكلام) الله إلى موسى عند الشجرة.. موضوع هام ناقشه القشيري في كتابه (شكاية أهل السنة) .
(3) تأمل كيف ينظر الصوفية إلى حالة المصطفى (ص) عند تلقى الوحى على أنها حالة عرفانية، فالعرفان لا يتم إلا عند الامتحاء.(3/18)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
نزول الوحى عليه. ثم يورد جبريل ذلك على قلبه. ومرة كان يتمثل له الملك فيسمعه.
والرسول- صلوات الله عليه- يحفظه ويؤدّيه. والله- سبحانه ضمن له أنه سيقرؤه حتى لا ينساه «1» . فكان يجمع الله الحفظ في قلبه. ويسهّل له القراءة عند لفظه. ولمّا عجز الناس بأجمعهم عن معارضته مع تحدّيه إياهم بالإتيان بمثله.. علم صدقه في أنّه من قبل الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 196]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
جميع ما في هذا الكتاب من الأخبار والقصص، وما في صفة الله من استحقاق جلاله- موافق لما في الكتب المنزّلة من قبل الله قبله، فمهما عارضوه فإنه كما قال جلّ شأنه:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 201]
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
«2» ثم أخبر أنه لو نزّل هذا الكتاب بغير لسانهم وبلغة غير لغتهم لم يهتدوا إلى ذلك، ولقالوا: لو كان بلساننا لعرفناه ولآمنّا به، فأزاح عنهم العلّة، وأكّد عليهم الحجّة.
ثم أخبر عن صادق علمه بهم، وسابق حكمه بالشقاوة عليهم، وهو أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب في القيامة، حين لا ينفعهم الإيمان ولا الندامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 205 الى 209]
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
إن أرخينا لهم المدّة، وأمهلناهم أزمنة كثيرة- وهم بوصف الغفلة- فما الذي كان ينفعهم إذا أخذهم العذاب بغتة؟!.
ثم أخبر أنه لم يهلك أهل قرية إلّا بعد أن جاءهم النذير وأظهر لهم البينات، فإذا أصرّوا على كفرهم عذّبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 212]
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) .
__________
(1) يشير بذلك إلى قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» آية 6 سورة الأعلى.
(2) آية 42 سورة فصلت.(3/19)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
وجدوا السمع- الذي هو الإدراك- ولكن عدموا الفهم، فلم يستجيبوا لما دعوا إليه. فعند ذلك استوجبوا من الله سوء العاقبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 214]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وذلك تعريف له أنهم لا تنفعهم قرابتهم منه، ولا تقبل شفاعته- إن لم يؤمنوا- فيهم. فليس هذا الأمر من حيث النّسب، فهذا نوح لمّا كفر ابنه لم تنفعه بنوّته، وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام لما كفر أبوه لم تنفعه أبوّته، وهذا محمّد- عليه الصلاة والسلام- كثير من أقاربه كانوا أشدّ الناس عليه في العداوة فلم تنفعهم قرابتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 215]
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
ألن جانبك وقاربهم في الصحبة، واسحب ذيل التجاوز على ما يبدر منهم من التقصير، واحتمل منهم سوء الأحوال، وعاشرهم بجميل الأخلاق، وتحمّل عنهم كلّهم، وارحمهم كلّهم، فإن مرضوا فعدهم، وإن حرموك فأعطهم، وإن ظلموك فتجاوز عنهم، وإن قصّروا في حقى فاعف عنهم، واشفع لهم، واستغفر لهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 216]
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
لا تفعل مثل فعلهم، وكل حسابهم إلينا إلا فيما أمرناك بأن تقيم فيه عليهم حدّا، فعند ذلك لا تأخذك رأفة تمنعك من إقامة حدّنا عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 217]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
انقطع إلينا، واعتصم بنا، وتوسّل إلينا بنا، وكن على الدوام بنا، فإذا قلت فقل بنا، وإذا صلت فصل بنا، واشهد بقلبك- وهو في قبضتنا- تتحقق بأنك بنا ولنا.
توكّل على «الْعَزِيزِ» تجد العزّة بتوكلك عليه في الدارين، فإنّ العزيز من وثق بالعزيز.
__________
(1) تصلح هذه الإشارة لتكون دستورا فى (الصحبة) بصفة عامة. وللقشيرى فصل في الرسالة في هذا الخصوص.(3/20)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
«الرَّحِيمِ» الذي يقرّب من تقرّب إليه، ويجزل البرّ لمن توسّل به إليه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 218]
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)
اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق، فإنّ من علم أنه بمشهد من الحقّ راعى دقائق أحواله، وخفايا أموره مع الحقّ «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 219]
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
هوّن عليه معاناة مشاقّ العبادة بإخباره برؤيته. ولا مشقّة لمن يعلم أنّه بمرأى من مولاه، وإنّ حمل الجبال الرواسي على شفر «3» جفن العين ليهون عند من يشاهد ربّه «4» .
ويقال «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» بين أصحابك، فهم نجوم وأنت بينهم بدر، أو هم بدور وأنت بينهم شمس، أو هم شموس وأنت بينهم شمس الشموس.
ويقال: تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين الذين عرفوا الله، فسجدوا له دون من لم يعرفوه.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 220]
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
«السَّمِيعُ» لأنين المحبين، «الْعَلِيمُ» بحنين العارفين.
«السَّمِيعُ» لأنين المذنبين، «الْعَلِيمُ» بأحوال المطيعين.
__________
(1) هذه الإشارة نموذج طيب لعبقرية القشيري عند صياغة (وصاياه) للمريدين من الناحيتين الصوفية والأدبية.
(2) يقال إنه لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية، ومعهم قوال، فاستأذنوا ذا النون أن يقول بين يديه شيئا، فأذن له، فابتدأ يقول، فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض. ثم قام رجل من القوم يتواجد، فقال له ذو النون: «الذي يراك حين تقوم» فجلس الرجل.
ويعلق الشيخ الدقاق على هذه القصة بأن ذا النون كان صاحب إشراف على هذا الرجل، وكان الرجل صاحب إنصاف حين قبل منه ذلك فرجع وقعد (الرسالة ص 170) .
(3) شفر الجفن- حرفه الذي ينبت عليه الهدب. (الوسيط) .
(4) يربط النسفي بين هذه الآية وبين الآيتين السابقة واللاحقة، فالمعنى عنده: أنه سبحانه (يراك حين تقوم) متهجدا، ويرى (تقلبك) فى المصلين يرى ما كنت تفعل في جوف الليل من قيامك للتهجد، وتقلبك في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ولتعلم كيف كانوا يعملون لآخرتهم.
وهو (سميع) لما تقوله، (عليم) بما تنويه وبما تعمله، وبذلك هوّن عليه معاناة كل مشقة حيث أخبر برؤيته له في كل ما يقوم به.
(تفسير النسفي ج 3 ص 199) ط عيسى الحلبي.(3/21)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)
بيّن أن الشياطين تتنزّل على الكفار والكهنة «1» فتوحى إليهم بوساوسهم الباطلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 226]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)
لمّا ذكر الوحى وما يأتى به الملائكة من قبل الله ذكر ما يوسوس به الشياطين إلى أوليائه، وألحق بهم الشعراء الذين في الباطل يهيمون، وفي أعراض الناس يقعون، وفي التشبيهات- عن حدّ الاستقامة- يخرجون، ويعدون من أنفسهم بما لا يوفون، وسبيل الكذب يسلكون.
قوله جل ذكره:
[سورة الشعراء (26) : آية 227]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
فيكون شعره خاليا من هذه الوجوه المعلولة المذمومة «2» ، وهذا كما قيل: الشعر كلام إنسان فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه.
قوله جل ذكره: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
سيعلم الذين ظلموا سوء ما عملوا، ويندمون على ما أسلفوا، ويصدقون بما كذّبوا.
__________
(1) من أمثال سطيح وطليحة ومسيلمة.
وإذا كان محمد (ص) يشم الأفاكين ويذمهم.. فكيف تنزل الشياطين عليه؟! [.....]
(2) من أمثال عبد الله بن رواحه وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضى الله عنهم، فشعرهم غلبت عليه الحكمة والموعظة والزهد، والدعوة إلى الفضيلة، ومؤازرة الدين الجديد، ورفع لواء التوحيد.(3/22)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
السورة التي يذكر فيها النمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز قصده العاصي لطلب التخفيف فصار وزره مغفورا، اسم كريم قصده العابد لطلب التضعيف فصار أجره موفورا، اسم جليل أمّه الوليّ لطلب التشريف فصار سعيه مشكورا، اسم عزيز إن تعرّض الفقير لوجوده محقته العزّة، وطوّحته السّطوة، فصار كأن لم يكن شيئا مذكورا.
جلّت الأحدية.. فأنّى بالوصول! وتقدّست الصمدية.. فمن ذا الذي عليها يقف «1» ؟.
«كَلَّا.. إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» «2» :
وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفّهمو.. لم ينالوا نصيبا!
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1)
بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيّب أمل من أمّل لطفى.
بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى-.
طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى «3» .
__________
(1) التوحيد- فى نظر القشيري- هو أعلى درجات العرفان، وهذا التوحيد العرفانى- متأثرا التوحيد الإسلامى الأصيل- لا يشوبه كدر ولا تعقيد ولا تداخل ولا حلول ولا امتزاج. فعرفان الصوفي مهما عظم لا يتعدى كونه (عرفانا بنعت التعالي في شهود أفعال الحق، فأمّا الوقوف على حقيقة الإنية فقد جلّت الصمدية عن إشراف عرفان عليها) تفسير بسملة سورة الجمعة «من هذا المجلد» .
(2) آية 54 سورة المدثر.
(3) غير خاف على القارئ أن يلحط تردد حرفى الطاء والسين في كلمات الأسطر الثلاثة، كأنما القشيري يريدنا أن نتفهم دقائق (طس) من بعيد.(3/23)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
«تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» : هذه دلالات كرمنا، وأمارات فضلنا وشواهد برّنا، نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا، وتحقق للأصفياء حفظ عهدنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 2]
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
هذه الآيات وهذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حققنا لهم الإيمان، وأكّدنا لهم الضمان، وكفلنا لهم الإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 3]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
يديمون المواصلات، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم الزكاة، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسن مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسن مناب.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 4]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أغشيناهم فهم لا يبصرون، وعمّينا عليهم المسالك فهم عن الطريقة المثلى يعدلون، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يتردّون.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 5]
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
«سُوءُ الْعَذابِ» أن يجد الآلام ولا يجد التسلّى بمعرفة المسلّى، ويحمل البلاء ولا يحمل عنه ثقله وعذابه شهود المبلى.. وذلك للكفار، فأمّا المؤمنون فيخفّف عنهم العذاب في الآخرة حسن رجائهم في الله، ثم تضرّعهم إلى الله، ثم فضل الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة- كما في الخبر- إلى وقت إخراجهم من النار.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 6]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)(3/24)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
أي أن الذي أكرمك بإنزال القرآن عليك هو الذي بحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 7]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجها إلى مصر، ودجا عليه الليل، وأخذ امرأته الطّلق وهبّت الرياح الباردة، ولم يور الزّند، وضاق على موسى الأمر، واستبهم الوقت، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارا من بعيد، فقال لأهله: امكثوا إنّى أبصرت نارا. وفي القصة: إنه تشتت أغنامه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعه فشردت، فقالت امرأته:
كيف تتركنا وتمضى والوادي مسبع؟!.
فقال: امكثوا.. فإنى لأجلكم أمضى وأتعرف أمر هذه النار، لعلّى آتيكم منها إمّا بقبس أو شعلة، أو بخبر عن قوم نزول عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع. وبدت لعينه تلك النار قريبة، فكان يمشى نحوها، وهي تتباعد حتى قرب منها، فرأى شجرة رطبة خضراء تشتعل كلّها من أولها إلى آخرها، وهي نار مضيئة، فجمع خشيبات وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداء من الله لا من الشجرة كما توهّم المخالفون من أهل البدع. وحصل الإجماع أنّ موسى سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء في الشجرة «1» . وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداء فى الشجرة ويكون تعريفا، ولكن حينئذ يكون المتكلم بذلك الشجرة.
__________
(1) أي أنه على هذا الرأى كلام غير مخلوق، لأن كلام الله صفته، وصفته- سبحانه- غير مخلوقة..
وهذا هو نفس الرأى بالنسبة للقرآن، وهذا هو الجواب الذي دحض به السلف زعم الجهمية حينما أرادوا أن يثبتوا أن القرآن مخلوق، لأن القرآن شىء، «والله خالق كل شىء» (انظر مدارج السالكين لابن القيم ج 1 ص 222) فيكون النداء الذي سمع من الشجرة كالكلام الذي بين دفتى المصحف.. كلاهما كلام الله- على الحقيقة، ولكن من حيث التجوز في التعبير يقال (فى الشجرة) و (فى المصحف) .(3/25)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
ولا ينكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له، وخلق كلاما فى الشجرة أيضا، فموسى سمع كلامه القديم وسمع كلاما مخلوقا في الشجرة ... وهذا من طريق العقل جائز.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 8]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8)
أي بورك من هو في طلب النار ومن هو حول النار «1» .
ومعنى بورك أي لحقته البركة أو أصابته البركة.. والبركة الزيادة والنّماء في الخير.
والدعاء من القديم- سبحانه- بهذا يكون تحقيقا له وتيسيرا به.
قوله جل ذكره
[سورة النمل (27) : آية 9]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
الذي يخاطبك «أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ» فى استحقاق جلالى، «الْحَكِيمُ» فى جميع أفعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 10]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
في آية أخرى بيّن أنه سأله، وقال له على وجه التقرير: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» وأجابه بقوله: «هِيَ عَصايَ» وذكر بعض ما له فيها من المآرب والمنافع، فقال الله: «وَأَلْقِ عَصاكَ» ، وذلك لأنه أراد أن يريه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمال اليقين.
وألقاها موسى فقلبها الله ثعبانا، أولا حية صغيرة ثم صارت حية كبيرة، فأوجس في نفسه موسى خيفة وولّى مدبرا هاربا، وكان خوفه من أن يسلّطها عليه لمّا كان عارفا بأن الله يعذّب من يشاء بما يشاء، فقال له الحقّ:
«يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» .
أي لا ينبغى لهم أن يخافوا.
__________
(1) يرى النسفي أن (من) فى مكان النار هم الملائكة، و (من حولها) هو موسى. (النسفي ح 3 ص 202) .(3/26)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
[سورة النمل (27) : آية 11]
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وهذا يدلّ على جواز الذّنب على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط ترك الإصرار. فأمّا من لا يجيز عليهم الذنوب فيحمل هذا على ما قبل النبوة «1» .
فلمّا رأى موسى انقلاب العصا علم أنّ الحقّ هو الذي يكاشفه بذلك.
ويقال: كيف علم موسى- عليه السلام- أنّ الذي سمعه كلام الله؟.
والجواب أنه بتعريف منه إياه، ويجوز أن يكون ذلك العلم ضروريا فيه، ويجوز أن يكون كسبيا، ويكون الدليل له الذي به علم صدقه في قوله: «إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ» هو ما ظهر على يده- فى الوقت- من المعجزة، من قلب العصا، وإخراج يده بيضاء «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 12]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)
من غير سوء أي برص. وفي القصة أن موسى عليه السلام ذكر اشتغال قلبه بحديث امرأته، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أوجبت انزعاجه، وقصده في طلب النار، فقال الله تعالى: إنا قد كفيناك ذلك الأمر، ووكلنا بامرأتك وأسبابك، فجمعنا أغنامك وثيرانك، وسلمت لك المرأة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 13]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) .
__________
(1) لا يستخدم فريق من الفقهاء تعبير (الذنب) بالنسبة للأنبياء عليهم السلام وإنما يطلق على ما يبدر منهم (فعل خلاف الأولى) تأدبا.
والنبي- على الوجوب- معصوم، والولىّ محفوظ أي قد تقع منه هنات أو زلات ولكنه لا يصر على ما فعل (الرسالة ص 175) .
(2) أي أن الأصل في المعجزة أنها دليل صدق النبي، فقد يستطيع السحرة والكهنة عمل أشياء عجيبة ولكنها لا تخرج عن كونها دليل مهارة أو ذكاء أو قدرة على الإيهام والانبهار.
والنبي مأمور بإظهار المعجزة أما الولي فمأمور بإخفاء الكرامة (الرسالة ص 174) .(3/27)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
لم يظهر الله- سبحانه- آية على رسول من أنبيائه- عليهم السلام- إلّا كانت فى الوضوح بحيث لو وضعوا النظر فيها موضعه لتوصّلوا إلى حصول العلم وثلج الصدور، ولكنهم قصّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجحد. قال تعالى وقوله صدق:
[سورة النمل (27) : آية 14]
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
وكما يحصل من الكافر الجحد «1» تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها- بالقطع- أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما، وأشدّها في العقوبة، وأبعدها عن الغفران.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 15]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه «2» .
__________
(1) ليس حتما أن يكون جحد الجاحد بعد المعرفة لأن (جحد) بمعنى أنكر، وقد يكون الإنكار نتيجة جهل بالشيء، ولكن الواضح أن القشيري يتجه إلى توضيح أسوأ ألوان الجحود، وهو الذي يحدث بعد المعرفة، وقد أحسن القشيري حين قابل بين ذلك وبين أسوأ أحوال العاصي، وهي تلك التي يقدم فيها على المعصية وهو عليم بعاقبتها، ومع ذلك يعقد النية عليها، ويفعلها.
(2) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان.(3/28)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به، فيكون إخبارهما عن ذلك معجزة لهما.
ويحتمل أن يكون قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» .
ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادة لهما في البيان.
وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شكرا الله على عظيم ما أنعم به عليهما «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 16]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه.
قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» : وكان ذلك معجزة له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صدق إخباره عن نبوته. ومن كان صاحب بصيرة وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلّها بالله ومن الله. ويكون مكاشفا بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيء تعريفات الحقّ- سبحانه- للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجود فيهم محكيّ عنهم. وكما أنّ ضرب الطّبل مثلا دليل يعرف- بالمواضعة- عند سماعه وقت الرحيل والنزول فالحقّ- سبحانه- يخصّ أهل الحضور بفنون التعريفات، من سماع الأصوات وشهود أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففى كل شىء له عبرة
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 17]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) .
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» والعلم نعمة تحتاج إلى الشكر، ويلزم أن يعتقد العالم أنه إن فضّل على كثير فقد فضل عليه كثير أيضا، وما أحسن قول عمر رضى الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.(3/29)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
سخّر الله لسليمان- عليه السلام- الجنّ والطير، فكان الجنّ مكلّفين، والطير كانت مسخّرة إلا أنه كان عليها شرع، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته، حتى النمل كان سليمان يعرف. خطابهم وينفذ عليهم حكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 18]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18)
قيل إن سليمان استحضر أمير النمل الذي قال لقومه: «ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقال له:
أما علمت أنّى معصوم، وأنّى لن أمكّن عسكرى من أن يطئوكم؟ فأخبره أمير النمل أنّه لا يعلم ذلك لأنه ليس بواجب أن يكون النمل عالما بعصمة سليمان. ولو قال: لعلكم أبيح لكم ذلك.. لكان هذا أيضا جائزا.
وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان: إنى أحمل قومى على الزهد في الدنيا، وخشيت إن يروكم في ملككم أن يرغبوا فيها «1» ، فأمرتهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوّش عليهم زهدهم.
ولئن صحّ هذا ففيه دليل على وجوب سياسة الكبار لمن هو في رعيتهم. وفي الآية دليل على حسن الاحتراز ممّا يخشى وقوعه، وأنّ ذلك مما تقتضيه عادة النّفس وما فطروا عليه من التمييز.
ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان: ما الذي أعطاك الله من الكرامة؟.
فقال: سخّر لى الريح.
فقال: أما علمت أنّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أعطيت إلا الريح؟ «2» .
وهكذا بيّنه الكبير على لسان الصغير!.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 19]
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) .
__________
(1) الضمير فى (فيها) يعود على الدنيا.
(2) أي أنه عطاء زائل لا مكث له ولا قرار.(3/30)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
التبسّم من الملوك يندر لمراعاتهم حكم السياسة، وذلك يدلّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حسن سياسته لرعيته.
وفي القصة أنه استعرض جنده ليراهم كم هم، فعرضهم عليه، وكانوا يأتون فوجا فوجا، حتى مضى شهر وسليمان واقف ينظر إليهم معتبرا فلم ينتهوا، ومرّ سليمان عليه السلام.
وفي القصة: أن عظيم النمل كان مثل البغل في عظم الجثة، وله خرطوم. والله أعلم.
قوله جل ذكره: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» .
في ذلك دليل على أن نظره إليهم كان نظر اعتبار، وأنه رأى تعريف الله إياه ذلك، وتنبيهه عليه من جملة نعمه التي يجب عليها الشكر.
وفي قوله: «وَعَلى والِدَيَّ» دليل على أنّ شكر الشاكر لله لا يختص بما أنعم به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خصّ وعمّ من نعمه.
قوله جلّ ذكره: «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .
سأل حسن العاقبة لأنّ الصالح من عباده من هو مختوم له بالسعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 20]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)
تطلّبه فلمّا لم يره تعرّف ما سبب تأخره وغيبته.
ودلّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تخف عليه غيبة طير هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعة واحدة.. وهذا أحسن ما قيل.
ثم تهدّده إن لم يكن له عذر بعذاب شديد، وذلك يدلّ على كمال سياسته وعدله فى مملكته.(3/31)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وقال قوم إنما عرف أن الهدهد يعرف أعماق الماء بإلهام خصّ به، وأنّ سليمان كان قد نزل منزلا ليس به ماء، فطلب الهدهد ليديهم إلى مواضع الماء، وهذا ممكن لأن في الهدهد كثرة. وغيبة واحد منها لا يحصل منها خلل- اللهم إلّا إن كان ذلك الواحد مخصوصا بمعرفة مواضع وأعماق الماء.. والله أعلم.
وروى أن ابن عباس سئل عن ذلك، وأنه قيل له: إن كان الهدهد يرى الماء تحت التراب ويعرفه فكيف لا يرى الفخّ مخفيّا تحت التراب؟.
فقال: إذا جاء القضاء عمى البصر.
ويقال: إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مصطفة، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاع الشمس على الأرض، فنظر سليمان فرأى موضع الهدهد خاليا منه، فعرف بذلك غيبته.. وهذا أيضا ممكن، ويدل على كمال تفقّده، وكمال تيقّظه- كما ذكرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 21]
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)
فى هذه الآية دليل على مقدار الجرم، وأنه لا عبرة بصغر الجثة وعظمها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شرع، وأنّ لهم من الله إلهاما وإعلاما وإن كان لا يعرف ذلك على وجه القطع.
وتعيين «1» ذلك العذاب الشديد غير ممكن قطعا، إلا تجويزا واحتمالا.
وعلى هذه الطريقة يحتمل كلّ ما قيل فيه.
ويمكن أن يقال فإن وجد في شىء نقل فهو متّبع.
وقد قيل هو نتف ريشه وإلقاؤه في الشمس.
__________
(1) واضح هنا طريقة مناقشة القشيري لشىء لم يرد به النقل، وكيف يعطى النقل أهمية وتقديرا، فإذا لم يكن نقل فينبغى التجويز لا القطع.
وواضح كذلك مدى استغلاله لهذا الموقف في توجيه كلامه للمريدين والطالبين بطريق غير مباشر. [.....](3/32)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وقيل يفرّق بينه وبين أليفه.
وقيل يشتّت عليه وقته.
وقيل يلزمه خدمة أقرانه.
والأولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يقطع بشىء دون غيره على وجه القطع.
فمن العذاب الشديد أن يمنع حلاوة الخدمة فيجد ألم المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حسن التولي لشأنه ويوكل إلى حوله ونفسه، ومن ذلك أن يمتحن بالحرص في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع «1» .
ومن ذلك سلب القناعة، ومنه عدم الرضا بما يجرى. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شىء من الخلق.
ومن ذلك الحاجة إلى الأخسّة من الناس. ومن ذلك ذلّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر.
ومن ذلك التباس طريق الرّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق، والتباس الحقّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغربة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 22 الى 23]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
فلم يلبث الهدهد أن جاء، وعلم أن سليمان قد تهدّده، فقال: أحطت علما بما هو عليك خاف، «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المال والملك والسرير العظيم
__________
(1) عاد القشيري إلى الآية نفسها في رسالته حيث يقول: وقيل في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا- يعنى لأسلبنه القناعة ولأبتلينّه بالطمع يعنى أسأل الله تعالى أن يفعل به ذلك (الرسالة- ص 82) .(3/33)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
ما عدّه، فلم يتغير سليمان- عليه السلام- لذلك، ولم يستفزّه الطمع فيما سمع عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما قال:
[سورة النمل (27) : آية 24]
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
فعند ذلك غاظ هذا سليمان، وغضب في الله، و:
[سورة النمل (27) : آية 27]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27)
وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب التوقف فيه على حدّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يطرح بل يجب أن بتعرّف: هل هو صدق أم كذب؟ «1» ولمّا عرف سليمان هذا العذر ترك عقوبته وما توعّده به.. وكذلك سبيل الوالي فإنّ عدله يمنعه من الحيف على رعيته، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا صدق في اعتذاره.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 28]
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)
فى الآية إشارة إلى أنه لا ينبغى للإنسان أن يذكر بين يدى الملوك كلّ كلمة، فإنه يجرّ العناء بذلك إلى نفسه وقد كان لسليمان من الخدم والحشم ومن يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحدا في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال.
ويقال لمّا صدق فيما أخبر لملكه عوّض عليه فأهّل للسفارة والرسالة- على ضعف صورته «2» .
__________
(1) يضاف هذا الرأى في أخبار الآحاد إلى مذهب القشيري في المسائل الحديثية والفقهية.
(2) هنا إشارة بعيدة إلى الرسل والأولياء، ودحض لما يقال عنهم من التهم.(3/34)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
فمضى الهدهد، وألقى الكتاب إليها كما أمر، وانتحى إلى جانب ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 31]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
«كِتابٌ كَرِيمٌ» الكرم نفى الدناءة، وقيل لأنه كان مختوما «1» ، وقيل لأنّ الرسول كان طيرا فعلمت أنّ من تكون الطير مسخّرة له لا بدّ أنه عظيم الشأن. وقيل:
لأنه كان مصدّرا ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نفسه أولا ولم يقل:
إنه من سليمان إلى فلانة. ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في الملك بل كان دعاء إلى الله: «أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» .
ويقال أخذ الكتاب بمجامع قلبها، وقهرها فلم يكن لها جواب، فقالت: «إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» فلمّا عرفت قدر الكتاب وصلت باحترامها إلى بقاء ملكها، ورزقت الإسلام وصحبة سليمان.
ويقال إذا كان الكتاب كريما لما فيه من آية التسمية فالكريم من الصلاة ما لا يتجرّد عن التسمية، وإذا تجرّدت كان الأمر فيها بالعكس.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 32]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
«2» .
__________
(1) يقال إنه طبعه بالمسك وختمه بخاتمه. قال صلى الله عليه وسلم: «كرم الكتاب ختمه» وقيل من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخفّ به.
(2) (حتى تشهدون) بكسر النون، أما الفتح فلحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب لأن ما سبق «حتى» أسلوب طلبى، فالفعل ينصب بعدها بأن مضمرة. وأصله «تشهدونى» فحذفت النون الأولى للنصب، والياء لدلالة الكسرة.(3/35)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
أخذت في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام فإن الملك «1» لا ينبغى أن يكون مستبدا برأيه، ويجب أن يكون له قوم من أهل الرأى والبصيرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 33]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
أجابوا على شرط الأدب، وقالوا: ليس منا إلّا بذل الوسع، وليس لنا إلّا إظهار النّصح، وما علينا إلا متابعة الأمر- وتمشية الأمر وإمضاؤه.. إليك.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 34]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
ويقال إنّ: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» من قولها.
ويقال: تغيير الملوك «2» إذا دخلوا قرية- عن صفتها- معلوم، ثم ينظر.. فإن كان الداخل عادلا أزال سنّة الجور، وأثبت سنّة العدل، وإن كان الداخل جائرا أزال الحسن وأثبت الباطل. هذا معلوم فإنّ خراب البلاد بولاة السّوء، حيث يستولى أسافل الناس وأسقاطهم على الأعزة منهم، وكما قيل:
يا دولة ليس فيها ... من المعالي شظيه
زولى فما أنت إلّا ... على الكرام بليه
وعمارة الدنيا بولاة الرّشد، يكسرون رقاب الغاغة، ويخلّصون الكرام من أسر السّفلة، (ويأخذ القوس باريها) «3» ، وتطلع شمس العدل من برج شرفها.. كذلك المعرفة
__________
(1) نعلم من سيرة القشيري أنه كانت بينه وبين أصحاب السلطة في موطنه خلافات في الرأى، فهو هنا يغمز بما ينبغى أن يكون عليه صاحب السلطان من آداب، سواء في اختيار أعوانه، أو في قبول النصح والشورى.
(2) كأنما القشيري ينفس عن نفسه مما قاساه في عهد السلطان طغرل ووزيره الكندري وكأنما يمجد ما ناله من الخير في عهد السلطان ألب أرسلان. ووزيره العظيم نظام الملك (انظر مدخل هذا الكتاب: المجلد الأول)
(3) هكذا في م وهي في ص (فتأخذ النفوس بأزمتها) .(3/36)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
والخصال المحمودة إذا باشرت قلب عبد أخرجت عنه الشهوات والمنى، وسفاسف الأخلاق من الحقد والحسد والشحّ وصغر الهمة.. وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتثبت بدلها من الأحوال العليّة والأوصاف المرضيّة ما به نظام العبد وتمام سعادته. ومتى استولت على قلب غاغة النّفس والخصال المذمومة أزالت عنه عمارته، وأبطلت نضارته، فتخرب أوطان الحقائق، وتتداعى مساكن الأوصاف الحميدة للأفول، وعند ذلك، يعظم البلاء وتتراكم المحن.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 35]
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمان بهدايا، ومن جملتها لبنة مصنوعة من الفضة وأخرى من الذهب. وأن الله أخبر سليمان بذلك، وأوحى إليه في معناه. وأمر سليمان الشياطين حتى بنوا بساحة منزله ميدانا، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللّبن المصنوع من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأمر بأن توقف الدوابّ على ذلك وألا تنظّف آثارها من روث وغيره، وأن يترك موضعان للبنتين خاليين في ممرّ الدخول. وأقبل رسلها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمّا رأوا الأمر، ووقعت أبصارهم على طريقهم، صغر في أعينهم ما كان معهم، وخجلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة.. كيف يتخلصون مما معهم؟.
فلمّا رأوا موضع اللّبنتين فارغا ظنّوا أن ذلك سرق من بينها، فقالوا لو أظهرنا هذا نسبنا إلى أنّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودخلا على سليمان:
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 36]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
أتهدوننى مالا؟! وهل مثلى يستمال بمثل هذه الأفعال؟ إنكم وأمثالكم تعاملون بمثل ما عوملتم «1» ! إرجع إليهم: -
__________
(1) أي أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون وبما يهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم- وحالى خلاف حالكم، فأنا- بما آتاني الله- غنى عن حظوظ الدنيا.(3/37)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
[سورة النمل (27) : آية 37]
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
فلمّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وجه لها سوى الاستسلام والطاعة، فعزمت على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمة، فقال: أيكم يأتينى بعرشها؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
بسط الله- سبحانه- ملك سليمان، وكان في ملكه الجنّ والإنس والشياطين الجنّ على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام.
ولمّا قال: «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟» قال عفريت من الجن- وكان أقواهم- «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» ، فلم يرغب سليمان في قوله لأنه بنى القول فيه على دعوى قوّته «1» .
قوله جل ذكره: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» .
__________
(1) هذه نظرة ملامتية تعنمد على النفور من كل دعاوى النفس والتظاهر.(3/38)
«الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» (قيل هو آصف) «1» وكان صاحب كرامة. وكرامات الأولياء ملتحقة بمعجزات الأنبياء، إذ لو لم يكن النبيّ صادقا في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يصدّقه ويكون من جملة أمته.
ومعلوم أنه لا يكون في وسع البشر الإتيان بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقطع المسافة البعيدة في لحظة لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين: إمّا بأن يقدّم «2» الله المسافة بين (العرش وبين منزل سليمان) «3» ، وإمّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيّ واحد من القسمين كان- لم يكن إلّا من قبل الله، فالذى كان عنده علم من الكتاب دعا الله- سبحانه- واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غيّر صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيب آخر غير ما كان عليه.
ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله- سبحانه- والاعتراف بعظم نعمه، والاستحياء، والتواضع له، وقال: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» لا باستحقاق منى، ولا باستطاعة من غيرى، بل أحمد النعمة لربّى حيث جعل في قومى ومن أمتى من له الجاه عنده فاستجاب دعاءه.
وحقيقة الشكر- على لسان العلماء- الاعتراف بنعمة المنعم على جهة الخضوع والأحسن أن يقال الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فيدخل في هذا شكر الله للعبد لأنه ثناء منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكر العبد ثناء على الله بذكر إحسانه..
إلّا إنّ إحسان الحقّ هو إنعامه، وإحسان العبد طاعته وخدمته لله، وما هو الحميد من أفعاله.
فأمّا على طريق أهل المعاملة وبيان الإشارة: فالشكر صرف النعمة في وجه الخدمة.
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(2) فى م (يعدم) بالعين، وإعدام المسافة أي جعلها في حكم العدم مقبول في المعنى، وينسجم مع جعل العرش في حكم العدم وإعادة خلقه من جديد.. وكذلك تقديم المسافة (بالقاف) مقبول حتى يصبح نقله من مكان إلى مكان قريب ميسورا، فالإعدام أو التقديم كلاهما مقبول لأن القدرة الإلهية تشملهما.
(3) هكذا في م ولكنها في ص (بين القريتين) أي قرية سليمان وقرية بلقيس.(3/39)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
ويقال الشكر ألّا تستعين بنعمته على معاصيه.
ويقال الشكر شهود المنعم من غير مساكنة إلى النعمة.
ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر.
ويقال أعظم الشكر الشكر على توفيق الشكر.
ويقال الشكر على قسمين: شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» » ، وشكر الخواص يكون مجردا عن طلب المزيد، غير متعرض لمنال العوض.
ويقال حقيقة الشكر قيد النعم وارتباطها لأنّ بالشكر بقاءها ودوامها.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
أراد سليمان أن يمتحنها وأن يختبر عقلها، فأمر بتغيير عرشها، فلمّا رأته: - «قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» فاستدلّ بذلك على كمال عقلها، وكان ذلك أمرا ناقضا للعادة، فصار لها آية وعلامة على صحة نبوة سليمان- عليه السلام- وأسلمت: - «وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» كان ذلك امتحانا آخر لها. فقد أمر سليمان الشياطين أن يصنعوا من الزجاج شبه
__________
(1) آية 7 سورة ابراهيم. [.....](3/40)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
طبق كبير صاف مضىء، ووضعه فوق بركة بها ماء كثير عميق، يرى الماء من أسفل الزجاج ولا يميّز بين الزجاج والماء، وأمرت أن تخوض تلك البركة، فكشفت عن ساقيها لأنها وصفت لسليمان بأنها جنّية النّسب، وأن رجليها كحوافر الدواب، فتقوّلوا عليها.
ولمّا توهّمت أنها تخوض الماء كشفت عن ساقيها، فرأى سليمان رجليها صحيحين. وقيل لها: ِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ»
: فصار ذلك أيضا سببا وموجبا ليقينها. وآمنت وتزوج بها سليمان عليه السلام.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
ذكر قصة ثمود، وقصة نبيّهم صالح عليه السلام، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب، وطلبهم منه معجزة، وحديث الناقة وعقرها، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية.. إلى قوله:
[سورة النمل (27) : آية 50]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)
ومكرهم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح، وعقرهم الناقة خفية، وتوريك الذّنب على غير جارمه «1» ، والتبرّى من اختيارهم ذلك.
وأمّا مكر الله فهو جزاؤهم على مكرهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم، ثم إحلالها بهم بغتة. فالمكر من الله تخليته إياهم مع مكرهم بحيث لا يعصمهم، وتزيين ذلك في أعينهم، وتحبيب ذلك إليهم.. ولو شاء لعصمهم. ومن أليم مكره انتشار الصيت بالصلاح، والعمل في السّرّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح، وفي الآخرة لا يجوز في سوقها هذا النّقد! «2» .
__________
(1) أي إلقاء الجرم على غير من اقترف الجرم.
(2) جميل من القشيري تعبيره عن أسلوب (التعامل) بين الخلق والمخلوق مكرا بمكر بلفظة (النقد) .. وفي لآخرة لا يسرى هذا النقد، فلا يجدى مكرهم فتيلا لأن التعامل فى (سوق) الآخرة يكون على نحو آخر.(3/41)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 51 الى 52]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
أهلكهم ولم يغادر منهم أحدا: - «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» وفي الخبر: «لو كان الظلم بيتا في الجنة لسلّط الله عليه الخراب» فالنفوس إذا ظلمت بزلاتها خربت بلحوقها شؤم الذّلة حتى يتعود صاحبها الكسل، ويستوطن مركب الفشل، ويحرم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلان وقسوة القلب وجحود العين «1» وانتفاء تعظيم الشريعة من القلب. وأصحاب القلوب إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طردها عن قلوبهم.. خربت قلوبهم حتى تقسو بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة.
فخراب النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخراب القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
ذكر قصة لوط وأمته، وما أصرّوا عليه من الفاحشة، وما أحلّ الله بهم من العقوبة، وإحلال العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القوم، وتخليص الحقّ لوطا من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بعثوا لإهلاكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 59]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) .
__________
(1) أي لا تكون مقرا للاعتبار.
(2) هذه إشارة هامة توضح آفات الطريق في مراحله المختلفة.(3/42)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
هم الذين سلّم عليهم في آزاله وهم في كتم العدم، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته، ولم يكونوا أعيانا في العدم ولا أفادوا «1» ، فلمّا أظهرهم في الوجود سلّم عليهم بذلك السلام، ويسمعهم في الآخرة ذلك السلام. والذين سلّم عليهم هم الذين سلموا اليوم من الشكوك والشّبه، ومن فنون البدع، ومن وجوه الألم، ثم من فنون الزّلل وصنوف الخلل، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافى دوام القربة.
ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسلّم عليهم قبل أن خلقهم وأبداهم، وبعد أن سلّم عليهم بودّه لقّاهم.
ويقال: اصطفاهم بنور اليقين وحلّة الوصل وكمال العيش.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 60]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
فثمرات الظاهر غذاء النفوس، وثمرات الباطن والأسرار ضياء القلوب، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاء بقية فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبة والحجبة والنفرة والتهمة شظيّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 61]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)
نفوس العابدين قرار طاعتهم، وقلوب العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار
__________
(1) ربما يقصد القشيري أنهم- وقد كانوا في كتم العدم- لم تصدر عنهم طاعة تفيدهم في استحقاق إثابة لهم واستيجاب تسليم عليهم.. والمقصود- إن صحّ هذا الرأى- أن عمل الإنسان لا قيمة له بجانب الفضل الإلهى والقسمة السابقة.(3/43)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
محبتهم، وأسرار الموحّدين قرار مشاهدتهم «1» ، فى أسرارهم أنوار الوصلة وعيون القربة، وبها يسكن ظلما اشتياقهم وهيجان قلقهم واحتراقهم.
«وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة.
ويقال «جَعَلَ لَها رَواسِيَ» اليقين والتوكل.
ويقال الرواسي في الأرض الأبدال والأولياء والأوتاد «2» بهم يديم إمساك الأرض، وببركاتهم يدفع عن أهلها البلاء.
ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يهدون المسترشدين إلى الله.
قوله جل ذكره: «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
«جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدهما صاحبه.
ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غلبت العبودية كانت جحدا للحقيقة، ولو غلبت الحقيقة العبودية كانت طيّا للشريعة.
ويقال: ألسنة المريدين مقرّ ذكره، وأسماعهم محلّ الإدراك الموصّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 62]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62)
فصل بين الإجابة وبين كشف السوء فالإجابة بالقول والكشف بالطّول، الإجابة بالكلام والكشف بالإنعام. ودعاء المضطر لا حجاب له، وكذلك دعاء المظلوم» ولكن لكلّ أجل كتاب» .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (مساعدتهم) ويبدو أن الهاء التبست على الناسخ، فالمعروف أن الاسرار محل المشاهدة.
(2) جاء في حلية الأولياء (ح 8 ص 367) حديث عن النبي (ص) : «خيار أمتى في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأبدال، كلما مات رجل أبدل الله عز وجل من الخمسمائة مكانه وأدخل من الأربعين مكانهم) .
ويرى الجرجاني: أن الأبدال سبعة (التعريفات ص 37 ط مصر سنة 1938) ويرى ابن عساكر: أنهم 22 بالشام 18 بالعراق (تاريخ دمشق لابن عساكر ح 1 ص 278) .
ويرى الهجويرى: أن الأوتاد أربعة يطوفون العالم بجملته كل ليلة (كشف المحجوب ص 269) .(3/44)
ويقال للجناية: سراية فمن كان في الجناية مختارا فليس تسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف منه وهو مختار فيه، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بدر منهم في حال اختيارهم.
ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئا من الحول والحيلة، ويرى لنفسه شيئا من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه- فليس بمضطر، فالمضطرّ يرى نفسه كالغريق في البحر، أو الضّالّ فى المتاهة، وهو يرى عنانه بيد سيّده، وزمامه في قبضته، فهو كالميت بين يدى غاسله، وهو لا يرى لنفسه استحقاقا للنجاة لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة «1» .
ولا ينبغى للمضطر أن يستعين بأحد في أن يدعو له لأنّ الله وعد الإجابة له..
لا لمن يدعو له.
ثم كما وعد المضطرّ الإجابة وكشف السوء وعده بقوله: - « ... وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» .
فإنّ مع العسر يسرا، ولم يقل: للعسر إزالة، ولكن قال: مع العسر يسر فنهار اليسر حاصل بعد ظلام العسر.
ثم قال: «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» لأنّ العبد إذا زال عسره، وكشف عنه ضرّه نسى ما كان فيه، وكما قال القائل:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا
__________
(1) إذا اطمأن العبد لنفسه، ولاحظ عمله فقد عنصرا هاما من عناصر السير فى هذا الطريق، وهو الإخلاص..
وفي ذلك يقول أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. ويرى أبو عثمان المغربي: أن إخلاص الخواص: هو ما يجرى عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد.(3/45)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 63]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
إذا أظلم الوقت على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب، وضاق الأمر بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز، والتحيّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعض بشواهد العقل.. فمن الذي يرشدكم لوجه الصواب بترك التدبير، وللاستسلام لحكم التقدير، وللخروج من ظلمات مجوّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق، والاستسلام لما جرت به الأقسام، وسبقت به الأقدار؟.
«.. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
من الذي يرسل رياح فضله بين يدى أنوار اختياره فيمحو آثار اختيار نفسك، ويعجّل بحسن الكفاية لك؟.
ويقال: يرسل رياح التوكل فيطهّر القلوب من آثار الاختيار وأوضار التدبير، ثم يطلع شموس الرضا فيحصل برد الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب.. أإله مع الله؟
«تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» : من إحالة المقادير على الأسباب.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 64]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
يظهر ما يظهر بقدرته على مقتضى سابق حكمه، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقّ فيه قوله، وسبق به قضاؤه وقدره. فإذا زال وانتفى وانعدم بعض ما يظهر ويخصص.. فمن الذي يعيده مثلما بدأه؟ ومن الذي يضيّق الرزق ويوسّعه؟ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على(3/46)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
بعض الأشخاص؟ وفي وقت آخر من الذي يبسط على قوم آخرين؟.
هل في قدرة أحد غير الله ذلك؟.
إن توهمتم شيئا من ذلك فأوضحوا عنه حجّتكم. وإذ قد عجزتم.. فهلّا صدّقتم؟
وبالتوحيد أقررتم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 65]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
«الْغَيْبَ» : ما لا يطّلع عليه أحد، وليس عليه للخلق دليل، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقّ «1» ، وعلوم الخلق عنه متقاصرة، ثم ما يريد الله أن يخصّ قوما بعلمه أفردهم به.
«وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» : فإنه أخفى علم الساعة عن كل أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 68 الى 66]
«2» فهم في الجملة يشكّون فيه فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه.. وهكذا حكم كلّ مريض القلب، فلا حياة له في الحقيقة، ولا راحة له من يأسه إذ هو من البعث في شكّ، ومن الحياة الثانية في استبعاد: - «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ إذ الحق هو الذي يستأثر بعلم الغيب.
(2) يرى القرطبي أن القراءة هكذا والقراءة على (بل أدرك) معناهما واحد لأن أصل (ادّارك) تدارك وأدغمت الدال في التاء وجىء بألف الوصل (الجامع لأحكام القرآن ج 13 ص 226) .(3/47)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
وعد آباؤنا بذلك من قبل، ثم لم يكن لهم تحقيق، وما نحن إلا مثلهم، وكانوا يسألون متى الساعة؟:
[سورة النمل (27) : آية 71]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
فقال الحقّ: إنه عن قريب سيحل بهم ميقاته: - «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ «1» لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» .
ثم قال جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 73]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
لأنهم لا يميّزون بين محنهم ومنحهم. وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله له وبين ما هو محنة فإذا تقاصر علم العبد عمّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئا ويظنّه خيرا وبلاؤه فيه، وربّ شىء يظنّه العبد نعمة فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنة له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صرّفها! وبعكس هذا كم من شىء يظنه الإنسان بخلاف ما هو به!.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 74]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74)
لا تلتبس على الله أحوالهم فصادق يستوى ظاهره وباطنه يعلمه، ومنافق يخالف باطنه ظاهره يلبّس على الناس حاله.. وهو- سبحانه- يعلمه، وكافر يستوى في الجحد سرّه وعلنه يعلمه، وهو يجازى كلّا على ما علمه.. كيف لا.. وهو قدّره، وعلى ما عليه قضاه وقسمه؟:.
__________
(1) من أردف أي تبع، وقال الفراء: ردف لكم أي دنا.(3/48)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 75]
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
ما من شىء إلّا مثبت في اللوح المحفوظ حكمه، ماضية فيه مشيئته، متعلّق به علمه قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 78]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
وهم يخفون بعضا، وبعضا يظهرون، ومع ما يهوون يدورون.
وفي هذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابهم، وعصم من التغيير والتبديل ما به يدينون. وهذه نعمة عظيمة قليل منهم من عليهم يشكرون فالقرآن هدى ورحمة للمؤمنين، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادق أنهم له محرّفون مبدّلون.
«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» هو «الْعَزِيزُ» المعزّ للمؤمنين، «الْعَلِيمُ» بما يستحقه كلّ أحد من الثواب العظيم والعذاب الأليم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 81]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
أي اجتهد في أداء فرضه، وثق بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعونه.
ولا يهولنّك ما يجرى على ظواهرهم من أذى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلّه بتسليطنا إن كان محذورا، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوبا. وإنك لعلى حقّ وضياء صدق، وهم على شكّ وظلمة شرك.
قوله جل ذكره: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» .(3/49)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
الذين أمات الله قلوبهم بالشرك، وأصمّهم عن سماع الحق- فليس في قدرتك أن تهديهم للرّشد أو تنقذهم من أسر الشكّ.
«وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدى أحدا من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقدرتك الإزالة أو الإمالة.
أنت لا تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا، فلا يسمع منك إلّا من أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إلى الطريق.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 82]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
إذا حقّ الوعد بإقامة القيامة أوضحنا أشراطها في كلام الدّابة المخرجة من الأرض «1» .
وغير ذلك من الآيات.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 83]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
وعند ذلك لا ينفع الإيمان ولا يقبل العذر: -
__________
(1) فى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها (لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا زيادة من صحيح مسلم) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» . ومن الأقوال في هذه الدابة: أنها فصيل ناقة صالح، ومنها أن هذه الدابة تكون إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، ومنها أنها تخرج من جبل الصفا بمكة بعد أن يتصدع ... إلى غير ذلك من الأقوال المنسوبة للصحابة والتابعين والمفسرين.(3/50)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
[سورة النمل (27) : الآيات 85 الى 86]
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
ثم كرّر ذكر الليل والنهار واختلافهما: - «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي ليكون الليل وقت سكونهم، والنهار وقت طلب معاشهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 87]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)
أخبر أن اليوم الذي ينفخ فيه في الصور هو يوم إزهاق الأرواح، وإخراجها عن الأجساد فمن روح ترقى إلى علّيين، ومن روح تذهب إلى سجّين. أولئك في حواصل طير تسرح فى الجنة تأوى بالليل إلى قناديل معلقة من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوح والراحة، ولبعضها الشهود والرؤية ... على مقادير استحقاقهم لما كانوا عليه في دنياهم.
وأمّا أرواح الكفار ففى النار تعذّب على مقادير أجرامهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 88]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)
وكثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين، هم ساكنون بنفوسهم «1» سائحون في الملكوت بأسرارهم.. قيل: إن الإشارة اليوم إليهم. كما قالوا: العارف كائن بائن كائن مع الناس بظاهره، بائن عن جميع الخلق بسرائره.
__________
(1) عرف الجنيد بسكونه وقلة اضطرابه عند السماع، فلما سئل في ذلك تلا: «وترى الجبال تحسبها جامده وهى....» (اللمع للسراج ص 128) .(3/51)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 89 الى 90]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
يحتمل أن يكون «خَيْرٌ» هاهنا للمبالغة لأن الذي له في الآخرة من الثواب خير ممّا منه من القرب: ويحتمل فله نصيب خير أو عاقبة خير أو ثواب خير منها. وهم آمنون من فزع القيامة. ومن جاء بالسيئة: فكما أن حالهم اليوم من المطيعين بالعكس فحكمهم غدا فى الآخرة بالضدّ.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 92]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
أخبر أنه أمره بالدين الحنيفىّ، والتبرّى من الشّرك الجلىّ منه والخفىّ، وبملازمة الطريق السّويّ. وأخبر أنّ من اتبعه وصدّقه أوجب الحقّ ذمامه وحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (27) : آية 93]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
سيريكم- عن قريب- آياته، فطوبى لمن رجع قبل وفاته، والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت وفواته!.(3/52)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
سورة القصص
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله اسم عزيز من تعرض لجدواه يسّر له في دنياه وعقباه، اسم عزيز من اشتاق إلى لقياه استعذب فيه ما يلقاه من بلواه. ومن طلب غيره مؤنسا في دنياه أو عقباه «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1)
«الطاء» تشير إلى طهارة نفوس العابدين عن عبادة غير الله، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله، وطهارة أسرار الموحّدين عن شهود غير الله. «والسين» تشير إلى سرّ الله مع العاصين بالنجاة، ومع المطيعين بالدرجات، ومع المحبين بدوام المناجاة. «والميم» تشير إلى منّته على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات فى سبيل الخيرات.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 3]
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
سماع قصة الحبيب من الحبيب يوجب سلوة القلب، وذهاب الكرب، وبهجة السّرّ، وثلج الفؤاد. وقد كرّر الحقّ ذكر قصة موسى تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم إفادة لزوائد في المذكور قوله في كل موضع يتكرر فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 4]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)(3/53)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
تكبّر فرعون بغير حقّ فأقماه بحقّ، وتجبّر بغير استحقاق فأذلّه الله باستحقاق واستيجاب، وجعل أهلها شيعا يذبّح أبناءهم «1» بعد ما استضعفهم، ويستحى نساءهم، وأفنى منهم من كان ( ... ) «2» ، وبالفساد حكم فيهم، والله لم يرض بترك إتلافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 5 الى 6]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
نريد أن نمنّ على المستضعفين بالخلاص من أيديهم، وأن نجعلهم أئمة، بهم يهتدى الخلق، ومنهم يتعلم الناس سلوك طريق الصدق، ونبارك في أعمارهم، فيصيرون وارثين لأعمار من يناويهم، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم فهم هداة وأعلام، وسادة وقادة بهم يقتدى وبنورهم يهتدى.
«وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» : نزيل عنهم الخوف، ونرزقهم البسطة والاقتدار، ونمد لهم فى الأجل. ونرى فرعون وهامان وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال ملكهم على أيديهم وأنّ الحقّ يعطى- وإن كان عند الخلق أنّه يبطى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 7]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) .
__________
(1) كان سبب سلوكه هذا السبيل مع بنى إسرائيل أن الكهنة قالوا له ان مولودا يولد في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال له المنجمون ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل. [.....]
(2) مشتبهة.(3/54)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
أي ألقينا في قلبها، وأوحينا إليها وحي إلهام، فاتّخذت خاطرها في ذلك، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيار أدخل عليها.
لمّا وضعت أم موسى موسى كانت تخاف قتله، فإن فرعون قتل في ذلك اليوم كثيرا من الولدان المولودة لبنى إسرائيل، رجاء أن يقتل من رأى في النوم ما عبّر له أن ذهاب ملكه على يدى إسرائيلى.. فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك.
ثم إنه ربّاه في حجره ذلك اليوم- ليعلم أنّ الأقدار لا تغالب.
جعلت أم موسى موسى في تابوت، وألقته في نيل مصر، فجاء الماء به إلى بركة كان فرعون جالسا على حافتها، فأخذوه وحملوه إليه، وفتحوا رأس التابوت. فلمّا رآه فرعون أخذت رؤيته بمجامع قلبه، وكذلك تمكّن حبّه من قلب امرأة فرعون قال تعالى:
«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : «1» حيث خلق الله ملاحة في عينى موسى فكان من يقع عليه بصره لا يتمالك من حبّه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 8 الى 10]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
أخبر الله تعالى أنه كان عدوا لهم، وقالت امرأة فرعون:
«قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
فلم يكن لهما ولد، وهم لا يشعرون إلى ماذا يئول أمره.
«وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
__________
(1) آية 39 سورة طه.(3/55)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
لمّا ألقته في الماء سكّن الله قلبها، وربط عليه، وألهمها الصبر، وأصبح فؤادها فارغا إن كادت لتبدى به من حيث ضعف «1» البشرية، ولكن الله ربط على قلبها.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 11]
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
أمرت أمّ موسى أخته أن تتبع أثره، وتنظر إلى ماذا يئول أمره، فلمّا وجدوه واستمكن حبّه من قلوبهم طلبوا من يرضعه:
[سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
أبى موسى قبول ثدى واحدة ممن عرض عليهن.. فمن بالغداة كانوا في اهتمام كيف يقتلونه أمسوا- وهم في جهدهم- كيف يغذّونه «2» ! فلمّا أعياهم أمره، قالت لهم أخته: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ؟» فقبلوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا: نعم، فردّوه إلى أمّه «3» ، فلمّا وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فسرّوا بذلك، وكانوا يدعون أمّه حاضنة ومرضعة.. ولم يضرها، وكانوا يقولون عن فوعون: إنه أبوه.. ولم ينفعه ذلك «4» !
__________
(1) هكذا في م، وقد أخطأ الناسخ في ص حين أضاف لفظة (الله) بعد (ضعف) .
(2) هكذا في م، وفي ص (يعذبونه) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
(3) هكذا في م، وفي ص (آمره) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
(4) يقصد القشيري إلى شىء بعيد هو أن أحكام الناس ليست بالضرورة صائبة، وأن للأمور حقائق وجواهر وبواطن خافية، وأن أسماء الأشياء وظواهرها لا عبرة بها.(3/56)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
ولمّا أخذته أمّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبها، وجرى من قصة فرعون ما جرى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 14]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
لمّا كملت سنّة وتمّ عقله، واستوى كمال خصاله «آتَيْناهُ حُكْماً» : أي أتممنا له التحصيل، ووفّرنا له العلم، وبذلك جرت سنّتنا مع الأكابر والأنبياء.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 15]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
الآية.
قيل: دخل المدينة في وقت الهاجرة، وتفرّق الناس، فوجد فيها رجلين يتخاصمان: أحدهما إسرائيليّ من شيعة موسى وعلى دينه، والآخر قبطيّ مخالف لهما، فاستغاث الإسرائيليّ بموسى على القبطي، فوكزه موسى ليدفعه عن الإسرائيلى، فمات الرجل بذلك الوكز، ولم يكن موسى يقصد قتله، فقال موسى: - «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .
فقد تمنّى موسى أن لو دفعه عنه بأيسر مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان «1» ، ولكنّ دفعه عنه بالغلظة نسبه إلى الشيطان بأن حمله على تلك الحدّة.
وهكذا.. إذا أراد الله أمرا أجرى أسبابا ليحصل بها مراده، ولولا أنه أراد فتنة موسى لما قبض روح الرجل بمثل تلك الوكزة، فقد يضرب الرجل الكثير من الضّرب والسياط ثم لا يموت فموت القبطي بوكزة اجراء لما قضاه وأراده.
__________
(1) يتصل ذلك برأى القشيري: أن الشيطان ليس بيده شىء لأنه لو كان بيده شىء لأمسك على الهداية نفسه، وكل عمل الشيطان أنه يوسوس في صدور الناس.(3/57)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 16]
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
تاب موسى عمّا جرى على يده، واستغفر ربّه، وأخبر الله أنه غفر له، ولا عتاب «1» بعد المغفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 17]
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قال موسى ربّ بما أنعمت عليّ من توفيقك لى بالتوبة «2» فلن أعود بعد ذلك إلى مثل ما سلف منى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 19]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
أصبح في المدينة خائفا على نفسه من فرعون لأنه كان يدّعى أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قتل القبطيّ إلى العمد والقصد. فهو «يَتَرَقَّبُ» علم فرعون وأن يخبر بذلك في وقته.
__________
(1) هكذا في النسختين ولا نستبعد أن تكون (عقاب) بالقاف فالسياق يحتملها أيضا وإن كانت (عتاب) أليق بمقام النبوة.
(2) حقيقة التوبة أن يتوب الله عليك أولا، ويهيىء لك أسباب التوفيق لذلك، فإذا شكرت فاشكر له، فعملك لا يكفى ولا يغنى عن فضل الله.(3/58)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
وقيل «خائِفاً» من الله مما جرى منه. ويقال «خائِفاً» على قومه حلول العذاب بهم.
وقيل «يَتَرَقَّبُ» نصرة الله إياه. ويقال «يَتَرَقَّبُ» مؤنسا يأنس به.
فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصم إنسانا آخر، ويستعين به ليعينه، فهمّ موسى بأن يعين صاحبه، فقال الذي يخاصمه: «يا مُوسى، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟» :
قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لمّا قصد منعه عن صاحبه استدلّ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 20 الى 21]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
جاء اسرائيليّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قتلك، وأنا واقف على تدبيرهم وقد أرادوا إعلام فرعون.. فاخرج من هذا البلد، إنى لك من الناصحين.
«فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» خرج «1» من مصر «خائِفاً» أن يقتفوا أثره، «يَتَرَقَّبُ» أن يدركه الطلب، وقيل «يَتَرَقَّبُ» الكفاية والنصرة من الله، ودعا الله فقال: «نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 22]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) .
__________
(1) ربما يذكرنا موقف موسى بقضية هامة في الطريق الصوفي هى «السفر» : وضرورته أو عدمها، وقد اختلف المشايخ في أمره (الرسالة ص 143) ، ويرى القشيري ضرورة السفر. إن نبا المكان واشتد البلاء.
(الرسالة ص 202) وهو نفسه غادر بلاده عند إطباق المحنة عليه.(3/59)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
توجّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصد إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح «1» ، وتوجّه بقلبه إلى ربّه ينتظر أن يهديه ربّه إلى النحو الذي هو خير له، فقال: عسى ربى أن يهدينى إلى أرشد سبيل لى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 25]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
لمّا وافى مدين شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماء فى الحياض، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية.
وكان شعيب النبيّ عليه السلام قد كفّ بصره لكثرة بكائه ففى القصة أنه بكى فذهب بصره، ثم ردّ الله عليه بصره فبكى، فردّ الله بصره فبكى حتى ذهب بصره، فأوحى الله إليه:
لم تبكى يا شعيب..؟ إن كان بكاؤك لخوف النار فقد أمنتك، وإن كان لأجل الجنة فقد أتحتها لك.
فقال: ربّ.. إنما أبكى شوقا إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أخدمتك نبيّى وكليمى عشر حجج.
وكانت لشعيب أغنام، ولم يكن لديه أجير، فكانت بنتاه تسوقان الغنم مكان الرعاة، ولم يكن لهما قدرة «2» على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضوا «3» فإن بقيت في الحوض بقية من الماء استقت بنات شعيب.
__________
(1) وهكذا سفر الأكابر.
(2) هكذا في ص وهي في م (قوة) .
(3) من الجائز أن تكون في الأصل (انفضوا) بالفاء فالسياق يحتملها بدليل قوله فيما بعد (فلما انصرف الرعاة)(3/60)
فلمّا وافى موسى ذلك اليوم وشاهد ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رقّ قلبه لهما وقال:
ما خطبكما؟ فقالتا: «لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» وليس لدينا أجير.
فلمّا انصرف الرعاة سقى لهما، ثم تولّى إلى ظلّ جدار بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سفره، ولم يكن قد تعوّد قط الرحلة والغربة، ولم يكن معه مال، فدعا الله:
«فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» .
قيل طلب قوة تزيل جوعه، وقيل طلب حالا يستقلّ بها. والأحسن أن يقال جاع فطلب كسرة يسدّ بها رمقه- والمعرفة توجب سؤال ما تحتاج إليه من الله قليلا أو كثيرا «1» . فلمّا انصرفت ابنتا شعيب خرج شعيب إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية لميسّها بيديه فوجد أثر الزيادة في تلك الكرّة، فسألهما فذكرتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فقال شعيب: إذا هو جائع. وبعث إحداهما لتدعوه: - «فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قالت إنّ أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين» قيل إنما استحيت لأنها كانت تخاطب من لم يكن لها محرما «2» .
وقيل لمّا دعته للضيافة تكلمت مستحيية- فالكريم يستحى من الضيافة.
ويقال لم تطب نفس شعيب لمّا أحسن موسى إليه وأنه «3» لم يكافئه- وإن كان موسى
__________
(1) لاحظ كيف طبق القشيري (أدب السؤال) ومتى يجب؟ وكيف يجب؟ على موقف موسى الغريب المسافر الجائع المتعب، وهذه الإشارة موجهة من بعين إلى أرباب الطريق. [.....]
(2) المحرم من الرجال والنساء الذي يحرم التزوج به لرحمه وقرابته.
(3) الضمير فى (وأنه) يعود على شعيب كما هو واضح من السياق.(3/61)
لم يرد مكافأة منهم «فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» : لم يقل: فلما جاءه قدّم السّفرة «1» بل قال: وقصّ عليه القصص.. وهذا طرف من قصته.
ويقال: ورد بظاهره ماء مدين، وورد بقلبه موارد الأنس والرّوح. والموارد مختلفة فموارد القلب رياض البسط بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطفة، وموارد الأرواح مشاهد الأرواح فيكاشفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساس بالنّفس، وموارد الأسرار ساحات التوحيد.. وعند ذلك الولاية لله فلا نفس ولا حسّ، ولا قلب ولا أنس..
استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية!.
ويقال كانت الأجنبية والبعد عن المحرميّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراض والسكون عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسّرّ استنطقه حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل:
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
ويقال: لمّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيام بأمرهما ليعلم أنّ من تفقّد أمر الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤهم.
ويقال من كمال البلاء على موسى أنّه وافى الناس وكان جائعا، وكان مقتضى الرّفق أن يطعموه، ولكنه قبض القلوب عنه، واستقبله من موجبات حكم الوقت أن يعمل عمل أربعين رجلا لأن الصخرة التي نحّاها عن رأس البئر- وحده- كان ينقلها أربعون رجلا، فلمّا عمل عمل أربعين رجلا، تولّى إلى الظّلّ، وقال: إن رأيت أن تطعمنى بعد مقاساة اللتيا والتي.. فذلك فضلك!.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسان أحلى من ذلك. وسنّة الشكوى أن تكون إليه لا منك.. بل منه إليه «2» .
__________
(1) السفرة طعام يصنع للمسافر، أو مائدة وما عليها من طعام.
(2) لأنك بلا أنت، فبالضرورة ليس منك شكوى، فعل الحقيقة لا وجود إلا له، فاتركه ممسكا بعنانك، واستسلم لما يختار، ولن يكون إلا الخير.(3/62)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
ويقال: تولّى إلى ظلّ الأنس وروح البسط واستقلال السّرّ بحقيقة الوجود.
ويقال قال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» : فزدنى فقرا فإنّ فقرى إليك يوجب استعانتى بك «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 26]
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
كان شعيب عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبه إلى أحد، فلمّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفه بالقوة والأمانة سأل:
عرفت قوّته.. فكيف عرفت أمانته؟
فقالت: كنت أمشى قدّامه فأخّرنى عنه في الطريق قائلا: سيرى ورائي واهدينى، لئلا يقع بصره عليّ.. فقال شعيب:
[سورة القصص (28) : آية 27]
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فرغب موسى وتزوجها على صداق أن يعمل عشر حجج لشعيب.
وفي القصة أن شعيبا قال لموسى: ادخل هذا البيت وأخرج مما فيه من العصيّ عصا، وكان البيت مظلما، فدخل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال: إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيّ إلى نبيّ. إذ يقال: إنه لما هبط آدم إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السّباع، فأنزل عليه الله عصا، وأمره جبريل أن يردّ السباع عن نفسه بتلك العصا.
__________
(1) إظهار الضعف آية العبودية فالدعاء هنا ليس من قبيل الشكوى، ولكنه تعبير عن ضعف العبد أمام عظمة الربوبية، فكأنه نوع من التعبد (راجع قصة أيوب إذ نادى ربه....)(3/63)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
وتوارث الأنبياء واحدا بعد الآخر تلك العصا، فلمّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب:
ردّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخرج عصا أخرى، ففعل غير مرة، ولم تحصل كلّ مرة فى يده إلا تلك العصا، فلمّا تكرّر ذلك علم شعيب أنّ له شأنا فأعطاه إياها، وفي القصة: أنه في اليوم الأول ساق غنمه، وقال له شعيب: إنّ طريقك يتشعب شعبين:
على أحدهما كلا كثير.. فلا تسلكه في الرعي فإنّ فيه ثعبانا، واسلك الشّعب الآخر.
فلمّا بلغ موسى مفرق الطريقين، تفرّقت أغنامه ولم تطاوعه، وسامت في الشّعب الكثير الكلأ، فتبعها، ووقع عليه النوم، فلمّا انتبه رأى الثعبان مقتولا، فإن العصا قتلته، ولمّا انصرف أخبر شعيبا بذلك فسرّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آيات كثيرة، ولذا قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 29]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
مضت عشر حجج، وأراد موسى الخروج إلى مصر، فحمل ابنه شعيب، وسار بأهله متوجّها إلى مصر. فكان أهله في تسييره وكان هو في تسيير الحقّ، ولمّا ظهر ما ظهر بامرأته من أمر الطّلق استصعب عليه الوقت، وبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا- أي أبصر ورأى- فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوع أنس: وإنّ الله إذا أراد أمرا أجرى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالة لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهّم- أول الأمر- أنّ ما يستقبله في ذلك الوقت من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سبب تحقيق النبوة. فلولا أسرار التقدير- التي لا يهتدى إليها الخلق- لما قال لأهله:
«امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» .(3/64)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
ويقال: ألاح له نارا ثم لوّح له نورا، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصود النّار ولا النور وإنما سماع نداء: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 30]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)
الآية أخفى تعيين قدم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال: «مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ» ، ثم قال: «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ثم قال «مِنَ الشَّجَرَةِ» .
وأخلق بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سمع خطاب مولاه بلا واسطة وأعزّ الأماكن في العالم مشهد الأحباب:
وإنى لأهوى الدار ما يستعزنى ... لها الود إلا أنها من دياركا
ويقال: كم قدم وطئت لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابها بها شيئا!. وكم ليلة جنّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة!.
ويقال: شتّان بين شجرة وشجرة شجرة آدم عندها ظهور محنته وفتنته، وشجرة موسى وعندها افتتاح نبوّته ورسالته!.
ويقال: لم يأت بالتفصيل نوع تلك الشجرة «1» ، ولا يدرى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة وثمرتها القربة، وأصلها في أرض المحبة وفرعها باسق في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تنفتق عن نسيم الرّوح والبهجة:
فلمّا سمع «2» موسى تغيّر عليه الحال ففى القصة: أنه غشى عليه، وأرسل الله إليه الملائكة ليروّحوه بمراوح الأنس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوق به. وفي المرة الأخرى خرّ موسى صعقا، وكان يفيق والملائكة تقول له: يا ابن الحيض. أمثلك من يسأل الرؤية؟!
__________
(1) قيل هي شجرة العليق وقيل العوسج والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد (القرطبي) .
(2) معروف أن السماع عند الصوفية يصحبه- وخصوصا لدى المبتدئين- تأثيرات عضوية ونفسية حادة(3/65)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
وكذا الحديث والقصة «1» فى البداية لطف وفي النهاية عنف، فى الأول ختل وفي الآخر قتل، كما قيل:
فلمّا دارت الصهباء «2» ... دعا بالنّطع والسيف
كذا من يشرب الراح ... مع التّنّين في الصيف «3»
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 31]
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
يا موسى.. اخلع نعليك والق عصاك، وأقم عندنا هذه الليلة، فلقد تعبت في الطريق- وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال.
يا موسى.. كيف كنت في الطريق؟ كيف صعّدت وكيف صوّبت «4» وكيف شرّقت وكيف غرّبت؟ ما كنت في الطريق وحدك يا موسى! أحصينا خطاك- فقد أحصينا كلّ شىء عددا. يا موسى.. تعبت فاسترح، وبعد ما جئت فلا تبرح- كذلك العبد غدا إذا قطع المسافة في القيامة، وتبوّأ منزله من الجنة فأقوام إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم تم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دخل بلد سلطانه. يبتدئ أولا بخدمة السّدّة العليّة ثم بعدها ينصرف إلى منزله.
وكذلك اليوم أمرنا «5» إذا أصبحنا كلّ يوم: ألا نشتغل بشىء حتى نفتتح النهار بالخطاب مع الحقّ قبل أن نخاطب المخلوق، نحضر بساط الخدمة- أي الصلاة- بل نحضر بساط الدنوّ والقربة، قال تعالى: «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» «6» : فالمصلّى مناج ربّه. ولو علم المصلّى من
__________
(1) يقصد حديث الحب وقصته
(2) الرواية الصحيحة «فلما دارت الكأس» .
(3) البيتان من المقطعة التي أنشدها الحلاج وهو يواجه مصرعه، وأولها:
نديمى غير منسوب ... إلى شىء من الخوف
(طبقات الشعراني ح 1 ص 120)
(4) هكذا في م وهى في ص (ضربت) ، وضرب في الأرض أي جال وسار، وقد أثبتنا (صوّبت) لتتلاءم مع الأفعال المضعفة طبقا لما نعرف من حرص القشيري على الموسيقى اللفظية.
(5) من هذا نفهم أن القشيري يكتب كتابه أو يمليه من أجل الصوفية، فضمير المتكلمين يدل على نوع من التخصيص.
(6) آية 19 سورة العلق.(3/66)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
يناجى ما التفت أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يمينا وشمالا في التسليم الذي هو التحليل «1» .
قوله جل ذكره: «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» .
عند ما انقلبت العصا حيّة ولّى موسى مدبرا ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول:
حديث أوّله تسليط ثعبان! من ذا يطيق أوّله؟!.
فقيل له: لا تخف يا موسى إن الذي يقدر أن يقلب العصا حية يقدر أن يخلق لك منها السلامة: «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» : ليس المقصود من هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطه على عدوّك، فهذه معجزتك إلى قومك، وآيتك على عدوّك.
ويقال: شتان بين نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام رجع من سماع الخطاب وأتى بثعبان سلّطه على عدوّه، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- رجع بعد ما أسرى به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى- ليوافى أمّته بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له:
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 32]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
قيل له: اسلك يدك في جيبك لأنّ المدرعة التي كانت عليه لم يكن لها كم.
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغى على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمّر، وأن يجدّ،
__________
(1) التحليل: الإباحة، والمقصود هنا أنه عقيب التسليم يحل له أن يخاطب الخلق وأن يشتغل بشىء بعد ما تمت مناجاته مع الحق، تلك المناجاة التي يؤثر القشيري دوامها واستمرارها. ومعلوم أن الصوفية إذا أنهوا صلاتهم يستمرون في الذكر والتأمل دون حدود. [.....](3/67)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وأن يخرج يده من كمّه. وإنه قال لموسى: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء، وألق عصاك نجعلها ثعبانا، بلا ضربك بها، وبلا استعمالك لها يا موسى: الأمر بنا لا بك، وأنا لا أنت.
«وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» : يا موسى، فى وصف خضوعك تجدنى، وبتبرّيك عن حولك وقوّتك تصل إليّ.
قوله جل ذكره
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
: تعلّل بكلّ وجه رجاء أن يعافى من مشقة التبليغ ومقاساة البلاء لأنه علم أنّ النبوة فيها مشقة، فلم يجد الرّخصة والإعفاء ممّا كلّف، وأجاب سؤله في أخيه حيث سأله أن يجعل له ردءا، وضمن لهما النصرة.
ثم إنهما لمّا أتيا فرعون قابلهما بالتكذيب والجحد «1» ، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر «2» ، وجاوباه «3» بالحجة، ودعواه إلى سواء المحجّة، فأبى إلّا الجحد.
قوله جل ذكره
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 40]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
ادّعى الانفراد بالإلهية فزاد في ضلاله على عبدة الأصنام الذين جعلوا أصنامهم شركاء، ثم قال لهامان: «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» وكان هذا من زيادة ضلاله،
__________
(1) (والجحد) موجودة في م وغير موجودة في ص.
(2) (والسحر) موجودة في ص وغير موجودة في م.
(3) هكذا في م وهي في ص (وحارباه) .(3/68)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
حيث توهّم أن المعبود من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه. ولعمرى لو كان في جهة لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه!.
«وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» أبى إلا أن يدوم جحوده، وعنوده، فأغرقه الله في البحر، كما أغرق قلبه في بحر الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 41]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41)
لا لشرفهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تلفهم قدّمهم في الخزي والهوان على كلّ أمة، ولكن لم يرشدوا إلّا إلى الضلال. ولم يدلّوا الخلق إلّا على المحال، وما حصلوا إلا على سوء الحال، وما ذاقوا إلا خزى الوبال. أفاضوا على متّبعيهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا فى خسّة «1» مطلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 42]
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
كانوا في الدنيا مبعدين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طرد إلى طرد، ومن هجر إلى بعد، ومن فراق إلى احتراق.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (خيبة)(3/69)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب، وأطيب المساكن ما كانت زينتها بفقد الرّقباء وغيبتهم، فلمّا أهلك الله فرعون وقومه، وأورث بنى إسرائيل أموالهم وديارهم، ومحا عن جميعها آثارهم- طاب لهم العيش وطلعت عليهم شموس السعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 44]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
لم تكن حاضرا فتعرف ذلك مشاهدة، ولكنهم رأوا أنّ إخبارك عنهم بحيث لا يكذبك كتابهم. وبالضرورة عرفوا حالك، وكيف أنّك لم تعلم هذا من أحد، ولا قرأته من كتاب، لأنّك أمّيّ لا تحسن القراءة، وإذا فليس إخبارك إلا بتعريفنا إياك، واطلاعنا لك على ذلك.
ويقال: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكلّمناه، وخاطبناه في بابك وباب أمّتك، ولم تقدح غيبتكم في الحال، وكونى لكم خير من كونكم لكم.
ويقال: لمّا خاطب موسى وكلّمه سأله موسى: إنّى أرى في التوراة أمّة صفتهم كذا وكذا.. من هم؟ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يجاب بأنّها أمة أحمد «1» ، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له: إنه ليس اليوم وقت ظهورهم، فإن شئت أسمعتك كلامهم، فأراد أن يسمع كلامنا، فنادانا وقال: يا أمة أحمد..، فأجاب الكلّ من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم ولم يدركهم «2» . والغنيّ إذا سأله فقير وأجابه لا يرضى بأن
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (أمة محمد) ، ونحسب أن الأرجح أن تكون أحمد طبقا للآية «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد»
(2) تنسب هذه الرواية إلى وهب (القرطبي ح 13 ص 292) .(3/70)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
يردّه من غير إحسان إليه. (وفي رواية عن ابن عباس) «1» أن الله قال: «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعونى وأعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى، ورحمتكم قبل أن تسترحمونى» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 45]
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
«2» ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذكر نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالجميل.
وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود محدث مخلوق وفي ذكره متعلق لا باستفتاح.
ولم نكن في العدم أعيانا، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة.
وذكرنا في الخطاب الأزليّ والكلام الصمديّ والقول الأبديّ.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى- وهو في الوجود والظهور- ناديناكم وأنتم في كتم العدم، أنشدوا:
كن لى كما كنت ... فى حال لم أكن
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)
__________
(1) أضفنا ما بين قوسين من عندنا لنكتب الرواية بكاملها فهى ناقصة في المتن.
(2) ثاويا «مقيما.. قال المجاج: فبات حيث يدخل الثوى: أي الضيف المقيم»(3/71)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
تمنوا في زمان الفترة أن يبعث الله إليهم رسولا ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسهم الإيمان والإجابة، فلمّا أتاهم الرسول كذّبوه، وقالوا: هلّا خصّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحا في غير موضع الحاجة، وتحكّما بعد إزاحة العلّة:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
ثم قال: أفلا تذكرون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر؟.
وقال: إن ارتبتم أنّ هذا الكتاب من عند الله فأتوا بكتاب مثله، واستعينوا بشركائكم. ومن وقته إلى يومنا هذا لم يأت أحد بسورة مثله، وإلى القيامة لا يأتون بكتاب مثله.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 51]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفرا وثبورا، وجحدا وعتوا.. فلا إلى الحقّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 52]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
من أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صدّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومن أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضلالته.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 53 الى 54]
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)(3/72)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بحسن الاستسلام، فلا جرم يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجلهم، مرة في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 55]
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
«اللَّغْوَ» : ما يلهى عن الله. ويقال «اللَّغْوَ» ما لا يوجب وسيلة عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقّ للحقّ، ويقال هو ما صدر عن قلب غافل، ويقال هو ما يوجب سماعه السّهو.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 56]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
«1» الهداية في الحقيقة إمالة القلب من الباطل إلى الحقّ، وذلك من خصائص قدرة الحقّ- سبحانه- وتطلق الهداية بمعنى الدعاء إلى الحق- توسّعا، وذلك جائز بل واجب فى صفته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «وإنك تهدى إلى صراط مستقيم» .
ويقال: لك شرف النبوّة، ومنزلة الرسالة، وجمال السفارة، والمقام المحمود، والحوض المورود، (وأنت سيد ولد آدم.. ولكنك لا تهدى من أحببت فخصائص الربوبية لا تصلح) «2» لمن وصفه البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 57]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
__________
(1) قال ابو إسحاق الزجاج: أجمع المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبى طالب حين أبى أن ينطق الشهادة وقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال الرسول (ص) : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك (أسباب النزول للواحدى ص 228)
(2) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.(3/73)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
قالوا نخاف الأعراب على أنفسنا إن صدّقناك، وآمنّا بك، (لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم) «1» فقال الله تعالى: وكيف تخافونهم وترون الله أظفركم على عدوّكم، وحكمنا بتعظيم بيتكم، وجعلنا مكة تجبى إليها ثمرات كل شىء من أقطار الدنيا؟
ويقال من قام بحقّ الله- سبحانه- سخّر له الكون بجملته، ومن اشتغل برعاية سرّه لله، وقام بحقّ الله، واستفرغ أوقاته في عبادة الله مكّن من التصرّف بهمته في مملكة الله فالخلق مسخّر له، والوقت طوع أمره، والحقّ- سبحانه- متول «2» أيامه وأعماله يحقّق ظنّه، ولا يضيّع حقّه.
أمّا الذي لا يطيعه فيهلك في أودية ضلاله، ويتيه «3» فى مفازات خزيه، ويبوء بوزر هواه.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 58]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أحوالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، فخرّوا في أودية الصغار على أذقانهم، وأذاقهم الله من كاسات الهوان ما كسر خمار بطرهم فأماكنهم منهم خالية، وسقوفها عليهم خاوية، وغربان الدمار فيها ناعية.
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في النص، ولكنها تتمه لسبب نزول الآية كما أورده الواحدي، حيث ذكر أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن عبد مناف الذي قال النبي (ص) : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن يمنعنا من اتباعك أنا نخاف.... إلخ (أسباب النزول الواحدي ص 228) .
(2) ومن هذا المنطلق يصدر القشيري رأيه فى (الولاية) وما يتصل بها من (الكرامة) .
(3) هكذا في الأصل وهي تحمل معنيين: التكبّر، والضلال في الأرض.(3/74)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 59]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
«وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» : بالتكليف يأمرهم. ويأمر التكوين- على ما يريد- يقفهم. وهو- سبحانه- يبعث الرسل إنذارا ويعمى السّبل عليهم اقتدارا يوضّح الحجة بحيث لا شبهة، ولكنه لا يهدى إلا من سبقت له السعادة بحكم القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 60]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
الدنيا حلوة خضرة، ولكنها في التحقيق مرّة مذرة «1» ، فبشرها يوهم أنها صفو ولكن من وراء صفوها حسو «2» ، وما عند الله خير وأبقى.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 61]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
«3» الدنيا سموم حنظلها تتلو طعوم عسلها، وتلف ما يحصل من شربها يغلب لطف ما يظهر
__________
(1) مذرت البيضة مذرا فسدت، فهى مذرة، ومذرت معدته أي خبثت وفسدت (الوسيط) . [.....]
(2) يقال يوم كحسو الطائر أي قصير جدا، ونوم كحسو الطائر أي قليل متقطع.
(3) عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في على وحمزة وأبى جهل.
وقال السدى: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة وقيل نزلت في النبي (ص) وأبى جهل.(3/75)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
من أربها، وليس من أكرم بوجدان نعيم عقباه كمن منى بالوقوع في جحيم دنياه قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 63]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)
إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل.. وإلّا فمن أين لهم الجواب فضلا عن الصواب! والذي يسألهم هو الذي على ما شاء جعلهم فما ورد فعل إلا على فعله، وما صدر ما صدر إلا من أصله. وإذ تبرّأ بعضهم من بعض بيّن أنه لم يكن للأصنام استحقاق العبودية، ولا لأحد من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداث ذرّة أو منه شظيّة..
كلا بل هو الواحد القهار.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 65]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
يسألهم سؤال هيبة فلا يبقى لهم تمييز، ولا قوة عقل، ولا مكنة جواب، قال جلّ ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 66]
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
إذ استولت عليهم الحيرة، واستمكن منهم الدهش فلا نطق ولا عقل ولا تمييز ولا فهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 67 الى 68]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)(3/76)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يختار ما يشاء ومن يشاء من جملة ما يخلق. ومن ليس إليه شىء من الخلق.
فما له والاختيار؟! الاختيار للحقّ استحقاق عزّ يوجب أن يكون ذلك له، لأنّه لو لم ينفّذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العزّ، فمن بقي عن مراده لا يكون إلّا ذليلا فالاختيار للحقّ نعت عزّ، والاختيار للخلق صفة نقص ونعت بلاء وقصور فاختيار العبد غير مبارك عليه لأنّه صفة هو غير مستحقّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح في نفسه، قال قائلهم:
ومعال إذا ادّعاها سواه ... لزمته جناية السّرّاق
والطينة إذا ادّعت ما هو صفة الحقّ أظهرت رعونتها، فما للإنسان والاختيار؟! وما للمملوك والملك؟! وما للعبيد والتصدّر في دست «1» الملوك؟! قال تعالى: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» «2» قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 69]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69)
ولم لا وقد قال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟ فالعلم- الذي لا يعزب عنه معلوم- نعت من لم يزل، والإبداع من العدم إلى الوجود يتفرّد بالقدرة عليه لم يزل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 70]
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» : توحّد بعزّ هيبته، وتفرّد بجلال ربوبيته، لا شبيه يساويه،
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب، أما في ص فقد وردت (درس) وهي خطأ في النسخ.
(2) واضح من مذهب القشيري شىء هام جدا أنه يقف عند (ويختار) وتكون (ما) فى هذه الحالة نافية، وهو بهذا ينسجم مع مذهب أهل السنة في أن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد.
أما الزمخشري فيرى (ما كان لهم الخيرة) بيانا لقوله (ويختار) ولهذا لم يدخل العاطف. ويرفض الطبري أن تكون (ما) نافية لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ويرد عليه بأن (ما) تصلح لنفى الحال والاستقبال.(3/77)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
ولا نظير يضاهيه. «لَهُ الْحَمْدُ» استحقاقا على عطيّته، وله الشكر استيجابا على نعمته ففى الدنيا المحمود الله، وفي العقبى المشكور الله فالإحسان من الله لأن السلطان لله، والنعمة من الله لأنّ الرحمة لله، والنصرة من الله لأنّ القدرة لله.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 71]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71)
إن دامت ليالى الفترة فمن الذي يأتى بنهار التوبة غير الله؟
وإن دامت ليالى الطّلب فمن الذي يأتى بصبح الوجود غير الله؟
وإن دامت ليالى القبض فمن الذي يأتى بصبح البسط غير الله؟
وإن دام ليل الفراق فمن الذي يأتى بصبح الوصال غير الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 72]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)
إن دام في الوصلة نهاركم فأيّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم؟
وإن دام نهار معاشكم ووقت اشتغالكم بحظوظكم فمن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه إلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع الله إلا الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 73]
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
__________
(1) منذ أشرقت على القشيري آية: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ..»
ولفظ الجلالة لا يكاد بغيب عنا في إشاراته، مما يدل- والله أعلم- على أن الرجل ذاكر أخذته حالة انمحاء فى المذكور.. وقد حرصنا أن نلفت نظر القارئ إلى هذا الملحظ ليشعر بالفرق بين المفسر التقليدى والمفسر الإشارى.. إن الكلمات هنا أشبه بالتسابيح الوافدة من عالم بعيد!(3/78)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
الأوقات ظروف لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال فالظروف من الزمان متجانسة، وإنما الاختلاف راجع إلى أعيان ما يحصل فيها فليالى أهل الوصال سادات الليالى، وليالى أهل الفراق أسوأ الليالى فأهل القرب لياليهم قصار وكذلك أيامهم، وأرباب الفراق لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم:
والليالى إذا نأيت طوال ... وأراها إذا دنوت قصار
وقال آخر:
والليل أطول وقت حين أفقدها ... والليل أقصر وقت حين ألقاها
وقال ثالث:
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وحول نلتقى فيه- قصير
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
كلا.. لا حجّة لهم، ولا جواب يعذرهم، ولا شفيع يرحمهم، ولا ناصر يعينهم.
اشتهرت ضلالتهم، واتضحت للكافة جهالتهم فدام بهم عذاب الأبد، وحاق بهم وبال السّرمد.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 76]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
جاء في القصص أنه كان ابن عمّ موسى، وكان من أعبد بنى إسرائيل، وكان قد اعتزل الناس، وانفرد في صومعته يتعبّد، فتصوّر له إبليس في صورة بشر، وأخذ في الظاهر يتعبّد معه في صومعته حتى تعجّب قارون من كثرة عبادته، فقال له يوما: لسنا في شىء عيوننا(3/79)
على أيدى الناس حتى يدفعوا إلينا شيئا هو ضرورتنا، ولا بدّ لنا من أخذه، فقال له قارون:
وكيف يجب أن نفعله؟
فقال له: أن ندخل في الأسبوع يوما السوق، ونكتسب، وننفق ذلك القدر في الأسبوع، فأجابه إليه. فكانا يحضران السوق في الأسبوع يوما، ثم قال له: لست أنا وأنت فى شىء، فقال: وما الذي يجب أن نعمله؟
فقال له: نكتسب في الأسبوع يوما لأنفسنا، ويوما نكتسب ونتصدّق به، فأجابه إليه.
ثم قال له يوما آخر: لسنا في شىء، فقال: وما ذاك؟
قال: إن مرضنا أو وقع لنا شغل لا نملك قوت يوم، فقال: وما نفعل؟
قال: نكتسب في الأسبوع ثلاثة أيام يوما للنفقة ويوما للصدقة ويوما للادخار، فأجابه إليه.. فلمّا علم أن حبّ الدنيا استمكن من قلبه ودّعه، وقال:
إنّى مفارقك.. فدم على ما أنت عليه، فصار من أمره وماله ما صار، وحمله حبّ الدنيا على جمعها، وحمله جمعها على حبّها، وحمله حبّها على البنى عليهم، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، وكم وعظ بترك الفرح بوجود الدنيا، وبترك الاستمتاع بها! وكان لا يأبى إلّا ضلالا.
ويقال خسف الله به الأرض بدعاء موسى عليه السلام، فقد كان موسى يقول:
يا أرض خذيه.. وبينما كانت الأرض تخسف به كان يستعين بموسى بحقّ القرابة، ولكن موسى كان يقول: يا أرض خذيه.
وفيما أوحى الله إلى موسى: لقد ناداك بحقّ القرابة وأنت تقول: يا أرض خذيه! وأنا أقول: يا عبد، نادنى فأنا أقرب منه إليك، ولكنه لم يقل.
وفي القصة أنه كان يخسف به كل يوم بزيادة معلومة، فلمّا حبس الله يونس في بطن الحوت أمر الحوت أن يطوف به في البحار لئلا يضيق قلب يونس، حتى انتهى إلى قارون، فسأله قارون عن موسى وحاله، فأوحى الله إلى الملك:(3/80)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
لا تزد في خسفه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه، ووصل به رحمه «1» قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 77]
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
وعظ من حرم القبول كمثل البذر في الأرض السّبخة ولذا لم ينفعه نصحهم إياه، ولم يكن للقبول فيه مساغ.
«وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» : ليس النصيب من الدنيا جمعها ولا منعها، إنما النصيب منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يعقب ندما، ولا يوجب في الآخرة عقوبة ويقال النصيب من الدنيا ما يحمل على طاعته بالنّفس، وعلى معرفته بالقلب، وعلى ذكره باللسان، وعلى مشاهدته بالسّرّ.
«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» : إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله لأنّ الكافر لا حسنة له. والآية تدل على أن لله على الكافر نعما دنيوية.
والإحسان الذي أمر به إنفاق النعمة في وجوه الطاعة والخدمة، ومقابلته بالشكران لا بالكفران.
ويقال الإحسان رؤية الفضل دون توهّم الاستحقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
ما لا حظ أحد نفسه إلا هلك بإعجابه.
ويقال السّمّ القاتل، والذي يطفئ السراج المضيء النظر إلى النّفس بعين الإثبات،
__________
(1) الواقع أن القصص والأخبار والروايات التي تدور حول موضوعات سورة القصص كثيرة جدا، خصوصا عند ابن عباس ومدرسته، ولكن الملاحظ أن القشيري يختار منها- فى ظلال القرآن- عينات خاصة تحقق مقاصده البعيدة من أجل إبراز الموضوعات الصوفية سواء من ناحية الرياضات أو المجاهدات أو من ناحية الأذواق والأحوال.(3/81)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
وتوهّم أنّ منك شيئا من النفي أو الإثبات «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
تمنّى من رآه ممّن كان في حبّ الدنيا ساواه أن يعطيه الله مثل ما أعطاه.
أمّا من كان صاحيا عن خمار غفلته، متيقّظا بنور بصيرته فكان موقفهم: - «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» وبعد أن كان ما كان، وخسفنا به وبداره الأرض قال هؤلاء:
«لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» منّ الله علينا فلم ننجرف في نهجه، ولم ننخرط في سلكه، وإذا لوقع بنا الهلاك.
أمّا المتمنّون مكانه فقد ندموا، وأمّا الراضون بقسمته- سبحانه- فقد سلموا سلموا في العاجل إلى أن تظهر سعادتهم في الآجل.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 83]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
قيل «العلو في الدنيا» أن تتوهّم أنّ على البسيطة أحدا هو شرّ منك.
و «الفساد» أن تتحرك لحظّ نفسك ونصيبك ولو بنفس أو خطوة.. وهذا للأكابر،
__________
(1) هذه نظرة عامة نجدها عند جميع الصوفية ولكنها أصل هام في تعاليم أهل الملامة تترتب عليه مناهج فى السلوك.(3/82)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
فأمّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» كعلوّ فرعون «وَلا فَساداً» كفساد قارون «1» .
ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض علوّا، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة علوّا.
ويقال «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» للعبّاد والزّهاد، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 84]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
ثواب الحسنة في التضعيف، وأمر السيئة بناؤه على التخفيف.
والمؤمن- وإن كان صاحب كبائر- فسيئاته تقصر في جنب حسناته التي هي إيمانه ومعرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 85]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)
«لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» : فى الظاهر إلى مكة.. وكان يقول كثيرا: «الوطن الوطن» «2» ، فحقّق الله سؤله. وأمّا في السّرّ والإشارة فإنه «فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي يسّر لك قراءة القرآن، والمعاد هو الوصف الذي كانت عليه روحك قبل حلول شجّك «3» من ملادغات القرب ومطالعات الحقّ.
__________
(1) أحسن القشيري إذ جعل وظيفة هذه الآية التعقيب على القصتين السابقتين فأبان تماسك الأسلوب القرآنى.
(2) ولهذا يرى ابن عباس أن هذه الآية لا مكية ولا مدنية وإنما نزلت في الجحفة.
(3) هكذا في النسختين، فإن صحت في النقل من الأصل فربما كان المقصود (ما أصابك من جراحات الحب) ، ويتأيد فهمنا بما يلى ذلك وربما كانت (شجنك) أي لوعة حبك- والله أعلم.(3/83)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادّك إلى عين الجمع بالتحقّق بالحقّ والفناء عن الخلق.
ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 86]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)
ما كنت تؤمّل محلّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك، ولا ما أظهرنا عليك من أحوال الوجد وحقائق التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 87]
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
لا يصدنّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذّوب والشهود، والإدراك والوجود. لا تتداخلنّك تهمة التجويز وسؤالات العلماء بما يدّعون من أحكام العقول فما يدرك في شعاع الشمس لا يحكم ببطلانه خفاؤه في نور السراج.
قوله جل ذكره:
[سورة القصص (28) : آية 88]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
كلّ عمل باطل إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله.
كلّ حيّ ميت إلا هو، قال تعالى: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ» : أي مات فكلّ شىء معدّ لجواز الهلاك والعدم، ولا يبقى إلا «وَجْهَهُ» : ووجهه صفة من صفاته لا تستقل إلا به،(3/84)
فإذا يقى وجهه فمن شرط بقاء وجهه بقاء ذاته لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود، ولا يكون هو باقيا إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له ففى بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته.
وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يعرف وجوب وجهه إلا بالخبر والنقل دون «1» العقل فخصّ الوجه بالذكر لأنّ في بقاء الوجه بقاء الحقّ بصفاته.
__________
(1) هكذا في م أما في ص فهى (نور) ، وتأويل الوجه على أنه صفة فيه رد على المشبهة.(3/85)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
السورة التي يذكر فيها العنكبوت
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله اسم يوجب حظوة العابدين وعدا، وسماعه يوجب سلوة الواجدين نقدا «1» .
اسم من ذكره وصل إلى مثوبته في آجله، ومن سمعه «2» حظى بقربته في عاجله.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)
«الألف» إشارة إلى تفرّده عن كل غير بوجه الغنى، وباحتياج كل شىء إليه كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرف.
«واللام» تشير إلى معنى أنه ما من حرف إلا وفي آخره صورة تعويج ما، واللام أقرب الحروف شبها بالألف- فهى منتصبة القامة مثلها، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شىء ولكن اللام تتصل بغيرها- فلا جرم لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام.
أمّا «الميم» فالإشارة فيه إلى الحرف «من» فمن الربّ الخلق، ومن العبد خدمة الحق، ومن الربّ الطّول والفضل ...
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا..» بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى، وهذا لا يكون، فقيمة كلّ أحد ببلواه، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه فعلى النفوس بلاء وهو
__________
(1) النقد مكافاة في الدنيا وهي المواصلات والمكاشفات، والوعد مكافأة في الآخرة وهي الجنة.
(2) المقصود بالسماع هنا ما يوجب الهيمان.(3/86)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل. وعلى القلوب بلاء وهو مطالبتها بالطلب والفكر الصادق بتطلّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم. وعلى الأرواح بلاء وهو التجرّد عن محبة كلّ أحد والتفرّد عن كل سبب، والتباعد عن كل المساكنة لشىء من المخلوقات. وعلى الأسرار بلاء وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلّى إلى أن تصير مستهلكا فيه.
ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول فى أوان المشاهدات. وأشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجرى عليك مكر في أوقات غلبات شاهد الحقّ فيظن أنه الحق، ولا يدرى أنّه من الحقّ، وأنّه لا يقال إنّه الحقّ- وعزيز من يهتدى إلى ذلك «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 3]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
لم يخلهم من البلاء والمحن ليظهر صبرهم في البلاء أو ضدّه من الضجر، وشكرهم فى الرخاء أو ضدة من الكفر والبطر. وهم في البلاء ضروب: فمنهم من يصبر في حال البلاء، ويشكر في حال النّعماء.. وهذة صفة الصادقين. ومنهم من يضجّ ولا يصبر في البلاء، ولا يشكر في النعماء.. فهو من الكاذبين. ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ألّا يستمتع بالعطاء، وبستروح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضّرّ والعناء.. وهذا أجلّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 4]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
يرتكبون المخالفات ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة.. ساء حكمهم! فمتى ينجو من العذاب من ألقى جلباب التّقى؟! ويقال توهموا أنه لا حشر ولا نشر، ولا محاسبة ولا مطالبة.
ويقال اغتروا بإمهالنا اليوم، وتوهّموا أنهم منّا قد أفتلوا، وظنوا أنهم قد أمنوا.
__________
(1) يفيد هذا الكلام عند البحث في قضية الحلاج الذي قال وهو غائب في غلبات الشهود: «أنا الحق» [.....](3/87)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئات أن جرى التقدير لهم بالسعادة، وأنّ ذلك يؤخر حكمنا.. كلا، فلا يشقى من جرت قستنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول من سبق له الحكم بالشقاوة! قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 5]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
من خاف عذابه يوم الحساب فسيلقى يوم الحشر الأمان الموعود منّا لأهل الخوف اليوم. ومن أمّل الثواب يوم البعث فسوف يرى ثواب ما أسلفه من العمل. ومن زجّى عمره في رجاء لقائنا فسوف نبيح له النّظر إلينا، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة.
«وَهُوَ السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين المحبين الوالهين.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 6]
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)
من أحسن فنجاة نفسه طلبها، وسعادة حالة حصّلها. ومن أساء فعقوبة نفسه جلبها، وشقاوة جدّه اكتسبها.
ويقال ثواب المطيعين إليهم مصروف، وعذاب العاصين عليهم موقوف.. والحقّ عزيز لا يلحقه بالوفاق زين، ولا يمسّه من الشّقاق شين..
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 7 الى 8]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
من رفع إلينا خطوة نال منّا خطوة، ومن ترك فينا شهوة وجد منّا صفوة، فنصيبهم من الخيرات موفور، وعملهم في الزلّات مغفور.. بذلك أجرينا سنّتنا، وهو متناول حكمنا وقضيتنا.
قوله جل ذكره: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» .(3/88)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
أمر الله العباد برعاية حقّ الوالدين تنبيها على عظم حق التربية. وإذا كانت تربية الوالدين- وهي إن حسنت- فالى حدّ يوجب رعايتهما فما الظنّ برعاية حق الله تعالى، والإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصّه به من قبل ومن بعد؟! قوله جل ذكره: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
إن جاهداك على أن تشرك بالله فإياك أن تطيعهما، ولكن ردّ بلطف، وخالف برفق.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 9]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم، فإن المعهود من سنّتنا إلحاق الشكل بشكله، وإجراء المثل على حكم مثله.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)
...
المحن تظهر جواهر الرجال، وهي تدلّ على قيمهم وأقدارهم فقدر كلّ أحد وقيمته يظهر عند محنته فمن كانت محنته من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها، أو كانت محنته بموت قريب من الناس، أو فقد حبيب من الخلق فحقير قدره، وكثير في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله فعزيز قدره، وقليل من كان مثله، فهم في العدد قليل ولكن في القدر والخطر جليل: وبقدر الوقوف في البلاء تظهر جواهر الرجال، وتصفو عن الخبث نفوسهم.
والمؤمن من يكفّ الأذى، ويتحمل من الخلق الأذى، ويتشرب ولا يترشح بغير(3/89)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
شكوى ولا إظهار كالأرض يلقى عليها كلّ خبيث فتنبت كلّ خضرة وكل نزهة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 11]
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 12]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
ضمنوا بما لم يفوا به، وأخلفوا فيما وعدوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئا، بل زادوا على حمل نفوسهم فاحتقبوا وزر ما عملوا، وطولبوا بوزر ما به أمروا «2» ، فضاعف عليهم العقوبة، ولم يصل أحد من جهتهم إلى راحة، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 13]
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وسيلحق بهؤلاء أصحاب الدعاوى والمتشبّهون بأهل الحقائق:
من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان ما يدّعيه
وقال تعالى: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «3» .. وهيهات هيهات!
__________
(1) القشيري هنا مستفيد من قول الجنيد: (الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح) الرسالة ص 139.
(2) رأينا بناء (أمروا) المعلوم حتى يتضح أن وزرهم أشد نتيجة قولهم الذين آمنوا: (اتبعوا سبيلنا) فالداعى إلى السوء يحمل وزر نفسه ووزر من يقتدى به. ومن الجائز أن تبنى المجهول فتكون (أمروا) ولكن المعنى يكون أقل تأثيرا وأداء.
(3) آية 111 سورة البقرة.(3/90)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
الآية ما زادهم طول مقامه فيهم إلا شكا في أمره، وجهلا بحاله، ومرية في صدقه، ولم يزدد نوح- عليه السلام- لهم إلّا نصحا، وفي الله إلا صبرا. ولقد عرّفه الله أنه لن يؤمن منهم إلا الشّر ذمة اليسيرة الذين كانوا قد آمنوا، وأمره باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحدا، وصدق وعده، ونصر عبده.. فلا تبديل لسنّته في نصرة دينه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 16]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
كرّر ذكر ابراهيم في هذا الموضع، وكيف أقام على قومه الحجّة، وأرشدهم إلى سواء المحجة، ولكنهم أصروا على ما جحدوا، وتعصبوا لما من الأصنام عبدوا، وكادوا لابراهيم كيدا.. ولكن انقلب ذلك عليهم من الله مكرا بهم واستدراجا. ولم ينجع فيهم نصحه، ولا وجد منهم مساغا وعظه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 17]
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
لا يدرى أيهما أقبح.. هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم- فيما تزعمون كذبا- عن هذه الجمادات؟ وهي لا تملك لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا، ولا تملك لكم خيرا ولا شرا، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك.(3/91)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
وبيّن أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق «1» فقال:
«فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ» لتصلوا إلى خير الدارين.
وابتغاء الرزق من الله إدامة الصلاة فإن الصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى:
«وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «2» ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى الله تعالى فى استجلاب الرزق.
وفي الآية تقديم لابتغاء الرزق على الأمر بالعبادة لأنه لا يمكنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر فبالقوة يمكنه أداء العبادة، وبالرزق يجد القوة، قالوا:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... فمكروه ما يلقى يكون جزاؤه
«وَاشْكُرُوا لَهُ» : حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 18]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
وبال التكذيب عائد على المكذّب، وليس على الرسول- بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كى يكون مبيّنا- شىء آخر. وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام.
وفيما حلّ بالمكذّبين من العقوبة ما ينبغى أن يكون عبرة لمن بعدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 19]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
__________
(1) فالعبادة الخالصة علامتها أن تكون خالصة للمعبود بلا تطلع لعوض أو غرض والغيبة عن أي (وارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب) الرسالة ص 40.
(2) آية 132 سورة طه.
(3) عنى القشيري بتوضيح النسق في الأسلوب القرآنى حين ناقش ترتيب الكلام على نحو مقنع أخاذ.(3/92)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
الذي داخلهم فيه الشّكّ كان بعث الخلق، فاحتجّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السّنة بعد تقضّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وبيّن أن جمع أجزاء المكلّفين بعد انقضاض البنية كإعادة فصول السنة فكما أن ذلك سائغ في قدرته غير مستنكر فكذلك بعث الخلق.
وكما في فصول السنة تتكرر أحوال العبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس، ثم زوالها، إلى موالاة الطاعات، ثم حصول الفترة، والعود إلى مثل الحالة الأولى، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة.. كذلك تتكرر عليهم الأحوال.
وأرباب القلوب تتعاقب أحوالهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأنس، ثم في التجلي والسّتر، ثم في البقاء والفناء، ثم في السكر «1» والصحو.. وأمثال هذا كثير. وفي هذا المعنى قوله:
[سورة العنكبوت (29) : آية 20]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا:
كلّ نهر فيه ماء قد جرى ... فإليه الماء يوما سيعود
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 21]
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
أجناس ما يعذّب به عباده وأنواع ما يرجم به عباده.. لا نهاية لها ولا حصر فمن ذلك أنه يعذّب من يشاء بالخذلان، ويرحم من يشاء بالإيمان. يعذّب من يشاء بالجحود والعنود،
__________
(1) وردت في ص (الشك) وفي م (السكر) والصواب هذه لأنها تلاثم السياق.. فالسكر والصحو حالان من أحوال الفناء.(3/93)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود. يعذب من يشاء بالحرص ويرحم من يشاء بالقناعة.
يعذّب من يشاء بتفرقة الهمّ ويرحم من يشاء بجمع الهمّة. يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير. يعذب من يشاء بالاختيار من نفسه، ويرحم من يشاء برضاه بحكم ربّه. يعذب من يشاء بإعراضه عنه، ويرحم من يشاء بإقباله عليه. يعذب من يشاء بأن يكله ونفسه، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحسن تولّيه.
يعذب من يشاء بحبّ الدنيا ويمنعها عنه، ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبسطها عليه.
يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة ...
وأمثال هذا كثير.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 22]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22)
نقلّب الجملة في القبضة، ونجرى عليهم أحكام التقدير: جحدوا أم وحّدوا، أقبلوا أم أعرضوا.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 23]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
تعجلت عقوبتهم بأن يئسوا من رحمته.. ولا عقوبة أشدّ من هذا.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 24]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
لمّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد، والسفاهة والتوبيخ، والله تعالى صرف عنه كيدهم، وكفاه مكرهم، وأفلج عليهم عليهم حجّته «1» ،
__________
(1) أفلج الله عليهم حجته أي أظهرها وأثبتها.(3/94)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
وأظهر للكافة عجزهم، وأخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللّعن والطرد، وفنون الهوان والخزي.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 26]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
لا تصحّ الهجرة إلى الله إلّا بالتبرّى- بالكمال- بالقلب عن غير الله. والهجرة بالنّفس يسيرة بالإضافة إلى الهجرة بالقلب- وهي هجرة الخواص وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجمع. والجمع بين التعريج في أوطان التفرقة والكون في مشاهد الجمع متناف «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 27]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
لمّا لم يجب قومه، وبذل لهم النصح «2» ، ولم يدّخر عنهم شيئا من الشفقة- حقّق الله مراده في نسله، فوهب له أولاده، وبارك فيهم، وجعل في ذريته الكتاب والنبوة، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالهم للقبول، وأحوالهم للإقبال عليها، ونفوسهم للقيام بعبادته، وأسرارهم لمشاهدته، وقلوبهم لمعرفته.
«وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» للدنوّ والزلفة والتخصيص بالقربة.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 29]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) .
__________
(1) ما يكون كسبا للعبد وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع فإثبات الخلق من باب التفرقة وإثبات الحق من نعت الجمع (الرسالة ص 38) .
(2) فى ص زاد الناسخ (فى أوطان) وهي غير موجودة في م والسياق يستغنى عنها.(3/95)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
لامهم على خصلتهم الشنعاء، وما كانوا يتعاطونه على الله من الاجتراء، وما يضيّعونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفسّاق مع فسقهم، وترك القبض على أيديهم، وقلة الاحتشام من اطّلاع الناس على قبائح أعمالهم. ومن ذلك قلة احترام الشيوخ والأكابر، ومنها التسويف في التوبة، ومنها التفاخر بالزلّة.
فما كان جوابهم إلا استعجال العقوبة، فحلّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
التبس على إبراهيم أمرهم فظنّهم أضيافا فتكلّف لهم تقديم العجل الحنيذ جريا على سنّته فى إكرام الضيف. فلما أخبروه مقصودهم من إهلاك قوم لوط تكلّم في باب لوط ... إلى أن قالوا: إنّا منجّوه. وكان ذلك دليلا على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط- وإن كان بريئا- لم يكن ظلما إذ لو كان قبيحا لما كان إبراهيم عليه السلام- مع وفرة علمه- يشكل عليه حتى كان يجادل عنه. بل لله أن يعذّب من يعذّب، ويعافى من يعافى «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 33]
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)
لمّا أن رآهم لوط ضاق بهم قلبه لأنه لم يعلم أنهم ملائكة، فخاف عليهم من فساد قومه فكان ضيق قلبه لأجل الله- سبحانه، فأخبروه بأنهم ملائكة، وأنّ قومه لن يصلوا إليهم، فعند ذلك سكن قلبه، وزال ضيق صدره.
__________
(1) أي أبرأه من العلل والبلايا وأصحّه.(3/96)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
ويقال أقرب ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدّ عليه البلاء فعند ذلك يكون زوال البلاء، لأنه يصير مضطّرا، والله سبحانه وعد المضطرين وشيك الاجابة «1» . كذلك كان لوط في تلك الليلة، فقد ضاق بهم ذرعا ثم لم يلبث أن وجد الخلاص من ضيقه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 35]
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
فمن أراد الاعتبار فله في قصتها عبرة.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
الآيات.
ذكر قصة شعيب وقصة عاد وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون.. وكلهم نسج بعضهم على منوال بعض، وسلك مسلكهم، ولم يقبلوا النصح، ولم يبالوا بمخالفة رسلهم، ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاء لسنّته في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 41]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
العنكبوت يتخذ لنفسه بيتا، ولكن كلما زاد نسجا في بيته ازداد بعدا في الخروج منه فهو بينى ولكن على نفسه بينى.. كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجنى.
وبيت العنكبوت أكثره في الزوايا من الجدران، كذلك الكافر أمره على التّقيّة «2» والكتمان، وأمّا المؤمن فظاهر المعاملة، لا يستر ولا يدخمس «3» .
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ» آية 62 سورة النمل.
(2) التقية عند بعض الفرق الإسلامية معناها إخفاء الحق ومصانعة الناس في غير دولتهم.
(3) دخمس عليه لم يبيّن له ما يريد، ودخمس الشيء ستره. [.....](3/97)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
وبيت العنكبوت أوهن البيوت لأنه بلا أساس ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أدون «1» دفع.. كذلك الكافر لا أصل لشأنه، ولا أساس لبنيانه، يرى شيئا ولكن بالتخييل، فأمّا في التحقيق.. فلا.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 43]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
الكلّ يشتركون في سماع الأمثال، ولكن لا يصغى إليها من كان نفور القلب، كنود الحال، متعودا الكسل، معرّجا في أوطان الفشل.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 44]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
«بِالْحَقِّ» : أي بالقول الحق والأمر الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر، أي على معنى ينبغى للمؤمن أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر، كقوله: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي ينبغى للمؤمن أن يتوكل على الله، فإن قدّر أن واحدا منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الايمان- كذلك من لم ينته عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة.
ويقال بل الصلاة الحقيقة ما تكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر فإن لم يكن من العبد انتهاء فالصلاة ناهية على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل، ولكنه يصرّ ولا يطيع تلك الخواطر.
__________
(1) أي على أضعف دفع(3/98)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر. فإن كان- وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها ويقال الفحشاء هي الدنيا، والمنكر هو النّفس.
ويقال الفحشاء هي المعاصي، والمنكر هو الحظوظ.
ويقال الفحشاء الأعمال، والمنكر حسبان النجاة بها، وقيل ملاحظته الأعواض عليها، والسرور والفرح بمدح الناس لها.
ويقال الفحشاء رؤيتها، والمنكر طلب العوض عليها.
«وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» «1» : ذكر الله أكبر من ذكر المخلوقين لأن ذكره قديم وذكر الخلق محدث.
ويقال ذكر العبد لله أكبر من ذكره للأشياء الأخرى لأن ذكره لله طاعة، وذكره لغيره لا يكون طاعة.
ويقال ولذكر الله لك أكبر من ذكرك له.
ويقال ذكره لك بالسعادة أكبر من ذكرك له بالعبادة.
ويقال ذكر الله أكبر من أن تبقى معه وحشة.
ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للذاكر معه ذكر مخلوق.
ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للزّلة معلوما أو مرسوما.
ويقال ذكر الله أكبر من أن يعيش أحد من المخلوقين بغيره.
ويقال ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطانا فلحرمة ذكره زلّات الذاكر مغفورة، وعيوبه مستورة.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
__________
(1) رأى القشيري فى «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» ، ليس فيه كما يلحظ القارئ تقليل من قيمة الصلاة العادية التي وردت في الآية نفسها، كما قد يدعى بعض من يتهمون الصوفية بأنهم يرفعون «ذكرهم» ويخفضون قيمة «الصلاة» وبالتالى لأ يأبهون بها-.. وهذا- كما هو واضح- اتهام باطل.(3/99)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
ينبغى أن يكون منك للخصم تبيين، وفي خطابك تليين، وفي قبول الحق إنصاف، واعتقاد النصرة- لما رآه صحيحا- بالحجة، وترك الميل إلى الشيء بالهوى.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 47]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)
يعنى أنهم على أنواع: فمرحومّ نظرنا إليه بالعناية، ومحروم وسمناه بالشقاوة.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 48]
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
أي تجرّد قلبك عن المعلومات، وتقدّس سرّك عن المرسومات، فصادفك من غير ممازجة طبع ومشاركة كسب وتكلف بشرية «1» ، فلما خلا قلبك وسرّك عن كل معلوم ومرسوم ورد عليك خطابنا وتفهيمنا غير مقرون بهما ما ليس منّا.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 49]
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته فقانون «2» الحقائق قلوبهم، وكلّ شىء يطلب من موطنه
__________
(1) أي أن هذه الآفات تلحق علوم الإنسان حينما لا تكون خالصة.
(2) من معانى كلمة (القانون) طريق الشيء وأصله.(3/100)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
ومحله فالدرّ يطلب من الصدف لأن ذلك مسكنه، والشمس تطلب من البروج لأنها مطلعها، والشهد يطلب من النحل لأنه عشه. كذلك المعرفة «1» تطلب من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ( ... ) «2»
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 51]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
خفيت عليهم حالتك- يا محمد- فطالبوك بإقامة الشواهد، وقالوا: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ ... » أولم يكفهم ما أوضحنا عليك من السبيل، وألحنا لك من الدليل يتلى عليهم ذلك، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشىء من مثله؟! هذا هو الجحود وغاية الكنود! قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 52]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
أنا على حقّ والله- سبحانه- يعلمه، وأنتم لستم على حق والله يعلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 53]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53)
لولا أنى ضربت لكلّ شىء أجلا لعجّلت لهم ذلك، وليأتينّهم العذاب- حين يأتيهم- بغتة وفجأة.
__________
(1) ورد في ص بعد كلمة المعرفة (وصف الحق) وربما كانت (بوصف الحق) وهي غير موجودة في م، ونرجح أنها موجودة في الأصل بدليل اقتران الضمير ب (خواصه) .
(2) فى ص (توقع نسخة توحيده) وفي م (يرفع نسخة توحيده) وكلاهما غامض في الكتابة وإن كنا نستطيع أن نفهم أن التوحيد- وهو أقصى درجات المعرفة- محله قلوب الخواص.(3/101)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 55]
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
وإذا أحاطت بهم في جهم سرادقات العذاب فلا صريخ لهم، كذلك- اليوم- من أحاط به العذاب من فوقه اللّعن ومن تحته الخسف، ومن حوله الخزي، ويلبس لباس الخذلان، ويوسم بكيّ الحرمان، ويسقى شراب القنوط، ويتوّج بتاج الخيبة، ويقيّد بقيد السّخط، ويغلّ بغلّ العداوة، فهم يسحبون في جهنم الفراق حكما، إلى أن يلقوا في جحيم الاحتراق عينا.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 56]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
الدنيا أوسع رقعة من أن يضيق بمريد مكان، فإذا نبا به منزل- لوجه من الوجوه- إمّا لمعلوم حصل، أو لقبول من الناس، أو جاه، أو لعلاقة أو لقريب أو لبلاء ضدّ، أو لوجه من الوجوه الضارة ... فسبيله أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره، كما قالوا «1» :
وإذا ما جفيت كنت حريّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسى
وكذلك العارف إذا لم يوافق وقته مكان انتقل إلى غيره من الأماكن «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 57]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)
إذا كان الأمر كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور فسبيل المؤمن أن يوطّن نفسه
__________
(1) البحنرى في السينية.
(2) تعبر هذه الفقرة عن رأى القشيري فيما يعرف عند الصوفية (بالسّفر) فهو يجيزه للعارف، أما بالنسبة للمريد فإنه يرى عدم السفر لأن ثبات المريد في مكان به ابتلاء هروب من مواجهة الابتلاء وذلك آية ضعف في الإرادة:
(ومن آداب المريد بل من فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وألا يسافر قبل أن تقبله الطريق وقبل الوصول بالقلب إلى الرب، فإن السفر للمريد في غير وقتله سم قاتل (الرسالة ص 200) .(3/102)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
على الخروج مستعدا له، ثم إذا لم يحصل الأجل فلا يستعجل، وإذا حضر فلا يستثقل، ويكون بحكم الوقت، كما قالوا:
لو قال لى مت متّ سمعا وطاعة ... وقلت لداعى الموت: أهلا ومرحبا
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 الى 60]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
هم- اليوم- فى غرف معارفهم على أسرّة وصلهم، متوّجون بتيجان سيادتهم، يسقون كاسات الوجد، ويجبرون في جنان القرب، وعدا كما قال: - «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» والصبر الوقوف مع الله بشرط سقوط الفكرة.
الصبر العكوف في أوطان الوفاء، الصبر حبس النّفس على فطامها.
الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس.
الصبر صفة توجب معيّة الحقّ.. وأعزز بها! وأول الصبر تصبّر بتكلف، ثم صبر بسهولة، ثم اصطبار وهو ممزوج بالراحة، ثم تحقّق بوصف الرضا فيصير العبد فيه محمولا بعد أن كان متحمّلا.
والتوكل انتظار مع استبشار، والتوكل سكون السّرّ إلى الله، التوكل استقلال بحقيقة التوكل فلا تتبرّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك. التوكل إعراض القلب عن غير الربّ.
قوله جل ذكره: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(3/103)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
«لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» أي لا تدخره، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فالله يرزقه من غير مقاساة تعب منه.
ويقال «لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم، وليس لها بيت تجمع فيه القوت، وليس لها خازن ولا وكيل.. الله يرزقها وإياكم.
ويقال إرادة الله في أن يستبقيك ولا يقبض روحك أقوى وأتمّ وأكبر من تعنّيك لأجل بقائك.. فلا ينبغى أن يكون اهتمامك بسبب عيشك أتمّ وأكبر من تدبير صانعك لأجل بقائك.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 61]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
إذا سئلوا عن الخالق أقروا بالله، وإذا سئلوا عن الرزاق لم يستقروا مع الله.. هذه مناقضة ظاهرة! قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 62]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
الرزق على قسمين: رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام، والناس فيهم مرزوق ومرفه عليه، وفيهم مرزوق ولكن مضيّق عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)(3/104)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
كما علموا أنّ حياة الأرض بعد موتها بالمطر من قبل الله فليعلموا أنّ حياة النفوس بعد موتها- عند النّشر والبعث- بقدرة الله. وكما علموا ذلك فليعلموا أنّ حياة الأوقات بعد نفرتها، وحياة القلوب بعد فترتها ... بماء الرحمة بالله.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 64]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
الدنيا كالأحلام، وعند الخروج منها انتباه من النوم. والآخرة هنالك العيش بكماله، والتخلص- من الوحشة- بتمامه ودوامه.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 65]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
الإخلاص تفريغ القلب عن الكلّ، والثقة بأن الإخلاص ليس إلا به- سبحانه، والتحقق بأنه لا يستكبر حالا في المحمودات ولا في المذمومات، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين. وإذا توالت عليهم الضرورات، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا الله متضرعين (فإذا كشف الضّرّ عنهم عادوا إلى الغفلة، ونسوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل) «1» :
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسه
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 67]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
منّ عليهم بدفع المحن عنهم وكون الحرم آمنا. وذكّرهم عظيم إحسانه عليهم، ثم إعراضهم عن شكر ذلك.
__________
(1) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص، والسياق يتطلبه لأن الشاهد الشعرى الموجود فى النسختين يؤيد معناه.(3/105)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 68]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
أي لا أحد أشدّ ظلما ممن افترى على الله الكذب، وعدل عن الصدق، وآثر البهتان ولم يتصرف بالتحقق، أولئك هم السّقّاط في الدنيا والآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الذين زيّنوا ظواهرهم بالمجاهدات حسنت سرائرهم بالمشاهدات. الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف. الذين قاسوا فينا التعب من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات.
ويقال الجهاد فيه: أولا بترك المحرّمات، ثم بترك الشّبهات، ثم بترك الفضلات، ثم بقطع العلاقات، والتنقّى من الشواغل في جميع الأوقات.
ويقال بحفظ الحواسّ لله، وبعدّ الأنفاس مع الله.(3/106)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
السورة التي يذكر فيها الروم
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
بسم الله اسم عزيز شفيع المذنبين جوده، بلاء المتهمين قصوده، ضياء الموحّدين عهوده.
وسلوة المحزونين ذكره، وحرفة «1» الممتحنين شكره.
اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وجبّار سناؤه بهاؤه، وبهاؤه علاؤه.
العابدون حسبهم عطاؤه، والواجدون حسبهم بقاؤه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
الإشارة فى «الألف» إلى أنه ألف صحبتنا من عرف عظمتنا، وأنّه ألف بلاءنا من عرف كبرياءنا.
والإشارة فى «اللام» إلى أنه لزم بابنا من ذاق محابّنا، ولزم بساطنا من شهد جمالنا.
والإشارة فى «الميم» إلى أنه مكّن من قربنا من قام على خدمتنا، ومات على وفاتنا من تحقق بولائنا.
قوله: «غُلِبَتِ الرُّومُ» : سرّ المسلمون بظفر الروم على العجم- وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية..
فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحزنه واهتمامه لدين الله؟
__________
(1) الحرفة هنا معناها دأبه وديدنه (الوسيط) .
(2) لأن بقاءهم به خلف لهم عن كل شىء، فكل شىء زائل.(3/107)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قوله جل ذكره: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .
«قَبْلُ» إذا أطلق انتظم الأزل، و «بَعْدُ» إذا أطلق دلّ على الأبد فالمعنى الأمر الأزليّ لله، والأمر الأبديّ لله لأنّ الرّبّ الأزليّ والسّيّد الأبديّ الله.
لله الأمر يوم العرفان «1» ، ولله الأمر يوم الغفران.
لله الأمر حين القسمة ولا حين، ولله الأمر عند النعمة وليس أي معين «2» .
ويقال: لى الأمر «مِنْ قَبْلُ» وقد علمت ما تفعلون، فلا يمنعنى أحد من تحقيق عرفانكم، ولى الأمر «مِنْ بَعْدُ» وقد رأيت ما فعلتم، فلا يمنعنى أحد من غفرانكم.
وقيل «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» بتحقيق ودّكم، ولله الأمر من بعد بحفظ عهدكم:
إنى- على جفواتها- وبربّها ... وبكلّ متصل بها متوسل «3»
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» :
اليوم إرجاف السرور وإنما ... يوم اللّقاء حقيقة الإرجاف
اليوم ترح وغدا فرح، اليوم عبرة وغدا حبرة، اليوم أسف وغدا لطف، اليوم بكاء وغدا لقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 6]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)
__________
(1) هكذا في م وهي في ص يوم (القربان) ، والمعرفة والقرب يجريان في هذه الحياة الدنيا، أما الغفران فهو في الآخرة يوم الحساب.
(2) هكذا في وهي في ص: (ولله الأمر عند النقمة وليس في معسر) وهي غامضة في الكتابة والمعنى، وقد آثرنا ما جاء في م لوضوحه.
(3) فى موضع آخر من هذا المجلد...... نجد هذا البيت متبوعا بالبيت التالي (الذي فيه خبر إن) :
لأحبها وأحب منزلها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزل
[.....](3/108)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
الكريم لا يخلف وعده لا سيما والصدق نعته.
يقول المؤمنون: منا يوم الميثاق وعد بالطاعة، ومنه ذلك اليوم وعد بالجنة، فإن وقع في وعدنا تقصير لا يقع في وعده قصور.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 7]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
استغراقهم في الاشتغال بالدنيا، وانهما كهم في تعليق القلب بها.. منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كلّ امرئ علمه بالله ففى الأثر عن عليّ- رضى الله عنه- أنه قال: أهل الدنيا على غفلة من الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
إنّ من نظر حقّ النظر، ووضع النظر موضعه أثمر له العلم واجبا، فإذا استبصر بنور اليقين أحكام الغائبات، وعلم موعوده الصادق في المستأنف- نجا عن كدّ التردد والتجويز «1» .
فسبيل من صحا عقله ألا يجنح إلى التقصير فيما به كمال سكونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 9]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
__________
(1) التردد والتجويز آفتان تصيبان- فى نظر القشيري- العقل، بينما القلب والروح والسر وعين السر لا تصاب بهما.(3/109)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
سير النفوس في أقطار الأرض ومنا كها لأداء العبادات، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات، وغايته الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدر- ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت خرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصول إلى محلّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار بالترقي عن الحدثان «1» بأسرها، والتحقق أولا بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمّا سوى الحقّ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 10]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
من زرع الشوك لم يحصد الورد، ومن استنبت الحشيش لم يقطف الثمار، ومن سلك طريق الغيّ لم يحلل بساحة الرشد.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 11]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
يبدأ الخلق على ما يشاء، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 12]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
شهودهم ما جحدوه في الدنيا عيانا، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعا «3» هو الذي يفتت أكبادهم، وبه تتمّ محنتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 13]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) .
__________
(1) المقصود بالحدثان المخلوقات إذ لها أول وابتداء ولها آخر وانتهاء.
(2) انظر بخصوص هذا الترقي صقحة 486 (المجلد الأول من هذا الكتاب) .
(3) لأن معرفتهم العينية تقطع كل شك كان يراودهم في الحياة الدنيا، فلا مجال يومئذ لأمل زائف.(3/110)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
تغلب العداوة من بعض على بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 14]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
فريق منهم أهل الوصلة، وفريق هم أهل الفرقة. فريق للجنة والمنّة، وفريق للعذاب والمحنة. فريق في السعير، وفريق في السرور. فريق في الثواب، وفريق في العذاب.
فريق في الفراق، وفريق في التلاقي.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 15]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
فهم في رياض وغياض
[سورة الروم (30) : آية 16]
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
فهم في بوار وهلاك.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 18]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
من كان صباحه لله بورك له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله:
وإنّ صباحا نلتقى في مسائه ... صباح على قلب الغريب حبيب
شتّان بين عبد صباحه مفتتح بعبادته ومساؤه مختتم بطاعته، وبين عبد صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحه مفتتح بعزيز قربته! ويقال الآية تتضمن الأمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس «1» ،
__________
(1) قيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم وتلا هذه الآية. ف (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء، (وحين) تصبحون صلاة الفجر، (وعشيا) صلاة العصر، (وحين تظهرون) صلاة الظهر.(3/111)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وإرادة الحقّ من أوليائه بأن يجددوا العهد في اليوم والليلة خمس مرات فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 19]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» : الطير من البيض، والحيوان من النّطفة.
و «يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : البيض من الطير، والنطفة من الحيوان.
والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
ويظهر أوقاتا من بين أوقات كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض.
«وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» : يحييها بالمطر، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء كذلك يوم النشور يحيى الخلق بعد الموت.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 20]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
خلق آدم من التراب، ثم من آدم الذّرّية. فذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.
ويقال الأصل تربة ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة، القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات.
اصطفى واختار الكعبة فهى أفضل من الجنة الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر! ولكن البيت مختاره وهذا المختار حجر! واختار الإنسان، وهذا المختار مدر! والغنيّ غنيّ لذاته، غنيّ عن كلّ غير من رسم وأثر.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)(3/112)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
ردّ المثل إلى المثل، وربط الشكل بالشكل، وجعل سكون البعض إلى البعض، ولكنّ ذلك للأشباح والصّور، أمّا الأرواح فصحبتها للأشباح كره لا طوع «1» .
وأمّا الأسرار فمعتقة لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 22]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
خلق السماوات في علوّها والأرض في دنوّها هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها. وهذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها.
ومن آياته اختلاف لغات أهل الأرض، واختلاف تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء. وإنّ اختصاص كلّ شىء منها بحكم- شاهد عدل، ودليل صدق على أنها تناجى أفكار المتيقظين، وتنادى على أنفسها.. أنها جميعها من تقدير العزيز العليم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 23]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
غلبة النوم بغير اختيار صاحبه ثم انتباهه من غير اكتساب له بوسعه يدلّ على موته وبعثه بعد ذلك وقت نشوره. ثم في حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه، وعلى أوصاف كثيرة أمره.. كذلك الميت في قبره.. الله أعلم كيف حاله في أمره، وما يلقاه من خيره وشرّه، ونفعه وضرّه؟
__________
(1) فكرة اغتراب الروح عن مصدرها الأصيل، ولبثها في داخل البدن، ذلك القفص المادي أو السجن الترابي- تحتل اهتماما كبيرا عند شعراء الصوفية (أنظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» فصل الفطرية) .(3/113)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 24]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
يلقى في القلوب من الرجاء والتوقع في الأمور، ثم يختلف بهم الحال فمن عبد يحصل مقصوده، ومن آخر لا يتفق مراده.
والأحوال اللطيفة كالبروق، وقالوا: إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار «1» ، فاللوائح في أوائل العلوم، واللوامع من حيث الفهوم، والطوالع من حيث المعارف «2» ، والشوارق من حيث التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 25]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
يفنى هذه الأدوار، ويغيّر هذه الأطوار، ويبدّل أحوالا غير هذه الأحوال إماتة ثم إحياء، وإعادة وقبلها إبداء، وقبر ثم نشر، ومعاتبة في القبر ثم محاسبة بعد النّشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
له ذلك ملكا، ومنه تلك الأشياء بدءا، وبه إيجادا، وإليه رجوعا.
قوله جل ذكره: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
__________
(1) يتفق موقف القشيري من هذه المصطلحات هنا مع ما ذكره فى «الرسالة» وإن كان قد زاد عليها هنا (متوع النهار) .
(2) نفهم من هذا أن القشيري يرى هذا الترتيب: العلم ثم الفهم ثم المعرفة أو العرفان، ونفهم أن التوحيد أعلى درجات العرفان.(3/114)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» أي في ظنّكم وتقديركم «1» .
وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحقّ لا تجوز.
«وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى» : له الصفة العليا في الوجود بحقّ القدم، وفي الجود بنعت الكرم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النصرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلّق، وفي الحكم بوجوب التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية «2» بحكم النفوذ، وفي الجبروت بعين العزّ والجلال، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 28]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
أي إذا كان لكم مماليك لا ترضون بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون «3» بكلّ وجه- إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فما تقولون في الذي لم يزل، ولا يزال كما لم يزل؟.
هل يجوز أن يقدّر في وصفه أن يساويه عبيده؟ وهل يجوز أن يكون مملوكه شريكه؟
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 29]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) .
__________
(1) معنى هذه العبارة: حسب ظنكم وتقديركم الإعادة أسهل من الإنشاء.. فلم أنكرتم الإعادة؟ فضلا عن أنه ليس عند الله سهل ولا عسير.
(2) القضية: هى قضاء الله.
(3) متشاكلون معناها: متشابهون ومتساوون ولا فرق في الجوهرية بينكم وبينهم.(3/115)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
أشدّ الظلم متابعة الهوى لأنه قريب من الشّرك، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «1» . فمن اتّبع هواه خالف رضا مولاه فهو بوضعه الشيء غير موضعه صار ظالما، كما أنّ العاصي بوضعه المعصية موضع الطاعة ظالم.. كذلك هذا بمتابعة هواه بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متماديا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 30]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)
أخلص قصدك إلى الله، واحفظ عهدك مع الله، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله.
«حَنِيفاً» : أي مستقيما في دينه، مائلا إليه، معرضا عن غيره «2» . والزم «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي أثبتهم عليها قبل أن يوجد منهم فعل ولا كسب، ولا شرك ولا كفر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أمرت به، واحذر ما نهيت عنه.
فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي اعرف واعلم أن فطرة الله التي فطر الناس عليها: تجرّدهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون- وإن كان هذا أيضا بتقدير الله «3» .
وعلى هذا تكون «فِطْرَتَ» الله منصوبة بإضمار اعلم- كما قلنا.
__________
(1) آية 23 سورة الجاثية.
(2) فكلمة «حنيف» من الأضداد.
(3) يذكرنا هذا بتفسير أبى طالب المكي لقول رابعة «أحبك حبين..» فالحب الأول فطرى تفضل الله به، والحب الثاني عانته هي بكسبها ولكنها حتى في هذا الحب الكسبي لا فضل لها، ولذلك استدركت:
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لى ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
أنظر (قوت القلوب المكي ح 2 ص 56 وماتلاها) وانظر أيضا كتابنا (نشأة التصوف الإسلامى) ط دار المعارف. [.....](3/116)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
سبحانه فطر كلّ أحد على ما علم أنه يكون في السعادة أو الشقاوة، ولا تبديل لحكمه، ولا تحويل لما عليه فطره. فمن علم أنه يكون سعيدا أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخلقه في حكمه سعيدا. ومن علم شقاوته أراد أن يكون شقيا وأخبر عن شقاوته وخلقه فى حكمه شقيا.. ولا تبديل لحكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقّ الصحيح «1» قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 31]
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفاقه، منحرفين بكل وجه عن خلافه، متقّين صغير الإثم وكبيره، قليله وكثيره، مؤثرين يسير وفاقه وعسيره، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهرا، متحققين بمراعاة فضائلها سرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 32]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
أقاموا في دنياهم في خمار الغفلة، وعناد الجهل والفترة فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وتموّلوا من كيس غيرهم، وظنوا أنهم على شىء.
فإذا انكشف ضباب وقتهم، وانقشع سحاب جحدهم.. انقلب فرحهم ترحا، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرّجوا إلّا في أوطان الجهالة.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 33]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) .
__________
(1) نحسب أن القشيري قد حاول إيضاح مشكلة هامة من مشاكل علم الكلام، فليست الجبرية عنده بناقضة لحرية الإنسان واختياره، ما دامت الأمور كلها مرتبطة بعلم الله الذي سبق كل شىء، وبفضل الله الذي فطر على ما علم.(3/117)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومسّتهم البليّة رجعوا إلى الله بأجمعهم مستعينين، وبلطفه مستجيرين، وعن محنتهم مستكشفين «1» .
فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم: إذا فريق منهم- لا كلّهم- بل فريق منهم بربهم يشركون يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران، ويقابلون إحسانه بالنسيان، هؤلاء ليس لهم عهد ولا وفاء، ولا فى مودتهم صفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 34]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
أي عن قريب سيحدث بهم مثلما أصابهم، ثم إنهم يعودون إلى التضرع، ويأخذون فيما كانوا عليه بدءا من التخشع، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 35]
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
بين أنهم بنوا على غير أصل طريقهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شرع من الله أو حجة أو بيان أسّسوا مذاهبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 36]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
تستميلهم طوارق أحوالهم فإن كانت نعمة فإلى فرح، وإن كانت شدة فإلى قنوط وترح.. وليس وصف الأكابر كذلك قال تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» «2» .
__________
(1) أي راجين كشف الغمة عنهم.
(2) آية 23 سورة الحديد.(3/118)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 37]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
الإشارة فيها إلى أن العبد لا يعلّق قلبه إلا بالله لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا بالله، وما يسرّهم ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله، فالواجب لزوم عقوة «1» الأسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
القرابة على قسمين: قرابة النسب وقرابة الدّين، وقرابة الدين أمسّ، وبالمواساة أحقّ وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة، غير متفرّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمان بحاله، وإشراف على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقدر ما يمكنهم، مما يكون له عون على الطاعة وفراغ القلب من كل علة فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقّه آكد، وتفقّده أوجب.
«ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» : المريد هو الذي يؤثر حقّ الله على حظّ نفسه فإيثار المريد وجه الله أتمّ من مراعاته حال نفسه، فهمّته في الإحسان إلى ذوى القربى والمساكين تتقدم على نظره لنفسه وعياله وما يهمه من خاصته.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 39]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجه الله، وألا تستخدم الفقير لما تبرّه به من رافقة «2» ،
__________
(1) العقوة الموضع المتسع أمام الدار.
(2) الرافقة الرفق واللطف، تقول: أولاه رافقة (الوسيط) .(3/119)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح «1» حتى يكون إعطاؤه لله مجردا عن كل نصيب لك فيه، فهؤلاء هم الذين يضاعف أجرهم: قهرهم لأنفسهم حيث يخالفونها، وفوزهم بالعوض من قبل الله.
ثم الزكاة هي التطهير، وتطهير المال معلوم ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة، وأصناف المال وأوصافه.
وزكاة البدن وزكاة القلب وزكاة السّرّ.. كلّ ذلك يجب القيام به.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
«ثُمَّ» حرف يقتضى التراخي وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خلقه إياك أن يرزقك كنت في ضعف أحوالك ابتداء ما خلقك، فأنبتك وأحياك من غير حاجة لك إلى رزق فإلى أن خرجت من بطن أمّك: إمّا أن كان يغنيك عن الرزق وأنت جنين فى بطن الأم ولم يكن لك أكل ولا شرب، وإمّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق- إن حقّ ما قالوا: إن الجنين يتغذّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فيسّر لك أسباب الأكل والشرب من لبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق اللسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم.
«ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بحياة قلوبكم ثم بأن يحييكم بربّكم.
__________
(1) كاشح أي مبغض. وربما كان خير مثل التصدق على ذى رحم مبغض، ما حدث من أبى بكر حينما امتنع عن تقديم الزكاة لمسطح على أثر قيامه بدوره المعروف في قصة الإفك، فعوتب أبو بكر في ذلك ونزلت فيه «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» آية 22 سورة النور.(3/120)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرزاق ومنها ما هو شهود الرزاق.
ويقال: لا مكنة لك في تبديل خلقك، وكذلك لا قدرة لك على تعسّر رزقك، فالموسّع عليه رزقه- بفضله سبحانه.. لا بمناقب نفسه، والمقترّ عليه رزقه بحكمه سبحانه.. لا بمعايب نفسه.
«هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أى من الأصنام أو توهمتموهم من جملة الأنام.. من يفعل شيئا من ذلك؟ «سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له وتقديسا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
الإشارة من البرّ إلى النّفس، ومن البحر إلى القلب.
وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشّرّ والفسق.. وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أنّ العزم على الخيرات قبل فعلها من أعظم الخيرات.
ومن جملة الفساد التأويلات بغير حقّ، والانحطاط إلى الرّخص في غير قيام بجد، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء من الله تعالى.
«لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» : بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسّف على مافاته من الحقّ.
قوله جل ذكره: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» .(3/121)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
«سِيرُوا» بالاعتبار، واطلبوا الحقّ بنعت الأفكار.
«فَانْظُرُوا» كيف كانت حال من تقدّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حكمكم في جميع الأحوال. «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» كانوا أكثرهم عددا، ولكن كانوا في التحقيق أقلّهم وزنا وقدرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 43]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
أخلص قصدك وصدق عزمك للدين القيّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فمن لم يتأدب بمن هو لسان وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتمّ من ربحه، ونقصانه أعم من نفعه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
يرسل رياح الرجاء على قلوب العباد فتكنس عن قلوبهم غبار الخوف وغثاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بساط الجهد، وتكرمهم بقوى النشاط.
ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال.
ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال.. فذلك ارتياح به ولكن بعد اجتياح عنك.
__________
(1) يرى كبار الصوفية- والقشيري منهم- أن التأدب يشيخ أمر ضرورى في الطريق الصوفي كى يكبح جماح المريد، ويهديه إلى ربه عند رعونة نفسه، ويبعد به عن الزهو عند ما تلوح له بوادر الكشوفات، ويشير عليه بالسفر إن دعت الحاجة إلى ذلك ... ونحو هذا.(3/122)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
أرسلنا من قبلك رسلا إلى عبادنا، فمن قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومن عارضهم بالجحود أذقناهم عذاب الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا.
َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرّبنا أوطان أعدائهم، وهدّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانهم، وعطّلنا عنهم ديارهم، ومحونا بقهر التدمير آثارهم، فظلّت شموسهم كاسفة، ومكيدة قهرنا لهم بأجمعهم خاسفة.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 48]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
يرسل رياح عطفه وجوده مبشرات بوصله وجوده، ثم يمطر جود غيبه على على أسرارهم بلطفه، ويطوى بساط الحشمة عن ساحات قربه، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه، وينشر عليهم أزهار أنسه، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه، ويسقيهم بيده شراب حبّه، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم- لا بهم- ولكن بنفسه، فالعبارات عن ذلك خرس، والإشارات دونها طمس(3/123)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 50]
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء الأمطار ليخرج زرعها وثمارها، ويحيى النفوس بعد نفرتها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الرّفاق بصادق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، ويحيى القلوب بعد غفلتها بأنوار المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العسر من أصحاب الإرادات، ويحيى الأرواح بعد حجبتها- بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسها عن برج السعادة، ويتصل بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب، ويحيى الأسرار- وقد تكون لها وقفة في بعض الحالات- فتنتفى بالكلية آثار الغيرية، ولا يبقى في الدار ديّار ولا من سكانها آثار فسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق، هنالك الولاية لله.. سقط الماء والقطرة، وطاحت الرسوم والجملة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 51]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
إذا انسدّت البصيرة عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات.. كذلك من حقّت عليهم الشقاوة جرّته إلى نفسها- وإن تبوّأ الجنة منزلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
من فقد الحياة الأصلية لم يعش بالرّقى والتمائم، وإذا كان في السريرة طرش عن سماع الحقيقة فسمع الظاهر لا يفيده آكد الحجّة. وكما لا يسمع «2» الصّمّ الدعاء فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم.
__________
(1) أي انتفت آثار البشرية، وصار العبد مستهلكا بالكلية.
(2) الفاعل ضمير مستتر تقديره «هو» يعود على الرسول صلوات الله عليه، فإن الخطاب في الآية الكريمة موجه إليه.(3/124)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية «1» ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم:
آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى
كذلك في ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية في نعت التردد والحيرة في الطلب، ثم بعد قوة الوصل في ضعف التوحيد.
ويقال أولا ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله، ثم قوة البيان في حال العرفان لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود لأن الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر.
ويقال «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة، قال صلى الله عليه وسلم: «أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 60]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
إنما كان ذلك لأحد أمرين: إمّا لأنهم كانوا أمواتا.. والميت لا إحساس له، أو لأنهم عدّوا ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يرون ذلك اليوم يسيرا. وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لبثهم تحت الأرض. وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جحدهم على موجب جهلهم، ثم لا يسمع عذرهم، ولا يدفع ضرّهم.
__________
(1) الطفولية الطفولة.
(2) رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى سعيد الخدري والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ورواه الطبراني بسند رجال ثقات عن عبادة بن الصامت. وادعى ابن الجوزي وابن تيمية أنه موضوع، وأبطل ذلك الحافظ بن حجر.(3/125)
وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهما كهم في غيّهم، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم.
ثم ختم السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم.
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .(3/126)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
السورة التي يذكر فيها لقمان
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها أقرّ أنّه لا يسمع مثلها، ومن عرفها أنف أن يسمع غيرها. كلمة من سمعها طابت قصّته، وزالت بكل وجه غصّته، وتمّت من النّعم في الدنيا والعقبى حصّته، وزهد في دنياه من غير رغبة في عقباه لأنّها- وإن جلّت- غير مولاه «1» كلمة من سمعها لم يرغب في عمارة فنائه، ولم يتحشم «2» سرعة وفائه.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2)
الألف تشير إلى آلائه، واللام تشير إلى لطفه وعطائه، والميم تشير إلى مجده وسنائه فبآلائه يرفع الجحد عن قلوب أوليائه، وبلطفه وعطائه يثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه.
«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» : المحروس عن التغيير والتبديل.
[سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 4]
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
هو هدى وبيان، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين بالله، والمقيمين عبادة الله كأنهم
__________
(1) فالحب الخالص منتف عن الغيرية.
(2) لم يتحشم أي: لم يتجنب(3/127)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
ينظرون إلى الله. وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، ومطيعهم وعاصيهم.
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» : يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة، وتقديم الطهارة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت، والوقوف في مكان طاهر.
وفي الباطن يأتون بشرائطها من طهارة السّرّ عن العلائق، وستر عورة الباطن بتنقيته عن العيوب، لأنها مهما تكن فالله يراها فإذا أردت ألا يرى الله عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف في مكان طاهر، وهو وقوف القلب على الحدّ الذي أذنت في الوقوف فيه مما لا تكون دعوى بلا تحقيق، ورحم الله من وقف عند حدّه. والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلّل والاستكانة، وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط، وتستقبل القبلة بنفسك، وتعلّق قلبك بالله من غير تخصيص بقطر أو مكان.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا فى الدنيا والعقبى فسلموا ونجوا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 6]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
«لَهْوَ الْحَدِيثِ» : ما يشغل عن ذكر الله «1» ، ويحجب عن الله سماعه. ويقال: هو لغو الظاهر الموجب سهو الضمائر، وهو ما يكون خوضا في الباطل، وأخذا بما لا يعنيك.
__________
(1) اعتاد كثير من المفسرين أن يفسروا اللهو هنا (بالغناء) ، لأجل هذا نلفت النظر إلى عدم صرف القشيري المعنى في هذا الاتجاه، لأننا نعلم من مذهبه أنه لا يرى بأسا في سماع الغناء ولكن بشرط أن يحرك الوجدان نحو غاية سامية في السماع، وألا يبعث فيها الهوى والمجون، وألا يكون مصحوبا بشىء محرّم. (أنظر كتابنا: الإمام القشيري ونزعته في التصوف) ط مؤسسة الحلبي. [.....](3/128)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
المفترق بهمّه، والمتشتّت بقلبه لا تزيده كثرة الوعظ إلا نفورا ونبوّا فسماعه كلا سماع، ووعظه هباء وضياع، كما قيل:
إذا أنا عاتبت الملول فإنما ... أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
«آمَنُوا» : صدّقوا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : تحقّقوا فاتصاف تحقيقهم راجع إلى تصديقهم، فنجوا وسلموا فهم في راحاتهم مقيمون، دائمون لا يبرحون.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 10]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
أمسك السماوات بقدرته بغير عماد، وحفظها لا إلى سناد أو مشدودة إلى أوتاد، بل بحكم الله وبتقديره، ومشيئته وتدبيره.
«وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ..» فى الظاهر الجبال، وفي الحقيقة الأبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق، بهم يقيهم، وبهم يصرف البلاء عن قريبهم وقاصيهم.
«وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً..» المطر من سماء الظاهر في رياض الخضرة ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوّ والحضرة.(3/129)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 11]
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأرونى ماذا خلق الذين عبدتم من دونه في أرضه وسمائه؟
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
«الْحِكْمَةَ» الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال «الْحِكْمَةَ» متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همة النفس. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تكون تحت سلطان الهوى.
ويقال «الْحِكْمَةَ» الكون بحكم من له الحكم. ويقال «الْحِكْمَةَ» معرفة قدر نفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجا عن كسائك. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تستعصى على من تعلم أنك لا تقاومه.
«أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» : حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرّبّ. فهو مقلوب قولهم: كشرت عن أنيابها الداية فيقال شكر وكشر مثل جذب وجبذ.
ويقال الشكر تحققك بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمال استلذاذ النعمة.
ويقال الشكر فضلة تظهر على اللسان من امتلاء القلب بالسرور فينطلق بمدح المشكور.
ويقال الشكر نعت كلّ غنىّ كما أن الكفران وصف كلّ لئيم. ويقال الشكر قرع باب الزيادة «1» . ويقال الشكر قيد الإنعام. ويقال الشكر قصة يميلها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال.
«وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» «2» : لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 13]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» آية 7 سورة ابراهيم.
(2) آية 40 سورة النمل.(3/130)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
الشّرك على ضربين: جلىّ وخفيّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ حسبان شىء من الحدثان من الأنام. ويقال الشّرك إثبات غير مع شهود الغيب. ويقال الشرك ظلم على القلب، والمعاصي ظلم على النفس، وظلم النفوس معرّض للغفران، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 14]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
أوجب الله شكر نفسه وشكر الوالدين. ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يكتفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما علم أنّ شكر الحقّ لا يكفى فيه مجرّد القول ما لم تكن فيه موافقه العقل وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صرفها في الزّلّة فشكر الحقّ بالتعظيم والتكبير، وشكر الوالدين بالإنفاق والتوفير.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 15]
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
إن جاهداك على أن تشرك بالله، أو تسعى بما هو زلة في أمر الله- فلا تطعهما، ولكن عاشرهما بالجميل تخشين في تليين، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرج، وانفرد بسرّك لله، «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» : وهو المنيب إليه حقا من غير أن تبقى بقية في النفس.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 16]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)(3/131)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمة فلا محالة تصل إلى المقسوم له بغير مرية.. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» : عالم بدقائق الأمور وخفاياها.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 17]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تنهى عنه، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك، ومن لا حكم له على نفسه لا ينفذ حكمه على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به هو ما يوصّل العبد إلى الله، والمنكر الذي يجب النهى عنه هو ما يشغل العبد عن الله.
«وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» تنبيه على أنّ من قام لله بحقّ امتحن في الله فسبيله أن يصبر لله- فإنّ من صبر لله لا يخسر على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 18]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18)
يعنى لا تتكبر على الناس، وطالعهم من حيث النسبة والتحقق بأنك بمشهد من مولاك.
ومن علم أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبر ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 19]
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
كن فانيا عن شواهدك، مصطلما عن صولتك، مأخوذا عن حولك وقوتك، منتشقا «1» مما استولى عليك من كشوفات سرّك.
__________
(1) (انتشق) الماء وغيره: جذب منه بالنّفس في أنفه، ورجل نشق إذا دخل في أمر لا يكاد يخلص منه (الوسيط) .(3/132)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» : فى الإشارة هو الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحقّ. وقالوا:
إنه الصوفيّ يتكلم قبل أوانه.
ويقال إنما ينهق الحمار عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكر الأصوات.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 20]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
أثبت في كل شىء منها نفعا لكم، فالسماء لتكون لكم سقفا، والأرض لتكون لكم فراشا، والشمس لتكون لكم سراجا، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب، والنجوم لتهتدوا بها.
«وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : الإسباغ ما يفضل عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة.
قوله: «نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : تكلموا فيه فأكثروا. فالظاهرة وجود النعمة، والباطنة شهود المنعم. والظاهرة الدنيوية، والباطنة الدينية. والظاهرة حسن الخلق، والباطنة حسن الخلق. الظاهرة نفس بلا زلّة، والباطنة قلب بلا غفلة. الظاهرة العطاء، والباطنة الرضاء. الظاهرة في الأموال ونمائها، والباطنة في الأحوال وصفائها. الظاهرة النعمة، والباطنة العصمة. الظاهرة توفيق الطاعات، والباطنة قبولها. الظاهرة تسوية الخلق، والباطنة تصفية الخلق. الظاهرة صحبة الصالحين، والباطنة حفظ حرمتهم. الظاهرة الزهد في الدنيا، والباطنة الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى «1» . الظاهرة الزهد، والباطنة الوجد. الظاهرة توفيق
__________
(1) هذه أعلى درجات الزهد، وهي تهمنا ونحن نؤرخ للتطور التأريخي الذي حدث عند ما تطور الزهد إلى تصوف (أنظر كتابنا نشأة التصوف الإسلامى (ط دار المعارف) .(3/133)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
المجاهدة والباطنة تحقيق المشاهدة. الظاهرة وظائف النّفس، والباطنة لطائف القلب. الظاهرة اشتغالك بنفسك عن الخلق، والباطنة اشتغالك بربّك عن نفسك. الظاهرة طلبه، الباطنة وجوده «1» . الظاهرة أن تصل إليه، الباطنة أن تبقى معه.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 23]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23)
لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم، ولم يهتدوا إلى محوّل أحوالهم. فأمّا من سمت نفسه، وخلص في الله قصده فقد استمسك بالعروة الوثقى، وسلك المحجّة المثلى: - «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» وعلى العكس: - «وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
إلينا إيابهم، ومنّا عذابهم، وعلينا حسابهم. ولئن سألتهم عن خالقهم لأقرّوا، ولكن إذا عادوا إلى غيّهم نقضوا وأصروا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 26]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
لله ما في السماوات والأرض ملكا، ويحرى فيهم حكمه حقّا، وإليه مرجعهم حتما.
__________
(1) الوجود مرحلة تأتى بعد التواجد والوجد.(3/134)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 27]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
لو أنّ ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحار كانت مدادا، وبمقدار ما يقابله تنفق القراطيس، ويتكلّف الكتّاب حتى تتكسر الأقلام، وتفنى البحار، وتستوفى القراطيس، وتفنى أعمار الكتّاب.. ما نفدت معانى مالنا معك من الكلام، والذي نسمعك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبد الأبد، والأبديّ من الوصف لا يتناهى.
ويقال إن كان لك معكم كلام كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باق:
صحائف عندى للعتاب طويتها ستنشر يوما والعتاب يطول قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 28]
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
إيجاد القليل أو الكثير عليه وعنده سيّان فلا من الكثير مشقة وعسر، ولا من القليل راحة ويسر، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: «كُنْ فَيَكُونُ» «1» يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته، لا بمزاولة جهد، ولا باستفراغ وسع، ولا بدعاء خاطر، ولا بطروء غرض.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 30]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
«اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» : الكائن الموجود، محقّ الحقّ «2» ، وما يدعون من دونه الباطل:
من العدم ظهر ومعه جواز العدم «3» .
__________
(1) آية 82 سورة يس.
(2) فى ص جاء بعدها (وما يدعونه هو التلاوة) ويقول مجاهد، إنه الشيطان. ويقال: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان..
(3) شغلت قضية (الحق والباطل) أصحاب وحدة الوجود. ورأى القشيري هنا يصلح عند المقارنة بين أرباب وحدة الشهود وأرباب وحدة الوجود في شأن هذين الاصطلاحين.(3/135)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 31]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
فى الظاهر سلامتهم في السفينة، وفي الباطن سلامتهم من حدثان الكون، ونجاتهم في سفائن العصمة في بحار القدرة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ» وقوف لا ينهزم من البلايا، شكور على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسى البلايا والعطايا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 32]
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة، فإذا جاد الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم:
وكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا ... أحباءنا: كم تجهلون ونحلم!
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 33]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
يخوّفهم مرة بأفعاله فيقول: «اتَّقُوا يَوْماً» ، ومرة بصفاته فيقول: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ومرة بذاته فيقول: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» .(3/136)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
يتفرّد بعلم القيامة، ويعلم ما في الأرحام ذكورها وإناثها، شقيها وسعيدها، وحسنها وقبيحها ويعلم متى ينزّل الغيث، وكم قطرة ينزلها، وبأى بقعة يمطرها.
«وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «1» .
ما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من خير وشر، ووفاق وشقاق، وما تدرى نفس بأى أرض تموت أتدرك مرادها أم يفوت؟.
__________
(1) قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبى مرسل.(3/137)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سورة السّجدة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كلمة سماعها ربيع الجميع، من العاصي والمطيع، والشريف والوضيع. من أصغى إليها بسمع الخضوع ترك طيّب الهجوع، ومن أصغى إليها بسمع المحابّ ترك لذيذ الطعام والشراب.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الإشارة من الألف إلى أنه ألف المحبون قربتى فلا يصبرون عنى، وألف العارفون تمجيدى فلا يستأنسون بغيري.
والإشارة في اللام إلى لقائى المدّخر لأحبّائى، فلا أبالى أقاموا على ولائى أم قصّروا فى وفائى.
والإشارة في الميم: أي ترك أوليائى مرادهم لمرادى.. فلذلك آثرتهم على جميع عبادى.
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : إذا تعذّر لقاء الأحباب فأعزّ شىء على الأحباب كتاب الأحباب أنزلت على أحبابى كتابى، وحملت إليهم الرسالة خطابى، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى، فهم في أمان من عذابى.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 3]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الذي لكم منا حقيقة، وإن التبس على الأعداء فليس يضيركم، ولا عليكم، فإنّ(3/138)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
صحبة الجيب مع الحبيب ألذّها ما كان مقرونا بفقد الرقيب.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 4]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
وتلك الأيام خلقها من خلق غير الأيام، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقت إذ الوقت مخلوق في غير الوقت «1» . وكما يستغنى في كونه مخلوقا عن الوقت استغنى الوقت عن الوقت.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر استوى على العرش ولكن القديم ليس له حدّ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البعد، واستوى على العرش ولكنه أشدّ الأشياء تعطّشا إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة؟، ولكنّ العرش جماد.. وأنّى يكون للجماد مراد؟! استوى على العرش لكنه صمد بلا ندّ، أحد بلا حدّ.
«ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» : إذا لم يرد بكم خيرا فلا سماء عنه تظلّكم، ولا أرض بغير رضاه تقلّكم، ولا بالجواهر أحد يناصركم، ولا أحد- إذا لم يعن بشأنكم في الدنيا والآخرة- ينظر إليكم.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 6]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
خاطب الخلق- على مقدار أفهامهم ويجوز لهم- عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم.
«ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» «الْعَزِيزُ» مع المطيعين «الرَّحِيمُ» على العاصين.
«الْعَزِيزُ» للمطيعين ليكسر صولتهم «الرَّحِيمُ» للعاصين ليرفع زلّتهم.
__________
(1) لأن الزمان سرمد لا يرتبط بالوقت ولا يقتطع به.(3/139)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)
أحسن صورة كلّ أحد فالعرش ياقوتة حمراء، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وجبريل طاووس الملائكة، والحور العين- كما في الخبر- فى جمالها وأشكالها، والجنان- كما في الأخبار ونص القرآن. فإذا انتهى إلى الإنسان قال: «خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» «1» .. كل هذا ولكن:
وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري
خلق الإنسان من طين ولكن «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «2» ، وخلق الإنسان من طين ولكن: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «3» ، وخلق الإنسان من طين ولكن «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 10]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
لو كانت لهم ذرّة من العرفان، وشمّة من الاشتياق، ونسمة من المحبة لما تعصّبوا كلّ هذا التعصب في إنكار جواز الرجوع إلى الله ولكن قال: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 11]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
لولا غفلة قلوبهم وإلا لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت فإنّ ملك الموت لا أثر منه في أحد، ولا له تصرفات في نفسه، وما يحصل من التوفّى فمن خصائص قدرة
__________
(1) آية 54 سورة المائدة.
(2) آية 152 سورة البقرة.
(3) آية 8 سورة البينة.(3/140)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
الحق. ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ فخاطبهم على مقدار فهمهم، وعلّق بالأغيار قلوبهم، وكلّ يخاطب بما يحتمل على قدر قوّته وضعفه.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 12]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
ملكتهم الدهشة وغلبتهم الخجلة، فاعتذروا حين لا عذر، واعترفوا ولا حين اعتراف.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 13]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
لو «1» شئنا لسهّلنا سبيل الاستدلال، وأدمنا التوفيق لكلّ أحد، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلّقت بإدناء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطّان، كما أردنا أن يكون للجنّة سكان، ولأنّا علمنا يوم خلقنا الجنّة أنه يسكنها قوم، ويوم خلقنا النار أنه ينزلها قوم، فمن المحال أن نريد ألا يقع معلومنا، ولو لم يحصل لم يكن علما، ولو لم يكن ذلك علما لم نكن إلها ... ومن المحال أن نريد ألا نكون إلها.
ويقال: من لم يتسلّط عليه من يحبه لم يجر في ملكه ما يكرهه.
ويقال: يا مسكين أفنيت عمرك في الكدّ والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيّرت صفتك، وأكثرت مجاهدتك.. فما تفعل في قضائى كيف تبدّله؟ وما تصنع في مشيئتى بأيّ وسع تردّها؟ وفي معناه أنشدوا:
شكا إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى ... ظمان لو شئت ورد
__________
(1) هذه الإشارة المستوحاة من الآية تمثل أقصى درجات الجبرية في مذهب هذا الباحث الصوفي، ولكن القارئ لا يعزب عنه أن يجدها جبرية ممتزجة بالحب.. ويكفى أنها مرتبطة بمشيئة الخالق. [.....](3/141)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 14]
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
قاس من الهوان ما استوجبته بعصيانك، واخلد في دار الخزي لما أسلفته من كفرانك.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 15]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
التصديق والتكذيب ضدان- والضدان لا يجتمعان التكذيب هو جحود واستكبار، والتصديق هو سجود وتحقيق، فمن اتّصف بأحد القسمين امّحى عنه الثاني.
«خَرُّوا سُجَّداً» : سجدوا بظواهرهم في المحراب، وفي سرائرهم على تراب الخضوع وبساط الخشوع بنعت الذبول وحكم الخمود.
ويقال: كيف يستكبر من لا يجد كمال راحته ولا حقيقة أنسه إلا في تذلله بين يدى معبوده، ولا يؤثر آجل جحيمه على نعيمه، ولا شقاءه على شفائه؟! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 16]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
فى الظاهر: عن الفراش قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد، وفي الباطن: تتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قدّر النفس، وتوّهم المقام- فإن ذلك بجملته حجاب عن الحقيقة، وهو للعبد سمّ قاتل- فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم. ويفارقون مالفهم، ويهجرون في الله معارفهم.
والليل زمان الأحباب، قال تعالى: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» : يعنى عن كلّ شغل وحديث سوى حديث محبوبكم. والنهار زمان أهل الدنيا، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» ، أولئك قال لهم: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ» :(3/142)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم، واشتغلوا بحرفتكم.
وأما الأحباب فالليل لهم إمّا في طرب التلاقي وإما في حرب الفراق، فإن كانوا في أنس القربة فليلهم أقصر من لحظة، كما قالوا:
زارنى من هويت بعد بعاد ... بوصال مجدّد ووداد
ليلة كاد يلتقى طرفاها ... قصرا وهى ليلة الميعاد
وكما قالوا:
وليلة زين ليالى الدهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
لم تستبن عن شقق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر
وأمّا إن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكربة فليلهم طويل، كما قالوا:
كم ليلة فيك لا صباح لها ... أفنيتها قابضا على كبدى
قد غصّت العين بالدموع وقد ... وضعت خدى على بنان يدى
قوله: «يدعون ربهم خوفا وطمعا» : قوم خوفا من العذاب وطمعا في الثواب، وآخرون خوفا من الفراق وطمعا في التلاقي، وآخرون خوفا من المكر وطمعا في الوصل.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» : يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به فإن طهّرنا أحوالهم عن الكدورات حضروا بأحوال مقدّسة، وإن دنّسّنا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالات مدنّسة، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فالعبد إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سيّده:
يفديك بالروح صبّ لو يكون له ... أعزّ من روحه شىء فداك به
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 17]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)(3/143)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
إنما تقرّ عينك برؤية من تحبه، أو ما تحبه فطالب قلبك وراع حالك: فيحصل اليوم سرورك، وكذلك غدا.. وعلى ذلك تحشر ففى الخبر:
«من كان بحالة لقى الله بها» .
ثم إنّ وصف ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحد- محال، اللهم أن يقال: إنها حال عزيزة، وصفة جليلة.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 18]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)
«1» أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسى وباله؟
أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟
أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟
أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟
أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟
أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : الآيات 19 الى 20]
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
«الَّذِينَ آمَنُوا» : صدّقوا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : بما حققّوا- فلهم حسن الحال، وحميد المآل وجزيل المنال، وأما الذين كدّوا وجحدوا، وفي معاملاتهم أساءوا
__________
(1) عن ابن عباس: أن الوليد بن عقبة قال لعل بن أبى طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال عليّ: اسكت فإنما أنت فاسق ... فنزلت الآية (الواحدي ص 236) .(3/144)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
وأفسدوا، فقصاراهم الخزي والهوان، وفنون من المحن وألوان ... كلما راموا من محنتهم خلاصا ازدادوا فيها انتكاسا، وكلما أمّلوا نجاة جرّعوا وزيدوا يأسا.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 21]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
قوم عذابهم الأدنى محن الدنيا، والعذاب الأكبر لهم عقوبة العنبي.
وقوم العذاب الأدنى لهم فترة تتداخلهم في عبادتهم، والعذاب الأكبر لهم قسوة في قلوبهم تصيبهم.
وقوم العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تنيبهم، والعذاب الأكبر لهم حجبة عن مشاهدهم تنالهم، قال قائلهم:
أدّبتنى بانصراف قلبك عنّى ... فانظر إليّ فقد أحسنت تأديبى «1»
ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة، والأكبر الهجران في الوصلة.
ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها، كما قالوا:
لقد كان ما بينى زمانا وبينه ... كما بين ريح المسك والعنبر الورد
ويقال العذاب الأكبر لهم تطاول أيام الغياب من غير تبين آخر لها، كما قيل:
تطاول نأينا يا نور حتى ... كأن نسجت عليه العنكبوت
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 22]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
إذا نبّه العبد بأنواع الزّجر، وحرّك- لتركه حدود الوقاق- بصنوف من التأديب
__________
(1) الشطر الأول غير موزون، والشطر الثاني من البسيط.(3/145)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
ثم لم يرتدع عن فعله، واغترّ بطول سلامته، وأمن من هواجم مكره، وخفايا سرّه..
أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته، قال تعالى: «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» «1» قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 23]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23)
فلا تكن في مرية من لقائه غدا لنا ورؤيته لنا «2» .
«وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» :
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم جعل رحمة للعالمين.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 24]
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
لمّا صبروا على طلبنا سعدوا بوجودنا، وتعدّى مانالوا من أفضالنا إلى متبعيهم، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهلهم فهم للخلق هداة، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 25]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردود من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضى من
__________
(1) آية 65 سورة المؤمنون.
(2) صرف القشيري الرؤية واللقاء إلى موسى عليه السلام، وأنه سيلقى ربه ويراه. بينما يرى قتادة أن المقصود:
فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه- أي محمد- فيها، كما لقيته ليلة الإسراء. وعن الحسن: فلا تكن- يا محمد- فى شك من أنك ستلقى ما لقيه من التكذيب والأذى، فالهاء عائدة على محذوف.
وقيل إن الكلام متصل بقوله تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت» ... فلا تكن في مرية من لقائه، وجاءت «ولقد آتينا موسى» اعتراضا.(3/146)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
الغوي، والعدو من الوليّ ... فكم من بهجة دامت هنالك! وكم من مهجة ذابت عند ذلك! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 26]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
أو لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حبرة فصاروا عبرة، كانوا في سرور فآلوا إلى ثبور فجميع ديارهم ومزارهم صارت لأغيارهم، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا فى ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وكما قيل:
نعمة كانت على قو ... م زمانا تم بانت
هكذا النعمة والإح ... سان مذ كان وكانت
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 27]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
«1» الإشارة فيه: تسقى حدائق وصلهم بعد جفاف عودها، وزوال المأنوس من معهودها، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله، حاكيا بحاله حال حصوله.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 29]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) .
__________
(1) يقول الزمخشري (الجرز) الأرض التي جزر نباتها أي قطع، إما لعدم الماء وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال التي لا تنبت كالسباخ جرز، ويدل عليه قوله تعالى «فنخرج به زرعا» .
وقال عكرمة: هى الأرض الظمأى.
ويحاول بعضهم أن يطلقها على مكان بعينه (ابن عباس: أرض باليمن) ومجاهد: (أرض النيل) .(3/147)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
استبعدوا يوم التلاقي وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (32) : آية 30]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
أعرض عنهم باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا.
«وَانْتَظِرْ» زوائد وصلنا، وعوائد لطفنا.
«إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» هواجم مقتنا وخفايا مكرنا.. وعن قريب يجد كلّ منتظره محتضرا.(3/148)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
سورة الأحزاب
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله شهود وجوده يوجب لك تلفا في تلف، ووجود جوده يوجب لك شرفا فى شرف، ففى تلفك يكون (هو) «1» عنك الخلف، وفي شرفك تصل إلى كلّ لطف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)
يا أيها المشرّف حالا، المفخّم قدرا منّا، المعلّى رتبة من قبلنا.. يا أيها المرقّى إلى أعلى الرّتب بأسنى القرب.. يا أيها المخبّر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا ...
اتق الله أن تلاحظ غيرا معنا، أو تساكن شيئا من دوننا، أو تثبت أحدا سوانا، أو تتوهّم شظية من الحدثان من سوانا. «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ» إشفاقا منك عليهم، وطمعا في إيمانهم بنا لو وافقتهم في شىء أرادوه منك «2» .
والتقوى رقيب على قلوب أوليائه يمنعهم في أنفاسهم، وسكناتهم، وحركاتهم أن ينظروا إلى غيره- أو يثبتوا معه غيره- إلا منصوبا لقدرته، مصرّفا بمشيئته، نافذا فيه حكم قضيته.
__________
(1) وضعنا (هو) من عندنا ليتضح المعنى كما نفهم من أسلوب القشيري في مثل هذا المجال.
(2) يقال نزلت هذه الآية حينما دخل أبو سفيان وأبو جهل وأبو الأعور السلمى على النبي (ص) بعد قتال أحد، وطلبوا الأمان، وقالوا للرسول: «أرفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة ومنعة وندعك وربك» فشق على النبي (ص) قولهم، فقال عمر بن الخطاب- وكان بصحبة النبي: ائذن لى يا رسول الله في قتلهم، فقال النبي: إنى قد أعطيتهم الأمان ... وأمر بإخراجهم من المدينة. (الواحدي ص 36) .(3/149)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
التقوى لجام يكبحك عمّا لا يجوز، زمام يقودك إلى ما تحب، سوط يسوقك إلى ما أمرت به، شاخص يحملك على القيام بحقّ الله، حرز يعصمك من توصل أعدائك إليك، عوذة تشفيك من داء الخطأ.
التقوى وسيلة إلى ساحات كرمه، ذريعة تتوسل بها إلى عقوة جوده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 2]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)
اتبع ولا تبتدع، واقتد بما نأمرك به، ولا تهتد باختيارك غير ما نختار لك، ولا تعرّج في أوطان الكسل، ولا تجنحّ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 3]
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
انسلخ عن إمابك، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغل عن حسبانك معنا، واحذر ذهابك عنا، ولا تقصّر في خطابك معنا.
ويقال التوكل تحقّق ثم تخلّق ثم توثق ثم تملق تحقق في العقيدة، وتخلق بإقامة الشريعة، وتوثق بالمقسوم من القضية، وتملّق بين يديه بحسن العبودية.
ويقال التوكل تحقّق وتعلق وتخلق: تحقّق بالله وتعلّق بالله ثم تخلق بأوامر الله.
ويقال التوكل استواء القلب في العدم والوجود.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 4]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
القلب إذا اشتغل بشىء شغل عما سواه، فالمشتغل بما من العدم منفصل عمن له القدم، وللتصل بقلبه بمن نعته القدم مشتغل عمّا من العدم.. والليل والنهار لا يجتمعان، والغيب والغير لا يلتقيان.
«وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ(3/150)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» .
اللائي تظاهرتم «1» منهن لسن أمهاتكم، والذين تبنيتم ليسوا بأبنائكم، وإن الذي صرتم إليه من افترائكم، وما نسبتم إلينا من آرائكم فذلك مردود عليكم، غير مقبول منكم، وإن أمسكتم عنه بعد البيان نجوتم، وإن تماديتم بعد ما أعلمتم أطلت المحنة عليكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 5]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
راعوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّة في الدّين تجمعكم، وقرابة الدّين والشكلية أولى من قرابة النّسب، كما قالوا:
وقالوا قريب من أب وعمومة ... فقلت: وإخوان الصفاء الأقارب
نناسبهم شكلا وعلما وألفة ... وإن باعدتهم في الأصول المناسب
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
__________
(1) يعنى أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وسيأتى تفصيل ذلك في سورة المجادلة (المجلد الثالث.)(3/151)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
الإشارة من هذا: تقديم سنته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلق به مناك، وإيثار من تتوسل به سببا ونسبا على أعزّتك ومن والاك.
«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» :
ليكن الأجانب منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب. وصلة الرحم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتى المكروه والمحبوب:
أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أشباحنا بشام «1» أو خراسان
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 7]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)
أخذ ميثاق النبيين وقت استخراج الذرية من صلب آدم- فهو الميثاق الأول، وكذلك ميثاق الكلّ. ثم عند بعث كلّ رسول ونبوّة كلّ نبيّ أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، وقد استخلص الله سبحانه نبيّنا عليه السلام، فأسمعه كلامه- بلا واسطة- ليلة المعراج. وكذلك موسى عليه السلام- أخذ الميثاق منه بلا واسطة ولكن كان لنبينا- صلى الله عليه وسلم- زيادة حال فقد كان له مع سماع الخطاب كشف الرؤية «2» .
ثم أخذ المواثيق من العبّاد بقلوبهم وأسرارهم بما يخصهم من خطابه، فلكلّ من الأنبياء والأولياء والأكابر على ما يؤهلهم له، قال صلى الله عليه وسلم «لقد كان في الأمم
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (بعراق)
(2) فى كتاب الرؤية الكبير يرى الأشعري جواز ذلك، أما القشيري: فبينما يشير هنا إلى ذلك إذ به كما سيأتى فى بسملة سورة البروج يقول: «بسم الله اسم لم يره بصر إلّا واحد، وهو أيضا مختلف فيه» المجلد الثالث(3/152)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
محدّثون فإن يكن في أمتى فعمر» وغير عمر مشارك لعمر في خواص كثيرة، وذلك شىء يتمّ بينهم وبين ربّهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 8]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
يسألهم سؤال تشريف لا سؤال تعنيف، وسؤال إيجاب لا سؤال عتاب. والصدق ألّا يكون في أحوالك شوب ولا في اعتقادك ريب، ولا في أعمالك عيب. ويقال من أمارات الصدق في المعاملة وجود الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق. والصدق في الأحوال تصفيتها من غير مداخلة إعجاب.
والصدق في الأقوال سلامتها من المعاريض فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس التباعد عن التلبيس، وفيما بينك وبين الله بإدامة التبرّى من الحول والقوة، ومواصلة الاستعانة «1» ، وحفظ العهود معه على الدوام.
والصدق في التوكل عدم الانزعاج عند الفقد، وزوال الاستبشار بالوجود «2» .
والصدق في الأمر بالمعروف التحرّز من قليل المداهنة وكثيرها، وألا تترك ذلك لفزع أو لطمع، وأن تشرب مما تسفى، وتتصف بما تأمر، وتنهى (نفسك) «3» عما تزجر.
ويقال الصدق أن يهتدى إليك كلّ أحد، ويكون عليك فيما تقول وتظهر اعتماد. ويقال الصدق ألا تجنح إلى التأويلات «4» .
__________
(1) هكذا في ص وهي في م (الاستغاثة) وكلاهما مقبول في السياق.
(2) هكذا في ص وم وربما كلتت (الموجود) إذ نحسب أن مقصد القشيري أن تكون راضيا إذا فقدت أو وجدت، وفي ذلك يقول عبد الله بن خفيف: القناعة ترك التشوف إلى المفقود والاستغناء (بالموجود) الرسالة ص 81 والشاكر الذي يشكر على (الموجود) والشكور الذي يشكر على المفقود (الرسالة ص 89) . ومع ذلك فقد وردت (الوجود) فى قول النوري: الصوفي نعته السكون عند العدم والإيثار عند الوجود ... فالوجود بهذا المعنى ضد العدم أي وجود الأشياء وفقدانها. ولكننا نفضل أن يقتصر اصطلاح (الوجود) على الدرجة القصوى بعد التواجد والوجد، وهو للحق. (الرسالة ص 36 و 37) وأنظر أيضا تفسير القشيري للآية 39 سورة سبأ (فى هذا المجلد)
(3) وضعنا (نفسك) من عندنا ليتضح المعنى.
(4) معروف أن القشيري يكره التأويلات المؤدية إلى الاسترخاص بالنسبة للصوفية. [.....](3/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
ذكر نعمة الله مقابلتها بالشكر، ولو تذكرت ما دفع عنك فيما سلف لهانت عليك مقاساة البلاء في الحال، ولو تذكرت ما أولاك في الماضي لقربت من قلبك الثقة في إيصال ما تؤمّله في المستقبل.
ومن جملة ما ذكّرهم به: «1» «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... » كم بلاء صرفه عن العبد وهو لم يشعر! وكم شغل كان يقصده فصدّه عنه ولم يعلم! وكم أمر عوّقه والعبد يضجّ وهو-- (سبحانه) - يعلم أن في تيسيره له هلاك العبد فمنعه منه رحمة به، والعبد يتّهم ويضيق صدره بذلك! قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 الى 11]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
أحاط بهم سرادق البلاء، وأحدق بهم عسكر العدوّ، واستسلموا للاجتياح، وبلغت القلوب الحناجر، وتقسّمت الظنون، وداخلتهم كوامن الارتياب، وبدا في سويدائهم جولان الشكّ.
«هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» ثم أزال عنهم جملتها، وقشع عنهم شدّتها، فانجاب عنهم سحابها، وتفرّقت عن قلوبهم همومها، وتفجّرت ينابيع سكينتهم.
__________
(1) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنده (نعم المنع) وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد- لقصر نظره- يشكر على هذه، وتخفى عليه تلك.(3/154)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 12]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)
صرّحوا بالتكذيب- لما انطوت عليه قلوبهم- حين وجدوا للمقال مجالا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 13]
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
تواصوا فيما بينهم بالفرار عند ما سوّلت لهم شياطينهم من وشك ظفر الأعداء. قوله:
«وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ ... » : يتعلّلون «1» بانكشاف بيوتهم وضياع مخلّفاتهم، ويكذبون فيما أظهروه عذرا، وهم لم يحملهم على فعلهم غير جبنهم وقلة يقينهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 15]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)
ولكن لما عزم الأمر، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدق، ولم يذكروا أنهم سيسألون عن عهدهم، ويعاقبون على ما أسلفوه من ذنبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 16]
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)
لأنّ الآجال لا تأخير لها ولا تقديم عليها، وكما قالوا: «إنّ الهارب عمّا هو كائن في كفّ الطالب يتقلب» .
«وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» : فإنّ ما يدّخره العبد عن الله من مال أو جاه أو نفيس أو قريب لا يبارك له فيه، ولا يجد به منعة، ولا يرزق منة غبطة.
__________
(1) يغمز القشيري هنا- من بعيد- بالمتعللين في الطريق بعلل الاسترخاص ودعاوى النفس.(3/155)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 17]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
من الذي يحقق لكم من دونه مرجوّا؟ ومن الذي يصرف عنكم دونه عدوّا؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
هم الذين كانوا يمتنعون بأنفسهم عن نصرة النبي عليه السلام، ويمنعون غيرهم ليكون جمعهم أكثر وكيدهم أخفى، وهم لا يعلمون أنّ الله يطلع رسوله عليه السلام عليهم ثم ذكر وصفهم فقال: - «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» إذا جاء الخوف طاشت من الرعب عقولهم، وطاحت بصائرهم، وتعطلت عن النصرة جميع أعضائهم. وإذا ذهب الخوف زيّنوا كلامهم، وقدّموا خداعهم، واحتالوا في أحقاد خستهم ... أولئك هذه صفاتهم لم يباشر الإيمان قلوبهم، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا، ويخافون من عودهم، ويفزعون من ظلّ أنفسهم(3/156)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
إذا وقعوا على آثارهم، ولو اتفق هجوم الأعداء عليكم ما كانوا إلا في حرز سيوفهم ودرية «1» رماحهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 21]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
«كانَ» صلة ومعناها: لكم في رسول الله أسوة حسنة، به قدوتكم، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم. وأقوال الرسول (ض) وأفعاله على الوجوب إلى أن يقوم دليل التخصيص، فأما أحواله فلا سبيل لأحد إلى الإشراف عليها، فإن ظهر شىء من ذلك بإخباره أو بدلالة أقواله وأفعاله عليه فإن كان ذلك مكتسبا من قبله فيلحق في الظاهر بالوجوب بأفعاله وأقواله، وإن كان غير مكتسب له فهى خصوصية له لا ينبغى لأحد أن يتعرّض لمقابلته لاختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بعلوّ رتبته «2» .
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 22]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدهم عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين ازدادوا ثقة، وعلى الأعداء جرأة، ولحكم الله استسلاما، ومن الله قوة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 23]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
شكر صنيعهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهود البأس، وسماهم رجالا إثباتا
__________
(1) الدرية ما يستتر به الصائد من الصيد فيرميه إذا أمكنه.
(2) يفيد هذا الكلام في توضيح نظرة هذا الباحث إلى السنّة كمصدر أساسى من مصادر التشريع، فالسّنّة أقوال وأفعال وأحوال، منها ما يصلح العموم، ومنها ما يختص به الرسول نفسه.(3/157)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
لخصوصية رتبتهم «1» ، وتمييزا لهم من بين أشكالهم بعلوّ الحالة والمنزلة، فمنهم من خرج من دنياه على صدقه «2» ، ومنهم من ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدّهم فحقيقة الصدق حفظ العهد وترك مجاوزة الحدّ.
ويقال: الصدق استواء الجهر والسّرّ.
ويقال: هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 24]
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)
فى الدنيا يجزى الصادقين بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيل المآب والخلود في النعيم المقيم والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم..
«وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» على الوجه الذي سبق به العلم، وتعلّقت به المشيئة.
ويقال: إذا لم يجزم بعقوبة المنافق وعلّق القول فيه بالرجاء فبالحريّ ألا يخيّب المؤمن فى رجائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 25]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
لم يشمت بالمسلمين عدوّا، ولم يوصّل إليهم من كيدهم سوءا، ووضع كيدهم في نحورهم، واجتثّهم من أصولهم، وبيّن بذلك جواهر صدقهم وغير صدقهم، وشكر من استوجب شكره من جملتهم، وفضح من استحقّ الذمّ من المدلسين منهم.
__________
(1) «من المؤمنين رجال..» : عن أنس أنها نزلت في عمه أنس بن النضير الذي أبلى يوم أحد بلاء عظيما، حتى قتل وبه ثمانون جراحة بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم.. رواه البخاري عن بندار، ومسلم عن محمد بن حاتم.
(2) «فمنهم من قضى نحبه» نزلت في طلحة بن عبيد الذي ثبت بجانب الرسول يوم أحد حتى دعا له الرسول (ص) :
اللهم أوجب لطلحة الجنة. (الواحدي ص 238) .(3/158)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
إنّ الحقّ- سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفي أوفى..
فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلهم، وأذلّ متعزّزهم، وكفاهم بكلّ وجه أمرهم، ومكّنهم من قتلهم وأسرهم ونهب أموالهم، وسبى ذراربهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
لم يرد أن يكون قلب أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شغل، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب، فخيّر- صلى الله عليه وسلم- نساءه «1» ، ووفق الله سبحانه عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- حتى أخبرت عن صدق «2» قلبها، وكمال دينها ويقينها، (وبما هو المنتظر من أصلها وتربيتها) «3» ، والباقي جرين على منهاجها، ونسجن على منوالها.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
__________
(1) يقال إنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك، ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فرؤى الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم.
(2) هكذا في م وهي في ص (كذب) وهي خطا قطعا.
(3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.(3/159)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة، ولذا فضل حدّ الأحرار على العبيد وتقليل ذلك من أمارات النقص فلما كانت منزلتهن في الشرف تزيد على منزلة جميع النساء ضاعف عقوبتهن على أجرامهن، وضاعف ثوابهن على طاعاتهن. وقال:
«وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» .
ثم قال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
نهاهن عن التبذّل، وأمرهنّ بمراعاة حرمة الرسول (ص) ، والتصاون عن تطمّع المنافقين في ملاينتهن.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
«الرِّجْسَ» : الأفعال الخبيثة والأخلاق الدنيئة فالأفعال الخبيثة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما قلّ وما جلّ. والأخلاق الدنيئة الأهواء والبدع كالبخل والشحّ(3/160)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
وقطع الرّحم، ويريد بهم الأخلاق الكريمة كالجود والإيثار والسخاء وصلة الرّحم، ويديم لهم التوفيق والعصمة والتسديد، ويطهرهم من الذنوب والعيوب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 34]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
إذ كرن عظيم النعمة وجليل الحالة التي تجرى في بيوتكن من نزول الوحى ومجىء الملائكة، وحرمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- والنور الذي يقتبس في الآفاق، ونور الشمس الذي ينبسط على العالم، فاعرفن «1» هذه النعمة، وارعين هذه الحرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
الإسلام هو الاستسلام، والإخلاص، والمبالغة في المجاهدة والمكابدة.
«وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... »
الإيمان هو التصديق وهو مجمع الطاعات، ويقال هو التصديق والتحقيق، ويقال هو انتسام الحقيقة في القلب. ويقال هو حياة القلب أولا بالعقل، ولقوم بالعلم، ولآخرين، بالفهم عن الله، ولآخرين بالتوحيد، ولآخرين بالمعرفة، ولآخرين إيمانهم حياة قلوبهم بالله.
«وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ... »
القنوت طول العبادة.
«وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ... »
فى عهودهم وعقودهم ورعاية حدودهم.
__________
(1) عرف هنا بمعنى ذكر الفضل.. وبهذه المناسبة أكشف للقارىء عن شىء حيرنى دهرا طويلا حينما كنت أقرأ فائية ابن الفارض التي أولها:
قلبى يحدثنى بأنك متلغى ... روحى فداك عرفت أم لم تعرف
فطالما أزعجنى الشطر التالي من هذا البيت لأنى كنت أربط بين عرف وبين علم. فكنت أسائل لغمى كيف يخاطب ابن الفارض ربه على هذا النحو؟ حق اهتديت الى أن المعنى: التي سأفتديك بروحى حتى ولو ثلفت فى ذلك، وسأبق عليه، سواء ذكرت لى ما أصنع، واحتسبته.. أم لم تفعل.(3/161)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
«وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ..»
على الخصال الحميدة، وعن الصفات الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية.
«وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ..» .
الخشوع إطراق السريرة عند بواده الحقيقة.
«وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ..»
بأموالهم وأنفسهم حتى لا يكون لهم مع أحد خصومة فيما نالوا منهم، أو قالوا فيهم «1» «وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ..»
المسكين عمّا لا يجوز في الشريعة والطريقة.
«وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ..»
فى الظاهر عن الحرام، وفي الإشارة عن جميع الآثام.
«وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ..»
بألسنتهم وقلوبهم وفي عموم أحوالهم لا يفترون، ولا يتداخلهم نسيان.
«أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» .
فهؤلاء لهم جميل الحسنى، وجزيل العقبى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
الافتيات عليه في أمره والاعتراض عليه في حكمه وترك الانقياد لإشارته.. قرع لباب الشّرك فمن لم يمسك عنه سريعا وقع في وهدته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
__________
(1) وهذا من أمارات الفتوّة (أنظر الرسالة ص 113)(3/162)
أنعم الله عليه بأن ذكره وأفرده من بين الصحابة باسمه.
ويقال: أنعم الله عليه بإقبالك عليه وتبنّيك له. ويقال: بأن أعتقته، ويقال: بالإيمان والمعرفة. وأنعمت عليه بالعتق وبأن تبنّيته. «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» إقامة للشريعة مع علمك بأن الأمر في العاقبة إلى ماذا يئول فإنّ الله أطلعك عليه، وقلت له: «اتَّقِ..» .
قوله: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» : أي لم تظهر لهم أنّ الله عرّفك ما يكون من الأمر فى المستأنف.
«وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ..» من ميلك ومحبتك لها لا على وجه لا يحلّ. «وَتَخْشَى النَّاسَ..»
أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد، وكانت تلك الخشية إشفاقا منك عليهم، ورحمة بهم.
ويقال: وتستحى من الناس- والله أحقّ أن تستحى منه.
ويقال: تخشى الناس ألا يطيقوا سماع هذه الحالة ولا يقووا على تحمّلها، فربما يخطر ببالهم ما ينفى عنهم وسعهم..
«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها..» لكى لا يكون عليك حرج، ولكى لا يكون على المؤمنين حرج في الزواج بزوجات أدعيائهم، فإنما ذلك يحرّم في الابن إذا كان من الصّلب.(3/163)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
[سورة الأحزاب (33) : آية 38]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)
لا يعارض ولا يناقض، ولا يردّ ولا يجحد. وما كان على النبيّ من حرج بوجه لكونه معصوما.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 39]
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
«وَيَخْشَوْنَهُ» : علما منهم بأنه لا يصيب أحدا ضرر ولا محذور ولا مكروه إلا بتقديره فيفردونه بالخشية إذ علموا أنه لا شىء لأحد من دونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
لم يكن مضافا إلى ولد فله عليكم شفقة الآباء.. ولكن ليس بأبيكم.
ويقال نسبه ظاهر.. ولكن إنما يعرف بي لا بنسبه فقلّما يقال: محمد بن عبد الله، ولكن إلى أبد الأبد يقال: محمد رسول الله. وشعار الإيمان وكلمة التوحيد- بعد لا إله إلا الله- محمد رسول الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
الإشارة فيه أحبّوا الله لأنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحبّ شيئا.
أكثر من ذكره» فيجب أن تقول: الله، ثم لا تنس الله بعد ذكرك الله.
ويقال: اذكروا الله بقلوبكم فإنّ الذكر الذي تمكن استدامته ذكر القلب فأمّا ذكر اللسان فإدامته مسرمدا كالمتعذر.(3/164)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
«وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» : التسبيح من قبيل الذكر، ولكنه ذكره بلفظين لئلا تعتريك سآمة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 43]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)
الصلاة في الأصل الدعاء «2» فصلاته- سبحانه- دعاؤه لنا بالتقريب، وصلاة الملائكة دعاؤهم إليه لنا: بالغفران للعاصى، وبالإحسان للمطيع.
ويقال الصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة.
«لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» : من الظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ويقال ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي يعصمكم من الضلال بروح الوصال.
ويقال ليخرجكم من ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير.
ويقال ليخرجكم من ظلمات نفوسكم إلى أنوار البصائر في قلوبكم.
ويقال ليخرجكم من أسباب التفرقة إلى شهود عين التوفيق، والتحقق بأوصاف الجمع.
ويقال يصونكم من الشّرك، ويثبتكم بشواهد الإيمان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 44]
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
التحية إذا قرنت بالرؤية، واللقاء إذا قرن بالتحية فلا يكون ذلك إلا بمعنى رؤية البصر.
والسلام خطاب يفاتح به الملوك إخبارا عن علوّ شأنهم ورتبتهم، فإلقاؤه حاصل وخطابه
__________
(1) هذه لفتة هامة تهم البلاغيين.
(2) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنه (نعم المنع) ، وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد-- لقصر نظره- يشكر على هذه، وتخفى عليه تلك.(3/165)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
مسموع، ولا يكون ذلك إلا برؤية البصر «1» .
«أَجْراً كَرِيماً» : الكرم نفى الدناءة، وكريما أي حسنا.
وفي الإشارة أجرهم موفور على عمل يسير فإنّ الكريم لا يستقصى عند البيع والشراء فى الأعداد، وذلك تعريف بالإحسان السابق في وقت غيبتك «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 47]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)
يا أيها المشرّف من قبلنا إنّا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا، وشاهدا تبشّر بمتابعتنا، وتحذّر من مخالفة أمرنا، وتعلم الناس مواضع الخوف منّا، وداعيا إلينا بنا، وسراجا يستضيئون به، وشمسا بنبسط شعاعها على جميع من صدّقك، وآمن بك، فلا يصل إلينا إلّا من اتّبعك وخدمك، وصدّقك وقدّمك.
«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بفضلنا معهم، ونيلهم طولنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومن لم تؤثر فيه بركة إيمانه بك فلا قدر له عندنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 48]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
لا توافق من أعرضنا عنه، وأضللنا به من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشّقاق.
وتوكل على الله بدوام الانقطاع إليه، وكفى بالله وكيلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
__________
(1) يضاف هذا الكلام إلى المبدأ الذي يتحمس له القشيري وهو الرؤية العيانية للحق في الآخرة. [.....]
(2) يقصد القشيري: أولئك الذين أحسن الله إليهم في سابق علمه، وهم مازالوا في كتم العدم- على حد تعبيره في مواضع مناظرة.(3/166)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
إذا آثرتم فراقهنّ فتمتّعوهن ليكون لهن عنكم تذكرة في أيام الفرقة في أوائلها إلى أن تتوطّن نفوسهن على الفرقة.
«وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» : لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئا تخلّفتم به معهن، فلا تجمعوا عليهن الفراق بالحال والإضرار من جهة المال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 51]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
وسّعنا الأمر عليك في باب النكاح بكم شئت فإنك مأمون من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحيف عليهن. والتّوسعة في باب النكاح تدلّ على الفضيلة كالحرّ والعبد.
«تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ... »
«مَنْ تَشاءُ» : على ما تتعلّق به إرادتك، ويقع عليه اختيارك، فلا حرج عليك ولا جناح.(3/167)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
لما اخترتهنّ أثبت الله لهن حرمة، فقال: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» فكما اخترنك فلا تختر عليهن امرأة أخرى تطبيبا لقلوبهن، ونوعا للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كرمه- والحفاظ كرم ودين «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
الآية.
أمرهم بحفظ الأدب في الاستئذان، ومراعاة الوقت، ووجوب الاحترام فإذا أذن لكم فادخلوا على وجه الأدب، وحفظ أحكام تلك الحضرة، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا، ولا تتغافلوا عنكم، ولا يمنعنّكم حسن خلقه من حفظ الأدب، ولا يحملنّكم فرط احتشامه على إبرامه «2» .
«فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» :
حسن خلقه- صلى الله عليه وسلم- جرّهم إلى المباسطة معه، حتى أنزل الله هذه الآية.
«وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» : نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبيّن أن البشر بشر- وإن كانوا من الصحابة، فقال:
«ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ»
__________
(1) ضبطناها هكذا (دين) بفتح الدال وتسكين الياء فبها يستقيم المعنى ويقوى السياق.
(2) أي إضجاره وإملاله.(3/168)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
فلا ينبغى لأحد أن يأمن نفسه- ولهذا يشدّد الأمر في الشريعة بألا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمة.
«وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» «1» .
وهذا من خصائصه- صلى الله عليه وسلم، وفي هذا شبه رخصة لمن يلاحظ شيئا من هذا، فيهتم بالاتصال من له ميل إليهنّ بغيرهن بعد وفاته- وإن كان التحرّز عنه- وعن أمثال هذا من ترك الحظوظ- أتمّ وأعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 54]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
حفظ القلب مع الله، ومراعاة الأمر- بينه وبين الله- على الصّحة في دوام الأوقات لا يقوى عليه إلا الخواصّ من أهل الحضور.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
الآية.
لما نزلت آية الحجاب شقّ عليهن وعلى النسوان وعلى الرجال في الاستتار، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية للرخصة في نظر هؤلاء إلى النساء، ورؤية النساء لهم على تفصيل الشريعة.
__________
(1) يستند القرطبي إلى رواية نقلها أبو نصر عبد الرحمن القشيري- ابن القشيري صاحب هذا الكتاب- عن ابن عباس الذي يقول: قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع الرسول على حراء- فى نفسه- لو توفى الرسول لتزوجت عائشة، وهي بنت عمى. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. ولكن هذا الرجل ندم على ما حدثت به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وكفّر بالتصدق وعتق الرقيق. (القرطبي ج 14 ص 228) .(3/169)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
أراد الله- سبحانه- أن تكون للأمة عنده- صلى الله عليه وسلّم- يد خدمة كما له بالشفاعة عليهم يد نعمة، فأمرهم بالصلاة عليه، ثم كافأ- سبحانه عنه فقال صلى الله عليه وسلم: من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه عشر مرات. وفي هذا إشارة إلى أن العبد لا يستغنى عن الزيادة من الله في وقت من الأوقات إذ لا رتبة فوق رتبة الرسول، وقد احتاج إلى زيادة صلوات الأمّة عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
يؤذون الله ورسوله بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة، ويؤذون أولياءه. ولمّا قال:
من يطع الرسول فقد أطاع الله، فكذلك من آذى رسوله وأنبياءه عليهم السلام والمؤمنين فقد آذاه، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم.
ثم ذكر قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ..» وذكر عقوبتهم، فجعل إيذاء الرسول مقرونا بما ذكر من إيذاء الله، ثم ذكر إيذاء المؤمنين، ويدلّ ذلك على أن رتبة المؤمنين دون رتبة الرسول صلى الله عليه وسلم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
__________
(1) فى هذا رد ضمنى على من يدعى الوصول، ويجهر بأن لواء الأنبياء يعقد له في معاريجه، وأن الأنبياء أدنى من الأولياء.(3/170)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
هذا تنبيه لهن على حفظ الحرمة وإثبات الرّتبة، وصيانة لهن، وأمر لهن بالتصاون والتعفّف. وقرن بذلك تهديده للمنافقين في تعاطيهم ما كان يشغل قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم من الإرجاف في المدينة: - «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» .
إنهم لم يمتنعوا عن الإرجاف وأمثال ذلك لأجرينا معهم سنّتنا في التدمير على من سلف من الكفار «1» .
ثم ذكر مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك، ثم استعجالهم قيامها من غير استعداد لها، ثم أخبر بصعوبة العقوبة التي علم أنه يعذّبهم بها، وما يقع عليهم من الندامة على ما فرّطوا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
نسبوه إلى الأدرة «2» ، وأنّ به عيبا في الخلقة، ولكنه كان رجلا حييّا، وكان إذا اغتسل لا يتجرّد (من ثوبه) «3» ، فتوهموا به ذلك. وذات يوم خلا ليفسله، ووضع ثيابه
__________
(1) هكذا في م وهى في ص (الكبائر) .
(2) الأدرة (على وزن الغرفة) - انتفاخ الخصية، والآدر- المصاب بذلك.
(3) ما بين قوسين من عندنا ليتضح السياق.(3/171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
على حجر فأمشى الله الحجر بثيابه، وموسى يعدو خلفه حتى توسّط بنى إسرائيل، وشاهدو خلقته سليمة، فوقف الحجر، وأخذ موسى ثيابه ولبسها «1» ، وهذا معنى قوله: «فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» فى القدر والمنزلة. والوجاهة النافعة ما كان عند الله لا عند الناس، فقبول الناس لا عبرة به ولا خطر له، ولا سيما العوام فإنهم يقبلون بلا شىء، ويردّون بلا شىء قال قائلهم:
إن كنت عندك يا مولاى مطرحا ... فعند غيرك محمول على الحدق
وقالوا: فإن أك في شراركم قليلا ... فإنى في خياركم كثير
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
القول السديد كلمة الإخلاص، وهي الشهادتان عن ضمير صادق.
ويقال سداد أقوالكم سداد أعمالكم، ولقد هوّن عليكم الأمر فمن رضى بالقالة- وهي الشهادة بأن ترك الشّرك- وقالها بصدق أصلح الله له أعماله الدنيوية من الخلل، وغفر له في الآخرة الزّلل أي حصلت له سعادة الدارين.
ويقال ذكر «أَعْمالَكُمْ» بالجمع «2» ، وقدّمها على الغفران لأنه ما لم يصلح لك في حالك أعمالك وإن لم يكفك ما أهمّك من أشغالك.. لم تتفرغ إلى حديث آخرتك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 72]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
__________
(1) هذه رواية ابن عباس.. وفي رواية أخرى: اتهم بقتل أخيه هارون.
(2) أي أن الله بفضله ينظر منك إلى القليل فيعتبره كثيرا.(3/172)
هنا إضمار أي: أهل السماوات والأرض والجبال.
وقيل أحياها وأعقلها، وهو كقوله: «ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «1» .
«فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها» : أي أبين أن تخنّ فيها، «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» : أي خان فيها.
وهم مراتب: فالكفار خانوا في الأصل الأمانة- وهي المعرفة- فكفروا. ومن دونهم خانوا بالمعاصي، وبعضهم أشدّ وبعضهم أهون، وكلّ احتقب من الوزر مقداره.
ويقال «فَأَبَيْنَ» إباء إشفاق لا إباء استكبار، واستعفين ... فعفا عنهن، وأعفاهن من حملها.
«وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» : قبلها ثم ما رعوها حقّ رعايتها.. كلّ بقدره.
«إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» بصعوبة حمل الأمانة في الحال، والعقوبة التي عليها في المآل. وقوم قالوا عرض الأمانة على السماوات والأرض وعرضها على الإنسان، فهن استعفين وهؤلاء «2» لم يستعفوا ولم يراعوا.
ويقال: الأمانة القيام بالواجبات أصولها وفروعها.
ويقال: الأمانة التوحيد عقدا وحفظ الحدود جهدا.
ويقال: لمّا حمل آدم الأمانة وأولاده قال تعالى: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» «3» .. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ويقال حمل الإنسان بالله لا بنفسه. ويقال ظلم نفسه حيث لم يشفق مما أشفقت منه السماوات والأرضون. والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ويقال كاشف السماوات والأرض بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا، وكاشف آدم
__________
(1) آية 11 سورة فصلت.
(2) الإنسان هنا اسم جنس.
(3) آية 70 سورة الإسراء.(3/173)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وذرّيته بوصف اللطف فقبلوا وحملوا، وفي حال بقاء العبد بالله يحمل السماوات والأرض بشعرة من جفنه. ويقال كانت السماوات والأرض أصحاب الجثت والمبانى فأشفقوا من حمل الأمانة.
والحمل إنما تحمله القلوب. وآدم كان صاحب معنى فحمل، وأنشدوا:
حملت جبال الحكم فوقى وإننى ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
ويقال لما عرض الحقّ الأمانة على الخلق علّق آدم بها همّته، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها، فلمّا أبوا وأشفقوا حملها الإنسان طوعا لا كرها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأحزاب (33) : آية 73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
اللام فى «لِيُعَذِّبَ» للصيرورة والعاقبة أي صارت عاقبة هذا الأمر عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والتجاوز (تمّت السورة) «1» قد يقال: المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات والعاصون من المؤمنين والمؤمنات ورد ذكرهم.. فأين العابدون وذكرهم؟
ولكنهم في جملة من مضى ذكرهم، وليسوا في المشركين ولا في المنافقين، فلا محالة فى جملة العاصين الذين تاب عليهم.
فيا أيها العاصي، كنت تحذر أن يخرجك العابدون من جملتهم، فاشهد الجبّار- فى هذا الخطاب- كيف أدرجك في جملتهم «2» ؟!
__________
(1) هكذا في الأصل، وهذه أول مرة يستدرك بها المصنف شيئا عقب خاتمة سورة. [.....]
(2) هذا الاستدراك لافت للنظر من حيث يدل على رحابة صدر الصوفية، وشدة حرصهم على فتح أبواب الأمل أمام العصاة الراغبين في التوبة، «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» .(3/174)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبأ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
«بسم الله كلمة سلّابة غلّابة، نهّابة وهابة تسلب القلوب.. ولكن لا كل قلب، وتغلب الألباب ولكن ليس كل لب، وتنهب الأرواح ولكن من الأحباب، وتهب الارتياح.. ولكن لقوم مخصوصين من الطلّاب.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه، ومدحه لنفسه إخبار عن جلاله، واستحقاقه لنعوت عزّه وجماله، فهو في الأزل حامد لنفسه محمود، وواحد موجود، فى الآزال معبود، وبالطلبات مقصود.
«الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» : الملك لا يكون بالشركة فلا ملك إلا الله.
وإن أجرى هذا الاسم على مخلوق فالزنجيّ لا يتغير لونه وإنّ سمّى كافورا! «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» من الذين أعتقهم، وفي النعمة أغرقهم.
«وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتخليد قوم في الجنة، وتأبيد قوم في النار.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 2]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» من الحبّ تحت الأرض، والماء يرسب فيها،(3/175)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
والأشياء التي تلقى عليها، والناس يقبرون في الأرض.
«وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والأزهار، والموتى يبعثون.
«وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من القطر والملك، والبركة والرزق، والحكم «وَما يَعْرُجُ فِيها» من الصحف، وحوائج الناس: وهمم الأولياء.
«وَهُوَ الرَّحِيمُ» بعباده، «الْغَفُورُ» لجميع المذنبين من المسلمين.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 3]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)
كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة، واستبعادهم لذلك، والردّ عليهم. وأخبر عن سابق علمه بهم، وأنه لا يخرج شىء من معلوماته عن علمه، فأثبت علمه بكل شىء وشموله لكل شىء.. لأنه لو لم يكن له علم لكان نقصا، ولأنه لو خرج معلوم واحد عن علمه لكان بقدرته نقص، والنقص- بأى وصف كان- لا يجوز في صفته بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 4 الى 9]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
الآيات..
المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غير منفصلة.
ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أتيت به حقا وصدقا. والذين كفروا قال بعضهم لبعض: إنّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذب، أو أنّ بك جنّة، ثم أقام عليهم حجة التجويز بما أجرى به سنّته في الخلق والإبداع.. فما زادهم ذلك إلا جحودا، وما قابلوه إلا عنودا.(3/176)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
«داوُدَ» اسم أعجمى، وقيل سمى داود لأنه داوى (جرحه، ورد في القصة أنه قال في إحدى مناجاته: يا رب، إنى أرى في التوراة ما أعطيت لأوليائك وأنبيائك من الرتب فأعطنيها) «1» فقال: إنى ابتليتهم فصبروا، فقال: إنى أصبر على بلائك، فأعطنى ما أعطيتهم، فأبلاه، فوقف، فأعطاه ما أعطاهم.
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» : تكلموا في هذا الفضل فمنهم من أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير: «أَوِّبِي مَعَهُ» ، وكذلك الجبال، وكان في ذلك تنفيس في وقت حزنه وبكائه. وقيل ذلك الفضل رجوعه إلى الله- فى حال ما وقع له «2» - بالتنصل والاعتذار. ويقال هو شهوده موضع ضرورته وأنه لا يصلح أمره غيره. ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حتى كان ليرغب في متابعته من يسمع إليه «3» . ويقال حلاوة صوته فى المناجاة. ويقال حسن خلقه مع أمته الذين اتبعوه، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل ...
قوله: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» أمر الجبال والطير بمجاوبته حتى خرج إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسه.
ويقال أوحى الله له: يا داود، كانت تلك الزّلّة مباركة عليك! فقال. يا رب، وكيف؟ فقال: كنت تجىء قبلها (كما يجىء المطيعون والآن) «4» تجىء كما يجىء أهل الذنوب!
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ص موجود في م.
(2) يشير القشيري بذلك إلى قصة داود مع زوجة أوريا، وكيف تاب وأناب.
(3) يقول القرطبي: كان قد أعطى من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكانت الجبال تتجاوب صداه، والماء الجاري ينقطع جريه. ويضيف القرطبي: «أيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج أي ثار وتحرّك، وقوى بمساعدة الجبال والطير.
(4) موجودة في ص وغير موجودة في م.(3/177)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
يا داود، إن أنين المذنبين أحبّ إلى من صراخ العابدين! ويقال، كان داود يقول. اللهم لا تغفر للخاطئين، غيرة منه وصلابة في الدين ...
فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفر لداود فيما بينهم.
ويقال لمّا تاب الله عليه، واجتمع الإنس والجنّ والطير بمجلسه، ورفع صوته، وأداره فى حنكه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك! فأوحى الله إليه هذه وحشة الزّلة، وتلك كانت أنس الطاعة.. فكان داود يبكى وينوح ويصيح والطير والجبال معه.
ويقال ليس كلّ من صاح وراءه معنى «1» ، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير ...
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» . ألان له الحديد، وجعل ذلك معجزة له، وجعل فيه توسعة رزقه، ليجد في ذلك مكسبا، ليقطع طمعه عن أمته في ارتفاقه بهم ليبارك لهم في اتّباعه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
أي آتينا سليمان الريح أي سخّر ناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر وبالرواح مسيرة شهر.
وفي القصة أنه لا حظ يوما ملكه، فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح: استو، فقالت الريح: استو أنت، فما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا بك، فلما ملت ملت.
«وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ»
__________
(1) هذه غمزة بمن يتظاهرون بالتواجد في مجالس السماع الصوفية، إذ ينبغى الصدق ليتحول التواجد إلى وجد ثم إلى وجود.
(2) هذا تنبيه لمن يتصدر منزلة الإمامة: ألا يرتفق، وألا يطلب عوضا، وألا يطمع في الذين يتبعونه.(3/178)
أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطين مسخّرة له، يعملون ما يشاء من الأشياء التي ذكرها سبحانه.
قوله جل ذكره: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «1» .
أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله: «شُكْراً» منصوب لأنه مفعول له.
ويقال شكرا منصوب لأنه مفعول به مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» «2» .
وقد مضى طرف من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السّمن فوق ما تعطى من العلف فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثاله وأضرابه. وإذا كان الناس يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء.
والشاكر يشكر على البذل، والشكور على المنع «3» ... فكيف بالبذل؟
والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه وماله، والشاكر ببعض هذه.
ويقال فى «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» قليل من يأخذ النعمة منى ولا يحملها على الأسباب فلا يشكر الوسائط ويشكرنى. والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويجدون الخير من قبله ثم يتقلدون المنّة من غير الله، ويشكرون غير الله.
قوله جل ذكره: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» .
__________
(1) يقول السهروردي في عوارفه: «فى أخبار داود عليه السلام: إلهى كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتنى. (عوارف المعارف ص 344) »
(2) آية 4 سورة المؤمنين.
(3) وردت العبارة في الرسالة هكذا: الشاكر يشكر عند البذل والشكور عند المطل (الرسالة ص 89) .(3/179)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
كان سليمان- عليه السلام- يتكىء على عصاه وقتما قبض، وبقي على ذلك الوصف مدة، والشياطين كانوا مسخّرين يعملون ما أمرهم به، ويتصرفون على الوجه الذي رسم لهم، وينتهون عمّا زجرهم، فقد كانوا يتوهمّون أنه حيّ. ثم إنّ الأرضة «1» أكلت عصاه فخرّ سليمان فعلم الشياطين عندئذ أنه مات، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة، وانفكّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير وهكذا الملك الذي يقوم ملكه بغيره، ويكون استمساكه بعصا.. فإنه إذا سقط سقط بسقوطه، ومن قام بغيره زال بزواله.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
كانوا في رغد من العيش وسلامة الحال ورفاهته، فأمروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة، وهذا أمر سهل يسير، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق، وكفروا بالنعمة، وضيّعوا الشكر، فبدّلوا وبدّل بهم الحال، كما قالوا:
تبدلت وتبدلنا يا حسرة لمن ... ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 16]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال، واتصال من التوفيق، وطرب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكب زلّة أو يسىء أدبا أو يتبع شهوة، ولا يعرف قدر ما هو به، فيتغير عليه الحال فلا وقت ولا حال، ولا طرب ولا وصال يظلم عليه النهار وقد كانت لياليه مضيئة، كما قلنا «2» :
__________
(1) الأرضة- دودة تأكل الخشب.
(2) هكذا في ولكنها في ص: كما قالوا.(3/180)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
ما زلت أختال في زمان وحال ... حتى أمنت الزمان مكره
حال عليّ الصدود حتى ... لم تبق مما شهدت ذرّة
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 17 الى 19]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
ما عوملوا إلا بما استوجبوا، ولا سقوا إلّا ممّا ثبطوا «1» ، وما وقعوا إلّا في الوهدة التي حفروا، وما قتلوا إلا بالسيف الذي صنعوا! «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى..» : ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم، والإصرار على غيهم وطغيانهم.
«فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» فرّقناهم تفريقا حتى اتخذهم الناس مثلا مضروبا يقولون. ذهبوا أيدى سبأ، وتفرّقوا أيادى سبأ. وفي قصتهم آيات لكل صبّار على العاقبة، شكور على النعمة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
. صدّق عليهم إبليس ظنّه- وإن كان لا يملك لنفسه أمرا، فإبليس مسلّط على أتباعه
__________
(1) ثبط- حمق في عمله.(3/181)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
من الجنّ والإنس، وليس به من الإضلال شىء، ولو أمكنه أن يضرّ غيره لأمكنه أن يمسك على الهداية نفسه، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» » .
«وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» : يهدى من يشاء ويضل من يشاء. ثم أخبر- سبحانه وتعالى- أنه بملكه متفرّد، وفي الألوهية متوحّد، وعن الأضداد والأنداد متعزّز، وأنهم لا يملكون مثقال ذرّة، ولا مقياس حبّة، وليس منهم نصير، ولا شريك ولا ظهير، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الملائكة في السماء بوصف الهيبة فزعون، وفي الموقف الذي أثبتهم الحقّ واقفون، لا يفترون عن عبادته ولا يعضون.
ثم قال جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
لم يقل أحد- مع شركه- إنه يحيل في الرزق على أحد غيره، فكما لا شريك له فى الرزق ولا شريك له في الخلق فلا شريك له في استحقاق العبادة والتعظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 26]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم.. ويوم الجمع يحاسب الله كلّا على أعماله، ويطالب كلا بشأنه، لا يؤاخذ أحدا بعمل غيره، وكلّ يعطى كتابه، ويطلب الله من كلّ واحد حسابه.
وقد أجرى الله سنّته بأن يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم فى حال افتراقهم. فللاجتماع أثر كبير في الشريعة، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص. وقد عاتب الله- سبحانه- الذين يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح من لا يتفرّق إلا عن استئذان.
__________
(1) آية 65 سورة الإسراء. [.....](3/182)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية:
«قُلْ يَجْمَعُ ... »
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 27]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، هو لك، تملكه وما ملك «1» ، لانهما كهم فى ضلالتهم. وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر، ولا تسمع ولا تبصر، وقعت لهم شهة استحقاقها العبادة، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يقلدون أسلافهم ...
وهذا هو الضلال البعيد والخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 28]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)
أرسلناك مؤيّدا بالمعجزات، مشرّفا بجميع الصفات، سيدا في الأرضين والسماوات، ظاهرا لأهل الإيمان، مستورا عن بصائر أهل الكفران- وإن كنت ظاهرا لهم من حيث العيان، قال تعالى: «وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «2» قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
لكثرة ما يقولون هذا كرّره الله في كتابه خبرا عنهم، والجواب إن لكم ميعاد يوم، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 31]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
__________
(1) وردت التلبية مضطربة الكتابة وقد صححناها طبقا لما جاء في المحبر لابن حبيب.
(2) آية 198 سورة الأعراف.(3/183)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
لو رأيتهم يومذاك لرأيت منظرا فظيعا يرجع بعضهم إلى بعض القول، ويحيل بعضهم على بعض الجرم يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، وينكر الذين استكبروا ويقولون: بل أنتم اتبعتمونا.. وهكذا أصحاب الزلات الأخلاء في الفساد، قال تعالى: «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «1» .
وكذلك الجوارح والأعضاء غدا يشهد بعضها على بعض فاليد تقول للجملة أخذت، والعين تقول أبصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة، ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لا عتبروا، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقوا.. ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
أي قابلوا رسلنا بالتكذيب، وصبر رسلنا.. وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم؟
فهم لنجاتهم أرسلوا، ولصلاحهم دعوا وبلّغوا، ولو وافقوهم لسعدوا.. ولكنّ أقساما سبقت، وأحكاما حقت، والله غالب على أمره.
«وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي بصائر مفتوحة لقوم، وأخرى مسدودة لقوم.
__________
(1) آية 67 سورة الزخرف.(3/184)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 37]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)
لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال والأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة والأحوال الصافية والأنفاس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة، فأولئك لهم جزاء الضعف: يضاعف على ما كان لمن تقدمهم من الأمم «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» من تكدر الصفوة والإخراج من الجنة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 38]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقّ الله في السرّ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
من الخلف في الدنيا الرضا بالعدم والفقد، وهو أتمّ من السرور بالموجود «1» ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة ولا يكون ذلك إلا مع التجريد.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 40]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40)
قوم كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم فيتبرأون منهم وينزّهون الله ويسبحونه،
__________
(1) استعمل القشيري هنا كلمة (الموجود) بالميم وكان المفروض حسب السياق أن يستعمل (الوجود) ، وبهذا يتأيد رأينا في هامش سابق أن من الخير قصر اصطلاح (الوجود) على الوجود الحق.(3/185)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
فيفتضح هؤلاء- والافتضاح عند السؤال من شديد العقوبة، وفي بعض الأخبار:
أن غدا من يسألهم الحقّ فيقع عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون: عذّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال! قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 42]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
الإشارة في هذا أنّ من علق قلبه بالأغيار وظنّ صلاح حاله بالاحتيال «1» والاستعانة بالأمثال والأشكال ينزع الله الرحمة من قلوبهم ويتركهم، ويشوش أحوالهم، فلا لهم من الأمثال والأشكال معونة. ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، وإن رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم، ويقول لهم: ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 43]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
الحكماء، والأولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دلوا الناس على الله.
قال بعض إخوان السوء- مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا «2» لمريد:
ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تتمّم الطريق! لا بد من الدنيا ما دمت تعيش! ... وأمثال ذلك، حتى يميل هذا المسكين عند قبول النصح، وربما كان له هذا من خواطره الدنية ... فيهلك ويضلّ.
__________
(1) الاحتيال هنا معناه الاعتماد على جهده الإنسانى، وتفريغ الوسع فيه دون التعويل على فضل الله ومنته، فالواجب إسقاط التدبير والاعتماد على التقدير.
(2) يشبههم القشيري في موضع آخر بمن كان يعوق المجاهدين قبيل القتال.(3/186)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 44]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة يعارضون أصحاب القلوب فيما يجرى من الأمور، بما تشوّش إليهم نفوسهم، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مقتضى تفرقة قلوبهم- على قياس ما يقع لهم- من غير استناد إلى إلهام، أو اعتماد على تقدير من الله وإفهام.
وأهل الحقائق- الذين هم لسان الوقت- إذا قالوا شيئا أو أطلقوا حديثا، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام، أو كان مستنطقا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم «1» . وأصحاب الغفلة ليس لهم إيمان بذلك، فإذا سمعوا شيئا منه عارضوهم فيهلكون، فسبيل هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا، ثم الأيام «2» تجيب أولئك.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
يقول: إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسول فأنعموا النظر.. هل ترون فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.. قلتم إنه ساحر- فأين آثار السحر
__________
(1) انظر ص 348 من المجلد الثاني من هذا الكتاب.
وقد يظن أن هذا محل طعن فيما يصدر عن المعارف من أقوال وأحوال، والواقع أن مرد عجز العارف عن إقامة الحجة إلى أن ما ينثال عليه من كشوفات ليس من تدبيره أو احتياله، ولا نتيجة مهارته أو ذكائه ... وإلا كان مطلوبا منه أن يسوق حجة أو يقدم برهانا.. إنما هي أنوار إلهية تنبجس في عالمه الباطن.. وليست تجربة الإمام الغزالي إلا نموذجا للعارف الذي نهل من العلوم العقلية قدرا عظيما، ولكن ذلك لم يهدىء سورة غليله، ولم يقده إلى الراحة والسكينة.. حتى قيض الله له في علوم القوم ما شفاه وكفاه (انظر الصفحات الأولى من: «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي) .
(2) هكذا في م وهي في ص (الأنام) ونحن نرجح (الأيام) على معنى أن الدهر كفيل بتوضيح الحقيقة- وإن خفيت زمنا.(3/187)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
على أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم إنه شاعر- فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم إنه مجنون- فأى جنون ظهر منه؟
وإذ قد عجزتم عن ذلك ... فهلّا عرفتم أنه صادق؟! قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 48]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)
يقذف بالحقّ على باطل أهل الغفلة فتزول حيلهم، ويظهر عجزهم. ويقذف بالحقّ على أحوال أهل الخلاف فيضمحل اجتراؤهم، ويحيق بهم شؤم معاصيهم.
ويقذف بالحقّ- إذا حضر أصحاب المعاني- على ظلمات أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتهم، ويفضحهم في الحال، ويفضح عوارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 49]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
الباطل على ممرّ الأيام لا يزيد إلا زهوقا، والحقّ على ممرّ الأيام لا يزداد إلا قوة وظهورا.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
إن كنت مهتديا فبربّى لا بجهدي. وإن كنت عندكم من أهل الضلال فوبال ضلالتى عائد عليّ، ولن يضرّكم ذلك. فانظروا أنتم إلى أنفسكم.. أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتمونى؟ لا في الحال تخسرون، ولا في أنفسكم تتعبون، ولا في جاهكم تنقصون.
وما أخبركم به عن نقص أصنامكم فبالضرورة «1» أنتم تعلمون! فما لكم لا تبصرون؟
ولا لأنفسكم تنظرون؟
__________
(1) أي لا جدال في أنكم تجدونها لا تنفع ولا تضر ولا تستطيع أن تدفع عنها مكروها، فهى لا تليق بتأليه ولا تقديس.(3/188)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 52]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
أي لو رأيت ذلك لرأيت منظرا فظيعا، وأمرا عظيما إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال.
«وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» إذا تابوا- وقد أغلقت الأبواب، وندموا- وقد تقطّعت الأسباب.. فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يستفق من غفلته يتجاوز عنه مرة، ويعفى عنه كرّة، فإذا استمكنت منه القسوة وتجاوز سوء الأدب حدّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثيرة «1» .. يحصل له من الحقّ ردّ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يسمع له دعاء، ولا يرحم له بكاء، كما قيل:
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (34) : آية 54]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
التوبة يشتهونها في آخر الأمر وقد فات الوقت، والخصم يريد إرضاءه فيستحيى أن يذكر فى ذلك الوقت، وينسدّ لسانه ويعتقل فلا يمكنه أن يفصح بما في قلبه، ويودّ أن لو كان بينه وبين ما أسلفه بعد بعيد، ويتمنى أن يطيع فلا تساعده القوة، ويتمنى أن يكون له- قبل خروجه من الدنيا- نفس.. ثم لا يتفق.
__________
(1) فى رأى القشيري: الثلاثة- آخر حد القلة، وأول حد الكثرة-.(3/189)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة فاطر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يوجب روحا لمن كان يشاهد الإتقان، ويوجب لوحا لمن كان بوصف البيان فالرّوح من وجود الإحسان، واللوح من شهود السلطان، وكلّ مصيب، ولكلّ من الحقّ نصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
استحق المدح والثناء على انفراده «1» بالقدرة على خلق السماوات والأرض.
«جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» :
تعرّف إلى العباد بأفعاله، وندبهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينة كالسموات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيل الإيمان به الخبر والنقل- لا بدليل العقل- والملائكة من ذلك فلا نتحقق كيفيّة صورهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصدق كلمته.
قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» : قيل الخلق الحسن، وقيل الصوت الحسن، وقيل الصوت الحسن وقيل ملاحة العينين، وقيل الكياسة في الخيرة «2» ، وقيل الفصاحة في المنطق، وقيل الفهم عن الله، ويقال السخاء والجود، ويقال الرضا بالتقدير، ويقال علو الهمة، ويقال التواضع، ويقال العفة عند الفقر، ويقال الظرف في الشمائل، ويقال أن تكون محببّا إلى القلوب، ويقال خفة الروح، ويقال سلامة الصدر من الشرور، ويقال المعرفة بالله بلا تأمّل
__________
(1) هكذا في م. وهي في ص (إرشاده) .
(2) اسم من الاختيار.(3/190)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
برهان «1» ، ويقال الشوق إلى الله، ويقال التعطّف على الخلق بجملتهم، ويقال تحرّر القلوب من رقّ الحدثان بجملته، ويقال ألا يطلب لنفسه منزلة في الدارين «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
الموسّع عليه رزقه لا يضيّق عليه غير الله، والمحروم لا يوسّع عليه غير الله.
ويقال: ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضياء يقهره.
ويقال: ما يلزم قلوب أوليائه من اليقين فلا مزيل له، وما يغلق على قلوب الأعداء من أبواب الذكر فلا فاتح له غيره- سبحانه.
ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له، والذي يمنعه عن أعدائه- بما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا ميّسر له من دونه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
من ذكر النّعمة فصاحب عبادة، ونائل زيادة، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة، ونائل زيادة.. ولكن فرق بين زيادة وزيادة ذلك زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه:
اليوم سرّا بسرّ من حيث المشاهدة، وغدا جهرا بجهر من حيث المعاينة.
والنعمة على قسمين «3» : ما دفع عنه من المحن، وما نفع به من المنن فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة.
__________
(1) من اختاره الله لمعرفته لا يتركه يتعنّى في الأدلة والبراهين بعد اجتيازه مرحلة البداية المصححة بالعقل.
بل يفك أسره من هذه القيود لينطلق في رحلة العرفان بالقلب، ثم الروح، ثم السر، ثم عين السر.
(2) يرى الزمخشري أن الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق وميزة فيه.. وتلك أمور لا يحيط بها وصف. [.....]
(3) مرة أخرى يعود القشيري إلى ذكر نعم الدفع، ونعم النفع، وواضح أن الذكر والشكر لا زمان على الدوام.. هذا هو المقصد الذي يطمح إليه القشيري.(3/191)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
«هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ..؟» وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شىء، ولم يتذلل في ارتفاق لمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله «1» ، ومن توّهم شىء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 4]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
هذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيل للصبر عليه فإذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم «2» .
والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء «3» المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
__________
(1) فالواجب إسقاط التدبير وشهود التقدير- كما قلنا في الهامش منذ قليل.
(2) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم، ولم يأبهوا بالمخلوقين.
بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة.. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته.
(3) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح 3 ق 1 ص 36، 37) ، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج 6 ص 255. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح 3 ص 47) .. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول: «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح 3 ص 138. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط ... الأمر الذي جعل القشيري- وقد عاش في القرنين الرابع والخامس- يتحفظ في الحكم عليهم.(3/192)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
وعد الله حقّ في كل ما أخبر به أنه يكون، فوعده في القيامة حقّ، ووعده لمن أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقّ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقّ، وللعاصين بالندامة حقّ، فإذا علم العبد ذلك استعدّ للموت، ولم يهتم بالرزق، فيكفيه الله شغله، فينشط العبد في استكثار الطاعة ثقة بالوعد، ولا يلمّ بالمخالفات خوفا من الوعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 6]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
عداوة الشيطان بدوام مخالفته فإنّ من الناس من يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة، والشيطان لا يفتر في عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة فيبرز لك عدوّك فإنه أبدا متمكّن لك.
«إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» وحزبه هم المعرضون عن الله، المشتغلون بغير الله، الغافلون عن لله. ودليل هذا الخطاب: إن الشيطان عدوّكم فأبغضوه واتخذوه عدوا، وأنا وليّكم وحبيبكم فأحبّونى وارضوا بي حبيبا.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 7]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
الذين كفروا لهم عذاب معجل وعذاب مؤجّل، فمعجّله تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة همّتهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنم معبودهم. وأمّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم- على الجملة- صعوبته.(3/193)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
وأمّا «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فلهم مغفرة أي ستر لذنوبهم اليوم، ولولا ذلك لا فتضحوا، ولولا ذلك لهلكوا.
«وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» : والأجر الكبير اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال. وفي الآخرة: تحقيق السّؤل ونيل ما فوق المأمول.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
معنى الآية: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن ليس كذلك؟ لا يستويان! ومعنى «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» أن الكافر يتوهّم أنّ عمله حسن، قال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «1» .
ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش «2» حطامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كما لها فلقد زين له سوء عمله (والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبّد راحاته فى الجنة بساعة فلقد زين له سوء عمله) «3» . وإن الذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات لهو من جملتهم. والذي يتوهّم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة- وأنّ هذا يكفيه ... فقد زيّن له سوء عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة. والذي هو في صحبة حظوظه ولا يؤثر حقوق الله فلقد زين له سوء عمله فرآه حسنا.
«فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» : يعنى إذا عرفت حقّ «4» التقدير، وعلمت أنهم سقطوا من عين الله، ودعوتهم جهرا، وبذلت لهم نصحا، فاستجابتهم ليست لك، فلا تجعل على قلبك من ذلك مشقة ولا عناء.
__________
(1) آية 104 سورة الكهف.
(2) حوش المال ونحوه- جمعه وادخره (الوسيط) .
(3) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(4) هكذا في م وهي في ص (سرّ) التقدير.(3/194)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
أجرى سنّته بأنه يظهر فضله في إحياء الأرض بالتدريج فأولا يرسل الرياح ثم يأتى بالسحاب، ثم يوجّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصا كيف يشاء، ويمطر هناك كيف يشاء. كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد بما يسقيه وينزل عليه من أمطار عنايته، فيرسل أولا رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشىء فيها سحب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يجود بمطر ينبت في القلب أزهار البسط، وأنوار «1» الرّوح، فيطيب لصاحبه العيش إلى أن تتمّ لطائف الأنس.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
من كان يريد العزة بنفسه فليعلم أنّ العزة بجملتها لله، فليس للمخلوق شىء من العزّة.
ويقال من كان يريد العزة لنفسه فلله العزّة جميعا، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وقال هاهنا «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» ووجه الجمع بينهما أن عزّ الربوبية لله وصفا، وعزّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلا من الله ولطفا فإذا العزّة لله جميعا.
وعزّه سبحانه- قدرته. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يقهر فيكون من صفات فعله على أول القولين.. ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يوصل إليه من قولهم: أرض عزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه.
ويقال العزيز الذي لا مثل له من قولهم: عزّ الطعام في اليد، فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.
__________
(1) أنوار هنا جمع نورة وهي الزهرة البيضاء.(3/195)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» : الكلم الطيب هو الصادر عن عقيدة طيبة- يعنى الشهادتين- عن إخلاص. وأراد به صعود قبول لأنّ حقيقة الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام «1» .
«وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» : أي يقبله. ويقال العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ويقال الكلم الطيب ما يكون موافقا للسّنّة، ويقال هو ما يشهد بصحّته الإذن والتوقيف. ويقال هو نطق القلب بالثناء على ما يستوجبه الربّ. ويقال هو ما يكون دعاء للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقّا للحقّ ولا يكون فيه حظّ للعبد. ويقال ما هو مستخرج من العبد وهو فيه مفقود «2» . ويقال هو بيان التنصّل وكلمة الاستغفار.
ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يطلب عليه عوض قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» .
أي يقلب عليهم مكرهم فما يتوهمونه من خير لهم يقلبه محنة عليهم. ويقال: تخليته إياهم ومكرهم «3» - مع قدرته على عصمتهم، وكونه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بحالتهم، ثم إن ما يتّخذ من الطين سريع التغيّر، قليل
__________
(1) لأن الخروج يقتضى محلا.. والألوهية تتنزه عنه.
(2) أي ما يصدر عن العبد وهو مأخوذ مستلب عن نفسه- من المعارف.
(3) نصبنا الراء فى (ومكرهم) لتكون مفعولا معه فهكذا نفهم السياق.(3/196)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
القوة في المكث، لكنه يقبل الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته فإذا جاد الحقّ عليه بماء الجود أعاده بعد انكساره بالذنوب «1» .
وإذا كان لا يخفى عليه- سبحانه- شىء من أحوالهم في ابتداء خلقتهم، فمن يبال أن يخلق من يعلم أنه يعصى فلا يبالى أن يغفر لمن رآه يعصى «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
لا تستوى الحالتان: هذه إقبال على الله، واشتغال بطاعته، واستقلال بمعرفته.. وهذه إعراض عن الله، وانقباض عن عبادته، واعتراض- على الله- فى قسمته وقبضته. هذه سبب وصاله، وهذه سبب هجره وانفصاله، وفي كلّ واحدة من الحالتين يعيش أهلها، ويزجى أصحابها وقتها. ولا يستوى الوقتان: هذا بسط وصاحبه في روح، وهذا قبض وصاحبه في نوح. هذا خوف وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاء وصاحبه في ارتياح. هذا فرق وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع وصاحبه في شهود الربوبية.
«وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» : كذلك كلّ يتقرّب فى حالته لربّه ويتزيّن على بابه، وهو حليته التي بها يتحلى من طرب أو حرب، من شرف أو تلف.
__________
(1) عرض القشيري فيما سبق لهذه النقطة عند ما تحدث عن خلق آدم وإبليس، وكيف أن ماء العناية جبر آدم حين أظهر العذر فاجتباه ربه وتاب عليه، وكيف أن الماء أطفأ نار إبليس فأنظره إلى يوم يبعثون، ليدل القشيري بذلك على أن الطين أفضل من النار، وأن إبليس أخطأ في دعوى أفضليته على آدم.
(2) أي أن معصية العبد من العبد عملا- وفي هذا إثبات لحرية الإنسان واختياره- وإن كانت من الله علما ...
وهو من قبل ومن بعد غافر الذنب وقابل التوب. [.....](3/197)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 13]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
تغلب النّفس مرة على القلب، ويغلب القلب مرة على النّفس. وكذلك القبض والبسط فقد يستويان، ومرة يغلب القبض على البسط، ومرة يغلب البسط على القبض، وكذلك الصحو والسّكر، وكذلك الفناء والبقاء.
وسخّر شموس التوحيد وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» : فأرونى شظية من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه! وإذ لم يمكنكم ذلك.. فهلّا أقررتم، وفي عبادته أخلصتم، وعن الأصنام تبرّأتم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 14]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إن استعنتم بأصنامكم لا يعينوكم، وإن دعوتموهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا- على جهة ضرب المثل- لا يستجببون لكم لأنهم لا يملكون نفع أنفسهم.. فكيف يملكون نفع غيرهم؟! «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» : لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت، ولكن لا ينفعهم الإيمان بعد زوال التكليف.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 15]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
الفقر على ضربين: فقر الخلقة وفقر الصفة فأمّا فقر الخلقة فهو عامّ لكلّ أحد فكلّ مخلوق مفتقر إلى خالقه، فهو قد حصل من العدم، فهو مفتقر إليه ليبديه وينشيه، ثم بعد(3/198)
ذلك مفتقر- فى حال بقائه إليه- ليديمه ويقيه. فالله- سبحانه- غنيّ، والعبد فقير العبد فقير بعينه والله غنيّ بعينه «1» .
وأمّا فقر الصفة فهو التجرّد ففقر العوام التجرّد من المال، وفقر الخواص التجرد من الأعلال ليسلم لهم الفقر.
والفقر على أقسام: فقر إلى الله، وفقر إلى شىء هو من الله معلوم أو مرسوم وغير ذلك.
ومن افتقر إلى شىء استغنى بوجود ذلك الشيء فالفقير إلى الله هو الغنيّ بالله، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله، فالمفتقر إلى الله مستغن بالله، والمستغنى بالله مفتقر إلى الله «2» .
ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع، ومن آفات الغنى امتزاجه بالتكبّر.
وشرف العبد في فقره، وكذلك ذلّه في توهمه أنه غنيّ: -
وإذا تذلّلت الرّقاب تقرّبا ... منّا إليك فعزّها في ذلّها «3»
ومن الفقر المذموم، أن يستر الحقّ على صاحبه مواضع فقره إلى ربّه، ومن الفقر المحمود أن يشهده الحقّ مواضع فقره إليه.
ومن شرط الفقير المخلص ألا يملك شيئا ويملك كلّ شىء.
ويقال: الفقير الصادق الذي لا يملكه شىء «4» .
ومن آداب الفقير الصادق إظهار التّشكّر عند كمال التكسّر. ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى. ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى.
__________
(1) أي أن العبد- كذات مستقلة- فقير لأنه مخلوق يحتاج إلى خالقه، والحق- كذات مستقلة- غنى لأنه خالق فهو في غير حاجة إلى مخلوقه.
(2) من أقوال الجنيد في هذا الصدد وقد سئل عن الافتقار إلى الله: أهو أتم أم الاستغناء بالله قال: إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أتم لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى (الرسالة ص 135) .
(3) من أقوالهم في هذا الصدد: لو علم أبناء الملوك ما نحن فيه من عز لجالدونا عليه.
(4) أي لا يكون أسيرا لغرض أو لعرض، فتلك آفة الدنيا والنفس.(3/199)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وحقيقة الفقر المحمود تجرّد السّرّ عن المعلولات وإفراد القلب بالله.
ويقال: الفقر المحمود العيش مع الله براحة الفراغ على سرمد الوقت من غير استكراه شىء منه بكلّ وجه.
قوله: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» : الإشارة منه أن يعطى حتى يحمد.
ويقال الغنىّ إذا أظهر غناه لأحد فإمّا للمفاخرة أو للمكاثرة- وجلّ قدر الحقّ عن ذلك- وإمّا ليجود ويتفضّل على أحد.
ويقال: لا يقول لنا أنتم الفقراء للإزراء بنا- فإنّ كرمه يتقدّس عن ذلك- وإنما المقصود أنه إذا قال: والله الغنى، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا.
ويقال إذا لم تدّع ما هو صفته- من استحقاق الغنى- أولاك ما يغنيك، وأعطاك فوق ما يكفيك.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 16 الى 17]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
عرّفك أنه غنيّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأنه لا بدّ لك منه، فما القصد من هذا إلا إرادته لإكرامك وإيوائك في كنف إنعامه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
كلّ مطالب بعمله، وكلّ محاسب عن ديوانه، ولكلّ معه شأن، وله مع كلّ أحد شأن. ومن العبادات ما تجرى فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجرى النيابة فلو أن عبدا عاصيا منهمكا في غوايته فاتته صلاة مفروضة، فلو قضى عنه ألف ولىّ وألف صفيّ تلك الصلاة الواحدة عن كل ركعة ألف ركعة لم تقبل منه إلّا أن يجىء هو: معاذ الله أن نأخذ إلا ممّن وجدنا متاعنا عنده! فعتابك لا يحرى مع غيرك، والخطاب الذي معك لا يسمعه غيرك:
فسر أو أقم وقف عليك محبتى ... مكانك من قلبى عليك مصون
«إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ(3/200)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» .
الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والخشية هي المخافة فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلّا لمن صاحب الخوف- وطير السماء على أشكالها تقع.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 22]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
كما لا يستوى الأعمى والبصير لا تستوى الظلمات والنور، ولا يستوى الظلّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوى الموصول بنا والمشغول عنّا، والمجذوب إلينا، والمحجوب عنّا، ولا يستوى من اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوى من أشهدناه حقّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذكرنا:
أحبابنا شتان: واف وناقض ولا يستوى قطّ محبّ وباغض قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 23 الى 24]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
أي وما من أمة ممن كانوا من قبلك إلّا بعثنا فيهم نذيرا، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافة بالحقّ.
«بَشِيراً وَنَذِيراً» : تضمنت الآية بيان أنه لم يخل زمانا ولا قوما من شرع.
وفي وقته صلى الله عليه وسلم أفرده بأن أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له:(3/201)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[سورة فاطر (35) : آية 25]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25)
أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سنّتهم مع كلّ نبىّ، وإن أصرّوا على سنّتهم في الغيّ فلن تجد لسنّة الله تبديلا في الانتقام والخزي.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
بيّن في هذه الآية وأمثالها أن تخصيص الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقان الفعل وإحكامه شهادة على علم الصانع وإعلامه.
وكذلك أيضا «مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ» : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت منشها بنعت الجلال.
قوله جل ذكره: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .
«إِنَّما» كلمة تحقيق تجرى من وجه مجرى التحديد أي التخصيص والقصر، فمن فقد العلم بالله فلا خشية له من الله.
والفرق بين الخشية والرهبة أنّ الرهبة خوف يوجب هرب صاحبه فيجرى في هربه، والخشية إذا حصلت كبحت جماح صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة «1» .
والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: «وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «2» فالخشية قضية العلم، والهيبة توجب المعرفة.
__________
(1) يفيد هذا الكلام في التفرقة بينهما عند بحث المصطلح الصوفي.
(2) آية 175 سورة آل عمران.(3/202)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقّه. ويقال من استحيائهم من اطلاع الحق.
ويقال حذرا من أن يحصل لهم سوء أدب وترك احترام، وانبساط في غير وقته بإطلاق لفظ، أو ترخّص بترك الأولى.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 29]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
الذين يستغرق جميع أوقاتهم قيامهم بذكر الله وبحقّه، وإتيانهم بأنواع العبادات وصنوف القرب فلهم القدر الأجلّ من التقريب، والنصيب الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدّ فمنالهم على العكس. أولئك هم الأولياء الأعزّة، وهؤلاء هم الأعداء الأذلّة.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 31]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
ما عرّفناك- من اختيارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا:
لا أبتغى بدلا سواك خليلة ... فثقى بقولي والكرام ثقات
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 32]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
«أَوْرَثْنَا» : أي أعطينا الكتاب- أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاء بلفظ الإرث توسّعا.
«اصْطَفَيْنا» : أي اخترنا. ثم ذكر أقسامهم، وفي الخبر أنه لمّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام: «أمتى وربّ الكعبة» ثلاث مرات.(3/203)
وفي الآية وجوه من الإشارة: فمنها أنه لمّا ذكر هذا بلفظ الميراث فالميراث يقتضى صحة النّسب على وجه مخصوص، فمن لا سبب له فلا نسب له، ولا ميراث له.
ومحلّ النّسب هاهنا المعرفة، ومحلّ السبب الطاعة. وإن قيل محلّ النّسب فضله، ومحل السبب فعلك «1» .. فهو وجه. ويصحّ أن يقال محلّ النسب اختياره لك بدءا ومحلّ السبب إحسانه لك تاليا.
ويقال أهل النسب على أقسام: - الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق.
ويقال جميع وجوه التملّك لا بدّ فيها من فعل للعبد كالبيع، أمّا ما يملك بالهبة فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك: والوصية لا تستحقّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بدّ من قبول أهل السّهمان، والميراث لا يكون فيه شىء من جهة الوارث وفعله، والنّسب ليس من جملة أفعاله.
ويقال الميراث يستحقّ بوجهين: بالفرض والتعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعصبة «2» .
«فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» : تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأفضل، وأرادوا به من ظلم نفسه لكثرة ما حمّلها من الطاعة.
والأكثرون: إنّ السابق هو الأفضل، وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضى التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة «3» .
ويقال قرن باسم الظالم قرينة وهي قوله: «لِنَفْسِهِ» ، وقرن باسم السابق قرينة وهي قوله:
__________
(1) فالنسب وهبى والفعل كسبى كما أن المعرفة وهبية والطاعة كسية وإن كان الصوفية يرون أن الكسب والاجتلاب والتصرف والتكلف كلها لا تتم إلا بفضل من الله (أنظر شرح المكي لأبيات رابعة المبدوءة ب «أحبك حبين ... » فى قوت القلوب» . وهذا المعنى واضح هنا أيضا في تفسير القشيري.
(2) العصبة واحدة العصب، وعصبة الرجل (فى الفرائض) من ليست له فريضة مسماة في الميراث، وإنما يأخذ ما أبقى ذو والفروض. أنظر رأى القشيري في تفضيل التعصيب على الفرض (المجلد الأول من هذا الكتاب ص 317)
(3) على نحو ما يذكره البلاغيون في ذكر الخاص بعد العام.(3/204)
«بِإِذْنِ اللَّهِ» فالظالم كانت له زلّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رفع زلّته بقوله:
لنفسه، والسابق كسر صولته بقوله: بإذن الله.
كأنه قال: يا ظالم ارفع رأسك، ظلمت ولكن على نفسك، ويا سابق اخفض «1» رأسك سبقت- ولكن بإذن الله.
ويقال إنّ العزيز إذا رأى ظالما قصمه، والكريم إذا رأى مظلوما أخذ بيده، كأنه قال:
يا ظالم، إن كان كونك ظالما يوجب قهرك، فكونك مظلوما يوجب الأخذ بيدك «2» .
ويقال الظالم من غلبت زلّاته، والمقتصد من استوت حالاته، والسابق من زادت حسناته.
ويقال الظالم من زهد في دنياه، والمقتصد من رغب في عقباه، والسابق من آثر على الدارين مولاه.
ويقال الظالم من نجم كوكب عقله، والمقتصد من طلع بدر علمه، والسابق من ذرّت «3» شمس معرفته.
ويقال الظالم من طلبه، والمقتصد من وجده، والسابق من بقي معه.
ويقال الظالم من ترك المعصية، والمقتصد من ترك الغفلة، والسابق من ترك العلاقة «4» .
ويقال الظالم من جاد بماله، والمقتصد من لم يبخل بنفسه، والسابق من جاد بروحه.
ويقال الظالم من له علم اليقين، والمقتصد من له عين اليقين، والسابق من له حق اليقين.
ويقال الظالم صاحب المودة، والمقتصد صاحب الخلّة، والسابق صاحب المحبة.
ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشّبهة، والسابق يترك الفضل «5» فى الجملة.
__________
(1) وردت في ص (احفظ) والسياق يتطلب (اخفض) رأسك فما سبقت إليه ليس إلا بإذن الله.
(2) فآية كرم المولى سبحانه أنه ينظر إلى الظالم على أنه مظلوم مظلوم من قبل نفسه التي دعته إلى أن يظلم غيره.... ولعمرى إنها غاية الكرم كما يتصورها هذا الصوفي الجليل.
(3) ذرت الشمس ذروا أي ظهرت أول شروقها (الوسيط) .
(4) أي العلاقة بالدنيا والنفس وما يتصل بهما.
(5) الفضل هنا معناه ما زاد عن الحاجة الضرورية اتقاء للحرام والشبهة، يقول سهل التّسترى: «إذا كان الحلال في التدين هو ما لا يعصى الله فيه فإن الحلال عند الصوفي مالا ينسى الله فيه» . [.....](3/205)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
ويقال الظالم صاحب سخاء، والمقتصد صاحب جود، والسابق صاحب إيثار «1» .
ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصد صاحب بسط، والسابق صاحب أنس.
ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة.
ويقال الظالم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة.
ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والسابق طالب المولى.
ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة.
ويقال الظالم أمن من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة.
ويقال الظالم مضروب بسوط الحرص، مقتول بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة.
والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود.
والسابق مضروب بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مضطجع على باب الاشتياق.
ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض.
ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وجد، والسابق صاحب وجود.
ويقال الظالم صاحب المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة.
ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة، والمقتصد يراه في كل يوم مرة، والسابق غير محجوب عنه البتة.
ويقال الظالم مجذوب إلى فعله الذي هو فضله، والمقتصد مكاشف بوصفه الذي هو عزّه، والسابق المستهلك في حقّه الذي هو وجوده.
قوله: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» لأنه ذكر الظالم مع السابق «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 33]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)
__________
(1) يفيد هذا التقسيم في بحث لغوى عن ترتيب: السخاء والجود والإيثار.
(2) أعجب القرطبي بمنهج الصوفية في تفسير «الظالم والمقتصد والسابق» على هذا النحو فأورد طائفة كبيرة من أقوالهم استغرقت نحو صفحة ونصف الصفحة (ح 14 ص 348) .(3/206)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
نبّه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله، وليس في الفضل تمييز.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 34]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
تحققوا بحقائق الرضا، والحزن سمّى حزنا لخزونة «1» الوقت على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضا واستبشار.
ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوء الأدب. ويقال هو سياسة النفس.
«إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ» للعصاة، «شَكُورٌ» للمطيعين. قدّم ما للعاصين رفقا بهم لضعف أحوالهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 35]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
«دارَ الْمُقامَةِ» : أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجا.
«لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» : إذا أرادوا أن يروا «3» مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة، بل في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاما، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقة أو تحديق مقلة في جهة «4» يرونه كماهم بلا كيفية.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
__________
(1) حزن المكان حزونة أي حزن أي خشن وغلظ، وحزن الرجل اغتم.
(2) يتجلى هنا ما يتمتع به هذا الصوفي من نزعة الأمل وفتح الباب أمام العصاة.
(3) يضاف هذا الرأى إلى موضوع «رؤية الله في الآخرة» كما يتصوره القشيري.
(4) هكذا في م وهي في ص (وجهة) وكلاهما صحيح إذ المقصود تنزيه من يرونه- سبحانه- عن التقيد بالمكانية.. جلت الصمدية عن التقيد بمحل.(3/207)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
لا حياة يتمتعّون بها، ولا موت يستريحون به، وهم مقيمون في العذاب والحجاب، لا يفتر عنهم العذاب، ولا ترفع عنهم العقوبة.
«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» ، فيقال لهم أو لم نعمركم ... ؟
أما جاءكم النذير قبل أن تبلغوا زمان المشيب؟
ويقال: ألم تستوفوا مدة الإمهال في النظر؟
«وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» : الرسل، ويقال ضعف الشيخوخة، ويقال سقوط السّنّ، ويقال تقوّس الظّهر.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
أي عالم بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين.
عالم بمن يريد بالناس السوء وبمن يحسن بالله الظنّ.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 39]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
أهل كلّ عصر خليف عمن تقدمهم فمن قوم هم لسلفهم حمال «1» ، ومن قوم هم أراذل وأنذال فالأفاضل زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة. وقد قالوا:
__________
(1) الحمال الدية أو الغرامة يحملها قوم عن قوم (الوسيط) .(3/208)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
يوم وحسب الدهر من أجله ... حيّا غد والتفت الأمس
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
كرّر إشهادهم عجز أصنامهم، ونقص من اتخذوهم آلهة من أوثانهم ليسفّه بذلك آراءهم، ولينبّههم إلى ذميم أحوالهم وأفعالهم، وخسّة هممهم، ونقصان عقولهم.
ثم أخبر أنهم لا يأتون بشىء مما به يطالبون، وليس لهم صواب عمّا يسألون.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتّبهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
ليس لقولهم تحقيق، ولا لعهدهم وضمانهم توثيق، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور، وما يوهمون من وفائهم فصرف تغرير.. وكذلك المريد في أوان نشاطه تمنيه نفسه م (14) لطائف الإشارات- ج 3-(3/209)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
فتظاهر أمام من تقدّمه حالا بانه عاهد الله، وأنه أكد عقده مع الله.. فإذا عضّته شهوته، وأراد الشيطان أن يكذبه صرعه بكيده، وأركسه في هوة غيّه، ومنية نفسه فيسودّ وجهه، وتذهب عند الله وجاهته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 44]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)
فى الجملة ما خاب له وليّ، وما ربح له عدوّ، ولا ينال الحقيقة من انعكس قصده، بل يرتدّ عليه كيده وهو سبحانه يدمّر على أعدائه تدميرا، ويوسع لأوليائه فضلا كبيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (35) : آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
لو عجّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به، وما اتسعت أيامهم القصيرة له، فأخّر ذلك ليوم الحشر.. فإنّه طويل. والله على كل شىء قدير، وبأمور عباده خبير بصير.
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (ماء وجهه) أي حياؤه، وقد آثرنا ما جاء في م لملاءتها السياق.(3/210)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
سورة يس
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» آية افتتح بها خطابه فمن علمها أجزل ثوابه، ومن عرفها أكثر إيجابه، ومن أكبر قدرها أكرم مآبه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
يقال معناه: يا سيد. ويقال: الياء تشير إلى يوم الميثاق، والسين تشير إلى سرّه مع الأحباب فيقال بحقّ يوم الميثاق وسرّى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم: - «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي إنّك- يا محمد لمن المرسلين، وإنّك لعلى صراط مستقيم.
«تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» أي هذا الكتاب تنزيل (العزيز) : المتكبر الغنى عن طاعة المطيعين، (الرحيم) :
المتفضّل على عباده المؤمنين.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 6]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
أي خصصناك بهذا القرآن، وأنزلنا عليك هذا الفرقان لتنذر به قوما حصلوا في أيام الفترة، وانقرض أسلافهم على هذه الصّفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 7]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7)(3/211)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
أي حقّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرّوا على جحدهم، وانهمكوا في جهلهم، فالمعلوم منهم والمحكوم عليهم أنّهم لا يؤمنون «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
سنجرّهم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبال أمرهم.
«وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» أغرقناهم اليوم في بحار الضلالة، وأحطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنغرقهم فى النار والأنكال، ونضيّق عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال.
«فَأَغْشَيْناهُمْ» : أعميناهم اليوم عن شهود الحجّة، ونلبّس عليهم في الآخرة سبيل المحجّة، فيتعثّرون في وهدات جهنم داخرين، ويبقون في حرقاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نقطع عنهم ما به يعذّبون «2» ، ولا نرحمهم مما منه يشكون تمادى بهم حرمان الكفر، وأحاطت بهم سرادقات الشقاء، ووقعت عليهم السّمة بالفراق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 10]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)
مهجور الحقّ لا يصله أحد، ومردود الحقّ لا يقبله أحد. والذي قصمته المشيئة وأقمته القضية لا تنجع فيه النصيحة.
__________
(1) أريد أن أنبه دائما إلى أن الجبرية عند الشيخ لا تتعارض مع الحرية الإنسانية، فالإنسان حسرّ فيما يفعل ولكن في دائرة ما حددته له القضية السابقة التي ترتبط بالعلم الإلهى السابق للإبداء والإنشاء.. نحن نعلم ما حسدث ولكن العلم الإلهى يسجل بدءا كل ما سيحدث.
(2) من هذا نفهم أن القشيري لا يؤمن بأبدية الجنة وحسب، بل يؤمن بأبدية النار أيضا.. على خلاف جهم الذي يرى أن حركاتهم تتناهى، فهما ليستا أبديتين- كما قلنا من قبل. وعلى خلاف ابن القيم الذي يرى أبدية الجنة فقط حيث بستوقفه الاستثناء في قوله تعالى «لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك» فيقول: إذا فعذابها ينقطع (حادى الأرواح ص 263 وشفاه الغليل ص 262) ولكن يردّ على ابن القيم أن المقصود في الآية هم عصاة المؤمنين وليس الكفار الذين هم- طبقا لنصوص كثيرة- خالدون فيها أبدا «لا يجدون وليا ولا نصيرا» .(3/212)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
[سورة يس (36) : آية 11]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
أي إنما ينتفع بإنذارك من اتّبع الذّكر فإنّ إنذارك- وإن كان عاما في الكلّ وللكلّ- فإنّ الذين كفروا على غيّهم يصرّون.. ألا ساء ما يحكمون، وإن كانوا لا يعلمون قبح ما يفعلون. أمّا الذين اتبعوا الذكر، واستبصروا، وانتفعوا بالذي سمعوه منك، وبه عملوا- فقد استوجبوا أن تبشّرهم فبشّرهم، وأخبرهم على وجه يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم.
«وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» : كبير وافر على أعمالهم- وإن كان فيها خلل.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
نحيى قلوبا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدّموا.
«وَآثارَهُمْ» : خطاهم إلى المساجد «1» ، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وترقرق دموعهم على عرصات خدودهم، وتصاعد أنفاسهم.
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ.. لا لتناسينا لها- وكيف وقد أحصينا كل شىء عددا؟ - ولكننا أحببنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 13]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
انقرض زمانهم، ونسى أوانهم وشأنهم! ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم، ولا نرضى بألا يجرى بين أحبائنا وعلى ألسنة أوليائنا ذكر الغائبين والماضين، وهذا مخلوق يقول في صفة مخلوق:
__________
(1) قال أبو سعيد الخدري: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله الآية، وقال لهم النبيّ (ص) : «إن آثاركم تكتب فسلم تنتقلون» أسباب النزول للواحدى ص 245.(3/213)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
إذا نسى الناس إخوانهم ... وخان المودّة خلّانها
فعندى لإخوانى الغائبين ... صحائف ذكرك عنوانها
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 16 الى 18]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)
قال الرسل: «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» وليس علمنا إلّا بما أمرنا به من التبليغ والإنذار.
«قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» لنرجمنّكم، ولنصنعنّ، ولنفعلنّ ... فأجابهم الرسل: إنكم لجهلكم ولجحدكم سوف تلقون ما توعدون.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 21]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
فى القصة أنه جاء من قرية فسّماها مدينة، وقال من أقصى المدينة، ولم يكن أقصاها وأدناها ليتفاوتا بكثير، ولكنه- سبحانه- أجرى سنّته في استكثار القليل من فعل عبده إذا كان يرضاه، ويستنزر الكثير من فضله إذا بذله وأعطاه.
«اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً..» فأبلغ الوعظ وصدق النّصح.. ولكن كما قالوا:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح
فلمّا صدق في حاله، وصبر على ما لقى من قومه، ورجع إلى التوبة، لقّاه حسن أفضاله، وآواه إلى كنف إقباله، ووجد ما وعده ربّه من لطف أفضاله.(3/214)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
[سورة يس (36) : الآيات 26 الى 27]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
تمنّى أن يعلم قومه حاله، فحقّق الله مناه، وأخبر عن حاله، وأنزل به خطابه، وعرف قومه ذلك. وإنما تمنّى وأراد ذلك إشفاقا عليهم، ليعملوا مثلما عمل ليجدوا مثلما وجد.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
ما كانت إلا قضية منّا بعقوبتهم، وتغييرا لما كانوا به من السلامة إلى وصف البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 30]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)
إن لم يتحسّروا هم اليوم فلهم موضع التحسّر وذلك لانخراطهم في سلك واحد من التكذيب ومخالفة الرسل، ومناوءة أوليائه- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
ألم يروا ما فعلنا بمن قبلهم من القرون الماضية، وما عاملنا به الأمم الخالية، فلم يرجع إليهم أحد، فكلّهم في قبضة القدرة، ولم يفتنا أحد، ولم يكن لواحد منهم علينا عون ولا مدد، ولا عن حكمنا ملتحد قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 33]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
لمّا كان أمر البعث أعظم شبههم، وكثر فيه إنكارهم كان تكرار الله سبحانه لحديث(3/215)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
البعث، وقد ضرب- سبحانه- المثل له بإحياء الأرض بالنبات في الكثير من الآيات.
والعجب ممّن ينكر علوم الأصول ويقول ليس في الكتاب عليها دليل! وكيف يشكل ذلك وأكثر ما في القرآن من الآيات يحت على سبيل الاستدلال، وتحكيم أدلة العقول «1» ؟
ولكن يهدى الله لنوره من يشاء. ولو أنهم أنصفوا من أنفسهم، واشتغلوا بأهم شىء عندهم لما ضيّعوا أصول الدّين، ولكنهم رضوا فيها بالتقليد، وادّعوا في الفروع رتبة الإمامة والتصدّر.. ويقال في معناه:
يا من تصدّر في دست الإمامة فى ... مسائل الفقه إملاء وتدريسا
غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ... شيّدت فرعا وما مهّدت تأسيسا!
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 36]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
تنبّه هذه الاية على التفكّر في بديع صنعه فقال: تنزيها لمن خلق الأشياء المتشاكلة فى الأجزاء والأعضاء، من النبات، ومن أنفسهم، ومن الأشياء الأخرى التي لا يعلمون تفصيلها، كيف جعل أوصافها في الطعوم والروائح، فى الشكل والهيئة، فى اختلاف الأشجار فى أوراقها وفنون أغصانها وجذوعها وأصناف أنوارها وأزهارها، واختلاف أشكال تمارها فى تفرّقها واجتماعها، ثم ما نيط بها من الانتفاع على مجرى العادة مما يسميه قوم: الطبائع فى الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واختلاف الأحداث التي يخلقها الله عقيب شراب هذه الأدوية وتناول هذه الأطعمة على مجرى العادة من التأثيرات التي تحصل في الأبدان. ثم اختلاف صور هذه الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، فالأوقات متجانسة، والأزمان متماثلة، والجواهر متشاكلة.. وهذه الأحكام مختلفة، ولولا تخصيص حكم لكل شىء بما اختصّ به لم يكن تخصيص بغير ذلك أولى منه. وإنّ من كحّل الله عيون بصيرته بيمن التعريف، وقرن أوقاته بالتوفيق، وأتم نظره، ولم يصده مانع.. فما أقوى في المسائل حجّته! وما أوضح فى السلوك نهجه!.
__________
(1) فى هذا ردّ على من يتهم الصوفية بمجافاتهم للعقل والعلم.(3/216)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
إنّها لأقسام سبقت على من شاءه الحقّ بما شاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 37]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
نبطل ضوء النهار بهجوم الليل عليه، وتزيل ظلام الليل بهجوم النهار عليه، كذلك نهار الوجود يدخل على ليالى التوقف، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده فيهديه إلى سواء الطريق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 38 الى 40]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
على ترتيب معلوم لا يتفاوت في فصول السنة، وكل يوم لها مشرق جديد ولها مغرب جديد.. وكل هذا بتقدير العزيز العليم.
«وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال، ضعيف، مختصر الفهم.. ثم يفكّر حتى تزداد بصيرته ... إنه كالقمر يصير كاملا، ثم يتناقص، ويدنو من الشمس قليلا قليلا، وكلّما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا حتى يتلاشى ويختفى ولا يرى ...
ثم يبعد عن الشمس فلا يزال يتباعد ويتباعد حتى يعود بدرا- من الذي يصرّفه في ذلك إلّا أنه تقدير العزيز العليم؟ وشبيه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته، صاحب تمكين غير متلوّن «1» ، يشرق من برج سعادته دائما، لا يأخذه كسوف، ولا يستره سحاب.
وشبيه القمر عبد تتلون أحواله في تنقله فهو في حال من البسط يترقّى إلى حدّ الوصال، ثم يردّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته، ثم يجود الحقّ- سبحانه- فيوفّقه لرجوعه عن فترته،
__________
(1) سبق أن أوضحنا الفرق بين حالى التلوين والتمكين.(3/217)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
وإفاقته عن سكرته، فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال، ويرزق صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال.. كذلك حاله إلى أن يحقّ له بالمقسوم ارتحاله، كما قالوا:
ما كنت أشكو ما على بدني ... من كثرة التلوين من بدّته «1»
وأنشدوا: كلّ يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 42]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
الإشارة فيه إلى حمل الخلق في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنون من التغيير والتأثير. فكم من عبد غرق في اشتغاله في ليله ونهاره، لا يستريح لحظة من كدّ أفعاله ومقاساة التعب في أعماله، وجمع ماله.
فجرّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآله، واستيلاء شغله بولده وعياله على فكره وباله- وما سعيه إلّا في وباله! وكم من عبد غرق في لجّة هواه، فجرّته مناه إلى تحمّل بلواه، وخسيس من أمر مطلوبه ومبتغاه.. ثم لا يصل قط إلى منتهاه، خسر دنياه وعقباه، وبقي عن مولاه! ومن أمثال هذا وذاك ما لا يحصى، وعلى عقل من فكّر واعتبر لا يخفى.
أمّا إذا حفظ عبدا في سفينة العناية أفرده- سبحانة- بالتحرّر من رقّ خسائس الأمور، وشغله بظاهره بالقيام بحقّه، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربّه، ورقّاه إلى ما قال: «أنا جليس من ذكرنى» .. وقل في علوّ شأن من هذه صفته.. ولا حرج! قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 43 الى 44]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) .
__________
(1) البدة النصيب والقسمة (اللسان) . [.....](3/218)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
لولا جوده وفضله لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم، لكنه بحسن الأفضال، يحفظهم فى جميع الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
الآيات هذه صفات من سيّبهم «1» فى أودية الخذلان، ووسمهم بسمة الحرمان، وأصمّهم عن سماع الرّشد، وصدّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آية في الزّجر إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم، وإذا أمروا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنّ الله رازق الأنام، وإن يشأ نظر إليهم بالإنعام: - «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» ثم قال جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 50]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
يستعجلون هجوم الساعة، ويستبطئون قيام القيامة- لا عن تصديق يريحهم من شكّهم، أو عن خوف يمنعهم عن غيّهم، ولكن تكذيبا لدعوة الرسل، وإنكارا لصحة النبوة، واستبعادا للنشر والحشر.
ويوم القيامة هم في العذاب محضرون، ولا يكشف عنهم، ولا ينصرون.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 54]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
__________
(1) سيبه تركه وخلّاه يسيب حيث شاء (الوسيط) .(3/219)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
يموتون قهرا، ويحشرون جبرا، ويلقون أمرا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
«قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا «1» مِنْ مَرْقَدِنا؟» يموتون على جهل، لا يعرفون ربّهم، ويبعثون على مثل حالهم، لا يعرفون من بعثهم، ويعدون ما كانوا فيه في قبورهم من العقوبة الشديدة- بالإضافة إلى ما سيلقون من الآلام الجديدة- نوما ورقادا، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهادا، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغسّاقا، ولقد عوملوا بذلك استحقاقا: فقد قال جل ذكره: - «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 57]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57)
إنما يضاف العبد إلى ما كان الغالب عليه ذكره والآخذ بمجامع قلبه، فصاحب الدنيا من فى أسرها، وأصحاب الجنة من هم طلّابها والساعون لها والعاملون لنيلها قال تعالى مخبرا عن أقوالهم وأخوالهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» «2» . وهذه الأحوال- وإن جلّت منهم ولهم- فهى بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البله» «3» ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرّا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا، والله يختص برحمته من يشاء.
وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»
__________
(1) سقطت (بعثنا) من الناسخ في ص.
(2) آية 61 سورة الصافات.
(3) جاء في اللسان أن الأبله من تغلب عليه سلامة الصدر، وحسن الظنّ بالناس لأنه يغفل أمر دنياه، ويقبل على آخرته ويشغل نفسه بها، قال صلى الله عليه وسلم «أكثر أهل الجنة البله» فهم أكياس في أمر الآخرة (اللسان ح 19 ص 477) ط بيروت.(3/220)
وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية «1» ويقال: لو علموا عمّن شغلوا لما تهنّأوا بما شغلوا.
ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ..» كأنه يخاطبهم مخاطبة المعاينة إجلالا لهم كما يقال: الشيخ يفعل كذا، ويراد به: أنت تفعل كذا.
ويقال: إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بعد لعصيانهم فيقول الحق: عبدى.. أهل النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنك لأنهم في لذّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم فليس لك اليوم إلا نحن! وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتمّ الأشغال، وهي أشغال مؤنسة مريحة لا متعبة موحشة.
ويقال: الحقّ لا يتعلّق به حقّ ولا باطل فلا تنافى بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مشغولون مستديمون لمعرفته بأى حالة هم، ولا يقدح اشتغالهم- باستيفاء حظوظهم- فى معارفهم.
ويقال شغل نفوسهم بشهواتها «2» حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبة من إحساس النّفس الذي هو أصعب الرّقباء، ولا شىء أعلى من رؤية الحبيب مع فقد الرقيب.
قوله جل ذكره: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» .
__________
(1) هكذا فى م وهي في ص (لله وبه) ، وقد آثرنا (الرؤية) متأثرين برواية القرطبي عن الثعلبي والقشيري-- ابن المصنف- حيث تقول هذه الرواية: «فينظر إليهم الحق وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ماداموا ينظرون إليه» القرطبي ح 15 ص 45.
(2) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى.
وفي الخبر عن أبى سعيد الخدري قال (ص) : «إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا» . ذكر ابن عباس: كلما أتى الرجل من أهل الجنة الحوراء وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، ولا يكون بينهما منى، منه أو منها. (القرطبي ح 15 ص 45) .(3/221)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
«أَزْواجُهُمْ» : قيل أشكالهم في الحال والمنزلة، كقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ» «1» وقيل حظاياهم «2» من زوجاتهم.
«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ» : أي نصيب أنفسهم. ويقال الإشارة فيها إلى راحات الوقت دون حظوظ النفس.
«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» : ما يريدون، ويقال تسلم لهم دواعيهم، والدعوى- إذا كانت بغير حقّ- معلولة.
قوله تعالى:
[سورة يس (36) : آية 58]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة، وأكّد ذلك بقوله: «قَوْلًا» .
وبقوله: «مِنْ رَبٍّ» ليعلم أنه ليس سلاما على لسان سفير.
«مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» . والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال ما يسلّم عليهم لتكمل لهم النعمة. ويقال الرحمة في ذلك الوقت أن ينقّيهم في حال سماع السلام وحال اللقاء لئلا يصحبهم دهش، ولا تلحقهم حيرة.
ويقال إنما قال: «مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نفس، ولرجائهم مساغ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي.
ويقال: قال ذلك ليعلم العبد أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه، وإنما وصل إليه برحمة ربه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 59]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
غيبة الرقيب أتمّ نعمة، وإبعاد العدوّ «3» من أجلّ العوارف «4» فالأولياء في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة.
__________
(1) آية 22 سورة الصافات.
(2) جمع حظية وهي المرأة التي تفضل على غيرها في المحبة.
(3) يقول قتادة فى «امتازوا» إنها بمعنى عزلوا عن كل خير.
(4) العوارف جمع عارفة وهي الفضل والإحسان.(3/222)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 61]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
لو كان هذا القول من مخلوق إلى مخلوق لكان شبه اعتذار أي لقد نصحتكم ووعظتكم، ومن هذا حذّرتكم، وكم أوصلت لكم القول، وذكّرتكم فلم تقبلوا وعظي، ولم تعملوا بأمرى، فأنتم خالفتم، وعلى أنفسكم ظلمتم، وبذلك سبقت القضية منّا لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 65]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)
اليوم سخّر الله أعضاء بدن الإنسان بعضها لبعض، وغدا ينقض هذه العادة، فتخرج بمض الأعضاء على بعض، وتجرى بينها الخصومة والنزاع فأمّا الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة، وأمّا العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم بعض أعضائهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضا بالإحسان، وكما قيل:
بينى وبينك يا ظلوم الموقف ... والحاكم العدل الجواد المنصف
وفي بعض الأخبار المروية المسندة أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزّلّة فيتطاير شعره من جفن عينيه، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق: تكلمى يا شعرة جفن عبدى واحتجّى عن عبدى، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادى مناد: هذا عتيق الله بشعرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 68]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
؟ يردّه إذا استوى شبابه وقوّته إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغ أرذل العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء، كما قيل:
طوى العصران ما نشراه منى ... وأبلى جدنى نشر وطيّ(3/223)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
أرانى كلّ يوم في انتقاص ... ولا يبقى مع النقصان شيّ
هذا في الجثث والمبانى دون الأحوال والمعاني فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حدّ الخرف «1» فيختلّ رأيه وعقله. وأهل الحقائق تشيب ذوائبهم ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها، وطراوة جدّتها.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 69]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
كلامه صلى الله عليه وسلم كان خارجا عن أوزان الشّعر، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر، ولا من طرق الخطباء.
تحيّر القوم في بابه ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 75]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
ذكر عظيم منّته عليهم، وجميل نعمته لديهم بما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه الانتفاع.
ولفظ «أَيْدِينا» توسّع. أي مما عملنا وخلقنا، وذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها، وبشرب ألبانها، وبالحمل عليها، وقطع المسافات بها، ثم بأصوافها وأوبارها وشعرها ثم بعظم بعضها.. فطالبهم بالشكر عليها، ووصفهم بالتقصير في شكرهم.
ثم أظهر- ما إذا كان في صفة المخلوقين لكان شكاية- أنهم مع كل هذه الوجوه من الإحسان: -
[سورة يس (36) : آية 76]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
__________
(1) الخرف فساد العقل من الكبر.(3/224)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
اكتفوا بأمثالهم «1» معبودات لهم، ثم سلّى نبيّه- صلى الله عليه وسلم بأن قال له: - «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» وإذا علم العبد أنّه بمرأى من الحقّ هان عليه ما يقاسيه، ولا سيما إذا كان في الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 77]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
أي شددنا أسرهم، وجمعنا نشرهم، وسوّينا أعضاءهم، وركّببنا أجزاءهم، وأودعناهم العقل والتمييز.. ثم إنه «خَصِيمٌ مُبِينٌ» : ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بزعمه واستصوابه، وكما قيل:
أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلمّا اشتدّ ساعده رمانى
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : الآيات 78 الى 81] «2»
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
مهّد لهم سبيل الاستدلال، وقال إن الإعادة في معنى الإبداء، فأى إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء؟ وإنّ الذي قدر على خلق النار في الأغصان الرّطبة من المرخ والعفار «3» قادر على خلق الحياة في الرّمة البالية، ثم زاد في البيان بأن قال: إن القدرة على مثل الشيء
__________
(1) أي أمثالهم من المخلوقين والمخلوقات.
(2) نزلت حين سأل أبى بن خلف الجمحي رسول الله (ص) وقد جاءه بعظم حائل قائلا: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، ويبعثك ويدخلك في النار. (أسباب النزول للواحدى ص 246) .
(3) المرخ شجر طويل ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى، يقتدح به. والعفار الجوز المأكول.
وفي المثل: «فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» (الوسيط) .
م (15) لطائف الإشارات- ح 3 [.....](3/225)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
كالقدرة عليه لاستوائهما بكلّ وجه، وإنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحى الإنسان من النطفة، والطير «1» من البيضة، ويحيى القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يميت نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 82]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
«إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بخلقه وقدرته. وأخبرنا أنه تتعلّق بالمكوّن كلمته على ما يجب في صفته، وسيّان عنده خلق الكثير في كثرته والقليل في قلّته.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (36) : آية 83]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
أي بقدرته ظهور كلّ شىء: فلا يحدث شىء- قلّ أو كثر- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه، فمنه ظهور ما يحدث، وإليه مصير ما يخلق
__________
(1) وردت (والطين) والصواب أن تكون (والطير) .(3/226)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
سورة الصّافّات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة إذا استولت على قلب أزالت عنه أولا من الدارين أربه، ثم ألزمت على وجه التبعية حربه، ثم شرّفت من حيث الهمة طلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
افتتح الله هذه السورة بالقسم بالصافات، وهم الملائكة المصطفّة في السماء وفي الهواء، وفي أماكنهم على ما أمرهم الحق- سبحانه- من المكان يلازموته، والأمر يعانقون يسبّحونه ويقدّسونه، وبما يأمرهم به يطيعونه.
«فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» عطفهم على ما تقدّم بحرف الفاء وهم الملائكة الذين يزجرون السحاب. ويقال يزجرون الناس عن المعاصي. ويقال هي الخواطر الزاجرة عن المناهي.
«فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» يقال «الصَّافَّاتِ» الطيور المصطفّة في السماء، «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» الملائكة يتلون كتاب الله، ويتلون الوحى على الأنبياء عليهم السلام.
«إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» هذا هو المقسوم عليه.
أخبر أنه سبحانه واحد في ملكه، وذلك لأنهم تعجّبوا أن يقوم الواحد بجميع أحوال العالم. ومعنى كونه واحدا تفرّده في حقّه عن القسمة، وتقدّسه في وجوده عن الشبيه، وتنزّهه فى(3/227)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
ملكه عن الشريك واحد في جلاله، واحد في استحقاق جماله، واحد في أفعاله، واحد في كبريائه بنعت علائه، ووصف سنائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 5]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
مالك السماوات والأرض وما بينهما، وخالقهما، وأكساب العباد داخلة في هذا «1» .
«وَرَبُّ الْمَشارِقِ» مشارق النجوم والشمس والقمر، ومشارق القلوب بشموسها وأقمارها ونجومها.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)
زيّن السماء الدنيا بالنجوم، وقلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال، وحفظ السماوات بأن جعل النجوم للشياطين رجوما، وكذلك زيّن القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قرب منها الشيطان رجمها بنجوم معارفهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 10]
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يلقى إليهم شيئا من وساوسه تذكّروا، فإذا هم مبصرون، ورجعوا.. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا «2» » .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
__________
(1) هذا الرأى على جانب كبير من الأهمية من الوجهة الكلامية، وخلق أكساب العباد من الله حكما وعلما، لأن الإرادة الإنسانية لا يمكن أن تخرج عن نطاق الحكم والعلم الإلهين- هكذا أو قفنا القشيري في مواضع مختلفة.
(2) آية 201 سورة الأعراف.(3/228)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
عرّفهم عجزهم عن الإثبات، وضعفهم في كل حال، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 12]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادة بحدوث مثله. وتقرأ «2» «عَجِبْتَ» بالفتح خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم- وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك من قبل نفسه بل عجبت، ويقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء، إما في القدر، أو الإكثار في الذمّ أو في المدح.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 13]
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)
إذا ذكروا بآياته يعرضون عن الإيمان بها والتفكّر فيها، ويقولون: ليس هذا الذي أتى به محمد إلا سحرا ظاهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 16 الى 19]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
قالوا: أئذا متنا، تفرّقت أجزاؤنا، وصرنا رميما.. أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون يبعثون كذلك؟ قالوه على جهة الاستبعاد فالمعرفة لهم مفقودة، والبصائر لهم مسدودة، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة.
«قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» قل لهم يا محمد نعم، وعلى وصف الصغر ما يبعثكم، وبزجرة واحدة يحشركم، بعد أن يقيم القيامة على جميعكم.
__________
(1) لازب أي لاصق لصق بعضه ببعض، أو لازق يلتزق بما أصابه، وقال مجاهد والضحاك هو المنتن (القرطبي) ح 15 ص 68، 69.
(2) بالفتح قراءة أهل المدينة وأبى عمرو وعاصم. وبالضم قرامة عبد الله بن مسعود، والكوفين إلا عاصما.
والذين ينكرون الضم يرون أن الله لا يعجب من شىء، ولكن تخريج القشيري لذلك يكاد يكون سائغا، وقد اختاره بعض الأئمة كالبيهقى.(3/229)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 21]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
دعوا بالويل على أنفسهم! ويقال لهم: هذا يوم الفصل الذي كنتم تكذبون به، وقد عاينتموه اليوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 27]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)
أراد بأزواجهم قرناءهم وأشكالهم ومن عمل مثل أعمالهم، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير.. وكذلك في هذه الطريقة: من أعان صاحب فترة في فترته، أو صاحب زلة على زلته- كان مشاركا له في عقوبته، واستحقاق طرده وإهانته.
قوله: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» : مقام السؤال مقام صعب قوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك فالذين تسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف، وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف، وهم قسمان: الخواصّ يسترهم الحقّ عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة، وأقوام هم أرباب الزلات يرحمهم الله فلا يفضحهم، ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بنعت الهيبة، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة، وفي الخبر: «أن قوما يسترهم بيده ويقول تذكر غدا ربك» وهؤلاء أصحاب الخصوص في التحقيق: فأما الأغيار والأجانب والكفار فيقال لهم: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «1» ، فإذا قرءوا كتابهم يقال لهم. من عمل هذا؟ وما جزاؤه؟
فيقولون: جزاؤه النار. فيقال لهم: أدخلوها بحكمكم.
ثم يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزع عليهم:
__________
(1) آية 14 سورة الإسراء.(3/230)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يورّك بعضهم الذنب على بعض فهذا يتبرأ من صاحبه، وصاحبه يتبرأ منه، إلى أن يحكم الله عليهم بالخزي والهوان، ويجمعهم في اللعن والإبعاد.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 33 الى 34]
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم، كما أنهم يشتركون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 35]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
احتجابهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته.
ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» «1» ، وقال: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
«2» فإنّ من عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته، قال قائلهم.
ويظهر في الهوى عزّ الموالي ... فيلزمنى له ذلّ العبيد
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 36 الى 38]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) .
__________
(1) آية 206 سورة الأعراف.
(2) آية 173 سورة النساء.(3/231)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
لمّا لم يحتشموا من وصفه- سبحانه- بما لا يليق بحلاله لم يبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 39 الى 42]
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
الاستثناء راجع إلى قوله: إنكم لذائقوا العذاب الأليم ويقال الإخلاص إفراد الحقّ- سبحانه- بالعبودية، والذي يشوب عمله رياء فليس بمخلص.
ويقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وفي الخبر: يا معاذ، أخلص العمل يكفيك القليل منه.
ويقال: الإخلاص فقد رؤية الأشخاص «1» .
ويقال: هو أن يلاحظ محل الاختصاص.
ويقال: هو أن تنظر إلى نفسك بعين الانتقاص.
قوله جل ذكره: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ لهم رزق معلوم لأوقات معينة، وفي وقت الرسول عليه السلام من كان له رزق معلوم كان من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة فلهم في الآخرة رزق معلوم لأبشارهم ولأسرارهم، فالأغنياء لهم رزق معلوم لأنفسهم «2» ، والفقراء «3» لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم.
فواكه وهم مكرمون: من ذلك ورود الرسول عليهم من قبل الله في كل وقت، وكذلك اليوم الخطاب وارد من الله على قلوب الخواص في كل وقت بكلّ أمر.
__________
(1) أي لا يكون هناك حساب للمخلوقين.
(2) رزق النفوس لأغنياء الأموال.
(3) وزرق القلوب لأرباب الأحوال.(3/232)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
[سورة الصافات (37) : الآيات 43 الى 46]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
يستأنس بعضهم برؤية بعض، ويستروح بعضهم إلى لقاء بعض.
«يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» شراب يوجب لهم الطّرب ولا وحشة هناك، شرابا يحضرهم ولا يسكرهم، لأنه قال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 47 الى 49]
لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فلا تغتال عقولهم، ولا تزيل حشمتهم، ولا ترفع عنهم هيبتهم فقوم يشربون وهم بوصف الستر، وآخرون يسقون في الحضور- وهم على نعت القرب.
«وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» لا ينظرن إلى غير الوليّ «1» ، ثم الوليّ قد ينظر إليهن، وفيهم من لا ينظر إليهن:
جننّا بليلى وهي جنّت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 55]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)
يتذاكرون فيما بينهم، ويذكرون من معارفهم من لا يؤمن بالله، وما آمن به المؤمنون فيخلق الله لهم إطلاعا عليه وهم في النار يحترقون.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 56 الى 57]
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
__________
(1) المقصود به هنا الزوج، أي نساء قد قعسرن طرفهن على أزواجهن.(3/233)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
نطق الوليّ بالحقّ ولكنه لم يصرّح يعين التوحيد إذ جعل الفضل واسطة، والأولى أن يقول: ولولا ربى لكنت من المحضرين «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
يقال: بل الملائكة يقولون لهم هذا، ويقال: الحقّ- سبحانه- إذا أراهم مقامهم في الجنة يقول لهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» .
ويقال إن كان العابد يقول هذا، أو يقال له هذا إذا ظهرت الجنة فإنه إذا بدت شظية من الحقائق وتباشير الوصلة، أو ذرّة من نسيم القربة فبالحريّ أن يقول القائلون: لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح.
على مثل سلمى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من سلمى على اليأس طاويا
وهاهنا تضيق العبارات، وتتقاصر الإشارات.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 62]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
ذكر صفة هوان الأعداء، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار من أكل الضريع، ومن شراب الزقوم التي هي في قبح صورة الشياطين، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ...
إلى آخر القصة.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 76]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
__________
(1) أي نطق بعين الفرق ولو كان بعين الجمع لقال: «ولولا ربى ... » .(3/234)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
لمّا أصابه من الأذى من قومه حين كذّبوه، ولم يسمعوا منه ما كان يقول من حديثنا..
رجع إلينا، فخاطبنا وخاطبناه، وكلمنا وكلمناه، ونادانا فناديناه، وكان لنا فكّنا له، وأجابنا فأجبناه.. فلنعم المجيب كان لنا ولنعم المجيبون كنّا له! «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» : شتان بين كرب نوح وبين كرب أهله!
وما يبكون مثل أخى ولكن ... أعزّى النّفس عنه بالتأسى
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 77]
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77)
لأنّ الناس كلهم من أولاد نوح، فإنّ من كان معه في السفينة لم يتناسلوا «1»
[سورة الصافات (37) : آية 78]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
يريد به قول الناس عنه إلى يوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 84]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
يعنى أنّ إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام في التوحيد- وإن اختلفا في فروع شرعيهما.
«بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» : لا آفة فيه. ويقال لديغ من المحبة. ويقال: سليم من محبة الأغيار. ويقال سليم من حظوظ نفسه وإرادته. ويقال: مستسلم لله في قضائه واختياره.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 85 الى 87]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
سألهم على جهة الإنكار عليهم، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم.
«فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟»
__________
(1) قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه. [.....](3/235)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
إذا لقيتموه- وقد عبدتم غيره.. فما الذي تقولون له؟ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم- غافلين عنه؟
قوله جلّ ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 89]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
قيل أراد «إلى» النجوم فأقام «فِي» مقام «إلى» «1» .
«إِنِّي سَقِيمٌ» : كانت تأتيه الحمىّ في وقت معلوم، فقال: قرب الوقت الذي أسقم فيه من أخذ الحمىّ إياى، فكأنه تعلل بذلك ليتأخر عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نفسه من كسر الأصنام.
ويقال كان ذلك من جملة المعاريض. وقيل أرى من نفسه موافقة قولهم في القول بالنجوم لأنهم كانوا يقولون بالنجوم، فتأخر بهذا السبب عنهم «2» .
وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنّ الله- عزّ وجلّ- قد عرّفه بطريق الوحى أنه يخلق- سبحانه- باختياره أفعالا عند حركات الكواكب.
ثم لمّا ذهبوا إلى عيدهم كسّر أصنامهم، فلمّا رجعوا قالوا ما قالوا، وأجابهم بما أجابهم به إلى قوله:
[سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
ردّ الله كيدهم إلى نحورهم. وقد تعرّض له جبريل- عليه السلام- وهو في
__________
(1) ربما نعترض على هذا ... فمع تسليمنا بجواز نيابة حروف الجر بعضها عن بعض إلا أننا نرى أن استعمال «فى» أدق ... فالمقصود من أن ابراهيم «نظر فى» النجوم أنه تأمل وتفكر. بينما لا تؤدى «نظر إلى» أكثر من التطلع بالعين وفرق بين التأمل بالفكر والبصيرة وبين التطلع بالبصر- والله أعلم.
(2) أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع وقال: إن هذا يطلع مع سقمى- وكان علم النجوم مستعملا عندهم- فأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه. وذلك أنهم كانوا أهل وعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم (القرطبي ص 92 ج 15) .(3/236)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
الهواء وقد رمى من المنجنيق فعرض عليه نفسه قائلا: هل من حاجة؟
فأجاب: أمّا إليك.. فلا! قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 99]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
يقال إنه طلب هداية مخصوصة لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لما ذهب إلى ربّه. ويحتمل أنه كان صاحب هداية في الحال وطلب الهداية في الاستقبال أي زيادة في الهداية، ويقال طلب الهداية على كيفية مراعاة الأدب في الحضور، ويقال طلب الهداية إلى نفسه لأنه فقد فيه قلبه ونفسه فقال سيهدينى إلىّ لأقوم بحقّ عبوديته فإن المستهلك في حقائق الجمع لا يصحّ منه أداء العبادة إلّا بأن يردّ إلى حالة التفرقة والتمييز.
ومعنى «إِلى رَبِّي» أي إلى المكان الذي يعبد فيه ربى.
ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي» : فأخبر عن قوله.
وأخبر عن موسى فقال: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» ، فأخبر عن صفته لا عن قوله..
وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلّم: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... »
[فأخبر عن ذاته سبحانه «1» ] وفصل بين هذه المقامات فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعين الجمع ونبينا كان بعين جمع الجمع.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 100 الى 101]
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
لمّا قال «حَلِيمٍ» نبّه على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله..
__________
(1) ما بين القوسين من عندنا أضفناه للتوضيح.(3/237)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 102]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» إشارة إلى وقت توطين القلب على الولد، رأى إبراهيم- عليه السلام- أنه يؤمر بذبح ابنه إسماعيل «1» ليلة التروية، وسميت كذلك لأنه كان يروّى فى ذلك طول يومه. هل هو حقّ أم لا «2» ؟. ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فعرف أن رؤياه حق، فسمى يوم عرفة.
وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات «3» :
أن اذبح ابنك، فقال لإسماعيل: «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» فقال إسماعيل: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكون لها تأويل، فإن كان هذا أمرا فافعل بمقتضاه، وإن كان لها تأويل فتثبت «4» ، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقت ولكن لا يمكنك تلافيه.
ويقال بل قال: أترك حديث الرؤيا واحمله على الأمر، واحمل الأمر على الوجوب، ثم احمله على الفور ولا تقصّر.
ويقال قال له: إن كان يطيب قلبك بأن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبى أن يذبحنى أبى لأجل الله.
__________
(1) اختلف الناس في الذبيح فقال قوم إنه إسحاق وآخرون إنه إسماعيل. وفريق ثالث يقول: الله أعلم به.
«وعن الأصمعى أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعى. أين عزب عنك عقلك! ومنى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة» . اه أما إسحق فكان ببيت المقدس.
(2) مع أن ابراهيم أخذ يتساءل بينه وبين نفسه عن ذلك إلا أنه من الثابت أن الرسل يأتيهم الوحى أيقاظا ورقودا، فقلوبهم لا تنام، قال صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» .
(3) لأجل ذلك سميت الأيام الثلاثة على التوالي يو التروية ويوم عرفة ويوم النحر.
(4) هكذا في م وهي في ص (قبلت) ونحن نرجح (فتثبت) بدليل ما بعدها لأنه بعد الذبح يكون قد قضى الأمر. ويأسى ابراهيم إن كان ذلك غير المراد.(3/238)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
ويقال قال إسماعيل لأبيه: أنت خليل الله وتنام.. ألم تعلم أن الخليل إذا نام عن خليله يؤمر بذبح ابنه؟ مالك يا أبت والنوم؟
ويقال في القصة: إنه رآه ذات يوم راكبا على فرس أشهب فاستحسنه، ونظر إليه قلبه، فأمر بذبحه، فلمّا أخرجه عن قلبه، واستسلم لذبحه ظهر الفداء، وقيل له كان المقصود من هذا فراغ قلبك عنه.
ويقال في القصة: أمر إسماعيل أباه أن يشدّ يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسّه ألم الذّبح فيعاتب، ثم لمّا همّ بذبحه قال: افتح القيد عنى حتى لا يقال لى: أمشدود اليد جئتنى؟
وإنى لن أتحرك:
ولو بيد الحبيب سقيت سمّا ... لكان السّمّ من يده يطيب
ويقال أيهما كان أشدّ بلاء؟ قيل: إسماعيل لأنه وجد الذّبح من يد أبيه، ولم يتعوّد من يده إلا التربية بالجميل، وكان البلاء عليه أشدّ لأنه لم يتوقع منه ذلك.
ويقال بل كان إبراهيم أشدّ بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعده.
«سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فلم يأت إسماعيل بالدعوى «1» بل تأدّب بلفظ الاستنشاء.
ويقال لو قال إسماعيل إمّا لا تقل: «يا بُنَيَّ» بهذه اللطافة، وإمّا لا تقل: «أَنِّي أَذْبَحُكَ» فإنّ الجمع بينهما عجيب! قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 107]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
قيل في التفاسير إنه كان يمرّ بالسكين على حلقه والسكين لا يقطع، فتعجّب ابراهيم، فنودى: يا إبراهيم كان المقصود من هذا استسلامكما.
ويقال إن الله ستر عليهما علم ما أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف عنهما بعد مضىّ وقت المحنة لئلا يبطل معنى الابتلاء ... وهكذا يكون الأمر عند البلاء تنسدّ الوجوه
__________
(1) أي دعوى النفس بالمكنة دون تقديم المشيئة الإلهية.(3/239)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
فى الحال وكذلك كانت حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال حديث الإفك، وكذلك حالة أيوب عليه السلام وإنما يتبيّن الأمر بعد ظهور آخر المحنة وزوالها، وإلّا لم تكن حينئذ محنة [إلّا أنه يكون في حال البلاء إسبال يولى مع مخامرة المحنة] »
ولكن مع استعجام الحال واستبهامه، إذ لو كشف الأمر على صاحبه لم يكن حينئذ بلاء قال تعالى: - «إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قيل كان فداء الذبيح يربّى في الجنة قبله بأربعين خريفا.
والناس فى «الْبَلاءُ» على أقسام: فبلاء مستعصب وذلك صفة العوام، وبلاء مستعذب وذلك صفة من يستعذبون بلاياهم، كأنهم لا ييأسون حتى إذا قتلوا.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 112]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وكلّ هذا بعد البلاء قال تعالى: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 118]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
منّ عليهما بالنبوة، وبالنجاة من فرعون وقومه، وبنصرته عليهم.
«وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ» يعنى التوراة.
«وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» بالتبري عن الحوّل والقوة، وشهود عين التوحيد.
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ» .
ثم قال جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 123]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
«إِلْياسَ» : قيل هو إدريس، وقيل غيره، وكان بالشام، واسم صنمهم «بعل» ،
__________
(1) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م.(3/240)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
ومدينتهم بعلبك.. أنذر قومه فكذّبوه، ووعظهم فما صدّقوه، فأهلك قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 133]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
مضت قصته وكيف نجّى أهله إلا امرأته التي شاركتهم في عصيانهم، فحقّ العذاب عليها مثلما عليهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 146]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
فكان في أول أمره يطلب الاستعفاء من النبوة، ولكن لم يعف، ثم استقبله ما استقبله، فلم يلبث حتى رأى نفسه في بطن الحوت في الظلمة: - «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» أي بما يلام عليه، والحقّ- سبحانه- منزّه عن الحيف في حكمه إذ الخلق خلقه، ثم الله راعى حقّ تعبّده، وحفظ ذمام ما سلف له في أداء حقّه فقال: - «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» فإن كرم العهد فينا من الإيمان، وهو منّا من جملة الإحسان، «فالمؤمن قد أخذ من الله خلقا حسنا» - بذلك ورد الخبر.
«فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ» «سَقِيمٌ» : فى ضعف من الحال لما أثّر من كونه قضى وقتا في بطن الحوت.
«وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ» لتظلّه، فإنه كان في الصحراء وشماع الشمس كان يضرّه، وقيّض له الله ظبية ذات ولد كانت تجيء فيرضع من لبنها، فكأنّ الحقّ أعاده إلى حال الطفولية. ثم إنه رحمه، ورجع إلى قومه، فأكرموه وآمنوا به، وكان الله قد كشف عنهم العذاب، لأنهم حينما خرج يونس من بينهم ندموا وتضرّعوا إلى الله لمّا رأوا أوائل العذاب قد أظلّتهم،
__________
(1) تلاحظ أن القشيري يمر سريعا إزاء قصص الأنبياء هنا لأنه توقف طويلا عند كل منها في مواضع سبقت.(3/241)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
فكشف الله عنهم العذاب، وآمنوا بالله، وكانوا يقولون: لو رأينا يونس لو قرّناه، وعظّمناه، فرجع يونس إليهم بعد نجاته من بطن الحوت، فاستقبله قومه، وأدخلوه بلدهم مسكّرّما.
ويقال: الذّنب والجرم كانا من قومه، فهم قد توعّدوا بالعذاب. وأمّا يونس فلم يكن قد أذنب ولا ألمّ بمحظور، وخرج من بينهم، وكشف الله العذاب عنهم، وسلموا.. واستقبل يونس ما استقبله بل أنه قاسى اللتيا والتي بعد نجاته ويا عجبا من سرّ تقديره! فقد جاء في القصة أن الله سبحانه- أوحى إلى يونس بعد نجاته أن قل لفلان الفخّار حتى يكسر الجرار التي عملها في هذه السنة كلّها! فقال يونس: يا رب، إنه قطع مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمره بأن يكسرها كلّها؟
فقال له: يا يونس، يرقّ قلبك لخزّاف يتلف عمل سنة.. وتريدنى أن أهلك مائة ألف من عبادى؟! يا يونس، إنك لم تخلقهم، ولو خلقتهم لرحمتهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 149]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
لمّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بنات الله بيّن الله قبح قولهم، فقال: سلهم من أين قالوا؟ وبأى حجّة حكموا بما زعموا؟ وأي شبهة داخلتهم. ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات، ويؤثرون البنين عليهن.. ومع كفرهم وقبيح قولهم وصفوا القديم- سبحانه- بما استنكفوا منه لأنفسهم! قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) .
__________
(1) تتجلى براعة القشيري في التقاط نماذج من القصص تخدم فكرته العامة بخصوص تأميل العصاة، وإفساح باب التوبة أمامهم ... على عكس بعض الباحثين الذين لا يهمهم إلا التخويف والتبشيع، والتهويل والإقناط.(3/242)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
[أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلّا من أغويته بحكمي، فبه ضلّوا لا بإضلالكم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : آية 164]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)
الملائكة لهم مقام معلوم لا يتخطّون مقامهم، ولا يتعدّون حدّهم، والأولياء لهم مقام] «2» مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحدا، والأنبياء لهم مقام مشهور مؤيّد بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخلق قدوة فأمرهم على الشّهر، وأمر الأولياء على السّتر.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 173]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)
أي سبقت كلمتنا لهم بالسعادة، وتقدّم حكمنا لهم بالولاية والرعاية، فهم من قبلنا منصورون: - «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» من نصره لا يغلب، ومن قهره لا يغلب.
وجنده الذين نصبهم لنشر دينه، وأقامهم لنصر الحقّ وتبيينه ... من أراد إذلالهم فعلى أذقانه يخرّ، وفي حبل هلاكه ينجرّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 177]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
تولّ عنهم- يا محمد- إلى أن تنقضى آجالهم، وتنتهى أحوالهم. وانتظر انقضاء أيامهم، فإنه سينصرم حديثهم وشيكا: - «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» .
__________
(1) فى هذا الرأى رد على القدرية كما هو واضح.
(2) ما بين القوسين الكبيرين جاء في م وسقط في ص.(3/243)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
وإنما قال ذلك فيما كانوا يتمنون قيام الساعة، وكانوا يستعجلون ذلك لفرط جهلهم، ثم لقلة تصديقهم. فإذا نزل العذاب بساحتهم، وأناخ البلاء بعقوتهم فساء صباحهم. فتولّ عنهم فعن قريب سيحصل ما منه يحذرون.
قوله جل ذكره:
[سورة الصافات (37) : الآيات 180 الى 182]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
«سُبْحانَ رَبِّكَ» : تقديسا له، وسلام على أنبيائنا، «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» : أي هو المحمود على ما ساء أم سرّ، نفع أم ضرّ.(3/244)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
سورة ص
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .
اسم عزيز اعترفت المعارف بالقصور عن إدراكه، اسم جليل تقنّعت العلوم خجلا من الطمع في إحاطته، اسم كريم صغرت الحوائج عند ساحات جوده، اسم رحيم تلاشت قطرات زلّات عباده في تلاطم أمواج رحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
الصّاد مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع.. أقسم بهذه الأشياء وبالقرآن.
وجواب القسم: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ» .
ويقال: أقسم بصفاء مودة أحبابه والقرآن ذى الذكر أي: ذى الشرف.. وشرفه أنه ليس بمخلوق «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 2]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)
فى صلابة ظاهرة، وعداوة بيّنة، وإعراض عن البحث للأدلة، والسّرّ للشواهد.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 3]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
بادوا حين هجم البلاء مستغيثين، وقد فات وقت الإشكاء والإجابة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 4]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
عجبوا أن جاءهم منذر منهم، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة. فلمّا تحيّروا في شأن أنبيائهم رموهم بالسحر، وقسّموا فيهم القول.
__________
(1) وهذا رأى أهل السّنّة بخلاف ما براه المعتزلة. [.....](3/245)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 5]
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)
لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم، وبعدوا عن ذلك تجويزا، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما، فلا عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإنّ الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، ثم إنّ ذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين، وكلّ أمر جرى ثبوت سقوطه فهو مطروح باطل.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 6]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6)
إذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة ص (38) : آية 7]
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
ركنوا إلى السوء والعادة، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلالة، واستناموا إلى التقليد والهوادة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 8]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)
أي لو استبصروا في دينهم لما أقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، ولولا أنّا أدمنا لهم العوافي لما تفرّغوا إلى طغيانهم «1» .
__________
(1) قال تعالى: الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وقال تعالى: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» تلك هي الحكمة الإلهية في إمهالهم.(3/246)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
[سورة ص (38) : آية 9]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أي: هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا، وكذّبوا واحتجّوا.. أعندهم شىء من هذه الأشياء؟ أم هل هم يقدرون على شىء من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا، ويعطوا من شاءوا، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحى على من أرادوا؟
[سورة ص (38) : آية 11]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
بل هم جند من الأحزاب المتحزبين. كلّهم عجزة لا يقدرون على ذلك، مهزومون.
شبّههم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حجّة، ولا لهم قوة، ولا لأصنامهم أيضا من النفع والضر مكنة، ولا في الردّ والدفع عن أنفسهم قدرة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 13]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13)
الآيات.
ذكر هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع، وفي غير هذا الموضع على الإفراد «1» ، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه. ثم قال:
[سورة ص (38) : آية 14]
إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
أي ما كان منهم أحد إلّا كذّب الرسل فحقّت العقوبة عليه، واستوجب العذاب.
ثم قال:
[سورة ص (38) : آية 15]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة، وما هي إلا صيحة واحدة، وإذا قامت فإنها لا تسكن.
__________
(1) المقصود بالجمع والإفراد هنا الجملة والتفصيل.(3/247)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 16]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
اصبر- يا محمد- على ما يقولون، فإنه لن تطول مدّتهم، ولن نمدّ- فى مقاساتك أذاهم- لبثك ومكثك، وعن قريب سينزل الله نصره، ويصدق لك بالتحقيق وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 17]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
«ذَا الْأَيْدِ» أي ذا القوة، ولم تكن قوّته قوة نفس، وإنما كانت قوته قوة فعل كان يصوم يوما ويفطر يوما- وهو أشدّ الصوم، وكان قويا في دين الله بنفسه وقلبه وهمته.
«أَوَّابٌ» رجّاع «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
«2» كان داود يسبّح، والجبال تسبّح، وكان داود يفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيص له بالكرامة والمعجزة.
وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبّح الله، وداود كان يعرف تسبيح الطير وكلّ من تحّقق بحاله ساعده كلّ شىء كان بقربه، ويصير غير جنسه بحكمه، وفي معناه أنشدوا:
ربّ ورقاء هتوف بالضّحى ... ذات شجو صرخت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... وبكت شوقا فهاجت حزنى
فبكائى ربّما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقنى
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمنى
غير أنى بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفنى
__________
(1) من (آب) يثوب إذا رجع، فكان داود رجّاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به (القرطبي ج 15 ص 159) .
(2) يرى ابن عباس أن (الإشراق) معناه صلاة الضحى إذ هي بعد طلوع الشمس.(3/248)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 20]
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
أي قوّينا ملكه بأنصاره، وفي التفسير: كان يحفظ ملكه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل.
قوله جل ذكره: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» .
أي شددنا ملكه بنصرنا له «1» ودفعنا البلاء عنه.
ويقال شددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية.
ويقال شددنا ملكه بقبض أيدى الظّلمة.
ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين.
ويقال شددنا ملكه بأن رأى النصرة منّا، وتبرّأ من حوله وقوّته.
ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلّونه على ما فيه صلاح ملكه.
ويقال بتيقّظه وحسن سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلّ أحد.
ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات.
«وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» : أي أعطيناه الرّشد والصواب، والفهم والإصابة.
ويقال العلم بنفسه وكيفية سياسة أمته.
ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإحكام الرأى والتدبّر.
ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار.
وأمّا «فَصْلَ الْخِطابِ» فهو الحكم بالحق، وقيل: البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر. ويقال: القضاء بين الخصوم.
__________
(1) يغمز القشيري هنا بأصحاب السلطان الذين لا يحسنون سياسة الرعية ولا اختيار الوزراء والأعوان ...
ونحن نعلم أنه ابتلى في عهد طغرل بمحنة كبرى.(3/249)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 22]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)
.. الآيات أرسل الله إلى داود عليه السلام ملكين من السماء على صورة رجلين فتحا كما إليه تنبيها له على ما كان منه من تزوّجه بامرأة أوريا، وكان ترك ذلك أولى- هذا على طريق من رأى تنزيه الأنبياء عليهم السلام من جميع الذنوب.
وأمّا من جوّز عليهم الصغائر فقال: هذا من جملته. وكنّى الخصمان باسم النعجة عن النساء.
وكان داود عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى: إنّى لأجد في التوراة أنّك أعطيت الأنبياء الرّتب فأعطنيها، فقال: إنهم صبروا فيما ابتليتهم به، فوعد داود من نفسه الصبر إذا ابتلاه طمعا في نيل الدرجات، فأخبر الله تعالى أنه يبتليه يوم كذا، فجعل داود ذلك اليوم يوم عبادة، واختلى في بيته، وأمر حرّاسه ألا يؤذيه أحد بالدخول عليه، وأغلق على نفسه الباب، وأخذ يصلّى زمانا، ويقرأ التوراة زمانا يتعبّد. أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غلق باب السماء. وأمر حرسه أن يدفعوا عنه الناس وكانوا ثلاثين ألف رجل- ويقال أربعة آلاف- ولكن لم يمكنهم أن يدفعوا عنه حكم القضاء، ولقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كفّ الطالب يتقلب.
وكانت في البيت كوّة يدخل منها الضوء، فدخل طير صغير من الذهب، ووقع قريبا منه، وكان لداود ابن صغير فهمّ أن يأخذه ليدفعه إلى ابنه «1» ، فتباعد عنه. وجاء في التفاسير:
أنه كان إبليس، قد تصوّر له في صورة طير، فتبعه داود، ولم يزل الطائر يتباعد قليلا قليلا، وداود يتبعه حتى خرج من الكوة، ونظر داود في إثره فوقع بصره على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردة، فعاد إلى قلبه منها شىء، فكان هذا السبب.
ويقال لم يرع الاهتمام بسبب ولده حتى فعل به ما فعل، وفي ذلك لأولى الأبصار عبرة «2» .
__________
(1) نقل القرطبي هذه الرواية منسوبة إلى القشيري ج 15 ص 182.
(2) يحاول القشيري في تلمسه لسبب محنة داود أن يوضح المريدين أنه حتى الأكابر قد تحل بهم البلوى نتيجة المساكنة إلى غيره، فيغار الحق عليهم وينزل بهم من الأمر ما يردهم إلى الحق ... وذلك فضل الله سبحانه.(3/250)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
ويقال لم يكن أوريا قد تزوّج بها بعد، وقد كان خطبها، وأجابته في التزوج به، فخطب داود على خطبته. وقيل بل كانت امرأته وسأله أن ينزل عنها، فنزل على أمره وتزوجها. وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقتل وتزوّج بها. فلمّا تسوّر الخصمان عليه، وقيل دخلا من سور المحراب أي أعلاه ولذلك: - «فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» نحن خصمان ظلم بعضنا بعضا، فاحكم بيننا بالعدل:
[سورة ص (38) : آية 23]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
«أَكْفِلْنِيها» أي انزل عنها حتى أكفلها أنا، «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» . أي غلبنى، فقال داود:
[سورة ص (38) : آية 24]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24)
فضحك أحدهما في وجه صاحبه، وصعد إلى السماء بين يديه، فعلم داود عند ذلك أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه، وظنّ واستيقن أنه جاءته الفتنة الموعودة:
أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه من السجود إلا (للصلاة) «1» المكتوبة عليه، وأخذ يبكى حتى نبت العشب من دموعه، ولم يأكل ولم
__________
(1) (الصلاة) غير واردة في النسختين وقد استعنا بالقرطبي في هذه التكملة (ج 15 ص 185) وقد وجدناها-(3/251)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
يشرب في تلك المدة، حتى أوحى الله إليه بالمغفرة، فقال: يا رب، فكيف بحديث الخصم؟
فقال: إنى استوهبتك «1» منه، وقال تعالى:
[سورة ص (38) : آية 25]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
إن له عندنا لقربة وحسن رجوع، وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجا بدموعه.
ويقال لمّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وجد المغفرة والتجاوز.. وهكذا من رجع في أوائل الشدائد إلى الله فالله يكفيه مما ينوبه، وكذلك من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربّك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربّك «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
«جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» أي بعد من تقدّمك من الأنبياء عليهم السلام. وقيل حاكما من قبلى لتحكم بين عبادى بالحقّ، وأوصاه بألا يتبع في الحكم هواه تنبيها على أنّ أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى.
ولما ذكر الله هذه القصة أعقبها بقوله:
[سورة ص (38) : آية 27]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
__________
- ضرورية لنوضح كيف أن التعبد الفائق الذي يمارسه الخاصة لا يمنع من رجوعهم في حال الفرق الثاني إلى أن يقوموا بالتعبد الذي تفرضه الشريعة. وربما كان ذلك مقصد القشيري من اختيار هذه الرواية ... والواقع أن القشيري يجيد اختيار الشواهد من القصص والأخبار، واضعا في الاعتبار خدمة التصوف وأهله.
(1) أي استوهبتك منه بثواب الجنة (القرطبي ج 15 ص 185) .
(2) هكذا يفتح القشيري أبواب الأمل أمام العصاة، ويدفع عنهم القنوط من رحمة الله.(3/252)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
«باطِلًا» أي وأنا مبطل في خلقهما، بل كان لى ما فعلت وأنا فيه محقّ.
ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقّ.
ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط، ثم قال:
[سورة ص (38) : آية 29]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
«1» «مُبارَكٌ» وهو القرآن، ومبارك أي كبير النّفع، ويقال مبارك أي دائم باق لا ينسخه كتاب من قولهم برك الطير على الماء. ويقال مبارك لمن آمن به وصدّق. ثم إنه بيّن أنّ البركة في تدبّره والتفكّر في معانيه.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 30]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
«نِعْمَ الْعَبْدُ» لأنه كان أوّابا إلى الله، راجعا إليه في جميع الأحوال فى النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 31]
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)
«الصَّافِناتُ» جمع صافنة وهي القائمة، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم إذ ترفع إحدى اليدين على سنبكها «2» . وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غزا أهل
__________
(1) فى الآلوسى أن عليا قرأ «ليتدبروا» بتاء بعد الياء، وكذا فى «البحر» لأبى حيان.
(2) السنبك طرف الحافر، والصفون في اللغة إدامة القيام، قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوا مقعده من النار» وقال الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
(اللسان: مادة صفن)(3/253)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
دمشق، وأصابها منهم «1» ، وقيل ورثها عن أبيه داود وكان قد أصابها من العمالقة «2» ، وقيل كانت خيلا لها أجنحة خرجت من البحر «3» .
وفي بعض التفاسير عرض عليه عشرون ألف فرص فشغلته عن بعض أذكاره لله.
«بِالْعَشِيِّ» : فى آخر النهار، وقيل كان ذلك صلاة العصر «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 32 الى 33]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها بعد أن فرغ من صلاته.
وقيل عرقبها (ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار) «5» ، وقيل وضع عليها الكىّ فسبّلها «6» . وإيش ما كان فكلّ ذلك كان جائزا في شرعه.
قوله جل ذكره: «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» «7» .
أي لصقت بالأرض لحبّ المال. ويقال لمّا سبّل هذه الأفراس عوّضه «8» الله- سبحانه- بأن سخّر له الريح، وهذا أبلغ، وكلّ من ترك شيئا لله لم يخسر على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 34]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) .
__________
(1) هذه رواية الكلبي. [.....]
(2) هذه رواية مقاتل.
(3) هذه رواية الحسن والضحاك.
(4) ينقل القرطبي عن أبى نصر القشيري بن عبد الكريم القشيري قوله: ما كان في ذلك الوقت صلاة ظهر ولا صلاة عصر وإنما كانت تلك الصلاة نافلة، وشغل عنها ثم تذكرها.
(5) ما بين القوسين زيادة أضفناها، اقتبسناها من القرطبي من الموضع نفسه حتى يتضح المعنى الذي يتجه إليه القشيري (ج 15 ص 196) .
(6) سبل الشيء أي أباحه وجعله في سبيل الله.
(7) اختلف في التي «توارت بالحجاب» فقيل هي الشمس، وقيل هي الخيل وقد استعرضها حتى توارت الجهاد.
(8) هكذا في م وهي في ص (عرضه) بالراء والصحيح ما أثبتناه عن م.(3/254)
اختلف الناس في هذه الفتنة ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال: لأطوفنّ على هؤلاء فيولد من كل واحدة منهن غلام يقاتل في سبيل الله» «1» ولم يقل إن شاء الله، ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق مولود، فألقته على كرسيّه، فاستغفر ربه من ترك الاستنشاء، وكان ذلك ترك ما هو الأولى.
وقيل كان له ابن، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه، فهمّوا بقتله، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطين، فمات الولد، وألقته الريح على كرسيه ميتا.
فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء، وكان الأولى به التوكل وترك الاستعانة بالريح.
وقيل في التفاسير: إنه تزوج بامرأة «2» كانت زوجة ملك قهره سليمان، وسباها، فقالت له: إن أذنت لى أن اتّخذ تمثالا على صورة لأبى لأتسلّى بنظري إليه؟ فأذن لها، فكانت (تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوما) ، وكانت تعبده سرّا، فعوقب عليه «3» .
وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت من أحبّ نسائه إليه، وكان إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ودفعه إليها، وهي على باب الخلاء، فإذا خرج استردّه. وجاء يوما شيطان يقال له «صخر» على صورة سليمان وقال لامرأته: ادفعي إليّ الخاتم فدفعته، ولبسه، وقعد على كرسيه، يمشّى أموره- إلا التصرف في نسائه- فقد منعه الله عن ذلك. فلمّا خرج سليمان طالب المرأة بالخاتم، فقالت: الساعة دفعته إليك. فظنّ أنه فتن، وكان إذا أخبر الناس أنه سليمان لا يصدّقونه، فخرج (هاربا إلى ساحل البحر) ، وأصابته شدائد، وحمل سمك الصيادين بأجرة حتى يجد قوتا.
ولما اتهم (بنو إسرائيل) الشيطان (واستنكروا حكمه) نشروا التوراة بين يديه،
__________
(1) فى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال: «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفسى محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .
(2) هذه المرأة- كما يقول الزمخشري- هى «جرادة ابنة ملك جزيرة في البحر يقال لها صيدون.
(3) وكانت عقوبته حرمانه من ملكه أربعين يوما- هى مدة عبادة الصنم في بيته.(3/255)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
ففرّ ورمى بالخاتم في البحر، وطار في الهواء. ولمّا أذن الله ردّ ملك سليمان إليه، ابتلعت سمكة خاتمه، ووقعت في حبال الصيادين، ودفعوها إلى سليمان في أجرته، فلمّا شقّ بطنها ورأى خاتمه لبسه، وسجد له الملاحون، وعاد إلى سرير ملكه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
أي ملكا لا يسلبه أحد منى بعد هذا كما سلب منى في هذه المرة.
وقيل أراد انفراده به ليكون معجزة له على قومه.
وقيل أراد أنه لا ينبغى لأحد من بعدي أن يسأل الملك، بل يجب أن يكل أمره إلى الله فى اختياره له.
ويقال لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغى من بعدي لأحد من الملوك.
وإنما سأل الملك لسياسة الناس، وإنصاف بعضهم من بعض، والقيام بحقّ الله، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا.. وهو كقول يوسف: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» «2» .
ويقال لم يطلب الملك الظاهر، وإنما أراد به أن يملك نفسه، فإن الملك- على الحقيقة- من يملك نفسه، ومن ملك نفسه لم يتّبع هواه.
ويقال أراد به كل حاله في شهود ربّه حتى لا يرى معه غيره.
ويقال سأل القناعة التي لا يبقى معها اختيار.
ويقال علم أن سرّ نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- ألا يلاحظ الدنيا ولا ملكها
__________
(1) تلاحظ أن القشيري- وإن تجنب الوقوع في كثير من الروايات السخيفة مثل اجتماع سليمان بالنساء فى حيضهن، ومثل قضائه في الناس بغير الحق ونحو ذلك- إلا أنه لم يستطع التخلص من الروايات المتأثرة بالإسرائيليات لأننا لا نستطيع أن نتصور وقوع نبى كسليمان أو كداود في مثل هذه المزالق التي لا ينحدر إليها نبى.
(2) آية 55 سورة يوسف.(3/256)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
فقال: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» لا لأنه بخل به على نبيّنا صلى الله عليه وسلم ولكن لعلمه أنه لا ينظر إلى ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 36]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36)
شكر الله سعيه، وسخّر له الريح بدلا من الأفراس فلا يحتاج في إمساكها إلى العلف والمؤن.
[سورة ص (38) : الآيات 37 الى 39]
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
كما سخّرنا له الشياطين.
ثم قال: «هذا عَطاؤُنا..» أي فأعط أو أمسك، واحفظ وليس عليك حساب.
والمشي في الهواء للأولياء، وقطع المسافات البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعا في هذه الأمة- وإن لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين. وإظهاره على خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه يدلّ على أن مقامه- صلى الله عليه وسلم- أشرف «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 41]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41)
أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البليّة، وقيل لما كان قال (أي الشيطان) لامرأته: اسجدي لى حتى أردّ عليكم ما سلبتكم.
ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظلوم فلم ينصره.. فابتلى.
ويقال استضاف الناس يوما فلمّا جاءه ابن فقير منعه من الدخول.
__________
(1) من مبادئ نظرية القشيري في الكرامة: أن كرامة الولي فرع لمعجزة النبي الذي ينتمى الولي إلى أمته، فكل شرف للولى هو في الأصل شرف للنبى وآية حظوته ورتبته.(3/257)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
ويقال كان يغزو ملكا كافرا، وكان لأيوب غنم في ولايته، فداهنه لأجل غنمه فى القتال.
ويقال حسده إبليس، فقال: لئن سلّطتنى عليه لم يشكر لك.
ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحد، فجرّ الشيطان الاسطوانة فانهدم البيت عليهم.
ويقال لبث أيوب في البلاء ثمانى عشرة سنة، وقيل أربعين سنة، وقيل «1» سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 42]
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)
«2» لمّا أراد الله كشف البلاء عنه قال له: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» ، فركض، فظهرت عين ماء بارد فاغتسل به، فعاد إليه جماله وكماله. وقيل الأولى كانت عينا حارة والثانية باردة، واغتسل، وردّ الله لحمه وشعره وبشره، وأحيا أولاده وأهله، وقيل بل يردّهم إليه في الجنة فى الآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 44]
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
الضّغث الحزمة من القضبان، وقيل كانت مائة، وأمر بأن يضرب بها دفعة على امرأته لئلا يحنث في يمينه، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائة خشبة إن صحّ (أنها أخطأت) . فشكر
__________
(1) الرواية الأخيرة منسوبة إلى ابن عباس. [.....]
(2) رفض أبو الفرج الجوزي احتجاج بعض المتصوفة بهذه الآية على إباحة الرقص. والواقع أن ذلك يمنح القشيري تقديرا خاصا لأنه لو كان يؤيد ذلك الاحتجاج لقال به، بل لم يشر إليه، كما لم يشر عند الآية التي سبقت في هذه السورة: «ردوها على فطفق ... » إلى ما يحتج به بعض المتصوفة من تمزيق الخرقة وتقطيع الثياب، فهذه في رأيه استدلالات فاسدة يلجأ إليها الطغام.(3/258)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
الله لها لبراءة ساحتها، وصبرها على خدمته. وسبب يمينه أنه لما قال لها إبليس: اسجدي لى أخبرت أيوب بذلك، فغاظه حيث سمعت من إبليس ذلك وظنّت أنه صادق. وقيل باعث ذوائبها برغيفين حملتهما إليه فتوهّم في ذلك ريبة، وكان أيوب يتعلّق بذوائبها (إذا أراد القيام) . وقيل رابه شىء منها فحلف (أن يضربها بعد شفائه) .
«إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً..» : والصبر ألا تعترض على التقدير.
ويقال الصبر الوقوف تحت الحكم. ويقال التلذّذ بالبلاء، واستعذابه دون استصعابه.
ويقال الصبر الوقوف مع الله بحسن الأدب.
ولم ينف قوله «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اسم الصبر عنه لأنّ ذلك لم يكن على وجه الشكوى، ولأنه كان مرة واحدة، وقد وقف الكثير من الوقت ولم يقل مسّنى الضّرّ فكان الحكم للغالب.
«نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» لم يشغله البلاء عن المبلى. ونعم العبد لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 47]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
«أُولِي الْأَيْدِي» : أي القوة «1» . «وَالْأَبْصارِ» أي البصائر.
«إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ» : أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار، أو بدعاء الناس إلى الجنة والهرب من النار. ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء. ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكرى الدار، «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 48]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
__________
(1) يرى الطبري أن (الأيدى هنا معناها: النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا الخير) .(3/259)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
«وَذَا الْكِفْلِ» : قيل كان تكفّل لله بعمل رجل صالح مات في وقته، وقيل كفل مائة من بنى إسرائيل هربوا من أمير لهم ظالم، فكان ينفق عليهم.
ويقال كان اليسع وذو الكفل أخوين.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 49]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
أي هذا القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء والقصص.
ويقال إنّه شرف لك لأنه معجزة تدل على صدقك، وإن للذين يتّقون المعاصي لحسن المنقلب.
[سورة ص (38) : الآيات 50 الى 52]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52)
أي إذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالترحاب «1» والتبجيل. متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب على ما يشتهون، وعندهم حور عين قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن، «أَتْرابٌ» : لدات مستويات في الحسن والجمال والشكل.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 53]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)
لشرّ مرجع ومنقلب وهي جهنم يدخلونها فيبقون معذّبين فيها، وبئس المكان ذلك!
[سورة ص (38) : آية 57]
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
«حَمِيمٌ» : هو الماء الحار، و «غَسَّاقٌ» هو عصارة أهل النار «2» ، ويقال هو زمهرير جهنم «3» .
__________
(1) هكذا في م وهي في ص (بالإيجاب) ونحن نؤثر (بالترحاب) لتقابل ما يقال لأهل النار فيما بعد (لا مرحبا بهم)
(2) هذا قول محمد بن كعب.
(3) هذا قول ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو: هو قيح غليظ نتن. وقال قتاده: هو ما يسيل من فروج الزناة، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح. وقال آخرون إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره (القرطبي ح 15 ص 222) .(3/260)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
[سورة ص (38) : آية 58]
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 59 الى 61]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
هؤلاء قوم يقتحمون النار معكم وهم أتباعكم، ويقول الأتباع للمتبوعين:
لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم، ويقولون: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ فيقال لهم كلّكم فيها، ولن يفتر العذاب عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 62 الى 63]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)
؟. يقول الكفار عند ما يدخلون النار: ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين.. فلسنا نراهم هاهنا؟ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارنا؟ يقوله أبو جهل وأصحابه يعنون بلالا والمستضعفين، فيعرّفون بأنهم في الفردوس، فتزداد حسراتهم.
[سورة ص (38) : آية 64]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
أي إن مخاصمة أهل النار في النار لحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 65]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65)
قل يا محمد: إنما أنا منذر مخوّف، مبلّغ رسالة ربى، وما من إله إلا الله الواحد الذي لا شريك له.
[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 70]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)(3/261)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
أي الذي أتيتكم به من الأخبار عن القيامة والحشر، والجنة والنار، وما أخبرتكم به عن نبوّتى وصدقى هو نبأ عظيم، وأنتم أعرضتم عنه.
وما كان لى من علم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لولا أنّ الله عرّفنى، وإلا ما كنت علمته. والملأ الأعلى قوم من الملائكة في السماء العليا، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟
وقد ورد في الخبر: «أن جبريل سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الاختصام فقال: لا أدرى. فقال جبريل: فى الكفارات والدرجات فالكفارات إسباغ الوضوء فى السّبرات «1» ، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» «2» . وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها- فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا، ولكنهم في الأصل لا يجحدون.
.. وهذا إنما يوحى إليّ وأنا منذر مبين.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : آية 71]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)
إخباره الملائكة بذلك إنما يدلّ على تفخيم شأن آدم لأنه خلق ما خلق من الكونين «3» ،
__________
(1) السبرات جمع سبرة بسكون الباء وهي الغداة الباردة.
(2) روى الخبر أبو الأشهب عن الحسن هكذا: «سألنى ربى فقال: يا محمد، فيم اختصم الملأ الأعلى؟
قلت في الكفارات والدرجات، قال: ما الكفارات؟ قلت:
المشي على الأقدام إلى الجماعات....» أخرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال: حديث حسن صحيح.
(3) هكذا في م وهى في ص (المكذبين) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.(3/262)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
والجنة والنار، والعرش والكرسي، والملائكة، ولم يقل في صفة شىء منها ما قال في صفة آدم وأولاده. ولم يأمر بالسجود لأحد ولا لشىء إلا لآدم، وسبحان الله! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه وهو التراب والطين.
[سورة ص (38) : الآيات 72 الى 74]
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
روح آدم- وإن كانت مخلوقة- فلها شرف على الأرواح لإفرادها بالذكر، فلمّا سوّى خلق آدم، وركّب فيه الروح جلّله بأنوار التخصيص، فوقعت هيبته على الملائكة، فسجدوا لأمره، وظهرت لإبليس شقاوته، ووقع- بامتناعه- فى اللعنة.
[سورة ص (38) : الآيات 75 الى 76]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
من هنا وقع في الغلط توهّم أنّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية، ولم يعلم أن التفضيل من حيث القسمة دون الخلقة.
ويقال ما أودع الله- سبحانه- عند آدم لم يوجد عند غيره، ففيه ظهرت الخصوصية.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 77 الى 78]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)
قال فاخرج من الجنة، ومن الصورة التي كنت فيها، ومن الحالة التي كنت عليها، «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» مرميّ باللّعن منى، وبالشّهب من السماء، وبالرجوم من قلوب الأولياء إن تعرّضت لهم.(3/263)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 79 الى 81]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه «1» ، وتعلّقت إرادته بسؤال إنظاره، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته، فأنظره الله، وأجابه، لأنه بلسانه سأل تمام شقاوته.
[سورة ص (38) : الآيات 82 الى 83]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
ولو عرف عزّته لما أقسم بها على مخالفته.
ويقال تجاسره في مخاطبة الحقّ- حيث أصرّ على الخلاف وأقسم عليه- أقبح وأولى فى استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة ص (38) : الآيات 84 الى 86]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
وختم الله سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
[سورة ص (38) : الآيات 87 الى 88]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
__________
(1) فى هذه الإشارة دقة تحتاج إلى تأمل، فقول القشيري «جرى على لسانه» تفيد أن مأساة إبليس ترجع إلى مشيئة عليا، وإن كان ظاهر اللفظ أنه بلسانه اختار طريقه، وبإرادته سعى إلى إنظاره.
وهكذا يغمز القشيري بمن يحاولون نسبة الحرية للإنسان- مع أن الحرية وبال ونكال.
ويذكّرنا هذا الموقف بقولة ابن عربى فى (شجرة الكون) عند شرح «كن فيكون» أن فى «كن» كل شىء فى الكاف كمال الدين والكفر، وفي النون النعمة والنقمة ... فالله خالق كل شىء حين خاطب الكون: «كن»
(2) فى هذه الإشارة لفتة إلى مقصد بعيد: أن الوقوع في الذنب أمر قبيح ولكن الإصرار على الذنب أقبح.
وهذا حث للعصاة على الإقلاع عن المعاصي، وعدم اليأس من رحمة الله. وتطالعنا سماحة القشيري في هذا الخصوص فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب، وكذلك أنظر باب «التوبة» فى الرسالة.(3/264)
ما جئتكم من حيث أنا «1» ، ولا باختياري، وإنما أرسلت إليكم.
«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» يعنى القرآن، عظة لكم.
«وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وعلم صدقه بعد ما استمرت شريعته، فإن مثل ذلك إذا كان باطلا لا يدوم «2» .
__________
(1) أي من طرفى أو من جهتى.
(2) أي أن دوام الشريعة وخلودها من آيات صحتها وصدقها.(3/265)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
سورة الزمر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة سماعها يوجب للقلوب شفاءها، وللأرواح ضياءها، وللأسرار سناءها وعلاءها.
كلمة من سمعها بسمع العلم ازداد بصيرة على بصيرة، ثم بلطائف من التعريف غير محصورة.
ومن سمعها بسمع الوجد ظلّت ألبابه مبهورة، وأسراره بقهر الكشوفات منشورة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
أي هذا كتاب عزيز نزل من ربّ عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة بأمر عزيز. وفي ورود الرسول به من الحبيب الأول نزهة لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياح عند قراءة فصولها.
وكتاب موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتاب نبيّنا صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين على قلب المصطفى صلوات الله عليه.. وفصل بين من يكون كتاب ربّه مكتوبا في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربّه محفوظا في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى:
«بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «1» » .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 2]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا محقّ في إنزاله.
__________
(1) آية 49 سورة العنكبوت.(3/266)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع. وتكون بالنّفس والقلب والروح فالتى بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقّى عن طلب الاختصاص «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 3]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
الدين الخالص ما تكون جملته لله فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لما صحّ أن يكون في العالم مخلص.
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ... » أي الذين عبدوا الأصنام قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ، ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بأمره ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فردّ الله عليهم. وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، وما يعقد بينه وبين الله من عقود ثم لا يفى بها.. فكل ذلك اتباع هوى، قال تعالى: «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «2» » .
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لا تهديهم اليوم لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه. والإشارة فيه إلى تهديد من يتعرّض لغير مقامه، ويدّعى شيئا ليس بصادق فيه، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده.
وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدّى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.
__________
(1) تصلح هذه الفقرة لتوضيح درجات العبادة ودرجات الإخلاص، والآفات التي تلحق كل درجة منها، وكيفية التنقى عن هذه الآفات- وبمعنى آخر فإنها تهمنا عند ما نبحث أصول ما أطلقنا عليه: علم النفس الصوفي. [.....]
(2) آية 27 سورة الحديد.(3/267)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 4]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم حيث قالوا: المسيح ابن الله، وعزيز ولد الله فقال:
لو أراد أن يتّخذ ولدا للتبنّى والكرامة لاختار من الملائكة الذين هم منزّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخلق.
ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك فقال: «سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» تنزيها له عن اتخاذ الأولاد.. لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نعته، ولا بالتبنى لتقدّسه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد إذ لو كان ذلك فكيف كان يكون حكمه؟ كقوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» » .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 5]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
أي خلقهما وهو محقّ في خلقهما.
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل في الزيادة والنقصان، وسخّر الشمس والقمر. وقد مضى فيما تقدم اختلاف أحوال العبد في القبض والبسط، والجمع والفرق، والأخذ والرد، والصحو والسّكر، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالى الشّكّ والجحد ونهار الوصل، وليالى الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ «الْعَزِيزُ» المتعزّز على المحبين، «الْغَفَّارُ» للمذنبين.
__________
(1) آية 22 سورة الأنبياء.(3/268)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 6]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
«مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» يعنى آدم وحواء.
«وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» أي خلق لكم، «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» فمن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المواشي اثنين.
«يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» : أي يصوّركم، ويركّب أحوالكم.
«فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» : ظلمة البطن، وظلمة الرّحم، وظلمة المشيمة «1» . ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.
ويقال بيّن آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خلقتك- من قطرتين- أمشاجا متشاكلة الأجزاء، مختلفة الصّور في الأعضاء، سخّر بعضها محالّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة.. وغير ذلك من أحوال القلوب، وسخّر بعضها محالّ للحواس كالسمع والبصر والشّمّ وغيرها.
ويقال هذه كلها نعم أنعم الله بها علينا فذكّرنا بها- والنفوس مجبولة، وكذلك القلوب على حبّ من أحسن إليها- استجلابا لمحبتنا له.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ... » «2» أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربّكم.
__________
(1) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (البشيمة) والظلمات الثلاث التي أوردها القشيري على هذا النحو قالها ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم (القرطبي ج 15 ص 236) .
(2) يبدو أن القشيري منذ هذه اللحظة وحتى الاية الكريمة التالية انتابته حالة من حالات الذكر، فجاءت كلماته أشبه بالتسبيح والنجوى.(3/269)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
أي: أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صوّرتكم فأحسنت صوركم، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامى، وخصعتكم بجميل إكرامى، وأغرقتكم في بحار أفضالى، وعرفتكم استحقاق جمالى وجلالى، وهديتم إلى توحيدى، وألزمتكم رعاية حدودى ... فما لكم لا تنقطعون بالكلية إليّ؟ ولا ترجون ما وعدتكم لديّ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليّ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
إن أعرضتم وأبيتم، وفي جحودكم تماديتم.. فما نفتقر إليكم إذ نحن أغنياء عنكم، ولكنّى لا أرضى لكم أن تبقوا عنى! يا مسكين ... أنت إن لم تكن لى فأنا عنك غنيّ، وأنا إن لم أكن لك فمن تكون أنت؟ ومن يكون لك؟ من الذي يحسن إليك؟ من الذي ينظر إليك؟ من الذي يرحمك؟
من الذي ينثر التراب على جراحك؟
من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تسلو إذا بقيت عنّى؟ من الذي يبيعك رغيفا بمثاقيل ذهب؟!.
عبدى.. أنا لا أرضى ألا تكون لى وأنت ترضى بألا تكون لى! يا قليل الوفاء، يا كثير التجنّى! إن أطعتنى شكرتك، وإن ذكرتنى ذكرتك، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السماوات والأرضين من شكرك:
لو علمنا أنّ الزيارة حقّ ... لفرشنا الخدود أرضا لترضى(3/270)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
إذا مسّه ضرّ خشع وخضع، وإلى قربه فزع، وتملّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضرّه، وكفاه أمره، وأصلح شغله نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادا، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويشرك بمعبوده. هذه صفته ... فسحقا له وبعدا، ولسوف يلقى عذابا وخزيا.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
«1» «قانِتاً» : القنوت هو القيام، وقيل طول القيام. والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعة أوقات الليل والنهار أي في جميع الأوقات.
والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذكره؟ أي ليس كذلك.
ويقال القنوت القيام بآداب الخدمة ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير. «يَحْذَرُ» العذاب الموعود في الآخرة، «وَيَرْجُوا» الثواب الموعود. وأراد بالحذر الخوف.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
__________
(1) قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وقال ابن عمر: نزلت في عثمان بن عفان.
وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر.
(اسباب النزول للواحدى ص 247)(3/271)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
أي هل يستويان؟ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل! «الَّذِينَ يَعْلَمُونَ» : العلم فى وصف المخلوق على ضربين: مجلوب مكتسب للعبد، وموهوب من قبل الربّ. ويقال مصنوع وموضوع. ويقال علم برهان وعلم بيان فالعلوم الدينية كلّها برهانية إلّا ما يحصل بشرط الإلهام.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 10]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
أطيعوه واحذروا مخالفة أمره. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا» بأداء الطاعات، (والإحسان هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان) «1» .
«وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» : أي لا تتعلّلوا بأذى الأعداء إن نبا بكم منزل فتعلّلكم بمعاداة قوم ومنعهم إياكم- لا يسمع، فأرض الله واسعة، فاخرجوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتكم «2» .
«إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» . والصبر حبس النّفس على ما تكرهه.
ويقال هو تجرّع كاسات التقدير من غير استكراه ولا تعبيس.
ويقال هو التهدّف «3» لسهام البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 12]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
__________
(1) تأخر ما بين قوسين فجاء بعد (السهام البلاء) فوضعناه في هذا المكان لأنه يوضح المقصود بتوضيح «أحسنوا» .
(2) يقول القشيري في إحدى وصاياه للمريدين حاثا على السفر: «إن ابتلى مريد بجاه أو معلوم أو صحبة حدث أو ميل إلى امرأة أو استنامة إلى معلوم وليس هناك شيخ يدله على ما به يتخلص من ذلك فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع ليشوش على نفسه تلك الحالة» (الرسالة ص 202) .
(3) التهدف- الدنو والاستقبال.(3/272)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
مضى القول في معنى الإخلاص. وفي الخبر: إن الله يقول: «الإخلاص سرّ بين الله وعبده» «1» .
ويقال الإخلاص لا يفسده الشيطان، ولا يطّلع علية الملكان.
«أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ..» أمرت لأن أكون أول المسلمين في وقتى وفي شرعى. والإسلام الانقياد لله بكل وجه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 13]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
أخاف أصناف العذاب التي تحصل في ذلك اليوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 14 الى 15]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
هذا غاية الزجر والتهديد، ثم بيّن أن ذلك غاية الخسران، وهو الخزي والهوان. والخاسر- على الحقيقة- من خسر دنياه بمتابعة الهوى، وخسر عقباه بارتكابه ما الربّ عنه نهى، وخسر مولاه فلم يستح منه فيما رأى.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 16]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
أحاط بهم سرادقها فهم لا يخرجون منها، ولا يفترون عنها. كما أنهم اليوم في جهنم
__________
(1) أخطأ الناسخ في ص إذ جعلها (ستر) بالتاء والصواب هى (سر) ، وقد ورد الخبر في الرسالة هكذا:
أخبر النبي (ص) عن جبريل عن الله سبحانه أنه قال: «الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببته من عبادى» (الرسالة ص 104) .(3/273)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
عقائدهم يستديم حجابهم، ولا ينقطع عنهم عقابهم «1» .
«ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ... » إن خفت اليوم كفيت خوف ذلك اليوم وإلّا فبين يديك عقبة كوود.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 17]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17)
«2» طاغوت كلّ إنسان نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضا مولاه.
وعبادة النّفس بموافقة الهوى- وقليل من لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النّفس.
«وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» : أي رجعوا إليه في كل شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 18]
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
«3» «يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» يقتضى أن يكون الاستماع لكل شىء، ولكن الاتباع يكون للأحسن. «أَحْسَنَهُ» : وفيه قولان أحدهما أن يكون بمعنى الحسن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال ملك أعزّ أي عزيز. والثاني: والأحسن على المبالغة، والحسن ما كان مأذونا فيه في صفة الخلق ويعلم ذلك بشهادة العلم «4» ، والأحسن هو الأولى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصا له. ويقال من عرف الله لا يسمع إلا بالله.
__________
(1) إن استيلاء الحب على قلب الصوفي يجعله ينظر إلى العقوبة في الآخرة على أنها أقل تعذيبا إذا قيست بعذاب الهجر والنأى، أو على حد تعبيرهم جهنم الاحتراق أخف من جهنم الفراق.. ولهم في ذلك أقوال جريئة كثيرة (انظر كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف ص 248) .
(2) قال ابن زيد: نزلت هذه الآية في ثلاثة أنفار كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، وهم زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي (الواحدي ص 247) .
(3) نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعيد بن زيد وسعد بن أبى وقاص وكان استماعهم لأبى بكر وهو يخبرهم بإيمانه (الواحدي ص 247، 248) .
(4) استخدم القشيري هذا المفهوم في تأييد وترخيص «السماع» بالمعنى الصوفي (الرسالة ص 166) .(3/274)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
ويقال إن للعبد دواعى من باطنه هي هواجس النفس ووساوس الشيطان وخواطر الملك وخطاب الحقّ يلقى في الرّوع فوساوس الشيطان تدعو إلى المعاصي، وهواجس النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النّفس وأنّ لها في شىء نصيبا، وخواطر الملك تدعو إلى الطاعات والقرب، وخطاب الحقّ في حقائق التوحيد.
«أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» : - أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 19]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
؟ الذين حقّت عليهم كلمة العذاب فريقان: فريق حقت عليهم كلمة بعذابهم في النار، وفريق حقت عليهم كلمة العذاب بالحجاب اليوم، فهم اليوم لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان- وإن كانوا من أهل الإيمان» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 20]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
وعد المطيعين بالجنّة- ولا محالة لا يخلف، ووعد التائبين بالمغفرة- ولا محالة يغفر لهم، ووعد المريدين بالوجود والوصول- وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالة مصدق وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
__________
(1) (عقولهم غير معقولة) أي غير حبيسة أو ممنوعة عن الإدراك وتصحيح الإيمان، فهذه هي المهمة الأساسية العقل في نظر المصنف- كما نوهنا بذلك. وربما كانت في الأصل (مقفولة) فيها أيضا يستقيم المعنى. [.....]
(2) نعلم أن كثيرين في أوساط أهل السّتّة يعارضون العديد من مسائل التصوف، ومن أمثالهم ابن تيميه وابن الجوزي.(3/275)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
أخبر أنه ينزل من السماء المطر فيخرج به الزرع فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيما ... والإشارة من هذا إلى الإنسان، يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم.
ويقال إن الزّرع ما لم يأخذ في الجفاف لا يؤخذ منه الحبّ، فالحبّ هو المقصود منه..
كذلك الإنسان ما لم يحصل من نفسه وصول لا يكون له قدر ولا قيمة.
ويقال إن كون المؤمن بقوة عقله يوجب استفادة له بعلمه إلى أن يبدو منه كمال يمكّن من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا:
فلمّا استبان الصبح أدرج «1» ضوءه ... بأنواره أنوار تلك الكواكب
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
جواب هذا الخطاب محذوف ... أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن ليس كذلك؟
لمّا نزلت هذه الآية سئل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الشرح المذكور فيها، فقال: «ذلك نور يقذف فى القلب، فقيل: وهل لذلك أمارة؟
__________
(1) أدرج الشيء أي أفناه (الوسيط) . والمقصود أن أنوار مصابيح المعرفة الإنسانية تتلاشى وتفنى عند سطوع شمس الحقيقة. وقد وردت في ص 43 من الرسالة (أدرك) والصواب في نظرنا (أدرج) .(3/276)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله «1» » .
والنور الذي من قبله- سبحانه- نور الّلوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلى الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد.. وعند ذلك فلا وجد ولا فقد «2» ، ولا قرب «3» ولا بعد ... كلّا بل هو الله الواحد القهار «4» .
«فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «5» : أي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطر التعريف فبقيت على نكرة الجحد.. أولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة..
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
«6»
__________
(1) أورد الغزالي هذا الخبر في منقذه، وشرح مهمة هذا النور بأنه الذي يطلب منه الكشف: وأنه ينبجس من النور الإلهى (المنقذ من الضلال ط القاهرة ص 255) .
(2) هكذا في م وهي في ص (قصد) بالصاد وهي خطأ في النسخ، فالوجد يقابله الفقد.
(3) فى ص (ولا فرق) والصواب أن تكون (ولا قرب) لتقابل (ولا بعد) لأنه لو قال (ولا فرق) لكان قد قال (ولا جمع) مع أن الموقف هنا موقف (جمع) .. والمقصود اختفاء تقلبات التلوين، والوصول إلى مرتبة التمكين، أي الوصول إلى حال (جمع الجمع) .
(4) تفيد هذه الفقرة في فهم كثير من المصطلحات، وهذه أول مرة نصادف للقشيرى عبارة (بظهور الذات) لأنه في مواضع كثيرة يلح على أن المشاهدة (للصفات كالجمال أو الجلال أو ... إلخ) أما (الذات) فقد جلّت الصمدية- كما يقول- عن أن يستشرف منها مخلوق.
(5) نزلت في أبى لهب وأولاده الذين قست قلوبهم عن ذكر الله. (الواحدي ص 248) واختار الطبري القول بأن (من) فى الآية بمعنى (عن) أي قست قلوبهم عن ذكر الله.
(6) قال سعد بن أبى وقاص: قال أصحاب رسول الله (ص) : لو حدّثتنا.. فانزل الله عزّ وجل «الله نزّل أحسن الحديث» فقالوا: لو قصصت علينا.. فنزل «نحن نقص عليك أحسن القصص»(3/277)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
«أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» لأنه غير مخلوق «1» «كِتاباً مُتَشابِهاً» فى الإعجاز والبلاغة.
«مَثانِيَ» : يثنى فيها الحكم ولا يملّ بتكرار القراءة، ويشتمل على نوعين:
الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد.
«تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» إذا سمعوا آيات الوعيد.
«ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» إذا سمعوا آيات الوعد.
ويقال: تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأنس، ويقال بالتجلّى والاستتار «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 24]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
أي فمن يتقى بوجهه سوء العذاب كمن ليس كذلك؟ وقيل إنّ الكافر يلقى النار أوّل ما يلقاها بوجهه لأنه يرمى فيها منكوسا. فأمّا المؤمن فيوقى ذلك وإنما يلقّى النضرة والسرور والكرامة فوجهه ضاحك مستبشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 25]
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) .
__________
(1) سمّى القرآن حديثا لأن الرسول (ص) كان يحدّث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: «فبأى حديث بعده يؤمنون» وقوله: «أفمن هذا الحديث تعجبون» ويخطّىء أهل السّنّة من يستند في أن القرآن مخلوق إلى أن «الحديث» من الحدوث فالكلام محدث فقالوا: الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الله وصفاته الحسنى.
(2) يستفيد الصوفية من هذه الآية في تدعيم نظريتهم فى «السماع» والتأثرات النفسية والعضوية الناجمة عن تقلب الأحوال.(3/278)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
أشدّ العذاب ما يكون بغتة، كما أنّ أتمّ السرور ما يكون فلتة.
ومن الهجران والفراق ما يكون بغتة غير متوقع، وهو أنكى للفؤاد وأشدّ وأوجع تأثيرا في القلب، وفي معناه قلنا:
فبتّ بخير والدّنى مطمئنة ... وأصبحت يوما والزمان تقلّبا
وأتمّ السرور وأعظمه تأثيرا ما يكون فجأة، قال قائلهم:
بينما خاطر المنى بالتلاقى ... سابح في فؤاده وفؤادى
جمع الله بيننا فالتقينا هكذا صدفة بلا ميعاد قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
أي أوضحنا لهم الآيات، ووقفناهم على حقائق الأشياء.
«غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» : فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 29]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
مثّل الكافر ومعبوديه يعبد اشترك فيه متنازعون.
«فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» : فالصنم يدعى فيه قوم وقوم آخرون فهذا يقول:
أنا صنعته، وذلك يقول: أنا استعملته، وثالث يقول: أنا عبدته.(3/279)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
أمّا المؤمن فهو خالص لله عزّ وجلّ، يشبه «عبدا سلما لرجل» أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف.
ويقال «رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» تتجاذبه أشغال الدّنيا، شغل الولد وشغل العيال، وغير ذلك من الأشغال المختلفة والخواطر المشتّتة.
أمّا المؤمن فهو خالص لله ليس لأحد فيه نصيب ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شىء، ولا للرضوان معه شغل «1» ، إذ ليس له طاعات يدلّ بها، وعلى الجملة فهو خالص لله، قال تعالى لموسى: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» «2» أي أبقيتك لى حتى لا تصلح لغيرى.
«الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» : الثناء له، وهو مستحقّ لصفات الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
نعاه- عليه السلام- إليه. ونعى المسلمين إليهم ففزعوا بأجمعهم من ماثمهم «3» ، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومن لم يتفرّغ من مآثم نفسه وأنواع همومه، فليس له من هذا الحديث «4» شمّة، فإذا فرغ قلبه من حديث نفسه، وعن الكون بجملته فحينئذ يجد الخير من ربّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم:
__________
(1) لقيت الجنة من كبار الشيوخ مواقف لا يخلو التعبير عنها- عند من لا يفقهونها- الكثير من الاستغراب، من ذلك ما يقوله أبو يزيد البسطامي: ما الجنة؟ لعبة صبيان! ويقول: الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكلّ من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه فهو محجوب.
(2) آية 41 سورة طه.
(3) هكذا في ص وهي مقبولة لتناسب الخصومة التي سيترتب عليها في الآخرة الاختصام.
(4) يقصد حديث الفناء عن كل أرب وسيب، أي الفناء بالمعنى الصوفي. [.....](3/280)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنى بعد موتى أكتب
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 32]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32)
الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يبلغها، وادّعى وجود أشياء لم يذق شيئا منها، قال تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» » .
ويقال: لا بل هؤلاء هم الكفار، وأمّا المدّعى الذي لم يبلغ ما يدّعيه فليس يكذب على ربّه إنما يكذب على نفسه حيث ادّعى لها أحوالا لم يذقها ولم يجدها، فأمّا غير المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقّ- سبحانه- ما يتقدّس ويتعالى عنه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 34]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص، وفي أحواله من حيث الصدق، وفي أسراره من حيث الحقيقة.
«ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» : الإحسان- كما جاء في الخبر- أن تعبد الله كأنك تراه.
فمن كانت- اليوم- مشاهدته على الدوام كانت رؤيته غدا على الدوام، ومن لا فلا «3» .
__________
(1) آية 60 من هذه السورة.
(2) وإلى أمثال هؤلاء أشار القشيري في مستهل رسالته قائلا «.. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادّعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية وزالت عنهم أحكام البشرية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا ... » الرسالة ص 3.
(3) روى مسلم عن جابر ويبعث كل عبد على مامات عليه» 6/ 457 فيض القدير للمناوى «ومن كان مجالة لقى الله عليها» .(3/281)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 35]
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
من لا يكون مؤمنا فليس من أهل هذه الجملة. ومن كان معه إيمان: فإذا كفّر عنه أسوأ ما عمله فأسوأ أعماله كبائره فإن غفرت يجزهم بأحسن أعمالهم. وأحسن أعمال المؤمن الإيمان والمعرفة، فإن كان الإيمان مؤقتا كان ثوابه مؤقتا، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابه على الدوام. ثم أحسن الأعمال عليها أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية فيجب أن تكون على الدوام «1» - وهذا استدلال قوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
استفهام والمراد منه التقرير فالله كاف عبده اليوم في عرفانه بتصحيح إيمانه ومنع الشّرك عنه، وغدا في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايته تامة وسلامته عامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قرّر عليهم علوّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرّوا بذلك، ثم طالبهم بذكر صفات الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبعد عن الحياة والعلم والقدرة والتمكّن من الخلق، فيقول: كيف أشركتم به هذه الأشياء؟ وهلّا استحييتم من إطلاق أمثال ذلك في صفته؟.
__________
(1) «فيجب أن تكون الرؤية على الدوام» نلاحظ إلحاح القشيري على هذا الرأى في خاتمة تفسيره للآية السابقة وفي هذه الآية، ولهذا الرأى أهميته في مسألتين: خلود الجنة والرؤية.. مسألتان كان حولهما جدل كثير أشرنا إلى بعضه في تعليقات سابقة.(3/282)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قل- يا محمد- حسبى الله، عليه يتوكل المتوكلون كافيّ الله المتفرّد بالجلال، القادر على ما يشاء، المتفضّل عليّ بما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
سوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جواب لكم، ونعذّبكم فلا شفيع لكم، وندمّر عليكم فلا صريخ لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 41]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
من أحسن فإحسانه إلى نفسه اكتسبه «1» ، ومن أساء فبلاؤه على نفسه جلبه- والحقّ غنيّ عن التجمّل بطاعة من أقبل والتنقّص بزلّة من أعرض.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
يقبض الأرواح «2» حين موتها، والتي لم تمت من النفوس في حال نومها، فإذا نامت
__________
(1) (اكتسبه) موجودة في م وسقطت في ص.
(2) واضح هنا أن القشيري لا يكاد يميز بين (النفس) و (الروح) مع أنه في الرسالة ص 48 يميز بينهما فيقول (يحتمل أن تكون النفس لطيفة مودعة في القالب) - البدن وهي محل الأخلاق المعلولة (موجودة في الرسالة خطأ المعلومة) كما أن الروح لطيفة في القالب هي محل الأخلاق المحمودة.. والجميع إنسان واحد، وكونهما بصفة-(3/283)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
فيقبض أرواحها «1» . وقبض الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح، ويخلق بدل الاستشعار والعلم الغفلة والغيبة في محالّ الإحساس والإدراك. ثم إذا قبض الأرواح عند الموت خلق في الأجزاء الموت بدل الحياة، والموت ينافى الإحساس والعلم. وإذا ردّ الأرواح بعد النوم إلى الأجساد خلق الإدراك في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظا، وقبض الله الأرواح في حال النوم وردت به الأخبار، وذلك على مراتب فإنّ روحا تقبض على الطهارة ترفع إلى العرش وتسجد لله تعالى، وتكون لها تعريفات، ومعها مخاطبات «والله أعلم» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 43]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43)
أي أنهم- وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم لا بتعريف من قبل الله أو إخبار- فإنّ الله تعالى لا يقبل الشفاعة من أحد إلّا إذا أذن بها، وإنّ الذي يقولونه إنما هو افتراء على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 45]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
__________
اللطافة في الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة» ثم يعود بعد قليل متحدثا عن الروح فيقول: الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يقول إنها الحياة، ومنهم من يقول إنها أعيان مودعة في القالب (اللطائف ح 2 ص 367) وفي تقديرنا أن المسألة ذات جانبين: فإذا نظرنا إلى الموضوع خارج دائرة التصوف فالروح والنفس بمعنى واحد متصل بالحياة، وقبضهما معناه موت البدن بدليل ما ورد عن الرسول (ص) ، فهو مرة يقول (كما في حديث أم سلمة) : دخل رسول الله (ص) على أبى سلمة وقد شق (- انفتح) بصره فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وفي مرة أخرى يقول (ص) فى حديث صحيح خرجه ابن ماجه: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجى أيتها النفس الطيبة ... » وفي صحيح مسلم: قال «ص» : «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها» .
أما الجانب الآخر للمسألة فهو كونهما مصطلحين صوفيين فالنفس محل المعلولات والروح محل المحمودات..
وذلك ركن هام في مذهب القشيري لم يتخل عنه في كتاب من كتبه، كما هو مذهب كثيرين من المتصوفة.
(1) قبض الروح عند النوم معناه ترقيها (الرسالة ص 48) .(3/284)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
اشمأزّت قلوب الذين جحدوا ولم تسكن نفوسهم إلى التوحيد، وإذا ذكر الذين من دونه استأنسوا إلى سماعه:
[سورة الزمر (39) : آية 46]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
- علّمه- صلى الله عليه وسلم- كيف يثنى عليه- سبحانه «1» .
وتشتمل الآية على الإشارة إلى بيان ما ينبغى من التنصّل والتذلّل، وابتغاء العفو والتفضّل، وتحقيق الالتجاء بحسن التوكل. ثم أخبر عن أحوالهم في الآخرة فقال:
[سورة الزمر (39) : آية 47]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
لا فتدوا به.. ولكن لا يقبل منهم، واليوم لو تصدّقوا بمثقال ذرة لقبل منهم. كما أنهم لو بكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم، ولكنهم بدمعة واحدة- اليوم- يمحى الكثير من دواوينهم.
قوله جل ذكره: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فى سماع هذه الآية حرات لأصحاب الانتباه.
__________
(1) فى صحيح مسلم: أن عائشة سئلت بأى شىء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السماوات والأرض.
.. يختلفون» ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وقال سعيد بن جبير: إنى لأعرف آية ما قرأها أحد قط وسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قوله تعالى: «قل اللهم فاطر...... يختلفون» .(3/285)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
وفي بعض الأخبار أن قوما من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار [فإذا وافوها يقول لهم مالك: من أنتم؟ إن الذين جاءوا قبلكم من أهل النار وجوهم كانت مسودّة، وعيونهم «1» ] كانت مزرقّة.. وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون: ونحن لم نتوقع أن نلقاك، وإنما انتظرنا شيئا آخر! قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»
«2» .
[سورة الزمر (39) : آية 48]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
حاق بهم وبال استهزائهم وجزاء مكرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 51]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
فى حال الضّرّ يتبرّءون من الاستحقاق والحول والقوة، فإذا كشف عنهم البلاء وقعوا فى مغاليطهم، وقالوا: إنما أوتينا هذا باستحقاق منّا، قال تعالى: «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» ولكنهم لم يعلموا، ثم أخبر أن الذين من قبلهم مثل هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤم ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضا مثل ما أصاب أولئك.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 52]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) .
__________
(1) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة 496 من النسخة ص
(2) عن مجاهد قال: إنهم عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
وقيل عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا.
أما القشيري فيصرفها إلى المؤمنين العصاة، وواضح أنه يميز بين حالة ورودهم إلى النار، وورود الكفار، فهؤلاء على التأبيد وأولئك إلى حين.(3/286)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
أو لم يروا كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق: فمن موسّع عليه رزقه، ومن مضيّق عليه، وليس لواحد منهم شىء ممّا خصّ به من التقليل أو التكثير.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 53]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
«1» التسمية ب «يا عِبادِيَ» مدح «2» ، والوصف بأنهم «أَسْرَفُوا» ذم. فلمّا قال:
«يا عِبادِيَ» طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رءوسهم، ونكّس العصاة رءوسهم وقالوا: من نحن.. حتى يقول لنا هذا؟! فقال تعالى: «الَّذِينَ أَسْرَفُوا» فانقلب الحال فهؤلاء الذين نكّسوا رءوسهم انتعشوا وزالت ذلّتهم، والذين رفعوا رءوسهم أطرقوا وزالت صولتهم «3» .
ثم أزال الأعجوبة عن القسمة بما قوّى رجاءهم بقوله: «عَلى أَنْفُسِهِمْ» يعنى إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت.
«لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» : بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنّا.
«إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» الألف واللام فى «الذُّنُوبَ» للاستغراق والعموم، والذنوب جمع ذنب، وجاءت «جَمِيعاً» للتأكيد فكأنه قال: أغفر ولا أترك، وأعفو ولا أبقى.
__________
(1) أورد الواحدي في أسباب النزول عدة اقوال بشأن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة، ومن هذه الروايات:
عن ابن عباس قال: نزلت في أهل مكة حين قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله.
وقال ابن عمر: نزلت في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فتركوا دينهم.
ويروى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة. (الواحدي ص 248، 249) .
(2) يقول الدقاق: ليس شىء أشرف من العبودية، وقد سمى بها الحق نبيه (ص) فقال: سبحان الذي أسرى بعبده، وقال: فأوحى إلى عبده ما أوحى- ولو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. (الرسالة ص 100) .
(3) راجع ما قاله القشيري في قصة داود: (إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربك) . ويقول على بن أبى طالب: ما في القرآن أوسع من هذه الآية. ويقول عبد الله ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. [.....](3/287)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
ويقال إن كانت لكم جناية كثيرة عميمة فلى بشأنكم عناية قديمة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 55]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)
الإنابة الرجوع بالكلية. وقيل الفرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة، وصاحب الإنابة يرجع استحياء لكرمه «2» .
«وَأَسْلِمُوا لَهُ» : وأخلصوا في طاعتكم، والإسلام- الذي هو بعد الإنابة- أن يعلم أنّ نجاته بفضله لا بإنابته فبفضله يصل إلى إنابته.. لا بإنابته يصل إلى فضله.
«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ» قبل الفراق. ويقال هو أن يفوته وقت الرجوع بشهود الناس ثم لا ينصرف عن ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 58]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
يقال هذا في أقوام يرون أمثالهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سلف من تقصيرهم، ويرون ما وفّق إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.
__________
(1) واضح أن القشيري يحاول بطرق شتى أن يفتح كل أبواب الأمل أمام اليائسين، فمهما كانت الذنوب كثيرة فعفو الله أكبر وأشمل، وبدا أن النص القرآنى يحتمل كل المحاولات التي يبذلها القشيري بسماحته الصوفية الأصيلة.
(2) ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله في هذا الخصوص: «أولها توبة وأوسطها إنابة وآخرها أوبة» .
ثم يعلق على ذلك قائلا: فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر- لا لرغبة في ثواب أو رهبة من عقاب- فهو صاحب أوبة. ويقال التوبة صفة المؤمنين (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) ، والإنابة صفة الأولياء والمقربين (وجاء بقلب منيب) ، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين (نعم العبد إنه أواب) الرسالة ص 50.(3/288)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
أو يقول: لو أنّ الله هدانى لكنت كذا، ويقول آخر: لو أنّ لى كرّة فأكون كذا، فيقول الحقّ- سبحانه:
[سورة الزمر (39) : آية 59]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
فذق من العذاب ما على جرمك استوجبت.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 60]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
هؤلاء الذين ادّعوا أحوالا ولم يصدقوا فيها، وأظهروا المحبة لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحا بذلك! وأنشدوا:
ولمّا ادّعيت الحبّ قالت كذبتنى ... فمالى أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
فما الحبّ حتى تنزف العين بالبكا ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا «1»
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 61]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
كما وقاهم- اليوم- عن المخالفات، حماهم- غدا- من العقوبات، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين اليوم عصمة، وغدا نعمة. اليوم عناية وغدا حماية وكفاية.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 62]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) .
__________
(1) ورد الشاهد الشعرى في الرسالة ص 160 هكذا: البيت الأول مطابق، والثاني هكذا ومتبوعا بثالث: -
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكى بها وتناجيا
وقد أورده صاحب اللمع على هذا النحو (اللمع ص 321) .(3/289)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
تدخل أكساب العباد في هذه الجملة، ولا يدخل كلامه فيه لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 63]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
«مَقالِيدُ» أي مفاتيح، والمراد منه أنه قادر على جميع المقدورات، فما يريد أن يوجده أوجده.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 64]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
أي متى يكون لكم طمع في أن أعبد غيره.. وبتوحيده ربّانى، وبتفريده غذانى، وبشراب حبّه سقانى؟! «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
لئن لا حظت غيرى، وأثبت معى في الإبداع سواى أحبطت عملك، وأبطلت سعيك، بل الله- يا محمد- فاعبد، وكن من جملة عبادى الشاكرين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) .
__________
(1) هذه إشارة خطيرة في شأن الموضوعات الكلامية المصلة بالفعل الإنسانى، وبمسألة خلق القرآن (أنظر كتابنا: الإمام القشيري: تصوفه وأدبه ط مؤسسة الحلبي للنشر) .
(2) هذه هي التربية التي عناها القشيري في موضع سابق حين قال: «ليس الاعتبار بالتربة بل بالتربية» .(3/290)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
ما عرفوه حقّ معرفته «1» ، وما وصفوه حقّ وصفه، وما عظّموه حقّ تعظيمه فمن اتصف بتمثيل، أو جنح إلى تعطيل «2» حاد عن السّنّة المثلى وانحرف عن الطريقة الحسنى. وصفوا الحقّ بالأعضاء، وتوهّموا في نعته الأجزاء، فما قدروه حقّ قدره فالخلق في قبضة قدرته، والسماوات مطويات بيمينه، ويمينه قدرته «3» . ولأنه أقسم أن يفنى السماوات ويطويها فهو قادر على ذلك.
«سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له عما أشركوا في وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 68]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)
فى النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تحشرون، والنفختان متجانستان ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح، وفي الأخرى حياة النفوس ليعلم أن النفخة لا تعمل شيئا لعينها «4» ، وإنما الجبّار بقدرته يخلق ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 69]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
__________
(1) أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم بلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع والأرضين على أصبع والشجرة على أصبع والثرى على أصبع! فضحك رسول الله (ص) حتى بدت نواجذه، فأنزل الله تعالى: «وما قدروا الله حق قدره» (الواحدي ص 250) .
(2) (التعطيل على ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع- سبحانه- عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.. ومن هذا شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ولا مخلوق (الجواب الكافي ص 90 لابن القيم ط التقدم) .
(3) نحسب أن من دواعى التأويل أن الله سبحانه وتعالى قد يخاطبنا عن ذاته وصفاته بما نتخاطب به فيما بيننا حتى نفهم، والآية تشير إلى ذلك في وضوح فقد عبر عن قدرته مرة بالقبضة ومرة باليمين، ومعنى هذا أن الله يقدر على قبض الأرض وجميع ما فيها قدرة أحدنا على ما يحمل بأصبعه.
(4) كلام القشيري عن تجانس النفختين واختلاف تأثيريهما، ثم كلامه بعد قليل عن تجانس السوقين واختلاف وجهتيهما.. مقصود منه- كما نظن- أن القياس الإنسانى ليس دائما على صواب، مثال ذلك قوله تعالى: «مطويات بيمينه» ، ونسبة الوجه واليد والعين.. ونحو ذلك لله سبحانه ليس بالضرورة أن يكون على نحو ما يفهم الإنسان من هذه الماديات، فالكلمة هي الكلمة.. ولكن شتان بين الدلالة هنا والدلالة هناك.. والله أعلم بمقصود القشيري..
ولكن هكذا نظن.(3/291)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
نور يخلقه في القيامة فتشرق القيامة به، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم، ويستضىء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفّار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم.
ويقال اليوم إشراق، وغدا إشراق، اليوم إشراق القلب بحضوره، وغدا إشراق الأرض بنور ربها. ويقال غدا أنوار التولّى للمؤمنين، واليوم أنوار التجلّى للعارفين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 70]
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
إن كان خيرا فخير، وإن كان غير خير فغير خير.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 71]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71)
الكفار يساقون إلى النار عنفا، والمؤمنون يساقون إلى الجنة لطفا فالسّوق يجمع الجنسين.. ولكن شتان بين سوق وسوق!.
فإذا جاء الكفار قابلهم خزنة النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب فلا تكريم ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال.. بل خزى وهوان، ومن كل جنس من العذاب ألوان.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 73]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73)(3/292)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
سوّق ولكن بغير تعب ولا نصب، سوق ولكن بروح وطرب.
«زُمَراً» جماعات، وهؤلاء هم عوامّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «1» وفوقهم من قال فيهم: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» «2» وفرق بين من يساق إلى الجنة، وبين من تقرّب منه الجنة.. هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون «3» .
«حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ... » وإذا وافوا الجنة تكون الأبواب مفتّحة لئلا يصيبهم نصب الانتظار.
ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يساق، ولعلّ هؤلاء لا رغبة لهم في الجنة بكثير فلهم معه في الطريق قول «طِبْتُمْ» أي أنهم يساقون إلى الجنة بلطف دون عنف.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 74]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)
صدقنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المنّة.
«وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» أي أرض الجنة نَتَبَوَّأُ منها حَيْثُ نَشاءُ. وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قوم «الغرف» أقوام آخرون.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (39) : آية 75]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
يسبّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات.. هذا هو عمل الملائكة الذين من حول العرش.
وقضى بين أهل الجنة وأهل النار بالحقّ، لهؤلاء دركات ولأولئك درجات.. إلى غير ذلك من فنون الحالات. وقضى بين الملائكة أيضا في مقاماتهم على ما أراده الحقّ في عباداتهم.
__________
(1) آية 85 سورة مريم.
(2) آية 31 سورة ق.
(3) إشارة إلى الآية: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» (آية 33 سورة فاطر) .(3/293)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
سورة المؤمن
«1» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من تحقّق بها شرف من الحقّ مناله، وصفت عنده أحواله، وخلع على نفسه رداء الأفضال، وألبس قلبه جلال الإقبال، وأفرد روحه بروح لطف الجمال، واستخلص سرّه بكشف وصف الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1)
أي حمّ أمر كائن «2» .
ويقال «الحاء» إشارة إلى حلمه، «والميم» إشارة إلى مجده أي: بحلمي ومجدى لا أخلّد في النار من آمن بي.
ويقال هذه الحروف (مفاتح أسمائه) «3» .
[سورة غافر (40) : آية 2]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
__________
(1) تسمى سورة غافر، وسورة الطّمول، وسورة المؤمن لقوله تعالى فيها: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ» (السيوطي:
الإتقان ح 1 ص 54) .
(2) أي قضى ووقع، قال كعب بن مالك:
فلمّا تلاقيناهم ودارت بنا الرّحى ... وليس لأمر حمّه الله مدفع
أو تكون بمعنى قرب كما قال الشاعر
قد حمّ يوى فسرّ قوم ... قوم بهم غفلة ونوم
[.....]
(3) ما بين القوسين سقط من ص، وهي موجودة في م.
عن أنس أن أعرابيا سأل النبي (ص) ما حم؟ فإنا لا نعرفها في لساننا، فقال النبي (ص) : «بده أسماء وفواتح سور» .(3/294)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
«الْعَزِيزِ» : المعزّ لأوليائه، «الْعَلِيمِ» بما كان ويكون منهم، فلا يمنعه علمه بما سلف منهم عن قضائه.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 3]
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
كتاب معنون بقبول توبته لعباده علم أنّ العاصي منكسر القلب فأزال عنه الانكسار بأن قدّم نصيبه، فقدّم اسمه على قبول التوبة. فسكّن نفوسهم وقلوبهم باسمين يوجبان الرجاء وهما قوله: «غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ» .
ثم عقبهما بقوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» ثم لم يرض حتى قال بعدئذ «ذِي الطَّوْلِ» .
فيقابل قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» قوله: «ذِي الطَّوْلِ» .
(ويقال: غافر الذنب لمن أصرّ واجترم، وقابل التوب لمن أقرّ وندم، شديد العقاب لمن جحد وعند، ذى الطول لمن عرف ووحد) «1» .
ويقال غافر الذنب للظالمين، وقابل التوب للمقتصدين، شديد العقاب للمشركين، ذى الطول للسابقين.
ويقال: سنّة الله أنه إذا خوّف العباد باسم أو لفظ تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو بوصفين «2» .
«إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» : وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 4]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) .
__________
(1) ما بين القوسين بأجمعه ساقط من ص وموجود في م.
(2) وهذه آية كرمه سبحانه.(3/295)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
إذا ظهر البرهان واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان.
فأمّا أهل الكفر فلهم على الجمود إصرار، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ... وكذلك من لا يحترمون أولياء الله، ويصرّون على إنكارهم، ويعترضون عليهم بقلوبهم، ويجادلون في جحد الكرامات، وما يخصّ الله به عباده من الآيات ... فهؤلاء لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم، وسيفتضحون كثيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 5]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)
كذلك من انقرض من الكفار كان تكذيب الرّسل دأبهم، ولكنّ الله- سبحانه- انتقم منهم، وعلى كفرهم اخترمهم.
والمنكر لهذا الطريق «1» يدين بإنكاره، ويتقرّب إلى الله به، ويعد وقيعته في أولياء الله من جملة إحسانه وخيراته، ولكن الله- سبحانه- يعذبهم في العاجل بتخليتهم فيما هم فيه، وصدّ قلوبهم عن هذه المعاني، وحرمانهم منها.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 6]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
إذا انختم على عبد حكم الله بشقاوته فلا تنفعه كثرة ما يورد عليه من النّصح..
والله على أمره غالب.. ومن أسرته يد الشقاوة فلا يخلّصه من مخالها جهد ولا سعاية.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 7]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)
__________
(1) يقصد الطريق الصوفي.(3/296)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
حملة العرش من حول العرش من خواص الملائكة «1» ، مأمورون بالتسبيح لله، ثم بالاستغفار للعاصين- لأنّ الاستغفار للذنب والتوبة إنما تحصل من الذنب- ويجتهدون في الدعاء لهم على نحو ما في هذه الآية وما بعدها فيدعون لهم بالنجاة، ثم برفع الدرجات، ويحيلون الأمر في كل ذلك على رحمة الله.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 9]
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
«وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» : فلئن سلّط عليك أراذل من خلقه- وهم الشياطين- فلقد قيّض بالشفاعة أفاضل من خلقه ومن الملائكة المقرّبين قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
أشدّ العقوبات التي يوصلها الحقّ إليهم آثار سخطه وغضبه، وأجلّ النّعم
__________
(1) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله (ص) : «أذن لى أن أحدّث عن مسلك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ذكره البيهقي، وقال: هو أعظم المخلوقات.(3/297)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
التي يغروهم بها آثار رضاه عنهم. فإذا عرف الكافر في الآخرة أنّ ربّه عليه غضبان فلا شىء أصعب على قلبه من ذلك لأنه علم أنه لا بكاء ينفعه، ولا عناء يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه، ولا يسمع له تضرّع، ولا ترجى له حيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 11]
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا ثم في القبر يحييهم، ثم يميتهم فهى الإماتة الثانية.
والإحياء الأول في القبر والثاني عند النشر «1» .
«فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» : أقروا بذنوبهم- ولكن في وقت لا ينفعهم الإقرار.
«فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» مما نحن فيه من العقوبة، وإنما يقولون ذلك حين لا ينفعهم الندم والإقرار. فيقال لهم:
[سورة غافر (40) : آية 12]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
- أي تصدّقوا المشركين لكفرهم. [وهؤلاء إماتتهم محصورة، فأمّا أهل المحبة فلهم في كلّ وقت حياة وموت، قال قائلهم:
أموت إذا فقدتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت!
فإنّ الحقّ- سبحانه- يردّد أبدا الخواصّ من عباده بين الفناء والبقاء،
__________
(1) هذا الرأى يذهب إليه السّدّى أيضا، وإنما إحياؤهم في القبور للمسألة، ومن هذا استدل العلماء على سؤال القبر.
واستدل من الآية كذلك على إحياء الأجساد، لأن الروح- عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح- لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، فلو كان الثواب والعقاب للروح- دون الجسد- فما معنى الإحياء والإماتة؟
ويذهب ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك إلى أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم البعث والقيامة، فهاتان حياتان وموتتان.(3/298)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
والحياة والموت، والمحو والإثبات] «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 13]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13)
يريهم آيات فضله فيما يلاطفهم، ويريهم آيات قهره فيما يكاشفهم، ويريهم آيات عفوه إذا تنصّلوا «2» ، وآيات جوده إذا توسّلوا، وآيات جلاله إذا هابوا فغابوا، وآيات جماله إذا آبوا واستجابوا. «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» لأبدانكم وهو توفيق المجاهدات، ولقلوبكم وهو تحقيق المشاهدات، (ولأسراركم وهو فنون المواصلات والزيادات) «3» .
«وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» : يرجع من العادة إلى العبادة، ومن الشّكّ إلى اليقين، ومن الخلق إلى الحقّ، ومن الجهل إلى العلم، ومن النّكرة إلى العرفان.
قوله جل ذكره:
[سورة غافر (40) : آية 14]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
شرط الدعاء تقديم المعرفة لتعرف من الذي تدعوه، ثم تدعو بما تحتاج إليه ممّا لا بدّ لك منه، ثم تنظر هل أعطاك ما تطلب وأنت لا تدرى؟ والواجب ألا تطلب شيئا تكون فيه مخالفة لأمره، وأن تتباعد عن سؤالك الأشياء الدّنيّة والدنيوية، وأن ترضى بما يختاره لك مولاك. ومن الإخلاص في الدعاء ألا ترى الإجابة إلّا منه، وألا ترى لنفسك استحقاقا إلا بفضله، وأن تعلم أنه إن بقيت في سؤالك عن مطلوبك- الذي هو حظّك- لا تبق عن عبادة ربّك- التي هي حقّه فإنّ الدعاء مخّ العبادة، ومن الإخلاص في الدعاء أن
__________
(1) فالموت بالقبض والفناء والمحو، والحياة بالبسط والبقاء والإثبات. ونحسب أن الكلام الموجود بين القوسين الكبيرين يتصل بالآية السابقة نظرا لتلاؤم تقليب الأحوال مع الإماتة والإحياء وكنا نريد أن نضعه في مكانه حسبما رأينا لولا أنه موضوع هنا في م وص. ويبدو أن القشيري اعتبر الآيتين كيانا عضويا واحدا، فجاءت الإشارة منها جميعا.
(2) أي تنصلوا من ذنوبهم.
(3) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.(3/299)