وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
حين تمّ الهوى وقلنا سررنا ... وحسبنا من الفراق أمنّا
بعث البين رسله فى خفاء ... فأبادوا من شملنا ما جمعنا
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 21 الى 22]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
(حسن ظنّ آدم- عليه السّلام- حمله على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب فى يمينه بالله، ثم لمّا بان له أنه دلّاهما بغرور تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فعلم- سبحانه- صدقه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم) «1» قوله جل ذكره: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما.
لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشير العقاب، وتنغّص الحال، وكذا صفة من آثر على الحق- سبحانه- شيئا يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك من ادّخر عن الله- سبحانه- نفسه أو ماله أو شيئا بوجه من الوجوه- لا يبارك الله فيه، قال تعالى فى صفة الأعداء: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» .
ويقال لمّا بدت سوأتهما احتالا فى السّتر، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فبعدما كانت كسوتهما حلل الجنة ظلّا يستتران بورق الجنة، كما قيل:
لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك، وراحوا كالمساكين
وأنشدوا: لا تعجبوا لمذلتى فأنا الذي ... عبث الزمان بمهجتي فأذلّها
ثم إن آدم عليه السّلام لم يساعده الإمكان فى الاستتار بالورق إذ كانت الأشجار أجمع كلّها تتطاول وتأبى أن يأخذ آدم- عليه السّلام- شيئا من أوراقها. وقبل ذلك كان لا يلاحظ الجنة فكان يتيه على الكون بأسره ولكنه صار كما يقال:
وكانت- على الأيام- نفسى عزيزة ... فلمّا رأت صبرى على الذلّ ذلّت
__________
(1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن.(1/525)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
ولمّا أخرج آدم من الجنة وأسكن الأرض كلّف العمل والسعى والزرع والغرس، وكان لا يتجدد له حال إلا تجدّد بكاؤه، وجبريل- عليه السّلام- يأتيه ويقول: «أهذا الذي قيل لك: «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى» ؟
فلم تعرف قدره. «فذق جزايا خلافك» فكان يسكن عن الجزع. ويقال بل الحكم بالخنوع كما قيل:
وجاشت إلىّ النفس أوّل مرة ... وزيدت على مكروهها فاستقرت
قوله جلّ ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ.
كانت لا تصل يده إلى الأوراق حين أراد قطافها ليخصفها على نفسه، فلو لم تصل يده إلى تلك الشجرة- التي هى شجرة المحنة- لكان ذلك عناية بشأنه، ولكن وصلت يده إلى شجرة المحنة، تتمة للبلاء والفتنة، ولو لم تصل يده إلى شجرة الستر- إبلاغا فى القهر- لما خالف الأمر، ولما حصل ما حصل.
«وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» : فكان ما داخلهما من الخجل أشدّ من كل عقوبة لأنهما لو كانا فى الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حلّ بهما من الخجل ما حلّ، وفى معناه أنشدوا:
واخجلتا من وقوفي وسط دارهم ... إذ قال لى مغضبا: من أنت يا رجل؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 23]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
اعترفا بالظلم جهرا، وعرفا الحكم فى ذلك سرّا فقولهما: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» اعتراف بالظلم من حيث الشريعة، وعرفان بأن المدار على الحكم من حيث الحقيقة، فمن لم يعترف بظلم الخلق طوى الشريعة «1» ، ومن لم يعرف جريان حكم الحق فقد جحد الحقيقة،
__________
(1) حتى يكون الشر منسوبا للإنسان كسبا.(1/526)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
فلمّا أقرّا بالظلم قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» نطقا على عين التوحيد حيث لم يقولا بظلمنا خسرنا، بل قالا: فعلنا فإن لم تغفر لنا خسرنا، فبترك غفرانك تخسر لارتكاب ظلمنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 24]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
أهبطهم، ولكنه أهبط إبليس عن رتبته فوقع فى اللعنة، وأهبط آدم عن بقعته فتداركته الرحمة.
ويقال لم يخرج آدم عليه السّلام من رتبة الفضيلة وإن أخرج عن دار الكرامة، فلذلك قال الله تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ» وأما إبليس- لعنة الله عليه- فإنه أخرج من الحالة والرتبة فلم ينتعش قط عن تلك السّقطة.
قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
«وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» هذا عام «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» : أراد به إبليس على الخصوص.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 25]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
أخبر أنه يستقبلهم اختلاف الأحوال فى الدنيا، ويتعاقب عليهم تفاوت الأطوار، فمن عسر ومن يسر، ومن خير ومن شر، ومن حياة ومن موت، ومن ظفر ومن فوت ...
إلى غير ذلك من الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
سترناكم عن الأسباب الظاهرة، ويسّرنا لكم ما تدفعون به صنوف المضار عنكم بما مكّنّا لكم من وجوه المنافع.(1/527)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
ثم قال: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» فإن اللباس الظاهر بقي آفات الدنيا، ولباس التقوى يصون عن الآفات التي توجب سخط المولى، ولباس التقوى بجميع أجزاء العبد وأعضائه. وللنّفس لباس من التقوى وهو بذل الجهد والروح والقلب، لباس من التقوى وهو صدق القصد بنفي الطمع. وللروح لباس من التقوى وهو ترك العلائق وحذف العوائق.
وللسرّ لباس من التقوى وهو نفى المساكنات والتصاون من الملاحظات.
ويقال تقوى العبّاد ترك الحرام، وتقوى العارفين نفى مساكنة الأنام. ويقال للعوام التقوى، وللخواص لباس التقوى عن شهود التقوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
من أصغى إلى وساوس نفسه بأسماع الهوى وجد الشكّ بين وسواس الشيطان وهاجس النّفس، ويتناصر الوسواس والهاجس وتصير خواطر القلب وزواجر العلم مغمورة مقهورة- فعن قريب تشمل تلك الهواجس والوساوس صاحبها، وينخرط فى سلك موافقة الهوى فيسقط فى مهواة الزلة، فإذا لم يحصل تدارك بوشيك التوبة صارت الحالة قسوة فى القلب، وإذا قسا القلب فارقته الحياة وتمّ له البلاء.
قوله جل ذكره: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
لا يحصل للعبد احتراس من رؤية الشيطان إياه وهو عنه غائب إلا برؤية العبد للحق- سبحانه- بقلبه، فيستغيث إليه من كيده، فيدخله- سبحانه- فى كنف عنايته فيجد الخلاص من مكر الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 28]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)(1/528)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
استروحوا فى التعلل إلى سلوكهم نهج أسلافهم، فاستمسكوا بحبل واه فزلّت بهم أقدام الغرور، وقعوا فى وهدة المحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
القسط العدل، ويقع ذلك فى حق الله تعالى، وفى حق الخلق، وفى حق نفسك فالعدل فى حقّ الله الوقوف على حدّ الأمر من غير تقصير فى المأمور به أو إقدام على المنهىّ عنه، ثم ألا تدخر عنه شيئا مما خوّلك، ثم لا تؤثر عليه شيئا فيما أحلّ لك. وأمّا العدل مع الخلق- فعلى لسان العلم- بذل الإنصاف، وعلى موجب الفتوة ترك الانتصاف. وأمّا العدل فى حق نفسك فإدخال العتق عليها، وسدّ أبواب الراحة بكل وجه عليها، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال فى كل نفس.
قوله جل ذكره: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
الإشارة منه إلى استدامة (شهوده فى كل حالة، وألا تنساه لحظة فى كلّ ما تأتيه وتذره وتقدمه) «1» وتؤخره.
قوله جل ذكره: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
من كانت قسمته- سبحانه- له بالسعادة كانت فطرته على السعادة، وكانت حالته بنعت السعادة، ومن كانت حالته بنعت السعادة كانت عاقبته إلى السعادة، ومن كانت القسمة له بالعكس فالحالة بالضد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان بحالة لقى الله بها» .
__________
(1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص.(1/529)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وجملة العلم بالقضاء والقدر أن يتحقق أنه علم ما يكون أنه كيف يكون، وأراد أن يكون كما علم. وما علم ألا يكون- مما جاز أن يكون أراده ألا يكون- أخبر أنه لا يكون.
وهو على وجه الذي أخبر، وقضى على العبد وقدّر أجرى عليه ما سبق به الحكم، وعلى ما قضى عليه حصل العبد على ذلك الوصف..
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
على لسان العلم: يجب ستر العورة فى الصلاة، وعلى موجب الإشارة: زينة العبد بحضور الحضرة، ولزوم السّدّة، واستدامة شهود الحقيقة.
ويقال زينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية، والعارف على البساط بحكم الحرية. وشتّان بين عبد وعبد! قوله جل ذكره: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
الإسراف ما تناولته لك ولو بقدر سمسمة.
ويقال الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأى وجه كان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
الإشارة منها إلى زينة السرائر فزينة العابدين آثار التوفيق، وزينة الواجدين أنوار التحقيق، وزينة القاصدين ترك العادة، وزينة العابدين حسن العبادة.(1/530)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
ويقال زينة النفوس صدار الخدمة، وزينة القلوب حفظ الحرمة، وزينة الأرواح الإطراق بالحضرة باستدامة الهيبة والحشمة.
ويقال زينة اللسان الذكر وزينة القلب الشكر.
ويقال زينة الظاهر السجود وزينة الباطن الشهود.
ويقال زينة النفوس حسن المعاملة من حيث المجاهدات، وزينة القلوب دوام المواصلة من حيث المشاهدات.
ومعنى قوله: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي....» يعنى إن الله لم يمنع هذه الزينة عمن تعرض لوجدانها، فمن تصدى لطلبها فهى مباحة له من غير تأخير قصود.
قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ.
أرزاق النفوس بحكم أفضاله سبحانه، وأرزاق القلوب بموجب إقباله تعالى.
ويقال أرزاق المريدين إلهام ذكر الله، وأرزاق العارفين الإكرام بنسيان ما سوى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
ما ظهر منها الزّلّة، وما بطن منها الغفلة.
ويقال ما ظهر منها كان بنسيان الشريعة، وما بطن بإشارة الحقيقة.
ويقال لقوم ترك الرخص يكون علة، والأولى بهم والأفضل لهم الأخذ به. وقوم لو ركنوا إلى الرّخص لقامت عليهم القيامة.
ويقال فاحشة الخواص تتبع ما لأنفسهم فيه نصيب ولو بذرة أو سنّة.
ويقال فاحشة الأحباب الصبر على المحبوب «1»
__________
(1) لأنهم عندئذ يستطيعون الصبر بعيدا عن رضا محبوبهم عزّ وجلّ. (الرسالة ص 162) [.....](1/531)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
ويقال فاحشة الأحباب أن تبقى حيّا وقد منيت بالفراق، قال قائلهم:
لا عيش بعد فراقهم ... هدا هو الخطب الأجلّ
ويقال فاحشة قوم أن يلاحظوا غيرا بعين الاستحقاق، قال قائلهم:
يا قرّة العين سل عينى هل اكتحلت ... بمنظر حسن مذغبت عن عينى؟
ويقال فاحشة قوم أن تبقى لهم قطرة من الدمع ولم يسكبوها للفرقة، أو يبقى لهم نفس لم يتنفّسوا به فى حسرة، وفى معناه أنشدوا:
لئن بقيت فى العين منّى دمعة ... فإنى إذا فى العاشقين دخيل
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
لكلّ قوم مدة مضروبة، فإذا تناهت تلك المدة زالت تلك الحالة فلنعمة المترفين مدّة، فإذا زالت فليس بعدها إلا الشدّة، ولمحنة المستضعفين مدة فإذا انقضت تلك المدة زالت تلك الشدة.
ويقال إذا سقط قرص الشمس زال سلطان النهار فلا يزداد بعده إلا تراكم الظلمة، فإذا ارتحلت عساكر الظلام بطلوع الفجر فبعد ذلك لا تبقى فيه للنهار تهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 35]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
إذا أتاكم الرّسل فلا تركنوا إلى مجوزات الظنون، واحملوا الأمر على الجدّ فإنّا- مع استغنائنا عن الأغيار، وتقدّسنا عن المنافع والمضار- نطالب بالقليل والكثير، ونحاسب على النقير والقطمير.(1/532)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 36]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
من قابل ربوبيتنا بالجحد، وحكمنا بالرد، لقى الهوان، وقاسى الآلام والأحزان، ثم العجز يلجئه إلى الخنوع، ولكن بعد ألا ينفع ولا يسمع «1» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
يصيبهم من الكتاب ما سبق لهم به الحكم، فمن جرى بسعادته الحكم وقع عليه رقم السعادة، ومن سبق بشقاوته الحكم حقّ عليه علم الشقاوة.
ويقال من سبقت له قسمة السعادة فلو وقع فى قعر اللّظى تداركته العناية وأخرجته الرحمة، ومن سبقت له قسمة الشقاوة.. فلو نزل الفراديس تداركته السخطة وأخرجته اللعنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
__________
(1) توضح هذه العبارة فى ضوء ما سيرد بعد قليل هكذا: (ولكن بعد الا ينفعهم بكاء ولا يسمع لهم دعاء) .(1/533)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
آثار إعراض الحق عنهم أورثت لهم وحشة الوقت تبرّم بعضهم ببعض، وضاق كلّ واحد منهم عن كل شىء حتى عن نفسه، فدعا بعضهم على بعض، وتبرّأ بعضهم من بعض، وكذلك صفة المطرودين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 40]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
فلا دعاؤهم يسمع، ولا بكاؤهم ينفع، ولا بلاؤهم يكشف، ولا عناؤهم يرفع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 41]
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
كما أحاطت العقوبات بهم فى الدنيا فتدنّس بالغفلة باطنهم، وتلوّث بالزّلة ظاهرهم «1» ، فكذلك أحاطت العقوبات بجوانبهم فمن فوقهم عذاب ومن تحتهم عذاب، وكذلك من جوانبهم فى القلب من ضيق العيش واستيلاء الوحشة ما يفى ويزيد على الكل.
__________
(1) نذكّر أن القشيري منذ قليل أوضح أن (ما ظهر من الفواحش هى الزلة وما بطن منها هى الغفلة)(1/534)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 42]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)
رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة العمل فيسّرنا عليهم الطاعات بحسن التوفيق، وخفّفنا عنهم العبادات بتقليل التكليف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 43]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
طهرنا قلوبهم من كل غش، واستخلصنا أسرارهم عن كل آفة. وطهّر قلوب العارفين من كل حظ وعلاقة، كما طهّر قلوب الزاهدين عن كل رغبة ومنية، وطهّر قلوب العابدين عن كل تهمة وشهوة، وطهّر قلوب المحبين عن محبة كل مخلوق وعن غل الصدر- كل واحد على قدر رتبته.
ويقال لمّا خلق الجنة وكل ترتيبها إلى رضوان، والعرش ولى حفظه إلى الجملة «1» ، والكعبة سلّم مفتاحها إلى بنى شيبة، وأمّا تطهير صدور المؤمنين فتولّاه بنفسه.
وقال: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» .
ويقال إذا كان نزع الغل من الصدور من قبله فلا محلّ للغرم الذي لزمهم بسبب الخصوم حيث كان منه سبحانه وجه أدائه.
قوله جل ذكره: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ.
فى قولهم اعتراف منهم وإقرار بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات،
__________
(1) هل المقصود بها جملة الملائكة إشارة إلى قوله تعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... ؟(1/535)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف.
قوله جل ذكره: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
تسكين لقلوبهم، وتطييب لهم، وإلا فإذا رأوا تلك الدرجات علموا أن أعمالهم المشوبة بالتقصير لم توجب لهم كل تلك الدرجات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)
اعترف أهل النار بحقيقة الدّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرار بحال من الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 46]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
ذلك الحجاب الذي بينهما حصل من الحجاب السابق لمّا حجبوا فى الابتداء «1» فى سابق القسمة عما خصّ به المؤمنون من القربة والزلفة حجبوا فى الانتهاء عما خصّ به السعداء من المغفرة والرحمة.
ويقال حجاب وأي حجاب! لا يرفع بحيلة ولا تنفع معه وسيلة.
حجاب سبق به الحكم قبل الطاعة والجرم.
__________
(1) وردت فى (الابتداع) والصواب أن سابق القسمة فى (الابتداء) قبل الطاعة والجرم- كما سيأتى بعد قليل، وكما نعرف من مذهب القشيري فى هذا الخصوص.(1/536)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قوله جل ذكره: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
هؤلاء الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم فأشرفوا على مقادير الخلق بأسرارهم، ويشرفون غدا على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم.
ويقال يعرفونهم غدا بسيماهم التي وجدوهم عليها فى دنياهم فأقوام موسومون بأنوار القرب، وآخرون موسومون «1» بأنوار الرد والحجب.
قوله جل ذكره: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ.
سلموا اليوم عن النكرة والجحود، وأكرموا بالعرفان والتوحيد.
وسلموا غدا من فنون الوعيد، وسعدوا بلطائف المزيد. وتحققوا أنهم بلغوا من الرتب ما لم يسم إليه طرف تأميلهم، ولم يحط بتفصيله كنه عقولهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 47]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
إنما يصرف أبصارهم اليوم تقديرا عليهم عظيم المنّة التي بها نجاتهم، فيزيدون فى الاستغاثة وصدق الابتهال، فتكمل بهم العارفة «2» بإدامة ما لاطفهم به من الإيواء والحفظ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) .
__________
(1) قال أحمد بن عطاء: (الوسم يظهر على المقبولين والمطرودين) اللمع ص 427.
(2) العارفة هى الفضل والمعروف والمنة.(1/537)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهى مما لا يخفى على ذى عينين، فيقولون لهم: هل يغني عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم؟ فشاهدوا- اليوم- تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغنى عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 50]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)
دلّت الآية على أن من أواخر ما يبقى على الإنسان الأكل والشرب فإنهم فى تلك العقوبات الشديدة يقع عليهم الجوع والعطش حتى يتضرعون كلّ ذلك التضرع فيطلبون شربة ماء أو لقمة طعام وهم فى غاية الآلام، والعادة- اليوم- أن من كان فى ألم شديد لا يأكل ولا يشرب، وهذا شديد.
ثم أبصر كيف لا يسقيهم قطرة- مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرته على أن يعطيهم ما يريدون! ولكنه قهر الربوبية وعزّ الأحدية، وأنه فعّال لما يريد. فكما لم يرزقهم- اليوم- من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غدا فى تلك الأحوال قطرة، وفى معناه أنشدوا:
وأقسمن لا يسقيننا- الدهر- قطرة ... ولو فجّرت من أرضهن بحور
ويقال إنما يطلبون الماء ليبكوا به بعد ما نفدت دموعهم، وفى هذا المعنى قيل:
يا نازحا نزفت دمعى قطيعته ... هب لى من الدمع ما أبكى عليك به.
وفى هذا المعنى أنشدوا.
جرف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار(1/538)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
من ذا يعيرك عينه تبكى بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 51]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
كما تركوا أمره وضيّعوه تركهم فى العقوبة، ولا ( ... ) «1» فيما يشكون، فتأتى عليهم الأحقاب، فلا كشف عذاب، ولا برد شراب، ولا حسن جواب، ولا إكرام بخطاب ذلك جزاء لمن لم يعرف قدر الوصلة فى أوقات المهلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 52]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
أنزلنا عليهم من الكتاب وأوحينا إليهم من الخطاب ما لو قابلوه بالتصديق وصاحبوه بالتحقيق لوجدوا الشفاء من محنة البعاد، ونالوا الضياء بقرب الوداد، ووصلوا فى الدنيا والعقبى إلى جميل المراد، ولكنه- سبحانه- أبى القسمة فى نصيبهم إلا الشّقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 53]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
إذا كشف جلال الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطية الرّيب، فلا بكاء لهم ينفع، ولا دعاء منهم يسمع، ولا شكوى عنهم ترفع، ولا بلوى من دونهم تقطع
__________
(1) مشتبهة.(1/539)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
تعرّف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهى أفعاله، وتعرّف إلى الخواص منهم باياته الدالة على نصرته التي هى أفضاله وإقباله، وظهر لأسرار خواص الخواص بنعوته الذاتية «1» التي هى جماله وجلاله، فشتان بين قوم وقوم! ثم كما يدخل فى الظاهر الليل على النهار والنهار على الليل فكذلك يدخل القبض على البسط والبسط على القبض. ومنه الإشارة إلى ليل القلوب ونهار القلوب: فمن عبد أحواله أجمع قبض، ومن عبد أحواله أجمع بسط، ومن عبيد يكون مرة بعين القبض ومرة بعين البسط كما أن بعض أقطار العالم فيها نهار بلا ليل، وفى بعضها ليل بلا نهار، وفى بعضها ليل يدخل على نهار ونهار يدخل على ليل.
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» : فمنه الخير والشر، والنفع والضر، فإن له الخلق والأمر.
«تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قدمه ودوام ثبوته من حيث يقال برك الطير على الماء.
وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العزّ لأنه قد تبارك أي تعظّم. وأشارت إلى إسداد النّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البركة هى الزيادة فهى مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 55]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
__________
(1) لاحظ حرص القشيري الشديد حين يقرر أن أقصى حالات المشاهدة لا تكون مشاهدة الذات- فقد جلت الصمدية أن يستشرف من شهود ذاتها عبد، إنما هى مشاهدة نعوت الذات:
الجمال والجلال.(1/540)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الأمر بالدعاء إذن- فى التسلّى- لأرباب المحنة، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روح المناجاة فى حال الدعاء والدعاء نزهة لأرباب الحوائج، وراحة.
لأصحاب المطالبات، ومعجل من الأنس بما (....) «1» إلى القلب عاجل التقريب.
وما أخلص عبد فى دعائه إلا روّح- سبحانه- فى الوقت قلبه.
ويقال علّمهم آداب الدعاء حيث قال: «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» وهذا أدب الدعاء أن يدعوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكك عن دعائه- الذي لا بد منه- اعتداء منك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 56]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
من الإفساد بعد الإصلاح إحمال النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعد ما كبحت لجامها مدة عن العدو فى ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسال القلب فى أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعار محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوح إلى تتبع الرّخص فى طريق الطلب بعد حمل النّفس على ملازمة الأولى والأشق، ومن ذلك الانحطاط بحظّ إلى طلب مقام منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب وفى الجملة: الرجوع من الأعلى إلى الأدنى إفساد فى الأرض بعد الإصلاح.
قوله جل ذكره: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
يقال المحسنين عملا والمحسنين أملا، فالأول العابدون والثاني العاصون «2» ويقال المحسن من كان حاضرا بقلبه غير لاه عن ربّه ولا ناسيا لحقّه.
ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.
__________
(1) مشتبهة.
(2) تأمل كيف يفسح الصوفية صدورهم ويفتحون أبواب الأمل أمام العصاة(1/541)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
ويقال المحسن الذي لم يخرج (....) «1» عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 57]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
تباشير القرب تتقدم فيتأدى نسيمه إلى مشام الأسزار، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض فى الباطن، فظلّ الوحشة يتقدمها، ونسيم الوصلة بعدها، وفى قريب منه قال قائلهم:
ولقد تشمّمت القضاء لحاجتى ... فإذا له من راحتيك نسيم
قوله جل ذكره: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويبرّح به الوجد وينحل به الجسم، بل يبطل كلّه البعد، فيأتيه القرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طريا، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا، كما قال بعضهم:
كنّا كمن ألبس أكفانه ... وقرّب النعش من اللّحد
فجالت الروح فى جسمه ... وردّه الوصل إلى المولد
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 58]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
إذا زكا الأصل نما الفرع، وإن خبث الجوهر لم يطب ما تحلّل منه، وإن طاب العنصر
__________
(1) مشتبهة.(1/542)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فالجزء يحاكى أصله، والأسرّة تدل على السريرة، فمن صفا باطن قلبه زكا ظاهر فعله، ومن كان بالعكس فحاله بالضد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 59]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
بلّغ الرسالة فلم ينجع فيهم ما أظهر من الآلاء، لأنّ محزوم القسمة لا ينفعه مجهود الحيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 60 الى 61]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)
قوله لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ: نسبوا نوحا- عليه السّلام- إلى الضلالة، فتولّى إجابتهم بنفسه فقال «يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ» ، ونبينا- صلّى الله عليه وسلّم- نسب إليه فتولّى الحق- سبحانه- الردّ عنه فقال: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» «1» فشتّان بين من دافع عن نفسه، وبين من دافع عنه ونفى عنه ربّه «2» ! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 62]
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)
إنى أعلم أنّى وإن بالغت فى تبليغ الرسالة فمن سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحى، ولا يؤثّر فيه قولى، فمن أسقطته القسمة لم تنعشه النصيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 63]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
__________
(1) آية 2 سورة النجم.
(2) من عادة القشيري أن يلتمس نوعا من المقارنة بين المصطفى صلوات الله عليه وبين سائر الأنبياء عليهم السّلام ليظهر علو مقامه ورفعة مرتبته بينهم.(1/543)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
عجبوا من كون شخص رسول الله، ولم يتعجبوا من كون الصنم شريكا لله، هذا فرط الجهالة وغاية الغباء! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 64]
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
تسر بلوا غبّ التكذيب لمّا ذاقوا طعم العقوبة، فلم يسعدوا بما حملوه ولم يصلوا إلى ما أمّلوه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 69]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا فى وهدتهم، ومنوا بمثل حالتهم.
فلا خير فيمن آثر هواه على رضاء الله، ولا ربح من قدّم هواه على حقّ الله.
قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ(1/544)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
جعل الله الخلق بعضهم خلفا عن بعض، فلا يفنى فوجا منهم من جنس إلا أقام فوجا منهم من ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوم، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، ولا ينبغى للعبد أن يسمو طرف «1» تأميله إلى محل الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله، فما لم تنته نوبة أولئك لا تنتهى النوبة إلى هؤلاء.
قوله جل ذكره: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً.
كما زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق، وكما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المبانى أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
قوله جل ذكره: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
النّعماء عام، والآلاء خاص، فتلك تتضمن ترويح الظواهر، وهذه تتضمن التلويح فى السرائر، تلك بالترويح بوجود المبار، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 70]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
طاحوا فى أودية التفرقة فلم يجدوا قرارا فى ساحات التوحيد، فشقّ عليهم الإعراض عن الأغيار، وفى معناه قال قائلهم:
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يبصرون على طعام
ويقال شخص لا يخرجه من غش التفرقة، وشخص لا يحيد لحظة عن سنن التوحيد [فهو لا يعبد إلا واحدا، وكما لا يعبد إلا واحدا لا يشهد إلا واحدا، قال قائلهم:
لا يهتدى قلبى إلى غيركم ... لأنه سدّ عليه الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 71]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
__________
(1) وردت (طرق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ. [.....](1/545)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
إذا أراد الله هوان عبد طرحه فى مفازات التفرقة وإنّ من علامات غضبه وإعراضه ردّ العبد إلى شهود الأغيار، وتغريقه إياه فى بحار الظنون، إذ لا تحصيل للأغيار فى معنى الإثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 72]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة.
وأخبر- سبحانه- أنه نجّى هودا برحمته، وكذلك نجّى الذين آمنوا معه برحمته، ليعلم أنّ النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضل من الله ورحمته فما نجا من نجا إلا بفضل الحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 73]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
غاير الحقّ- سبحانه- بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم فى التوحيد فالشرائع «1» ] التي هى العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد.
__________
(1) كل هذه المساحة فيما بين القوسين موجودة فى الهامش بخط دقيق جدا.(1/546)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
ثم أخبر عن إمضاء سنّته تعالى بإرسال الرسل عليهم السّلام، وإمهال أممهم ريثما ينظرون فى معجزات الرسل.
ثم أخبر عما درجوا عليه فى مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسلية للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- فيما كان يقاسى من بلاء قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 74]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
أزاح علتهم فى بسط الدلالة، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتهم ... فلا الدليل تأمّلوه، ولا السبيل لازموه، ولا النعمة عرفوا قدرها، ولا المنّة قدّموا شكرها، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 79]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)(1/547)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
أجرى الله- سبحانه- سنّته ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله- فى الغالب من عباده- إلّا من يسمو إليه طرفه بالإجلال، وألّا يوضح له قدره بين الأضراب والأشكال فأنصار كلّ نبى إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة فى معادتها، وقيمة المحالّ بساكنيها، قال قائلهم:
وما ضرّ نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان عضبا حيث وجهته وترا
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» «1» قوله تعالى: «وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» الحيلة تدعو إلى وفاق الهوى فتستثقل النّفس قول الناصحين، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم العائبون، قال قائلهم:
وكم سقت فى آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصح
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) .
__________
(1) فى رواية الترمذي (كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك) . الجامع الصغير ص 237(1/548)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
أباح الحقّ- سبحانه- فى الشرع ما أزاح به العذر، فمن تخطّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب- باختياره- صغره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 85]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
خسّت همم قوم شعيب فقنعوا بالتطفيف فى المكيال والميزان عند معاملاتهم، ثم إن الحق- سبحانه- لم يساهلهم فى ذلك ليعلم أنّ الأقدار ليست من حيث الأخطار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
من المعاصي ما لا يكون لازما لصاحبه وحده بل يكون متعدّيا عنه إلى غيره. ثم بقدر الأثر فى التعدّى يحصل الضر للمبتدىء «1» قوله جل ذكره: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
__________
(1) مثلما يحدث فى حالة البدعة، فصاحب البدعة يحمل وزر ابتداعه ووزر من اقتدى به (انظر رأى القشيرى فى كتاب التحبير تحت «البديع» ) وهنا قد تكون (المبتدى) أى البادى بالابتداع وقد تكون (المقتدى) ويقصد بها من اقتدى به، فكلاهما يناله الضر هذا جزاء اتباعه وذاك لابتداعه.(1/549)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
منّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشى الأمور ويحصل المراد.
ويقال كما أن كل أمر بالأعوان والأنصار (خيرا أو شرا، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار فى الخير، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان) «1» فى الشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 88]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88)
كما أن (أهل) «2» الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد فى بابه من باين نهج أضرابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 89]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» ، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا: «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» ، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا: «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» يعنى إن يلبسنا لباس الخذلان نردّ إلى الصغر والهوان.
ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» أي به وثقنا، ومنه الخير أمّلنا.
__________
(1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن.
(2) وضعنا (أهل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى المتن.(1/550)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» فتداركهم الحقّ- سبحانه- عند ذلك بجميل العصمة وحسن الكفاية «1» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 92]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)
تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين فى حكمهم، مبطلين فى ظنهم، فعلم أنّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة «2» لا يحسن اتباعها.
قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا كانت لهم غلبتهم فى وقتهم، ولكن لما اندرست أيامهم سقط صيتهم، و (خمد) «3» ذكرهم، وانقشع سحاب من توهّم أنّ منهم شيئا.
قوله جل ذكره: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ.
الحقّ غالب فى كل أمر، والباطل زاهق بكل وصف، وإذا كانت العزّة نعت من هو أزلىّ الوجود، وكان الجلال حقّ من هو الملك فأى أثر للكثرة مع القدرة؟ وأي خطر للعلل مع الأزل؟ ولقد أنشدوا فى قريب من هذا:
استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 93]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
__________
(1) لاحظ من هذه الفقرة ترتيب السلوك: صحة العزم ثم الشكر ثم التبري عن الحول والقوة ثم التوكل ثم التفويض.
(2) إشارة هنا معناها مشورة أي نصيحة.
(3) وردت (خمر) بالراء، وقد صوبناها (خمد) ذكرهم وليس بمستبعد أن تكون (خمل) ذكرهم فحمود الذكر وخموله بمعنى متقارب.(1/551)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
«1» بيّن أنه راعى حدّ الأمر فإذا خرج عن عهدة التكليف فى التبليغ فما عليه من إقرارهم أو إنكارهم، من توحيدهم أو جحودهم إن أحسنوا فالميراث الجميل لهم، وإن أساءوا فالضرر بالتألم عائد عليهم، ومالك الأعيان أولى بها من الأغيار، فالخلق خلقه والملك ملكه إن شاء هداهم، وإن شاء أغواهم، فلا تأسّف على نفى وفقد، ولا أثر من كون ووجود «2» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
حرّكهم بالبلاء الأهون تحذيرا من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا فى غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مدّ عليهم ظلال الاستدراج، ووسّع عليهم أسباب التفرقة مكرا بهم فى الحال، فإذا وطّنوا- على مساعدة الدنيا- قلوبهم، وركنوا إلى ما سوّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نغّص عليهم طيب الحياة، واندق بغتة عنق السرور، وشرفوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى، فتبدّل ضياء نهارهم بسدفة الوحشة، وتكدّر صافى مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 97]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97)
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (عسى) بالعين.
(2) ربما كان (ووجد) فالوجد يقابل الفقد، ولكن حيث هو هنا لا يتحدث عن طائفة الصوفية، وإنما يتحدث عموما، فالوجود مرادف للكون.(1/552)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
لو آمنوا بالله، واتّقوا الشرك لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض بأسباب العطاء- ولكن «1» سبق بخلافه القضاء- وأبواب الرضاء، والرضاء أتمّ من العطاء.
ويقال ليست العبرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة فى النعمة، ولذا لم يقل أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال: باركنا لهم فيما خوّلنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 98]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأة على غفلة من أهله، ويقال من حذر البيات لم يجد روح الرّقاد.
ويقال ربّ ليلة مفتتحة بالفرح مختتمة (بالترح) «2» . ويقال ربّ يوم تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 99]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
يقال من عرف علوّ قدره- سبحانه- خشى خفىّ مكره، ومن أمن خفىّ مكره نسى عظيم قدره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 100]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
__________
(1) وردت (وإن سبق ... ) وعند ذلك يضطرب السياق فوجدنا ان الأوفق ان تكون (ولكن سبق ... ) لأنهم فى الآية كذبوا ... ، ثم وضعنا الجملة المبدوءة بلكن بين علامتى جملة اعتراضية، فانتظم السياق، ونرجح ان ما صنعناه قريب من الأصل او هو الأصل.
(2) وردت (بالطرح) بالطاء، وهى خطأ من الناسخ فالترح ضد الفرح.(1/553)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
أو لا يعلم المغترون بطول سترنا أن لو أردنا لعجّلنا لهم الانتقام، أو بلغنا فيهم الاصطلام، ثم لا ينفعهم ندم، ولا يشكى عنهم ألم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 101]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)
سلكوا طريقا واحدا فى التمرد، واجتمعوا فى خط واحد فى الجحد والتّبلّد فلا للإيمان جنحوا، ولا عن العدوان رجعوا، وكذلك صفة من سبقت بالشقاء قسمته، وحقت بالعذاب عليه كلمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 102]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
نجم فى الغدر طارقهم، وأفل من سماء الوفاء شارقهم، فعدم أكثرهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.
ويقال: شكا من أكثرهم إلى أقلّهم، فالأكثرون من ردّتهم القسمة، والأقلون من قبلتهم الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 103]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
لما انقرضت أيامهم، وتقاصر عن بساط الإجابة إقدامهم «1» بعث موسى نبيّه، وضمّ
__________
(1) ويجوز أن تكون (أقدامهم) فالقشيرى يستعمل وطء القدم للبساط كثيرا(1/554)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
إليه هارون صفيّه، فقوبلا بالتكذيب والجحود، فسلك بهم مسلك إخوانهم فى التعذيب والتبعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 104 الى 106]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
الرجوع إلى دعاء فرعون إلى الله بعد سماع كلام الله بلا واسطة صعب شديد، ولكنه لمّا ورد الأمر قابله بحسن القبول، فلما ترك اختيار نفسه أيّده الحق- سبحانه- بنور التأييد حتى شاهد فرعون محوا فى التقدير فقال: «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» .
فإذا لم يصح له أن يقول على الخلق فالخلق محو فيما هو الوجود الأزلى فأىّ سلطان لآثار التفرقة فى حقائق الجمع؟
قوله: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: من المعلوم أن مجرّد الدعوى لا حجة فيه، ولكن إذا ظهر برهان لم يبق غير الانقياد لما هو الحق، فمن استسلم ( ... ) «1» ، ومن جحد الحقائق بعد لوح البيان سقط سقوطا لا ينتعش.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 107]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
إنما أظهر له المعجزة من عصاه لطول (مقارنته) «2» إياها، فالإنسان إلى ما ألفه أسكن بقلبه. فلمّا رأى ما ظهر فى العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه السّلام فى الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق، وفى هذا إشارة إلى أنّ السكون إلى شىء غرّة وغفلة (ايش) «3»
__________
(1) لا بد ان كلمة هنا سقطت من الناسخ مثل (سلم) او (نجا) او نحوهما. [.....]
(2) (مقارنته) هنا معناها مصاحبته لها بدليل قوله فيما بعد (إلى ما ألفه) .
(3) (إيش) هذه كلمة دارجة استعملها القشيري كثيرا فى رسالته ومعناها (اى شىء) .(1/555)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
ما كان، فإنّ تقلب العبد فى قبض القدرة، وهو فى أسر التقلّب، وليس للطمع فى الكون مساغ بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 108]
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
العصا- وإن كانت معه من زمن- فيده أخص به لأنها عضو له، فكاشفه أولا «1» برسم من رسمه ثم أشهده من ذاته فى ذاته ما عرف أنه أولى به منه، فلما رأى انقلاب وصف فى يده علم أنه ليس بشىء من أمره بيده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 110]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110)
إذا أراد الله هوان عبد لا يزيد الحقّ حجّة إلا ويزيد لذلك المبطل فيه شبهة فكلّما زاد موسى- عليه السّلام- فى إظهار المعجزات ازدادوا حيرة فى التأويلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 111 الى 112]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
توهّم الناس أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذل الجهد والتشمير يغيّرون شيئا من التقدير بالتقديم أو بالتأخير، ولم يعلموا أن القضاء غالب، وأنّ الحكم سابق، وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم، والتسرع «2» والحلم.. كلا، بل هو الله الواحد القهار العلّام.
__________
(1) فى هذه الإشارة نلحظ تأثر القشيري بالمكاشفة، فالحق سبحانه يتجلى للعبد اولا بنعت من نعوت صفاته ثم يتجلى له بنعت من نعوت ذاته.
(2) وردت (التشرع) حيث التبست علامة التضعيف التي على السين على الناسخ، والتسرع مقبول فى السياق لأنه يقابل الحلم.(1/556)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 116]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
ظنوا أنهم يغلبون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زوّروه فى أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكيد لهم، فهو كما قيل:
ورمانى بأسهم صائبات ... وتعمدته بسهم فطاشا
فبيناهم فى توهّم أنّ الغلبة لهم فتح عليهم- من مكامن القدرة- جيش، فوجدوا أنفسهم- فى فتح القدرة- مقهورين بسيف المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
موّهوا بسحرهم أنهم غلبوا، فأدخل الله- سبحانه- على تمويهاتهم قهر الحق وطاشت تلك الحيل، وخاب منهم الأمل، وجذب الحقّ- سبحانه- أسرارهم على الوهله فأصبحوا فى صدر العداوة، وكانوا- فى التحقيق- من أهل الود. فسبحان من يبرز(1/557)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
العدوّ فى نعت الولي ثم يقلب الكتاب ويظهر الولىّ فى نعت العدو، ثم يأبى الحال إلا حصول المقضىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 124]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
«1» خاطبهم معتقدا أنهم هم الذين كانوا «2» ، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رقّ الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن تو التفرقة، وأن شمس العرفان طلعت فى سماء أسرارهم، فأشهدوا الحقّ بنظر صحيح، ولم يبق لتخويفات النفس فيهم سلطان، ولا لشىء من العلل بينهم مساغ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 125]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125)
لمّا كان مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا فى مسيرهم إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 126]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
لما عملوا لله، وأوذوا فى الله، صدقوا القصد إلى الله، وطلبوا المعونة من قبل الله، كذا سنّة من كان لله أن يكون كلّه على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 127]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)
__________
(1) اخطأ الناسخ إذ كتبهما (أيديهم وأرجلهم) .
(2) نعرف من عبارات القشيري: «كانوا لكنهم بانوا» و «العارف كائن بائن» .(1/558)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
لما استزادوا من فرعون فى التمكين من موسى وقومه استنكف أن يقر بعجزه، ويعترف بقصور قدرته، فتوعد موسى وقومه بما عكس الله عليه تدبيره، وغلب عليه تقديره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 128]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
أحالهم على الله فإن رجوعه إليه، فقال لهم: إن رجوعى- عند تحيري فى أمورى- إلى ربى، فليكن رجوعكم إليه، وتوكّلكم عليه، وتعرّضوا لنفحات يسره، فإنه حكم لأهل الصبر بجميل العقبى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 129]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
خفى عليهم شهود الحقيقة، وغشى على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا ففى حالك بلاء، وقبلك شقاء ... فما الفضل؟ فأجابهم موسى- عليه السّلام- بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» فوقفهم على الانتظار. ومن شهد ببصر الأسرار شهد تصاريف الأقدار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 130]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
شدّد عليهم وطأة القدرة بعد ما ضاعف لديهم أسباب النعمة، فلا الوطأة أصلحتهم شدّتها ولا النعمة نبهتهم كثرتها، لا بل إن مسّهم يسر لاحظوه بعين الاستحقاق، وإن مسّهم عسر حملوه على التّطيّر بموسى- عليه السّلام- بمقتضى الاغترار.(1/559)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 131]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
الكفور لا يرى فضل المنعم فيلاحظ الإحسان بعين الاستحقاق، ثم إذا اتصل به شىء مما يكرهه تجنّي وحمل الأمر على ما يتمنّي:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
إن الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا
قوله جل ذكره: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
المتفرد بالإيجاد هو الواحد ولكن بصائرهم مسدودة، وعقولهم عن شهود الحقيقة مصدودة، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 132]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
«1» جعلوا الإصرار على الاستكبار شعارهم، وهتكوا بألسنتهم- فى العتوّ- أستارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 133]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
جنّس عليهم العقوبات لمّا نوّعوا وجنّسوا فنون المخالفات، فلا إلى التكفير عادوا، ولا إلى التطهير تصدوا، وعوقبوا بصرف قلوبهم عن شهود الحقائق
__________
(1) سقطت (من) فى النسخ فأثبتناها.(1/560)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
وذلك أبلغ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا.... ونعوذ بالله من السقوط عن عين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 134]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)
لم يقولوا ادع لنا ربّنا، بل قالوا يا موسى ادع لنا ربك، فهم ما ازدادوا بزيادة تلك المحن إلا بعدا وأجنبية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 135 الى 136]
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
أبرموا العهد ثم نقضوه، وقدموا العهد ثم رفضوه، وكما قيل:
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى فى ثرى رمسه
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
من صبر على مقاساة الذّلّ فى الله وضع الله على رأسه قلنسوة العرفان، فهو العزيز سبحانه، لا يشمت بأوليائه أعداءهم، ولا يضيع من جميل عهده جزاءهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 139]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)(1/561)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
لم تخلص فى قلوبهم حقائق التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالو لنبيّهم موسى- عليه السّلام-: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال.
ويقال من ابتغى بالصنم أن يكون معبوده متى يتوهّم فى وصفه أن يخلص إلى الله قصوده؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 140]
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)
ذكّرهم انفراده- سبحانه- بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونبّههم أيضا على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقّ إتمام النعمة عليهم مقابلتهم إياها بالتولّى لغيره والعبادة لمن سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 141]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
ما ازداد موسى- عليه السّلام- فى تعديد إنعام الله عليهم، وتنبيهم على عظيم آلائه إلا ازدادوا جحدا على جحد، وبعدا بالقلوب- عن محل العرفان- على بعد، وهذه أمارة من بلاه- سبحانه- فى السابق بالقطع والرد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)(1/562)
عدة الأحباب عزيزة، فإذا حصلت المواعدة بين الأحباب، فهى عذبة حلوة كيفما كانت، وفى هذا المعنى أنشدوا:
أمطلينا وسوّفى ... وعدينا ولا تفى
ويقال علّل الحقّ- سبحانه- موسى بالوعد الذي وعده بأن يسمعه مرة أخرى كلامه، وذلك أنه فى المرة الأولى ابتلاه بالإسماع من غير وعد، فلا انتظار ولا توقع ولا أمل، فأخذ سماع الخطاب بمجامع قلب موسى- عليه السّلام- فعلّق قلبه بالميقات المعلوم ليكون تأميله تعليلا له، ثم إن وعد الحقّ لا يكون إلا صدقا، فاطمأن قلب موسى- عليه السّلام- للميعاد، ثم لمّا مضت ثلاثون ليلة أتى كما سلف الوعد فزاد له عشرا فى الموعد. والمطل فى الإنجاز غير محبوب إلا فى سنّة الأحباب، فإن المطل عندهم أشهى من الإنجاز، وفى قريب من هذا المعنى أنشدوا:
أقيمى لعمرك لا تهجرينا ... ومنّينا المنى، ثم امطلينا
عدينا موعدا ما شئت إنّا ... نحبّ وإن مطلت تواعدينا
فإما تنجزى وعدك أو فإنا ... نعيش نؤمل فيك حينا
قوله جل ذكره: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
كان هارون- عليه السّلام- حمولا بحسن الخلق لمّا كان المرور إلى فرعون استصحب موسى- عليه السّلام- هارون، فقال الله- سبحانه-: «أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» بعد ما قال: «أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» . ولمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه، فقال: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» وهذا غاية لحمل من هارون ونهاية التصبر والرضاء، فلم يقل: لا أقيم فى قومك. ولم يقل: هلّا تحملني مع نفسك كما(1/563)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
استصحبتنى حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضى بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفى قريب منه أنشدوا:
قال لى من أحب والبين قد ... حلّ وفاقا لزفرتى وشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي ... قلت: أبكى عليك طول الطريق
ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون- عليه السّلام- فى الخطاب، فقال:
«يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى» .
ويقال لو قال هارون- عليه السّلام: إن لم تعوضنى عما فاننى من الصحبة فلا تعاتبنى فيما لم أذنب فيه بحال ذرة ولا حبّة ... لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنب كان من بنى إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلّ من عصى وجنى استوجب العتاب، فالعتاب ممنوع عن الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
جاء موسى مجىء المشتاقين مجىء المهيّمين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يبق من موسى شىء لموسى. آلاف الرجال قطعوا مسافات طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطوات فإلى القيامة يقرأ الصبيان: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى» .
ويقال لما جاء موسى لميقات بأسطر الحقّ- سبحانه- سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ، فإن غلبات الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا:(1/564)
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
ويقال صار موسى- عليه السّلام- عند سماع الخطاب بعين السّكر فنطق ما نطق، والسكران لا يؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس فى نص الكتاب معه عتاب بحرف؟
ويقال أخذته عزّة السّماع فخرج لسانه «1» عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحيّة وبسط الوصلة.
ويقال جمع موسى- عليه السّلام- كلمات كثيرة يتكلم بها فى تلك الحالة فإن فى القصص أنه كان يتحمل فى أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟
ألكم كلام معه؟ فإنى أريد أن أمضى إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبّره فى نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه فى قلبه- شيئا ولا حرفا، بل نطق بما صار فى الوقت غالبا على قلبه، فقال: ربّ:
أرنى أنظر إليك، وفى معناه أنشدوا:
فيا ليل كم من حاجة لى مهمة ... إذا جئتكم ليلى فلم أدر ماهيا
ويقال أشدّ الخلق شوقا إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى عليه السّلام، وكان عريق الوصلة، واقفا فى محل المناجاة، محدقة به سجوف التولي، غالبة عليه بواده الوجود، ثم فى عين ذلك كان يقول: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» كأنه غائب عن الحقيقة.
ولكن ما ازداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا، ولا ازدادوا تيما إلا ازدادوا شوقا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقّ- سبحانه- يصون أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال «2» .
ويقال نطق موسى عليه السّلام بلسان الافتقار فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ولا أقلّ
__________
(1) تعليل القشيري لموقف الإفصاح الذي وقفه موسى يوضح كيف يلتمس هذا الباحث مبروا لشطحات الصوفية- بطريق غير مباشر، ويعزو ذلك تارة للسكر الروحي وتارة لوقوع العبد تحت تأثير العزة الإلهية، فيخرج اللسان عن طاعته.
(2) وفى ذلك أنشدوا:
فما مل ساقينا وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسلب اللبا(1/565)
من نظرة- والعبد قتيل هذه القصة- فقوبل بالرّد، وقيل له: «لَنْ تَرانِي» وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم:
جور الهوى أحسن من عدله ... وبخله أظرف من بذله
ويقال لمّا صرّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحا ردّ صريحا فقيل له: «لَنْ تَرانِي» ، ولما قال نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بسرّه فى هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظرا الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «1» فردّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزّ من أن يطمح إلى شهوده- اليوم- طرف، بل الألحاظ مصروفة موقوفة- اليوم- على الأغيار «2» .
ويقال لما سمت همّته إلى أسنى المطالب- وهى الرؤية- قوبل «بلن، ولمّا رجع إلى الخلق وقال للخضر «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ، قال الخضر: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» «3» فقابله بلن، فصار الردّ موقوفا على موسى- عليه السّلام من الحق ومن الخلق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافيا عن كل نصيب لموسى من موسى، وفى قريب منه أنشدوا:
(.......) «4» نحن أهل منازل ... أبدا غراب البين فينا ينعق
ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفرق. فزع موسى حتى خرّ صعقا، والجبل صار دكّا.
ثم الروح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقّ- بعد امتحاء معالم موسى- خيرا لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة: شهود الحقائق بالحقّ أتم من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم:
__________
(1) آية 144 سورة البقرة.
(2) من هذا- ومما أوضحه فى رسالته- نعرف أن القشيري لا يرى بجواز رؤية الله بالبصر فى هذه الدنيا.
(3) آية 67 سورة الكهف.
(4) هنا لفظتان مطموستان ونعرف أنهما «أبنى أبينا ... »(1/566)
ولوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل
ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله: «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» أتمّ وأعظم منه قوله: «لَنْ تَرانِي» لأن ذلك صريح فى الرد، وفى اليأس راحة. لكنّه لما قال فسوف أطمعه فيما منعه فلما اشتد موقفه جعل الجبل دكا، وكان قادرا على إمساك الجبل، لكنه قهر الأحباب الذي به جرت سنّتهم.
ويقال فى قوله: «انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» .
ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا- والله- لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد
ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» تداركه قلب موسى- عليه السّلام- حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل:
فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: «تُبْتُ إِلَيْكَ» .
يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله- تعالى- لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جل ذكره: تُبْتُ إِلَيْكَ.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك.(1/567)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 144]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
هذا الخطاب لتدارك قلب موسى- عليه السّلام- بكل هذا الرّفق، كأنه قال:
يا موسى، إنى منعتك عن شىء واحد وهو الرؤية، ولكنى خصصتك بكثير من الفضائل اصطفيتك بالرسالة، وأكرمتك بشرف الحالة، فاشكر هذه الجملة، واعرف هذه النعمة، وكن من الشاكرين، ولا تتعرض لمقام الشكوى، وفى معناه أنشدوا:
إن أعرضوا فهم الذين تعطّفوا ... وإن جنوا فاصبر لهم إن أخلفوا
وفى قوله سبحانه: «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» إشارة لطيفة كأنه قال: لا تكن من الشاكين، أي إن منعتك عن سؤلك، ولم أعطك مطلوبك فلا تشكى إذا انصرفت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 145]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)
وفى الأثر: أن موسى عليه السّلام كان يسمع صرير القلم، وفى هذا نوع لطف لأنه إن منع منه النظر أو منعه من النظر فقد علله بالأثر «1» .
قوله جل ذكره: فَخُذْها بِقُوَّةٍ.
فيه إشارة إلى أن الأخذ يشير إلى غاية القرب، والمراد هاهنا صفاء الحال، لأن قرب المكان لا يصحّ على الله سبحانه.
قوله جل ذكره: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها.
فرق بين ما أمر به موسى من الأخذ وبين ما أمره أن يأمر به قومه من الأخذ، أخذ موسى عليه السّلام من الحق على وجه من تحقيق الزلفة وتأكيد الوصلة، وأخذهم أخذ قبول من حيث التزام الطاعة، وشتان ما هما!.
__________
(1) نلاحظ أن القشيري كان ممتعا أشد ما يكون الإمتاع حين استغل موقف شهود موسى استغلالا جميلا أوشك أن يحيط بكل جوانب هذه اللحظات الحاسمة فى الحياة الروحية، فاجتمعت إشاراته لتكون درسا في غاية الدقة والإفادة. [.....](1/568)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
قوله: «بِأَحْسَنِها» بمعنى بحسنها، ويحتمل أن تكون الهمزة للمبالغة يعنى: بأحسنها ألا تعرّج على تأويل وارجع إلى الأولى «1» .
قوله جل ذكره: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ.
يعنى عليها غبرة العقوبة، خاوية على عروشها، ساقطة على سقوفها، منهدّ بنيانها، عليها قترة العقاب.
والإشارة من دار الفاسقين إلى النّفوس المتابعة للشهوات، والقلوب التي هى معادن المنى وفاسد الخطرات، فإنّ الفسق يوجب خراب المحل الذي يجرى فيه فمن جرى على نفسه فسق خربت نفسه. وآية خراب النفوس انتفاء ما كان عليها وفيها من سكان الطاعات، فكما تتعطل المنازل عن قطانها إذا تداعت للخراب فكذلك إذا خربت النفوس بعمل المعاصي فتنتفى عنها لوازم الطاعات ومعتادها، فبعد ما كان العبد يتيسر عليه فعل الطاعات لو ارتكب شيئا من المحظورات يشق عليه فعل العبادة، حتى لو خيّر بين ركعتى صلاة وبين مقاساة كثير من المشاق آثر تحمل المشاقّ على الطاعة.. وعلى هذا النحو ظلم القلوب وفسادها فى إيجاب خراب محالها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
سأحرم المتكبرين بركات الاتباع حتى لا يقابلوا الآيات التي يكاشفون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يخاطبون به بسمع الإيمان.
والتكبّر جحد الحق- على لسان العلم، فمن جحد حقائق الحقّ فجحوده تكبّره واعتراضه على التقدير مما يتحقق جحوده فى القلب.
__________
(1) يوجه القشيري هذه الإشارة نحو موضوع الرخص، فمن المعلوم أنه يرى ان من الأفضل الا يلجا المريد للرخصة، وفعل الأولى عنده هو ترك الرخصة لأنها للمستضعفين وأرباب الحوائج والأشغال من الكافة، والمريد لا حاجة له ولا شغل إلا لربه وبربه.(1/569)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
ويقال التكبّر توهم استحقاق الحقّ لك.
ويقال من رأى لنفسه قيمة فى الدنيا والآخرة فهو متكبّر.
ويقال من ظنّ أنّ شيئا منه أو له أو إليه- من النفي والإثبات- إلا على وجه الاكتساب فهو متكبّر.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
تبيّن بهذا أنه لا يكفى شهود الحقّ حقا وشهود الباطل باطلا بل لا بدّ من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل.
ويقال إنّ الجاحد للحقّ- مع تحققه به- أقبح حالة من الجاهل به المقصّر فى تعريفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 148]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148)
لم يطهّر قلوبهم- فى ابتداء أحوالهم- عن توهم الظنون، ولم يتحققوا بخصائص القدم وشروط الحدوث، فعثرت أقدام فكرهم فى وهاد المغاليط لما سلكوا المسير.
ويقال إن أقواما رضوا بالعجل أن يكون معبودهم متى تشم أسرارهم نسيم «1» التوحيد؟
هيهات لا! لا ولا من لاحظ جبريل وميكائيل والعرش أو الثّرى، أو الجنّ أو الورى.
وإنّ من لحقه ذلك أو وجد من قبيل ما يقبل نعوت الحدثان، أو صحّ فى التجويز أن ترتقى إليه صواعد التقدير وشرائط الكيفية فغير صالح لاستحقاق الإلهية.
__________
(1) وردت (تشيم) وهى خطأ فى النسخ.(1/570)
ويقال شتّان بين أمة وأمة! أمة خرج نبيهم عليه السّلام من بينهم أربعين يوما فعبدوا العجل، وأمة خرج نبيّهم- عليه السّلام- من بينهم وأتى نيف وأربعمائة سنة فمن ذكر بين أيديهم أن الشموس والأقمار أو شيئا من الرسوم والأطلال تستحق الإلهية أحرقوه بهممهم ويقال لا فصل بين الجسم والجسد، فكما لا يصلح أن يكون المعبود جسما لا يصلح أن يكون متصفا بما فى معناه، ولا أن يكون له صوت فإن حقيقة الأصوات مصاكّة الأجرام الصلبة، والتوحيد الأزلى ينافى هذه الجملة.
ويقال أجهل بقوم آمنوا بأن يكون مصنوعهم معبودهم! ولولا قهر الربوبية وأنه تعالى يفعل ما يشاء- فأىّ عقل يقرّ مثل هذا التلبيس؟! قوله جل ذكره: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ.
جعل من استحقاقه «1» نعوت الإلهية صحة الخطاب وأن تكون منه الهداية، وهذا يدل على استحقاق الحق بالنعوت «2» بأنه متكلّم فى حقائق آزاله، وأنه متفرّد بهداية العبد لا هادى سواه. وفيه إشارة إلى مخاطبة الحق- سبحانه- وتكليمه مع العبد، وإنّ الملوك إذا جلّت رتبتهم استنكفوا أن يخاطبوا أحدا بلسانهم حتى قال قائلهم:
وما عجب تناسى ذكر عبد ... على المولى إذا كثر العبيد
وبخلاف هذا أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته مع عباده المؤمنين، أما الأعداء فيقول لهم: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «3» وأمّا المؤمنون فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم إلا يكلمه ربّه ليس بينه وبينه ترجمان» «4» ، وأنشدوا فى معناه.
وما تزدهينا الكبرياء عليهم ... إذا كلّمونا أن نكلمهم مردّا
__________
(1) وردت (استحقاقهم) وهى خطأ فى النسخ.
(2) يشير القشيري بذلك إلى معارضة المعتزلة الذين ينفون الصفات الإلهية منعا للتعدد، واقتضاء حامل ومحمول.
(3) آية 108 سورة المؤمنون.
(4) في رواية مسلم عن عدى بن حاتم قال رسول الله (ص) :
«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان) ص 703 ح 2 ط الحلبي.(1/571)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قال تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 149]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
حين تحققوا بقبح صنيعهم تجرّعوا كاسات الأسف ندما، واعترفوا بأنهم خسروا إن لم يتداركهم من الله جميل لطفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
لو وجد موسى قومه بألف ألف وفاق لكان متنغّص العيش لما منى به من حرمان سماع الخطاب والرد إلى شهود الأغيار.. فكيف وقد وجد قومه قد ضلوا وعبدوا العجل؟! ولا يدرى أىّ المحن كانت أشدّ على موسى:
أفقدان سماع الخطاب؟ أو بقاؤه عن سؤال الرؤية؟ أو ما شاهد من افتنان بنى إسرائيل، واستيلاء الشهوة على قلوبهم فى عبادة العجل؟ سبحان الله! ما أشدّ بلاءه على أوليائه! قوله جل ذكره: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
__________
(1) آية 109 سورة الكهف.(1/572)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
إن موسى عليه السّلام وإن كان سمع من الله فتن قومه فإنه لما شاهدهم أثّرت فيه المشاهدة بما لم يؤثر فيه السماع، وإن علم قطعا أنه تأثر بالسماع إلا أن للمعاينة تأثيرا آخر.
ثم إن موسى لما أخذ برأس أخيه يجره إليه استلطفه هارون فى الخطاب.
فقال: يا «ابْنَ أُمَّ» فذكر الأمّ هنا للاسترفاق والاسترحام.
وكذلك قوله: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
يريد بهذا أنه قد توالت المحن علىّ فذرنى وما أنا فيه، ولا تزد فى بلائي، خلفتنى فيهم فلم يستنصحونى. وتلك علىّ شديدة. ولقيت فى عتابى وجر رأسى وقصدت ضربى، وكنت أود منك تسليتى وتعزيتى. فرفقا بي ولا تشمت بي الأعداء، ولا تضاعف علىّ البلاء.
وعند ذلك رقّ له موسى- عليه السّلام، ورجع إلى الابتهال إلى الله والسؤال بنشر الافتقار فقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» وفى هذا إشارة إلى وجوب الاستغفار على العبد فى عموم الأحوال، والتحقق بأنّ له- سبحانه- تعذيب البريء إذ الخلق كلّهم ملكه، وتصرّف المالك فى ملكه نافذ.
ويقال: ارتكاب الذّنب كان من بنى إسرائيل، والاعتذار كان من موسى وهارون عليهما السّلام، وكذا الشرط فى باب خلوص العبودية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 152]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
يعنى إن الذين اتخذوا العجل معبودا سينالهم فى مستقبل أحوالهم جزاء أعمالهم. والسين فى قوله «سَيَنالُهُمْ» للاستقبال، ومن لا يضره عصيان العاصين لا يبالى بتأخير العقوبة عن الحال، وفرق بين الإمهال والإهمال، والحق- سبحانه- يمهل ولكنه لا يهمل، ولا ينبغى لمن يذنب ثم لا يؤاخذ فى الحال أن يغترّ بالإمهال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 153]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)(1/573)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
وصفهم بالتوبة بعد عمل السيئات ثم بالإيمان بعدها، ثم قال: «مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .
والإيمان الذي هو بعد التوبة يحتمل آمنوا بأنه يقبل التوبة، أو آمنوا بأن الحق سبحانه لم يضرّه عصيان، أو آمنوا بأنهم لا ينجون بتوبتهم من دون فضل الله، أو آمنوا أي عدّوا ما سبق منهم من نقض العهد شركا.
ويقال استداموا للإيمان فكان موافاتهم على الإيمان.
أو آمنوا بأنهم لو عادوا إلى ترك العهد وتضييع الأمر سقطوا من عين الله، إذ ليس كل مرة تسلم الجرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
تشير إلى حسن إمهاله- سبحانه- للعبد إذا تغيّر عن حدّ التمييز، وغلب عليه ما لا يطيق ردّه من بواده الغيب.
وإذا كانت حالة الأنبياء- عليهم السّلام- أنه يغلبهم ما يعطلهم عن الاختيار فكيف الظن بمن دونهم «1» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) .
__________
(1) يستشفع القشيري للواله إذا خرج عن حد التمييز إن كان صادقا وله عذر.(1/574)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
شتّان بين أمة وأمة أمة يختارهم نبيّهم- عليه السّلام، وبين أمة اختارها الحقّ- سبحانه، فقال: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «1» .
الذين اختارهم موسى قالوا: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ» والذين اختارهم الحق- سبحانه- قال الله تعالى فيهم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «2» .
ويقال إن موسى- عليه السّلام- جاهر الحقّ- سبحانه- بنعت التحقيق وفارق الحشمة وقال صريحا: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» ثم وكل «3» الحكم إليه فقال: «تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» ثم عقّبها ببيان التضرع فقال: «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا» ، ولقد قدّم الثناء على هذا الدعاء فقال: «أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 156]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)
نطق بلسان التضرع والابتهال حيث صفّى إليه الحاجة، وأخلص له فى السؤال فقال:
«وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ» أي اهدنا إليك.
وفى هذه إشارة إلى تخصيص نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- فى التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقّ لأن موسى- عليه السّلام قال: «وَاكْتُبْ لَنا فِي....» ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» ولا أقلّ من ذلك، وقال:
«واكفلنى كفالة الوليد» ثم زاد فى ذلك حيث قال: «لا أحصى ثناء عليك» «4» .
__________
(1) آية 32 سورة الدخان والمقصود أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
(2) آية 22 سورة القيامة
(3) وردت (وقل) والصواب أن تكون (وكل) إليه الحكم.
(4) قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفلنى كفالة الوليد، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وجهت وجهى إليك، وألجأت ظهرى إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» .
اللهم اكفلنى كفالة الوليد ... علمها النبي (ص) لبعض أصحابه، للشيخين من حديث البراء. اللهم أمتعني بسمعى وبصرى: الترمذي، والحاكم عن أبى هريرة «ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» الحاكم من حديث أنس قال: صحيح على شرط الشيخين، وعلّمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته الزهراء.(1/575)
قوله جل ذكره: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي ملنا إلى دينك، وصرنا لك بالكلية، من غير أن نترك لأنفسنا بقية.
قوله جل ذكره: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وفى هذا لطيفة حيث لم يقل: عذابى لا أخلى منه أحدا، بل علّقه على المشيئة.
وفيه أيضا إشارة أن أفعاله- سبحانه- غير معلّلة بأكساب الخلق لأنه لم يقل:
عذابى أصيب به العصاة بل قال: «مَنْ أَشاءُ» وفى ذلك إشارة إلى جواز الغفران لمن أراد لأنه قال: «أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» فإذا شاء ألا يصيب به أحدا كان له ذلك، وإلا لم يكن حينئذ مختارا.
ثم لمّا انتهى إلى الرحمة قال: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» لم يعلّقها بالمشيئة لأنها نفس المشيئة ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم. فلمّا كان العذاب من صفات الفعل علّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات.
ويقال فى قوله تعالى: «وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» مجال لآمال العصاة لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعابدين والعارفين فهم «شَيْءٍ» «1» .
قوله جل ذكره: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ.
أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحد شىء على الله إذ لا يجب عليه شىء لعزّة فى ذاته «2» .
قوله هاهنا: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» أي يجتنبون أن يروا الرحمة باستحقاقهم، فإذا اتقوا هذه الظنون، وتيقنوا أن أحكامه ليست معللة بأكسابهم- استوجبوا الرحمة، ويحكم بها لهم.
__________
(1) اى ضمن (شىء) التي فى الآية «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» .
(2) أي بخلاف المعتزلة الذين يقولون بالوجوب (على) الله، وشتان بين الوجوب (من) الله والوجوب (عليه) فالوجوب من الله فضل، والوجوب على الله إلزام. [.....](1/576)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
«وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» أي بما يكاشفهم به فى الأنظار مما يقفون عليه بوجوه الاستدلال، وبما يلاطفهم به فى الأسرار مما يجدونه فى أنفسهم من فنون الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 157]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
أظهر شرف المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» أي أنه لم يكن شىء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه من قبل نفسه، أو من تعلّمه وتكلّفه، أو من اجتهاده وتصرّفه.. بل ظهر عليه كلّ ما ظهر من قبله- سبحانه- فقد كان هو أمّيا غير قارئ للكتب، ولا متتبّع للسّير.
ثم قال: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» : والمعروف هو القيام بحق الله، والمنكر هو البقاء بوصف الحظوظ وأحكام الهوى، والتعريج فى أوطان المني، وما تصوّره للعبد تزويرات الدعوى «1» . والفاصل بين الجسمين، والمميّز بين القسمين- الشريعة، فالحسن من أفعال العباد ما كان بنعت الإذن من مالك الأعيان فلهم ذلك، والقبيح ما كان موافقا للنّهى «2» والزجر فليس لهم فعل ذلك.
قوله جل ذكره: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
الإصر الثّقل، ولا شىء أثقل من كدّ التدبير، فمن ترك كد التدبير إلى روح شهود التقدير، فقد وضع عنه كلّ إصر، وكفى كلّ وزر وأمر.
والأغلال التي كانت عليهم هى ما ابتدعوه من قبل أنفسهم باختيارهم فى التزام طاعات
__________
(1) يقصد بها دعوى النفس أنها على شىء وذلك زور وباطل.
(2) وردت (الهنى) وهى خطأ فى النسخ.(1/577)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
الله ما لم يفترض عليهم، فوكلوا إلى حولهم ومنّتهم فيها فأهملوها، ونقضوا عهودهم.
ومن لقى- بخصائص الرضا- ما تجرى به المقادير، وشهد الحقّ فى أجناس الأحداث- فقد خصّ بكل نعمة وفضل.
قوله جل ذكره: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
اعترف لهم «1» بنصرة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وإلا فالنبى صلّى الله عليه وسلّم كان الله حسيبه، ومن كان استقلاله بالحق لم يقف انتعاشه على نصرة الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
صرّح بما رقّيناك إليه من المقام، وأفصح عما لقيناك به من الإكرام، قل إنى إلى جماعتكم مرسل، وعلى كافتكم مفضّل، ودينى- لمن نظر واعتبر، وفكّر وسبر- مفصّل. فإلهى الذي لا شريك له ينازعه، ولا شبيه يضارعه له حقّ التصرف فى ملكه بما يريد من حكمه. ومن جملة ما حكم وقضى، ونفذ به التقدير وأمضى- إرسالى إليكم لتطيعوه فيما يأمركم، وتحذروا من ارتكاب ما يزجركم.
وإنّ مما أمركم به أنه قال لكم: آمنوا بالنبيّ الأمّى، واتبعوه لتفلحوا فى الدنيا والعقبى، وتستوجبوا الزّلفى والحسنى، وتتخلصوا من البلوى والهوى.
__________
(1) (اعترف لهم) أي عرف لهم هذا العمل وأشاد به.(1/578)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
هم الذين سبقت لهم العناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمة السابقة، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفىّ تبديل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 160]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
فرّقهم أصنافا، وجعلهم فى التحزب أخيافا، ثم كفاهم ما أهمّهم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بدّ منه فيما نابهم فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرّ والبرد، وأنزلنا عليهم المنّ والسّلوى مما نفى عنهم تعب الجوع والجهد والسعى والكد، وفجّرنا لهم العيون عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عيانا، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العبرة بأفعال الخلق ولا بأعمالهم إنما المدار على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يمضى عليهم من فنون أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 161]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)(1/579)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
يخبر عما ألزمهم من مراعاة الحدود، وما حصل منهم من نقض العهود. وعما ألزمهم من التكليف، ولقّاهم به من صنوف التعريف، وإكرامه من (شاء) «1» منهم بالتوفيق والتصديق، وإذلاله من شاء منهم بالخذلان وحرمان التحقيق، ثم ما عاقبهم به من فنون البلاء فما لقوا تعريفا، وأذاقهم من سوء الجزاء، حكما- من الله- حتما، وقضاء جزما.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 162]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
«2» جاء فى التفسير أنهم زادوا حرفا فى الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل «حطّة» فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة فى الدّين، والابتداع فى الشرع عظيم الخطر، ومجاوزة حدّ الأمر شديد الضرر.
ويقال إذا كان تغيير كلمة هى عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب- فما الظنّ بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود؟
ويقال إنّ القول أنقص من العمل بكلّ وجه- فإذا كان التغيير فى القول يوجب كلّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير فى الفعل؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 163]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)
كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك روغان- فى التحقيق «3» ، وإن الحقائق تأبى
__________
(1) سقطت (شاء) وقد أثبتناها قياسا على ما حدث فيما بعد.
(2) سقطت (من السماء) من الناسخ.
(3) تأمل مفهوم (التأويل) عند القشيري، وكيف يعارضه إذا كان باطلا.(1/580)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
إلا الصدق، وإنّ التعريج فى أوطان الحظوظ والجنوح إلى محتملات الرّخص فسخ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوّب له، ومن صفّى صفى له.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 164]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
الحقائق- وإن كانت لازمة- فليست للعبد عند لوازم الشرع عاذرة «1» بل الوجوب يفترض شرعا، وإن كان التقدير غالبا بكل وجه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 165]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)
إذا تمادى العبد فى تهتّكه، ولم يبال بطول الإمهال والسّتر لم تهمل يد التقدير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر.
ثم البريء فى فضاء السلامة، وتحت ظلّ الحفظ، ودوام روح التخصيص وبرد عيش التقريب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 166]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
إذا انتهت مدة الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبد من عين الله لم ينتعش بعده أبدا، فمن أسقطه حكم الملوك فلا قبول له بعد الردّ، وفى معناه أنشدوا:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 167]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
__________
(1) أي لا ينبغى نصرة الحقيقة على حساب الشريعة بحال.(1/581)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
إذا الحقّ- سبحانه- أمضى سنته بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداء للعذر- وإن جلت «1» رتبته عن كل عذر- فإن ينجع فيهم القول وإلا دمّر عليهم بالعذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 168]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
«2» أجراهم على ما علم أنهم يكونون عليه من صلاح وسداد، ومعاص وفساد. ثم ابتلاهم بفنون الأفعال من محن أزاحها، ومن منن أتاحها، وطالبهم بالشكر على ما أسدى، والصبر على ما أبلى، ليظهر للملائكة والخلائق أجمعين جواهرهم فى الخلاف والوفاق، والإخلاص والنفاق فأمّا الحسنات فهى ما يشهدهم المجرى، ولا يلهيهم عن المبدى، وأمّا السيئات فالتردد بين الإنجاز والتأخير، والإباحة والتقصير.
ويقال الحسنة أن ينسيك نفسك، والسيئة أن يشهدك نفسك.
ويقال الحسنات بتيسير وقت عن الغفلات خال، وتسهيل يوم عن الآفات بائن. والسيئات التي ابتلاهم بها خذلان حاصل وحرمان متواصل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 169]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)
استوجبوا الذم بقوله- سبحانه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» لأنهم آثروا العرض «3»
__________
(1) وردت (حلت) بالحاء وهى خطأ فى النسخ.
(2) أخطأ الناسخ إذ كتبها (لعلهم يرحمون)
(3) وردت (الأرض) وهى خطأ فى النسخ فلفظة (عرض) مذكورة فى الآية.(1/582)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
الأدنى، وركنوا إلى عاجل الدنيا، وجعلوا نصيبهم من الآخرة المنى فقالوا: «سَيُغْفَرُ لَنا» .
ويقال من أمارات الاستدراج ارتكاب الزلة، والاغترار بزمان المهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ.
أخبر عن إصرارهم على الاغترار بالمنى، وإيثار متابعة الهوى.
قوله جل ذكره: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.
استفهام فى معنى التقرير «1» ، أي أمروا ألا يصفوا الحقّ إلا بنعت الجلال، واستحقاق صفات الكمال، وألا يتحاكموا عليه بما لم يأت منه خبر، ولم يشهد بصحته برهان ولا نظر.
قوله جل ذكره: وَدَرَسُوا ما فِيهِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
يعنى تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان. يعنى التعرض لنفحات فصله- سبحانه- خير لمن أمّل جوده من مقاساة التعب ممن بذل- فى تحصيل هواه- مجهوده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 170]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
يمسكون بالكتاب إيمانا، وأقاموا الصلاة إحسانا، فبالإيمان وجدوا الأمان، وبالإحسان وجدوا الرضوان فالأمان معجّل والرضوان مؤجل. ويقال «يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة فى المآل والمناجاة فى الحال.
ويقال أفرد الصلاة هاهنا بالذكر عن جملة الطاعات ليعلم أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.
__________
(1) وردت (التقدير) بالدال وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها، والاستفهام التقريرى مصطلح بلاغي.(1/583)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قوله جل ذكره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
من أمّل سبب إنعامنا لم تخسر له صفقة، ولم تخفق «1» له فى الرجاء رفقة، ويقال من نقل (....) «2» إلى بابه قدمه لم يعدم فى الآجل نعمه، ومن رفع إلى ساحات جوده هممه نال فى الحال كرمه.
ويقال من توصّل إليه بجوده نال فى الدارين شرفه. ومن اكتفى بجوده «3» كان الله عنه خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
ليس من يأتى طوعا كمن يأتى جبرا، فإن الذي يأتى قهرا لا يعرف للحق- سبحانه- قدرا، وفى معناه أنشدوا:
إذا كان لا يرضيك إلا شفاعة ... فلا خير فى ود يكون لشافع
وأنشدوا:
إذا أنا عاتبت الملول فإنّما ... أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ... ألم يكن تودده طبعا، فصار تكلّفا؟
ويقال قصارى من أتى خيرا أن ينكص على عقبيه طوعا، كذلك لمّا قابلوا الكتاب بالإجبار ما لبثوا حتى قابلوه بالتحريف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 173]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
__________
(1) وردت (تحقق) وهى خطأ فى النسخ لأن المعنى يرفضها.
(2) مشتبهة وربما كانت (فى العاجل) .
(3) الأصوب أن تكون هذه (بوجوده) أي من فنى عن نفسه وبقي بالحق كان الحق عنه خلقه. [.....](1/584)
أخبر بهذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج «1» ودّه، بتعريف عبده، وفى معناه أنشدوا:
سقيا لليلى والليالى التي ... كنّا بليلى نلتقى فيها
أفديك بل أيام دهرى كلها ... يفدين أياما عرفتك فيها
ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر، أو ظهر فى قلوبهم لمصنوع أثر، أو كان لهم من حميم أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفى معناه أنشدوا:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... وصادف قلبى فارغا فتمكنّا
ويقال جمعهم فى الخطاب ولكنه فرّقهم فى الحال. وطائفة خاطبهم بوصف القربة فعرّفهم فى نفس ما خاطبهم، وفرقة أبقاهم فى أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم.
ويقال أقوام لاطفهم فى عين ما كاشفهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم فى نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود.
ويقال وسم بالجهل قوما فألزمهم بالإشهاد ببيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضح الحجة (......) «2» .
__________
(1) العناج حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد) .
(2) لا بد أن هنا عبارة ساقطة.(1/585)
ويقال تجلّى لقوم فتولّى تعريفهم فقالوا: «بَلى» عن حاصل يقين، وتعزّز عن آخرين فأثبتهم فى أوطان الجحد فقالوا: «بَلى» عن ظن وتخمين.
ويقال جمع المؤمنين فى الأسماء ولكن غاير بينهم فى الرتب فجدب قلوب قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبارّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار.
ويقال فرقة ردّهم إلى الهيبة فهاموا، وفرقة لاطفهم بالقربة فاستقاموا.
ويقال عرّف الأولياء أنه من هو فتحققوا بتخليصهم، ولبّس على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم.
ويقال أسمعهم وفى نفس ما أسمعهم أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم- بحسن التولي- أحكام التكليف «1» وكان- سبحانه- لهم مكلّفا، وعلى ما أراده مصرّفا، وبما استخلصهم له معرّفا، وبما رقاهم إليه مشرّفا.
ويقال كاشف قوما- فى حال الخطاب- بجماله فطوحهم فى هيمان حبه، فاستمكنت محابّهم فى كوامن أسرارهم فإذا سمعوا- اليوم- سماعا تجددت (تلك الأحوال، فالانزعاج الذي يظهر فيهم لتذكّر ما سلف لهم) «2» من العهد المتقدم «3» .
ويقال أسمع قوما بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود.
ويقال أظهر آثار العناية بدءا حين اختصّ بالأنوار التي رشت عليهم قوما، فمن حرمه تلك الأنوار لم يجعله أهلا للوصلة، ومن أصابته تلك الأنوار أفصح بما خصّ به من غير مقاساة كلفة.
__________
(1) لاحظ مدى إلحاح القشيري على التزام أحكام التكليف ما سنحت له مناسبة.
(2) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه في موضعه من النص حسب العلامات المميزة
(3) من هذا ومما ثلاه يتضح كيف ارتبطت الولاية بالفطرة والاجتباء والخصوصية منذ يوم الذر وكذلك الشأن فى العداوة.(1/586)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 174]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
إذا سدّت «1» عيون البصائر فما ينفع وضوح الحجّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 175]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)
الحقّ- سبحانه- يظهر الأعداء فى صدار الخلّة ثم يردّهم إلى سابق القسمة، ويبرز الأولياء بنعت الخلاف والزّلّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة.
ويقال أقامه فى محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدّ له من سابق التقدير فأصبح والكلّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه- مع خساسته: وفى معناه أنشدوا:
فبينا بخير والدّنى مطمئنة ... وأصبح يوما- والزمان تقلّبا
ويقال ليست العبرة بما يلوح فى الحال، إنما العبرة بما يئول إليه فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 176]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تلحقه الشقاوة الأبدية، ولكن من قصمته السوابق لم تنعشه اللواحق.
قوله جل ذكره: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ.
إذا كانت مساكنة آدم للجنّة وطمعه فى الخلود فيها أوجبا خروجه عنها، فالركون إلى الدنيا- متى يوجب البقاء فيها؟
قوله جل ذكره: وَاتَّبَعَ هَواهُ.
موافقة الهوى تنزل صاحبها من سماء العزّ إلى تراب الذّل، وتلقيه فى وهدة الهوان ومن لم يصدّق علما فعن قريب يقاسيه وجودا.
__________
(1) وردت (شدت) والمعنى يرفضها ويبدو أن الناسخ قد حسب ضمة السين ثلاث نقط انظر (ولولا انسداد البصائر ص 589 من هذا المجلد) .(1/587)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قوله جل ذكره: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ.
من أخلاق الكلب التعرّض لمن لم يخفه على جهة الابتداء، ثم الرضاء عنه بلقمة..
كذلك الذي ارتدّ عن طريق الإرادة يصير ضيق الصدر، سيىء الخلق، يبدأ بالجفاء كلّ برىء، ثم يهدأ طياشه بنيل كلّ عرض خسيس.
قوله جل ذكره: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
المحجوب عن الحقيقة عنده الإساءة والإحسان (سيان) «1» ، فهو فى الحالين: إمّا صاحب ضجر أو صاحب بطر لا يحمل المحنة إلا على زوال الدولة، ولا يقابل «2» النعمة إلا بالنهمة، فهو فى الحالين محجوب عن الحقيقة.
ويقال الكلب نجاسته أصلية، وخساسته كلية، كذلك المردود فى الصفة له نقصان القيمة وحرمان القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 177]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
«3» أي صفته أدنى من نعت من بلى بالإعراض الأزلىّ، وأىّ نعت أعلى من وصف من أكرم بالقبول الأيدىّ؟ وأىّ حيلة تنفع مع من يخلق الحيلة؟»
وكيف تصحّ الوسيلة إلا لمن منه الوسيلة؟
__________
(1) (سيان) زياد أضفناها ليستقيم بها والمعنى ويقوى.
(2) وردت (ولا يقال) وهى خطأ فى النسخ والمعنى يتطلب (ولا يقابل) .
(3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مثلان) .
(4) نعرف من مذهب القشيري أن (الحيلة) تتصرف إلى الإنسان، وهو هنا يقرر أن الحيلة من خلق الحق، وبهذا يتاكد اتجاهه الكلامى نحو جعل الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد.(1/588)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 178]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)
ليست الهداية من حيث السعاية، إنما الهداية من حيث البداية، وليست الهداية بفكر العبد ونظره، إنما الهداية بفضل الحق وجميل ذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
من خلقه لجهنم- متى يستوجب الجنّات؟
ومن أهّله للسخطة- أنّى يستحق الرضوان؟
ولولا انسداد البصائر وإلا فأىّ إشكال بقي بعد هذا الإيضاح؟ «1» ويقال هم- اليوم- فى جحيم الجحود، مقرّنين فى أصفاد الخذلان، ملبسين ثياب الحرمان، طعامهم ضريع الوحشة، وشرابهم حميم الفرقة، وغدا هم فى جحيم الحرقة «2» ..
كما فصّل فى الكتاب شرع تلك الحالة.
قوله جل ذكره: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
أي لا يفقهون معانى الخطاب كما يفهم المحدّثون «3» ، وليس لهم تمييز بين خواطر الحق
__________
(1) يغمز القشيري هنا بمن يقول بحرية الإنسان فى اختطاط مصيره باختياره وإرادته، ويرجع الأمر كله للقسمة.
(2) لاحظ مفهوم الجحيم، فى تصور الصوفية، وهو جحيم الفراق- هنا فى هذه الدنيا. وبعده جحيم الاحتراق فى الدار الآخرة.
(3) يقول السراج فى شرح «المحدّث» التي وردت فى الحديث الشريف:
«قد كان فى الأمم محدثون ومكلمون فان يك في هذه الأمة فعمر» المحدّث أعلى درجة من درجات الصديقين، ودلائل ذلك ظهرت عليه حين صاح في خطبه: يا سارية الجبل، وكان سارية فى نهاوند فسمع صوت عمر وأخذ نحو الجبل وظفر بالعدو (اللمع ص 173) .(1/589)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان، ولهم أعين لا يبصرون بها شواهد التوحيد وعلامات اليقين فلا ينظرون إلا من حيث الغفلة، ولا يسمعون إلا دواعى الفتنة، ولا ينخرطون إلا مع سلك ركوب الشهوة.
«أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» : لأنّ الأنعام قد رفع عنها التكليف، وإن لم يكن لها وفاق الشرع فليس منها أيضا خلاف الأمر.
والأنعام لا يهمّها إلا الاعتلاف، وما تدعو الحيلة من مباشرة الجنس، فكذلك من أقيم بشواهد نفسه وكان من المربوطين بأحكام النّفس، وفى معناه أنشدوا:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والرّدى لك لازم
وسعيك فيها سوف تكره غبّه ... كذلك فى الدنيا تعيش البهائم
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
«1» سبحان من تعرّف إلى أوليائه بنعوته وأسمائه فعرّفهم أنه من هو، وبأى وصف هو، وما الواجب فى وصفه، وما الجائز فى نعته، وما الممتنع فى حقّه وحكمه فتجلى لقلوبهم بما يكاشفهم به من أسمائه وصفاته، فإن العقول محجوبة عن الهجوم بذواتها لما يصحّ إطلاقه فى وصفه، وإن كانت واقفة على الواجب والجائز والممتنع فى ذاته، فللعقل العرفان بالجملة، وبالشرع الإطلاق والبيان فى الإخبار، والقول فيما ورد به التوفيق يطلق، وما سكت عنه التوفيق يمنع. ويقال من كان الغالب عليه وصف من صفاته ذكره بما يقتضى هذا الوصف فمن كان مكاشفا بعطائه «2» ، مربوط القلب بأفضاله فالغالب على قالته الثناء عليه بأنه الوهاب والبار والمعطى وما جرى مجراه. ومن كان مجذوبا عن شهود الإنعام، مكاشفا بنعت الرحمة
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ زاد واوا قبل (ما كانوا) والصواب بدونها. [.....]
(2) وردت (بغطائه) بالغين والصواب ان تكون (بعطائه) بدليل (افضاله) و (الإنعام) فيما بعد فضلا عن الأسماء والصفات الإلهية المختارة (الوهاب والبار والمعطى) .(1/590)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
فالذى يغلب على ذكره وصفه بأنه الرحمن والرحيم والكريم وما فى معناه. ومن سمت همّته عن شهود وجوده، واستهلك فى حقائق وجوده فالغالب على لسانه الحق. ولذلك فأكثر أقوال العلماء فى الإخبار عنه: «البارئ» لأنهم فى الترقي فى شهود الفعل إلى شهود الفاعل.
وأمّا أهل المعرفة فالغالب على لسانهم «الحق» لأنهم «1» مختطفون عن شهود الآثار، متحققون بحقائق الوجود.
ويقال إنّ الله- سبحانه- وقف الخلق بأسمائه فهم يذكرونها قالة، وتعزّز بذاته، والعقول- وإن صفت- لا تهجم على حقائق الإشراف، إذ الإدراك لا يجوز على الحق فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عند التعرض للإحاطة، والمعارف تائهة عند قصد الإشراف على حقيقة الذات، والأبصار حسيرة عند طلب الإدراك فى أحوال الرؤية، والحق سبحانه عزيز، وباستحقاق نعوت التعالي متفرّد «2» .
قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» : الإلحاد هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين بالزيادة والنقصان فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بألا يخلى البسيطة من أهل لها هم الغياث وبهم دوام الحق فى الظهور، وفى معناه قالوا:
إذا لم يكن قطب ... فمن ذا يديرها؟
فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق، ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون
__________
(1) وردت (إليهم) ولا معنى لها فى السياق والصواب أن تكون (لأنهم) ،
(2) يلح القشيري على هذا المعنى دائما فيقول فى تحديد العرفان (تنزه عن الدرك والوصول، ليس بين لخلق إلا عرفان الحقائق بنعت التعالي فى شهود أفعاله، فاما الوقوف على حقيقة إنيته فجلت الصمدية عن شراف عرفان عليه) اللطائف (م) ص 398.
(3) (لا تمثيل ولا تعطيل) هذا أصل من أصول المذهب الكلامى عند هذا الإمام.(1/591)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
للحق بالحق، وهم قائمون بالحق يصرفهم الحق بالحق أولئك هم غياث الخلق بهم يسقون إذا قحطوا، ويمطرون إذا أجدبوا، ويجابون إذا دعوا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
الاستدراج أن يلقى فى أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفى الحقيقة: السابق لهم من القسمة حقائق الفرقة.
ويقال الاستدراج انتشار الصيت بالخير فى الخلق، والانطواء على الشر- فى السر- مع الحق.
ويقال الاستدراج ألا يزداد فى المستقبل صحبة إلا ازداد فى الاستحقاق نقصان رتبة.
ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقا فى حاله لكان معصوما فى أعماله.
ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معان مريضة.
ويقال الاستدراج إفاضة البرّ مع (....) «2» الشكر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 184]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
أو لم يتأملوا بأنوار البصائر ليشهدوا أخلاق آثار التقريب بجملة أحواله- عليه السّلام- ليعلموا أن ذلك الشاهد ليس بشاهد متخرص.
ويقال إن برود «3» الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- كانت بنسيم القربة
__________
(1) هذه نظرة القشيري الى الولاية والأولياء ومعنى القطب وأهميته.
(2) مشتبهة.
(3) جمع برد(1/592)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
معطرة «1» ، ولكن لا يدرك ذلك النّشر إلا بشمّ العرفان، فمن فقد ذلك- فأى خبر «2» له عن حقيقة حاله- صلوات الله عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 185]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
أطلع الله- سبحانه- أقمار الآيات، وأماط عن ضيائها سحاب الشبهات فمن استضاء بها ترقّى إلى شهود القدرة.
ويقال ألاح الله تعالى- لقلوب الناظرين بعيون الفكر- حقائق التحصيل فمن لم يعرّج فى أوطان التقصير أنزلته مراكب السّرّ بساحات التحقق.
قوله جل ذكره: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
الناس فى مغاليط آمالهم ناسون لو شيك آجالهم، فكم من ناسج لأكفانه! وكم من بان لأعدائه! وكم من زارع لم يحصد زرعه! هيهات! الكبش يعتلف والقصّاب مستعدّ له! ويقال سرعة الأجل تنغّص لذة الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 186]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
من حرمه أنوار التحقيق فهو فى ضباب الجهل، فهو يزلّ يمينا ويسقط شمالا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
__________
(1) وردت (مطرة) بدون عين، والسياق يتطلب (معطرة) لتناسب النسيم والشم والنشر
(2) وردت (خير) والمقصود فاى (خبر) أي فاى علم له عن حقيقة المصطفى (ص) .(1/593)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
السائل عن الساعة رجلان منكر يتعجّب لفرط جهله، وعارف مشتاق يستعجل لفرط شوقه، والمتحقق بوجوده ساكن فى حاله فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة.
ويقال الحق- سبحانه- استأثر بعلم الساعة فلم يطلع على وقتها نبيّا ولا صفيّا، فالإيمان بها غيبى، ويقين أهل التوحيد صادق «1» عن شوائب الرّيب. ثم معجّل قيامتهم يوجب الإيمان بمؤجّلها «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
أمره بتصريح الإقرار بالتبري عن حوله ومنّته، وأن قيامه وأمره ونظامه بطول ربّه ومنّته ولذلك تتجنّس علىّ الأحوال، وتختلف الأطوار فمن عسر «3» يمسّني، ومن يسر «4» يخصنى، ولو كان الأمر بمرادى، ولم يكن بيد غيرى قيادى لتشابهت أحوالى فى اليسر، ولتشاكلت أوقاتى فى البعد من العسر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 189]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
أخرج النّسمة من نفس واحدة وأخلاقهم مختلفة، وهممهم متباينة، كما أن الشخص من
__________
(1) ربما كانت (صاف) فى الأصل
(2) القيامة المعجلة التي يشير إليها هى (التي تقوم فى اليوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) اللطائف (م) 351، فالمقصود من العبارة إذا أن أهل الخصوص يؤمنون إيمان يقين بالقيامة المؤجلة لأنهم يشهدون ويذوقون القيامة المعجلة، وقد صدق القشيري إذ يقول فى رسالته: (فما للناس غيب فلهم ظهور) الرسالة ص 198.
(3) وردت (عصر) .
(4) وردت (يستر) وقد صوبناهما (عسر ويسر) فى ضوء ما قالاهما.(1/594)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاؤه مختلفة. فمن قدر على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها فهو القادر على تنويع أخلاق الخلق الذين أخرجهم من نفس واحدة.
قوله جل ذكره: لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
ردّ المثل إلى المثل، وربط الشّكل بالشكل، ليعلم العالمون أن سكون الخلق مع الحقّ لا إلى الحق، وكذلك أنسل الخلق من الخلق لا من الحق، فالحقّ تعالى قدوس منه كل حظ للخلق خلقا، منزه عن رجوع شىء إلى حقيقته حقا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 190]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
شرّ الناس من يبتهل إلى الله عند هجوم البلاء بخلوص الدعاء، وشدة التضرع والبكاء، فإذا أزيلت شكاته، ودفعت- بمنّته- آفاته ضيّع الوفاء، ونسى البلاء، وقابل الرّفد «1» بنقض العهد، وأبدل العقد برفض الود، أولئك الذين أبعدهم الله فى سابق الحكم، وخرطهم فى سلك أهل الرد «2» قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 191]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
كما لا يجوز أن يكون الربّ مخلوقا لا يجوز أن يكون غير الرب خالقا، فمن وصف الحقّ بخصائص وصف الخلق فقد ألحد، ومن نعت الخّلق بما هو من خصائص حق الحق فقد جحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 192]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
من حكم بأنه ليس فى مقدور الحق شىء (لو فعله اسم الجاهل طوعا إلا فعله «3» فقد
__________
(1) (الرفد) هو العطاء. [.....]
(2) وردت (الود) وهى خطأ في النسخ.
(3) ما بين القوسين جاء فى النسخة المصورة هكذا، وفيه غموض ربما نشأ عن خطا فى النسخ.(1/595)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
وصف بأنه لا يقدر على نصره فمضاه الذي يعبد الجماد، ونعوذ بالله من الضلالة عن الرشاد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 193]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
المعبود هو القادر على هداية داعيه، وعلم العبد بقدرة معبوده يوجب تبرّيه عن حوله وقوته، وإفراد الحق- سبحانه- بالقدرة على قضاء حاجته، وإزالة ضرورته فتتقاصر عن قصد الخلق خطاه «1» ، وتنقطع آماله عن غير مولاه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 194]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)
إذا قرنت الضرورة بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء فالمخلوق إذا استعان بمخلوق مثله ازداد بعد مراده عن النّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية؟! هيهات! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 195]
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
بيّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضا فكيف استجازوا عبادة ما فاقهم «2» فى النقص؟
قوله جل ذكره: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.
__________
(1) وردت (خطاؤه) والصواب أن تكون (خطاه)
(2) وردت (فوقهم) والأرجح أنها ما (فاقهم) فى النقص لأن الأصنام أقلّ قدرا من الإنسان، حيث لا تملك يدا او عينا أو أذنا، ولا تعى ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فإذا كان الإنسان مع ذلك موصوفا بالنقص فالصنم أشد نقصا.(1/596)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا ... والمتفرّد بالقدرة- على النفع والضرر، والخير والشر- الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 197]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
من قام بحقّ الله تولّى أموره على وجه الكفاية، فلا يخرجه إلى أمثاله، ولا يدع شيئا من أحواله إلّا أجراه على ما يريده بحسن أفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيا بما يفعل، وروح الرضا على الأسرار أتمّ من راحة العطاء على القلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 198]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
شاهدوه بأبصارهم لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم فلم يعتدّ برؤيتهم.
ويقال رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب، وذلك على مقادير الاحترام وحصول الإيمان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
من خصائص سنّة الله فى الكرم أنه أمر نبيّه- صلوات الله عليه وعلى آله- بالأخذ به، إذ الخبر ورد بأنّ المؤمن أخذ من الله خلقا حسنا. وكلما كان الجرم أكبر كان العفو عنه أجلّ وأكمل، وعلى قدر عظم رتبة العبد فى الكرم يتوقف العفو(1/597)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
عن الأصاغر والخدم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فى الجراحات «1» التي أصابته فى حرب أحد:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .
قوله «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» : أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول- صلّى الله عليه وعلى آله- الناس.
قوله: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» : الإعراض عن الأغيار بالإقبال على من «2» لم يزل ولا يزال، وفى ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 200]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
إن سنح فى باطنك من الوساوس أثر فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق، وإن هجس فى صدرك من الحظوظ خاطر فاستعذ بالله يدركك بإزالة كل نصيب، وإن لحقتك فى بذل الجهد فترة فاستعذ بالله يدركك بإدامة آلائه، وإن اعترتك فى الترقي إلى محل الوصول وقفة فاستعذ بالله يدركك بإدامة التحقيق، وإن تقاصر عنك شىء من خصائص القرب- صيانة لك عن شهود المحل- فاستعذ بالله يثبتك له بدلا من لك بك «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 201]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
إنما يمس المتقين طيف الشيطان فى ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا
__________
(1) وردت (الجراهات) بالهاء وهى خطأ في النسخ.
(2) وردت (ما لم يزل) وقد آثرنا (من لم يزل) لأن (من) للعاقل
(3) تصلح هذه الفقرة وصية المريدين، وتبين عن أسلوب القشيري فى الوصية من الناحيتين الصوفية والأدبية.(1/598)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
ذكر الله بقلوبهم لما مسّهم طائف الشيطان، فإن الشيطان لا يقرب قلبا فى حال شهوده الله لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارم نبوة، ولكلّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارف حجبة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليغان على قلبى....» «1» أخبر أنه يعتريه ما يعترى غيره، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحدّة تعترى خيار أمتى» «2» ، فأخبر أنّ خيار الأمة- وإن جلت رتبتهم لا يتخلصون عن حدّة تعتريهم فى بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 202]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
إخوان الشيطان أرباب دوام الغيبة فهم فى كمال الغفلة تدوم بهم الحجبة فمنهم بالزّلّة من لم يلم، أو ألمّ ولكن لم يصرّ فهم خياره «3» ، ومنهم من غفل واغترّ، وعلى دوام الغيبة أصرّ- فهم المحجوبون قطعا، والمبعدون «4» - عن محلّ القرب- صدّا «5» وردّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
__________
(1) «إنه ليغان على قلبى فاستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم مائة مرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وفى رواية لمسلم: «توبوا الى ربكم فو الله إنى لأتوب إلى ربى تبارك وتعالى فى اليوم مائة مرة» ويقول صاحب اللمع: الغين الذي كان يتوب منه الرسول مثله مثل المرآة إذا تنفس فيها الناظر فينقص من ضوئها ثم تعود إلى حالة ضوئها (اللمع ص 451)
(2) قال (ص) (انى بشر أغضب كما يغضب البشر) الشيخان عن أبى هريرة وأحمد ومسلم عن جابر
(3) من هذا يتضح مدى انفساح الأمل أمام العصاة، وكيف أن باب التوبة يتسع لآمالهم.
(4) وردت المعبودون وهى خطأ فى النسخ.
(5) وردت (صمد) وهى خطأ فى النسخ وقد تقدم معنى الصد والرد(1/599)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
من شاهد الحقّ من حيث الخلق سقط فى مهواة المغاليط، فهو فى متاهات الشّكّ يجوب منازل الرّيب، ولا يزداد إلا عمىّ على عمى. ومن طالع الخلق بعين تصريف القدرة إياهم تحقق بأنهم لا يظهرون إلا فى معرض اختيار الحق لهم، فهو ينظر بنور البصيرة، ويستديم شهود التصريف بوصف السكينة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
استمعوا بسمع الإيمان والتصديق، وأنصتوا (بصون) الخواطر عن معارضات الاعتراض، ومطالبات الاستكشاف. ومن باشر التحقيق سرّه لازم التصديق قلبه.
والإنصات- فى الظاهر- من آداب أهل الباب، والإنصات- بالسرائر- من آداب أهل البساط، قال الله تعالى فى نعت تواصى الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول صلّى الله عليه وسلّم «فلما حضروه قالوا أنصتوا» «1» فإذا كان الحضور إلى الواسطة عليه السّلام يوجب هذه الهيبة فلزوم الهيبة وحفظ الأدب عند حضور القلب بشهود الربّ أولى وأحق، قال تعالى: «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 205]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)
«3» التضرع إذا كوشف العبد بوصف الجمال فى أوان البسط، والخيفة إذا كوشف بنعت الجلال فى أحوال الهيبة، وهذا للأكابر.
__________
(1) آية 29 سورة الأحقاف.
(2) آية 108 سورة طه. [.....]
(3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (الغافلون) .(1/600)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
فأمّا من دونهم فتنوّع أحوالهم من حيث الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. ومن فوق الجميع فأصحاب البقاء والفناء، والصحو والمحو ووراءهم أرباب الحقائق مثبتون فى أوطان التمكين، فلا تلوّن لهم ولا تجنّس لقيامهم بالحق، وامتحائهم عن شواهدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 206]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية لئلا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم «1» ، وهذه سنّة الله تعالى مع خواص عباده يلقاهم بخصائص عين الجمع ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة «2» .
السورة التي تذكر فيها الأنفال
قال الله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله إخبار عن قدرته على الإبداع والاختراع، الرحمن الرحيم إخبار عن تصرفه بالإقناع وحسن الدّفاع فبقدرته أوجد ما أوجد من مراده، وبنصرته وحّد من وحّد قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين، وكان سؤالهم عن حكمها، فقال الله تعالى: قل لهم إنها لله ملكا، ولرسوله- عليه السّلام- الحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا.
__________
(1) وردت فوقهم بالواو والصواب (فرقهم) بالراء، فالكلام عن الجمع والفرق.
(2) لاحظ هنا كيف يلح القشيري دائما على عدم الإخلال باى شرط من شروط الشريعة مهما أوغل العبد فى الفناء، بل يعتبر حفظ الله لعبده في هذه المرحلة الحاسمة علامة صدق العبد وآية خصوصيته.(1/601)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
قوله جل ذكره: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ.
أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دواعى مناكم والحكم بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس، وأصلحوا ذات بينكم، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس، وإيثار حقّ الغير على ما لكم من النصيب والحظّ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد.
قوله جل ذكره: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ:
أي فى الإجابة إلى ما يأتيكم من الإرشاد.
قوله جل ذكره: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي سبيل المؤمن ألا يخالف هذه الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 2]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
الوجل شدّة الخوف، ومعناه هاهنا أن يخرجهم الوجل عن أوطان الغفلة، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أودية التفرقة وفاءوا إلى مشاهد الذكر نالوا السكون إلى الله- عز وجل فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق، وتحقيقا على تحقيق.
فإذا طالعوا جلال قدره، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه، توكلوا عليه فى إمدادهم بالرعاية فى نهايتهم، كما استخلصهم بالعناية فى بدايتهم.
ويقال سنّة الحقّ- سبحانه- مع أهل العرفان أن يردّدهم بين كشف جلال ولطف جمال، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم، (وإذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم، قال الله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بذكر الله» . ويقال وجلت قلوبهم) «1» بخوف فراقه، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروح وصاله. وذكر الفراق يفنيهم وذكر الوصال يصحيهم ويحييهم.
__________
(1) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.(1/602)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
ويقال الطالبون فى نوح رهبتهم، والواصلون فى روح قربتهم، والموحّدون فى محو غيبتهم استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقت مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع، ولا لهم إحساس فتملكهم لذة إذ لمّا «1» اصطلموا ببواده ما ملكهم فهم عنهم محو، والغالب عليهم سواهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 3 الى 4]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
لا يرضون فى أعمالهم بإخلال، ولا يتصفون بجمع مال من غير حلال، ولا يعرّجون فى أوطان التقصير بحال، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل.
ف «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي حققوا حقا وصدقوا صدقا. ويقال حق لهم ذلك حقا.
قوله: «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» على حسب ما أهّلهم له من الرّتب فبسابق قسمته لهم استوجبوها، ثم بصادق خدمتهم- حين وفّقهم لها- بلغوها.
ولهم مغفرة فى المآل، والسّتر فى الحال لأكابرهم فالمغفرة الستر، والحق سبحانه يستر مثالب العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم، وفرق بين ستر وستر، وشتّان ما هما! وأمّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يحتسب، ويحتمل أنه الذي لا ينقص بإجرامهم، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 5]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) .
__________
(1) وردت (لم) والسياق يقتضى (لما) .(1/603)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
بيّن- سبحانه- أن الجدال منهم عادة وسجيّة، ففى كل شىء لهم جدال واختيار فكرهوا خروجه إلى بدر، كما جادلوا فى حديث الغنيمة، قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» .
وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقرب إلى الصفح عنه والتجاوز، فأمّا إذا صار ذلك عادة فهو أصعب.
ويقال ما لم تباشر خلاصة الإيمان القلب لا يوجد كمال التسليم وترك الاختيار، ومادام يتحرك من العبد عرق فى الاختيار فهو بعيد عن راحة الإيمان.
ولقد أجرى الله سنّته مع أوليائه، وكذلك كانت سنّته مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمال النّعمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان، والتجرد عن مساكنة ما فيه «1» حظ ونصيب من كل معهود ويقال إن فى هجرة الأنبياء- عليهم السّلام- عن أوطانهم أمانا لهم من عادية الأعادى، وإحياء لقلوب قوم تقاصرت أقدامهم عن المسير «2» إليهم.
وكذلك هجرة الأولياء من خواصه فيها لهم خلاص من البلايا، واستخلاص للكثيرين من البلايا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 6]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
جحود الحقّ بعد وضوح برهانه علم «3» لاستكبار صاحبه، وهو- فى الحال- فى وحشة غيّه، معاقب بالصّد وتنغّص العيش، يملّ حياته ويتمنى وفاته «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 7]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)
__________
(1) وردت (ما لم فيه) وربما كانت (ما لهم فيه)
(2) وردت (المصير) والصحيح (مسير) الذين لم تتح لهم فرصة الانتقال إلى أماكن الأنبياء.
(3) ضبطنا (علم) هكذا لكى تؤدى معنى (علامة) على الاستكبار، فهكذا يتطلب السياق.(1/604)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
التعريج فى أوطان الكسل، ومساكنة مألوفات الراحة من خصائص أحكام النّفس.
فهى بطبعها تؤثر فى كل حال نصيبها، وتتمجل لذّة حظّها. ولا يصل أحد إلى جلائل النّعم إلا بتجرّع كاسات الشدائد، والانسلاخ عن معهودات النصيب. «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إذا أراد الله- سبحانه- تخصيص عبد بولايته قضى على طوارق نفسه بالأفول، وحكم لبعض شهواته بالذبول، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها، ولجوامع الموانع باستحقاقها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 8]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
ليحق الحقّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود، والتحقيق لما يظهر من عين الجود.
ويقال ليحقّ الحقّ بنشر أعلام الوصل، ويبطل الباطل بقهر أقسام الهزل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة، والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسير للمسئول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتعجّل الإجابة حصلت الآمال وقضيت الحاجة.. بذلك جرت سنّته الكريمة.
ويقال بشّرهم بالإمداد بالملك، ثم رقّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من الملك، ولم يذرهم فى المساكنة إلى الإمداد بالملك فقال: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ثم قال:
«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» فالنجاة من البلاء حاصلة، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة، والدعوات مسموعة، والإجابة غير ممنوعة، وزوائد الإحسان متاحة، ولكن الله عزير(1/605)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
الطالب واجد ولكن بعطائه، والراغب واصل ولكن إلى مبارّه. والسبيل سهل ولكن إلى وجدان لطفه، فأمّا الحقّ فهو عزيز وراء كل وصل وفصل، وقرب وبعد، وما وصل أحد إلا إلى نصيبه، وما بقي أحد إلا عن حظه، وفى معناه أنشدوا:
وقلن لنا نحن الأهلّة إنما ... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى
فلا بذل إلا ما تزوّد ناظر ... ولا وصل إلا بالجمال الذي يسرى
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 11]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)
غشيهم النّعاس تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم «1» ونفوسهم كدّ الأغيار والكلال، وأنزل على قلوبهم روح الأمن، وأمطرت السماء فاغتسلوا بعد ما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام فى رملها، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناء بسلوك رملها وبالانتفاء عن الغسل، فلمّا (....) «2» الإحساس، واستمكن منهم النّعاس، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قبل الله لا بسكونهم وحركتهم، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية وكما طهّر ظواهرهم بماء السماء طهّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلّ غير وكلّ غير وكلّ علّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجرى الحقّ من فنون التصريف.
قوله جل ذكره: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
__________
(1) وردت (زواهرهم) والصواب أن تكون (ظواهرهم) لتتلاءم مع (نفوسهم)
(2) مشتبهة وربما كانت (زايلهم)(1/606)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
أقدام الظاهر فى مشاهد القتال، وأقدام السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجارى التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 13]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)
«1» عرّفنا أنّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد وتثبيت الملائكة للمؤمنين: قيل كانوا يظهرون للمسلمين فى صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة.
وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون فى قلوبهم ذلك من جهة الخواطر، ثم إن الله يخلق لهم فيها ذلك، فكما يوصّل الحق سبحانه- وساوس الشيطان إلى القلوب يوصل خواطر الملك، وأيّدهم بإلقاء الخوف والرعب فى قلوب الكفار.
قوله جل ذكره: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وذلك بأمر الله وتعريفه من جهة الوحى والكتاب، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم. ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضربا يوجب قتلهم لأنه لا حياة بعد ضرب العنق، ولفظ فوق يكون صلة.
«وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» أي ضربا يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف.
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
بيّن أنهم فى مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم.
والمنشئ- بكلّ وجه- الله لانفراده بقدرة الإيجاد
__________
(1) أخطا الناسخ فكتبها (فثبت) .(1/607)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قوله جل ذكره: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
يمهل المجرم «1» أياما ثم لا يهمله، بل يذيقه بأس فعله، ويزيل عنه شبهة ظنّه قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 14]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
«2» ذلكم العذاب فذوقوه- أيها المشركون- معجّلا، واعلموا أن للكافرين عذابا مؤجّلا، فللعاصين عقوبتان محصّل بنقد ومؤخّر بوعد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
«3» يقول إذا لقيتم الكفار فى المعركة زحفا مجتمعين فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفى الجهاد مع العدو، فالواجب الثبات عند الصولة- هذا فى الظاهر، وفى الباطن جهاد مع الشيطان، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزّلة فمن وقف على حدّ الإمساك عن إجابته، بلا إنجاز لما يدعوه بوساوسه فقد وفّى الجهاد حقّه.
وكذلك فى مجاهدة النّفس، فإذا وقف العبد عن إجابة النّفس فيما تدعوه بهواجسها،
__________
(1) وردت (المحرم) بالحاء وهى خطأ فى النسخ.
(2) أخطأ الناسخ إذ جعلها (عذابا أليما) .
(3) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها [.....](1/608)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
ولم يطع «1» شهوته فيما تحمله النفس عليه من البلاء إلى ابتغاء حظّه فقد وفّى الجهاد حقّه.
والإشارة فى قوله: «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بإيثار بعض الرّخص ليتقوّى على ما هو أشد كأكله مثلا ما يقيم صلبه ليقوى على السّهر، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش، أو نفى مقاساة جوع أو برد أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه، ولاستدامة اتصال قلبه به، فإن ترك بعض أوراد الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة فى أحكام واردات السرائر أخذ فى حقّ الجهاد بحزم.
والإشارة فى قوله: «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه فى المجاهدة، ويبقى شهود ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته. ثم باستمداده من همم الشيوخ فإن المريد ربيب همّة شيخه، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم يجبرون «2» كسرهم، ويتوبون منهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم. ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه فقد باء من الله بسخط، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 17]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
الذي نفى عنهم من القتل هو إماتة الروح وإثبات الموت، وهو من خصائص قدرته- سبحانه، والذي يوصف به الخلق من القتل هو ما يفعلونه فى أنفسهم، ويحصل ذهاب الروح عقيبه.
وفائدة الآية قطع دعاواهم فى قول كل واحد على جهة التفاخر قتلت فلانا، فقال:
«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ» أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ «3» هو الله عزّ وجل. وصانهم بهذه الآية وصان نبيّه- عليه السّلام- عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم.
__________
(1) وردت (لم يطلع) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (يخبرون) والمناسب للكسر (يجبرون) .
(3) وردت (المهدى) بالهاء وقد جعلناها (المبدى) لأن الكلام متجه إلى الإنشاء والإيجاد والإبداع والخلق.(1/609)
وكذلك قال جل ذكره: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
أي ما رميت بنفسك ولكنك رميت بنا، فكان منه (صلوات الله عليه) «1» قبض التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب، وكسبه موجد من الله بقدرته، وكان التبليغ والإصابة من قبل الله خلقا وإبداعا، وليس الذي أثبت ما نفى ولا نفى ما أثبت إلا هو، والفعل فعل واحد ولكن التغاير فى جهة الفعل لا فى عينه.
فقوله: «إِذْ رَمَيْتَ» فرق، وقوله: «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» جمع. والفرق صفة العبودية، والجمع نعت الربوبية، وكلّ فرق لم يكن مضمّنا بجمع وكلّ جمع لم يكن- فى صفة العبد- مؤيّدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة.
وإن الحقّ- سبحانه- يكل الأغيار إلى ظنونهم، فيتيهون فى أودية الحسبان، ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم، وذلك منه مكر بهم.
قال الله تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «2» وأما أرباب التوحيد فيشهدهم مطالع التقدير، ويعرّفهم جريان الحكم، ويريهم أنفسهم فى أسر التصريف، وقهر الحكم.
وأمّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيجرى عليهم ما يجرى و (ما) «3» لهم إحساس بذلك، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير، ويتولّى حفظهم عن مخالفة الشرع.
قوله جل ذكره: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً.
البلاء الاختبار «4» ، فيختبرهم مرة «5» بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم، أو ذكرهم أو نسيانهم.
__________
(1) أضفنا (صلوات الله عليه) ليتضح اتجاه المعنى.
(2) آية 104 سورة الكهف.
(3) سقطت (ما) من الناسخ والمعنى يتطلبها إذ هم لا إحساس لهم بما يجرى عليهم من حكم وتصريف.
(4) وردت (الاختيار) بالياء وهى خطأ فى النسخ.
(5) وردت (مر) بدون تاء مربوطة والصواب أن تكون بها.(1/610)
«البلاء الحسن» : توفيق الشكر فى المنحة، وتحقيق الصبر فى المحنة، وكل ما يفعله الحقّ فهو حسن من الحقّ لأنّ له أن يفعله. وهذه حقيقة الحسن: وهو ما للفاعل أن يفعله «1» ويقال حسن البلاء لأنه منه و ( ... ) «2» البلاء لأنه فيه.
ويقال البلاء الحسن أن تشهد المبلى فى عين البلاء.
ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إن كان نعمة، ولا شكوى إن كان محنة.
ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إن كان عسرا، ولا بطر إن كان يسرا.
ويقال بلاء كلّ أحد على حسب حاله ومقامه فأصفاهم ولاء أوفاهم بلاء، قال عليه السّلام:
«أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «3» قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
تنفيس لقوم وتهديد لقوم أصحاب الرّفق يقول لهم إن الله «سَمِيعٌ» لأنينكم فيروّح عليهم بهذا وقتهم، ويحمل عنهم ولاءهم «4» ، وأنشدوا:
إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك فتسمعا
وقالوا:
قل لى بألسنة التّنفس ... كيف أنت وكيف حالك؟
وأمّا الأكابر فلا يؤذن لهم فى التّنفّس، وتكون المطالبة متوجّهة عليهم بالصبر، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهار ولا شكوى، فيقول: لو ترشح منك ما كلّفت بشربه توجّهت عليك الملامة، فإن لم يكن منك بيان فإنّى سميع لقالتك، عليم بحالتك.
__________
(1) لاحظ الفرق بين (وهو ما للفاعل أن يفعله) في مسألة الحسن فقد جعل فعل الحسن حقا لله وبين (عليه أن يفعله) عند المعتزلة إذ جعلوه واجبا عليه.
(2) مشتبهة.
(3) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، وابن ماجه، والحاكم عن سعد بن أبى وقاص. والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي من حديث عاصم. والطبراني من حديث فاطمة.
(4) ربما كانت فى الأصل (بلاءهم) فذلك يناسب التنفيس والترويح والرفق.(1/611)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
ويقال فى قوله «عَلِيمٌ» تسلية لأرباب البلاء لأنّ من علم أنّ مقصودة يعلم حاله سهل عليه ما يقاسيه فيه، قال- سبحانه- لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 18]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)
موهن كيدهم: بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين، والثبات على انتظار الفضل من قبل الله، وموهن كيدهم: بأن يأخذ الكافرين من حيث لا يشعرون، ويظفر جند المسلمين عليهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قال المشركون- يوم بدر- اللهم انصر أحبّ الفئتين إليك، فاستجاب دعاءهم ونصر أحبّ الفئتين إليه. وهم المسلمون، فسألوا بألسنتهم هلاك أنفسهم، وذلك لانجرارهم فى مغاليط ما يعلّقون من ظنونهم، فهم توهّموا استحقاق القربة، وكانوا فى عين الفرقة وحكم الشّقوة، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم، والوقوع فى شقائهم فباختيارهم منوا ببوارهم.
ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فزلّوا، فلما كشف الستر خابوا وذلّوا، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا فى ظنهم وضلوا.
قوله جل ذكره: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» .
فيغفر لكم ما قد سلف من خلاف محمد صلّى الله عليه وسلّم.
«فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» ليس المراد منه المبالغة لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس فيه شر، وترك موافقتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم- بكل وجه- هو شرّ لهم، ولكنه أراد به فى الأحوال الدنيوية، وعلى موجب ظنّهم.
__________
(1) آية 97 سورة الحجر.
(2) أخطا الناسخ فى كتابة الآية إذ جاءت هكذا و «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ» . [.....](1/612)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
قوله جل ذكره: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ.
يعنى إن عدتم إلى الجميل من السيرة عدنا عليكم بجميل المنّة، وإن عاودتم الإقدام على الشّرّ أعدنا عليكم ما أذقناكم من الضّرّ.
قوله جل ذكره: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
من غلبته قدرة الأحد لم تغن عنه كثرة العدد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
الناس فى طاعة الله على أقسام: فمطيع لخوف عقوبته، ومطيع طمعا فى مثوبته، وآخر تحققا بعبوديته، وآخر تشرفا بربوبيته.
وكم بين مطيع ومطيع! وأنشدوا:
أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامنى فيك السّها والفراقد
وذاك لأنّ الفضل عندك زاخر ... وذاك لأنّ العيش عندك بارد
قال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ولم يقل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفى ذلك نوع تخصيص، وحزب تفضيل يلطف عن العبارة ويبعد عن الإشارة «1» قوله جل ذكره: وَلا «2» تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ.
أي تسمعون دعاءه إياكم، وتسمعون ما أنزل عليه من دعائى إياكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 21]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
لا تكونوا ممن يشهد جهرا، ويجحد سرّا.
__________
(1) هذا من المواضع التي يشعر فيها القارئ أن القشيري يريد أن يقول شيئا ولكنه يتركه لفطنة القارئ يستشف ما وراء السطور.
(2) أخطأ الناسخ فكتبها (ولو تولوا) .(1/613)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
ويقال لا تقرّوا بلسانكم، وتصرّوا على كفرانكم.
ويقال من نطق بتلبيسه تشهد الخبرة بتكذيبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 22]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)
دواعى الحق بحسن البيان ناطقة، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة، وخواطر الغيب بكشف ظلم الريب مفصحة، وزواجر التحقيق عن متابعة التموية للقلوب ملازمة.
فمن صمّ عن إدراك ما خوطب به سرّه، وعمى عن شهود ما كوشف به قلبه، وخرس- عن إجابة ما أرشد إليه من حجة- فهمه وعقله فدون رتبة البهائم قدره، وفوق كل (....) «1» من حكم الله ذلّه وصغره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 23]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
من أقصته سوابق القسمة لم تدنه لواحق الخدمة، ومن علمه الله بنعت الشّقوة حرمه ما يوجب عفوه.
ويقال لو كانوا فى متناولات الرحمة لألبسهم صدار العصمة، ولكن سبق بالحرمان حكمهم، فختم بالضلالة أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
أجاب واستجاب بمعنىّ مثل أوقد واستوقد، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية «2» بأنها تكون طوعا لا كرها، وفرق بين من يجيب لخوف أو طمع وبين من يستجيب لا بعوض ولا على ملاحظة غرض. وحقّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أن تذر من المستطاع بقية.
__________
(1) مشتبهة.
(2) لاحظ كيف يتفق مذهب القشيري فى المصطلح مع القاعدة اللغوية: زيادة المبنى فيها زيادة المعنى.(1/614)
والمستجيب لربه محو عن كلّه باستيلاء الحقيقة، والمستجيب للرسول- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- قائم بشريعته من غير إخلال بشىء من أحكامها. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستجابة له- سبحانه، وبالاستجابة للرسول فالعبد المستجيب- على الحقيقة- من قام بالله سرّا، واتصف بالشرع جهرا، فيفرده الحقّ- سبحانه- بحقائق الجمع و (....) «1» فى مشاهدة الفرق، فلا يكون للحدثان فى مشرب حقائقه تكدير، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير.
قوله جل ذكره: لِما يُحْيِيكُمْ.
إذ لمّا أفناهم عنهم أحياهم به.
ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته، وأما العالمون فأحياهم بدلائل ربوبيته، بعد ما أفناهم عن الجهل وظلمته. وأمّا المؤمنون فأحياهم بنور موافقته بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمّا الموحّدون فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير، والملاحظة لكل حدثان.
قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
يصون القلوب عن تقليب أربابها فيقلّبها كما يشاء هو، من بيان هداية وضلال، وغيبة ووصال، وحجبة وقربة، ويقين ومرية، وأنس ووحشة.
ويقال صان قلوب العبّاد عن الجنوح إلى الكسل، فجدّوا فى معاملاتهم، وصان قلوب المريدين عن التعريج فى أوطان الفشل فصدقوا فى منازلاتهم، وصان قلوب العارفين- على حدّ الاستقامة- عن الميل فتحققوا بدوام مواصلاتهم.
ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلى الأغيار سبيل، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدى إلى شىء إلا إلى ربّه! كما قيل:
__________
(1) مشتبهة، ولكن حسبما نعلم فى مواضع سبقت أن المقصود أن الحق (يتولى) العبد أثناء الفرق الثاني. حيث يعود بالعبد المأخوذ ليقوم بفرائض الشرع، حتى لا يكون فى تحققه مقصرا في شىء من مطالبات الشريعة، ولذا نرجح أن الكلمة الناقصة هى: (ولا يتركه) أو ما فى معناها.(1/615)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
لا يهتدى قلبى إلى غيركم ... لأنه سدّ عليه الطريق
ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم، قال تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» .
والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 25]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)
احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطها.
وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب، ولكن قد ينفرد أحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال بل إنها تصيب أيضا ظالما فى المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه، ورضاه به، وهذا معنى التفسير من حيث الظاهر. فأمّا من جهة الإشارة: فإن العبد إذا باشر رلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهى العقوبة المعجلة، وتصيب النّفس منها العقوبة المؤجلة، والقلب إذا حصلت منه فتنة الزلة- عند ما يهم بما لا يجوز- تعدّت فتنته إلى السّر وهى الحجبة.
والمقدّم فى شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى متّبعيه وتلامذته، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعلموا ذنبا. ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تركهم الأذكار أصابتهم فتنة ما فعلوه فلقد قيل إنّ السفيه «1» إذا لم ينه مأمور. فعلى هذا تصيب فتنة الزّلة مرتكبها ومن ترك النّهى عن المنكر- مثل من ترك الأمر بالمعروف- يؤخذ بجرمه. «2»
__________
(1) وردت (السفينة) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت هذه العبارة حافلة بالكثير من الأخطاء التي سببت فى غموض المعنى فقومناها حسبما يقتضى السياق- دون أن يكون اقتحامنا خطيرا على النص.(1/616)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
ويقال إنّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع فى أخذ الزيادة من الدنيا مما فوق الكفاية- وإن كان من وجه حلال- تؤدى فتنته إلى من يخرج به من المبتدئين، فبجملة ما أبدى من الرغبة فى الدنيا، وترك التقلل يؤدى إلى الانهماك فى أودية الغفلة والأشغال الدنيوية.
والعابد إذا جنح عن الأشقّ وترك الأولى «1» تعدّى ذلك إلى من كان ينشط فى المجاهدة فيستوطنون الكسل، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة.
والعارف إذا رجع إلى ما فيه حظ له، نظر إليه المريد، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف.
وفى الجملة إذا غفل الملك، وتشاغل عن سياسة رعيته تعطّل الجند والرعية، وعظم فيهم الخلل والبليّة، وفى معناه أنشدوا:
رعاتك ضيّعوا- بالجهل منهم- ... غنيمات فساستها ذئاب
و «اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بتعجيله ذلك، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبدا ليعاقبه لا يمكّنه من تلافى موجب تلك العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 26]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
يذكرهم ما كانوا فيه من القلّة والذّلة وصنوف ( ... ) «2» ثم ما نقلهم إليه من الإمكان والبسطة، ووجوه الأمان والحيطة، وقرّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القسم،
__________
(1) وردت (الأولاد) وهى خطأ فى النسخ، والجنوح عن الأشق وترك الأولى تعبيران مألوفان عند ما يتحدث القشيري عن إيثار الصوفي للرخص.
(2) مشتبهة وربما كانت (الحطّة) أي نقصان المنزلة، فإنها قريبة للسياق، ومنسجمة مع الموسيقى اللفظية.(1/617)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
وإدامة الحمد على جميل تلك النّعم، فمهّد لهم فى ظل أبوابه مقيلا، ولم يجعل للعدوّ إليهم- بيمن رعايته- سبيلا.
قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
رزق الأشباح والظواهر من طيبات الغذاء، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
الخيانة الاستبطان بخلاف ما يؤمّل منك بحق التعويل، فخيانة الله بتضييع ما ائتمنك عليه، وذلك بمخالفة النّصح فى دينه، وخيانة الرسول بالاتصاف بمخالفة ما تبدى من مشايعته.
والخيانة فى الأمانات بترك الإنصاف، والاتصاف بغير الصدق.
وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة، فمن اؤتمن فى مال فتصرّف فيه بغير إذن صاحبه- خيانة، ومن اؤتمن على الحرم فملاحظته إياهن- خيانة. فعلى هذا:
الخيانة فى الأعمال الدعوى فيها بأنها من قبلك دون التحقيق بأنّ منشئها الله.
والخيانة فى الأحوال ملاحظتك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك فى شهود الحق، إن لم يكن استهلاكك فى وجود الحق. وإذا أخللت بسنّة من السّنن أو أدب من آداب الشّرع فتلك خيانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والخيانة فى الأمانات- بينك وبين الخلق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلا عن المعاملة بالفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 28]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)(1/618)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
أموالكم وأولادكم سبب فتنتكم لأن المرء- لأجل جمع ماله ولأجل أولاده- يرتكب ما هو خلاف الأمر، فيورثه فتنة العقوبة.
ويقال الفتنة الاختبار فيختبرك بالأموال.. هل تؤثرها على حقّ الله؟
وبالأولاد.. هل تترك لأجلهم ما فيه رضاء الله؟
فإن آثرتم حقّه على حقّكم ظهرت به فضيلتكم، وإن اتصفتم بضدّه عوملتم بما يوجبه العكس من محبوبكم.
ويقال المال فتنة إذا كان عن الله يشغلكم، والأولاد فتنة إذا لأجلهم قصّرتم فى حقّ الله أو فرّطتم.
ويقال المال- ما للكفاف والعفاف «1» - نعمة، وما للتقاصر والتفاخر فتنة، وفى الجملة ما يشغلك عن الله فهو فتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
«2» الفرقان ما به يفرق بين الحق والباطل من علم وافر وإلهام قاهر، فالعلماء فرقانهم مجلوب برهانهم، والعارفون فرقانهم موهوب «3» عرفانهم فأولئك مع مجهود أنفسهم، وهؤلاء بمقتضى جود ربّهم.
العرفان تعريف من الله، والتكفير «4» تخفيف من الله، والغفران تشريف للعبد من الله.
__________
(1) وردت (والعقاب) وهى خطا من الناسخ إذ لا تؤدى المراد، ونظن أن (العفاف) تنسجم مع السياق، ومع التركيب الداخلى للأسلوب.
(2) أخطأ الناسخ إذ جعل خاتمة الآية (والله سميع عليم) .
(3) وردت (موهوم) وهى خطأ من الناسخ، والصواب أن تكون (موهوب) فهكذا يتطلب السياق.
(4) (التكفير) هنا تشير الى ما ورد فى الآية: «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» .(1/619)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
ذكره عظيم منّته عليه حيث خلّصه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وهمّوا بقتله، وحاولوا أن يمكروا به فى السّر، فأعلمه الله ذلك.
والمكر إظهار الإحسان مع قصد الإساءة فى السّر، والمكر من الله الجزاء على المكر، ويكون المكر بهم أن يلقى فى قلوبهم أنه محسن إليهم ثم- فى التحقيق- يعذّبهم، وإذا شغل قوما بالدنيا صرف همومهم إليها حتى ينسوا أمر الآخرة، وذلك مكر بهم، إذ يوطّنون نفوسهم عليها، فيتيح لهم من مأمنهم سوءا، ويأخذهم بغتة.
ومن جملة مكره اغترار قوم بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس، وإجراء كثير من الطاعات عليهم، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطة، وهم عن الله غافلون، وعند الناس أنهم مكرمون، وفى معناه قيل:
وقد حسدونى فى قرب دارى منكم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 31]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
فرط جهلهم، وشؤم جحدهم ستر على عقولهم قبح دعاويهم فى القدرة على معارضة القرآن فافتضحوا عند الامتحان بعدم البرهان، والعجز عما وصفوا به أنفسهم من الفصاحة والبيان، وقديما قيل:
من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان «1» ما يدّعيه
__________
(1) وردت (الامتهان) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء. [.....](1/620)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
ويقال لمّا لاحظوا القرآن بعين الاستصغار حرموا بركات الفهم فعدوه من جملة أساطير الأولين، وكذلك من لا يراعى حرمة الأولياء، يعاقب بأن تستر عليه أحوالهم، فيظنهم مثله فى استحقاق مثالبه، فيطلق فيهم لسان الوقيعة، وهو بذلك أحقّ، كما قيل:
«رمتني بدائها وانسلّت» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 32]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)
دلّ سؤالهم العذاب على تصميم عقدهم على تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واستيقنوا عند أنفسهم بأنه لا يستجاب فيهم ما يدعونه على أنفسهم.
وفى هذا أظهر دليل على أن سكون النّفس إلى الشيء ليس بعلم لأنه كما يوجد مع العلم يوجد مع الجهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 33]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
ما كان الله معذبهم وأنت فيهم، وما كان الله ليعذّب أسلافهم وأنت فى أصلابهم، وليس يعذبهم اليوم وأنت فيما بينهم إجلالا لقدرك، وإكراما لمحلّك، وإذا خرجت من بينهم فلا يعذبهم وفيهم خدمك الذين يستغفرون، فالآية تدل على تشريف قدر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم.
ويقال للجوار حرمة، فجار الكرام فى ظل إنعامهم فالكفار إن لم ينعموا «1» بقرب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- منهم فقد اندفع العذاب- بمجاورته- عنهم:
وأحبها وأحبّ منزلها الذي ... نزلت به وأحبّ أهل المنزل
__________
(1) وردت (يمنعوا) والملائم للمعنى (ينعموا) لترتبط بالإنعام الذي جاء ذكره فى الجملة السابقة، ويؤكد اختيارنا أيضا وجود (الباء) فى (بقرب الرسول) إذ يقال (نعم بكذا) ولا يقال (منع بكذا) .(1/621)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
ويقال إذا كان كون الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فى الكفار يمنع العذاب عنهم فكون المعرفة فى القلوب أولى بدفع العذاب عنها.
ويقال إن العذاب- وإن تأخّر عنهم مدة مقامهم فى الدنيا مادام هو عليه السّلام فيهم- فلا محالة يصيبهم العذاب فى الآخرة، إذ الاعتبار بالعواقب لا بالأوقات والطوارق.
قوله جل ذكره: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
علم أنه- عليه السّلام- لا يتأبّد مكثه فى أمته إذ قال له: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» «1» ، فقال إنى لا أضيع أمّته وإن قضى فيهم مدّته، فما دامت ألسنتهم بالاستغفار متطلّعة فصنوف العذاب عنهم مرتفعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 34]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
نفى العذاب عنهم فى آية، وأثبته فى آية، فالمنفىّ فى الدنيا والمثبت فى الآخرة.
ثم بيّن إيصال العذاب إليهم فى الآخرة بقوله تعالى: «وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» دليل الخطاب أن إعانة المسلمين على ما فيه قيام بحق الدين يوجب استحقاق القربة والثواب وفى الآية دليل على أنه لا يعذّب أولياءه بقوله: «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» فاذا عذّب من لم يكونوا أولياءه دلّ على أنه لا يعذّب من كان من جملة أوليائه. والمؤمنون كلّهم أولياء الله لأنه قال: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «2» . والمؤمن- وإن عذّب بمقدار جرمه زمانا فإنه لا يخلّد فى دار العقوبة، فما يقاسون بالإضافة إلى تأبيد الخلاص جلل، وقيل:
إذا سلم العهد الذي كان بيننا ... فودّى وإن شطّ المزار سليم
قوله جل ذكره: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
__________
(1) آية 34 سورة الأنبياء.
(2) آية 257 سورة البقرة.(1/622)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
وليس أولياؤه إلا المتقون، وهم الذين اتقوا الشّرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 35]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
تجردت أعمالهم بظواهرهم عن خلوص عقائدهم، فلم يوجد- سبحانه وتعالى- لها احتسابا فزكاء القالة لا يكون إلا مع صفاء الحالة، وعناء الظاهر لا يقبل إلا مع ضياء السرائر.
قوله جل ذكره: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
كان العذاب معجّلا وهو حسبانهم أنهم على شىء، قال الله تعالى:
«وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» ، ومؤجّلا وهو كما قال الله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
«1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 36]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
يرومون بإنفاقهم صنوف أموالهم صلاحا ونظاما لأحوالهم، ثم لا يحظون إلا بخسران، ولا يحصلون إلا على نقصان. خسروا وهم لا يشعرون، وخابوا وسوف يعلمون:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار؟
قوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» إنّهم وإن ألهتهم أموالهم فإلى الهوان والذلّة مآلهم، لم تغن عنهم أموالهم، ولم تنفعهم أعمالهم، بل ختمت بالشقاوة أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 37]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) .
__________
(1) آية 34 سورة الرعد.(1/623)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
الخبيث ما لا يصلح لله، والطيب ما يصلح لله.
الخبيث ما حكم الشرع بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه.
ويقال الخبيث الكافر، والطيّب المؤمن.
الخبيث ما شغل صاحبه عن الله، والطيّب ما أوصل صاحبه إلى الله.
الخبيث ما يأخذه المرء وينفقه لحظّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه.
الخبيث عمل الكافر يصوّر له ويعذّب بإلقائه عليه، والطيّب عمل المؤمن يصور له فى صورة جميلة فيحمل المؤمن عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 38]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
إن كبحوا لجام التمرد، وأقلعوا عن الركض فى ميدان العناد والتّجبّر أزلنا عنهم صغار الهوان، وأوجبنا لهم روح الأمان.
ويقال إن حلّوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد.
ويقال إن أبصروا قبح فعالهم جدنا عليهم بإصلاح أحوالهم.
ويقال إن جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار.
ويقال إن عادوا إلى التّنصّل «1» أبحنا لهم حسن التّفضّل:
أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنّهم فينا ... فهلّا أحسنوا الظنّا
فإن كانوا لنا- كنّا، ... وإن عادوا لنا عدنا
وإن كانوا قد استغنوا ... فإنّا عنهم أغنى
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 39]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
__________
(1) تنصّل من ذنبه أي تبرّأ(1/624)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
أمرهم بمقاتلة الكفار والإبلاغ فيها حتى تستأصل شأفتهم بحيث يأمن المسلمون مضرّتهم، ويكفون بالكلية فتنتهم.. وحيّة الوادي لا تؤمن ما دامت تبقى فيها حركة كذلك العدو إذا قهر فحقّه أن تقتلع جميع عروقه، وتنقّى زباع الإسلام من كل شكيرة «1» تنبت من الشرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 40 الى 41]
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
فإن أبوا إلّا عتوّا، وعن الإيمان إلا نبوّأ، فلا على قلوبكم ظلّ مخافة منهم فإن الله- سبحانه- ولىّ نصرتكم، ومتولّى كفايتكم إن لم تكونوا بحيث نعم العبيد فهو نعم المولى لكم ونعم الناصر لكم.
ويقال نعم المولى لكم يوم قسمة العرفان، ونعم الناصر لكم يوم نعمة الغفران.
ويقال نعم المولى لك حين لم تكن، ونعم الناصر لك حين كنت.
ويقال نعم المولى بالتعريف قبل التكليف، ونعم الناصر لكم بالتخفيف والتضعيف يخفّف عنكم السيئات ويضاعف الحسنات:
وهواك أول ما عرفت من الهوى ... والقلب لا ينسى الحبيب الأوّلا
قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
__________
(1) شكرت الشجرة أي خرجت منها الشكيرة وهى ما ينبت حولها من أصلها.(1/625)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
الغنيمة ما أخذه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند المجاهدة والقتال معهم.
فإذا لم يكن قتال- أو ما فى معناه- فهو فىء.
والجهاد قسمان: جهاد الظاهر مع الكفار، وجهاد الباطن مع النّفس والشيطان وهو الجهاد الأكبر- كما فى الخبر «1» وكما أن فى الجهاد الأصغر غنيمة عند الظّفر، ففى الجهاد الأكبر غنيمة، وهو أن يملك العبد نفسه التي كانت فى يد العدو: الهوى والشيطان. فبعد ما كانت ظواهره مقرّا للأعمال الذميمة، وباطنه مستقرا للأحوال الدّنيّة يصير محلّ الهوى مسكن الرّضا، ومقرّ الشهوات والمني مسلّما لما يرد عليه من مطالبات المولى وتصير النّفس مستلبة من أسر «2» الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والرّوح منتزعة من أيدى العلاقات، والسّرّ مصونا عن الملاحظات. وتصبح غاغة النّفس منهزمة، ورياسة الحقوق بالاستجابة لله خافقة.
وكما أن من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول، وهو الخمس فمما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب، لا من كرائم العقبى، ولا من ثمرات التقريب، ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محرّرا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله، كما قيل:
من لم يكن بك فانيا عن حظّه ... وعن الهوى والإنس والأحباب
فكأنه- بين المراتب- واقف ... لمنال حظّ أو لحسن ثواب
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 42]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
__________
(1) إشارة إلى ما قاله الرسول بعد إحدى الغزوات: «رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر جهاد النفس» .
(2) وردت (أسرار) وهى خطأ في النسخ.(1/626)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
يخبر- سبحانه- أنّ ما جرى يوم بدر من القتال، وما حصل من فنون الأحوال كان بحكم التقدير، لا بما يحصل من الخلق من التدبير، أو بحكم تقتضيه رويّة التفكير. بل لو كان ذلك على اختيار وتواعد، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتباعد، فجرى على ما جرى ليقضى الله أمرا كان مقضيّا، وحصل من الأمور ما سبق به التقدير.
قوله جل ذكره: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي ليضلّ من زاغ عن الحقّ بعد لزومه الحجبة، ويهتدى من أقام على الحقّ بعد وضوح الحجّة.
ويقال الحقّ أوضح السبيل ونصب الدليل، ولكن سدّ بصائر قوم عن شهود الرشد، وفتح بصائر آخرين لإدراك طرق الحق.
الهالك من وقع فى أودية التفرقة، والحىّ من حيى بنور التعريف.
ويقال الهالك من كان بحظّه مربوطا، والحىّ من كان من أسر كلّ نصيب مستلبا مجذوبا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
__________
(1) كلمة (مجذوب) بهذا الاستعمال قد تؤدى المعنى الذي تطلق به فى أوساط الصوفية اليوم(1/627)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
قيل أراه إياهم فى نومه- صلّى الله عليه وسلّم- بوصف القلّة، وأخبر أصحابه بذلك فازدادوا جسارة عليهم.
وقيل أراه فى منامه أي فى محل نومه أي فى عينيه، فمعناه قلّلهم فى عينيه لأنهم لو استكثروهم لفشلوا فى قتالهم، ولانكسرت بذلك قلوب المسلمين.
وفى الجملة أراد الله جريان ما حصل بينهم من القتال يوم بدر، وإنّ الله إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه فقلّل الكفار فى أعين المسلمين فزادوا جسارة، وقلّل المسلمين فى أعين الكفار فازدادوا- عند نشاطهم إلى القتال- صغرا فى حكم الله وخسارة.
والله «عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» : وكيف لا؟ ومنه تصدر المقادير، وإليه ترجع الأمور.
ويقال إذا أراد الله نصرة عبد فلو كاد له جميع البشر، وأراده الكافة بكل ضرر، لا ينفع من شاء مضرّته كدّ، ويحصل بينه «1» وبين متاح لطفه به سدّ.
وإذا أراد بعبد سوءا فليس له ردّ، ولا ينفعه كدّ، ولا ينعشه بعد ما سقط فى حكمه جهد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 45]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
أراد إذا لقيتم فئة من المشركين فاثبتوا. والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة، ولهذا أحالهم على الذكر فقال:
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» .
ويقال إنّ جميع الخيرات فى ثبات القلب، وبه تبين أقدار الرجال، فإذا ورد على الإنسان خاطر يزعجه أو هاجس فى نفسه يهيجه.. فمن كان صاحب بصيرة توقف ريثما
__________
(1) الضمير فى (بينه) يعود على الضرر أو من شاء الضرر، والضمير في (به) يعود على العبد المنصور.(1/628)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
تتبيّن له حقيقة الوارد، فيثبت لكونه رابط الجأش، ساكن القلب، صافى اللّب..
وهذا نعت الأكابر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 46]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
الموافقة بين المسلمين أصل الدّين. وأول الفساد ورأس الزّلل الاختلاف. وكما تجب الموافقة فى الدين والعقيدة تجب الموافقة فى الرأى والعزيمة «1» .
قال تعالى فى صفة الكفّار: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» ، وإنما تتحد عزائم المسلمين لأنهم كلّهم يجمعهم التبرّى من حولهم وقوّتّهم، ويتمحضون فى رجوعهم إلى الله، وشهودهم التقدير، فيتحدون فى هذه الحالة الواحدة.
وأمّا الذين توهّموا الحادثات من أنفسهم فضلّوا فى ساحات حسبانهم، وأجروا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلّ يبنى على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تشعّبت بهم الآراء، وافترقت بهم الطرق، فيضعفون، وتختلف طرقهم. وكما تجب فى الدين طاعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تجب طاعة أولى الأمر، ولهذا يجب فى كل وقت نصب إمام للمسلمين، ثم لا تجوز مخالفته، قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: «أطيعوه ولو كان عبدا مجدعا» «2» وكان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إذا بعث سريّة أمّر «3» عليهم أميرا وقال: «عليكم بالسواد الأعظم» .
وإجماع المسلمين حجة، وصلاة الجماعة سنّة مؤكّدة، والاتّباع محمود والابتداع ضلالة.
قوله «وَاصْبِرُوا» الصبر حبس النّفس على الشيء، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك.
__________
(1) وردت (العظيمة) والملائم للرأى ولما جاء بعد قليل تتحد: (عزائم المسلمين) كلمة (العزيمة)
(2) فى رواية مسلم وابن ماجه عن أم الحصين: «إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» ص 146 ح 2 من منتخب كنز العمال.
(3) وردت (اثر) والصواب (أمرّ) أميرا، وربما اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فحسبها نقطا لثاء.(1/629)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» يتولى بالكفاية إذا حصل منهم الثبات وحسن التفويض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 47]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
يريد أنّ أهل مكة لما خرجوا من مكة عام بدر لنصرة العير ملكتهم العزّة، واستمكن منهم البطر، وداخلهم رياء الناس، فارتكبوا فى شباك غلطهم، وحصلوا على ما لم يحتسبوه.
وأمّا المؤمنون فنصرهم نصرا عزيزا، وأزال عن نبيّه- عليه السّلام- ما أظلّه من الخوف وبصدق تبريه عن حوله ومنّته- حين قال: (لا تكلنى إلى نفسى) «1» - كفاه بحسن التولّى فقال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 48]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)
الشيطان إذا زيّن للانسان بوساوسه أمرا، والنّفس إذا سوّلت له شيئا عميت بصائر أرباب الغفلة عن شهود صواب الرّشد، فيبقى الغافل «2» فى قياد وساوسه، ثم تلحقه هواجم
__________
(1) «لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» الحاكم من حديث أنس قال صحيح على شرط الشيخين، وهو في اليوم والليل، وعلمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته الزهراء رضى الله عنها. [.....]
(2) وردت (العاقل) وهى خطأ في النسخ فالكلام عن أرباب الغفلة.(1/630)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
التقدير من كوامن المكر «1» من حيث لا يرتقب، فلا الشيطان يفى «2» بما يعده، ولا النفس شيئا مما تتمنّاه تجده، وكما قال القائل:
أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتى به القدر
وسالمتك الليالى فاغتررت بها ... وعند صفو الليالى يحدث الكدر
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 49]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
إن أصحاب الغفلة وأرباب الغرّة إذا هبّت رياح صولتهم فى زمان غفلتهم يلاحظون أهل الحقيقة بعين الاستحقار، ويحكمون عليهم بضعف الحال، وينسبونهم إلى الضلال، ويعدونهم من جملة الجهّال، وذلك فى زمان الفترة ومدة مهلة أهل الغيبة.
والذين لهم قوة اليقين ونور البصيرة ساكنون تحت جريان الحكم، يرون الغائبات عن الحواس بعيون البصيرة من وراء ستر رقيق فلا الطوارق تهزمهم، ولا هواجم «3» الوقت تستفزهم «4» ، وعن قريب يلوح علم اليسر، وتنجلى سحائب العسر، ويمحق الله كيد الكائدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 50]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)
يسلّيهم «5» عند ما يقاسون من اختبارات التقدير بما يذكّرهم زوال المحنة، ووشك روح
__________
(1) هكذا فى المتن، وفى الهامش (كوامن المنكر) ولكن الصواب ما جاء بالمتن إذ المقصود ما يهجم على الغافل من (مكر) الله- سبحانه.
(2) وردت (يفنى) والملائم لما (يعده) كلمة (يفى) .
(3) وردت (هواهم) .
(4) وردت (تستقرهم) ويكون معنى الجملة بعد هذين التصويبين هو ما جاء فى الرسالة (ص 44) [الهجوم ما يرد على القلب بقوة الوقت، وسادات الوقت لا تصرفهم الهواجم]
(5) وردت (يسلبهم) والمقصود (تسليته) المؤمنين فى أوقات الاختبار.(1/631)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
اليسر، وسرعة حصول النصر، وحلول النّقم بمرتكبى الظلم. والمؤمن كثير الظّفر فإذا شاهد بأرباب الجرائم حلول الانتقام رقّ قلبه لهم، فلا ينخرط فى سلك الشماتة إذ يخلو قلبه من شهوة الانتقام، بل يجب أن يكون كل أحد بحسن الصفة، وكما قيل.
قوم إذا ظفروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 51]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
يعرّفهم أنّ ما أصابهم من شدّة الوطأة جزاء لهم على ما أسلفوه من قبيح الزّلّة، كما قيل:
سننت فينا سننا ... قذف البلايا عقبه
يصبر على أهوالها ... من برّ يوما ربّه «1»
«وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي كيفما يعاملهم فى السّرّاء والضرّاء فذلك منه حسن وعدل، إذ الملك ملكه، والخلق خلقه، والحكم حكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 52]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52)
لمّا سلكوا مسلك أهل فرعون فى الضلال، سلكنا بهم مسلكهم فيما أذقناهم من العذاب وسوء الحال، وسنّة الله ألا تغيير فى الإنعام، وعادته ألا تبديل فى الانتقام، ومن لم يعتبر بما يشهد «2» اعتبر بما يصنعه به.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 53]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) .
__________
(1) فى الشعر اضطراب، ونرجح أن هناك خطأ فى النقل.
(2) أي بما يشهده يحدث لغيره.(1/632)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
إذا أنعم الحقّ- سبحانه- على قوم نعمة وأراد إمهالهم أكرمهم بتوفيق الشكر، فإذا شكروا نعمته فبقدر الشكر دامت فيهم.
وإذا أراد- سبحانه- إزالة نعمة عن عبد أذلّة بخذلان الكفر، فإذا حال «1» عن طريق الشكر عرّض النّعمة للزوال. فما دام العبد يشكر النعمة مقيما كان الحقّ فى إنعامه عليه مديما، فإذا قابل النعمة بالكفران انتثر سلك نظامه، فبقدر ما يزيد فى إصراره يزول الأمر عن قراره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 54]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
تنوّعت من آل فرعون الذنوب فنوّع لهم العقوبة، وكذلك هؤلاء: عوقبوا بأنواع من العقوبة لمّا ارتكبوا أنواعا من الزّلة.
وفائدة تكرار ذكرهم تأكيد فى التعريف أنه لا يهمل المكلّف أصلا، وإن أهمله حينا ودهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 55]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55)
«عِنْدَ اللَّهِ» : فى سابق علمه وصادق حكمه فإذا كانوا فى علمه شرّ الخلائق فكيف يسعدون باختلاف السعايات وصنوف الطوارق؟
هيهات أن تتبدل الحقائق! وإذا قال: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» - وكلامه صدق وقوله حقّ- فلم يبق للرجاء فيهم مساغ، ولا ينجع فيهم نصح وإبلاغ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 56]
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) .
__________
(1) (حال) اى تغير مقبولة فى المعنى، ولكن لا نستبعد أنها (حاد) فى الأصل.(1/633)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
أي الذين صار نقض العهد لهم سجية فلم يذروا من استفراغ الوسع فى جهلهم بقية.
وإن من الكبائر التي لا غفران لها فى هذه الطريق أن ينقض العبد عهدا، أو يترك عقدا التزمه بقلبه مع الله. أولئك الذين سقطوا عن (....) «1» الله، فرفع عنهم ظلّ العناية والعصمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 57]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
يريد إن صادفت واحدا من هؤلاء الذين دأبهم نقض العهد فاجعلهم عبرة لمن يأتى بعدهم لئلا يسلكوا طريقهم فيستوجبوا عقوبتهم.
كذلك من فسخ عقده مع «2» الله بقلبه برجوعه إلى رخص التأويلات، ونزوله إلى السكون مع العادات «3» يجعله الله نكالا لمن بعده، بحرمانه ما كان خوّله، وتنغيصه عليه ما من حظوظه أمّله، فيفوته حق الله، ولا يكون له امتناع عما آثره على حق الله:
تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا لمن ... ابتغى عوضا لليلى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 58]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)
يريد إذا تحقّقت بخيانة قوم منهم فصرّح بأنه لا عهد بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سمت الأمانة، وخيانة كلّ أحد على ما يليق بحاله، ومن ضنّ «4» بميسور له فقد خان فى عهده، وزاغ عن جده، وعقوبته معجّلة، فهو لا يحبّه الله، وتكون عقوبته بإذلاله وإهانته.
__________
(1) مشتبهة.
(2) وردت (من) والصواب عقده (مع) الله.
(3) وردت (العدالات) والصواب (العادات)
. (4) وردت (ظن) وهى خطأ فى النسخ.(1/634)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 59]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
كيف يعارض الحقّ أو ينازعه من فى قبضته تقلّبه، وبقدرته تصرّفه، وبتصريفه إياه عدمه وثبوته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 60]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)
أعدوا لقتال الأعداء ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة، وأتمّها قوة القلب بالله، والناس فيها مختلفون: فواحد يقوى قلبه بموعود نصره، وآخر يقوى قلبه بأنّ الحقّ عالم بحاله، وآخر يقوى قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه، قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «1» ، وآخر يقوى قلبه بإيثار رضاء الله تعالى على مراد نفسه، وآخر يقوى قلبه برضاه بما يفعله مولاه به.
ويقال أقوى محبة للعبد فى مجاهدة العبد وتبرّيه عن حوله وقوّته.
قوله جل ذكره: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
الإشارة فيه أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها، أو لاشتفاء صدره من قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هى العليا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 61]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) .
__________
(1) آية 48 سورة الطور. [.....](1/635)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
بعث الله نبيه- صلّى الله عليه وسلّم- بالرحمة والشفقة على الخلق، وبمسالمة «1» الكفار رجاء أن يؤمنوا فى المستأنف فإن أبوا فليس يخرج أحد عن قبضة العزّة.
ويقال العبودية الوقوف حيثما وقفت إن أمرت بالقتال فلا تقصّر، وإن أمرت بالمواعدة فمرحبا بالمسالمة، «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فى الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة، فيوفّقك لما فيه الأولى، ويختار لك ما فيه من قسمى الأمر- فى الحرب وفى الصّلح- ما هو الأعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
أي إن لبّسوا عليك، وراموا خداعك بطلب الصّلح منك- وهم يستبطنون لك بخلاف ما يظهرونه- فإنّ الله كافيك، فلا تشغل قلبك بغفلتك عن شرّ ما يكيدونك فإنى أعلم ما لا تعلم، وأقدر على ما لا تقدر.
هو الذي بنصره أفردك، وبلطفه أيّدك، وعن كل سوء ونصيب طهّرك، وعن رقّ الأشياء جرّدك «2» ، وفى جميع الأحوال كان لك.
هو الذي أيّدك بمن آمن بك من المؤمنين، وهو الذي ألّف بين قلوبهم المختلفة فجمعها على الدّين، وإيثار رضاء الحق. ولو كان ذلك بحيل «3» الخلق ما انتظمت هذه الجملة، ولو أبلغت بكلّ ميسور من الأفعال، وبذلت كلّ مستطاع من المال- لما وصلت إليه.
__________
(1) وردت (بمساملة) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (حررك) بالحاء وهى خطأ فى النسخ والصواب أن تكون بالجيم.
(3) وردت (يحيل) بياءين وهى خطأ فى النسخ فهى (حيل) جمع حيلة.(1/636)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
أحسن التأويلات فى هذه الآية أن تكون «من» فى محل النّصب أي ومن اتبعك من المؤمنين يكفيهم الله.
ومن التأويلات فى العربية أن تكون «من» فى محل الرفع أي حسبك من اتبعك من المؤمنين.
وقد علم أن استقلال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- كان بالله لا بمن سوى الله، وكلّ من هو سوى الله فمحتاج إلى نصرة الله، كما أن رسول الله محتاج إلى نصرة الله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
المؤمن لا يزداد بنفسه ضعفا إلّا ازداد بقلبه قوة، لأن الاستقلال بقوة النّفس نتيجة الغفلة، وقوة القلب بالله- سبحانه- على الحقيقة.
قوله جل ذكره: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
هذا لهم، فأمّا النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فهو بتوحيده كان مؤمّلا بأن يثبت لجميع الكفار لكمال قوّته بالله تعالى، قال عليه السّلام: «بك أصول» «2» ، وفى تحريضه للمؤمنين
__________
(1) لاحظ كيف تؤثر النزعة الصوفية فى اختيار الفكرة النحوية.
(2) «اللهم بك أصول وبك أجول وبك أسير» .
كان هذا من دعائه صلوات الله عليه- إذا أراد سفرا (الإمام أحمد والبزاز عن على كرم الله وجهه، وقال الحافظ البيهقي: رجاله ثقات) .(1/637)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
على القتال كانت لهم قوة، وبأمر الله كانت لهم قوة فقوة الصحابة كانت بالنبي- عليه الصلاة والسّلام، وتحريضه إياهم وقوتهم بذلك كانت بالله وبأمره إياه.. وشتّان ما هما! قوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً: والضّعف الذي علم فيهم كان ضعف الأشباح فخفّف عنهم، أما القلوب فلم يتداخلها الضعف فحمل من ممارسة القتال بالعذر المذكور فى الكتاب.
والعوام يحملون المشاقّ بنفوسهم وجسومهم، والخواص بقلوبهم وهممهم، وقالوا:
«والقلب يحمل ما لا يحمل البدن» وقال آخر.
وإن ترونى أعاديها فلا عجب ... على النفوس جنايات من الهمم
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 67]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
أي لا ينبغى لنبى من الأنبياء- عليهم السّلام- أن يأخذ أسارى من أعدائه ثم يرضى بأن يأخذ منهم الفداء، بل الواجب عليه أن يثخن فى الأرض أي يبالغ فى قتل أعدائه- إذ يقال أثخنه المرض إذا اشتدّ عليه. وقد أخذ النبي- صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزا لوجوب القول بعصمته، ولكن لو قاتلتم كان أولى. وأراد ب «عَرَضَ الدُّنْيا» أخذ الفداء، والله جعل الفداء، والله جعل رضاه فى أن يقاتلوهم، وحرمة «1» الشرع خلاف رحمة الطبع فشرط العبودية أن يؤثر العبد الله، وإذا كان الأمر بالغلظة فكما قال تعالى: «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ» «2» .
__________
(1) وردت (ورحمة) الشرع والصواب (وحرمة الشرع) والمعنى إن اتباع الأمر أولى من تحكيم عاطفة الرحمة بهم.
(2) آية 2 سورة النور.(1/638)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
«وَاللَّهُ عَزِيزٌ» : بالانتقام من أعدائه، «حَكِيمٌ» : فى جميع ما يصنع من التمليك والإملاك، والتيسير والتدبير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 68]
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)
لولا أن الله حكم فى آزاله بإحلال الغنيمة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لمسّكم- لأجل ما أخذتم من الفداء منهم يوم بدر- عذاب عظيم، ولكن الله أباح لكم الغنيمة فأزال عنكم العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 69]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
الحلال ما كان مأذونا فيه، والحلال الطيّب أن تعلم أن ذلك من قبل الله فضلا، وليس لك من قبلك استحقاقا.
ويقال الحلال الصافي ما لم ينس صاحبه فيه معبوده.
ويقال هو الذي لا يكون صاحبه عن شهود ربّه- عند أخذه- غافلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 70]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
الذي يعطونه خير مما أخذ منهم. ويحتمل أن يكون ما فى الآخرة من حسن الثواب، ويحتمل أن يكون ما فى الدنيا من جميل العوض. ويقال هو ما بوصلهم إليه من توفيق الطاعات، وحلاوة الإيمان، وهو خير مما أخذ منهم.
ويقال ما أعطاهم من الرضاء بما هم فيه من الفقر، بعد ما كانوا أغنياء فى حال الشّرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 71]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)(1/639)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
يريد إن عادوا إلى قتالك بعد ما مننت عليهم بالإطلاق وخانوا عهدك، فالخيانة لهم دأب وطريقة، ثم إنّا نمكّنك منهم ثانيا كما أمكنّاك من أسرهم أولا، وقيل:
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النّعل لها حاضرة
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 72]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
ذكر صفة المهاجرين مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وصفتهم أنهم آمنوا ثم هاجروا مع الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ثم «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» هؤلاء هم المهاجرون.
أما الذين آووا فهم الأنصار آووا الرسول- عليه السّلام- والمؤمنين.
فهذان الفريقان بعضهم أولياء بعض فى النصرة والدين.
وأما الذين آمنوا ولكن لم يهاجروا فليست لهم هذه الموالاة إلى أن يهاجروا، وإن استعانوا بكم فعليكم نصرهم.
«إِلَّا عَلى قَوْمٍ» وهم المعاهدون معكم.
وكمال الهجرة مفارقة الأخلاق الذميمة، وهجران النّفس فى ترك إجابتها إلى ما تدعو(1/640)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
إليه من شهواتها. ومن ذلك هجران إخوان السوء، والتباعد عن الأوطان التي باشر العبد فيها الزّلة، ثم الهجرة من أوطان الحظوظ إلى أوطان رضاء الحق «1» .
وأما قوله «وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا» فهم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عوامّ هؤلاء فى الأمور الدنيوية، وخواصّهم فى الكرائم فى الآخرة، وخاصّ الخاصّ فى كل ما يصحّ به الإثبات من سنّى الأحوال إلى ما لا يدرك الوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 73 الى 74]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
قطع العصمة بينهم وبين المؤمنين، فالمؤمن للأجانب مجانب، وللأقارب مقارب.
والكفّار بعضهم لبعضهم، كما قيل: «طير السماء على ألّافها تقع» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (8) : آية 75]
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
يريد من سلك مسلكهم فى الحال، ومن سيلحق بهم فى الاستقبال وآتى الأحوال فالالفة تجمعهم، والولاية تشملهم، فلهم من الله فى العقبى جزيل الثواب، والنجاة من العذاب.
ولهم فى الدنيا الولاية والتناصر، والمودة والتقارب، والله أعلم.
__________
(1) القشيري من الشيوخ القائلين بأهمية السفر إذا دعت الضرورة يشرط أن يصحب السفر عن المكان سفر عن النفس (انظر الرسالة ص 200)(1/641)
«تنبيه»
ذكر السيد المحقق فى الصحيفة 20 موقفه من أخطاء الناسخ بأنه اتخذ منها ثلاثة مواقف (ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكدا» ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.
ولما كانت الطبعة الأولى كثيرة الأخطاء خاصة فى الآيات القرآنية، فقد قمت بتصويبها وتصحيحها قبل هذه الطبعة الثانية (أفست) ..
أما ما ورد فى ب. ج، فقد تركته كما هو حسب منهج السيد المحقق وسأقوم بمشيئة الله تعالى بتصويب المجلدين: الثاني، الثالث، على هذا النحو، وأرجوا الله التوفيق والعون.
متولى خليل عوض الله الباحث الأول- مركز تحقيق التراث(1/643)
فهرس
الصفحة مدخل/ 3 صورة لورقة من المخطوطة السوفيتية/ 39 سورة فاتحة الكتاب/ 42 سورة البقرة/ 52 سورة آل عمران/ 217 سورة النساء/ 310 سورة المائدة/ 396 سورة الأنعام/ 459 سورة الأعراف/ 516 سورة الأنفال/ 601(1/645)
تم المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله سورة التوبة(1/646)
[الجزء الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم « ... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة..
جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية.
ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدنيا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجز لنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكافينا غليلا، مهّدنا له فى دار فضلنا مقيلا» عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف(2/3)
بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر تبرّأنا ممّا منّا من الحول والمنّة، وتحقّقنا بما منك من الطول والمنّة، فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم، وبكىّ فراقك وسمتهم.
عبد الكريم القشيري عند سورة اليونس(2/4)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
السورة التي تذكر فيها التوبة
جرّد الله- سبحانه- هذه السورة عن ذكر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء، ليس لصنعه سبب، وليس له فى أفعاله غرض ولا أرب، واتّضح للكافة أن هذه الآية أثبتت فى الكتاب لأنها منزّلة، وبالأمر هنا لك محصّلة.
ومن قال: إنه لم يذكر التسمية فى هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- فضعيف، وفى التحقيق كالبعيد لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» «1» وقوله: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» «3» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» «4» ...
هذه كلها مفاتح للّسور ... وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة فى أوائلها- وإن كانت متضمّنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت فى ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمّنته تلويحا، وهذه السورة أو لها ذكر البراءة منهم قطعا، فلم تصدّر بذكر الرحمة.
ويقال إذا كان تجرّد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرىّ أن يخشى أنّ تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 1]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
__________
(1) آية 1 سورة البينة.
(2) آية 1 سورة الهمزة.
(3) آية 1 سورة المسد
(4) آية 1 سورة الكافرون(2/5)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
الفراق شديد، وأشدّه ألا يعقبه وصال، وفراق المشركين كذلك لأنه قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «1» ويقال من منى بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكّ أنهم كانوا قد وطّنوا نفوسهم عليه، فنزل الخبر من الغيب بغتة، وأتاهم الإعلام بالفرقة فجأة، فقال: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل:
فبتّ بخير- والدّنى مطمئنة ... وأصبحت يوما والزمان تقلّبا
وما أشدّ الفرقة- لا سيّما إذا كانت بغتة على غير ترقّب- قال تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ» «2» وأنشدوا:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبّت به ريح من البين فانطفا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 2]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل.
والإشارة فيه: أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.
ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» والإشارة فيه: إن أصررتم على قبيح آثاركم سعيتم إلى هلاككم بقدمكم. وندمتم فى عاجلكم على سعيكم، وحصلتم فى آجلكم على خسرانكم وما خسرتم إلا فى صفقتكم، وما ضرّ جزمكم سواكم وأنشدوا:
تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا ... من ابتغى عوضا لليلى فلم يجد
__________
(1) آية 48 سورة النساء
(2) آية 39 سورة مريم [.....](2/6)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
أي ليكن إعلام من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم، وإعلان عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال «1» ومعهودهم، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاء، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاء، فليعلم الكافة أنهم أعداء، وأنشدوا:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.
من رأى من الأغيار- شظية من الآثار، ولم ير حصولها بتصريف الأقدار فقد أشرك- فى التحقيق- واستوجب هذه البراءة.
ومن لاحظ الخلق تصنّعا، أو طالع نفسه إعجابا فقد جعل ما لله لغير الله، وظنّ ما لله لغير الله، فهو على خطر من الشّرك بالله.
قوله جل ذكره: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
إن عادوا إلى الباب لم يقطع رجاءهم، ومدّ إلى حدّ وضوح العذر إرجاءهم. وبيّن أنهم إن أصرّوا على عتوّهم فإلى مالا يطيقون من العذاب منقلبهم، وفى النار مثواهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 4]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
:
__________
(1) وردت (الإمهال) والصواب أن تكون (الإهمال) لأن الإمهال لا يكون إلا من الحق، ومألوفهم ومعهودهم (الإهمال) .(2/7)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
من وفّى الحقّ فى عقده فزده على حفظ عهده إذ لا يستوى من وفّاه ومن جفاه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يريد إذا انسلخ الحرم فاقتلوا من لا عهد له من المشركين، فإنّهم- وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حرما- جعل لهم الأمان فى مدة هذه المهلة، (....) «1» فكرتم أن يأمر بترك قتال من أبى كيف يرضى بقطع وصال من أتى؟!.
قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
أمرهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء.
وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك فسبيل العهد فى مباشرة الجهاد الأكبر مع النّفس بالتضييق عليها بالمبالغة فى جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع «2» فى القيام بصدق المعاملات. ومن تلك الجملة ألا ينزل بساحات الرّخص والتأويلات، ويأخذ بالأشقّ فى جميع الحالات قوله جل ذكره: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حقيقة التوبة الرجوع بالكلية من غير أن تترك بقية. فإذا أسلم الكافر بعد شركه، ولم يقصّر فى واجب عليه من قسمى فعله وتركه، حصل الإذن فى تخلية سبيله وفكّه:
إن وجدنا لما ادّعيت شهودا ... لم نجد عندنا لحقّ حدودا
وكذلك النّفس إذا انخنست، وآثار البشرية إذا اندرست، فلا حرج- فى التحقيق- فى المعاملات فى أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات. والجلوس مع الله
__________
(1) مشتبهة
(2) وردت (الواسع) والصواب أن تكون الوسع.(2/8)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
أولى من القيام بباب الله تعالى، قال تعالى فيما ورد به الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
إذا استجار المشرك- اليوم- فلا يردّ حتى يسمع كلام الله، فإذا استجار المؤمن طول عمره من الفراق- متى يمنع من سماع كلام الله؟ ومتى يكون فى زمرة من يقال لهم:
«اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» » .
وإذ قال- اليوم- عن أعدائه: «فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» فإن لم يؤمن بعد سماع كلامه نهى عن تعرضه حيث قال: «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» - أترى أنه لا يؤمّن أولياءه- غدا- من فراقه، وقد عاشوا اليوم على إيمانه ووفائه؟! كلا.. إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «3» .
ثم قال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» فإذا كان هذا برّه بمن لا يعلم فكيف برّه بمن يعلم؟
ومتى نضيّع من ينيخ ببابنا ... والمعرضون لهم نعيم وافر؟!
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 7]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) .
__________
(1) جاء فى الرسالة ص 111 قال محمد الفراء سمعت الشبلي يقول: (أليس الله تعالى يقول:
أنا جليس من ذكرنى؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟) .
(2) آية 108 سورة المؤمنون.
(3) آية 103 سورة الأنبياء.(2/9)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
كيف يكون المفلس من عرفانه كالمخلص فى إيمانه؟
وكيف يكون المحجوب عن شهوده كالمستهلك فى وجوده؟
كيف يكون من يقول «أنا» كمن يقول «أنت» ؟ وأنشدوا:
وأحبابنا شتان: واف وناقص ... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض
قوله: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» ، إن تمسّكوا بحبل «1» وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإن زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدّنا، ثم لم يربحوا فى بعدنا.
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» : المتّقى الذي يستحق محبة من يتّقى وذلك حين يتقى محبّة نفسه، وذلك بترك حظه والقيام بحقّ ربّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 8]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
وصفهم بلؤم الطبع فقال: كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضاء؟ فلو ظفروا بكم واستولوا عليكم لم يراعوا لكم حرمة، ولم يحفظوا لكم قرابة أو ذمّة.
وفى هذا إشارة إلى أنّ الكريم إذا ظفر غفر، وإذا قدر ما غدر، فيما أسرّ وجهر.
قوله «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» أي لا عجب من طبعهم فإنهم فى حقّنا كذلك يفعلون: يظهرون لباس الإيمان ويضمرون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم فى زىّ الوفاق، ويستبطنون عين الشّقاق وسوء النّفاق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 9]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)
__________
(1) وردت (لجبل) وهى خطأ فى النسخ.(2/10)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
من رضى من الله بغير الله أرخص فى صفقته ثم إنه خسر فى تجارته فلا له- وهو عن الله- أثر استمتاع، ولا له- فى دونه سبحانه- اقتناع بقي عن الله، ولم يستمتع عن الله. وهذا هو الخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 10]
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
كيف يراعى حقّ المؤمنين من لا يراعى حقّ الله فى الله؟ أخلاقهم تشابهت فى ترك الحرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 11]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
معناه: وإن قبلناهم وصلحوا لولائنا فلحمة النّسب فى الدّين بينكم وبينهم وشيجة «1» ، وإلا فليكن الأجانب منا على جانب منكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 12]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
إذا جنحوا إلى الغدر، ونكثوا ما قدّموه من ضمان الوفاء بالعهد، وبسطوا ألسنتهم فيكم باللوم فاقصدوا من رحى الفتنة عليه تدور، وغصن الشّرّ من أصله يتشعّب، وهم سادة الكفار وقادتهم.
وحقّ القتال إعداد القوة جهرا، والتبرّى عن الحول والقوة سرّا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 13]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
__________
(1) أي مشتبكة متصلة.(2/11)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
حرّضهم على القتال- على ملاحظة أمر الله بذلك- لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد، فإنّ من غضب لنفسه فمذموم الوصف، ومن غضب لله فإن نصر الله قريب.
وقال «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» : فالخشية من الله بشير الوصلة، والخشية من غير الله نذير الفرقة. وحقيقة الخشية نفض السّرّ عن ارتكاب الزّجر ومخالفة الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
هوّن عليهم كلفة المخاطرة بالمهجة بما وعدهم من الظفر والنصرة، فإنّ شهود خزى العدوّ مما يهوّن عليهم مقاساة السوء. والظّفر بالأرب يذهب تعب الطّلب.
وشفاء صدور المؤمنين على حسب مراتبهم فى المقام والدرجات فمنهم من شفاء صدره فى قهر عدوّه، ومنهم من شفاء صدره فى نيل مرجوّه. ومنهم من شفاء صدره فى الظّفر بمطلوبه، ومنهم من شفاء صدره فى لقاء محبوبه. ومنهم من شفاء صدره فى درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره فى البقاء بمعبوده.
وكذلك ذهاب غيظ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوّع أبوابه، وفيما ذكرنا تلويح لما تركنا «1» .
«وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» حتى يكون استقلاله بمحوّل الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
__________
(1) توضح هذه العبارة ميل القشيري للإقلال خشية الملال- كما ذكر فى مقدمة كتابه.(2/12)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
من ظنّ أنه يقنع منه بالدعوى- دون التحقق بالمعنى- فهو على غلط فى حسبانه.
والذي طالبهم به من حيث الأمر صدق المجاهدة فى الله، وترك الركون إلى غير الله، والتباعد عن مساكنة أعداء الله.. ثقة بالله، واكتفاء بالله، وتبرّيا من غير الله.
وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجة فالمعنى فيه: ألا يفشوا فى الكفار أسرار المؤمنين.
وأول من يهجره المسلم- لئلا تطّلع على الأسرار- نفسه التي هى أعدى عدوّه، وفى هذا المعنى قال قائلهم:
كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب
ويقال: إن أبا يزيد «1» - فيما أخبر عنه- أنه قال للحقّ فى بعض أوقات مكاشفاته:
كيف أطلبك؟ فقال له: فارق نفسك.
ويقال إن ذلك لا يتمّ، بل لا تحصل منه شظيّة إلا بكىّ عروق الأطماع والمطالبات لما فى الدنيا ولما فى العقبى ولما فى رؤية الحال والمقام- ولو بذرّة. والحرية عزيزة «2» ..
قال قائلهم:
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاى طلعة حرّ
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 17]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)
__________
(1) هو أبو يزيد البسطامي كان جده (سروشان) مجوسيا وأسلم، وهو أحد إخوة ثلاثة كانوا جميعا زهادا وأصحاب أحوال، مات سنة 261، وقيل سنة 234 (طبقات السلمى) و (رسالة القشيري) .
(2) (والحرية عزيزة) هنا معناها نادرة الوجود.(2/13)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
«1»
عمارة المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص، والمشرك فاقد الإخلاص، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب، فمن أثبت فى عقده جواز ذرّة فى العالم من غير تقديره- سبحانه- شارك أرباب الشّرك فى المعنى الذي لزمتهم به هذه السّمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 18]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
لا تكون عمارة المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يعمّرها بتخريب أوطان شهوته، والزاهد يعمرها بتخريب أوطان منيته، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته، والموحّد يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومساكنته. وكلّ واحد منهم واقف فى صفته فلصاحب كلّ موقف منهم وصف مخصوص.
وكذلك رتبتهم فى الإيمان مختلفة فإيمان من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم! قال قائلهم:
لا تعرضنّ بذكرنا فى ذكرهم ... ليس الصحيح- إذا مشى- كالمقعد
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 19]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (هم فيها خالدون)(2/14)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
ليس من قام بمعاملة ظاهره كمن استقام فى مواصلة سرائره، ولا من اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه، ولا من نصب بالباب من حيث الخدمة كمن مكّن من البساط من حيث القربة «1» ، وليس نعت من تكلّف نفاقا كوصف من تحقّق وفاقا، بينهما بون بعيد! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 20]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
«آمَنُوا» أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبق فى سماء يقينهم سحاب ريب، ولا فى هواء «2» معارفهم ضباب شك.
«وَهاجَرُوا» : فلم يعرّجوا فى أوطان التفرقة فتمحّضت «3» حركاتهم وسكناتهم بالله لله.
«وَجاهَدُوا» : لا على ملاحظة عوض أو مطالعة عوض فلم يدّخروا لأنفسهم- من ميسورهم- شيئا إلا آثروا الحقّ عليه فظفروا بالنعمة فى قيامهم بالحقّ بعد فنائهم عن الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : الآيات 21 الى 22]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
__________
(1) يتدرج الدخول عليه- حسبما نعرف من أسلوب القشيري- من الباب إلى البساط إلى العقوة أو الساحة ثم السدة.
(2) وردت (هؤلاء) وقد صوبناها (هواء) لتلائم (سماء) و (سحاب) و (ضباب) فضلا عن أنها أقرب فى الكتابة إليها. [.....]
(3) تمحضت أي صارت خالصة لله(2/15)
البشارة من الله تعالى على قسمين: بشارة بواسطة الملك، عند التوفى:
«تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «1» .
وبشارة بلا واسطة بقول الملك، إذ يبشّرهم ربّهم برحمة منه، وذلك عند الحساب.
يبشرهم بلا واسطة بحسن التولّى فعاجل بشارتهم بنعمة الله، وآجل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما! ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صلح أمرهم للشهرة فأظهر أمرهم للملك حتى بشّروهم جهرا، وأهل العصيان صلح حالهم للستر فتولّى بشارتهم- من غير واسطة- سرّا.
ويقال إن كانت للمطيع بشارة بالاختصاص فإنّ للعاصى بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصى بشارة بالنجاة.
ويقال إنّ القلوب مجبولة على محبة من يبشّر بالخير فأراد الحقّ- سبحانه- أن تكون محبة العبد له- سبحانه- على الخصوص فتولّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» وفى معناه أنشدوا:
لولا تمتّع مقلتى بلقائه ... لوهبتها بشرى بقرب إيابه
ويقال بشّر العاصي بالرحمة، والمطيع بالرضوان، ثم الكافة بالجنة فقدّم العاصي فى الذكر، وقدّم المطيع بالبرّ، فالذّكر قوله وهو قديم والبرّ طوله وهو عميم. وقوله الذي لم يزل أعزّ من طوله الذي حصل. قدّم العصاة على المطيعين لأنّ ضعف الضعيف أولى بالرّفق من القوى.
ويقال (قدّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يوم العرض وحضور الجمع لا يفتضح العاصي) «2» .
ويقال «يبشرهم ربّهم برحمته» يعرّفهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات
__________
(1) آية 30 سورة فصلت.
(2) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامات المميزة، ولنتأمل مقدار انفساح صدور الصوفية بالنسبة للعصاة، وذلك نتيجة امتلاء قلوبهم بالأمل في المحبوب.(2/16)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته- سبحانه- وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد ينجّيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» «1» .
قوله: «لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» : قوم نعيمهم عطاء ربّهم على وصف التمام، وقوم نعيمهم لقاء ربهم على نعت الدوام فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم دوام لقائه.
ثم قال: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» والكناية فى قوله «فِيها» كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة، سيما وقد ذكر الأجر بعدها فكما لا يقطع عطاءه عنهم فى الجنة لا يمنع عنهم لقاءه متى شاءوا فى الجنة، قال تعالى: «لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» «2» أي لا مقطوعة عنهم نعمته، ولا ممنوعة منهم رؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
من لم يصلح بطاعته لربه لا تستخلصه لصحبة نفسك.
ويقال من آثر على الله شيئا يبارك له فيه فيبقى بذلك عن الله، ثم لا يبقى ذلك معه، فإن استبقاه بجهده- كيف يستبقى حياته إذا أذن الله فى ذهاب أجله؟ وفى معناه أنشدوا:
من لم تزل نعمته قبله ... زال مع النعمة بالموت
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
__________
(1) الشيخان عن عائشة مرفوعا: سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ... إلخ
(2) آية 33 سورة الواقعة(2/17)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
ليس هذا تخييرا لهم، ولا إذنا فى إيثار الحظوظ على الحقوق، ولكنه غاية التحذير والزّجر عن إيثار شىء من الحظوظ على الدّين، ومرور الأيام حكم عدل يكشف فى العاقبة عن أسرار التقدير، قال قائلهم:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار؟
ويقال علامة الصدق فى التوحيد قطع العلاقات، ومفارقة العادات، وهجران المعهودات والاكتفاء بالله فى دوام الحالات.
ويقال من كسدت سوق دينه كسدت أسواق حظوظه، وما لم تخل منك منازل الحظوظ لا تعمر بك مشاهد الحقوق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 25]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
النصرة من الله تعالى فى شهود القدرة، والمنصور من عصمه الله عزّ وجلّ عن التوهّم والحسبان، ولم يكله إلى تدبيره فى الأمور، وأثبته الحقّ- سبحانه- فى مقام الافتقار متبريا عن الحول والمنّة، متحقّقا بشهود تصاريف القدرة، يأخذ الحقّ- سبحانه- بيده فيخرجه عن مهواة تدبيره، ويوقفه على وصف التصبّر لقضاء تقديره.
قوله جل ذكره: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.
يعنى نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب، وخانت القوى أصحابها، ولم تغن عنكم كثرتكم، فاستخلص الله أسراركم- عند صدق الرجوع إليه- بحسن السكينة النازلة عليكم، فقلب الله الأمر على(2/18)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
الأعداء، وخفقت رايات النصرة، ووقعت الدائرة على الكفار، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 26]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)
السكينة ثلج القلب عند جريان حكم الربّ بنعت الطمأنينة، وخمود آثار البشرية بالكلية، والرضاء بالبادى من الغيب من غير معارضة اختيار.
ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرّك عرق لمعارضة حكم. والسكينة «1» المنزلة على «الْمُؤْمِنِينَ» خمودهم تحت جريان ما ورد من الغيب من غير كراهة بنوازع البشرية، واختطاف الحقّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهية من مخلوق فسكنت عنهم كلّ إرادة واختيار.
«وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من وفور اليقين وزوائد الاستبصار.
«وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بالتطوح «2» فى متاهات التفرقة، والسقوط فى وهدة «3» ضيق التدبير، ومحنة الغفلة، والغيبة عن شهود التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 27]
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
ردهم من الجهل إلى حقائق العلم، ثم نقلهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين، ثم رقّاهم عن تلك الجملة بما لقّاهم به من عين الجمع.
__________
(1) وردت (والسكين) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (والتطوع) بالعين وهى خطأ في النسخ.
(3) جاءت الواو فوق فاء (فى) واكتملت بعدها خطأ: (هذه) ، والصواب ان تأخذ الواو مكانها بعد (في) وتصبح الكلمة (وهدة)(2/19)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قوله جل ذكره
[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
فقدوا طهارة الأسرار بماء التوحيد فبقوا فى قذورات الظنون والأوهام، فمنعوا قربان المساجد التي هى مشاهد القرب. وأمّا المؤمنون فطهرهم عن التدنّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقّ فردا فيما يبيّنه من الأمر ويمضيه من الحكم.
قوله جل ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ توقّع الأرزاق من الأسباب من قضايا انغلاق باب التوحيد، فمن لم يفرد معبوده بالقسمة بقي فى فقر مسرمد.
ويقال من أناخ بعقوة كرم مولاه، واستمطر سحاب جوده أغناه عن كل سبب، وكفاه كلّ تعب، وقضى له كلّ سؤل وأرب، وأعطاه من غير طلب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
من استوجب الهوان لا ينجيك من شرّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره، ومن داهن عدوّه فبالحرىّ أن يلقى سوءه.
ومن أشدّ النّاس لك عداوة، وأبعدهم عن الإيمان- نفسك المجبولة على الشرّ فلا تقلع إلّا بذبحها بمدية المجاهدات. وهى لا تؤمن بالتقدير، ولا يزول شكها قط، وكذلك تخلد إلى التدبير «1» ،
__________
(1) أي تدبير الإنسان المناقض لتقدير الحق(2/20)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
ولا تسكن إلا بوجود المعلوم «1» ، ولا تقبل منك إلا كاذب المواعيد، ولذلك قالوا وأكذب النّفس إذا حدّثتها فإنّ صدق القول يذرى بالأمل قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 30]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
لو كان هذا فى تخاطب المخلوقين لكان عين الشكوى والشكوى إلى الأحباب تشير إلى تحقق الوصلة.
شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين من تشكو منه وبين من تشكو إليه!! قوله جل ذكره: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الولد نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قبلهم.
ويحتمل أن تكون مضاهاة قولهم فى وصف المعبود بأنّ عيسى ابنه وعزيرا ابنه كقول الكفار قبلهم إنّ الملائكة بنات الله.
ويقال لمّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفعهم صدقهم فى الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة. وكلّ من أطلق فى وصفه ما يتقدّس- سبحانه- عنه فهو للأعداء مشاكل فى استحقاق الندم والتوبيخ.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 31]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
__________
(1) ربما كان المقصود بالمعلوم هنا ما يقع فى نطاق الحس وتقدير الحق غيبى لا يقع تحت حس الإنسان وعلم الإنسان.(2/21)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
كما لا تجوز مجاوزة الحد فى وضع القدر لا تجوز مجاوزة الحد فى رفع القدر، وفى الخبر:
«أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» فمن رأى من المخلوقين شظية من الإبداع أنزلهم منزلة الأرباب، وذلك- فى التحقيق- شرك، وما أخلص فى التوحيد من لم ير جميع الحادثات بصفاتها (....) «1» من الله.
«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً: فمن رفع فى عقده مخلوقا فوق قدره فقد أشرك بربّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 32]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)
من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أن يمنع حكم السماء بحيلته وتدبيره، أو يسقط نجوم الفلك بسهام قوسه- أظهر رعونته ثم لم يحظ بمراده.
كذلك من توهّم أن سنّة التوحيد يعلوها وهج الشّبه فقد خاب فى ظنّه، وافتضح فى وهمه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 33]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
أزاح العلل بما ألاح من الحجج، وأزال الشّبه بما أفصح من النهج فشموس الحقّ طالعة، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا:
هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 34]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
__________
(1) مشتبهة.(2/22)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
العالم إذا ارتفق بأموال الناس عوضا عما يعلّمهم زالت بركات علمه، ولم يطب فى طريق الزهد مطعمه.
والعارف إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشىء من أحواله وأعماله زالت آثار همّته، ولم تجد فى حكم التوحيد حالته.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
لهم فى الآجل عقوبة. والذين لا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فلهم فى العاجل حجبة. وقليل من عباده من سلم من الحجاب فى محتضره والعقاب فى منتظره «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 35]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
لمّا طلبوا الجاه عند الخلق بمالهم، وبخلوا بإخراج حقّ الله عنه شان وجوههم.
ولمّا أسندوا ظهورهم إلى أموالهم. قال تعالى: «فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» .
ويقال: لمّا (عبسوا) فى وجوه العفاة «2» وعقدوا حواجبهم وضعت الكيّة على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمّا طووا كشحهم دون الفقراء- إذا جالسوهم- وضع المكواة على جنوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
__________
(1) محتضره أي حاضره وعاجله، ومنتظره أي مستقبله وآجله.
(2) العفاة هم طالبو العطاء ومستحقوه(2/23)
لمّا علم أنهم لا يداومون على ملازمة القرب أفرد بعض الشهور بالتفضيل، ليخصّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمّا الخواص من عباده فجميع الشهور لهم شعبان ورمضان، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع «1» لهم مسجد.... وفى معناه أنشد بعضهم.
يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع وكلّ أرض لى ثغر طرسوس قوله جل ذكره: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
قال للعوام: لا تظلموا فى بعض الشهور أنفسكم، يعنى بارتكاب الزّلّة. وأمّا الخواص فمأمورون ألا يظلموا فى جميع الشهور قلوبهم باحتقاب الغفلة «2» .
ويقال: الظلم على النّفس أن يجعل العبد زمامه بيد شهواته، فتورده مواطن الهلاك.
ويقال: الظلم على النّفس بخدمة المخلوقين بدل طاعة الحقّ.
ويقال: من ظلم على قلبه بالمضاجعات امتحن بعدم الصفوة فى مرور الأوقات.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً» : ولا سلاح أمضى على العدوّ من تبرّيك عن حولك وقوّتك.
__________
(1) وردت (البقاء) وهى خطأ فى النسخ [.....]
(2) وردت (العقد) والصواب أن تكون (الغفلة) ، فالغفلة للقلب والزلة للنفس(2/24)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
«1» الدّين ملاحظة الأمر ومجانبة الوزر وترك التقدم «2» بين يدى الله سبحانه- في جميع أحكام الشرع، فالآجال فى الطاعات مضروبة، والتوفيق فى عرفانه متّبع، والصلاح فى الأمور بالإقامة على نعت العبودية فالشهر ما سمّاه الله شهرا، والعام والحول ما أعلم الخلق أنه قدر ما بينّه شرعا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 38]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)
عاتبهم على ترك البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فرصة الرّخصة.
وأمرهم بالجد فى العزم، والقصد فى الفعل فالجنوح إلى التكاسل، والاسترواح إلى التثاقل أمارات ضعف الإيمان إذ الايمان غريم ملازم لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشقّ، وملابسة الأحقّ.
قوله «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا» : وهل يجمل بالعابد أن يختار دنياه على عقباه؟
وهل يحسن بالعارف أن يؤثر هواه على رضا مولاه؟ وأنشدوا
__________
(1) النسيء- تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، فقد كانوا إذا هل شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر
(2) أي عدم استعجال شىء موقوت بامر الله وشرعه.. هذا ما نفهمه من السياق(2/25)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
أيجمل بالأحباب ما قد فعلوا ... مضوا وانصرفوا يا ليتهم قفلوا
إنّ غيبة يوم للزاهد عن الباب تعدل شهورا، وغيبة لحظة للعارف عن البساط تعدل دهورا، وأنشدوا:
الإلف لا يصبر عن إلفه ... أكثر من طرفة عين
وقد صبرنا عنكم ساعة ... ما هكذا فعل محبين
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 39]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
العذاب الأليم إذا أعرض العبد عن الطاعة ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردّه إلى الباب.
العذاب الأليم أن يسلبه حلاوة النّجوى إذا آب.
العذاب الأليم الصدود يوم الورود، وقيل:
واعدونى بالوصال- والوصال عذب- ورمونى بالصّدود والصدّ صعب العذاب الأليم الوعيد بالفراق، فأمّا نفس الفراق فهو تمام التّلف، وأنشدوا:
وزعمت أنّ البين منك غدا ... هدّد بذلك من يعيش غدا
قوله: «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يصرف ما كان من إقباله عليه إلى غيره من أشكاله، وليس كلّ من حفر بئرا يشرب من معينها، وأنشدوا:
تسقى رياحين الحفاظ مدامعى ... وسواى فى روض التواصل يرتع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)(2/26)
من عزيز تلك النصرة أنه لم يستأنس بثانيه الذي كان معه بل رد الصّدّيق إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟
قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» .
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه فى كشوفاته فى تلك الحالة، ولولا نصرته لتلاشى تحت سطوات كشفه.
ويقال كان- عليه السلام- أمان أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «1» ، وجعله- فى الظاهر- فى أمان العنكبوت حين نسج خيطه على باب الغار فخلّصه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا نشقّ نسيج العنكبوت.. فيا عجبا كيف ستر قصة حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم؟! ويقال صحيح ما قالوا: للبقاع دول، فما خطر ببال أحد أنّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيّد- صلى الله عليه وسلم! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء كما يختص برحمته من يشاء.
ويقال ليست الغيران «2» كلها مأوى الحيّات، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول:
«إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» فهو سبحانه- وإن تقدّس عن كل مكان- ولكن فى هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا:
يا طالب الله فى العرش الرفيع به ... لا تطلب العرش إن المجد فى الغار
وفى الآية دليل على تحقيق صحبة الصدّيق- رضى الله عنه- حيث سمّاه الله سبحانه صاحبه، وعدّه ثانيه، فى الايمان ثانيه، وفى الغار ثانيه ثم فى القبر ضجيعه، وفى الجنة يكون رفيقه.
__________
(1) آيه 33 سورة الأنفال.
(2) الغار يجمع على أغوار وغيران(2/27)
قوله جل ذكره: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الكناية فى الهاء من «عَلَيْهِ» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الصديق رضى الله عنه، فإن حملت على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» «1» .
وقال للصدّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلّى لأبى بكر خاصة» «2» .
وإنما كان حزن الصديق ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- إشفاقا عليه.. لا لأجل نفسه. ثم إنه- عليه السلام- نفى حزنه وسلّاه بأن قال: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ، وحزن لا يذهب إلا لمعيّة الحقّ لا يكون إلّا «لحقّ الحق» «3» .
قوله جل ذكره: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنود وفود زوائد اليقين على أسراره بتجلّى الكشوفات.
«وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» بإظهار حجج دينه، وتمهيد سبل حقّه ويقينه فرايات الحقّ إلى الأبد عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحزب الحقّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
__________
(1) آية 4 سورة الفتح
(2) يتأيد كلام القشيري عن خصوصية أبى بكر بنزول السكينة على قلبه بما يروى عن يوم بدر، فحينما قال النبي عليه السلام «اللهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد فى الأرض من بعد ذلك» قال له أبو بكر:
دع عنك مناشدتك ربك فإنه والله منجز لك ما وعدك وهو قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [مسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر]
(3) لأنه ليس حزنا مرتبطا بحظ من حظوظ النفس ولكنه لحق الحق(2/28)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام فى الغار، وأشرقت على سرّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاع أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفقد قراره- أزال عنه لواعجه بما أخبره من قربه- سبحانه- فاستبدل بالقلق سكونا، وبالشوق أنسا، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثانى اثنين فى الظاهر بشبهه «1» ولكن كان مستهلك الشاهد فى الواحد بسرّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره فى جميع أحوالهم.
«خِفافاً» يعنى فى حال حضور قلوبكم، فلا يمسّكم نصب المجاهدات.
«وَثِقالًا» إذا رددتم إليكم فى مقاساة تعب المكابدات. فإنّ البيعة أخذت عليكم فى ( ... ) «2» و ( ... ) «3» .
ويقال «خِفافاً» إذا تحررتم من رقّ المطالبات والاختيار، «وَثِقالًا» إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمّلون قضاء الحقّ ماربكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 42]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
__________
(1) (بشبهه) هنا معناها بإنسان مثله، أي كان أنسه- فى الظاهر بصاحبه، وعلى الحقيقة كان أنسه بالله.
(2) ، (3) لفظتان مشتبهتان، وربما كانتا بمعنى (حضوركم وغيبتكم) أو (قربكم وبعدكم) أو نحو ذلك.. فهكذا نفهم من السياق.(2/29)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
يريد به المتخلفين عنه فى غزوة «تبوك» ، بيّن سبحانه أنه لو كانت المسافة قريبة، والأمر هيّنا لما تخلّفوا عنك لأنّ من كان غير متحقّق فى قصده كان غير بالغ فى جهده، يعيش على حرف، ويتصرّف بحرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. وقال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» «1» .
فإذا رأيت المريد يتّبع الرّخص ويجنح إلى الكسل، ويتعلّل بالتأويلات.. فاعلم أنه منصرف عن الطريق، متخلّف عن السلوك، وأنشدوا:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال: كان وكانا
ومن جدّ فى الطلب لم يعرّج فى أوطان الفشل، ويواصل السير والسّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدّ والعناء، وأنشدوا:
ثم قطعت الليل فى مهمة ... لا أسدا أخشى ولا ذيبا
يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
قوله: «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» : يمين المتعلّل والمتأوّل يمين فاجرة تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 43]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
لم يكن منه صلى الله عليه وسلم خرق حدّ أو تعاطى محظور، وإنما (تذر) «2» منه ترك ما هو الأولى. قدّم الله ذكر العفو على الخطاب الذي هو فى صورة العتاب بقوله: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» .
أو من جواز الزّلة على الأنبياء- عليهم السلام- إذ لم يكن ذلك فى تبليغ أمر
__________
(1) آية 21 سورة محمد.
(2) هكذا فى (ص) وربما كانت (بدر) فى الأصل أي صدر عنه أما (نذر) فتفيد (قل) منه ترك ما هو الأولى، وكلاهما لا يرفضه السياق.(2/30)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
أو تمهيد شرع (بقول قائله أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر) «1» وكذا سنّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم:
ما حطّك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرّك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- ... عليك عندى بالذي عابوا
ويقال حسنات الأعداء- وإن كانت حسنات- فكالمردودة، وسيئات الأحباب- وإن كانت سيئات- فكالمغفورة:
من ذا يؤاخذ من يحبّ بذنبه ... وله شفيع فى الفؤاد مشفّع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 44]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
المخلص فى عقده غير مؤثر شيئا على أمره، ولا يدّخر مستطاعا فى استفراغ وسعه، وبذل جهده، ومقاساة كدّه، واستعمال جدّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 45]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
من رام عن عهدة الإلزام خروجا انتهز للتأخير والتخلّف فرصة لعدم إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة من قلبه وسرّه. أولئك الذين يتقلبون فى ريبهم، ويترددون فى شكّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 46]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
أي لو صدقوا فى الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سقمت إرادتهم، فحصلت دون الخروج بلادتهم، وكذلك قيل:
لو صحّ منك الهوى أرشدت للحيل
__________
(1) ما بين القوسين منبت كما فى (ص) وفيه اضطراب ناشىء عن النسخ، وربما كان شاهدا شعريا معناه: (جاد بالعفو قبل الوقوف على العذر) .(2/31)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
قوله جل ذكره: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ألزمهم الخروج من حيث التكليف، ولكن ثبّتهم فى بيوتهم بالخذلان فبالإلزام دعاهم، وبأمر التكوين أقصاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 47]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أن لو كان كيف يكون فقال:
ولو ساعدوكم فى الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم فى الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعى فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلّفهم من نقصان عددكم. ومن ضرره أكثر من نفعه فعدمه خير من وجوده، ومن لا يحصل منه شىء غير شروره فتخلّفه أنفع من حضوره.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 48]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
إنّهم وإن أظهروا وفاقكم فقد استبطنوا نفاقكم أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيدهم تشويش أموركم، حتى كشف الله عوراتهم، وفضحهم، حتى تحذّرتم منهم بما تحققتم من أسرارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)(2/32)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
أبرزوا قبيح فعالهم فى معرض التخرج، وراموا أن يلبّسوا على الرسول- صلى الله وسلم وعلى آله- وعلى المسلمين خبث «1» سيرتهم وسريرتهم، فبيّن الله أنّ الذين ( ... ) »
بزعمهم سقطوا فيه بفعلهم، وكذلك المتجلّة بما يهواه متطوح فى وادي بلواه، وسيلقى فى الآخرة من الهوان ما يغني عن الحاجة إلى البرهان.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 50]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
هكذا صفة الحسود، يتصاعد أنين قلبه عند شهود الحسنى، ولا يسرّ قلبه غير حلول البلوى، ولا دواء، لجروح الحسود فإنه لا يرضى بغير زوال النعمة ولذا قالوا:
كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وإن الله تعالى عجّل عقوبة الحاسد، وذلك: حزن قلبه بسلامة محسوده فالنعمة للمحسود نقد والوحشة للحاسد نقد «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 51]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
المؤمن لا تلحقه شماتة عدوّه لأنه ليس يرى إلا مراد وليّه، فهو يتحقق أنّ ما يناله مراد مولاه فيسقط عن قلبه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فيعذب عنده ما كان يصعب من بلواه، وفى معناه أنشدوا:
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح- إذا أرضاكم- ألم
__________
(1) وردت (حيث) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(2) مشتبهة.
(3) أي جزاء معجل فى هذه الدنيا فعند القشيري اصطلاحان: نقد (هنا في الدنيا) ، ووعد (في الآخرة) والسياق يؤدى إلى أن الجزاءين نقد.(2/33)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
ويقال شهود جريان التقدير يخفف على العبد تعب كلّ عسير.
قوله: «هُوَ مَوْلانا» : تعريف للعبد أن له- سبحانه- أن يفعل ما يريد، لأنه تصرف مالك الأعيان فى ملكه، فهو يبدى ويجرى ما يريد بحقّ حكمه.
ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» : وأول التوكل الثقة بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيان أمورك بما يغلب على قلبك من أذكاره.
ويقال التوكل سكون السّرّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوّ والمرّ، والنعمة والمحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 52]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
بيّن الله فى هذه الآية الفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قل للذين ينتظرون:
أيها الكفار (إن كان «1» ) من شأن المؤمنين وقوع الدائرة عليهم فى القتال، أو أنّ القتل ينالهم فأىّ واحد من الأمرين ينالهم فهو لهم من الله نعمة لأنّا إن ظفرنا بكم فنصر وغنيمة، وعزّ للدّين ورفعة، وإن قتلنا فشهادة ورحمة، ورضوان من الله وزلفى. وإن كان الذي يصيبنا فى الدنيا هزيمة ونكبة، فذلك موجب للأجر والمثوبة، فإذا لن يستقبلنا إلا ما هو حسني ونعمة.
وأمّا أنتم، فإن ظفرنا بكم فتعجيل لذلّكم ومحنة، وإن قتلتم فعقوبة من الله وسخطة، وإن كانت اليد لكم فى الحال فخذلان من الله، وسبب عذاب وزيادة نقمة.
ويقال «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» إمّا قيام بحقّ الله فى الحال فنكون بوصف الرضاء وهو- فى التحقيق- الجنّة الكبرى، وإمّا وصول إلى الله تعالى فى المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى فى العقبى وهى الكرامة العظمى.
__________
(1) سقطت (إن كان) والمعنى يتطلبهما(2/34)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 53]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
المردود لا يقبل منه توصّل «1» ، ولا يغيّر حكم شقاوته بتكثير التكلّف والتعمل.
ويقال تقرّب العدوّ يوجب زيادة المقت له، وتحبّب الحبيب يقتضى زيادة العطف عليه، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «2» قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
فقدوا الإخلاص فى أموالهم فعدموا الاختصاص فى أحوالهم، وحرموا الخلاص فى عاجلهم وفى مآلهم.
قوله: «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» : من أطاع من حيث العادة- من غير أن تحمله عليها لوعة الإرادة- لم يجد لطاعته راحة وزيادة.
ويقال من لاحظ الخلق فى الجهر من أعماله، وركن إلى الكسل فى السّرّ من أحواله فقد وسم بالخذلان، وختم بالحرمان، وهذه هى أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 55]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) .
__________
(1) لا نستبعد أنها تكون (توسل) بدليل ما بعدها، والمراد يحتمل كليهما.
(2) آية 70 سورة الفرقان.
(3) آية 54 سورة آل عمران(2/35)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
بيّن أن ما حسبوه نعمة واعتدّوه من الله منّة فهو- فى التحقيق- محنّة، وسبب شقاء وفرقة، وإنما دسّ التقدير لهم سموم الصّاب، فيما استلذوه من الشراب «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 56]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
التّقرّب بالأيمان الفاجرة لا يوجب للقلوب إلا بعدا عن القبول.
ويقال إنّ إظهار التلبيس لا ( ... ) «2» الأسرار بردّ السكون، ولا يشفى البصائر بردّ الثقة واليقين.. فما لا يكون فلا يكون بحيلة أبدا، وما هو كائن سيكون.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 57]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
إن المماذق «3» فى الخلّة ينسلّ عن سلكها بأضعف خلّة، وإن وجد مهربا آوى إليه، ويأمل أن ينال فرصة ما يتعلّل بها عند ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 58]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
أولئك أصحاب الأطماع يتملقون فى الظاهر ما دامت الأرفاق واصلة إليهم، فإن انقطعت انقلبوا كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة.
ويقال من كان رضاؤه يوجدان سبب، وسخطه فى عدم ما يوصّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظّه، غير صالح للصحبة، وأمّا المتحقّق فكما قيل:
فسرت إليك فى طلب المعالي ... وسار سواى فى طلب المعاش
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 59]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
__________
(1) آية 56 سورة المؤمنون
(2) مشتبهة.
(3) مذق فلان فى الود أي لم يخلص، والمذاق الكذوب الملول. والمقصود أن من لم يخلص فى مودته يتنصل بأضعف صفة ولأقل شىء.(2/36)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
لو وقفوا مع الله بسرّ الرضا لأتتهم فنون العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله- عند الوجدان «1» - ما لهم من الأدب، من غير معاناة تعب، ولا مقاساة نصب.. ولكنّهم عرّجوا فى أوطان الطمع فوقعوا فى الذّلّ والحرب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
«2» تكلّم الفقهاء فى صفة الفقير، والفرق بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه فى قسمة الزكاة المفروضة.. فأبو حنيفة رحمة الله عليه- يقول: المسكين الذي لا شىء له. والفقير الذي له بلغة من العيش.
ويقول الشافعي رحمة الله عليه: الفقير الذي لا شىء له، والمسكين الذي له بلغة من العيش- أي بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء وذلك لأن كلّ واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فمن أهل المعرفة من رأى أنّ أخذ الزكاة المفروضة أولى، قالوا إن الله تعالى جعل ذلك ملكا للفقير، فهو أحلّ له مما يتطّوع به عليه.
ومنهم من قال: الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى من أن يزاحموا أرباب السهمان- مع احتياجهم أخذ الزكاة- وقالوا: نحن آثرنا الفقر اختيارا.
فلم نأخذ الزكاة المفروضة؟
__________
(1) أي عند وجود النعمة
(2) نلفت النظر إلى أهمية موقف القشيري عند استخراج إشارات من هذه الآية الكريمة، فقد كانت فرصة جيدة لكى يقارن بين نظرة الفقهاء ونظرة الصوفية(2/37)
ثم على مقتضى أصولهم فى الجملة- لا فى أخذ الزكاة- للفقر مراتب:
أوّلها الحاجة ثم الفقر ثم المسكنة فذو الحاجة من يرضى بدنياه وتسدّ الدنيا فقره، والفقير من يكتفى بعقباه وتجبر الجنة فقره، والمسكين من لا يرضى بغير مولاه لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين» «1» وقال صلى الله عليه وسلم «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية «2» فهو ببقيته محجوب عن ربّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شىء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بلغة ليتفرّغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة لأنه إذا لم تكن له بلغة شغله فقره عن أداء حقّه، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سمت همهم عن هذا الاعتبار- وهذا أولى بأصولهم- فالفقير الصادق عندهم من لاسماء تظله ولا أرض تقلّه ولا معلوم يشغله، فهو عبد بالله لله، يردّه إلى التمييز فى أوان العبودية، وفى غير هذا الوقت فهو مصطلم عن شواهده، واقف بربّه، منشق عن جملته.
ويقال الفقير من كسرت فقاره- هذا فى العربية.
والفقير- عندهم «3» - من سقط اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست- لاستيلاء من اصطلمه- آثاره، فكأنه لم تبق منه إلا أخباره، وأنشدوا:
أمّا الرسوم فخبّرت أنهم رحلوا قريبا ويقال المسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده، لا يبرح عن سدّته، فهو معتكف بقلبه، لا يغفل لحظة عن ربّه.
__________
(1) الترمذي، وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري، والحاكم وقال صحيح الإسناد، ورواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت.
(2) التفت السهروردي إلى ذلك حين ميز بين الفقير والصوفي فقال إن الفقير يتطلع إلى الأعواض، أما الصوفي فيترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته، والفقير له إرادة فى اختيار فقره، أما الصوفي فلا إرادة بنفسه ولكن فيما يوقفه الحق (عوارف المعارف ص 42) .
(3) أي عند أرباب الأحوال. [.....](2/38)
وأمّا «العاملون عليها» فعلى لسان العلم: من يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة.
وعلى لسان الإشارة: أولى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة من صدق فى أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عوضا، ولا يتطلبون فى مقابلة أحوالهم عرضا، وأنشدوا:
وما أنا بالباغى على الحب رشوة ... قبيح هوىّ يرجى عليه ثواب «1»
وأمّا المؤلّفة قلوبهم- على لسان العلم- فمن يستمال قلبه بنوع إرفاق معه، ليتوفّر فى الدين نشاطه فلهم من الزكاة سهم استعطافا لهم، وبيان ذلك مشهور فى مسائل الفقه.
وحاشا أن يكون فى القوم «2» من يكون حضوره بسبب طمع أو لنيل ثواب أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال.. فذلك فى صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا.
من لم يكن بك فانيا عن حظه ... وعن الهوى والإنس والأحباب
أو تيمته صبابة جمعت له ... ما كان مفترقا من الأسباب.
فلأنّه بين المراتب واقف ... لمنال حظّ أو لحسن مآب «3»
قوله جل ذكره: وَفِي الرِّقابِ وهم على لسان العلم: المكاتبون، وشرحه فى مسائل الفقه معلوم.
وهؤلاء «4» لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم فى الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزّهم طلب، فمن كان به بقية من هذه الجملة فهو عبد لم يتحرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنشد بعضهم:
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاى طلعة حرّ
قوله جل ذكره: وَالْغارِمِينَ وهم على لسان العلم: من عليهم دين فى غير معصية.
__________
(1) البيت للمتنبى من بائيته التي أولها: منى كن لى أن البياض خضاب.
(2) القوم هنا مقصود بها أرباب الأحوال.
(3) الأبيات لأبى على الروذبارى (اللمع ص 435)
(4) وهؤلاء هنا مقصود بها أيضا ارباب الأحوال.(2/39)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق «1» ، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يقضى دينه.
قوله جل ذكره: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وعلى لسان العلم: من سلك سبيل الله وجب له فى الزكاة سهم على ما جاء بيانه فى مسائل الفقه.
وفى هذه الطريقة: من سلك سبيل الله تتوجّب عليه المطالبات فيبذل أولا ماله ثم جاهه ثم نفسه ثم روحه.. وهذه أول قدم فى الطريق.
قوله جل ذكره: وَابْنِ السَّبِيلِ وهو على لسان العلم: من وقع فى الغربة، وفارق وطنه على أوصاف مخصوصة.
وعند القوم: إذا تغرّب العبد عن مألوفات أوطانه فهو فى قرى «2» الحقّ فالجوع طعامه، والخلوة مجلسه، والمحبة شرابه، والأنس شهوده، والحقّ- تعالى- مشهوده.
قال تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» «3» : لقوم وعد فى الجنة، ولآخرين نقد فى الوقت اليوم شراب المحابّ وغدا شراب الثواب، وفى معناه أنشدوا:
ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا
وأخرس لم ينطق ثلاثين حجّة ... أدرنا عليه الكأس يوما فأخبرا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
عين العداوة بالمساوئ موكّلة، وعين الرضا عن المعايب كليلة.
بسطوا اللائمة فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله،
__________
(1) أي أن دينهم ليس يقضى أبدا إذ أمرهم بيد مالكهم.
(2) القرى- الضيافة والإكرام.
(3) آية 21 سورة الإنسان(2/40)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
فقالوا: إنه بحسن خلقه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام: «المؤمن غرّ كريم والمنافق خبّ لئيم» «1» قوله جل ذكره: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وقيل: من العاقل؟ قالوا: الفطن المتغافل. وفى معناه أنشدوا:
وإذا الكريم أتيته بخديعة ... ولقيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا ... إنّ الكريم- بفضله- يتخادع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 62]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
أخبر أنّ من تزيّن للخلق، وتقرّب إليهم وأدام رضاهم، واتّبع فى ذلك هواهم، فإن الله سبحانه يسقط به عن الخلق جاههم، ويشينهم فيما توهموا أنه يزينهم، والذي لا يضيع ما كان لله، فأمّا ما كان لغير الله فوبال لمن أصابه، ومحال ما طلبه.
ويقال إنّ الخلق لا يصدقونك وإن حلفت لهم، والحقّ يقبلك وإن تخلّفت عنه فالاشتغال بالخلق محنة أنت غير مأجور عليها، والإقبال على الحقّ نعمة أنت مشكور عليها.
والمغبون من ترك ما يشكر عليه ويؤثر ما لا يؤجر عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 63]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
__________
(1) فى رواية الترمذي والحاكم عن أبى هريرة «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» (والخبّ- الخدع) وفى الحديث: «لا يدخل الجنة خب ولا خائن»(2/41)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
من كفر بالله وأشرك فى توحيده بإثبات موهوم استحق ما هو حقّ لله: تعجّل عقوبته فى الحال بالفرقة، وفى المال بالخلود فى الحرقة.
فليس كلّ من مني «1» بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا:
غدا يتفرّق أهل الهوى ... ويكثر باك ومسترجع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)
ظنّوا أنّ الحقّ- سبحانه- لا يفضحهم، فدلّوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى «2» الله- سبحانه- عنان إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم ففضحهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بخمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامن الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 65]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)
من استهان بالدّين، ولم يحتشم من ترك حرمة الإسلام جعله الله فى الحال نكالا، وسامه فى الآخرة صغرا وإذلالا، والحقّ- سبحانه- لا يرضى دون أن يذيق العتاة بأسه، ويسقى كلا- على ما يستوجبه- كأسه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 66]
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
__________
(1) وردت (مسنى) وهى خطا فى النسخ وربما كانت (مسته)
(2) وردت (فأرضى) وهى خطأ فى النسخ.
(3) آية 54 سورة آل عمران.(2/42)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
«1»
جرّد العفو والعذاب من علّة الجرم، وسبب الفعل من حجّة العبد حيث أحال الأمر على المشيئة.. إذ لو كان الموجب لعفوه أو تعذيبه صفة العبد لسوّى بينهم عند تساويهم فى الوصف، فلمّا اشتركوا فى الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذّب بعضهم دلّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصّ من يشاء بما يشاء «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 67]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)
المؤمن بالمؤمن يتقوّى، والمنافق بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على ألّافها تقع.
فالمنافق لصاحبه أسّ «3» به قوامه، وأصل به قيامه بعينه على فساده، ويعمّى عليه طريق رشاده.
والمؤمن ينصر المؤمن ويبّصره عيوبه، ويبّغض لديه ويقبّح- فى عينه- ذنوبه، وهو على السداد ينجده، وعن الفساد يبعده.
قوله جل ذكره: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.
عن طلب الحوائج من الله تعالى قوله جل ذكره: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ.
جازاهم على نسيانهم، فسمّى جزاء النسيان نسيانا.. تركوا طاعته، وآثروا مخالفته، فتركهم وما اختاروه لأنفسهم، قال تعالى: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» .
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (بأنهم كانوا مجرمون) .
(2) هذه لفتة هامة تشير إلى المذهب الكلامى عند القشيري فيما يتصل بوجوب الإثابة أو العقوبة على الله وعدم وجوبهما.
(3) الأس بفتح الألف وضعها وكسرها: أصل البناء. [.....](2/43)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 68]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)
وعدهم النار فى الآخرة، ولهم العذاب المقيم فى الحاضرة، فمؤجّل عذابهم الحرقة، ومعجّله الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 69]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
يقال: سلكتم طريق من قبلكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق فى كثرة المدّة وقوة العدّة، والاستمتاع فى الدنيا، والاغترار بالانخراط فى سلك الهوى.. ولكن لم تدم فى الراحة مدّتهم، ولم تغن عنهم يوم الشدّة عدّتهم، وعما قريب يلحق بكم ما لحق بالذين هم قبلكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 70]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)(2/44)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
ألم ينته إليهم خبر القرون الماضية، ونبأ الأمم الخالية كيف دمّرنا عليهم جمعهم، وكيف بدّدنا شملهم؟ قضينا فيهم بالعدل، وحكمنا باستئصال الكلّ، فلم يبق منهم نافخ نار، ولم يحصلوا إلّا على عار وشنار.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 71]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
يعين «1» بعضهم بعضا على الطاعات، ويتواصون بينهم بترك المحظورات فتحابّهم فى الله، وقيامهم بحقّ الله، وصحبتهم لله، وعداوتهم لأجل الله تركوا حظوظهم لحقّ الله، وآثروا على هواهم رضاء الله. أولئك الذين عصمهم الله فى الحال، وسيرحمهم فى المال.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 72]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وعدهم جميعا الجنة، ومساكن طيبة، ولا يطيب المسكن إلا برؤية المحبوب، وكلّ محب يطيب مسكنه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون فى الهمم فمن مربوط بحظّ مردود إلى الخلق، ومن مجذوب بحقّ موصول بالحق، وفى الجملة الأمر كما يقال:
__________
(1) وردت (يعنى) وهى خطأ فى النسخ.(2/45)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتم عنها ونحن حضور!
ويقال قوم يطيب مسكنهم بوجود عطائه، وقوم يطيب مسكنهم بشهود لقائه، وأنشدوا:
وإنّى لأهوى الدار لا يستقرّ لى ... بها الودّ إلا أنّها من دياركا
ثم قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» : وأمارة أهل الرضوان وجدان طعمه فهم فى روح الأنس، وروح الأنس لا يتقاصر عن راحة دار القدس بل هو أتمّ وأعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
دعا نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كافة الخلق إلى حسن الخلق.
قال لموسى عليه السلام: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» «1» .
وقال لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم-: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» «2» ويقال إنما قال هذا بعد إظهار الحجج، وبعد ما أزاح عذرهم بأيام المهلة ففى الأول أمره بالرّفق حيث قال: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ»
«3» ، فلما أصروا واستكبروا أمره بالغلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إن حصل من العدوّ جحد بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إن لم ينجع الكلام ولم ينفع الملام فالقتال والحرب وبذل الوسع فى الجهاد.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 74]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
__________
(1) آية 44 سورة طه.
(2) آية 9 سورة التحريم.
(3) آية 46 سورة سبأ.(2/46)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
تستّروا بأيمانهم فهتك الله أستارهم وكشف أسرارهم.
قوله: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» : وهى طعنهم فى نبوّة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. وكلّ من وصف المعبود بصفات الخلق أو أضاف إلى الخلق ما هو من خصائص نعت الحقّ فقد قال كلمة الكفر.
قوله جل ذكره: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أظهروا من شعار الكفر ما دلّ على جحدهم بقلوبهم بعد ما كانوا يظهرون الموافقة والاستسلام وهمّوا بما لم ينالوا من قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوّلت أنفسهم أنه يخرج الأعزّ منها الأذلّ، وغير ذلك.
يقال تمنوا زوال دولة الإسلام فأبى الله إلا إعلاء أمرها.
ثم قال: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» : أي ما عابوه إلا بما هو أجلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.
قوله جل ذكره: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وأقوى أركان التوبة حلّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقّ الأمر على وجه الاستقصاء.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 76]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)(2/47)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
منهم من أكّد العقد مع الله، ثم نقضه، فلحقه شؤم ذلك فبقى خالدا فى نفاقه.
ويقال تطلّب إحسان ربّه، وتقرّب إليه بإبرام عهده فلمّا حقّق الله مسئوله واستجاب مأموله، فسخ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البخل، فضنّ بإخراج حقه، فلحقه شؤم نفاقه، بأن بقي إلى الأبد فى أسره.
وحدّ البخل- على لسان العلم- منع الواجب. وبخل كلّ أحد على ما يليق بحاله، وكلّ من آثر شيئا من دون رضاء ربّه فقد اتصف ببخله، فمن يبخل بماله تزل عنه البركة حتى يئول إلى وارث أو يزول بحارث. ومن يبخل بنفسه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحة حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحه عنه يعاقب بالخذلان حتى تكون حياته سببا لشقائه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 77]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)
أعقبهم ببخلهم نفاقا فى قلوبهم، ويصحّ أعقبهم الله نفاقا فى قلوبهم، وفى الجملة: من نقض عهده فى نفسه رفض الودّ من أصله، وكلّ من أظهر فى الجملة خيرا واستبطن شرا فقد نافق بقسطه. والمنافق فى الصف الأخير فى دنياه، وفى الدّرك الأسفل من النار فى عقباه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 78]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
خوّفهم بعلمه كما خوّفهم بفعله فى أكثر من موضع من كتابه.
و «سِرَّهُمْ» مالا يطلع عليه غير الله.
و «نَجْواهُمْ» ما يتسارّون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكون ما لنفوسهم عليه إشراف من خواطرهم»
__________
(1) يقول القشيري فى رسالته فى معنى «السر» هو محل المشاهدة كما ان الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارف. وقالوا السر ما لك عليه إشراف، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق.(2/48)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
عابوا الذين قصرت أيديهم عن الإكثار فى الصدقة وجادوا بما وصلت إليه أيديهم، فشكر الله سعى من أخلص فى صدقته بعد ما علم صدقه فيها. وقليل أهل الإخلاص أفضل من كثير أهل النفاق.
ولمّا أوجدوا «1» المسلمين بسخريتهم وصف الله- سبحانه وتعالى- نفسه بما يستحيل فى وصفه- على التحقيق- وهو السخرية بأحد.. تطبيبا لقلوب أوليائه، فقد تقدّس عن ذلك لعزّة ربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 80]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
ختم القضايا بأنّه لا يغفر لأهل الشرك والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط.
ويقال من غلبته شقوتنا لم ينفعه (تضرعه) «2» ودعوته.
ويقال صريع القدرة لا ينعشه الجهد والحيلة.
__________
(1) (أوجدوا) أي سببوا لهم حفيظة وألما.
(2) وردت (تضر) بعدها عين مغلقة وهاء ساقطة وقد أكملناها (تضرعه) لملاءمتها للسياق، ولانسجامها مع (دعوته) بمعنى دعائه واستغفاره لهم.(2/49)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 81]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)
استحوذ عليهم سرورهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورهم فى تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج فى صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحة بما عاقبهم، وسيصلون سعيرا فى الآخرة بما قدّموه من نفاقهم، وسوف يتحسرّون ولات حين تحسّر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 82]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
بدّل الله مسرّتهم بحسرة، وفرحتهم بترحة، وراحتهم بعبرة، حتى يكثر بكاؤهم فى العقبى كما كثر ضحكهم فى الدنيا، وذلك جزاء من كفر بربه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 83]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
يقول: بعد ما ظهرت خيانتهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تنخذع بتملقهم، ولا تثق بقولهم، ولا تمكّنهم من صحبتك فيما يظهرونه من وفاقك «1» . فإذا وهن سلك العهد فلا يحتمل بعده الشّدّ، وإذا اتسع الخرق لا ينفع بعده الرّقع.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 84]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)
__________
(1) سقطت الواو من (وفاقك) .(2/50)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
«1»
ليس بعد التّبرّى التولي، ولا بعد الفراق الوفاق، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة، أو لرجائهم مساغ، أو لظنّهم تحقيق، ولكن سبق لهم القضاء بالشقاوة، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 85]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
يقول لا تحسبنّ تمكين أهل النّفاق من تنفيذ مرادهم، وتكثير أموالهم إسداء معروف منّا إليهم، أو إسباغ إنعام من لدّنا عليهم، إنما ذلك مكر بهم، واستدراج لهم، وإمهال لا إهمال. وسيلقون غبّه «2» عن قريب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 86]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86)
إذا توجّه عليهم الأمر بالجهاد، واشتدّ عليهم حكم الإلزام، تعلّلوا إلى السّعة «3» ، وركنوا إلى اختيار الدّعة واحتالوا فى موجبات التّخلّف، أولئك الذين خصّهم «4» بخذلانه، وصرف قلوبهم عن ابتغاء رضوانه.
__________
(1) وقع الناسخ فى خطأ حين نقل الآية إذ كتب بعد (ورسوله) : (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) .
وقد صوبنا حسب الآية (84) .
(2) وردت (غيه) بالياء وهى خطأ فى النسخ، والصواب (غبه) أي عاقبته.
(3) أي إلى نقص وسعهم ومكنتهم.
(4) اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فظن الكلمة (خصتهم) بالتاء وهى غير ملائمة.(2/51)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 87]
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
بعدوا عن بساط العبادة فاستطابوا الدّعة، ورضوا بالتعريج فى منازل الفرقة، ولو أنهم رجعوا إلى الله تعالى بصدق النّدم لقابلهم بالفضل والكرم، ولكن القضاء غالب، والتكلف ساقط.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 88]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
ليس من أقبل كمن أعرض وصدّ «1» ، ولا من قبل أمره كمن ردّ، ولا من وحّد كمن جحد، ولا من عبد كمن عند، ولا من أتى كمن أبى ... فلا جرم ربحت تجارتهم، وجلت رتبتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 89]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
تشير الآية إلى أن راحاتهم موعودة، وإن كانت الأتعاب «2» فى الحال موجودة مشهودة.
ويقال صادق يقينهم بالثواب يهوّن عليهم مقاساة ما يلقونه- فى الوقت- من الأتعاب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
__________
(1) وردت (سد) بالسين والصواب (صد) لتلائم أعرض.
(2) اشتبهت على الناسخ فظنها (الألقاب) والصواب الأتعاب لتقابل (راحلتهم) ، ثم إنها تكررت فيما بعد قليل. [.....](2/52)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وهم أصحاب الأعذار- فى قول أهل التفسير- طلبوا الإذن فى التأخر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فسقط عنهم الّلوم.
أما الذين تأخروا بغير عذر فقد توجّه عليهم اللوم، وهو لهم فى المستقبل الوعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 91]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
قيمة الفقر تظهر عند سقوط الأمر، ولو لم يكن فى القلة خير إلا هذا لكفى لهذا بهذا فضيلة بقوا فى أوطانهم ولم يتوجّه عليهم بالجهاد أمر، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب، واعتقاد أن لو قدروا لخرجوا.
وأصحاب الأموال امتحنوا- اليوم- يجمعها ثم بحفظها، ثم ملكتهم محنتها حتى شقّت عليهم الغيبة عنها، ثم توجّه اللوم عليهم فى ترك إنفاقها، ثم ما يعقبه- غدا- من الحساب والعذاب يربو على الجميع.
وإنّما رفع الحرج عن أولئك «1» بشرط وهو قوله: «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فإذا لم يوجد هذا الشرط فالحرج غير مرتفع عنهم.
قوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» : المحسن الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا فى حقّ الله ولا فى حقّ الخلق «2» .
__________
(1) فى النسخة (هؤلاء) وقد آثرنا أن نضع (أولئك) لينصرف الكلام إلى الطائفة الأولى أي الضعفاء والمرضى وأصحاب العذر.
(2) لأنه قد استوفى جميع المطالبات ولم يتبق عليه شىء.(2/53)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
ويقال هو الذي يعلم أنّ الحادثات كلّها من الله تعالى.
ويقال هو الذي يقوم بحقوق ما نيط به أمره فلو كان طير فى حكمه وقصّر فى علفه- لم يكن محسنا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 92]
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)
منعهم الفقر عن الحراك فالتمسوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم معه ويهبىء أسبابهم، ولم يكن فى الحال للرسول عليه السلام سعة ليوافق سؤلهم، وفى حالة ضيق صدره- صلى الله عليه وسلم- حلف إنه لا يحملهم، ثم رآهم صلى الله عليه وسلم يتأهبون للخروج، وقالوا فى ذلك، فقال عليه السلام: إنما يحملكم الله.
فلمّا ردّهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الإجابة فى أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» كما قال قائلهم:
قال لى من أحبّ والبين قد ... حلّ ودمعى مرافق لشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي؟ قلت: أبكى عليك طول الطريق قوله: «حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» شقّ عليهم أن يكون على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسببهم شغل فتمنّوا أن لو أزيح هذا الشغل، لا ميلا إلى الدنيا ولكن لئلا تعود إلى قلبه- عليه السلام- من قبلهم كراهة، ولهذا قيل:
من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج ممجج مملول
ثم إنّ الحقّ- سبحانه- لمّا علم ذلك منهم، وتمحضت قلوبهم للتعلّق بالله، وخلت عقائدهم عن مساكنة مخلوق تدارك الله أحوالهم فأمر الله رسوله عليه السلام أن يحملهم.. بذلك جرت سنّته، فقال: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» «1»
__________
(1) آية 28 سورة الشورى.(2/54)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 93]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك فى الخروج إلى الجهاد ولهم الأهبة والمكنة، وتساعدهم على الخروج الاستطاعة والقدرة فإذا استأذنوك للخروج وأظهروا «1» لم يصدقوا، فهم مستوجبون للنكير عليهم، لأنّ من صدق فى الولاء لا يحتشم من مقاساة العناء، والذي هو فى الولاء مماذق وللصدّق مفارق يتعلّل بما لا أصل له، لأنه حرم الخلوص فيما هو أهل له، وكذا قيل:
إنّ الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قيل فى التفسير: مع النساء فى البيوت.
والإسلام يثنى على الشجاعة، وفى الخبر: إن الله تعالى يحب الشجاعة، ولو على قتل حية، وفى معناه أنشدوا.
كتب القتل والقتال «2» علينا وعلى المحصنات جرّ الذّيول ومن استوطن مركب الكسل، واكتسى لباس الفشل، وركن إلى مخاريق الحيل حرم استحقاق القربة. ومن أراد الله- تعالى- هو انه، وأذاقه خذلانه، فليس له عن حكم الله مناص.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 94]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
__________
(1) ربما سقطت هنا «العذر» فهى مطلوبة للسياق.
(2) وردت (القتل والقتل) والصواب (القتل والقتال) .(2/55)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
أراد إذا تقوّلوا بما هم فيه كاذبون، وضللوا عما كانوا فى تخلفهم به يتّصفون- فأخبروهم أنّا عرّفنا الله كذبكم فيما تقولون، واتضحت لنا فضائحكم، وتميّز- بما أظهره الله لنا- سيّئكم وصالحكم، فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه شىء من أحوالكم، وستلقون غبّ أعمالكم فى آجلكم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 95]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)
يريد أنهم فى حلفهم بالله لكم أن يدفع السوء من قبلكم، وليس قصدهم بذلك خلوصا فى اعتذارهم، ولا ندامة على ما احتقبوه من أوزارهم، إنما ذلك لتعرضوا عنهم ...
فأعرضوا عنهم فإنّ ذلك ليس بمنجيهم مما سيلقونه غدا من عقوبة الله لهم، فإنّ الله يمهل العاصي حتى يتوهّم أنه قد تجاوز عنه، وما ذلك إلا مكر عومل به، فإذا أذاقه ما يستوجبه علم أن الأمر بخلاف ما ظنه، وما ينفع ظاهر مغبوط، والحال- فى الحقيقة- يأس من الرحمة وقنوط، وفى معناه قالوا:
وقد حسدونى فى قرب دارى منهم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد!
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 96]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
من كان مسخوط الحقّ لا ينفعه أن يكون مرضىّ الخلق، وليست العبرة بقول غير الله إنّما المدار على ما سبق من السعادة فى حكم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 97]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
__________
(1) وردت (غب أعمالكم فى أعمالكم) والصواب (فى آجلكم) لأن الآية تشير لذلك.(2/56)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
جبلت قلوبهم على القسوة فلم تقرعها هواجم الصفوة، وكانوا عن أشكالهم فى الخلقة مستأخرين بما ( ... ) «1» من سوء الخلق فهم من استبانة الحقائق أبعد، ومن استيجاب الهوان أقرب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 98]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
خبثت عقائدهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المحن بهم، فأبى الله إلا أن يحيق بهم مكرهم، ولهذا قيل فى المثل: إذا حفرت لأخيك فوسّع فربما يكون ذلك مقيلك! ويقال من نظر إلى ورائه يوفّق فى كثير من تدبيره ورأيه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 99]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
تنوّعوا فمنهم من غشّ ولم يربح، ومنهم من نصح فلم ليخسر، فأمّا الذين مذقوا فهم فى مهواة هوانهم، وأما الذين صدقوا ففى روح إحسانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
__________
(1) مشتبهة.(2/57)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
السابقون مختلفون فمن سابق بصدق قدمه، ومن سابق بصدق هممه.
ويقال السابق من ساعدته القسمة بالتوفيق، وأسعدته القضية بالتحقيق، فسبقت له من الله رحمته.
ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له.
ويقال جمع الرّضاء صفّيهم: السابق منهم واللاحق بهم قال تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .
ويقال ليس اللاحق كالسابق، فالسابق فى روح الطلب، واللاحق فى مقاساة التعب، ومعاناة النّصب، وأنشدوا:
السّباق السّباق قولا وفعلا ... حذّروا النّفس حسرة المسبوق
ويقال رضاهم عن الله قضية رضاء الله عنهم فلولا أنه رضى عنهم فى آزاله ...
فمتى وصلوا إلى رضاهم عنه؟! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
تشاكل المخلص والمنافق فى الصورة فلم يتميّز بالمباني، وإن تنافيا فى الحقائق والمعاني وتقاصر علمهم عن العرفان فهتك الله لنبيّه أستارهم.. فعرفهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة فى أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طول إمهاله لهم.(2/58)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
«سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ» : الأولى فى الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها فى الآخرة عوض ولا أجر ولا مسرّة، والثانية عذاب القبر.
وقيل المرة الأولى بقبض أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يمتحنون بالعذاب الأكبر.
ويقال المرة الأولى ظنّهم نهم على شىء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
إن اتصفوا بعيوبهم فلقد اعترفوا بذنوبهم. والإقرار توكيد الحقوق فيما بين الخلق فى مشاهد الحكم، ولكن الإقرار بحق الله- سبحانه- يوجب إسقاط الجرم فى مقتضى سنّة كرم الحقّ- سبحانه، وفى معناه أنشدوا:
قيل لى: قد أساء فيك فلان ... وسكوت الفتى على الضيم عار
قلت: قد جاءنى فأحسن عذرا ... دية الذّنب عندنا الاعتذار
«خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً» : ففى قوله «وَآخَرَ سَيِّئاً» بعد قوله «صالِحاً» دليل على أن الزّلّة لا تحبط ثواب الطاعة إذ لو أحبطته لم يكن العمل صالحا.
وكذلك قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شىء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنّ قوله صدق.. فإذا أخبر أنّه يجيب فإنه يفعل، فيجب منه لا يجب عليه «1» .
ويقال قوله: «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» : يحتمل معناه أنهم يتوبون فالتوبة عمل صالح.
وقوله: «وَآخَرَ سَيِّئاً» : يحتمل أنه نقضهم التوبة، فتكون الإشارة فى قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زلّتهم فواجب منّا أن
__________
(1) واضح حرص القشيري على مقاومة المعتزلة فيما يتصل بنفي اى وجوب على الله فقد جلت الصمدية عن ذلك، وإن كان يرى أنه يجب منه- سبحانه- الفضل.(2/59)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
نتوب عليهم، ولئن بطلت- بنقضهم- توبتهم.. لما اختلّت- بفضلنا- توبتنا عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 103]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
: تطهرهم من طلب الأعواض عليها، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها.
تطهرهم بها عن شحّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم فيروا عظيم منّة الله عليهم بوجدان التجرّد منها.
«وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» : إن تعاشرهم بهمّتك معهم أثمن لهم من استقلالهم بأموالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 104]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
تمدّح- سبحانه- بقبول توبة العاصين إذ بها يظهر كرمه، كما تمدّح بجلال عزّه ونبّههم على أن يعرفوا به جلاله وقدمه.
وكما توحّد باستحقاق كبريائه وعظمته تفرّد بقبول توبة العبد عن جرمه وزلّته.
فكما لا شبيه له فى جماله وجلاله لا شريك له فى أفضاله وإقباله يأخذ الصدقات- قلّت أو كثرت، فقدر الصّدقة وخطرها بأخذه لها لا بكثرتها وقلّتها قلّت فى الصورة صدقتهم ولكن لمّا أخذها وقبلها جلّت بقبوله لها، كما قيل:
يكون أجاجا- دونكم، فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيب
قوله تعالى:
[سورة التوبة (9) : آية 105]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)(2/60)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
خوّفهم برؤيته- سبحانه- لأعمالهم، فلمّا علم أنّ فيهم من تتقاصر حالته عن الاحتشام لأّطلاع الحقّ قال: «وَرَسُولُهُ» ، ثم قال لمن نزلت رتبته: «وَالْمُؤْمِنُونَ» .
وقد خسر من لا يمنعه الحياء، ولا يردعه الاحتشام، وسقط من عين الله من هتك جلباب الحياء، كما قيل:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير فى وجه إذا قلّ ماؤه
ومن لم يمنعه الحياء عن تعاطى المكروهات فى العاجل سيلقى غبّ ذلك، وخسرانه عن قريب فى الآجل.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
لم يصرّح بقبول توبتهم، ولم يسمهم باليأس من غفرانه، فوقفوا على قدم الخجل، متميلين بين الرهبة والرغبة، متردّدين بين الخوف والرجاء. أخبر الله- سبحانه- أنّه إن عذّبهم فلا اعتراض يتوجّه عليه، وإن رحمهم فلا سبيل لأحد إليه، قال بعضهم:
ويشبعنى من الآمال وعد ... ومن علمى بتقصيري وعيد
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 107]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)
من لم يكن مخلصا فى ولائه لم يأنس القلب بكدّه وعنائه، فتودّده فى الظاهر ينادى عليه بالتوائه، وبقوله بالتكلّف شهادة صدق على عدم صفائه:(2/61)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
من لم يكن للوصال أهلا ... فكلّ إحسانه ذنوب
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 108]
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
المقام فى أماكن العصيان، والتعزيج فى أوطان أهل الجحود والطغيان- من علامات الممالأة مع أربابها، وسكّانها وقطّانها.
والتباعد عن مساكنهم، وهجران من جنح إلى مسالكهم علم لمن أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سرّه عداوتهم.
«فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» : يتطهرون عن المعاصي وهذه سمة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأمانى وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.
قوله «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» : أسرارهم «1» عن المساكنة إلى كل مخلوق، أو ملاحظة كل محدث مسبوق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 109]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
المريد يجب أن يؤسّس بنيانه على يقين صادق فيما يعتقده، ثم على خلوص فى العزيمة ألا ينصرف قبل الوصول عن الطريق الذي يسلكه، ثم على انسلاخه عن جميع مناه وشهواته، وماربه ومطالبه، ثم يبنى أمره على دوام ذكره بحيث لا يعترضه نسيان، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم ... بالإيثار على نفسه. والذي ضيّع الأصول
__________
(1) أسرارهم مفعول به لاسم الفاعل «الْمُطَّهِّرِينَ» .(2/62)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
فى ابتدائه حرم الوصول فى انتهائه، والذي لم يحكم الأساس فى بنائه سقط السّقف على جدرانه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 110]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
عروق النّفاق لا تقتلع من عرصات اليقين إلا بمنجل التّحقّق بصحيح البرهان فمن أيّد لإدامة المسير، ووفّق لتأمل البرهان وصل إلى ثلج الصدر وروح العرفان.
ومن أقام على معتاد التقليد لم يسترح قلبه من كدّ التردّد، وظلمة التجويز، وجولان الخواطر المشكلة فى القلب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 111]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
لمّا كان من المؤمنين تسليم أنفسهم وأموالهم لحكم الله، وكان من الله الجزاء والثواب أي هناك عوض ومعوّض، فلما بين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظ الاشتراء، وقد قال تعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ... » «1» ، وقال: «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» «2» .
وفى الحقيقة لا يصحّ فى وصف الحق- سبحانه- الاشتراء لأنه مالك سواه، وهو مالك الأعيان كلّها. كما أنّ من لم يستحدث ملكا لا يقال إنه- فى الحقيقة- باع.
__________
(1) آية 10 سورة الصف.
(2) آية 16 سورة البقرة.(2/63)
وللمقال فى هذه الآية مجال ... فيقال: البائع لا يستحقّ الثمن إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبد الجزاء الموعود إلا بعد تسليم النّفس والمال على موجب أوامر الشرع، فمن قعد أو فرّط فغير مستحق للجزاء.
ويقال لا يجوز فى الشرع أن يبيع الشخص ويشترى شيئا واحدا فيكون بائعا ومشتريا إلا إذا كان أبا وجدا! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة فالحقّ بإذنه كانت رحمته بالعبد أتمّ، ونظره له أبلغ، وكان للمؤمن فيه من الغبطة ما لا يخفى، فصحّ ذلك وإن كان حكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال: «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» ولم يقل «قلوبهم» لأنّ النّفس محل الآفات فجعل الجنة فى مقابلتها، وجعل ثمن القلب أجلّ من الجنة، وهو ما يخصّ به أولياء فى الجنة من عزيز رؤيته «1» .
ويقال النّفس محلّ العيب، والكريم يرغب فى شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال من اشترى شيئا لينتفع به اشترى خير ما يجده، ومن اشترى شيئا لينتفع به غيره يشترى ما ردّ على صاحبه لينفعه بثمنه.
وفى بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء- عليهم السلام-: يا بنى آدم، ما خلقتكم لأربح عليكم ولكن خلقتكم لتربحوا علىّ.
ويقال اشترى منهم نفوسهم فرهبوا على قلوبهم شكرا له حيث اشترى نفوسهم، وأمّا القلب فاستأثره قهرا، والقهر فى سنّة الأحباب أعزّ من الفضل، وفى معناه أنشدوا:
بني الحبّ على القهر فلو ... عدل المحبوب يوما لسمج
ليس يستحسن فى حكم الهوى ... عاشق يطلب تأليف الحجج
وكان الشيخ أو على الدقاق «2» رحمه الله يقول: «لم يقل اشترى قلوبهم لأن القلوب وقف على محبته، والوقف لا يشترى» .
__________
(1) أنظر كيف تحتل الجنة المرتبة الثانية بعد رؤية المحبوب- عند هذا الصوفي.
(2) الدقاق هو شيخ القشيري ورائده وأستاذه وصهره. وقد أشرنا إلى شىء من سيرته فى مدخل هذا الكتاب.(2/64)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
ويقال الطير فى الهواء، والسّمك فى الماء لا يصحّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلب ... صاحبه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «1» وفى التوراة: «الجنّة جنتى والمال مالى فاشتروا جنتى بمالى فإن ربحتم فلكم وإن خسرتم فعلىّ» ويقال علم سوء خلقك فاشتراك قبل أن أوجدك، وغالى بثمنك لئلا يكون لك حقّ الاعتراض عند بلوغك.
ويقال ليس للمؤمن أن يتعصّب لنفسه بحال لأنها ليست له، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي عنها.
ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدّعى العبد فيها فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها «2» .
قوله: «فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» سيّان «3» عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا، قال قائلهم:
وإنّ دما أجريته لك شاكر ... وإنّ فؤادا خرته لك حامد
ويقال قال: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ» ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منّا بيع، وإنما أخبر عن نفسه بقوله «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فجعل بيعه بيعنا، وهذا مثلما قال فى صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم-: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وهذا عين الجمع الذي أشار إليه القوم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
مدحهم بعد ما أوقع عليهم سمة الاشتراء بقوله «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... » ومن رضى بما اشتراه فإنّ له حقّ الردّ إذا لم يعلم العيب وقت الشّراء، فأمّا إذا كان عالما به
__________
(1) آية 24 سورة الأنفال. [.....]
(2) لاحظ مدى التقاء القشيري- فيما يتصل بالنفس- بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.
(3) وردت (شتان) وهى- حسب ما هو واضح- خطأ فى النسخ.(2/65)
فليس له حقّ الردّ قال تعالى: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «1» .
ويقال من اشترى شيئا فوجد به عيبا ردّه على من منه اشتراه ولكنه- سبحانه- اشترى نفوسنا منه، فإذا أراد الردّ فلا يردّ إلا على نفسه قال تعالى: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» وكما أنّ الردّ إليه فلو ردّنا كان الردّ عليه.
قوله تعالى: «التَّائِبُونَ» أي الراجعون إلى الله، فمن راجع يرجع عن زلّته إلى طاعته، ومن راجع يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومن راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومن راجع يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستغراق فى حقائق حقّه.
ويقال تائب يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله فيجد غدا فنون أفضاله، وصنوف لطفه ونواله، وتائب يرجع عن كل غير وضد إلى ربّه بربّه لربّه بمحو كلّ أرب، وعدم الإحساس بكلّ طلب.
وتائب يرجع لحظّ نفسه من جزيل ثوابه أو حذرا- على نفسه- من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلبا لفرح نفسه حين ينجو من أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لمّا سمع أنه قال: إنّ الله أفرح بتوبة عبده من الأعرابى الذي وجد ضالّته- كما فى الخبر، وشتّان ما هما! وأنشدوا:
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
وأمّا قوله «الْعابِدُونَ» : فهم الخاضعون بكلّ وجه، الذين لا تسترقّهم كرائم الدنيا، ولا تستعبدهم عظائم العقبي. ولا يكون العبد عبد الله- على الحقيقة- إلا بعد تجرّده عن كل شىء حادث. وكلّ أحد فهو له عبد من حيث الخلقة قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «2» . ولكنّ صاحب العبودية خاصّ، وهو عزيز.
__________
(1) آية 32 سورة الدخان.
(2) آية 93 سورة مريم.(2/66)
قوله جل ذكره: الْحامِدُونَ هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المثنون عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال الحامدون بلا اعتراض على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباض عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى من لا فتوّة «1» له المادحون إذا بكى من لا مروءة له.
ويقال الشاكرون له إن أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جل ذكره: السَّائِحُونَ الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون فى الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم فى مشارق الأرض ومغاربها بالتفكّر فى جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيّرها على منشئها، والتحقق بحكمة خالقها بما يرون من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم فى الملكوت فيجدون روح الوصال، ويعيشون بنسيم الانس بالتحقق بشهود الحق.
قوله جل ذكره: الرَّاكِعُونَ الخاضعون لله فى جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلّى، وفى الخبر. «إن الله ما تجلّى لشىء إلا خشع له» .
وكما يكون- فى الظاهر- راكعا يكون فى الباطن خاشعا، ففى الظاهر بإحسان الحقّ إليه يحسن تولّيه، وفى الباطن كالعيان للعيان للحقّ بأنوار تجلّيه.
قوله جل ذكره السَّاجِدُونَ فى الظاهر بنفوسهم على بساط العبودية، وفى الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية.
__________
(1) سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: وما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعفا شكرنا (الرسالة ص 115) .(2/67)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
والسجود على أقسام: سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجود عند الشهود إذا تجلّى الحقّ لقلبه سجد بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجود فى حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جل ذكره: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ هم الذين يدعون الخلق إلى الله، ويحذّرونهم عن غير الله. يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسهم بالتزام الطاعات بحملهم إياها على سنن الاستقامة، وينهون أنفسهم عن اتّباع المنى والشهوات بترك التعريج فى أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم «1» الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حرّكهم ولا يسكنون إلا إذا سكنهم، ويحفطون مع الله أنفاسهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 113]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)
أصل الدين التبرّى من الأعداء، والتولّى للأولياء، والولىّ لا قريب له ولا حميم، ولا نسيب له ولا صديق إن والى فبأمر، وإن عادى فلزجر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 114]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
__________
(1) يكون الفعل (وقف) متعديا مثل: وقف فلانا على الأمر أي أطلعه عليه (الوسيط)
(2) مراعاة الأنفاس من الأمور التي شغل بها الصوفية دائما، يقول الجنيد:
وما تنفست إلا كنت مع نفسى ... تجرى بك الروح منى في مجاريها(2/68)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
لما أمر المسلمين بالتبرّى عن المشركين والإعراض عنهم والانقباض عن الاستغفار لهم بيّن أنّ هذا سبيل الأولياء، وطريق الأنبياء عليهم السلام، وأنّ ابراهيم- عليه السلام- وإن استغفر لأبيه فإنما كان من قبل تحقّقه بأنه لا يؤمن، فلمّا علم أنه عدوّ لله أظهر البراءة منه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 115]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
إنّ الله لا يحكم بضلالكم وذهابكم عن طريق الحقّ باستغفاركم للمشركين إلا بعد ما تبيّن لكم أنكم منهيّون عنه، فإذا علمتم أنكم نهيتم عن استغفاركم لهم فإن أقدمتم على ذلك فحينئذ ضللتم عن الحقّ بفعلكم بعد ما نهيتم عنه ... هذا بيان التفسير للآية، والإشارة فيها أنه لا سلب لعطائه إلا بترك أدب منكم.
ويقال من أحلّه بساط الوصلة ما منى بعده بعذاب الفرقة، إلا لمن سلف منه ترك حرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 116]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
الحقّ لا يتجمّل بوجود مملوكاته، ولا يلحقه نقص بعدم «1» مخلوقاته، فقبل أن أوجد شيئا من الحادثات كان ملكا- والملك أكثر مبالغة من المالك- وملكه قدرته
__________
(1) سقطت الميم من (بعدم) فأثبتناها إذ بدونها يضطرب السياق فالمراد (وجود المملوكات وعدمها) .(2/69)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
على الإبداع والمعدوم مقدوره ومملوكه، فإذا أوجده فهو فى حال حدوثه مقدوره ومملوكه، فإذا أعدمه خرج عن الوجود ولم يخرج عن كونه مقدورا له.
«يُحْيِي وَيُمِيتُ» يحيى من يشاء بعرفانه وتوحيده، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده.
ويقال يحيى قلوب العارفين بأنوار المواصلات، ويميت نفوس العابدين بآثار المنازلات.
ويقال يحيى من أقبل عليه بتفضّله، ويميت من أعرض عنه بتكبّره.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 117]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)
قبل توبتهم، وتاب على نبيّه- صلى الله عليه وسلم- فى إذنه للمنافقين فى التخلف عنه فى غزوة تبوك، وأمّا على المهاجرين والأنصار الذين قد خرجوا معه حين همّوا بالانصراف «1» لما أصابهم من العسرة من الجوع والعطش والإعياء «2» فى غزوة تبوك، كما قال: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» : وتوبته عليهم أنه تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذا سنّة الحقّ- سبحانه- مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، وقاربوا من التّلف، واستمكن اليأس فى قلوبهم من النصر، ووطّنوا أنفسهم على أن يذوقوا البأس- يمطر عليهم سحائب الجود، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا، ويردّ ورد الأنس عقب ذبوله غضا جنيّا، وتصير أحوالهم كما قال بعضهم:
كنّا كمن ألبس أكفانه ... وقرّب النّعش من اللّحد
فجال ماء الرّوح فى وحشة ... وردّه الوصل إلى الورد
__________
(1) وردت (الإنصاف) وليس لها معنى فصوبناها (الانصراف) فهو المقصود.
(2) وردت (الأعياد) وهى خطأ فى النسخ إذ التبست الهمزة على الناسخ.(2/70)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
تبارك الله سبحانه ما ( ... ) «1» هو بالسرمد قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 118]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
لمّا صدق منهم اللجاء تداركهم بالشّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقّ يكوّر نهار اليسر على ليالى العسر، ويطلع شموس المحنة على نحوس الفتنة، ويدير فلك السعادة «2» فيمحق تأثير طوارق النكاية سنّة منه- تعالى- لا يبدّلها، وعادة منه فى الكرم يجريها ولا يحوّلها.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 119]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
يا أيها الذين آمنوا برسل الله، يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب ... كونوا مع الصادقين المسلمين، يا أيها الذين آمنوا فى الحال كونوا فى آخر أحوالكم مع الصادقين أي استديموا الإيمان. استديموا فى الدنيا الصدق تكونوا غدا مع الصادقين فى الجنة.
ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وغيرهم.
ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواء السّرّ والعلانية، وذلك عزيز. وفى الزّبور:
«كذب من ادّعى محبتى وإذا حبّه الليل نام عنّي» .
__________
(1) مشتبهة، والشطر الثاني من البيت الأخير مضطرب الوزن
(2) ربما كانت (العناية) لتنسجم مع (الشكاية) لأننا نلحظ اهتمام القشيري بالموسيقى الداخلية فى تركيب فقرات هذه الإشارة، وإن كانت «السعادة» مقبولة فى السياق.(2/71)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
والصدق- كما يكون فى الأقوال يكون فى الأحوال، وهو أتمّ أقسامه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 120]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
لا يجوز لهم أن يؤثروا على النبىّ- صلى الله عليه وسلم- شيئا من نفس وروح، ومال وولد وأهل، وليسوا يخسرون على الله وأنّى ذلك..؟ وإنهم لا يرفعون لأجله خطوة إلّا قابلهم بألف خطوة، ولا ينقلون إليه قدما إلا لقّاهم لطفا وكرما، ولا يقاسون فيه عطشا إلا سقاهم من شراب محابّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقة إلا لقّاهم لطفا وإيناسا، ولا ينالون من الأعداء أذىّ إلا شكر الله سعيهم بما يوجب لهم سعادة الدارين! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)(2/72)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش، ولبقى الكافة عن درك ذلك المطلوب، فجعل ذلك فرضا على الكفاية.
ويقال جعل المسلمين على مراتب: فعوامّهم كالرعية للملك «1» ، وكتبة الحديث كخزّان الملك، وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للملك إذ الفقيه ( ... ) «2» عن الله، وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش، والأولياء كأركان الباب، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه.
فيشتغل قوم يحفظ أركان الشرع، وآخرون بإمضاء الأحكام، وآخرون بالرّد على المخالفين، وآخرون بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقوم مفردون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شغل، يراعون مع الله أنفاسهم وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزّهم طلب ولا يهزّهم أرب، فهم بالله لله، وهم محو عما سوى الله «3» .
وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله من كان يفهم عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
اقرب الأعداء إلى المسلم من الكفار، الذي يجب عليه منازعته هو أعدى عدوّه
__________
(1) فى الهامش (فالناس كلهم خدم للملك) . ولا توجد علامة توضح أنها من المتن، فربما كانت منه وسقطت العلامة، وربما كانت توضيحا من أحد القراء.
(2) مشتبهة أقرب ما تكون إلى (يرفع) أو (يوقع) ونرجح الثانية فقد وردت كذلك فى سياق مماثل. [.....]
(3) من هذا التصور ندرك شيئا هاما عند القشيري وعند الصوفية الخلص بعامة، فهم لا يتصورون التصوف مذهبا يسود المجتمع بعامة فيكون الناس جميعا متصوفة، بل إن دوره العضوى الهام فى كيان المجتمع محصور في طائفة مخصوصة يمتد اثرها إلى خارج نطاقها، والمقصود (بالشغل) و (الفراغ) أن يكونوا خالصين لله، وليس المقصود البطالة من العمل وعدم السعى للرزق.(2/73)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
أي نفسه. فيجب أن يبدأ بمقاتلة «1» نفسه ثم بمجاهدة الكفار، قال عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «2» .
قوله: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» من حابى عدوّه قهره، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالبات الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عهده، وينقض عقده، وذلك كالرّدّة «3» لأهل الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
«4» جعل الله- سبحانه- إنزال القرآن لقوم شفاء. ولقوم شقاء فإذا أنزلت سورة جديدة زاد شكّهم وتحيّرهم، فاستعلم بعضهم حال بعض، ثم لم يزدادوا إلا تحسّرا قال تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» «5» وأمّا المؤمنون فزادتهم السورة إيمانا فارتقوا من حدّ تأمل البرهان إلى روح البيان، ثم من روح البيان إلى العيان، فالتجويز والتردد و (....) «6» والتحيّر منتفى بأجمعه عن قلوبهم، وشموس العرفان طالعة على أسرارهم، وأنوار التحقيق مالكة أسرارهم، فلا لهم تعب الطلب، ولا لهم حاجة إلى التدبير،
__________
(1) وردت (مقابلة) والملائم بالنسبة للسياق (مقاتلة) هذا العدو.
(2) رواه الخطيب فى التاريخ عن جابر (ص 325 ح 2 منتخب كنز العمال بهامش مسند الإمام احمد) هكذا: (قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. مجاهدة العبد هواه) .
(3) وردت (الرد) والصواب أن تكون (الردة) ، وقد أوضح القشيري ذلك فى موضع آخر من الكتاب إذ يقول وكما ان المرتد أشد على المسلمين عداوة فكذلك من رجع عن الإرادة الى الدنيا والعادة، فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة وابعد عن أهلها) المجلد الأول: ص 75.
(4) ينبغى أن نلحق بهذه الآية الآية التي بعدها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» لم ترد فى المتن مع أن المصنف يشير إليها فى شرحه.
(5) آية 44 سورة فصلت.
(6) مشتبهة، ومصححة فى الهامش بطريقة مبهمة وهى فى الكتابة هكذا: (النجث) ، ولا نعرف ضمن آفات العقل كلمة للقشيرى قريبة فى الخط منها، وربما كانت (التعب) .(2/74)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
ولا عليهم سلطان الفكر. وأشعة شموس العرفان مستغرقة لأنوار نجوم العلم، يقول قائلهم:
ولما استبان الصبح أدرك ضوءه ... بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 126]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
لم يخل الحقّ- سبحانه- أرباب التكليف من دلائل التعريف، التعريف لهم فى كل وقت بنوع من البيان، والتكليف فى كل أوان بضرب من الامتحان فما لم يزد لهم فى إيضاح البرهان لم يتجدد لهم من الله إلا زيادة الخذلان والحجبة عن البيان.
وأمّا أصحاب الحقائق فما للأغيار فى كل عام مرة أو مرتين فلهم فى كل نفس مرة، لا يخليهم الحقّ- سبحانه- من زواجر توجب بصائر، وخواطر تتضمن تكليفات وأوامر «2» قال قائلهم:
كأنّ رقيبا منك حلّ بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
تقنّعوا بخمار التلبيس ظانّين أنهم يبقون فى سرّ بتكلفهم والحقّ أبى إلا أن فضحهم، وكما وسمهم برقم النّكرة «1» أطلع أسرار الموحّدين على أحوالهم فعرفوهم على ما هم عليه من أوصافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 128]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)
__________
(1) النكرة اسم من الإنكار يقال: كان لى أشد نكرة (الوسيط) .
(2) ذلك لأنهم بقيامهم بالحق فلما تبدر منهم أشياء تستدعى الزجر أو الأمر لأنهم دائما يختارون الأشق.(2/75)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
جاءكم رسول يشاكلكم فى البشرية، فلما أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباس الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وكل هممه بشأنكم، وأكبر همّه إيمانكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (9) : آية 129]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد، ثم قال: فإنّ أعرضوا عن الإجابة فكن بنا بنعت التجريد.
ويقال قال له: يا أيها النبي حسبك الله، ثم أمره بأن يقول حسبى الله....
وهذا عين الجمع، وقوله «فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» فرق ... بل هو جمع الجمع أي: قل، ولكنك بنا تقول، ونحن المتولى عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد فأنت بنا، ومحو عن غيرنا.
سورة يونس عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم كلمة سماعها يوجب شفاء كلّ عابد، وضياء كلّ قاصد، وعزاء كلّ فاقد، وبلاء كلّ واجد، وهدوّ كلّ خائف، وسلوّ كل عارف. وأمان كل تائب، وبيان كلّ طالب.
قلوب العارفين لا تفرح إلا بسماع بسم الله، وكروب الخائفين لا تبرح إلا عند سماع بسم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)
الألف مفتاح اسم «الله» ، واللام مفتاح اسم «اللطيف» والراء مفتاح اسم «الرحيم» .(2/76)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
أقسم بهذه الأسماء إن هذا الكتاب هو الموعود لكم يوم الميثاق. والإشارة فيه أنا حققنا لكم الميعاد، وأطلنا لكم عنان الوداد ... وانقضى زمان الميعاد، فالعصاة ملقاة، والأيام بالسرور متلقّاة، فبادروا إلى شرب كاسات المحابّ، واستقيموا على نهج الأحباب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 2]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
تعجبوا من ثلاثة أشياء: من جواز البعث بعد الموت، ومن إرسال الرسل إلى الخلق، ثم من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة من بين الخلق. ولو عرفوا كمال ملكه لم ينكروا جواز البعث، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسال الرّسل إلى الخلق، ولو عرفوا أنّ له أن يفعل ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة من بين الخلق، ولكن سدّت بصائرهم فتاهوا فى أودية الحيرة، وعثروا- من الضلالة- فى كل وهدة. وكان الأستاذ أبو على الدّقاق- رحمه الله-. يقول:
جوّزوا أن يكون المنحوت من الخشب والمعمول من الصخر «1» إلها معبودا، وتعجبوا أن يكون مثل محمد- صلى الله عليه وسلم- فى جلالة قدره رسولا..!! هذا هو الضلال البعيد.
قوله جلّ ذكره: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وهو ما قدّموه لأنفسهم من طاعات أخلصوا فيها، وفنون عبادات صدقوا فى القيام بقضائها.
ويقال هو ما قدّم الحقّ لهم يوم القيامة من مقتضى العناية بشأنهم، وما حكم لهم من فنون إحسانه بهم، وصنوف ما أفردهم به من امتنانهم.
ويقال: «قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : هو ما رفعوه من أقدامهم فى بدايتهم فى زمان
__________
(1) وردت (الصفر) بالفاء وهى خطأ فى النسخ.(2/77)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
إرادتهم، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعة لأجل الله حرمة عند الله، ولأيامهم الخالية فى حال تردّدهم، ولياليهم الماضية فى طلبه وهم فى حرقة تحيّرهم.. مقادير عند الله. وقيل:
من ينس دارا قد تخونها ... ريب الزمان فإنى لست أنساكا
وقيل:
تلك العهود تشدّها لتحلّها ... عندى كما هى عقدها لم يحلل
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 3]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
لا يحتاج فعله إلى مدّة، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فخلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وتلك الأيام أيضا من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت. وملوكنا إذا أرادوا التجلّى والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم فى ألوان مشاهدهم.
فأخبر الحقّ- سبحانه- بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة: استوى على العرش، ومعناه اتصافه بعز «1» الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية، تقدّس الجبّار عن الأقطار، والمعبود عن الحدود.
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» : أي الحادثات صادرة عن تقديره، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك يعضده، وما قضى فلا أحد يردّه. «ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» : هو الذي ينطق من يخاطبه، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يطالبه.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» : تعريف وقوله: «فَاعْبُدُوهُ» : تكليف فحصول التعريف بتحقيقه، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه.
__________
(1) وردت (بغير) الصمدية وهى خطأ فى النسخ.(2/78)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 4]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
الرجوع يقتضى ابتداء الأرواح قبل حصولها فى الأشباح، فإن لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه، كما قيل:
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
ويقال المطيع إذا رجع إلى الله فله الزّلفى، والثواب والحسنى. والعاصي إذا رجع إلى ربّه فبنعت الإفلاس وخسران الطريق فيتلقى لباس الغفران، وحلّة الصفح والأمان، فرحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه.
قوله: «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» : موعود المطيع الفراديس العلى، وموعود العاصي الرحمة والرّضى. والجنّة لطف الحقّ والرّحمة وصف الحق فاللّطف فعل لم يكن ثم حصل، والنّعت لم يزل «1» .
قوله: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» : من كان له فى جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحقّ سبحانه به ففى الإشارة: تكون لذلك إعادة، وأنشدوا:
كلّ نهر فيه ماء قد جرى فإليه الماء يوما سيعود قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 5]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
__________
(1) يفرق القشيري في كتابه (التحبير فى التذكير) الذي قمنا بتحقيقه بين صفات الفعل وصفات الذات.(2/79)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
أنوار العقول نجوم وهى للشياطين رجوم، وللعلوم «1» أقمار وهى أنوار واستبصار، وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع، كما قيل:
إنّ شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب
وكما أن فى السماء كوكبين شمسا وقمرا الشمس أبدا بضيائها، والقمر فى الزيادة والنقصان يستر بمحاقه ثم يكمل حتى يصير بدرا بنعت إشراقه، ثم يأخذ فى النقص إلى أن لا يبقى شىء منه لتمام امتحاقه، ثم يعود جديدا، وكل ليلة يجد مزيدا، فإذا صار بدرا تماما، لم يجد أكثر من ليلة لكماله مقاما، ثم يأخذ فى النقصان إلى أن يخفى شخصه ويتمّ نقصه.
كذلك من النّاس من هو متردّد بين قبضه وبسطه، وصحوه ومحوه، وذهابه وإيابه لا فناء فيستريح، ولا بقاء له دوام صحيح، وقيل:
كلّما قلت قد دنا حلّ قيدى ... كبلّونى فأوثقوا المسمارا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 6]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
اختصّ النهار بضيائه، وانفرد الليل بظلمائه، من غير استيجاب لذلك، ومن غير استحقاق عقاب لهذا، وفى هذا دليل على أنّ الردّ والقبول، والمنع والوصول، ليست معلولة بسبب، ولا حاصلة بأمر مكتسب كلّا.. إنها إرادة ومشيئة، وحكم وقضية.
النهار وقت حضور أهل الغفلة فى أوطان كسبهم، ووقت أرباب القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربّهم، قال قائلهم:
هو الشمس، إلا أنّ للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
والليل لأحد شخصين: أمّا للمحبّ قوقت النّجوى، وأمّا للعاصى فبثّ الشكوى.
__________
(1) وردت (العموم) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود نوع من المقابلة بين (العلوم) والمعارف.(2/80)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)
أنكروا جواز الرؤية فلم يرجوها، والمؤمنون آمنوا «1» بجواز الرؤية فأمّلوها.
ويقال: لا يرجون لقاءه لأنهم لم يشتاقوا إليه، ولم يشتاقوا إليه لأنهم لم يحبّوه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يطلبوه ولن يطلبوه لأنه أراد ألّا يطلبوه، قال تعالى: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «2» .
ويقال لو أراد أن يطلبوه لطلبوه، ولو طلبوا لعرفوا، ولو عرفوا لأحبّوا، ولو أحبّوا لاشتاقوا، ولو اشتاقوا لرجوا، ولو رجوا لأمّلوا لقاءه، قال تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» «3» قوله تعالى: «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها» : أصحاب الدنيا رضوا بالحياة الدنيا فحرموا الجنة، والزّهّاد والعّباد ركنوا إلى الجنة ورضوا بها فبقوا عن الوصلة، وقد علم كلّ أناس مشربهم، ولكلّ أحد مقام.
ويقال إذا كانوا لا يرجون لقاءه فمأواهم العذاب والفرقة، فدليل الخطاب أن الذي يرجو لقاءه رآه، ومآله ومنتهاه الوصلة واللقاء والزّلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
كما هداهم اليوم إلى معرفته من غير ذريعة يهديهم غدا إلى جنته ومثوبته من غير نصير من المخلوقين ولا وسيلة.
__________
(1) من هذا لفهم أن القشيري يؤمن بجواز رؤية الله فى الآخرة، أما رؤيته فى الدنيا فإنه يقول فى الرسالة ص 175: (الأقوى أنه لا تجوز رؤية الله بالأبصار في الدنيا- وقد حصل الإجماع فى ذلك) . [.....]
(2) آية 42 سورة النجم.
(3) آية 13 سورة السجدة.(2/81)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
ويقال أمّا المطيعون فنورهم يسعى بين أيديهم وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقّاهم والحقّ، قال تعالى: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «1» نحشرهم، والعاصون يبقون منفردين متفرقين، لا يقف لهم العابدون، ويتطوحون فى مطاحات «2» القيامة.
والحقّ- سبحانه- يقول لهم: عبادى، إنّ أصحاب الجنة- اليوم- فى شغل عنكم، إنهم فى الثواب لا يتفرّغون إليكم، وأصحاب النار من شدة العذاب لا يرقبون لكم معاشر المساكين.
كيف أنتم إن كان أشكالكم وأصحابكم سبقوكم؟ وواحد منهم لأيهديكم فأنا أهديكم.
لأنى إن عاملتكم بما تستوجبون ... فأين الكرم بحقنا إذا كنا فى الجفاء مثلهم وهجرناكم كما هجروكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 10]
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
قالتهم الثناء على الله، وذلك فى حال لقائهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فى تلك الحالة من الله:
«سَلامٌ» عليكم «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» : والحمد هاهنا بمعنى المدح والثناء، فيثنون عليه ويحمدونه بحمد أبدىّ سرمدىّ، والحقّ- سبحانه- يحييّهم بسلام أزلىّ وكلام أبدى، وهو عزيز صمدى ومجيد أحدى.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 11]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أي لو أجبناهم إذا دعوا على أنفسهم عند غيظهم وضجرهم لعجّلنا إهلاكهم، ولكن
__________
(1) آية 85 سورة مريم.
(2) المطاح والمطاحة: اسما مكان من طاح، وهو المسلك الوعر المهلك.(2/82)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
تحمّلنا ألا نجيبهم، وبرحمتنا عليهم لا نسمع منهم دعاءهم. وربما يشكو العبد بأن الربّ لا يجيب دعاءه، ولو علم أنه ترك إجابته لطفا منه وأنّ فى ذلك بلاء لو أجابه، كما قيل:
أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنّهم فينا ... فهلّا أحسنوا الظّنا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 12]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)
إذا امتحن العبد وأصابه الضّرّ أزعجته الحال إلى أن يروم التخلّص مما ناله، فيعلم أنّ غير الله لا ينجيه، فتحمله الضرورة على صدق الالتجاء إلى الله، فإذا كشف الله عنه ما يدعو لأجله شغلته راحة الخلاص عن تلك الحالة، وزايله ذلك الالتياع، وصار كأنه لم يكن فى بلاء قط:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذ اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلّا
ويقال بلاء يلجئك إلى الانتصاب بين يدى معبودك أجدى لك من عطاء ينسيك ويكفيك عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 13]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
أخبر الحقّ سبحانه بإهلاك الظالمين، كما فى الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنّة لسلّط الله عليه الخراب» . والظلم وضع الشيء فى غير موضعه، فإذا وضع العبد قصده- عند حوائجه- فى المخلوقين، وتعلّق قلبه بهم فى الاستعانة، وطلب المأمول فقد وضع الشيء فى غير موضعه،(2/83)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
وهو ظلم فعقوبة هذا الظلم خراب القلب، وهو انسداد طريق رجوع ذلك القلب إلى الله لأنه لو رجع إلى الله لأعانة وكفاه، ولكنه يصرّ على تعليق قلبه بالمخلوق فيبقى عن الله، ولا ترتفع حاجته من غيره، وكان من فقره وحاجته فى مصرّة. فإن صار إلى مضرة المذلة والحاجة إلى اللئيم فتلك محنة عظيمة.
وعلى هذا القياس إذا أحبّ مخلوقا فقد وضع محبته فى غير موضعها، وهذا ظلم وعقوبته خراب روحه لعدم صفاء ودّه ومحبته لله، وذهاب ما كان يجده من الأنس بالله، إذا بقي عن الله يذيقه الحقّ طعم المخلوقين، فلا له مع الخلق سلوة، ولا من الحقّ إلا الجفوة، وعدم الصفوة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 14]
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
عرّفناكم بسرّ من قبلكم، وما أصابهم بسبب ذنوبهم، فإذا اعتبرتم بهم نجوتم، ومن لم يعتبر بما سمعه اعتبر به من تبعه.
ويقال أحللنا بهم من العقوبة ما يعتريكم، ومن لم يعتبر بمن سبقه اعتبر به من لحقه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 15]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
إذا اقترحوا عليك بأن تأتيهم بما لم نأمرك به، أو تريّهم ما لم نظهر عليك من الآيات..
فأخبرهم أنّك غير مستقل بك، ولا موكول إليك فنحن القائم عليك، المصرّف لك، وأنت المتّبع لما نجريه عليك غير مبتدع لما يحصل منك.(2/84)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 16]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)
قد عشت فيكم زمانا، وعرفتم أحوالى فيما تطلبون منى عليه برهانا «1» ، فما ألفيتمونى ( ... ) «2» بل وجدتمونى فى السداد مستقيما، وللرشاد مستديما، فلولا أنّ الله تعالى أرسلنى، ولما حمّلني من تكليفه أهّلني لما كنت بهذا الشرع آتيا ولا لهذا الكتاب تاليا.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ» ما لكم تعترضون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 17]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
الكذب فى الشرع قبيح، وإذا كان على الله فهو أقبح.
ومن المفترين على الله: الذين يظهرون من الأحوال ما ليسوا فيه صادقين، وجزاؤهم أن يحرموا ذلك أبدا، فلا يصلون إلى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 18]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
ذمّهم على عبادة ما ليس منه ضرّ ولا نفع.
فدليل الخطاب يقتضى أن يكون المعبود منه الضّرّ والنفع، ومن فرط غباوتهم أنهم
__________
(1) أي لماذا تطلبون الآن منى برهانا على شىء أنتم عرفتموه عنى من قبل وهو صدقى؟
(2) مشتبهة.(2/85)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
انتظروا فى المآل الشفاعة ممن لا يوجد منه الضّرّ والنّفع فى الحال. ثم أخبر أنهم يخبرون عما ليس على الوجه الذي قالوا معلوما، ولو كان كما قالوا لعلموا أنه سبحانه لا يعزب عن علمه «1» معلوم.
ومعنى قوله: «لا يَعْلَمُ» : خلافه. ومن تعلّق قلبه بالمخلوقين فى استدفاع المضارّ واستجلاب المسارّ فكالسالك سبيل من عبد الأصنام إذ المنشئ والموجد للشىء من العدم هو الله- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وذلك من زمان آدم عليه السلام إلى أن تحاربوا، والحق- سبحانه- سبق قضاؤه بتأخير حسابهم إلى الآخرة، ولذلك لا يجيبهم إلى ما يستعجلونه من قيام القيامة.
وإنما اختلفوا لأنّ الله خصّ قوما بعنايته وقبوله، وآخرين بإهانته وإبعاده، ولولا ذلك لما كانت بينهم هذه المخالفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 20]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
أخبر أنه- عليه السلام- فى ستر الغيبة وخفاء الأمر عليه فى الجملة لتقاصر علمه عما سيحدث، فهو فى ذلك بمنزلتهم، إلا فى مواطن التخصيص بأنوار التعريف، فكما أنهم فى الانتظار لما يحدث فى المستأنف فهو أيضا فى انتظار ما يوجد- سبحانه- من المقادير.
والفرق بينه- عليه السلام- وبينهم أنه يشهد ما يحصل به- سبحانه- ومنه، وهم متطوّحون فى أودية الجهالة يحيلون الأمر مرة على الدّهر، ومرة على النجم «2» ، ومرّة على الطبع..
وكلّ ذلك حيرة وعمى.
__________
(1) وردت (عمله) وهى خطأ فى النسخ.
(2) المقصود بالنجم هنا الطالع والحظ من نحس وسعود.(2/86)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 21]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)
يعنى إذا أصابهم ضرّ ومحنة فرحمناهم وكشفنا عنهم، أحالوا الأمر على غيرنا، وتوهموه مما هو سوانا مثل قولهم: مطرنا بنوء كذا، ومثل قولهم إن هذه سعادة نجم أو مساعدة دولة أو تأثير فلك أو خيرات دهر.
فهذا كان مكرهم أما مكر الله- سبحانه- بهم فهو جزاؤهم على مكرهم. والإشارة فى هذا أنه ربما يكون للمريد أو للطالب حجبة أو فترة.. فإذا جاء الحقّ بكشف أو تجلّ أو إقبال فمن حقّهم ألا يلاحظوها فضلا عن أن يساكنوها «1» ، لأنهم إذا لم يرتقوا عن ملاحظة أحوالهم إلى الغيبة بشهود الحقّ مكر الله بهم بأن شتّتهم فى تلك الأحوال من غير ترقّ عنها أو وجود زيادة عليها، وهذا مكره بخواصّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 22]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
يريد أنهم يصبحون فى النّعم يجرّون أذيالهم، ثم يمسون يبكون لياليهم. وقد يبيتون والبهجة ملكتهم ثم يصبحون وخفايا التقدير أهلكتهم، وأنشدوا:
__________
(1) نفهم من هذا أن (الملاحظة) أخف من (المساكنة) وكلتاهما من آفات الطريق، يلح القشيري دائما على التحذير منهما، وقد بالغ أهل الملامة فى توضيح أضرارهما- كما تشهد بذلك النصوص التي رواها عنهم فى (رسالته) .(2/87)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
أقمت زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
فإذا رجعوا إلى الله بإخلاص الدعاء يجود عليهم بكشف البلاء.
فلمّا أنجاهم بالإجابة لدعائهم إذا هم إلى غيره «1» يرجعون، وعلى مناهجهم- فى تمردهم يسلكون.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 23]
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» معناه: نمتّعكم أياما قلائل، ثم تلقون «2» غبّ ذلك وتبدأون تقاسون عذابا طويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
شبّه الحياة الدنيا بالماء المنزّل من السماء ينبت به النبات وتخضرّ الأرض وتظهر الثمار، ويوطّن أربابها عليها نفوسهم، فتصيبهم جائحة سماوية بغتة، وتصير كأن لم تكن.
كذلك الإنسان بعد كمال سنّه وتمام قوّته واستجماع الخصال المحمودة فيه تخترمه المنيّة، وكذلك أموره المنتظمة تبطل وتختلّ بوفاته، كما قيل:
__________
(1) وردت (غيرهم) والأكثر ملاءمة للسياق أن تكون (غيره) .
(2) وردت (يلقون) وهى خطأ فى النسخ لعدم اتفاقها مع أسلوب الخطاب.(2/88)
فقدناه لمّا تمّ واختمّ بالعلى ... كذاك كسوف البدر عند تمامه
ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المنزّل من السماء أن المطر لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة.
ثم إن المطر إن كان لا يجىء إلا بالتقدير فقد يستسقى.. كذلك الرزق- وإن كان بالقسمة- فقد يلتمس من الله ويستعطى.
ومنها أن الماء فى موضعه سبب حياة الناس، وفى غير موضعه سبب خراب الموضع، كذلك المال لمستحقه سبب سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند من لا يستحقه سبب طغيانه، وسبب بلاء من هو متصل به، كما قيل: نعم الله لا تعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان، وكما قيل:
يا دولة ليس فيها من المعالي شظيّة ... زولى فما أنت إلا على الكرام بليّة
ومنها أن الماء إذا كان بمقدار كان سبب الصلاح، وإذا جاوز الحدّ كان سبب الخراب..
كذلك المال إذا كان بقدر الكفاية والكفاف فصاحبه منعّم، وإذا زاد وجاوز الحدّ أوجب الكفران والطغيان.
ومنها أن الماء ما دام جاريا كان طيبا، فإذا طال مكثه تغيّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبه كان محمودا، فإذا ادّخره وأمسكه كان معلولا مذموما.
ومنها أن الماء إذا كان طاهرا كان حلالا يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غير طاهر فبالعكس.. كذلك المال إذا كان حلالا، وبعكسه لو كان حراما.
ويقال كما أن الربيع تنورد أشجاره، وتظهر أنواره، وتخضرّ رباعه، وتتزين بالنبات وهاده وتلاعه، لا يؤمن أن تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن فى الحساب. كذلك من الناس من تكون له أحوال صافية، وأعمال بشرط الخلوص زاكية غصون أنسه متدلّيه، ورياض قربه مونقه.. ثم تصيبه عين فيذبل عود وصاله، وتنسدّ أبواب عوائد إقباله، كما قيل:
عين أصابتك إن العين صائبة ... والعين تسرع أحيانا إلى الحسد(2/89)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 25]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
دعاهم إلى دار السلام، وفى الحقيقة دعاهم إلى ما يوجب لهم الوصول إلى دار السلام وهو اعتناق أوامره والانتهاء عن زواجره. والدعاء من حيث التكليف، وتخصيص الهداية لأهلها من حيث التشريف.
ويقال الدعاء تكليف والهداية تعريف فالتكليف على العموم والتعريف على الخصوص.
ويقال التكلف بحقّ سلطانه، والتعريف بحكم إحسانه.
ويقال الدعاء قوله والهداية طوله دخل الكلّ تحت قوله، وانفرد الأولياء بتخصيص طوله. دار السلام دار السلام لأن السلام اسم من أسمائه.
ويكون السلام بمعنى السلامة فهى دار السلامة أي أهلها سالمون فيها سالمون من الحرقة وسالمون من الفرقة سلموا من الحرقة فحصلوا على لذة عطائه، وسلموا من الفرقة فوصلوا إلى عزيز لقائه.
ويقال لا يصل إلى دار السلام إلا من سلمت نفسه عن السجود للصنم، وسلم قلبه عن الشّرك والظلم.
ويقال تلك الدار درجات والذي سلم قلبه عن محبة الأغيار درجته أعلى من درجة من سلمت نفسه من الذنوب والأوضار.
ويقال قوم سلمت صدورهم من الغلّ والحسد والحقد وسلم الخلق منهم فليس بينهم وبين أحد محاسبة، وليس لهم على أحد شىء فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمحسن من سلم الخلق بأجمعهم من قلبه.
«الصراط المستقيم» : طريق المسلمين، فهذا للعوام بشرط علم اليقين، ثم طريق المؤمنين وهو طريق الخواص بشرط عين اليقين، ثم طريق المحسنين وهو طريق خاص الخاص بشرط حق اليقين فهؤلاء بنور العقل أصحاب البرهان، وهؤلاء بكشف العلم أصحاب(2/90)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
البيان، وهؤلاء بضياء المعرفة بالوصف «1» كالعيان، وهم الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم:
«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 26]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)
«أَحْسَنُوا» : أي عملوا وأحسنوا إذ كانت أفعالهم على مقتضى الإذن.
ويقال «أَحْسَنُوا» : لم يقصّروا فى الواجبات، ولم يخلّوا بالمندوبات.
ويقال «أَحْسَنُوا» : أي لم يبق عليهم حقّ إلا قاموا به إن كان حقّ الحقّ فمن غير تقصير و، إن كان من حقّ الخلق فاذا من غير تأخير.
ويقال «أَحْسَنُوا» : فى المال كما أحسنوا فى الحال فاستداموا بما فيه واستقاموا، والحسنى التي لهم هى الجنة وما فيها من صنوف النّعم.
ويقال الحسنى فى الدنيا توفيق بدوام «2» ، وتحقيق بتمام، وفى الآخرة غفران معجّل، وعيان على التأبيد «3» محصّل.
قوله: «وَزِيادَةٌ» : فعلى موجب الخبر وإجماع السلف النظر إلى الله. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : الرّؤية، «والزيادة» . دوامها. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : اللقاء، «والزيادة» : البقاء فى حال اللقاء.
ويقال الحسنى عنهم لا مقطوعة ولا ممنوعة، والزيادة لهم لا عنهم محجوبة ولا مسلوبة.
قوله جل ذكره: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
لا يقع عليهم غبار الحجاب، وبعكسه حديث الكفار حيث قال: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» .
__________
(1) (المعرفة بالوصف) احتراز هام جدا، حتى لا يظن أن (العيان) يستشرف من (الذات) الصمدية، وإنما يقتصر الأمر على (عرفان الأوصاف) الإلهية كالجلال والجمال والكرم.. إلى آخره.
(2) قال صلى الله عليه وسلم: «خير العمل أدومه وإن قل» .
(3) (التأبيد) معناه إلى الأبد فهم فى الجنة خالدون أبدا، وستأتى لفظة (التأبيد) فى العقوبة أيضا بعد قليل. [.....](2/91)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
«والذّلة» التي لا تصيبهم أي لا يردّوا من غير شهود إلى رؤية غيره، فهم فيها خالدون فى فنون أفضالهم، وفى جميع أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 27]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
والذين كسبوا السيئات وعملوا الزّلات لهم جزاء سيئة مثلها، والباء فى «بِمِثْلِها» :
صلة أي للواحد واحد.
«وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» : هو تأبيد العقوبة.
«ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» أي ما لهم من عذابه من عاصم، سيموا ذلّ الحجاب، ومنوا بتأبيد العذاب، وأصابهم هو ان البعاد. وآثار الحجاب على وجوههم لائحة فإنّ الأسرّة تدلّ على السريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 29]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29)
يجمع بين الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله، فتقول الأصنام: ما أمرناكم بعبادتنا. فيدعون على الشياطين التي أطاعوها، وعلى الأصنام التي أمرتهم أن يعبدوها، وتقول الأصنام: كفى بالله شهيدا، على أنّا لم نأمركم بذلك إذ كنّا جمادا. وذلك لأنّ الله يحييها يوم القيامة وينطقها.(2/92)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
وفى الجملة ... يتبرّأ بعضهم من بعض، ويذوق كلّ وبال فعله.
وفائدة هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبال عليهم فاشتغالهم- اليوم- بذلك محال «1» ، ولهم فى المآل- من ذلك- وبال.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 30]
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طعم هوانهم فإذا ردّوا إلى الله لم يجدوا إلا البعد عن الله، والطرد من قبل الله، وذلك جزاء من آثر على الله غير الله. قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 31]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31)
كما توحّد الحقّ- سبحانه- بكونه خالقا تفرّد بكونه رازقا، وكما لا خالق سواه فلا رازق سواه.
ثم الرزق على أقسام: فللأشباح رزق: وهو لقوم توفيق الطاعات، ولآخرين خذلان الزّلات. وللأرواح رزق: وهو لقوم حقائق الوصلة، ولآخرين- فى الدنيا- الغفلة وفى الآخرة العذاب والمهلة.
«أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» : فيكمل بعض الأبصار بالتوحيد، وبعضها يعميها عن التحقيق.
__________
(1) المحال هنا معناها ما عدل به عن وجهه (أنظر هذا المعنى فى الوسيط) .(2/93)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
«وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» : ولكن ظنّا ... لا عن بصيرة، ونطقا ... لا عن تصديق سريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 32]
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
ما يكون من موضوعات الحق، ومتعلقات الإرادة، ومتناولات المشيئة، ومجنّسات التقدير، ومصرّفات القدرة- فهى أشباح خاوية، وأحكام التقدير عليها جارية.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 33]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
سبق لهم الحكم، وصدق فيهم القول فلا لحكمه تحويل ولا لقوله تبديل، فإنّ العلل «1» لا تغيّر الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 34]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
كشف قبيح ما انطوت عليه عقائدهم من عبادتهم ما لا يصحّ منه الخلق والإعادة، وأثبت أن المعبود من منه الخلق والإعادة.
قوم جعلوا له فى الإيجاد شركاء بدعوى القدر، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة.
وكل هذا جنوح إلى الكفر وذهاب عن الدّين.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 35]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
__________
(1) أي- حسب مذهب القشيري- أحكام الله السابقة لا تخضع لعلة، غير أننا لا نستبعد أنها (الحيل) جمع حيلة، فليس بتدبير الإنسان يتغير الحكم السابق فى الأزل.(2/94)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
الحقّ اسم من أسمائه سبحانه، ومعناه أنه موجود، وأنه ذو الحق، وأنه محق الحقّ.
والحقّ من أوصاف الخلق ما حسن فعله وصحّ اعتقاده وجاز النطق به.
«والله يهدى للحق» : أي إلى الحق هدايته. وهداه له وهداه إليه بمعني فمن هداه الحقّ للحقّ وقفه على الحقّ، وعزيز من هداه الحقّ إلى الحقّ للحقّ، فماله نصيب وما له حظ.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 36]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
الظّنّ ينافى اليقين، فإنه ترجيح أحد طرفى الحكم على الآخر من غير قطع.
وأرباب الحقائق على بصيرة وقطع فالظنّ فى أوصاف الحقّ معلول، والقطع- فى أوصاف النّفس- لكل أحد معلول. والعبد يجب أن يكون فى الحال خاليا عن الظن إذ لا يعرف أحد غيب نفسه فى مآله.
وفى صفة الحقّ يجب أن يكون العبد على قطع وبصيرة فالظنّ فى الله معلول، والظن فيما من الله غير محمود. ولا يجوز بوجه من الوجوه أن يكون أهل المعرفة به سبحانه- فيما يعود إلى صفته- على الظن، كيف وقد قال الله تعالى فيما أمر نبيّه- عليه السلام- أن يقول: «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» «1» ؟ وكما قلنا «2» :
طلع الصباح فلات حين سراج ... وأتى اليقين فلات حين حجاج
حصل الذي كنّا نؤمّل نيله ... من عقد ألوية وحلّ رتاج
__________
(1) آية 108 سورة يوسف.
(2) الشعر هنا للقشيرى نفسه كما يستفاد من عبارته.(2/95)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
والبعد قوّض بالدّنو خيامه ... والوصل وكّد سجله بعناج «1»
قد حان عهد للسرور فحيهلا ... لهواجم الأحزان بالإزعاج
قوله جل ذكره.
[سورة يونس (10) : آية 37]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)
انسدّت بصائرهم فلا يزدادون بكثرة سماع القرآن إلا عمّى على عمى، كما أن أهل الحقيقة ما ازدادوا إلا هدى على هدى، فسبحان من جعل سماع خطابه لقوم سبب تحيّرهم، ولآخرين موجب تبصّرهم قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 38]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
كلّت القرائح، وخمدت نيران الفصاحة، واعترف كلّ خطيب مصقع بالعجز عن معارضة هذا الكتاب، فلم يتعرّض لمعارضته إلا من افتضح فى قالته.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 39]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قابلوا الحقّ بالتكذيب لتقاصر علومهم عن التحقيق، فالتحقيق من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب من لوّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصرف عنه دواعى الرّيب.
__________
(1) السجل- الدلو العظيمة، والعناج- حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد) .(2/96)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 40]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
فأمّا الذين آمنوا فهم الذين كحل الحقّ أبصار قلوبهم بنور اليقين، والذين لم يؤمنوا فهم الذين وسم قلوبهم بالعمى فزلّوا- بالضلالة- عن الهدى.. تلك سنّة الله فى الطائفتين، ولن تجد لسنّة الله تحويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 41]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
برح الخفاء، واستبانت الحقائق، وامتاز «1» الطريقان، فلا المحسن بجرم المسيء معاقب، ولا المسيء بجرم المحسن معاتب، كلّ على حدة بما يعمله وعلى ما يفعله محاسب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 42]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42)
من استمع بتكلفه ازداد فى تخلّفه بزيادة تصرفه، ومن استمع الحقّ بتفضّله- سبحانه- استغنى فى إدراكه عن تعمّله. والحقّ- سبحانه- يسمع أولياءه ما يناجيهم به فى أسرارهم، فإذا سمعوا دعاء الواسطة «2» قابلوه بالقبول لما سبق لهم من استماع الحقّ.
ومن عدم استماع الحقّ إياه من حيث التفهيم لم يزده سماع الخلق إلا جحدا على جحد، ولم يحظ به إلا بعدا على بعد.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 43]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)
من سدّت بصيرته بالغفلة والغيبة لم يزده إدراك البصر إلا حجبة على حجية، ومن
__________
(1) (امتاز) هنا معناها اتضح الفرق بينهما.
(2) المقصود بالواسطة النبي عليه الصلاة والسلام.(2/97)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
لم ينظر إلى الله بالله، ولم يسمع من الله بالله، فقصاراه العمى والصمم، «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» «1» وقال عليه السلام فيما أخبر عن الله: «فى يسمع وبى يبصر» «2» .
وأنشد قائلهم:
تأمّل بعين الحقّ إن كنت ناظرا ... إلى منظر منه إليه يعود
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 44]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
نفى عن نفسه ما يستحيل تقديره فى نعته، وكيف يوصف بالظلم وكلّ ما يتوّهم أن لو فعله كان له ذلك؟ إذ الحقّ حقّه والملك ملكه. ومن لا يصحّ تقدير قبيح منه- أنّى يوصف بالظلم جوازا أو وجوبا؟! قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
الأيام والشهور، والأعوام والدهور بعد مضيها فى حكم اللحظة لمن تفكّر فيها، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها؟ والآتي من الوقت قريب، وكأنّ قدر الماضي من الدهر لم يعهد.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 46]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) .
__________
(1) آية 46 سورة الحج.
(2) «حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها.
- حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة، وأحمد عن عائشه.(2/98)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
معناه أن خبره صدق، ووعده ووعيده حق و، بعد النّشرح حشر، وفى ذلك الوقت مطالبة وحساب، ثم على الأعمال ثواب وعقاب، وما أسرع ما يكون المعلوم مشاهدا موجودا! قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 47]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)
لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرعا من حكم، ولم يخل حكما مما يعقبه من ثواب وعقاب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 48]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)
الاستعجال بهجوم الموعود من أمارات أصحاب التكذيب، فأمّا أهل التحقيق فليس لهم لوارد يرد عليهم اشتغال قبل وجوده، أو استعجال على حين كونه، ولا إذا ورد استقبال لما تضمنه حكمه فهم مطروحون فى أسر الحكم، لا يتحرك منهم- باختيارهم- عرق.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 49]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
المملوك متى يكون له ملك؟! وإذا كان سيّد البرايا- عليه الصلاة والسلام- لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا..
فمن نزلت رتبته، وتقاصرت حالته متى يملك ذرة أو تكون باختياره وإيثاره شمة؟
طاح الذي لم يكن «1» - فى التحقيق، وتفرّد الجبار بنعت الملكوت.
__________
(1) (الذي لم يكن) يقصد بها الحادث من إنسان وحيوان وعين وأثر.. إلخ.(2/99)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 50]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
من عرف كمال القدرة لم يأمن فجأة الأخذ بالشدة، ومن خاف البيات لم يستلذ السّبات.
ويقال من توسّد الغفلة أيقظته فجاءة العقوبة، ومن استوطن مركب الزّلّه عثر فى وهدة المحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 51]
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
بعد انتهاك ستر الغيب لا يقبل تضرع المعاذير.
ويقال لا حجّة بعد إزاحة العلة، ولا عذر بعد وضوح الحجة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 52]
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
لا تكلف نفس إلا تجرع ما منه سقت، ولا يحصد زارع غلّة إلا ما منه زرع، وفى معناه قالوا:
سننت فينا سننا ... قذف البلايا عقبه
يصبر على أهوالها ... من برّ يوما ربّه «1»
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 53]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
صرّح بالإخبار عند استخبارهم، وأعلم بما يزيل الشّبهة عمّا التبس على جهّالهم، وأكّد إخبارك بما تذكره من القسم واليمين، مضافا ذلك إلى ما تسلفه من التّبيين. على أنه لا ينفعهم
__________
(1) الشطر الثاني من هذا البيت مطموس غير واضح، ولكننا أكملناه حسبما ورد النص فى موضع سبق.(2/100)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
نصحك، ولا يؤثّر فيهم وعظك.. كيف لا؟ وقد جرّعوا شراب الحجبة، ووسموا بكىّ الفرقة فلا بصيرة لهم ولا ( ... ) «1» ولا فهم ولا حصافة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 54]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)
لا يقبل منهم عدل ولا سرف «2» ، ولا يحصل فيما سبق لهم من الوعيد خلف.
ولا ندامة تنفعهم وإن صدقوها، ولا كرامة تنالهم وإن طلبوها، ولا ظلم يجرى عليهم ولا حيف، كلا ... بل هو الله العدل فى قضائه، الفرد فى علائه بنعت كبريائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 55]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)
الحادثات بأسرها لله ملكا، وبه ظهورا، ومنه ابتداء، وإليه انتهاء فقوله حقّ، ووعده صدق، وأمره حتم، وقضاؤه بات. وهو العلىّ، وعلى ما يشاء قوى.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 56]
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
يحيى القلوب بأنوار المشاهدة، ويميت النفوس بأنواع المجاهدة، فنفوس العابدين تلفها فنون المجاهدات، وقلوب العارفين شرفها عيون المشاهدات.
ويقال يحيى من أقبل عليه، ويميت من أعرض عنه.
ويقال يحيى قلوب قوم بجميل الرجاء، ويميت قلوب قوم بوسم القنوط.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 57]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
__________
(1) مشتبهة.
(2) السرف هنا معناها مجاوزة الحد.(2/101)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
الموعظة للكافة.. ولكنها لا تنجع في أقوام، وتنفع فى آخرين فمن أصغى إليها بسمع سرّه اتضح نور التحقيق فى قلبه، ومن استمع إليها بنعت غيبته ما اتصف إلا بدوام حجبته.
ويقال الموعظة لأرباب الغيبة ليئوبوا، والشّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا.
ويقال «الموعظة» : للعوام، «والشفاء» : للخواص، «والهدى» لخاص الخاص، «والرحمة» لجميعهم، وبرحمته وصلوا إلى ذلك.
ويقال شفاء كلّ أحد على حسب دائه، فشفاء المذنبين بوجود الرحمة، وشفاء المطيعين بوجود النعمة «1» ، وشفاء العارفين بوجود القربة، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة.
ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات، وشفاء العارفين بالقرب والمناجاة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 58]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
«الفضل» : الإحسان الذي ليس بواجب على فاعله، «والرحمة» إرادة النعمة وقيل هى النعمة.
والإحسان على أقسام وكذلك النعمة، ونعم الله أكثر من أن تحصى.
ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات، والرحمة ما أزاح عنهم من الآفات.
ويقال فضل الله ما أكرمهم من إجراء الطاعات، ورحمته ما عصمهم به من ارتكاب الزّلات. ويقال فضل الله دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق.
__________
(1) نعلم من مذهب القشيري أن (الرحمة) من أوصاف الذات، و (النعمة) من أوصاف الفعل..
فتامل كيف يرتبط مصير (المذنبين) بوصف من أوصاف ذاته، ولاحظ كيف يفتح الصوفية بذلك أبواب الأمل أمام التائبين. [.....](2/102)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ويقال فضل الله ما يخصّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه، ورحمته ما يخصّ به أهل الزلّات من وجوه غفرانه.
ويقال فضل الله الرؤية، ورحمته إبقاؤهم فى حالة الرؤية.
ويقال فضل الله المعرفة فى البداية، ورحمته المغفرة فى النهاية.
ويقال فضل الله أن أقامك بشهود الطلب، ورحمته أن أشهدك حقّه بحكم البيان إلى أن تراه غدا بكشف العيان.
قوله: «فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» أي بما أهّلهم له، لا بما يتكلّفون من حركاتهم وسكناتهم، أو يصلون إليه بنوع من تكلفهم وتعملهم. «هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» : أي ما تتحفون به من الأحوال الزاكية خير ممّا تجمعون من الأموال الوافية.
ويقال الذي لك منه- فى سابق القسمة- خير مما تتكلّفه من صنوف الطاعة والخدمة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 59]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
يعنّفهم ويقرّعهم «1» على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم، ويظهر كذبهم فيما تقوّلوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 60]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب.
__________
(1) قرع فلانا أي أوجعه باللوم والعتاب (المحيط)(2/103)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
ثم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» فى إمهال من أجرم، والعصمة لمن لم يجرم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
خوّفهم بما عرفهم من اطلاعه عليهم فى جميع أحوالهم، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم. والعلم بأنه يراهم يوجب استحياءهم منه، وهذه حال المراقبة، والعبد إذا علم أن مولاه يراه استحيى منه، وترك متابعة هواه، ولا يحوّم حول ما نهاه، وفى معناه أنشدوا:
كأنّ رقيبا منك حال بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا
وأنشدوا:
أعاتب عنك النّفس فى كلّ خصلة ... تعاتبنى فيها وأنت مقيم
«وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» : وكيف يخفى ذلك عليه، أو يتقاصر علمه عنه، وهو منشئه وموجده؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة، وإنما قال: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» :
ردّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم فى الامتناع عمّا نهوا عنه- برؤيته وعلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 62]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
الولىّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل، وهو من توالت طاعاته، من غير أن يتخللها عصيان.
ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول فيكون الولىّ من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله، ويكون بمعنى كونه محفوظا فى عامة أحواله من المحن.(2/104)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
وأشدّ المحن ارتكاب المعاصي فيعصمه الحقّ- سبحانه- على دوام أوقاته من الزّلّات.
وكما أن النبيّ لا يكون إلا معصوما فالولىّ لا يكون إلا محفوظا.
والفرق بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يلمّ بذنب البتّة، والمحفوظ قد تحصل منه هنات، وقد يكون له- فى الندرة- زلّات، ولكن لا يكون له إصرار: «أولئك الذين يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» «1» .
قوله جل ذكره: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
حسن ما قيل إنه «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» : فى الدنيا، «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» : فى العاقبة.
ولكن الأولى أن يقال إنّ الخواص منهم لا خوف عليهم فى الحال- لأنّ حقيقة الخوف توقّع محذور فى المستقبل، أو ترقّب محبوب يزول فى المستأنف.. وهم بحكم الوقت ليس لهم تطلّع إلى المستقبل. والحزن هو أن تنالهم حزونة فى الحال، وهم فى روح الرضا بكلّ ما يجرى فلا تكون لهم حزونة الوقت. فالولىّ لا خوف عليه فى الوقت، ولا له حزن بحال، فهو بحكم الوقت.
ولا يكون وليّا إلا إذا كان موفّقا لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصوما بكل وجه عن جميع الزلات. وكلّ خصلة حميدة يمكن أن يعتبر بها فيقال هى صفة الأولياء. ويقال الولىّ من فيه هذه الخصلة.
ويقال الولىّ من لا يقصّر فى حقّ الحق، ولا يؤخرّ القيام بحق الخلق يطيع لا لخوف عقاب، ولا على ملاحظة حسن مآب، أو تطلع لعاجل اقتراب، ويقضى لكلّ أحد حقا يراه واجبا، ولا يقتضى من أحد حقّا له، ولا ينتقم، ولا ينتصف «2» ولا يشمت ولا يحقد، ولا يقلد أحدا منة، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قدرا ولا قيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 63]
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)
هذه صفة الأولياء آمنوا فى الحال، واتقوا الشرك فى المآل. ويقال «آمَنُوا» أي قاموا
__________
(1) آية 17 سورة النساء.
(2) أي إذا أساء إليه أحد لم يطلب من مخلوق إنصافا، وإنما عفا وتساهل، تاركا الأمر لله.(2/105)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
بقلوبهم من حيث المعارف. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» : استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف.
ويقال «آمَنُوا» بتلقى التعريف. «واتقوا» : بالتقوى عن المحرمات بالتكليف.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 64]
لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
القيام بالأمر يدل على الصحة فإذا قاموا بما أمروا به، واستقاموا بترك ما زجروا عنه بشّرتهم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام، وبشّرتهم الحقيقة باستيجاب الإكرام، بما كوشفوا به من الإعلام.. وهذه هى البشرى فى عاجلهم. وأما البشرى فى آجلهم: فالحقّ- سبحانه- يتولّى ذلك التعريف، قال تعالى: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ» «1» ويقال البشارة العظمى ما يجدون فى قلوبهم من ظفرهم بنفوسهم بسقوط مآربهم، وأىّ ملك أتمّ من سقوط المآرب، والرضا بالكائن «2» ؟ هذه هى النعمة العظمى، ووجدان هذه الحالة هو البشرى الكبرى.
ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي لخلق أنّ التي للخلق عدّة «3» بالجميل، والذي لهم نقد ومحصول.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 65]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
العبد ما دام متفرقا يضيق صدره ويستوحش قلبه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفار ما تتقدّس عنه صفة الحقّ، فإن صار عارفا زالت عنه تلك الصفة لتحققه بأنّ الحقّ سبحانه وراء كلّ طاعة وزلّة، فلا له- سبحانه- من هذا استيحاش، ولا بذلك استئناس.
__________
(1) آية 21 سورة التوبة.
(2) الكائن هنا معناها الواقع، فلا يتطلعون إلى زيادة أو تغيير.
(3) عدة- وعد، وتذكر ما قلناه فى هامش سابق عن الوعد والنقد.(2/106)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
ثم يتحقق العارف بأنّ المجرى لطاعة أرباب الوفاق- الله، والمنشئ لأحوال أهل الشّقاق- الله. لا يبالى الحقّ بما يجرى ولا يبالى العبد بشهود ما يجرى، كما قيل:
بنو حقّ قضوا بالحقّ صرفا ... فنعت الخلق فيهم مستعار
قوله جل ذكره
[سورة يونس (10) : آية 66]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
لله من فى السماوات ومن فى الأرض ملكا، ويبدى عليهم ما يريد حكما جزما فلا لقبوله علّة، ولا موجب لردّه زلّة، كلا ... إنها أحكام سابقة، لم توجبها أجرام لاحقة، ولا طاعات وعبادت صادقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 67]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
الليل لأهل الغفلة بعد وغيبة، ولأهل الندم «1» توبة وأوبة، وللمحبين زلفة وقربة فالليل بصورته غير مؤنس، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل:
وكم لظلام الليل عندى من يد «2» تخبّر أن المانوية تكذب قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 69]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69)
__________
(1) وردت (القوم) وهى خطأ فى النسخ إذ لا معني لها هنا والمناسب (الندم) .
(2) وردت (مزيد) وهى خطأ في النسخ.(2/107)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
الولد بعض الوالد، والصمدية تجلّ عن البعضية، فنزّه الله نفسه عن ذلك بقوله «سُبْحانَهُ» .
ثم إنه لم يعجّل لهم العقوبة- مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك- تنبيها على طريق الحكمة لعباده.
ولا تجوز فى وصفه الولادة لتوحّده، فلا قسيم له، ولا يجوز فى نعته التبنّي أيضا لتفرّده وأنه لا شبيه له.
قوله: «هُوَ الْغَنِيُّ» : الغني نفى الحاجة، وشهوة المباشرة حاجة، ويتعالى عنها سبحانه.
قوله جل ذكره
[سورة يونس (10) : آية 70]
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
ليس لهم بما هم فيه استمتاع، إنما هى أيام قليلة ثم تتبعها آلام طويلة، فلا قدم لهم بعد ذلك ترفع، ولا ندم ينفع.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 71]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71)
أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيّه- صلى الله عليه وسلم- لما كان يمسّه من مقاساة الشّدّة من قومه، فإنّ أيام نوح- وإن طالت- فما لبثت كثيرا إلا وقد زالت، كما قيل:
وأحسن شىء في النوائب أنها ... إذا هى نابت لم تكن خلدا
ثم بيّن أنه كان يتوكل على ربّه مهما فعلوا. ولم يحتشم عبد- ما وثق بربّه- من كلّ ما نزل به ثم إن نوحا- عليه السلام- قال: إنى توكلت على الله، وهذا عين التفرقة،(2/108)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ» «1» وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 72]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
إذا كان عمله لله لم يطلب الأجر عليه من غير الله، وهكذا سنّته فى جميع أولياء الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 73]
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
أغرق قومه بأمواج القطرة، وفى الحقيقة أغرقهم بأمواج الأحكام والقدرة، وحفظ نوحا- عليه السلام- وقومه فى السفينة، وفى الحقيقة نجّاهم فى سفينة السلامة. كان نوح فى سابق حكمه من المحروسين، وكان قومه فى قديم قضائه من جملة المغرقين، فجرت الأحوال على ما جرت به القسمة فى الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 74 الى 75]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
__________
(1) آية 64 سورة الأنفال(2/109)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
قصّ عليه- صلوات الله عليه وسلامه- أنباء الأولين، وشرح له جميع أحوال الغابرين، ثم فضّله على كافتهم أجمعين، فكانوا نجوما وهو البدر، وكانوا أنهارا وهو البحر، ثم به انتظم عقدهم، وبنوره أشرق نهارهم، وبظهوره ختم عددهم «1» ، كما قيل:
يوم وحسب الدهر من أجله ... حيّا غد والتفت الأمس
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 76]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
ما زادهم الحقّ سبحانه بيانا إلا ازدادوا طغيانا، وذلك أنه تعالى أجرى سنّته فى المردودين عن معرفته أنه لا يزيد فى الحجج هدى إلا ويزيد فى قلوبهم عمّى، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
«يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» : نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعما غير ما ذاقوا، وكذا صفة من أقصته السوابق، وردّته المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 78]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا، واستحبّوا استدامة ما عليه كانوا ... فلحقهم شؤم العقيدة وسوء الطريقة حتى توهموا أن الأنبياء عليهم السلام إنما دعوهم إلى الله لتكون لهم الكبرياء على عباد الله، ولم يعلموا أنهم إنما دعوهم إلى الله بأمر الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 79]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79)
لما استعان فى استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيرا حتى تبرّأ منهم وتوعّدهم
__________
(1) قارن ذلك بما يقوله الحلاج فى طواسينه وبما يقوله أصحاب «نظرية الإنسان الكامل» عن الحقيقة المحمدية لتلحظ مدى اعتدال هذا الامام السنى المتحفظ فى نظرته لشخصية الرسول عليه صلاة الله وسلامه.(2/110)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
بقوله: لأفعلنّ ولأصنعنّ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت فى غير الله فإنها تئول إلى العداوة والبغضة، قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 80 الى 81]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
أمرهم أمرا يظهر به بطلانهم ليدخل الحقّ على ما أتوا به من التمويه، فلذلك قال موسى عليه السلام: «إن الله سيبطله» فلمّا التقمت عصا موسى- جميع ما جاءوا به من حبالهم وعصيّهم- حين قلبها الله حيّة.. علموا أنّ الله أبطل تلك الأعيان وأفناها.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 82]
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
من جملة ما أحقّه أن السّحرة كان عندهم أنهم ينصرون فرعون ويجيبونه فكانوا يقسمون بعزّته حيث قالوا «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» وقال الحقّ اغض سبحانه.
بعزتي إنكم لمغلوبون، فكان على ما قال تعالى دون ما قالوه، وفى معناه قالوا:
كم رمتني بأسهم صائبات ... وتعمّدتها بسهم فطاشا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 83]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
أهل الحقيقة فى كل وقت قليل عددهم، كبير عند الله خطرهم.
__________
(1) آية 67 سورة الزخرف.(2/111)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 84]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
بيّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال.. بل لا بد فيه من صدق الأحوال قصدا.
وحقيقة التوكل توسّل تقديمه متّصل، ثم يعلم أنه بفضله- سبحانه- تحصل نجاته، لا بما يأتى به من التكلّف- هذه هى حقيقة التوكل «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 85 الى 86]
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)
تبرأنا مما منّا من الحول والمنّة، وتحققنا بما منك من الطول والمنّة.
فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك فى عقوبتك بانتقامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم، وبكىّ فراقك وسمتهم قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
مهّد إليهم لعبادتنا محالّ وهى نفوسهم، ولمعارفنا منازل وهى قلوبهم، ولمحبتنا مواضع وهى أرواحهم، ولمشاهدتنا معاهد وهى أسرارهم فنفوس العابدين بيوت الخدمة، وقلوب العارفين أوطان الحشمة، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة، وأسرار الموحدين منازل الهيبة «2» قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 88]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)
__________
(1) أي يفنى عن التوكل برؤية الوكيل.. كما يقول إبراهيم الخواص (ت 291)
(2) هذه الفقرة هامة فى توضيح الملكات الباطنية وترتيبها ووظائفها فى المعراج الروحي- فى مذهب هذا الصوفي.(2/112)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
لما يئس من إجابتهم حين دعاهم إلى الله دعا عليهم بإنزال السّخطة وإذاقة الفرقة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء- عليهم السلام- من حقهم العصمة، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قبل الله تعالى فى الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 89]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
الاستقامة فى الدعاء ترك الاستعجال فى حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا بوجدان السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بحسن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب ويقال ينبغى للعبد أن يسقلّ بالله «1» ما أمكنه، فعند هذا يقلّ دعاؤه. ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب- فى جوازه- فالواجب ألا يستعجل، وأن يكون ساكن الجأش.
ويقال من شرط الدعاء صدق الافتقار فى الابتداء، ثم حسن الانتظار فى الانتهاء، وكمال هذا الرضاء بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار.
ويقال الاستقامة فى الدعاء سقوط التقاضي «2» على الغيب، والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة، وجميل الظّن.
ويقال فى الآية تنبيه على أنّ للأمور آجالا معلومة، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم فى الوقت المعلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 90]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
__________
(1) الاستقلال بالله الاكتفاء به وعدم النظر إلى النفس أو الأغيار. [.....]
(2) التقاضي على الغيب معناه النظر إلى ما يأتى من الغيب بعين التقليل أو التكثير، البطء أو السرعة..
ففى ذلك إقحام لحظوظ النفس فى حقوق الحق.(2/113)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
حملت العزّة فرعون على تقحم البحر على إثرهم، فلمّا تحقّق الهلاك حملته ضرورة الحيلة على الاستعاذة، فلم ينفعه ذلك لفوات وقت الاختيار.
ويقال لما شهد صولة التقدير أفاق من سكر الغلطة «1» ، لكن: «بعد شهود البأس لا ينفع التخاشع والابتئاس» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 91]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
... أبعد طول الإمهال، والإصرار على ذميم الأفعال، والرّكض فى ميدان الاغترار، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجبت أن تردّ فى وجهك، فلا لعذرك قبول، ولا لك إلى ما ترومه وصول.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 92]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
لنشهرنّ تعذيبك، ونظهرنّ- لمن استبصر- تأديبك، لتكون لمن خلفك عبرة، وتزداد حين أفقت أسفا وحسرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
__________
(1) تصح أن تكون كذلك، وتصح أن تكون (الغلظة) بالظاء، وهى قسوة القلب من الكفر والعناد، ولا نستبعد أيضا أن تكون: أفاق من سكر (الغفلة) .(2/114)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
أذللنا لهم الأيام، وأكثرنا لديهم الإنعام، وأكرمنا لهم المقام، وأتحنا لهم فنون الحسنات، وأدمنا لهم جميع الخيرات ... فلمّا قابلوا النعمة بالكفران، وأصرّوا على البغي والعدوان أذقناهم سوء العذاب، وسددنا عليهم أبواب ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب، وذلك جزاء من حاد عن طريق الوفاق، وجنح إلى جانب الشّقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 94]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94)
ما شكّ- صلى الله عليه وسلم- فيما عليه أنزل، ولا عن أحد منهم ساءل، وإنما هذا الخطاب على جهة التهويل، والمقصود منه تنبيه القوم على ملازمة نهج السبيل.
ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار.
ويقال فإن تنزّلت منزلة أهل الأدب فى ترك الملاحظات فسل عمّن أرسلنا قبلك فهل بلّغنا أحدا منزلتك؟ وهل خصصنا أحدا بمثل تخصيصك؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 95]
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)
ما كان منهيا عنه، وكان قبيحا فبالشرع كان قبيحا، فلا بد من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة. وإنما لم يجز فى صفته- صلى الله عليه وسلم- التكذيب بآيات الله لأنه نهى عنه لا لكونه قبيحا بالعقل «1» حتى يقال كيف نهى عنه وكان ذلك بعيدا منه؟
__________
(1) يغمز القشيري هنا بقول المعتزلة: إن القبيح ما رآه العقل قبيحا والحسن ما رآه العقل حسنا، ويرى القشيري التعويل على الشرع فى هذا الخصوص- كما هو واضح من إشارته.(2/115)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
فالأعداء حقّت عليهم كلمة بالعقاب، والأولياء حقت عليهم كلمة بالثواب فالكلمة أزليّة، والأحكام سابقة، والأفعال فى المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة، فالذين نصيبهم من القسمة الشقوة لا يؤمنون وإن شاهدوا كل دلالة، وعاينوا كل معجزة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 98]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
قوم يونس تداركتهم الرحمة الأزلية فيما أجرى عليهم من توفيق التضرع، فكشف عنهم العذاب، وصرف عنهم ما أظلّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 99]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
كيف يتعصى عليه سبحانه مراد- والذي يبقى شىء عن مراده ساه أو مغلوب؟ والذي يستحق جلال العزّة لا يفوته مطلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 100]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) .
__________
(1) أي أن عمل الإنسان لا يكفى وحده للوصول إلا إذا ارتبط بتوفيق الله وفضله.(2/116)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
لا يمكن حمل «1» الإذن فى هذه الآية إلا على معنى المشيئة لأنه للكافة بالإيمان، والذي هو مأمور بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه. ولا يجوز حمل هذه الآية على معنى أنه لا يؤمن أحد إلا إذا ألجأه الحقّ إلى الإيمان واضطره- لأنّ موجب ذلك ألا يكون أحد فى العالم مؤمنا بالاختبار، وذلك خطأ، فدلّ على أنه أراد به إلا أن يشاء الله أن يؤمن هو طوعا. ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحد أن يؤمن طوعا ثم لا يؤمن لأنه يبطل فائدة الآية، فصحّ قول أهل السّنّة بأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 101]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)
الأدلة- وإن كانت ظاهرة- فما تغنى إذا كانت البصائر مسدودة، كما أن الشموس- وإن كانت طالعة- فما تغنى إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 102]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
تمنّي ألطاف أنوار الحقيقة تعنّ فى تسويل، واستناد إلى غير تحصيل، وتماد فى تضليل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 103]
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى: «عَلَيْنا» هاهنا معناها «منا» ،
__________
(1) وردت (حول) وهى خطا فى النسخ.
(2) هذا نموذج طيب لموقف القشيري متكلما سنيا- بالنسبة لقضية اختيار الإنسان.(2/117)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
فلا شىء يجب على الله لكونه إلها ملكا، فيجب الشيء من الله- لصدقه- ولا يجب عليه- لعزّته «1» .
وكما لا يجوز أن يدخل نبى من الأنبياء- عليهم السلام- فى النار لا يجوز أن يخلّد واحد من المؤمنين فى النار لأنه أخبر أنه ينّجى الرسل والمؤمنين جميعا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 104]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
إن كنتم فى غطاء الرّيب فأنا فى ضياء من الغيب، إن كنتم فى ظلمة الجهل فأنا فى شموس الوصل، إن كنتم فى سدفة الضّلالة فأنا فى خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة.
ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق: فأنتم وقعتم فى وهدة العوج، وأنا ثابت على سواء «2» النّهج.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 105]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
أي أخلص قلبك للدّين، وجرّد قلبك عن إثبات كلّ ما لحقه قهر التكوين، وكن مائلا عن الزيغ والبدع، داخلا فى جملة من أخلص فى الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 106]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
__________
(1) تأمل هذا التخريج حتى ينسجم مذهبه الكلامى مع ظاهر النص القرآنى.
(2) وردت (سوء) وهى خطأ فى النسخ.(2/118)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
لا تعبد ما لا تنفعك عبادته ولا تضرّك عبادته، وتلك صفة كل ما يعبد من دون الله.
واستعانة الخلق بالخلق تمحيق للوقت بلا طائل فمن لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا كيف يستعين به من هو فى مثل حاله؟ وإذا انضاف الضعيف إلى الضعيف ازداد الضعف.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 107]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
كما تفرّد بإبداع الضرّ واختراعه فلا شريك يعضّده.. كذلك توحّد بكشف الضرّ وصرفه فلا نصير ينجده.
ويقال هوّن على المؤمن الضرّ بقوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» حيث أضافه إلى نفسه، والحنظل يستلذّ من كفّ من تحبه.
وفرّق بين الضرّ والخير بإضافة الضرّ إليه فقال: وإن يمسسك الله بضرّ، ولم يقل:
وإن يردك بضر- وإن كان ذلك الضرّ صادرا عن إرادته- وفى ذلك من حيث اللفظ دقّة.
ويقال: عذب الضرّ حيث كان نفعه فلمّا أوجب مقاساة الضّرّ من الحرب أبدل مكانه السرور والطّرب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 108]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
من استبصر ربح رشد نفسه، ومن ضلّ فقد زاغ عن قصده فهذا بلاء اكتسب، وذلك ضياء وشفاء اجتلب.(2/119)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (10) : آية 109]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
قف عند جريان أحكامنا، وانسلخ عن مرادك بالكلية، ليجرى عليك ما يريد، والله أعلم بالصواب.
السورة التي يذكر فيها هود عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه كلمة استولت على عقول قوم فبصّرتها، وعلى قلوب آخرين فجّردتها، فالتى بصّرتها فبنور برهانه، والتي جرّدتها فبقهر سلطانه.. فعالم سلك سبيل بحثه واستدلاله فسكن لمّا طلعت نجوم عقله تحت ظلال إقباله، وعارف تعرّض إلى وصاله فطاح لمّا لاحت لمعة ممن تقدّس بالإعلام باستحقاق جلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
الألف إشارة إلى انفراده بالربوبية.
واللام إشارة إلى لطفه بأهل التوحيد.
والراء إشارة إلى رحمته بكافة البريّة.
وهى فى معنى القسم: أي أقسم بانفرادى بالربوبية ولطفى بمن عرفنى بالأحدية، ورحمتى على كافة البرية- إنّ هذا الكتاب أحكمت آياته.
ومعنى «أُحْكِمَتْ آياتُهُ» : أي حفظت عن التبديل والتغيير، ثم فصّلت ببيان نعوت الحقّ فيما يتصف به من جلال الصمدية، وتعبّد به الخلق من أحكام العبودية، ثم مالاح لقلوب الموحّدين والمحبين من لطائف القربة، فى عاجلهم البشرى بما وعدهم به من عزيز لقائه فى آجلهم، وخصائصهم التي امتازوا بها عمّن سواهم.(2/120)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 2]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
أي فصلت آياته بألا تعبدوا إلا الله.
ويقال معناه فى هذا الكتاب ألا تعبدوا إلا الله، إنى لكم منه «نَذِيرٌ» مبين بالفرقة، «وَبَشِيرٌ» بدوام الوصلة، (فالفرقة بل فى عاجله واحدا) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 3]
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
استغفروا ربّكم أولا ثم توبوا إليه بعده.
والاستغفار طلب المغفرة، يعنى قبل أن تتوبوا اطلبوا منه المغفرة بحسن النّظرة، وحمل الرجاء والثقة بأنه لا يخلّد العاصي فى النار، فلا محالة يخرجه منها.. فابتدئوا باستغفاركم، ثم توبوا بترك أوزاركم، والتنقّى عن إصراركم.
ويقال استغفروا فى الحال مما سلف، ثم إن الممتم بزلّة أخرى فتوبوا.
ويقال استغفروا فى الحال ثم لا تعودوا إلى ارتكاب الزلة فاستديموا التوبة- إلى مآلكم- مما أسلفتم من قبيح أعمالكم.
ويقال «اسْتَغْفِرُوا» : الاستغفار هو التوبة، والتنقى من جميع الذنوب، ثم «تُوبُوا» من توهّم أنكم تجابون بتوبتكم، بل اعلموا أنه يجيبكم بكرمه لا بأعمالكم.
ويقال «الاستغفار» : طلب حظوظكم من عفونا.. فإذا فعلتم هذا فتوبوا عن طلب كل حظ ونصيب، وارجعوا إلينا، واكتفوا بنا، راضين بما تحوزونه من التجاوز عنكم أو غير ذلك مما يخرجكم به.
قوله جل ذكره: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي نعيّشكم عيشا طيبا حسنا مباركا.
ويقال هو إعطاء الكفاية مع زوال الحرص.
ويقال هو القناعة بالموجود.
__________
(1) هذه عبارة إما أنها زائدة نتيجة خطأ فى النسخ، أو أن بها اضطرابا فى الكتابة أفقدها المعنى.(2/121)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
ويقال هو ألا يخرجه إلى مخلوق، ولا يجعل لأحد عليه منّة (لا سيما للئيم «1» ) .
ويقال هو أن يوفقه (لاصطناع المعروف إلى المستحقين.
ويقال هو أن تقضى على يديه) «2» حوائج الناس.
ويقال هو ألا يلمّ فى حال شبابه بزلّة، وألا يتصف بأنه عن الله فى غفلة.
ويقال هو أن يكون راضيا بما يجرى عليه من نوعى العسر و، اليسر.
قوله جل ذكره: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ من زادت حسناته على سيئاته أعطاه جزاء ما فضل له من الطاعات، ومن زادت سيئاته على حسناته كافأه بما يستوجبه من زيادة السيئات ... هذا بيان التفسير.
ويقال من فضّله بحسن توفيقه أوصله إلى ما يستوجبه من لطفه ويزيده..
ويقال هو أن يستر عليه فضله حتى لا يلاحظ حاله ومقامه، بل ينظر إلى نفسه، وما منه وما له.. بعين الاستحقار والاستصغار.
ويقال هو أن يرقيه عن التعريج فى أوطان البشرية إلى طاعات شهود الأحدية، وينقّيه عن (....) «3» البشرية، والتكدر بما يبدو من مفاجآت التقدير.
ويقال هو ألا يوحشه شىء بما يجرى فى الوقت.
ويقال هو أن يحقّق له ما تسموا إليه همّته، ويبلغّه فوق ما يستوجبه محلّه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 4]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
__________
(1) ما بين القوسين فى أعلى الصفحة ومكتوب بخط ردئ جدا.
(2) ما بين القوسين فى هامش الصفحة بخط حسن ومن هذا وذاك يتضح أن النسخة قيض لها أن تراجع بواسطة قارئين مختلفين.
(3) مشتبهة.(2/122)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
تنقطع الدعاوى عند الرجوع إلى الله، وتنتفى الظنون، ويحصل اليأس من غير الله بكل وجه، ويبقى العبد بنعت الاضطرار، والحقّ يجرى عليه ما سبقت به القسمة من أنواع الأقدار.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
أي يسترون ما تنطوى عليه عقائدهم، ويضمرون للرسول- عليه السلام- وللمؤمنين خلاف ما يظهرون، والحقّ- سبحانه- مطّلع على قلوبهم، ويعلم خفايا صدورهم، فتلبيسهم لا يغني عنهم من الله شيئا، وكان الله- سبحانه- يطلع رسوله- عليه السلام- على ما أخفوه إمّا بتعريف الوحى، أو بإشهاد لقوّة نور، وكذلك المؤمنون كانوا مخصوصين بالفراسة، فكل مؤمن له بقدر حاله من الله هداية، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله» «1» ولقد قال قائلهم.
أبعيني أراك أم بفؤادى؟ ... كلّ ما فى الفؤاد للعين باد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 6]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)
أراح القلوب من حيرة التقسيم، والأفكار من نصب التفكير فى باب الرزق حيث قال:
«إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فسكنت القلوب لمّا تحقّقت أنّ الرزق على الله.
ويقال إذا كان الرزق على الله فصاحب الحانوت فى غلط من حسبانه. ثم إن الله سبحانه
__________
(1) رواه الترمذي والطبراني.
ورواه القشيري فى رسالته (ص 115) هكذا: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى قال أخبرنا أحمد ابن على الرازي قال أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال حدثنا عمرو بن قيس عن عطية عن أبى سعيد قال قال رسول الله (ص) : «واتقوا ... »(2/123)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
بيّن أنّ الرزق الذي «عليه» ما حاله فقال: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» ، وما كان فى السماء لا يوجد فى السوق، ولا فى التّطواف فى الغرب والشرق «1» .
ويقال الأرزاق مختلفة فرزق كل حيوان على ما يليق بصفته.
ويقال للنفوس رزق هو غذاء طريقه الخلق، وللقلوب رزق وهو ضياء موجده الحق.
ويقال لم يقل ما يشتهيه أو مقدار ما يكفيه بل هو موكول إلى مشيئته فمن موسّع عليه ومن مقتّر.
قوله جل ذكره: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قيل أراد به أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، أو الدنيا والآخرة. ويقال مستقرّ المريد بباب شيخه كمستقرّ الصبيّ بباب والديه. ويقال مستقر العابدين المساجد، ومستقر العارفين المشاهد، فالمساجد مستقرّ نفوس العابدين، والمشاهد مستقرّ قلوب العارفين.
ويقال مستقرّ المحب رأس سكّة محبوبه لعلّه يشهده عند عبوره.
ويقال المساجد للعابدين مستقرّ القدم، والمشاهد للعارفين مستقرّ الهمم، والفقراء مستقرهم سدّة الكرم.
ويقال الكلّ له مثوى ومستقر، أما الموحّد فإنه لا مأوى له ولا مستقر ولا مثوى ولا منزل.
ويقال النفوس مستودع التوفيق من الله، والقلوب مستودع التحقيق من قبل الله.
ويقال القلوب مستودع المعرفة فالمعرفة وديعة فيها. والأرواح مستودع المحبة فالمحاب ودائع فيها. والأسرار مستودع المشاهدات فالمشاهدات ودائع فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 7]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
__________
(1) قد يبدو للوهلة الأولى أن كلام القشيري لا ينتظم مع قوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» ولكن الواقع أنه يقصد بذلك رزق السرائر لا رزق الظواهر. [.....](2/124)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
وأحسن الأعمال موافقة الأمر، ولم يقل أكثر عملا.
ويقال أحسن الأعمال ما كان صاحبه أشدّ إخلاصا فيه.
ويقال أحسنهم عملا أبعدهم عن ملاحظة أعماله.
ويقال أحسن الأعمال ما ينظر إليه صاحبه بعين الاستصغار.
ويقال أحسن الأعمال ما لا يطلب صاحبه عليه عوضا.
ويقال أحسن الأعمال ما غاب عنه صاحبه لاستغراقه فى شهود المعبود.
قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» الابتلاء من قبله تعريف الملائكة حال من يبتليه فى الشكر عند اليسر والصبر عند العسر.
قوله جل ذكره: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ استبعدوا النّشر لتقاصر علومهم عن التحقّق بكمال قدرة الحق، ولو عرفوا ذلك لأيقنوا أن البعث ليس بمعتاص فى الإيجاد ولا بمستحيل فى التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 8]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
يقول: إنّ أمهلنا، وأخّرنا عليهم العذاب لا يرعوون، بل يستعجلون العقوبة. ولئن عجّلنا لهم العقوبة لا يتوبون ولا يستغفرون ... استولى عليهم الجهل فى الحالين، وعميت بصائرهم عن شهود التقدير والإيمان بالغيب فى النوعين. ويوم يأتيهم العذاب فلا مناص ولا منجاة ولا مراح لهم منه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 9]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)(2/125)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
تكدّر ما صفا من النّعم، وتغيّر ما أتيح من الإحسان والمنن حال معهودة وخطّة عامة، فلا أحد إلا وله منها خطّة «1» فمن لم يرجع بالتأسّف قلبه، ولم يتضاعف فى كل نفس تلهفه وكربه ففى ديوان النسيان، وأثبت اسمه فى جملة أهل الهجران. ومن استمسك بعروة التضرع، واعتكف بعقوة التذلل، احتسى كاسات الحسرة عللا بعد نهل طاعته للحق بنعت الرحمة، وجدّد له ما اندرس من أحوال القربة، وأطلع عليه شمس الإقبال بعد الأفول والغيبة، كما قيل
تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ ... وأشرق نور الصبح فى ظلمة الغيب
وليس للأحوال الدنيوية خطر فى التحقيق، ولا يعدّ زوالها وتكدرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنّ المحنة الكبرى والرزية العظمى ذبول غصن الوصال وتكدر مشرب القرب، وأفول شوارق الأنس، ورمد بصائر أرباب الشهود ... فعند ذلك تقوم قيامتهم، وهناك تسكب العبرات. ويقال إذا نعق فى ساحات هؤلاء غراب البين ارتفع إلى السماء نواح أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون من نحييهم ما قلت.
قولا لمن سلب الفؤاد فراقه ... ولقد عهدنا أن يباح عتاقه
بعد الفراق ... فبالذى هو بينا ... هلّا رحمتم من دنا إزهاقه؟
عهدى بمن جحد الهوى أزمان ك ... نّا بالصبابة- لا يضيق نطاقه.
والآن مذ بخل الزمان بوصلنا ... ضاق البسيطة. حين دام فراقه.
هل ترتجى من وصل عزّك رجعة ... تحنو على قمر يذوم محاقه؟
إن كان ذاك كما تروم فأخبروا ... أنّى له أن يعود شروقه «2» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 10]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
__________
(1) (الخطة) بضم الخاء الأمر والحالة، و (والخطة) بكسر الخاء ما يختطه الإنسان لنفسه من قدر معلوم من الأرض ونحوها.
(2) الأبيات فى هذا النص وصلتنا مضطربة الوزن سيئة الخط. مطموسة الكلمات فى كثير من المواضع وقد تدخلنا فيها بقدر يسمح بإظهار المعنى وتناسق السياق.(2/126)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
إذا كشفنا الضرّ عنهم رحمة منّا عادوا إلى تهتكهم بدلا من أن يتقربوا إلينا، وأساءوا يخلع عذارهم بدل أن يقوموا بشكرنا، وكلما أتحنا لهم من إمهالنا أمنوا لمكرنا، ولم يخافوا أن نأخذهم فجأة بقهرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 11]
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
الإنسان فى الآية السابقة اسم جنس.
وإلا للاستثناء منه، وقيل بمعنى «لكن» ، يريد إذا أذقناهم نعمة بعد الشدة بطروا، إلا المؤمنين فإنهم بخلاف ذلك، أي لكنّ الذين آمنوا بخلاف ذلك، فإنهم لصبرهم على على ما به أمروا، وعما عنه زجروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزّلات.. فلهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجر على إحسانهم. والفريقان لا يستويان، قال قائلهم.
أحبابنا شتّان واف وناقص ... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 12]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
اقترحوا عليه أن يأتى بكتاب ليس فيه سبّ آلهتهم، وبيّن الله- سبحانه- له ألا يترك تبليغ ما أنزل عليه لأجل كراهتهم، ولا يبدّل ما يوحى إليه.
قوله جل ذكره: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
وهذا على وجه الاستبعاد أي لا يكون منك ترك ما أوحى إليك، ولا يضيق صدرك(2/127)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
بما يبدو من الغيب.. ومن شرح الله بالتوحيد صدره، ونوّر بشهود التقدير سرّه- متى يلحقه ضيق صدر أو استكراه أمر؟ ثم قال: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» :
أي أنت بالإرسال منصوب، وأحكام التقدير عليك مجراة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 13]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)
فى الآية بيان أنّ المكلّف مزاح العلّة لما أقيم له من البرهان وأهّل له من التحقيق.
وأنّ الإيمان بالواسطة- صلى الله عليه وسلم وآله- واجب لما خصّ به من المعجزات التي أوضحها الكتاب المنزل والقرآن المفصّل الذي عجز الكفار عن معارضته.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 14]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
يعنى فإن لم يستجيبوا لكم يعنى إلى الإتيان بمثله- وهم أهل بلاغة- فتحققوا أنه من قبل الله، وليس على سنة التحقيق (....) «1» إنما العمى فى بصائر من ضلّوا عن الحقّ، وتاهوا فى صدفة الحيرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 15]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)
من قنع منهم بدنيا الدناءة صفتها وسّعنا عليه فى الاستمتاع بأيام فيها، ولكن عقب اكتمالها سيرى زوالها، ويذوق بعد غسلها حنظلها.
__________
(1) مشتبهة.(2/128)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أولئك الذين خابت آمالهم، وظهرت لهم- بخلاف ما احتسبوا- آلامهم، حبطت أعمالهم، وحاق بهم سوء حالهم.
قوله جل ذكره
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
فيه إضمار «1» ومعناه أفمن كان على بينة كمن ليس على بينة.. لا يستويان.
والبيّنة لأقوام برهان العلم، ولآخرين بيان الأمر بالقطع والجزم يشهدهم الحقّ مالا يطلع عليه غيرهم، كما قلت:
ليلى من وجهك شمس الضحى ... ... فالناس فى الظلمة من ليلهم
ونحن من وجهك فى الضوء والشاهد
فالذى يتولاه فهو مشاهد، وفى الخبر «أولياء الله الذين إذا أرادوا ذكر الله....» «2» .
قال تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 18]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
__________
(1) إضمار هنا مستعملة لما يسمى فى علم البلاغة بإيجاز الحذف.
(2) سقطت بقية الخبر من الناسخ.(2/129)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
من ادّعى على الله حالا لم يكن متحققا بها فقد افترى على الله كذبا، واستوجب المقت، وعقوبته ألّا يرزق بركة فى أحواله، ثم إنه يكشف للشهداء عيوبه، فيفضحه بين الخلق، والشهداء قلوب الأولياء، ومن شهدت القلوب عليه بالردّ فهو غير مقبول عند الحقّ قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 19]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)
الآية.
هذا من جملة صفات المفترين على الله الكذب، ومن صدّهم عن السبيل أن يظهروا من أنفسهم أحوالا تخلّ بأحكام الشريعة، ولا يرون ذلك كبيرة فى الطريقة، ويوهمون المستضعفين من أهل الاعتراض عليهم أنّ لهم فى ذلك رخصة، فيضلّون ويضلّون. ومن جملة صدّهم عن السبيل تغريرهم بالناس، وإيقاعهم فى الغلط، ويرتفقون بشىء مما فى أيديهم من حطام الدنيا، ولا يستحيون من أخذ شىء لا يستوجبونه بأى وجه حقّ، ويداهنون فى دين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 20 الى 21]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)
الآية.
من هذه صفتهم لا يربحون فى تجارتهم، ولا يلحقون غاية طلبوها فيبقون عن الحق، ولا يبارك لهم فيما اعتاضوا من صحبة الخلق.. خسرت صفقتهم، وبارت بضاعتهم، لقوا الهوان، وذاقوا اليأس والحرمان.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 22]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
لا محالة أنهم فى الآخرة أشدّ خسرانا، وأوفر- من الخيرات- نقصانا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)
الإخبات التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر.(2/130)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 24]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
الآية مثل الكافر فى كفره كالأعمى والأصم، ومثل المؤمن فى إيمانه كالسميع والبصير- هذا بيان التفسير.
والإشارة فيه أن الأعمى من عمى عن الإبصار بسرّه، والأصمّ الذي طرش بسمع قلبه فلا باستدلاله شهد سر تقديره فى أفعاله، ولا بنور فراسة توهم ما وقف عليه من مكاشفات الغيب لقلبه، ولا بسمع القبول استجاب لدواعى الشريعة، ولا بحكم الإنصاف انقاد لما يتوجّب عليه من مطالبات الوقت مما يلوح لسرّه من تلويحات الحقيقة.
وأما البصير فهو الذي يشهد من الحق أفعاله بعلم اليقين، ويشهد صفاته بعين اليقين، ويشهد ذاته بحق اليقين، والغائبات له حضور، والمستورات له كشف. فالذى يسمع فصفته ألا يسمع هواجس النّفس ولا وساوس الشيطان فيسمع من دواعى العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرّا «1» فهؤلاء لا يستويان، ولا فى طريق يلتقيان:
راحت مشرّقة ورحت مغرّبا ... فمتى التقاء مشرّق ومغرّب؟!
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
كان نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا وأشدّهم بلاء، وسمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه.. وسبب ذلك أنه مرّ بكلب فقال: ما أقبحه! فأوحى الله إليه أن اخلق أنت أحسن من هذا. فأخذ يبكى وينوح على نفسه كلّ ذلك النّوح. فكيف بحال من لم يذكر يوما مما مضى من عمره فى مدة تكليفه- ولم يحصل منه لله كثير من ولاية!؟
__________
(1) تفيد هذه الإشارة فى بيان أحكام «السماع» عند الصوفية.(2/131)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 27]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
أنكروا صحة كونه نبيّا لمشاكلته إياهم فى الصورة، ولم يعلموا أن المباينة بالسريرة لا بالصورة.
ثم قال: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» : نظروا إلى أتباعه نظرة استصغار، ونسبوهم إلى قلّة التحصيل.. وما استصغر أحد أحدا من حيث رؤية الفضل عليه إلا سلّط الله عليه، وأذاقه ذلّ صغاره، فبالمعانى يحصل الامتياز لا بالمباني:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفى أثوابه أسد هصور
فإن أك فى شراركم قليلا ... فإنى فى خياركم كثير
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 28]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)
الصّبح لا خلل فى ضيائه لكون الناظرين عميانا، والسيف لا خلل فى مضائه لكون الضاربين صبيانا ... وكيف لبشر من قدرة على هداية من أضلّه الله- ولو كان نبيّا؟ «1» .
هيهات لا ينفع مع الجاهل نصح، ولا ينحح فى المصرّ وعظ!
__________
(1) الأفضل أن تكون (ولو كان نبيا) جملة اعتراضية تلى (لبشر) حتى يستقيم التركيب، ولكننا أثبتنا ما جاء في (ص) .(2/132)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 29]
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
سنّة الأنبياء- عليهم السلام- ألا يطلبوا على رسالتهم أجرا، وألّا يؤملوا لأنفسهم عند الخلق قدرا، وعملهم لله لا يطلبون شيئا من غير الله. فمن سلك من العلماء سبيلهم حشر فى زمرتهم، ومن أخذ على صلاحه من أحد عوضا، أو اكتسب بسداده جاها لم ير من الله إلا هوانا وصغارا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 30]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30)
مجالسة الفقراء اليوم- وهم جلساء الحقّ غدا- أجدى من مجالسة قوم من الأغنياء هم من أهل الردّ.
ومن طرد من قرّبه الله وأدناه استوجب الخزي فى دنياه، والصّغار فى عقباه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 31]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
لا أتخطّى خطّى عما أبلغت مما حملت من رسالتى، ولا أتعدّى ما كلّفت به، ولا أزيد عما أمرت، ولن أخرج عن الذي أنبئوني، بل أنتصب بشاهدى فيما أقامونى.
قوله جل ذكره: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن أولياء الله سبحانه فى أثوابهم ولا يراهم إلا من قاربهم فى معناهم. الله أعلم بأحوالهم، وفى الجملة: طير السماء على ألّافها تقع.(2/133)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 32]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
أوضح لهم من البراهين مالوا أمعنوا النظر فيه لتمّ لهم اليقين، ولكنهم أصروا على الجحود، ولم يقنعوا من الموعود بغير المشهود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 33]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
أقرّ بالعبودية، وتبرّأ عن الحول والقوة، وأحال الأمر على المشيئة. ولقد أنصف من لم يجاوز حدّه فى الدعوى. والأنبياء عليهم السلام- وإن كانوا أصحاب التحدي للناس بمعجزاتهم فهم معترفون بأنهم موقوفون عند حدودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 34]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
من لم يساعده تعريف الحقّ- بما له بحكم العناية- لم ينفعه نصح الخلق فى النهاية.
ويقال من لم يوصّله الحقّ للوصال فى آزاله «1» لم ينفعه نصح الخلق فى حاله ويقال من سبق الحكم له بالضلالة أنّى ينفعه النصح وبسط الدلالة؟
ويقال من لم تساعده قسمة السوابق لم ينفعه نصح الخلائق.
قوله: «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» : من المحال اجتماع الهداية والغواية فإذا أراد الله بقوم الغواية لم يصح أن يقال إنهم من أهل الهداية.
ثم بيّن المعنى فى ذلك بأن قال «هُوَ رَبُّكُمْ» ليعلم العالمون أنّ الربّ تعالى له أن يفعل بعباده ما شاء بحكم الربوبية.
__________
(1) أي بما سبقت به القسمة- حسب تعبير القشيري فى مواضع أخرى.(2/134)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 35]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
ومهما وصفتمونى فإنى أجيب الله.. وكلّ مطالب بفعله دون فعل صاحبه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 36]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
عرّفه الحقّ أنّه غنيّ عن إيمانهم، فكشف له أحكامهم، وأنّ من لم يؤمن منهم قد سبق الحكم بشقائهم، فعند ذلك دعا عليهم نوح- عليه السلام- بالإهلاك.
ويقال لم يدع عليهم ما دام للمطمع فى إيمانهم مساغ، فلما حصل العكس نطق بالتماس هلاكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 37]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
أي قم- بشرط العبودية- بصنع السفينة بأمرنا، وتحقق بشهودنا، وأنّك بمرأى منا. ومن علم اطلاعه عليه لم يلاحظ نفسه ولا غيره، لا سيما وقد تحقق بأنّ المجرى هو سبحانه.
وقال له: راع حدّ الأدب، فما لم يكن لك إذن منا فى الشفاعة لأحد فلا تخاطبنا فيهم.
ويقال سبق لهم الحكم بالغرق- وأمواج بحر التقدير تتلاطم- فكلّ فى بحار القدرة مغرقون إلا من أهّله الحقّ بحكمه فحمله فى سفينة العناية.
ويقال كان قوم نوح من الغرقى فى بحار القطرة، ومن قبل كانوا غرقى فى بحار القدرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 38]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)(2/135)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
لما تحقّق بما أمر الله به لم يأبه عند إمضاء ما كلّف به بما سمع من القيل، ونظر إلى الموعود بطرف التصديق فكان كالمشاهد له قبل الوجود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 39]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
لا طاعة لمخلوق فى مقاساة تقديره- سبحانه- إلا من تحمل عنه بفضله ما يحمله بحكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 40]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
طال انتظارهم لما كان يتوعّدهم به نوح عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يزدهم تطاول الأيام إلا كفرا، وصمّموا على عقد تكذيبهم.
ثم لمّا أتاهم الموعود إياهم بغتة، وظهر من الوضع الذي لم يحبّوه فار الماء من التنور المسجور، وجادت السماء بالمطر المعبور «1» .
«قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» : استبقاء للتناسل.
ويقال: قد يؤتى الحذر من مأمنه فإن إبليس جاء إلى نوح- عليه السلام-.
وقال: احملني فى السفينة فأبى نوح عليه السلام، فقال له إبليس: أما علمت أنى من المنظرين إلى يوم معلوم، ولا مكان لى اليوم إلا فى سفينتك؟
فأوحى الله إلى نوح أن يحمله معه.
ويقال لم يكن لابن نوح معه مكان، وأمر بحمل إبليس وهو أصعب الأعداء! وفى هذا إشارة إلى أن أسرار التقدير لا تجرى على قياس الخلق كأنه قيل له: يا نوح..
ابنك لا تحمله، وعدوك فأدخله، فالله سبحانه فعّال لما يريد «2» .
__________
(1) أي الجاري.
(2) فى هذه الإشارة تلميح إلى قاعدة فى مذهب القشيري أن أفعال الله لا تخضع لما ألف الناس من مقاييس نسبية.(2/136)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قوله جل ذكره: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حكم الأزل لا يردّ، والحقّ- سبحانه- لا ينازع، والجبّار لا يخاصم، وأن من أقصاه ربّه لم يدنه تنبيه ولا برّ ولا وعظ.
«وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ولكن بارك الحقّ- سبحانه- فى الذين نجّاهم من نسله، ولم يدخل خلل فى الكون بعد هلاك من أهلك من قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 41]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
عرف أنّ نجاته من القطرة لمّا تقاطرت ليست بالحيل- وإن تنوّعت وكثرت، فباسم الله سلامته، وبتوكله على الله نجاته وراحته، وبتفضله- سبحانه- صلاحه وعافيته.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 42]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42)
وكان فى معزل بظاهره، وكان فى سرّ تقديره أيضا بمعزل عما سبق لنوح وقومه من سابق فضله. فحينما نطق بلسان الشفقة وقال: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» - لم يقل له: ولا تكن من الكافرين لأن حالته كانت ملتبسة على نوح إذ كان ابنه ينافقه- فقيل له: يا نوح إنه مع الكافرين لأنه فى سابق حكمنا من الكافرين.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 43]
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)(2/137)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
أخطأ من وجهين: رأى الهلاك من الماء وكان من الله، ورأى النجاة والعصمة من الجبل وهما من الله، فقال له نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، قيل أراد لا معصوم اليوم من الله.
وقيل لا أحد يعصم أحدا من أمر الله، لكن من رحمه ربّه فهو معصوم من ذلك، وله عاصم وهو الله.
ولقد كان نوح- عليه السلام- مع ابنه فى هذه المخاطبات فجاءت أمواج الماء وحالت بينهما وصار من المغرقين، فلا وعظه ونصحه نفعاه، ولا قوله وتذكيره نجيّاه وخلّصاه.
ويقال احتمل أن لو قيل له يا نوح عرّفنا العالم بدعائك ولا عليك إن عرف.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 44]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
فلما غرق ابن نوح سكن الموج ونضب «1» الماء وأقلعت السماء، وكأنه كان المقصود من الطوفان أن يغرق ابن نوح- عليه السلام- وقيل:
عجبت لسعى الدهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 46]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
__________
(1) وردت (نصب) بالصاد، وهى خطأ فى النسخ، والمراد (نضب) الماء أي غار وانحسر، فهى ملائمة لإقلاع السماء أي إمساكها عن المطر.(2/138)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
خاطب الحقّ- سبحانه- فى باب ابنه، واستعطف فى السؤال فقال:
«إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» : فقال له: إنّه ليست من أهل الوصلة قسمته- وإن كان من أهلك نسبا ولحمة، وإنّ خطابك فى بابه عمل غير صالح، أو إنه أيضا عمل غير صالح «1» .
«فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» : أي سترت غيبى فى حال أوليائى وأعدائى، فلا يعلم سرّ تقديرى.
قوله: «إِنِّي أَعِظُكَ» : وذلك لحرمة شيخوخته وكبره، ولأنه لم يستجب له فى ولده، فتدارك بحسن الخطاب قلبه.
وقيل إن ابن نوح بنى من الزجاج بيتا وقت اشتغال أبيه باتخاذ السفينة، فلما ركب نوح السفينة دخل ابنه فى البيت الذي اتخذه من الزجاج، ثم إن الله تعالى سلّط عليه البول حتى امتلأ بيت الزجاج من بوله فغرق الكلّ فى ماء البحر، وغرق ابن نوح فى بوله! ليعلم أنه لا مفرّ من القدر.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 47]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)
نسى نوح- عليه السلام- حديث ابنه فى حديث نفسه، فاستعاذ بفضله واستجار بلطفه، فوجد السلامة من ربّه فى قوله جل ذكره
[سورة هود (11) : آية 48]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)
طهّر وجه الأرض من أعدائه، وحفظ نوحا عليه السلام من بلائه، هو ومن معه من أصدقائه وأقربائه.
__________
(1) وعلى هذا الرأى تكون نجاة قوم نوح بسبب عملهم الصالح لا بسبب قرابتهم له.(2/139)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
والأمم التي أخبر أنه سيمتّعهم ثم يمسّهم العذاب هم الذين ليسوا من أهل السعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 49]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
أعلمناك بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمه من شخص، أو من قراءة كتاب فإن قابلك قومك بالتكذيب فاصبر، فعن قريب تنقلب هذه الأمور.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 50]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50)
كلّف الأنبياء- عليهم السلام- بالذهاب إلى الخلق لا سيما وقد عاينوا- بالحق- من تقدّمهم من فترة الملأ، ولكنهم تحمّلوا ذلك حين أمرهم الحقّ بالتوجّه إليهم فرضوا، وأظهروا الدلالة، وأدّوا الرسالة، ولكن ما زاد الناس إلا نفرة على نفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 51 الى 52]
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
لم يأت نبىّ من الأنبياء- عليهم السلام- إلّا وأخبر أنه ليس له أن يطلب فى الجملة أجرا إلّا من الله لا من غير الله.
قوله جل ذكره: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ.(2/140)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار، من توهمكم أن نجاتكم باستغفاركم.
بل تحقّقوا بأنكم لا تجدون نجاتكم إلا بفضل ربّكم فبفضله وبتوفيقه توصّلتم إلى استغفاركم لا باستغفاركم، وصلتم إلى نجاتكم، وبرحمته أهلكم إلى استغفاركم، وإلّا لما وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم.
والاستغفار قرع باب الرزق، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه، فتح عليه أبواب رحمته، ويسّر له أسباب نعمته.
ويقال ينزّل على ظواهركم أمطار النّعمة، وعلى ضمائركم وسرائركم ينزّل أنواع المنّة، ويزيدكم قوة على قوة قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرزق، وقوة تحصلون بها تحسبن أصناف الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 53]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
ما زادهم هود عليه السلام بسطا فى الآية وإيضاحا فى المعجزة إلا زادهم الله تعالى عمى على عمى، ولم يرزقهم بصيرة ولا هدى، ولم يزيدوا فى خطابهم إلا بما دلّوا على فرط جهالتهم، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وانتهابهم «1» ، وقالوا:
[سورة هود (11) : آية 54]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
وكيف ظنّوا أنّ آلهتهم تمسّ أعداءهم بسوء وهى لا تضرّ أعداءها ولا تنفع أولياءها؟
فهؤلاء الغواية عليهم مستولية. ثم إن هودا عليه السلام أفصح عن فضل ربّه عليه وصرّح بإخلاصه وحسن يقينه فقال: إنى برىء مما تشركون، ثم قال:
[سورة هود (11) : آية 55]
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) .
__________
(1) يقال نهب فلانا أي تناوله بلسانه وأغلظ له القول.(2/141)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
فلم يحتج معهم إلى تضرع واستخذاء، ولا راودهم فى سلم واستمهال، ولم يتّصف فى ذلك بركون إلى حوله وملّته، ولم يستند إلى جده وقوّته بل قال:
[سورة هود (11) : آية 56]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
أخبر أنه بموعود الله له بنصرته واثق، وأنه فى خلوص طاعته لربّه وفى صفاء معرفته (غير مفارق) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 57]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
أوحينا إليه أن قل لهم: إن تولّوا ولم تؤمنوا بي فقد بلّغت ما حمّلت من رسالتى، وإنى واثق بأنّ الله إذا أهلككم يأت بأقوام آخرين سواكم أطوع له منكم، وإن أفناكم ما اختلّ ملكه إذ الحقّ- سبحانه- بوجود الأغيار لا يلحقه زين- وإن وحدوا، وبفقدهم لا يمّسه شين- وإن جحدوا وألحدوا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 58]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)
ولما جاء أمرنا بإهلاكهم نجيّنا هودا والذين آمنوا برحمتنا، ولم يقل باستحقاقه النجاة بوسيلة نبوته، أو لجسامة طاعته ورسالته بل قال: «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ليعلم الكافة أنّ
__________
(1) بعد (معرفته) يوجد بياض مما يدل على سقوط خبر أن وقد أكملنا النقص بكلمة ملائمة من عندنا تنفق مع السياق والنسق حسبما نعلم من طريقة القشيري. [.....](2/142)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
الأنبياء- عليهم السلام- ومن دونهم عتيق رحمته، وغريق منته، لا لاستحقاق أحد ولا لواجب على الله فى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 59]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
فى إنزال قصصهم تسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم وآله- فيما كان يقاسى من العناء، وللمؤمنين فيما بذلوا من حسن البلاء، والعدة بتبديل- ما كانوا يلقونه من الشدّة- بالرجاء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 60]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
أخبر أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أمّا فى هذه الدنيا فبالاستئصال بأليم الشدة وما تبعه من اللّعنة، ثم ما يلقونه فى الآخرة من تأبيد العقوبة. وبقاؤهم عن رحمة الله أصعب من صنوف كل تلك المحنة «1» ، وكما قيل:
تبدّلت وتبدلنا وا حسرتا ... لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
__________
(1) وردت (المحبة) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.(2/143)
عقيب ما مضى من قصة عاد ذكر قصة ثمود، وثمودهم قوم صالح، وقد انخرطوا فى الغىّ فى سلك من سبقهم، فلحقت العقوبة بجميعهم. ثم أخبر أنهم قابلوا نبيّهم- عليه السلام- بالتكذيب، ولم يقفوا على ما نبّههم عليه من التوبة والتصديق، وأصرّوا على الإقرار أنهم فى شأنه لفى شك مريب.
ثم بيّن أنّ صالحا لم يعرّج- فى التبليغ- على تقصير.
وبعد تمرّدهم وامتناعهم عن الإنابة، وإصرارهم على ترك الإجابة حقّ عليهم(2/144)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
ما توعدهم به من عذاب غير مكذوب، ونجّى نبيّهم- عليه السلام-، ونجّى من اتّبعه من كل عقوبة.. سنّة منه- سبحانه- فى إنجاء أوليائه أمضاها، وعادة فى تلطفه ورحمته بالمستحقين أجراها.
قوله جل ذكره
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 70]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70)
أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيم- عليه السلام- بالبشارة، وأخبر أن إبراهيم- عليه السلام- أنكرهم، ولم يعرف أنهم ملائكة. فيحتمل أنّه- سبحانه- أراد أن تكون تلك البشارة فجأة من غير تنبيه لتكون أتمّ وأبلغ فى إيجاد السرور، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال: فأوجس منهم خيفة.
ويقال إن إبراهيم- عليه السلام- كان صاحب النبوة والخلّة والرسالة فلا بدّ أن تكون فراسته أعلى من فراسة كلّ أحد، ولكنه فى هذه الحالة لم يعرف الملائكة ليعلم أنّ الحقّ- سبحانه وتعالى- إذا أراد إمضاء حكم يدّ على من أراد عيون الفراسة، وإن كان صاحب الفراسة هو (خليل) «1» الله، كما سدّ الفراسة على نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- فى قصة الإفك إلى الوقت الذي نزل فيه الوحى، وكذلك التبس على لوط- عليه السلام- إلى أن تبيّن له الأمر.
وتكلموا في هذه «البشرى» ما كانت فقيل كانت البشارة بإسحاق، وبأنّه سيولد له ولد من نسله وسلالته قال تعالى: «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» .
ويقال بعلامة قومه- حيث كانوا مرسلين بإهلاك قوم لوط- عليه السلام.
__________
(1) سقطت كلمة (خليل) فأثبتناها لحاجة السياق إليها.(2/145)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
ويقال بشارة بالخلّة وتمام الوصلة.
ويقال إن الخلّة والمحبة بناؤهما كتمان السّرّ فيعلم أنهم أرسلوا ببشارة ما ولم يكن للغير اطلاع، قال قائلهم:
بين المحبين قول لست أفهمه
ويقال إن تلك البشارة هى قولهم: «سَلاماً» وأن ذلك كان من الله، وأىّ بشارة أتمّ من سلام الحبيب؟ وأىّ صباح يكون مفتتحا بسلام الحبيب فصباح مبارك، وكذلك المبيت بسلام الحبيب فهو مبارك.
قوله: «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» : لمّا توهمهم أضيافا قام بحقّ الضيافة، فقدّم خير ما عنده ما شكره الحقّ عليه حيث قال فى موضع آخر: جاء بعجل سمين «1» . والمحبة توجب استكثار القليل من الحبيب واستقلال ما منك للحبيب، وفى هذا إشارة إلى أنه إذا نزل الضيف فالواجب المبادرة إلى تقديم السّفرة «2» ممّا حضر فى الوقت.
قوله: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ تمام إحسان الضيف أن تتناول يده ما يقدّم إليه من الطعام، والامتناع عن أكل ما يقدّم إليه معدود فى جملة الجفاء فى مذهب أهل الظّرف «3» . والأكل فى الدعوة واجب على أحد الوجهين.
«وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» : أي خاف أنه وقع له خلل فى حاله حيث امتنع الضّيفان عن أكل طعامه فأوجس الخيفة لهم لا منهم.
وقيل إن الملائكة فى ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهرا إلا لعقوبة فلمّا امتنعوا عن الأكل، وعلم أنهم ملائكة خلف أن يكونوا قد أرسلوا لعقوبة قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 71 الى 73]
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
__________
(1) آية 26 سورة الذاريات.
(2) السفرة- طعام يصنع للمسافر، أو المائدة وما عليها من طعام (الوسيط) .
(3) الظرف: (يقال ظرف فلان ظرفا كان كيسا حاذقا، والظرف فى اللسان البلاغة، وفى الوجه الحسن، وفى القلب الذكاء) الوسيط.(2/146)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
كانت امرأته قائمة يخدمة الأضياف، فضحكت تعّجبا من أن يكون لمثلها فى هذه السّنّ ولد.
وقيل كان سرورها بالسلامة. ويحتمل أنها ضحكت تعجّبا من امتناع الضّيفان عن الأكل. أو تعجبت من كون الملائكة فى صورة البشر لمّا علمت أنهم ملائكة. ويحتمل أنها ضحكت لاستبشارها بالولد وقد بشّرت باستحقاقه ومن ورائه يعقوب، ثم أفصحت عما ينطوى عليه قلبها من التعجب فقالت: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» ! فأحال الملائكة خلق الولد على التقدير: «قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟» فزال موضع التعجب، وقالوا: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» فبقى الدعاء فى شريعتنا بآخر الآية حيث يقول الداعي: كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والبركة الزيادة فقد اتصل النّسل من الخليل، وبنو إسرائيل منهم- وهم خلق كثير، والعرب من أولاد إسماعيل- وهم الجمّ الغفير.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 74]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
لما كانت مراجعته مع الله فى أمر قوم لوط بحقّ الله لا لحظّ نفسه سلم له الجدال، وهذا يدلّ على علوّ شأنه حيث تجاوز عنه ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 75 الى 76]
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)(2/147)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
والإشارة فيه أنه كان يقابل ما ورد على ماله ونفسه وولده بالاحتمال، ولمّا كان حقّ الحقّ فى حديث قوم لوط أخذ فى الجدال إلى أن أبان له سلامة لوط- عليه السلام- وقال الله سبحانه: - يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ يا إبراهيم أعرض عن هذا فإنّ الحكم بعذابهم قد نزل، ووقت الانتقام منهم قد حصل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 77]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يجرى عليهم من قومه ما لا يجوز فى دين الله فذلك الحزن كان لحقّ الله لا لنصيب له أو حظّ لنفسه، ولذلك حمد عليه لأنّ مقاساة الحزن لحقّ الله محمودة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 78]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قوله «هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» : قيل إنه أراد به نساء أمته، فنبىّ كلّ أمة مثل الوالد لأولاده فى الشفقة والنصيحة.
ويقال إنه أراد بناته من صلبه.(2/148)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
«أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» يرتدى جلبات الحشمة، ويؤثر حقّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 79]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79)
أصرّوا على عصيانهم، وزهدوا فى المأذون لهم شرعا، وانجرّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعا، وهذه صفة البهائم لا يردعها عقل، قال تعالى: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 80]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
لو أن لى قوة فأمنعكم عن ارتكاب المعصية فإنّ أهمّ «1» الأشياء على الأولياء ألا يجرى من العصاة ما ليس لله فيه رضاء.
ويقال: لو كان لى قدرة لإيصال الرحمة إليكم- مع ارتكابكم المعاصي- لرحمتكم وتجاوزت عنكم.
ويقال لو أنّ لى قوة لهديتكم إلى الدّين، ولعصمتكم عن ارتكاب المخالفات.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 81]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
«2» لّما ضاق به الأمر كشف الله عنه الضرّ فعرّف إليه الملائكة وقالوا: لا عليك فإنهم لا يصلون إليك بسوء، وإنّا رسل ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرج أنت وقومك من بينهم، واعلم أنّ من شاركهم فى عملهم بنوع فله من العذاب حصّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على الملك لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقة بها، مدركة لها.
والإشارة منه أن الجسارة على الزّلة وخيمة العاقبة- ولو بعد حين، ولا ينفع المرء اتصاله بالأنبياء والأولياء إذا كان فى الحكم والقضاء من جملة الأشقياء.
__________
(1) أفعل التفضيل هنا مأخوذ من الهم، أي (فإن أكثر ما يسبب الهم للأولياء) .
(2) مستثنى من (فأسر بأهلك) منصوب.(2/149)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
قوله جل ذكره: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
ما هو كائن فقريب، والبعيد ما لا يكون. وإنّ من أقدم على محظور ثم حوسب عليه- ولو بعد دهور خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقت مباشرته لتلك الزّلة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 82]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
سنّة الله فى عباده قلب الأحوال عليهم، والانقلاب من سمات الحدوث، أمّا الذي لا يزول، ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية.
وإنّ من عاش فى السرور دهرا ثم تبدل يسره عسرا فكمن لم ير قطّ خيرا، والذي قاسى طول عمره ثم أعطى يسرّا فكمن لم ير عسرا.
قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» «1» .
قوله جل ذكره
[سورة هود (11) : آية 83]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنّ تلك العقوبة لاحقة بمن سلك سبيلهم تحذيرا لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقهم، كما قيل:
ومن يرنى ولم يعتبر بعدي ... فإنّ لكلّ معصية عقابا
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 85]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
__________
(1) آية 110 سورة الأنعام.(2/150)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
أخبر سبحانه عن قصتهم، وما أصابهم من العذاب الأليم، وما نالهم من البلاء العظيم.
وفى الظاهر لهم كانت أجرامهم كاليسيرة، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة، ولا يقولون إنها كبيرة، وإن ذلك تطفيف فى المكيال.
وليس قدر الأجرام «1» لأعيانها، ولكن لمخالفة الجبار عظم شأنها، قال تعالى:
[سورة هود (11) : آية 86]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
«2» ولما أن قال لهم شعيب:
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» .
يعنى القليل من الحلال أجدى من الكثير المعقب للوبال لم يقابلوا نصيحته لهم إلا بالعناد والتمادي فيما هو دائم من الجحد والكنود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 87]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
استوطئوا مركب الجهل، واستحلبوا مشرب التقليد، وأعفوا قلوبهم من استعمال الفكر، واستبصار طريق الرّشد.
__________
(1) جمع (جرم) وهو الذنب.
(2) آية 15 سورة النور.(2/151)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 88]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
البيّنة نور تستبصر به ما خفى عليك تحت غطاء الغفلة.
والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية، وحسن توليه لشأنك- فى جميع ما فيه صلاحك- من إتمام النعمة ودوام العصمة.
وقيل الرزق الحسن ما تعنّي صاحبه لطلبه، ولم يصبه نصب بسببه.
وقيل الرزق الحسن ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرّزّاق.
ويقال الرزق الحسن ما لا ينسى الرزّاق، ويحمل صاحبه على التوسعة والإنفاق.
قوله جل ذكره: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ.
يمكن للواعظ أو الناصح أن يساهل المأمور فى كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه فإنّ الإتيان بجميع الطاعات غير ممكن، ولكنّ التجرّد عن جميع المحرّمات واجب.
ويقال من لم يكن له حكم على نفسه فى المنع عن الهوى لم يكن له حكم على غيره فيما يرشده إليه من الهدى.
قوله جل ذكره: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.
مدار الأمر على الأغراض المقضية حسن القصد بالإصلاح فيقرن الله به حسن التيسير، ومن انطوى على قصد بالسوء وكل الحقّ بشأنه التعويق.
قوله جل ذكره: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.
حقيقة التوفيق ما ينفق به الشيء، وفى الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المنهيات يعدّ من جملة التوفيق- على التوسّع.(2/152)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
والتوفيق بالله ومن الله، وهو- سبحانه- بإعطائه متفضّل.
قوله جل ذكره: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
التوكل تفويض الأمر إلى الله، وأمارته ترك التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود. ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب.
ويقال التوكل السكون، والثقة بالمضمون.
ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرّبّ.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 89]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
تورثكم مخالفتكم إياى فيما أدعوكم إليه من طاعة الله أن يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب من تقدّمكم من الذين سرتم على منهاجهم، وما عهدكم ببعيد بمن تحققتم كيف حلّت بهم العقوبة، وكيف أنهم ما زادتهم كثرة النصيحة إلّا غلوّا فى ضلالتهم، وعتوّا في جهالتهم، وكما قيل.
وكم صغت فى آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصّح
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 90]
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
الاستغفار هو التوبة.
ومعنى قوله «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» أي توبوا ثم لا تنقضوا توبتكم فهو أمر باستدامة التوبة فإذا لم يتصل وفاء المآل بصفاء الحال لم يحصل قبول، وكأن لم يكن لما سلف حصول.
«إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» : يرحم العصاة ويودّهم.
ويقال يرحمهم ولذلك يودونه فالودود يكون بمعنى المودود كحلوب بمعنى محلوب. والرحمة(2/153)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
تكون للعاصى لأنّ المطيع بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته، ثم ليس كلّ من يحبّ السلطان فى محلّ الأكابر، فالأصاغر من الجند قد يحبون الملك، وأنشدوا:
ألا ربّ من يدنو ويزعم أنه ... يودّك، والنائى أودّ وأقرب
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 91 الى 92]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
لاحظوا شعيبا بعين الاستصغار فحرموا فهم معانى الخطاب، وأقرّوا على أنفسهم بالجهل، وأحالوا إعفاءهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته، فعاتبهم عليه: - قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أترون من حقّ رهطى مالا ترون من حقّ ربى وإنّ ربى يكافئكم على أعمالكم بما تستوجبون فى جميع أحوالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 93 الى 95]
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)(2/154)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
أرخى لهم ستر الإمهال فلمّا أصرّوا على تماديهم فى الغواية حلّت بهم العقوبة، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نار، ولا فى ديار الظالمين ديّار، قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 98]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
كرّر قصة موسى عليه السلام تفخيما لشأنه، وتعظيما لأمره، وتنبيها على علوّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة..
ويقال أصعب عدوّ قهره أولا نفسه، وقد دله- سبحانه- على ذلك لمّا قال: إلهى! كيف أطلبك؟
فقال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلى.
فنبّهه إلى استصغاره لنفسه، وانكساره لله بقلبه، فزادت صولته لما صار معصوما عن شهود فضل لنفسه والسلطان الذي خصّه به استولى على قلوب من رآه، كما قال: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» «1» فما رآه أحد إلا أحبّه، ثم إنه لم يأخذه فى الله ضعف، مثلما لطم وجه فرعون- وهو رضيع- كما فى القصة، ولطم وجه ملك الموت لمّا طالبه بقبض روحه..
كما فى الخبر، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية، وقتل القبطىّ لما استعان به من وافقه فى العقيدة، وقال لله «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» «2» لمّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة ... ففى جميع هذا تجاوز الله عنه لما أعطاه من السلطان والقوة.
قوله جل ذكره: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
__________
(1) آية 39 سورة طه.
(2) آية 155 سورة الأعراف.(2/155)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه. لم يشعروا بخطئهم، وكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا ما أوردهم النار فهو إمامهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعهم وبكاؤهم ولا ينقطع عذابهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم- وذلك جزاء من كفر بمعبوده، وأسرف فى مجاوزة حدوده.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 99]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
بعدوا فى عاجلهم من الإيمان، وفى آجلهم من الغفران والجنان. والذي لهم فى الحال من الفرقة أعظم- فى التحقيق- من الذي لهم فى المآل من الحرقة، وهذه صفة من امتحنه الله باللعنة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 100]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
لم يكن فى جملة من قصّ عليه من الأنبياء- عليهم السلام- من أكثر منه تبجيلا، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلا، فكما تقدّم على الأنبياء- عليهم السلام تقدّمت أمته على الأمم، قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» «1» قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 101]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
لا يجوز الظلم فى وصفه فتصرّفه فى ملكه بحقّ إلهيته- مطلق يحكم بحسب إرادته ومشيئته، ولا يتوجه حقّ عليه، فكيف يجوز الظلم فى وصفه؟
ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر، ولكن فى صفته لا يجوز العذر إذ الخلق خلقه، والملك ملكه، والحكم حكمه.
__________
(1) الآية 110 سورة آل عمران.(2/156)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 102]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
إنّ الحقّ- سبحانه- يمهل ولكن لا يهمل، ويحكم ولكن لا يعجّل، وهو لا يسأل عمّا يفعل.
وقيل إذا أخذ النفوس بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها، وإذا أخذ القلوب بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها. قال تعالى: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 103]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
مشهود يشهده من حشر من جميع الخلائق فى ذلك اليوم.
ويقال الأيام ثلاثة: يوم مفقود وهو أمس ليس بيدك منه شىء، ويوم مقصود وهو غد لا تدرى أتدركه أم لا، ويوم مشهود وهو اليوم الذي أنت فيه فالمفقود لا يرجع، والمقصود ربما لا تبلغ، والمشهود وقتك وهو معرّض للزوال ... فاستغله فيما ينفع.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 104]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
الأجل لا يتقدّم ولا يتأخر لكل ( ... ) «2» ، والآجال على ما علمها الحقّ- سبحانه- وأرادها جارية فلا طلب يقدّم أو يؤخر وقتا إذا جاء أجله، وكذلك للوصول وقت، فلا طلب مع رجاء الوصول، ولا طلب مع خوف الزوال، ولقد قيل:
عيب السلامة أنّ صاحبها ... متوقّع لقواصم الظّهر
وفضيلة البلوى ترقب أهلها ... عقب البلاء- مسرّة الدهر
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 105]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
__________
(1) آية 12 سورة البروج. [.....]
(2) مشتبهة.(2/157)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
الشقىّ من قسم له الحرمان فى حاله، والسعيد من رزق الإيمان فى مآله.
ويقال الشقاء على قسمين: قوم شقاؤهم غير مؤيد، وقوم شقاؤهم على التأبيد، وكذلك القول فى السعادة. الشقىّ من هو فى أسر التدبير ونسيان جريان التقدير، والسعيد من رجع من ظلمات التدبير، وحصل على وصف شهود التقدير.
ويقال الشقىّ من كان فى رق العبودية ظانّا أنّ منه طاعاته، والسعيد من تحرر عن رقّ البشرية وعلم أن الحادثات كلها لله سبحانه.
وأمّا الأشقياء- على التأبيد- فهم أهل الخلود فى مقتضى الوعيد، والسعداء- على التأبيد- من قال الله تعالى فى صفتهم: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» .
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 106 الى 107]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن يزيد على مدّة السماوات والأرض.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن ينقلهم إلى نوع آخر من العذاب غير الزفير والشهيق.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» ألا تلحقهم تلك العقوبة قبل أن يدخلهم النار فلا استثناء لبعض أوقاتهم من العقوبة لا قبل إدخالهم فيها ولا بعده.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» من إخراج أهل التوحيد من النار فيكون شقاؤهم غير مؤبّد.
قوله جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فيه إشارة إلى أن الذي يحصل لهم يحصل بمشيئته لا باستحقاق عمل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 108]
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
لهم اليوم جنّات القربة، ولهم غدا جنّات المثوبة.
والكفار اليوم فى عقوبة الفرقة، وغدا فى عقوبة الحرقة.(2/158)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
«فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» فلا استثناء لبعض أوقات أهل الجنة من أول أمرهم قبل دخولهم الجنّة أو بعده. أو يحتمل أنه يزيد على مدة السماوات والأرض.
وفى قوله «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» - أي عطاء غير مقطوع- دليل على أن تلك النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 109]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
لا يريد أنّه عليه السلام فى شك، ولكنه أراد به تحقيق كونهم مضاهين لآبائهم، كما تقول: لا شكّ أنّ هذا نهار.
ويقال الخطاب له والمراد به لأمّته.
«وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» : نجازيهم على الخير بخير وعلى الشر بضر «1» قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 110]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
اختلفوا فى الكتاب الذي أوتى، وهو التوراة.
واختلفوا فى كونه رسولا، فمن مصدّق ومن مكذّب.
ثم أخبر أنه- سبحانه- حكم بتأخير العقوبة، ولولا حكمته لعجّل لهم العقوبة.
وفائدة الآية من هذا التعريف التخفيف على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان
__________
(1) لم يقل القشيري: وعلى الشر بشر، وإنما استعمل (الضر) تأدبا من نأحية، ولأنه- حسب مذهبه الكلامى- لا ينسب (الشر) لله، من ناحية أخرى، وكما سنرى بعد قليل فى تفسيره للحسنة وللسيئة(2/159)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
يلقاه من قومه من التكذيب، ففى سماع قصة الأشكال- وبعضهم من بعض- سلوة، ولقد قيل:
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 111]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وكرّر ذلك فى القرآن فى كثير من المواضع إبلاغا فى التحذير، وتنبيها على طريق الاعتبار بحسن التفكير.
ثم إن الجزاء على الأعمال معجّل ومؤجّل، وكلّ من أعرض عن الغفلة وجنح إلى وصف التيقظ وجد فى معاملاته- عاجلا- الربح لا الخسران، وآجلا الزيادة لا النقصان، وما يجده المرء فى نفسه أتمّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 112]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
يحتمل أن تكون السين فى الاستقامة سين الطلب أي سل من الله الإقامة لك على الحقّ.
ويحتمل أن تكون الإقامة فى الأمر بمعنى أقام عليه.
وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقّها من غير إخلال بها، فلا يكون فى سلوك نهج الوفاق انحراف عنه.
ويقال المستقيم من لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه، ويتابع فى ترك هواه.
ويقال استقامة النفوس فى نفى الزّلّة، واستقامة القلوب فى نفى الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة «1» .
استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسهم عن العبادة وألا يخلّوا بأدائها، ويقضون عسيرها ويسيرها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين
__________
(1) تهمنا هذه العبارة عند تحديد الآفات التي تصيب الملكات الباطنة حسب مذهب القشيري.(2/160)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
ألا يلمّوا بعقوبة زلة فيدعون صغيرها وكبيرها ... وعلى هذا النحو استقامة كلّ أحد.
قوله «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» : أي فليستقم أيضا من معك.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 113]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
لا تعملوا أعمالهم، ولا ترضوا بأعمالهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمر بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئا من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم ... كل هذا يحتمله الأمر، ويدخل تحت الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 114]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)
أي استغرق جميع الأوقات بالعبادات، فإنّ إخلالك لحظة من الزمان بفرض تؤديه، أو نفل تأتيه حسرة عظيمة وخسران مبين.
قوله «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» الحسنات ما يجود بها الحق، والسيئات ما يذنبها العبد، فإذا دخلت حسناته على قبائح العبد محتها وأبطلتها.
ويقال حسنات القربة تذهب بسيئات الزّلّة.
ويقال حسنات الندم تذهب بسيئات الجرم.
ويقال (انسكاب) «1» العبرة تذهب العثرة «2» .
ويقال حسنات العرفان تذهب سيئات العصيان.
ويقال حسنات الاستغفار تذهب سيئات الإصرار.
ويقال حسنات العناية تذهب سيئات الجناية.
ويقال حسنات العفو عن الإخوان تذهب الحقد عليهم.
ويقال حسنات الكرم تذهب سيئات الخدم.
__________
(1) هكذا مصوبة فى الهامش وهى أصوب مما جاء فى المتن (ارتكاب) .
(2) وردت (العسرة) بالسين والأصوب (العثرة) لأنها تنسجم مع السياق.(2/161)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
ويقال حسن الظنّ بالناس يذهب سوأتهم بكم «1» .
ويقال حسنات الفضل من الله تذهب سيئات حسبان الطاعة من أنفسكم.
ويقال حسنات الصدق تذهب بسيئات الإعجاب.
ويقال حسنات الإخلاص تذهب بسيئات الرياء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 115]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس.
ويقال الصبر حسن الإقبال على معانقة الأمر ومفارقة الزجر.
«فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» المحسن: العامل الذي يعلم أنّ الأجر على الصبر والطاعة بفضله- سبحانه- لا باستحقاق عمل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 116]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116)
معناه لم يكن فيكم من هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل.
وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم من ينهى عن الفساد، ويحفظ الدّين، ويطيعون أنبياءهم- إلا قليل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 117]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)
أي لم يهلك الله أحدا كان مصلحا وإنما أهلك من كان ظالما.
__________
(1) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة الحث على الصفح عن عثرات الناس.(2/162)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
ويقال معناه: لو أهلك الله أهل القرى وهم مصلحون لم يكن ذلك ظلما من الله لأن الملك ملكه، والخلق عبيده.
ويقال «الْمُصْلِحِ» من قام بحقّ ربّه دون طلب حظّه.
ويقال: «الْمُصْلِحِ» من آثر نجاته على هلاكه.
ويقال مصلح تصلح نفسه طاعته، ومصلح تصلح قلبه معرفة سيّده، ومصلح تصلح سرّه مشاهدة سيّده.
قوله جل ذكره
[سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
لو شاء لجعلهم أرباب الوفاق ثم لا يوجبون لملكه زينّا، ولو شاء لجعلهم أرباب الخلاف ثم لا يوجبون لملكه شينا.
ثم قال: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» لأنه كذلك أراد بهم.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فى سابق حكمه فعصمهم عن الخلاف فى حاصل أمورهم، وأقامهم به، ونصبهم له، وأثبتهم فى الوفاق والمحبة والتوحيد.
قوله جل ذكره وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي لا تبديل لقوله، ولا تحويل لحكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 120]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
سكّن قلبه بما قصّ عليه من أنباء المرسلين، وعرّفه أنه لم يرقّ أحدا إلى المحلّ الذي رقّاه إليه، ولم ينعم على أحد بمثل ما أنعم عليه.
ويقال قصّ عليه قصص الجميع، ولم يذكر قصته لأحد تعريفا له وتخصيصا. ويقال لم يكن ثبات قلبه بما قصّ عليه ولكن لاستقلال قلبه بمن كان يقص عليه، وفرق بين من يعقل بما يسمع وبين من يستقل بمن منه يسمع، وأنشدوا:(2/163)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى ... حنينا فزدنى من حديثك يا سعد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : الآيات 121 الى 122]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
إن الذين يجحدون التوحيد، ويؤثرون على الحقّ غير الحق، ولم يصدّقوا الوعيد، يوشك أن ينصبّ عليهم الانتقام فيغرقون فى بحار العقوبة، ويسقطون فى وهاد الهوان، فلا لويلهم انتهاء، ولا لذلّهم انقضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (11) : آية 123]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
عمّى عن قلوبهم العواقب، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيام بما كلّفهم فى الحال، فقال: «فَاعْبُدْهُ» فإن تقسّم القلب وترجّم الظّنّ وخيف سوء العاقبة.. فتوكّل عليه أي استدفع البلاء عنك بحسن الظّنّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء.
«وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» : أحاط بكل شىء علما، وأمضى فى كل أمر حكما.
السورة التي يذكر فيها يوسف عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم «1» من وسم فمن وسم ظاهره بالعبودية، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همّته إلى المراتب العليّة، وأزلفت رتبته من المنازل السنيّة.
أو أن الاسم مشتق من السّمة أو من السموّ
__________
(1) ربما كان القشيري فى شرحه لمعنى (الاسم) متأثرا بالجو العام للسورة، وما حدث لكل من يوسف وإخوته من أحداث.(2/164)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
وقدّم الله- سبحانه- اسم الله فى هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية.
والإشارة من الباء- التي هى حرف التضمين والإلصاق- إلى أنّ «به» عرف من عرف، وبه وقف من وقف فالواصل إليه محمول بإحسانه، والواقف دونه مربوط بخذلانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1)
التخاطب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سنّة الأحباب فى ستر المحابّ فالقرآن- وإن كان المقصود منه الإيضاح والبيان- ففيه تلويح وتصريح، ومفصّل ومجمل، قال قائلهم:
أبكى إلى الشرق إن كانت منازلكم ... مما يلى الغرب خوف القيل والقال
ويقال وقفت فهوم الخلق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه- صلى الله عليه وسلم، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة ولكنه أفرد الحبيب بفهمه، فهو سرّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم:
بين المحبين سرّ ليس يفشيه ... قول، ولا قلم للخلق يحكيه
وفى إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة: وهى أنّ من كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيرا من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وصله فأنزل الله هذه الحروف التي لا سبيل إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فرجة حينما لا يقفون على معانيها بعدم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مطالبة بالفهم، وكان ذلك لائقا بأحوالهم إذا كانوا مستغرقين فى عين الجمع، ولذا قيل:
استراح من العقل له «1» .
وقوله تعالى: «تِلْكَ» يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خبر الوعد الذي وعدناك.
__________
(1) هكذا فى (ص) ونرجح أنها (استراح من لا عقل له) والعقل هنا معناه الوعى.(2/165)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
وقيل هذا تعريفنا: إليك بالتخصيص، وإفرادنا لك بالتقريب- قد حقّقناه لك فهذه الحروف بيان للإنجاز ولتحقيق الموعود.
والإشارة من «الْكِتابِ الْمُبِينِ» هاهنا إلى حكمه السابق له بأنّ يرقّيه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيره، وقد قال تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا..» «1» أي حين كلّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوّ قدرك، ولم تكن حاضرا، وأخبرناه بأننا نبلغّك هذا المقام الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلّ من أوحينا إليه ذكرنا له قصتك، وشرحنا له خلقتك، فالآن وقت تحقيق ما أخبرنا به، وفى معناه أنشدوا:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا
قال الله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» يعنى بعد التوراة «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «2» يعنى أمة محمد.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 2]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
فى إنزال الكتاب عليه، وإرسال الرسول «3» إليه- تحقيق لأحكام المحبة، وتأكيد لأسباب الوصلة فإنّ من عدم حقيقة الوصول استأنس بالرسول، ومن بقي عن شهود الأحباب تسلّى بوجود الكتاب، قال قائلهم:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... ففيها شفاء للذى أنا كاتم
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 3]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لخلوّه عن الأمر والنهى الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرّض لوقوع التقصير.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : ففيه ذكر الأحباب.
__________
(1) آية 46 سورة القصص.
(2) آية 105 سورة الأنبياء.
(3) (الرسول) هنا مقصود به القرآن الكريم أو جبريل- كما هو واضح من السياق.(2/166)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأن فيه عفو يوسف عن جنايات إخوته.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لما فيه من ذكر ترك يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عند ما راودته عن نفسه.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأنه غير مخلوق «1» .
ويقال لمّا أخبره الله- سبحانه- أن هذه القصة أحسن القصص وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه فعلم أن الله تعالى لم يرقّ أحدا إلى مثل مارّقاه.
قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنت إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، أي إنك لم تصلّ إلى معرفتها بكدّك وجهدك، ولا بطلبك وجدّك ...
بل هذه مواهب لا مكاسب فبعطائنا وجدّتها لا بعنائك، وبتفضّلنا لا بتعلّمك، وبتلطّفنا لا بتكلّفك، وبنا لا بك.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 4]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
لما ذكر يوسف- عليه السلام- رؤياه لأبيه علم يعقوب- عليه السلام صدّق تعبيرها، ولذلك كان دائم التذكّر ليوسف مدة غيبته، وحين تطاولت كان يذّكره حتى قالوا:
«تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» فقال: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» فهو كان على ثقة من صدّق رؤياه فإن قيل: فإذا كان الصبىّ لا حكم لفعله فكيف يكون حكم لرؤياه؟ وما الفرق؟
__________
(1) القرآن غير مخلوق.. هذا أصل من الأصول الكلامية الهامة عند الأشاعرة- ومنهم القشيري.(2/167)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فيقال: إن الفعل بتعمّد يحصل فيكون معرّضا لتقصير فاعله، أمّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان.
ويقال إنّ حقّ السّرّ الكتمان ولو كان على من هو قريب منك فإن يوسف لما أظهر سرّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 5]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
إذا جاء القضاء لا ينفع الوعظ والحذر فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما السلام، ولكن لمّا سبق التقدير فى أمر يوسف- عليه السلام- حصل ما حصل.
ويقال إن يوسف خالف وصية أبيه فى إظهار رؤياه إذ لو لم يظهرها لما كادوا له، فلا جرم بسبب مخالفته لأبيه- وإن كان صبيا صغيرا- لم يعر من البلايا.
ويقال لما رأى يوسف فى منامه ما كان تأويله سجود الإخوة له رأى ما تعبيره: وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» فدخل الإخوة الحسد «1» أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لفرط شفقة الأبوة.
ويقال صدق تعبيره فى الإخوة فسجدوا له حيث قال: «وَ، خَرُّوا لَهُ سُجَّداً» ولم يسجد الأب ولا خالته حيث قال: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» فإن يوسف صانهما عن ذلك مراعاة لحشمة الأبوة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 6]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
أي كما أكرمك بهذه الرؤيا التي أراكها يجتبيك ويحسن إليك بتحقيق هذه الرؤيا، وكما أكرمك بوعد النعمة أكرمك بتحقيقها.
ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر، فما يحصل للعبد من الخيرات- لا بتكلفه ولا بتعمده- فهو قضية الاجتباء.
__________
(1) وردت (الحد) والصواب أن تكون الحسد (انظر توضيح ذلك بعد قليل صفحة 170) ودخول الأب كان بنفسه ولم يكن بقلبه، وكان سببه شدة الإشفاق على ولده.(2/168)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
ويقال من الاجتباء المذكور أن عصمه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه.
ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال: «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» ، ولم يذكر خلاصه من البئر. ومن قضية الاجتباء توفيقه لسرعة العفو عن إخوته حيث قال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» قوله جل ذكره: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي لتعرف قدر كلّ أحد، وتقف على مقدار كلّ قائل بما تسمع من حديثه.. لا من قوله بل لحدّة كياستك وفرط فراستك.
قوله جل ذكره: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ من إتمام النعمة توفيق الشكر على النعمة، ومن إتمام النعمة صونها عن السّلب والتغيير، ومن إتمام النعمة التّحرز «1» منها حتى تسهل عليك السماحة بها.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 7]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
يعنى لكلّ ذى محنة حتى يعلم كيف يصبر، ولكلّ ذى نعمة حتى يعلم كيف يشكر.
ويقال فى قصتهم كيفية العفو عن الزلّة، وكيفية الخجلة لأهل الجفاء عند اللقاء.
ويقال فى قصتهم دلالات لطف الله سبحانه بأوليائه بالعصمة، وآيات على أنّ المحبة ( ... ) «2» من المحنة.
ويقال فيها آيات على أنّ من صدق فى رجائه يختصّ- يوما- ببلائه.
__________
(1) (التحرز) من النعمة التوقي منها، وإذا افترضنا أنها قد تكون (التحرر) بالراء فمعناها ألا يكون العبد أسيرا للنعمة حتى يسهل عليه أن يجود بها ... وكلاهما صحيح مقبول فى السياق. [.....]
(2) متشبهة(2/169)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 8]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)
عرّفوا على ما ستروه من الحسد، ولم يحتالوا فى إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة فى أبيهم حتى قالوا: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ويقال لمّا اعترضوا بقلوبهم على أبيهم فى تقديم يوسف فى المحبة عاقبهم بأن أمهلهم «1» حتى بسطوا فى أبيهم لسان الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المراد منه الذهاب فى حديث يوسف عليه السلام. ولمّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يرض- سبحانه- حتى أقامهم بين يدى يوسف عليه السلام، وخرّوا له سجّدا ليعلموا أنّ الحسود لا يسود.
ويقال أطول الناس حزنا من لاقّى الناس عن مرارة، وأراد تأخير من قدّمه الله أو تقديم من أخّره الله فإخوة يوسف- عليه السلام- أرادوا أن يجعلوه فى أسفل الجبّ فرفعه الله فوق السرير! قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 9]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)
أي يخلص لكم إقبال أبيكم عليكم، وقديما قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ فلمّا أرادوا أن يكون إقبال يعقوب- عليه السلام- بالكليّة- عليهم قال تعالى:
«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ» .
ويقال كان قصّدهم ألا يكون يوسف أمام عينه فقالوا: إمّا القتل وإمّا النّفى، ولا بأس بما يكون بعد ألا يكون يوسف عليه السلام.
قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ عجّلوا بالحرام، وعلّقوا التوبة بالتسويف والعزم، فلم يمح ما أجّلوا من التوبة ما عجّلوا من الحوبة.
__________
(1) وردت (أهملهم) وهى خطأ في النسخ لأن الله لا يهمل ولكن يمهل، والسياق يقتضى (الإمهال) .(2/170)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
ويقال لم تطبّ نفوسهم بأن يذهبوا عن باب الله بالكليّة فدبّروا لحسن الرجوع قبل ارتكاب مادعته إليه نفوسهم، وهذه صفة أهل العرفان بالله «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 10]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
إخوة يوسف- وإن قابلوه بالجفاء- منعتهم شفقة النّسب وحرمة القرابة من الإقدام على قتله فقالوا لا تقتلوه وغيّبوا شخصه.
ويقال إنما حملهم على إلقائه مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، فلمّا أرادوا حصول مرادهم فى تغييبه لم يبالغوا فى تعذيبه.
ويقال لمّا كان المعلوم له- سبحانه- فى أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله فى قلب قائلهم حتى قال: «لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ» .
ثم إنه- وإن أبلاه فى الحال- سهّل عليه ذلك فى جنب ما رقّاه إليه فى المآل «2» ، قال قائلهم:
كم مرة حفّت بك المكاره ... خار لك الله- وأنت كاره
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 11]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
كلام الحسود لا يسمع، ووعده لا يقبل- وإنّ كانا فى معرض النّصح فإنّه يطعم الشّهد ويسقى الصّاب.
ويقال العجب من قبول يعقوب- عليه السلام- ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرّس فيهم قلبه فقال ليوسف: «فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ولكن إذا جاء القضاء فالبصبرة تصير مسدودة.
__________
(1) واضح من هنا ومما جاء فى السياق أن القشيري- بتسامحه الصوفي الأصيل- ينظر إلى إخوة يوسف نظرة خالية من التحامل عليهم.
(2) كأنما ينصح القشيري أصحاب الإرادة: إن لقيتم اليوم فى الله شدة، فلكم غدا مثوبة. وكأنما يوضح لأهل الجدل: إن مقاييس الشر والخير الإنسانية خاطئة قاصرة.(2/171)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
ويقال من قبل على محبوبه حديث أعدائه لقى ما لقى يعقوب فى يوسف.
عليهما السلام- من بلائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 12]
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)
يقال أطمعوا يعقوب عليه السلام فى تمكينهم من يوسف بما فيه راحة نفس فى اللعب، فطابت نفس يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه- وإن كان يشقّ عليه فراقه، ولكنّ المحبّ يؤثر راحة محبوبه على محبة نفسه.
ويقال لما ركن إلى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - أي من قبلهم «1» - حتى قالوا:
«وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» فمن أسلم حبيبه إلى أعدائه غصّ بتحسّى بلائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 13]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13)
يحزننى أن تذهبوا به لأنى لا أصبر عن رؤيته، ولا أطيق على فرقته ... هذا إذا كان الحال سلامته.. فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟! ويقال لما خاف عليه من الذئب امتحن بحديث الذئب، ففى الخبر ما معناه: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه. وكان من حقه أن يقول أخاف الله لا الذئب، وإن كانت محالّ الأنبياء عليهم السلام- محروسة من الاعتراض عليها.
ويقال لمّا جرى على لسان يعقوب- عليه السلام- من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهتدوا إلى الذئب «2» .
__________
(1) يرجع القشيري ما أصاب يعقوب من بلاء إلى ركونه إلى حفظ يوسف من قبل الخلق وأنه اطمأن لدعواهم مع أن الحفظ لا يكون إلا بالله.
(2) تفيد هذه النقطة فى إثبات كرامة الأولياء، وما يجرى على ألسنتهم من تنبؤ بما قد يحدث فى المستأنف على وجه الإجمال.(2/172)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 14]
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
لحق إخوة يوسف عليه السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا:
«إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» : لأنّ من باع أخا مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيق بأن يقال قد خسرت صفقته.
ويقال لمّا عدوّا القوة فى أنفسهم حين قالوا: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» خذلوا حتى فعلوا «1» .
ويقال لمّا ركن يعقوب- عليه السلام- إلى قولهم: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» لقى ما لقى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 15]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)
الجواب فيه مقدّر ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه فى البئر فعلوا ما عزموا عليه. أو فلمّا ذهبوا به وألقوه فى غيابة الجبّ أوحينا إليه فتكون الواو صلة.
والإشارة فيه أنه لمّا حلّت به البلوى عجّلنا له التعريف بما ذكرنا من البشرى ليكون محمولا بالتعريف فما هو متحمّل له من البلاء العنيف.
ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاة أبيه حصل له الوحى من قبل مولاه، وكذا سنّته تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه بابا من البلاء إلا فتح على قلوبهم أبواب الصفاء، وفنون لطائف الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)
تمكين الكذّاب من البكاء سمة خذلان الله تعالى إياه، وفى الخبر: إذا كمل نفاق المرء ملك عينه حتى يبكى ما شاء.
ويقال: لا يبعد أن يقال إنهم وإن جنوا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فعلاهم البكاء لندمهم- وإن لم يظهروا لأبيهم- وتقوّلوا على الذّئب.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 18]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) .
__________
(1) فقد كانت من دعاوى النفس.(2/173)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
لم يؤثّر تزوير قاليهم فى إيجاب تصديق يعقوب- عليه السلام لكذبهم بل أخبره قلبه أنّ الأمر بخلاف ما يقولونه فقال:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
فعلم على الجملة وإنّ لم يعلم على التفصيل.. وهكذا تقرع قلوب الصديقين عواقب الأمور على وجه الإجمال، إلى أنّ تتّضح لهم تفاصيلها فى المستأنف.
ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أغفلوا عن تمزيق قميصه حتى علم يعقوب تقوّلهم فيما وصفوا.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 19]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
ليس كلّ من طلب شيئا يعطى مراده فقط بل ربما يعطى فوق مأموله كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسف عليه السلام.
ويقال ليس كل من وجد شيئا كان كما وجده السيارة توهموا أنهم وجدوا عبدا مملوكأ وكان يوسف- فى الحقيقة- حرّا «1» .
ويقال لمّا أراد الله تعالى خلاص يوسف- عليه السلام- من الجبّ أزعج خواطر السّيارة فى قصد السفر، وأعدمهم الماء حتى احتاجوا إلى الاستقاء ليصل يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل: ألا ربّ تشويش يقع فى العالم والمقصود منه سكون واحد.
كما قيل: ربّ ساع له قاعد.
قوله جل ذكره
[سورة يوسف (12) : آية 20]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
لم يعرفوا خسرانهم فى الحال ولكنهم وقفوا عليه فى المآل.
__________
(1) أي ربما تكون حقيقة النعمة أعظم من ظاهرها.(2/174)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
ويقال قد يباع مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجة إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغبن.
ويقال لم يحتشموا من يوسف- عليه السلام- يوم باعوه بثمن بخس، ولكن لمّا قال لهم: أنا يوسف- وقع عليهم الخجل. ولهذا قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.
ويقال لمّا خرّوا له سجّدا علموا أنّ ذلك جزاء من باع أخاه بثمن بخس.
ويقال لمّا وصل الناس إلى رفق يوسف عاشوا فى نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه فى مقام الذّلّ قائلين «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ، وفى معناه أنشدوا:
ستسمع بي وتذكرنى ... وتطلبنى فلا تجد
ويقال ليس العجب ممن يبيع مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس إنما العجب ممن ( ... ) «1» مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، لا سيّما «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» (الخرق لا غاية له، وكذا العجب لا نباته له) «2» .
ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، إنّما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزّ من الكبريت الأحمر بعرض حقير من أعراض الدنيا.
ويقال إنّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا فى شرائه بدراهم، والذين وقفوا على جماله وشىء من أحواله غالوا- بمصر- فى ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مرات- كما فى القصة «3» ، وفى معناه أنشدوا:
إنّ كنت عندك يا مولاى مطّرحا ... فعند غيرك محمول على الحدق «4»
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 21]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)
__________
(1) هنا كلمة فى الكتابة هكذا (بحل) ولا ندرى كيف نصرفها إلى إنجاه يخدم المعنى.
(2) ما بين القوسين ورد هكذا فى (ص) وفيه التباس ناشىء عن سوء النسخ.
(3) يقال إن العزيز اشتراء بزنته ورقا وحريرا ومسكا.
(تفسير النسفي ج 2 ص 216 ط عيسى الحلبي)
(4) الحدق جمع حدقة وهى السواد المستدبر وسط للعين.(2/175)
لمّا نودى على يوسف فى مصر بالبيع لم يرض الحقّ- سبحانه- حتى أصابتهم الضرورة ومسّتهم الفاقة حتى باعوا من يوسف- عليه السلام- جميع أملاكهم، ثم باعوا كلّهم منه أنفسهم- كما فى القصة- وفى آخر أمرهم طلبوا الطعام، فصاروا بأجمعهم عبيده، ثم إنه عليه السلام لما ملكهم منّ عليهم فأعتقهم «1» فلئن مرّ عليه بمصر يوم نودى فيه عليه بالبيع فقد أصبح بمصر يوما آخر وقد ملك جميع أملاكهم، وملك رقاب جميعهم فيوم بيوم، قال تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» يومان شتّان بينهما! ثم إنه أعتقهم جميعا ... وكذا الكريم إذا قدر غفر.
قوله جل ذكره: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أراد من حسده ألّا تكون له فضيلة على إخوته وذويه، وأراد الله أن يكون له ملك الأرض، وكان ما أراد الله لا ما أراد أعداؤه.
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أرادوا أن يكون يوسف عليه السلام فى الجبّ، وأراد الله- سبحانه- أن يكون يوسف على سرير الملك فكان ما أراد الله، والله غالب على أمره.
__________
(1) فى القصة «وباع من أهل مصر فى سنى القحط الطعام بالدراهم والدنانير فى السنة الأولى حتى لم يبق معهم شىء منها ثم بالحلى والجواهر فى الثانية تم بالدواب فى الثالثة تم بالعبيد والإماء فى الرابعة ثم بالدور والعقار فى الخامسة ثم باولادهم فى السادسة ثم برقابهم فى السابعة حتى استرقهم جميعا ثم أعتق أهل مصر ورد عليهم أملاكهم» النسفي ج 2 ص 228.(2/176)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وأرادوا أن يكون يوسف عبدا لمن ابتاعوه من السيارة، وأراد الله أن يكون عزيز مصر- وكان ما أراد الله.
ويقال العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 22]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته، وامتنع عما راودته تلك المرأة عن نفسه ومن لا حكم له على نفسه فلا حكم له على غيره.
ويقال إنما قال: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» أي حين استوى شبابه واكتملت قوّته، وكان وقت استيلاء الشهوة، وتوفر دواعى مطالبات البشرية- آتاه الله الحكم الذي حبسه على الحقّ وصرفه عن الباطل، وعلم أنّ ما يعقب اتباع اللذات من هواجم النّدم أشدّ مقاساة من كلفة الصبر فى حال الامتناع عن دواعى الشهوة ... فآثر مشقّة الامتناع على لذّة الاتباع.
وذلك الذي أشار إليه الحقّ- سبحانه- من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمداده بالتوفيق حتى استقام فى التقوى والورع على سواء الطريق، قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «1» : أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سبل الصبر على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائق المواصلة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 23]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
لما غلّقت عليه أبواب المسكن فتح الله عليه باب العصمة «2» ، فلم يضرّه ما أغلق بعد إكرامه بما فتح.
__________
(1) آية 69 سورة العنكبوت. [.....]
(2) نلفت النظر إلى جمال عبارة القشيري الناتج عن المقابلة بين (الإغلاق) و (الفتح) .(2/177)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وفى التفسير أنه حفظ حرمة الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز.
وفى الحقيقة أشار بقوله: «إِنَّهُ رَبِّي» إلى ربّه الحقّ تعالى: هو مولاى الحق تعالى، وهو الذي خلّصنى من الجب، وهو الذي جعل فى قلب العزيز لى محلّا كبيرا فأكرم مثواى فلا ينبغى أن أقدم على عصيانه- سبحانه- وقد غمرنى بجميل إحسانه.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها: إن العزيز أمرنى أن أنفعه. «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» فلا أخونه فى حرمته بظهر الغيب.
ويقال لمّا حفظ حرمة المخلوق بظهر الغيب أكرمه الحقّ سبحانه بالإمداد بالعصمة فى الحال ومكّنه من مواصلتها فى المآل على وجه الحلال.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 24]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه- بغير اختياره ولا بكسبه- كان مرفوعا لأنه لا يدخل تحت التكليف، فلم يكن «الهم» «1» منه ولا منها زلّة، وإنما الزلّة من المرأة كانت من حيث عزمت على ما همّت، فأمّا نفس الهمّ فليس مما يكسبه العبد.
ويقال اشتركا فى الهمّ وأفرد- يوسف عليه السلام- بإشهاده البرهان.
وفى تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان؟ - تكلّف غير محمود إذ لا سبيل إليه إلا بالخبر المقطوع به.
وفى الجملة كان البرهان تعريفا من الحقّ إياه بآية من آيات صنعه، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «2» .
__________
(1) واضح أن القشيري بهدف إلى نفى كل تهمة عن يوسف ولهذا يلجأ إلى تأويل لفظة «الهم» الذي اشترك فيه وامراة العزيز كما يعبر ظاهر اللفظ.
(2) آية 53 سورة فصلت.(2/178)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ» صرف عنه السّوء حتى لم يوجد منه العزم على ذلك الفعل- وإن كان منه همّ- إلا أن ذلك لم يكن جرما كما ذكرنا.
والصّرف عن الطريق بعد حصول الهمّ- كشف، والسوء المصروف عنه هو العزم على الزنا والفحشاء أو نفس الزنا، وقد صرفهما الله تعالى عنه.
قوله «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» : لم تكن نجاته فى خلاصه، ولكن فى صرف السوء عنه واستخلاصه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 25]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)
استبقا، هذا ليهرب، وهذه للفعلة التي كانت تطلب.
ولم يضر يوسف- عليه السلام- أن قدّت قميصه وهو لباس دنياه بعد ما صحّ عليه قميص تقواه.
ويقال «1» لم تقصد قدّ القميص وإنما تعلّقت به لتحبسه على نفسها، وكان قصدها بقاء يوسف- عليه السلام- معها، ولكن صار فعلها وبالا على نفسها، فكان بلاؤها من حيث طلبت راحتها وشفاءها.
ويقال تولّد انخراق القميص من قبضها عليه وكان فى ذلك افتضاح أمرها لأن قبضها على قميصه كان مزجورا عنه.. ليعلم أنّ الفاسد شجّه فاسد.
ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم فى الحال أنها تقدّ قميصه من ورائه أو من قدّامه..
كذلك صاحب البلاء فى الهوى مسلوب التمييز.
ويقال لمّا لم تصل ولم تتمكن من مرادها من يوسف خرقت قميصه ليكون لها فى إلقائها الذّنب على يوسف- عليه السلام- حجّة، فقلب الله الأمر حتى صار ذلك عليها حجة، وليوسف دلالة صدق، قال تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «2»
__________
(1) فيما يلى من إشارات تلاحظ أن القشيري قد جعل من امرأة العزيز رمزا لطالب الدنيا وأسير الهوى ومن يوسف رمزا مقابلا لذلك.
(2) آية 43 سورة فاطر.(2/179)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» : لمّا فتحا الباب وجدا سيدها لدى الباب، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد إذا خرج العبد عن الذي هو عليه من التكليف فى الحال وقع فى ضيق السؤال.
ويقال قال: «أَلْفَيا سَيِّدَها» ولم يقل سيدهما لأن يوسف فى الحقيقة كان حرا ولم يكن العزيز له سيدا.
قوله جل ذكره: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ شغلته بإغرائها إياه بيوسف عن نفسها بأن سبقت إلى هذا الكلام.
ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتله ففى عين ما سعت به نظرت له وأبقت عليه.
ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترض بذلك، وستزيد فالعذاب الأليم يعنى الضّرب المبرّح.. كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج.
ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجّلا فى مقابلة الضرب الأليم المعجل ليعلم أن السجن الطويل- وإن لم يكن فيه فى الظاهر ألم- فهو فى مقابلة الضرب الشديد الموجع لأنه- وإن اشتدّ فلا يقابله.
ويقال قالت: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟» فذكر الأهل هاهنا غاية تهييج الحميّة وتذكير بالأنفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 28]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)(2/180)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
أفصح يوسف عليه السلام بجرمها إذ ليس للفاسق حرمة يجب حفظها، فلم يبال أن هتك سترها فقال. «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» فلمّا كان يوسف صادقا فى قوله، ولم يكن له شاهد أنطق الله الصبيّ الصغير الذي لم يبلغ أوان النطق «1» . ولهذا قيل إذا كان العبد صادقا فى نفسه لم يبال الله أن ينطق الحجر لأجله.
قوله: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ لما اتضح الأمر واستبان الحال وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» : دلّت الآية على أنّ الزنا كان محرّما فى شرعهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 29]
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
لم يرد أن يهتك ستر امرأته فقال ليوسف: أعرض عن هذا الحديث، ثم قال لها:
«وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» : دلّ على أنه لم يكن فى شرعهم على الزنا حدّ- وإن كان محرّما حيث عدّه ذنبا.
ويقال ليس كلّ أحد أهلا للبلاء لأن البلاء من صفة أرباب الولاء، فأمّا الأجانب فيتجاوز عنهم ويخلى سبيلهم- لا لكرامة محلّهم- ولكن لحقارة قدرهم، فهذا يوسف عليه السلام كان بريء السّاحة، وظهرت للكلّ سلامة جانبه وابتلى بالسجن. وامرأة العزيز فى سوء فعلها حيث قال: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» ، وقال لها: «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» ..
ثم لم تنزل بها شظية من البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 30]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
__________
(1) قيل هو صبى فى المهد وهو ابن خال لها. وسمى قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة فى أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها (النسفي ج 2 ص 218) .(2/181)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
إنّ الهوى لا ينكتم، ولا تكون المحبة إلا وأبيح لها لسان عذول، فلما تحققت محبتها ليوسف بسطت النّسوة فيها لسان الملامة.
ولما كانت أحسن منهن قيمة- فقد كنّ من جملة خدمها- كانت أسرع إلى الملامة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 31 الى 32]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
أرادت أن يغلب عليهن استحقاق الملامة، وتنفى عن نفسها أن تكون لها «1» أهلا، ففعلت بهن ما عملت، فلمّا رأينه تغيّرن وتحيّرن ونطقن بخلاف التمييز، فقلن: «ما هذا بَشَراً» : وقد كان بشرا، وقلن «إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» : ولم يكن ملكا.
قوله: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» : أثّرت رؤيتهن له فيهن فقطّعن أيديهن بدل الثمار، ولم يشعرن، وضعفن بذلك عندها فقالت: ألم أقل لكن؟ أنتن لم تتمالكن حتى قطّعتنّ أيديكنّ! فكيف أصبر وهو فى منزلى؟! وفى معناه أنشدوا:
__________
(1) أي أهلا للملامة.(2/182)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
(أنت عند الخصام عدوى ... ... ............... ...........) «1»
ويقال «2» إن امرأة العزيز كانت أتم فى حديث يوسف- عليه السلام- من النسوة فأثرت رؤيته فيهن ولم تؤثّر فيها، والتّغيّر صفة أهل الابتداء فى الأمر، فاذا دام المعنى زال التغيّر قال أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه- لمن رآه يبكى وهو قريب العهد فى الإسلام:
هكذا كنّا حتى قست القلوب. أي وقرت «3» وصلبت. وكذا الحريق أول ما يطرح فيها الماء يسمع له صوت فإذا تعوّد شرب الماء سكن فلا يسمع له صوت.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 33]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33)
الاختبار مقرون بالاختيار ولو تمنّي العافية بدل ما كان يدعى إليه لعلّه كان يعافى، ولكنه لما قال: «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» طولب بصدق ما قال.
ويقال إن يوسف عليه السلام نطق من عين التوحيد حيث قال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ» فقد علم أن نجاته فى أن يصرف- سبحانه- البلاء عنه لا بتكلّفه ولا بتجنبه.
ويقال لمّا آثر يوسف- عليه السلام- لحوق المشقة فى الله على لذّة نفسه آثره عصره حتى قيل له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» «4» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 34]
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
__________
(1) بقية البيت مضطربة فى الكتابة، ومطموسة فى بعض المواضع.
(2) القشيري هنا مستفيد من رأى استاذه أبى على الدقاق.
(انظر رأى الدقاق فى رسالة القشيري فى معنى التلوين والتمكين ص 44)
(3) وقرت- أصابها الثقل.
(4) آية 91 من سورة يوسف.(2/183)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
لمّا رجع إلى الله بصدق الاستغاثة تداركه الله سبحانه بوشيك الإغاثة ... كذلك ما اغيّر. لأحد- فى الله تعالى- قدم إلّا روّحه بكرمه وتولّاه بنعمه- إنه هو «السَّمِيعُ» لأقوال السائلين، «الْعَلِيمُ» بأحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 35]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
لمّا سجن يوسف- عليه السلام- مع ظهور براءة ساحته اتقاء على امرأته أن يهتك سترها حوّل الله ملكه إليه، ثم فى آخر الأمر حكم الله بأن صارت امرأته بعد مقاساتها الضّر ... وهذا جزاء من صبر.
ويقال لمّا ظلم يوسف عليه السلام بما نسب إليه أنطق الله تلك المرأة حتى قالت فى آخر أمرها بما كان فيه هتك سترها، فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 36]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
لصحبة السجن أثر يظهر ولو بعد حين فإنّ يوسف عليه السلام لمّا قال لصاحبه اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فبقى يوسف فى السجن زمانا، ثم إن خلاصه كان على لسانه حيث قال: فأرسلوا إلى يوسف وقيل له: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا ...
الآية» فالصحبة تعطى بركاتها وإن كانت تبطئ.
قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» : الشهادة بالإحسان للمحسن ذريعة، بها يتوسّل إلى استجلاب إحسانه.(2/184)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 37]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)
التّثبّت فى الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهما ولم يسرع الإجابة فى الوقت.
ويقال لمّا أخّر الإجابة علّق قلوبهما بالوعد وإذا لم يكن نقد فليكن وعد.
ويقال لمّا فاتحوه بسؤالهم قدّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال:
«ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ... » ثم قال:
[سورة يوسف (12) : آية 38]
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)
ولما فرغ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)(2/185)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكت حين أخذ فى شرح التوحيد وذكر المعبود، وفى الخبر: من أحبّ شيئا أكثر من ذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 41]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)
اشتركا فى السؤال واشتركا فى الحكم وفى دخول السجن، ولكن تباينا في المآل واحد صلب، وواحد قرّب ووهب.. وكذا قضايا التوحيد واختيار الحق فمن مرفوع:
فوق السّماك مطلعه، ومن مدفون: تحت التراب مضجعه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 42]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
يتبيّن أنّ تعبير الرؤيا- وإن كان حقا- فهو بطريق غلبة الظّنّ دون القطع.
ثم إنه عاتب يوسف عليه السلام لأنه نسى فى حديثه من يستعين به حين قال: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ» .
ويقال إنه طلب من بشر عوضا على ما علّمه، وفى بعض الكتب المنزلة: يا ابن آدم، علّم مجانا كما علّمت مجانا.
ولما استعان بالمخلوق طال مكثه فى السجن، كذلك يجازى الحقّ- سبحانه- من يعلّق قلبه بمخلوق.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 43]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)(2/186)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
كان ابتداء بلاء يوسف- عليه السلام- بسبب رؤيا رآها فنشرها وأظهرها، وكان سبب نجاته أيضا رؤيا رآها الملك فأظهرها، ليعلم أنّ الله يفعل ما يريد فكما جعل بلاءه فى إظهار رؤيا جعل نجاته فى إظهار رؤيا «1» ليعلم الكافة أن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 44]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
حال الرؤيا لا يختلف بالخطأ فى التعبير، فإنّ القوم حكموا بأن رؤياه أضغاث أحلام فلم يضره ذلك، ولم يؤثّر فى صحة تأويلها.
قوله: «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» : من طلب الشيء من غير موضعه لم ينل مطلوبه، ولم يسعد بمقصوده.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 45]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
لمّا كان المعلوم لله والمحكوم أن يوسف عليه السلام يكون فى ذلك الوقت هو من يعبّر الرؤيا- قبض القلوب حتى خفى عليها تعبير تلك الرؤيا، ولم يحصل للملك ثلج الصّدر إلا بتعبير يوسف «2» ، ليعلم أنّ الله- سبحانه- إذا أراد أمرا سهل أسبابه.
ويقال: إن الله تعالى أفرد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين: بحسن الخلقة وبزيادة العلم فكان جماله سبب بلائه، وصار علمه سبب نجاته، لتعلم مزيّة العلم على غيره، لهذا قيل: العلم يعطى وإن كان يبطى.
__________
(1) بهدف القشيري إلى شىء بعيد هو أن المقاييس الإنسانية نسبية ولا تؤدى حتما إلى الصواب، وبالتالى لا ينبغى تطبيقها على ما يجرى فى الكون من تصاريف إلهية.
(2) يصلح هذا التصور- على نحو ما- لتفسير كرامات الأولياء.(2/187)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ويقال إذا كان العلم بالرؤيا يوجب الدنيا فالعلم بالمولى أولى أن يوجب العقبى، قال تعالى:
«وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيما وملكا كبيرا» «1» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
لم يقدّم الدعاء إلى الله تعالى على تعبير هذه الرؤيا كما فعل فى المرة الأولى، لأن هذا السائل هو الذي دعاه فى المرة الأولى. فإمّا أنه قد قبل فى المرة الثانية، وإمّا أنه لم يقبل فيئس منه فأهمله.
وصاحب الرؤيا الثانية كان الملك وكان غائبا، والوعظ والدعاء لا يكونا إلا فى المشاهدة دون المغايبة.
ويقال يحتمل أن يكون قد تفرّس فى الفتيان قبول التوحيد فإنّ الشباب ألين قلبا، أمّا فى هذا الموضع فقد كان الملك أصلب قلبا وأفظّ جانبا فلذلك لم يدعه إلى التوحيد لما تفرّس فيه من الغلظة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 50]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
أراد عليه السلام ألا يلاحظه الملك بعين الخيانة فيسقطه عيبه من قلبه فلا يؤثّر فيه قوله، فلذلك توقّف حتى يظهر أمره للملك وتنكشف براءة ساحته.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 51]
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
__________
(1) آية 20 سورة الإنسان. [.....](2/188)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
الحقائق لا تنكتم أصلا ولا بدّ من أن تبين ... ولو بعد حين.
نسب يوسف إلى ما كان منه بريئا، وأنّب على ذلك مدة، وكان أمره فى ذلك خفيّا.
ثم إن الله تعالى دفع عنه التهمة ورفع عنه المظنّة، وأنطق عذّاله، وأظهر حاله، عما فرق به سرباله «1» فقلن: «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» .
قوله جل ذكره: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ لمّا كانت امرأة العزيز غير تامّة فى محبة يوسف تركت ذنبها عليه وقالت لزوجها:
«ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ولم يكن ليوسف عليه السلام ذنب. ثمّ لمّا تناهت فى محبتة أقرّت بالذنب على نفسها فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ... »
فالتناهى فى الحبّ يوجب هتك الستر، وقلة المبالاة بظهور الأمر والسّرّ «2» ، وقيل:
ليقل من شاء ما ... شاء فإنى لا أبالى
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 52]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
إنما أراد الله أن يظهر براءة ساحة يوسف، لأنه علم أنهم يستحقون العقوبة على ما يبسطون فيه من لسان الملامة وذكر القبيح، ولم يرد يوسف أن يصيبهم بسببه- من قبل الله- عذاب
__________
(1) السربال- القميص.
(2) من هذه الإشارة نستطيع بطريق غير مباشر أن نعرف موقف القشيري من قضية هامة وهى:
هل يفصح المحب الواله عن حبه المكنون أم يكتم؟ وهل تغتفر له شطحاته فى هذا الموقف أم لا؟(2/189)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
شفقة منه عليهم، وهذه صفة الأولياء: أن يكونوا خصم أنفسهم، ولهذا قيل: الصوفي دمه هدر وملكه مباح «1» - ولذلك قال:
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
لمّا تمدّح بقوله: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» كأنه نودى فى سرّه: ولا حين هممت؟
فقال: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي!» «2» ويقال: قوله «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» بيان الشكر على ما عصمه الله، وقوله:
«وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي» بيان العذر لما قصّر فى أمر الله، فاستوجب شكره زيادة الإحسان، واستحقّ بعذره العفو.
والعفو باد من قوله:
[سورة يوسف (12) : آية 54]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
لما اتضحت للملك طهارة فعله ونزاهة حاله استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمّا كلمه وسمع بيانه رفع محلّه ومكانه، وضمنه برّه وإحسانه، فقال: «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 55]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
إنما سأل ذلك ليضع الحقّ موضعه، وليصل نصيب الفقراء إليهم، فطلب حقّ الله تعالى فى ذلك، ولم يطلب نصيبا لنفسه.
ويقال لم يقل إنى حسن جميل بل قال: إنى حفيظ عليم أي كاتب حاسب، ليعلم أنّ الفضل فى المعاني لا فى الصورة.
__________
(1) هذا تعريف الصوفي عند سهل بن عبد الله التستري (الرسالة ص 139) .
(2) هذا نموذج لمقاومة دعوى النفس ومحاربة اغترارها على الدوام، وعدم الاطمئنان إلى مصالحتها.(2/190)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 56]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
لمّا لم تكن له دواعى الشهوات من نفسه مكّنه الله من ملكه- قال تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها» «1» - فقال: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيّن أنه إنما يوفّى عباده من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بخدمتهم فقال: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» ثم يرقى همهم عما أولاهم من النّعم فقال:
[سورة يوسف (12) : آية 57]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
ليعلم أنّه لا بدّ من التقوى ومخالفة الهوى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 58]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
عرف يوسف- عليه السلام- إخوته وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه فى رقّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- فى ذلك الوقت- كان قاعدا بمكان الملك. فمن طلب الملك فى صفة العبيد متى يعرفه؟
وكذلك من يعتقد فى صفات المعبود ما هو من صفات الخلق ... متى يكون عارفا؟
هيهات هيهات لما يحسبون! ويقال لمّا أخفوه صار خفاؤه حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي ... بخطاياه وزلاته تقع غبرة على وجه معرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 59]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
__________
(1) آية 63 سورة الشورى.(2/191)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
المحبّ غيور فلمّا كان يعقوب عليه السلام قد تسلّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب «1» .
ويقال تلطّف يوسف فى استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففى ماله الذي أوصله إليهم وهو يقول: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» وفى إقباله عليهم وفى إكرامه لهم وهو يقول: «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» .
وأمّا الترهيب فبمنع المال وهو يقول:
[سورة يوسف (12) : آية 60]
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60)
أي فإن لم تؤامنونى عليه فلا كيل لكم عندى، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 61]
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61)
لما علم يوسف من حالهم أنهم باعوه بثمن بخس علم أنهم يأتونه بأخيهم طمعا فى إيفاء الكيل، فلن يصعب عليهم الإتيان به.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 62]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
جعل بضاعتهم فى رحالهم- فى باب الكرم- أتمّ من أن لو وهبها لهم جهرا لأنه يكون حينئذ فيه تقليد منه بالمواجهة، وفى تمليكها لهم بإشارة تجرّد من تكلّف تقليد منه بالمحاضرة «2» .
ويقال علم أنهم لا يستحلّون مال الغير فدسّ بضاعتهم فى رحالهم، لكن إذا رأوها قالوا: هذا وقع فى رحالنا منهم بغلط، فالواجب علينا ردّها عليهم. وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أبوا.
__________
(1) وكذلك فإن للحق غيرة على عبده المؤمن أن يساكن سواه.
(2) وكذلك نعمة الحق تأتى فى خفاء ... وقلّ من يفطن إليها.(2/192)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 63]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)
لم يمنع يوسف منهم الكيل، وكيف منع وقد قال: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» ؟
ولكنهم تجوزوا فى ذلك تفخيما للأمر حتى تسمح نفس يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم.
ويقال أرادوا بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» فى المستقبل إذا لم نحمله إليه.
ويقال إنهم تلطّفوا فى القول ليعقوب- عليه السلام- حيث قالوا: «أَخانا» إظهارا لشفقتهم عليه، ثم أكّدوا ذلك بقولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 64]
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
من عرف الخيانة لا يلاحظ الأمانة، ولذا لم تسكن نفس يعقوب بضمانهم لما سبق إليه من شأنهم.
قوله جل ذكره: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً» : يحفظ بنيامين فلا يصيبه شىء من قبلهم.
ولم يقل يعقوب فالله خير من يردّه إلىّ، ولو قال ذلك لعلّه كان يرده إليه سريعا.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 65]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
بيّن يوسف- عليه السلام- أنه حين عاملهم لم يحتج إلى عوض يأخذه منهم،(2/193)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
فلمّا باعهم وجمع لهم الكيل ما أخذ منهم ثمنا، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» .
وكلّ منّ خطا للدّين خطوة كافأه الله تعالى وجازاه، فجمع له بين روح الطاعة ولذّة العيش من حيث الخدمة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 66]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
إنّ الحذر لا يغنى من القدر. وقد عمل يعقوب- عليه السلام- معهم فى باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يغن عنه اجتهاده، وحصل ما حكم به الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 67]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
يحتمل أن يكون أراد تفريقهم فى الدخول لعلّ واحدا منهم يقع بصره على يوسف، فإن.
لم يره أحدهم قد يراه الآخر «1» .
ويقال ظنّ يعقوب أنهم فى أمر يوسف كانوا فى شدة العناية بشأنه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 68]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
__________
(1) نحسب أنه ربما كان الأمر بتفريقهم مرده إلى أنه فى الجماعة تختفى المسئولية الفردية إذ تذوب فى الكيان الجماعى، بينما يكبر الشعور بالمسئولية إذا كانوا آحادا، وقد قالوا ليعقوب من قبل (لئن أكله الذئب ونحن عصبة.)
.(2/194)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
إن لم يحصل مقصود يعقوب عليه السلام فى المآل حصل مراده فى الحال، وفى ذلك القدر لأرباب القلوب استقلال.
ويقال على الأصاغر حفظ إشارات الأكابر، والقول فيما يأمرون به هل فيه فائدة أم لا- ترك للأدب.
ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده، ويتمنّي به حصول مراده..
ثم لا يحصل مراده علم أنه لا ينبغى أن يعتقد فى الشيوخ أنّ جميع ما يريدون يتّفق كونه على ما أرادوا لأنّ الذي لا يكون إلا ما يريده واجبا وما أراده فهو كائن ... هو الله الواحد القهار قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 69]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)
حديث المحبة وأحكامها أقسام: اشتاق يعقوب إلى لقاء يوسف عليهما السلام فبقى سنين كثيرة، واشتاق يوسف إلى بنيامين فرزق رؤيته فى أوجز مدة.
وهكذا الأمر فمنهم موقوف به، ومنهم صاحب بلاء.
ويقال لئن سخنت «1» عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قرّت عين يوسف بلقائه. كذا الأمر: لا تغرب الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 70]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)
__________
(1) سخنت العين أي لم تقرّ(2/195)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
احتمل بنيامين ما قيل فيه من السرقة بعد ما التقى مع يوسف.
ويقال: ما نسب إليه من سوء الفعال هان عليه فى جنب ما وجد من الوصال.
ويقال لئن نسب يوسف أخاه للسرقة فقد تعرّف إليه بقوله: إنى أنا أخوك- سرّا، فكان متحملا لأعباء الملامة فى ظاهره، محمولا بوجدان الكرامة فى سره، وفى معناه أنشدوا:
أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمنى اللّوم
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 73]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
يعنى حسن سيرتنا فى سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا فى الحالة.
ويقال لو كنّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولما وجدتموه فى رحالنا بعد أن غبنا عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 76]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
تجاسر إخوة يوسف بجريان جزاء السّرقة عليهم ثقة بأنفسهم أنهم لم يباشروا الزّلّة، وكان بنيامين شريكهم فى براءة السّاحة، فلما استخرج الصّاع من وعائه بسط الإخوة فيه لسان الملامة، وبقي بنيامين «1» فلم يكن له جواب كأنّه أقرّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقا إذ أنه لم يسرق، ولو قال: لم أفعل لأفشى سرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجله حتى يبقيه معه، فسكت لسان بنيامين، وتحقّق بالحال قلبه.
ويقال لم يستصعب الملامة- وإن كان بريئا- مما قرن به، ولا يضرّ سوء المقالة بالمكاشفين بعد حسن الحالة مع الأحباب.
ويقال شىء بما أظهرت عليه المقالة، ولكن حصل له بذلك صفاء الحالة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 77]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
__________
(1) يصلح بنيامين- كما يصوره القشيري- نموذجا لواحد من أهل الملامة، لو دققنا النظر فى إشارات القشيري بصدده.(2/196)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
كان بنيامين بريئا مما رمى به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحد بواحد ليعلم العالمون أنّ الجزاء واجب.
ويقال كان القرح بالقدح أوجع ما سمعه يوسف منهم «1» حيث قالوا:
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» فقد كان ذلك أشدّ تأثيرا فى قلبه من الجفاء الأول.
ويقال إذا حنق عليك الملك فلا تأمن غبّه- وإن طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حنق عليهم فلقوا فى المستأنف منه ما ساءهم من حبس أخيه، وما صاحبهم من الخجل من أبيهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 78]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
لم تنفعهم كثرة التّنصّل، وما راموا به من ذكر أبيهم ابتغاء التوسّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم فى البدل.. كذلك فكلّ مطالب بفعل نفسه:
لا تزر وازرة وزر أخرى فلا الأب يؤخذ بدل الولد، ولا القريب يرضى به عوضا عن أحد لذلك قال يوسف عليه السلام:
[سورة يوسف (12) : آية 79]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعرضوا أنفسهم كى يؤخذ واحد منهم بدل أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادهم فى ذلك، وأنّ مقصوده من
__________
(1) القرح- الجرح، والقدح- العيب فى عرض غيرك.(2/197)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
ذلك ما استكنّ فى قلبه من حبّ لأخيه، وكلّا.. أن يكون عن المحبوب بدل أو لقوم مقام أحد.. وفى معناه أنشدوا:
إذا أوصلتنا الخلد كيما تذيقنا ... أبينا وقلنا: أنت أولى إلى القلب
وقيل:
أحبّ ليلى وبغّضت إلىّ ... نساء ما لهنّ ذنوب
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 80]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)
لما علموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضهم ببعض فعملت فيهم الخجلة، وعلموا أن يعقوب فى هذه الكرّة يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفعلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوب خبرهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 81]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
كان لهم فى هذه الكرّة حجة على ما قالوا، ولكن لم يسكن قلب يعقوب عليه السلام إليها، فإنّ تعيّن الجرم فى المرة الأولى أوجب التّهمة فى الكرّة الأخرى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 82]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)
ما ازدادوا إقامة حجّة إلا ازداد يعقوب- عليه السلام- فى قولهم شبهة.(2/198)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
ويقال: فى مساءلة الأطلال أخذ لقلوب الأحباب، وسلوة لأسرارهم.. وهذا الباب مما للشرح فيه مجال.
قوله جل ذكره
[سورة يوسف (12) : آية 83]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
لجأ إلى قرب خلاصه من الضرّ بالصبر.
ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يمس حتى قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» ليعلم أنّ عزم الأحباب على الصبر منقوض غير محفوظ «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 84]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
تولّى عن الجميع- وإن كانوا أولاده- ليعلم أنّ المحبة لا تبقى ولا تذر.
ويقال أراد إخوة يوسف أن يكون إقبال يعقوب عليهم بالكليّة فأعرض، وتولّى عنهم، وفاتهم ما كان لهم، ولهذا قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ.
ويقال لم يجد يعقوب مساعدا لنفسه على تأسفه على يوسف فتولّى عن الجميع، وانفرد بإظهار أسفه، وفى معناه أنشدوا:
فريد عن الخلّان فى كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
ويقال كان بكاء داود عليه السلام أكثر من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بصر داود وذهب بصر يعقوب لأن يعقوب عليه السلام بكى لأجل يوسف ولم يكن فى قدرة
__________
(1) يوضح القشيري هذا المعنى فى رسالته حيث يقول: [واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين وصبر المحبين، فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا، وفى هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: أصبح يعقوب وقد وعد من نفسه- فصبر جميل- ثم لم يمس حتى قال. يا أسفا على يوسف] الرسالة ص 95.(2/199)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
يوسف أن يحفظ بصره من البكاء لأجله، وأمّا داود فقد كان يبكى لله، وفى قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بصر الباكي لأجله.
سمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله: إن يعقوب بكى لأجل مخلوق فذهب بصره، وداود بكى لأجل الله فبقى بصره.
وسمعته- رحمه الله- يقول: لم يقل الله: «عمى يعقوب» ولكن قال: «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ» ، لأنه لم يكن فى الحقيقة عمى، وإنما كان حجابا عن رؤية غير يوسف «1» .
ويقال كان ذهاب بصر يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شىء أشدّ على الأحباب من رؤية غير المحبوب فى حال فراقه، وفى معناه أنشدوا:
لما تيقّنت أنى لست أبصركم ... أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه الله يقول: كان يعقوب عليه السلام يتسلّى برؤية بنيامين فى حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» أي أنه لما منع من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمّا بقي عن النظر قال: يا أسفا على يوسف.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 85]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)
هددوه بأن يصير حرضا- أي مريضا مشرفا على الهلاك- وقد كان، وخوفّوه مما لم يبال أن يصيبه حيث قالوا «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» .
ويقال أطيب الأشياء فى الهلاك ما كان فى حكم الهوى- فكيف يخوّف بالهلاك من كان أحبّ الأشياء إليه الهلاك؟
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 86]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
شكا إلى الله ولم يشك من الله، ومن شكا إلى الله وصل، ومن شكا من الله انفصل.
__________
(1) هذا نموذج من التذوق للنص القرآنى لا يفطن إليه إلا أرباب الذوق الصوفي.(2/200)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
ويقال لمّا شكا إلى الله وجد الخلف من الله.
ويقال كان يعقوب- عليه السلام- متحمّلا بنفسه وقلبه، ومستريحا محمولا بسرّه وروحه لأنه علم من الله- سبحانه- صدق حاله فقال: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
، وفى معناه أنشدوا:
إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة ... تمنّيت أن أشكوا إليك فتسمعا
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 87]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
كان يعقوب عليه السلام يبعث بنيه فى طلب يوسف، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفى اعتقادهم هلاك يوسف.. وكلّ إنسان وهمّه.
ويقال قوله «فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» أمر بطلب يوسف بجميع حواسّهم بالبصر لعلّهم تقع عليه أعينهم، وبالسّمع لعلّهم يسمعون ذكره، وبالشمّ لعلّهم يجدون ريحه وقد توهّم يعقوب أنهم مثله فى إرادة الوقوف على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال: «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .
ويقال لم يكن ليعقوب أحد من الأولاد بمكان يوسف، فظهر من قلّة الصبر عليه ما ظهر، وآثر غيبة الباقين من الأولاد فى طلب يوسف على حضورهم عنده.. فشتّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف! واحد لم يره فابيضّت عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أمرهم- باختياره- بغيبتهم عنه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 88]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
__________
(1) هنا لفتة ذكية إلى أنثا قد نحب ونهلك في حب من لا تراه أعيننا.. فإذا صح هذا بالنسبة لمخلوق مثلنا فكيف بالنسبة لبارئنا وخالقنا!!؟
ثم إن التقريب والإبعاد يرتبطان بالاجتباء الإلهى وحده. [.....](2/201)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضّرّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وجّههم أبوهم.
ويقال استلطفوه بقولهم: «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم.
ويقال لمّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا: وجئنا ببضاعة مزجاة- أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا: أوف لنا الكيل.
ويقال قالوا كلنا كيلا يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا: «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» : نزلوا أوضع منزل كأنهم قالوا: إن لم نستوجب معاملة البيع والشراء فقد استحققنا بذل العطاء، على وجه المكافأة والجزاء.
فإن قيل كيف قالوا وتصدّق علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة؟
فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه فى شرعهم كانت الصدقة غير محرّمة على الأنبياء.
ويقال إنما أرادوا أنّ من ورائنا من تحلّ له الصدقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 89]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
افتضحوا بحضرة يوسف عليه السلام وقالوا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ يعنى إنّ من عامل يوسف وأخا، بمثل معاملتكم فلا ينبغى له أن يتجاسر فى الخطاب كتجاسركم.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم: أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان فى حديثكم إلا ذكر ضرورتكم.. أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف؟! وذلك فى باب العتاب أعظم من كلّ عقوبة(2/202)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
ولمّا أخجلهم حديث العتاب لم يرض يوسف حتى بسط عندهم فقال: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 90]
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
فى الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له فى الخطاب: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» فلمّا عرفوه قالوا:
«إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» لأنّه لمّا ارتفعت الأجنبية سقط التكلّف فى المخاطبة، وفى معناه أنشدوا:
إذا صفت المودّة بين قوم ... ودام ودادهم قبح الثناء
ويقال إنّ التفاصل والتفارق بين يوسف وإخوته سبقا التواصل بينه وبين يعقوب عليهما السلام فالإخوة خبره وعرفوه قبل أن عرفه أبوه ليعلم أن الحديث بلا شك.
ويقال لم يتقدموا على أبيهم فى استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضهم حديث الميرة والطعام فقط، فقال: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : يعنى إنى لأخ لمثل هذا لا لمثلكم ولذا قال:
«أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» ، ولم يقل وأنتم إخوتى، كأنّه أشار إلى طرف من العتاب، يعنى ليس ما عاملتمونى به فعل الإخوة.
ويقال هوّن عليهم حال بداهة «2» الخجلة حيث قال «أَنَا يُوسُفُ» بقوله: «وَهذا أَخِي» ، وكأنه شغلهم بقوله: «وَهذا أَخِي» كما قيل فى قوله تعالى: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» إنه سبحانه شغل موسى عليه السلام باستماع: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» بمطالعة العصا فى عين ما كوشف به من قوله: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ» .
__________
(1) واضح أن القشيري يطبق فكرة القبض والبسط فى هذه الإشارة.
(2) بداهة الخجلة مفاجأتها(2/203)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر فى مقاساة الجهد والعناء فقال: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ» أحال فى استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر ... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» يعنى ليس بصبرك يا يوسف ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار الله إياك علينا فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقّ: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمّا لم يرتقواه من نفسه حيث نبّهوه عليه نطق عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 91]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91)
اعترفوا بالفضل ليوسف- عليه السلام- حيث قالوا: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وأكّدوا إقرارهم بالقسم بقولهم «تَاللَّهِ» وذلك بعد ما جحدوا فضله بقولهم: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد.
ويقال لمّا اعترفوا بفضله وأقرّوا بما اتصفوا به من جرمهم بقولهم: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ وجدوا التجاوز عنهم حين قال يوسف:
[سورة يوسف (12) : آية 92]
قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
أسرع يوسف فى التجاوز عنهم، ووعد يعقوب لهم بالاستغفار بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» لأنه كان أشدّ حبا لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفى معناه أنشدوا:
ترك العتاب إذا استحق أخ ... منك العتاب ذريعة الهجر
__________
(1) خلاصة رأى الدقاق أنه ليس بعمل الإنسان يصل ولكن بفضل الله واختياره، وحتى عمل الإنسان فهو أيضا يتم بفضل الله واختياره.. وذلك أصل من أصول المذهب القشيري كما وضح فى مواضع متفرقة.(2/204)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
ويقال أصابهم- فى الحال- من الخجلة ما قام مقام كلّ عقوبة، ولهذا قيل:
كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 93]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
البلاء إذا هجم هجم مرّة، وإذا زال زال بالتدريج حلّ البلاء بيعقوب مرة واحدة حيث قالوا: «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولما زال البلاء.. فأولّا وجد ريح يوسف عليه السلام، ثم قميص يوسف، ثم يوم الوصول بين يدى يوسف، ثم رؤية يوسف.
ويقال لمّا كان سبب البلاء، والعمى قميص يوسف أراد الله أن يكون به سبب الخلاص من البلاء «1» .
ويقال علم أن يعقوب عليه السلام- لما يلحقه من فرط السرور- لا يطيقه عند أخذ القميص فقال: «فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي» .
ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب.
ويقال كان العمى فى العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجد الشفاء من العمى.
ويقال لمّا كان البكاء بالعين التي فى الوجه كان الشفاء فى الإلقاء على العين التي فى الوجه، وفى معناه أنشدوا:
وما بات مطويا على أريحبة ... عقيب النوى إلا فتىّ ظلّ مغرما
وقوله «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» : لما علم حزن جميع الأهل عليه أراد أن يشترك فى الفرح جميع من أصابهم الحزن.
__________
(1) ويضاف إلى ذلك أن عدم تمزق قميص يوسف كان دلالة على براءة الذئب، وأن تمزقه من دبر كان دلالة على براءة يوسف من تهمة زليخا، وبهذا وذاك يمكن أن يكون قميص يوسف رمزا لموحيات كثيرة فى القصة.(2/205)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
ويقال علم يوسف أن يعقوب لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضره، إبقاء على حاله لا إخلالا لقدره وما وجب عليه من إجلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 95]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)
ما دام البلاء مقبلا كان أمر يوسف وحديثه- على يعقوب- مشكلا، فلما زالت المحنة بعثرت بكل وجه حاله.
ويقال لم يكن يوسف بعيدا عن يعقوب حين ألقوه فى الجبّ ولكن اشتبه عليه خبره وحاله، فلما زال البلاء وجد ريحه وبينهما مسافة ثمانين فرسخا- من مصر إلى كنعان.
ويقال إنما انفرد يعقوب عليه السلام بوجدان ريح يوسف لانفرداه بالأسف عند فقدان يوسف. وإنما يجد ريح يوسف من وجد على فراق يوسف «1» فلا يعرف ريح الأحباب إلا الأحباب، وأمّا على الأجانب فهذا حديث مشكل.. إذ أنّى يكون للإنسان ريح!؟.
ويقال لفظ الريح هاهنا توسع «2» ، فيقال هبّت رياح فلان، ويقال إنى لأجد ريح الفتنة..
وغير ذلك.
قوله جل ذكره: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تفرّس فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قوله، فزادوا في الملامة فقالوا: - قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قرنوا كلامهم بالشتم، ولم يحتشموا أباهم، ولم يراعوا حقّه فى المخاطبة، فوضفوه بالضلال فى المحبة.
ويقال إن يعقوب عليه السلام قد تعرّف من الريح نسيم يوسف عليه السلام، وخبر يوسف كثر حتى جاء الإذن للرياح، وهذه سنّه الأحباب: مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال، وفى معناه أنشدوا:
__________
(1) لاحظ الجمال فى أسلوب القشيري فى (يجد) ريح يوسف و (وجد) على فراقه.
(2) كلمة (توسع) يستخدمها القشيري بمعنى (مجاز) - ذلك الاصطلاح البلاغى المعروف.(2/206)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
وإنّى لأستهدى الرياح نسيمكم ... إذا هى أقبلت نحوكم بهبوب
واسألها حمل السلام إليكم ... فإن هى يوما بلغت فأجيبوا
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 96]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)
لو ألقى قميص يوسف على وجه من فى الأرض من العميان لم يرتد بصرهم، وإنما رجع بصر يعقوب بقميص يوسف على الخصوص فإنّ بصر يعقوب ذهب لفراق يوسف، ولمّا جاءوا بقميصه أنطق لسانه، وأوضح برهانه، فقال لهم: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» عن حياة يوسف، وفى معناه أنشدوا:
وجهك المأمول حجّتنا ... يوم يأتى النّاس بالحجج
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 97]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
كلّ إنسان وهمّه وقع يعقوب ويوسف عليها السلام فى السرور والاستبشار، وأخذ إخوة يوسف فى الاعتذار وطلب الاستغفار.
ويقال إخوة يوسف- وإن سلفت منهم الجفوة كلّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقة الأبوة على ما سبق منهم من الخطيئة.
ويقال يوم بيوم اليوم الذي كان يعقوب محزونا بغيبة يوسف فلا جرم اليوم كان يعقوب مسرورا بقميص يوسف، وكان الإخوة فى الخجلة مما عملوا بيوسف.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 98]
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ من استبشاره إلى الاستغفار.
ويقال لم يجبهم على الوهلة ليدلّهم على ما قدّموا من سوء الفعلة لأن يوسف كان غائبا(2/207)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وقتئذ، فوعدهم الاستغفار فى المستأنف- إذا رضى عنهم يوسف حيث كان الحقّ أكثره له، ولو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 99]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
اشتركوا فى الدخول ولكن تباينوا فى الإيواء، فانفرد الأبوان به لبعدهما عن الجفاء، كذلك غدا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فى وجود الجنان، ولكنهم يتباينون فى بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالاستواء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 100]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
أوقف كلّا بمحلّه فرفع أبويه على السرير، وترك الإخوة نازلين بأماكنهم.
قوله: «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» : كان ذلك سجود تحية، فكذلك كانت عادتهم. ودخل الأبوان فى السجود- فى حقّ الظاهر- لأنّ قوله «خَرُّوا» إخبار عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» وقال هاهنا: «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» .
قوله جل ذكره: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2/208)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
شهد إحسانه فشكره.. كذلك من شهد النعمة شكر، ومن شهد المنعم حمده «1» وذكر حديث السجن- دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر.
وقيل لأن فيه تذكيرا بجرم الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» . وقيل لأنه كان فى البئر مرفوقا به والمبتدئ يرفق به وفى السجن فقد ذلك الرّفق لقوة حاله فالضعيف مرفوق به والقوىّ مشدّد عليه فى الحال، وفى معناه أنشدوا:
وأسررتنى حتى إذا ما سببتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عنّي حين لا لى حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
وفى قوله: «وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» إشارة إلى أنه كما سرّ برؤية أبويه سرّ بإخوته- وإن كانوا أهل الجفاء، لأنّ الأخوّة سبقت الجفوة «2» .
قوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزغات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» .
يعنى إن وجد الشيطان سبيلا إليهم، فقد وجد أيضا إلىّ حيث قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» .
ثم نطق عن عين التوحيد فقال: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلونى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
من حرف تبعيض لأن الملك- بالكمال- لله وحده.
ويقال الملك الذي أشار إليه قسمان: ملكه فى الظاهر من حيث الولاية، وملك على نفسه حتى لم يعمل ما همّ به من الزّلّة.
__________
(1) أي إن (الحمد) أعلى درجة من (الشكر) .. وهكذا تثرى البعوث الصوفية اللغة.
(2) ربما يرمى القشيري من بعيد إلى أن يشير إلى أن الحق- سبحانه- يتفضل بكرمه على عباده- حتى ولو كانت منهم جفوة- لأنهم عباده أولا.. وإلى هذا يشير فى موضع آخر من كتابه:
«عبدى.. إن لم تكن لى. فأنا لك»(2/209)
ويقال ليس كلّ ملك المخلوقين الاستيلاء على الخلق، إنما الملك- على الحقيقة- صفاء الخلق.
قوله: «وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» : التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام «1» .
قوله جل ذكره: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» - هذا ثناء، وقوله: «تَوَفَّنِي» - هذا دعاء.
فقدّم الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء.
ثم قال: «أنت وليي فى الدنيا والآخرة، هذا إقرار بقطع الأسرار عن الأغيار.
ويقال معناه: الذي يتولّى فى الدنيا والآخرة بعرفانه أنت فليس لى غيرك فى الدارين.
قوله: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً» : قيل علم أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فسأل الوفاة.
وقيل من أمارات الاشتياق تمنّي الموت على بساط العوافي «2» مثل يوسف عليه السلام ألقى فى الجبّ فلم يقل توفنى مسلما، وأقيم فيمن يزيد «3» فلم يقل توفنى مسلما، وحبس فى السجن سنين فلم يقل توفنى مسلما، ثم لما تمّ له الملك، واستقام الأمر، ولقى الإخوة سجّدا، وألفى أبويه معه على العرش قال:
«تَوَفَّنِي مُسْلِماً» ، فعلم أنه كان يشتاق للقائه (سبحانه) .
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب: علمت أنّا نلتقى فيما بعد الموت.. فلم بكيت كلّ هذا البكاء؟
__________
(1) تصلح هذه العبارة لتوضيح الفرق- فى نظر القشيري- بين كلمتى التأويل والتفسير.
(2) هذه العبارة والاستشهاد عليها من قصة يوسف أوردهما القشيري منسوبين لشيخه الدقاق فى الرسالة ص 163.
(3) (أقيم فيمن يزيد) لم ترد فى النص السابق بالرسالة. ومعناها: نودى عليه ليباع كالعبيد بعد إخراجه من البئر.(2/210)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
فقال يعقوب، يا بنىّ إنّ هناك طرقا، خفت أن اسلك طريقا وأنت تسلك طريقا، فقال يوسف عند ذلك: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً» .
ويقال إن يوسف- عليه السلام- لما قال: توفنى مسلما، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال: يا بنى دعني أشتفى بلقائك من الذي منيت به فى طول فراقك، فلا تسعنى- بهذه السرعة- قولك: توفّني مسلما.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 102]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
تبيّن للكافة أن مثل هذا البيان لهذه القصة على لسان رجل أمي لا يكون إلا بتعريف سماوىّ ويقال كون الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمّيّا فى أول أحواله علامة شرفه وعلوّ قدره فى آخر أحواله، لأنّ صدقه فى أن هذا من قبل الله إنما عرف بكونه أميا، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 103]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
أخبر عن سابق علمه بهم، وصادق حكمه حكمته فيهم.
ويقال معناه: أقمتك شاهدا لإرادة إيمانهم، وشدّة الحرص على تحقّقهم بالدّين، وإيقانهم. ثم إنّى أعلم أنهم لا يؤمن أكثرهم، وأخبرتك بذلك، وفرض عليك تصديقى بذلك، وفرضت عليك إرادتى كون ما علمت أنه لا يكون من إيمانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 104]
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)
هذه سنّة الله- سبحانه- مع أنبيائه حيث أمرهم بألا يأخذوا على تبليغ الرسالة(2/211)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
عوضا ولا أجرا، وكذلك أمره للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام- بألّا يأخذوا من الخلق عوضا على دعائهم إلى الله، فمن أخذ منهم حظا من الناس لم يبارك للمستمع فيما يسمع منه فلا له أيضا بركة فيما يأخذ منهم فتنقطع به.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 105]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)
الآيات ظاهرة، والبراهين باهرة، وكلّ جزء من المخلوقات شاهد على أنّه واحد، ولكن كما أنّ من أغمض عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك من قصّر فى نظره واعتباره لم يحظ بعرفانه واستبصاره.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 106]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
الشّرك الجلىّ أن يتّخذ من دونه- سبحانه- معبودا- والشّرك الخفىّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه- سبحانه- مقصودا.
ويقال شرك العارفين أن يتخذوا من دونه مشهودا، أو يطالعوا سواه موجودا «1» .
ويقال من الشّرك الخفىّ الإحالة على الأشكال فى تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال «2» عند تزاحم الأشغال.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 107]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
أفأمن الذي اغترّ بطول الإمهال ألا يبتلى بالاستئصال، أفأمن من اغترّ بطول السلامة ألا يقوم البلاء عليه يوم القيامة.
__________
(1) أي (موجودا) على الحقيقة.
(2) (الاحتيال) معناها اللجوء إلى الحيلة أي التدبير الإنسانى بل ينبغى إسقاط التدبير واللجوء إلى التقدير الإلهى.(2/212)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
ويقال الغاشية حجاب من القسوة يحصل فى القلب، لا يزول بالتضرع ولا ينقشع بالتخشع ويقال الغاشية من العذاب أن تزول من القلب سرعة الانقلاب إلى الله تعالى، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله فى الطريق ما يوجب قنوطه من زواله، وفى معناه أنشدوا:
قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 108]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
«البصيرة» : اليقين الذي لا مرية فيه، والبيان الذي لا شك فيه. البصيرة يكون صاحبها ملاطفا بالتوفيق جهرا، ومكاشفا بالتحقيق سرّا.
ويقال البصيرة أن تطلع شموس العرفان فتندرج فيها أنوار نجوم العقل.
قوله «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» أي ذلك سبيلى، وسبيل من اقتدى بهداي فهو أيضا على بصيرة قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 109]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
تعجبوا أن يبعث الله إلى الخلق بشرا رسولا، فبيّن أنه أجرى سنّته- فيمن تقدّم من الأمم- ألا يكون الرسول إليهم إلا بشرا، فإما أن جحدوا جواز بعثة الرسول أصلا، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرا رسولا.
ثم أمرهم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنّظر فقال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..؟»
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 110]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)(2/213)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وتيقّنوا أنهم كذبوهم- والظن هاهنا بمعنى اليقين- فعند ذلك جاءهم نصرنا للرسل بالنجاة ولأقوامهم بالهلاك، ولا مردّ «1» لبأسنا ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين «2» شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» «3» فكما أنّه ينزّل المطر بعد اليأس فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (12) : آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
عبرة منها للملوك فى بسط العدل كما بسط يوسف عليه السلام، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أحسن إليهم، وأعتقهم حين ملكهم.
وعبرة فى قصصهم لأرباب التقوى فإن يوسف لمّا ترك هواه رقّاه الله إلى ما رقّاه.
وعبرة لأهل الهوى فيما فى اتباع الهوى من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمّا تبعت هواها لقيت الضرّ والفقر.
وعبرة للمماليك فى حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا ملك ملك العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالا.
__________
(1) سقطت الدال من (لا مرد) فأثبتناها. [.....]
(2) وردت (المرتدين) وهى خطأ فى النسخ فالكلام عن أحوال (المريدين) ، كذلك فإن الله لا يفتح على (المرتدين) شيئا فهم مغضوب عليهم.
(3) آية 28 سورة الشورى.(2/214)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
وعبرة فى العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته.
وعبرة فى ثمرة الصبر، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوما بلقاء يوسف عليه السلام «1» .
السورة التي يذكر فيها «الرَّعْدُ»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يورث لقوم طلبا ثم طربا، ولقوم. حزنا ثم هربا، فمن سمع بشاهد الرجاء طلب وجود رحمته فأذنه لها طرب، ومن سمع بشاهد الرهبة حزن من خوف عقوبته ثم إليه هرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إنّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنّى أنزّل عليك فالألف تشير إلى اسم «الله» ، واللام تشير إلى اسم «اللطيف» ، والميم تشير إلى اسم «المجيد» ، والراء تشير إلى اسم «الرحيم» . فقال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنى أنزله على محمد- صلى الله عليه وسلم. ثم عطف عليه بالواو قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» هو حق وصدق، لأنه أنزله على نبيّه- صلى الله عليه وسلم.
قوله جل ذكره: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به، فهم الأكثرون عددا، والأقلون قدرا وخطرا قوله جل ذكره: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
__________
(1) أحسن القشيري إذ جعل خاتمة السورة بمتشابة خلاصة دقيقة لها، وأوضح العبرة المستفادة من دور كل شخصية فيها.(2/215)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
دلّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته، ومن جملتها رفع السماوات وليس تحتها عماد يشدّها، ولا أوتاد تمسكها. وأخبر فى غير هذه المواضع أنه زيّن السماء بكواكبها، وخصّ الأرض بجوانبها ومناكبها.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» : أي احتوى على ملكه احتواء قدرة وتدبير. والعرش هو الملك حيث يقال: اندكّ عرش فلان إذا زال ملكه.
قوله جل ذكره: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ...
كلّ يجرى فى فلك. ويدلّ كل جزء من ذلك على أنه فعل ملك فى ملكه غير مشترك.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 3]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
بسط الأرض ودحاها، والجبال أرساها، وفجّر عيونها، وأجرى أنهارها، وجنّس بحارها، ونوّع من الحيوانات ما جعل البحر قرارها، وأنبت أشجارها، وصنّف أزهارها وثمارها، وكوّر عليها ليلها ونهارها.. ذلك تقدير العزيز العليم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 4]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(2/216)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
فمن سبخ «1» ومن حجر ومن رمل.. أنواع مختلفة، وأزواج متفقة. وزروع ونبات وأشجار أشتات، وأصل الكل واحد، فأجزاؤها متماثلة، وأبعاضها متشاكلة، ولكن جعل بعضها غدقا «2» ، وبعضها قشرا، وبعضها غصنا، وبعضها جذعا، وبعضها أزهارا، وبعضها أوراقا.. ثم الكلّ واحد، وإن كان لكلّ واحد طبع مخصوص وشكل مخصوص، ولون مخصوص وقشر مخصوص مع أنها تسقى بماء واحد إذ يصل إلى كل جزء من الشجر من الماء مقدار ما يحتاج إليه، «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 5]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)
وإن تعجب- يا محمد- لقولهم فهذا موضع يتعجّب منه الخلق، فالعجب لا يجوز فى صفة الحقّ «3» ، إذ أن التعجب الاستبعاد والحقّ لا يستبعد شيئا، وإنما أثبت موضع التعجب للخلق، وحسن ما قالوا: «إنما تعجّب من حجب» لأنّ من ينل عيون البصيرة لا يتعجّب من شىء.
وقوم أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له.
وإطلاق هذا- وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة- لا يجوز، والأدب السكوت عن أمثال هذا. والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا: أعجب العجب قول ما لا يجوز فى وصفه العجم.. وإن تعجّب.
وقوله تعالى: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» : استبعادهم النشأة الثانية- مع إقرارهم بالخلق الأول وهما فى معنى واحد- موضع التعجب، إذ هو صريح
__________
(1) السبخ المكان يظهر فيه الملح وتسوخ فيه الأقدام (الوسيط) .
(2) الغدق من العشب بالله وريه (الوسيط)
(3) إشارة إلى ما في الآية (فعجب قولهم..) .(2/217)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
فى المناقضة، وكان القوم أصحاب تمييز وتحصيل، فقياس مثل هذا يدعو إلى العجب. ولكن لولا أن الله- سبحانه- لبّس عليهم كما قال: «فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «1» - وإلا ما كان ينبغى أن يخفى عليهم جواز هذا مع وضوحه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 11]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
الكناية فى: «لَهُ مُعَقِّباتٌ» راجعة إلى العبد، أي أن الله وكل بكلّ واحد منهم معقبات وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضا بالليل والنهار يحفظون هذا المكلّف وذاك «3» من أمر الله، أي من البلاء الذي بقدرة الله. يحفظونهم بأمر الله من أمر الله، وذلك أن الله- سبحانه- وكل لكلّ واحد من الخلق ملائكة يدفعون عنهم البلاء إذا ناموا وغفلو، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا ... وفى جميع أحوالهم.
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ إذا غيّروا ما بهم إلى الطاعات غيّر الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا فى نعمة فغيّروا ما بهم من الشكر لله تغيّر عليهم ما منّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا فى شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا فى التضرع، وأظهروا العجر غيّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل.
ويقال إذا غيروا ما بألسنتهم من الذّكر غير الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيان
__________
(1) آية 9 سورة يس.
(2) هنا وضع الناسخ علامة على سقوط مساحة من النص، ومن المؤسف أنه لا يوجد استدراك لذلك فى الهامش ويقع فى هذه المساحة تفسير للآيات من (5 إلى 10) من السورة.
(3) فى النسخة (وهذا) ولكننا آثرنا أن نجعلها (وذاك) حتى نزيد السياق إيضاحا ونمنع الليس إذ ربما يظن أن (وهذا) الثانية مبتدأ.(2/218)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
والغفلة، فإذا كان العبد فى بسطة وتقريب، وكشف بالقلب وترقب.. فالله لا يغيّر ما بأنفسهم بترك أدب، أو إخلال بحق، أو إلمام بذنب.
ويقال لا يكفّ ما أتاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يترك ويغيّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور «1» القلب بالنسيان وما يطيح به من العصيان. أبدل الله تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسلبه ما كان يعطيه من الإحسان.
ويقال إذا توالت المحن وأراد العبد زوالها فلا يصل إليه النّفض «2» منها إلّا بأن يغير ما هو به فيأخذ فى السؤال بعد السكوت، وفى إظهار الجزع بعد السكون، فإذا أخذ فى التضرع غيّر ما به من الصبر «3» .
قوله: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ» : يقال إذا أراد الله بقوم بلاء وفتنة فما تعلّقت به المشيئة لا محالة يجرى.
ويقال إذا أراد الله بقوم سوءا ( ... ) «4» أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون- فى الحقيقة- فى دمهم كما قال قائلهم:
إلى حتفى مشى قدمى ... إذا قدمى أراق دمى
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 12]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)
كما يريهم البرق- فى الظاهر- فيكونون بين خوف وطمع خوف من إحباس المطر وطمع فى مجيئه. أو خوف للمسافر من ضرر مجىء المطر، وطمع للمقيم فى نفعه..
كذلك يريهم البرق فى أسرارهم بما يبدو فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم كالبرق فى الصفاء، وهذه أنوار المحاضرة ثم أنوار المكاشفة.
__________
(1) وردت (حصول) وقد آثرنا أن تكون (حضور) القلب حتى تقابل (النسيان) .
(2) يقال نقض فلان من مرضه أي برىء منه (الوسيط)
(3) سيعود القشيري إلى الإجابة عن سؤالين: متى يجوز للعبد أن يشكو ويتضرع؟ وهل هذا آية نفاد صبره أم علامة ضعفه إزاء القوة الإلهية؟ .. عند حديثه عن أيوب فى سورة الأنبياء.
(4) مشتبهة وربما كانت لفظة بمعنى (أعمى)(2/219)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
«خَوْفاً» : من أن ينقطع ولا يبقى، «وَطَمَعاً» : فى أن يدوم فيه نقل صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود.
ويقال «يُرِيكُمُ الْبَرْقَ» : من حيث البرهان، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان، ثم بصير إلى نهار العرفان. فإذا طلعت شموس التوحيد فلا خفاء بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس، كما قيل:
هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
ويقال تبدو لهم أنوار الوصال فيخافون أن تجنّ «1» عليهم ليالى الفرقة، فقلّما تخلو فرحة الوصال من أن تعقبها موجة الفراق «2» ، كما قيل:
أي يوم سررتنى بوصال ... لم «3» تدعنى ثلاثة بصدود؟!
قوله جل ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحابَ «4» الثِّقالَ إذا انتاب السحابة فى السماء ظلام فى وقت فإنه يعقبه بعد ذلك ضحك الرياض، فما لم تبك السماء لا يضحك الروض، كما قيل:
ومأتم فيه السماء تبكى ... والأرض من تحتها عروس
كذلك تنشأ فى القلب سحابة الطلب، فيحصل للقلب تردد الخاطر، ثم يلوح وجه الحقيقة، فتضحك الروح لفنون راحات الأنس، وصنوف أزهار القرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 13]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
أي الملائكة أيضا تسبح من خوفه تعالى.
قوله جل ذكره: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ
__________
(1) مصوبة هكذا فى الهامش، والمعنى ينقبلها وبرفض (ثمن) التي فى المتن. [.....]
(2) وردت (القرآن) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (كم)
(4) وردت (الصحاب) بالصاد وهى خطأ.(2/220)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قد يكون فى القلب حنين وأنين، وزفير وشهيق. والملائكة إذا حصل لهم على قلوب المريدين- خصوصا- اطلاع يبكون دما لأجلهم، لا سيّما إذا وقعت لواحد منهم فترة، والفترة فى هذه الطريقة الصواعق التي يصيب بها من يشاء، وكما قيل:
ما كان ما أوليت من وصلنا ... إلا سراجا لاح «1» ثم انطفا
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 14]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
دواعى الحق تصير لائحة فى القلوب من حيث البرهان فمن استمع إليها بسمع الفهم، استجاب لبيان العلم. وفى مقابلتها دواعى الشيطان «2» التي تهتف بالعبد بتزيين المعاصي، فمن أصغى إليها بسمع الغفلة استجاب لصوت «3» الغىّ، ومعها دواعى النّفس وهى قائدة للعبد بزمام الحظوظ، فمن ركن إليها ولاحظها وقع فى هوان الحجاب.
ودواعى الحقّ تكون بلا واسطة ملك، ولا بدلالة عقل، ولا بإشارة علم، فمن أسمعه الحقّ ذلك استجاب لا محالة لله بالله.
قوله جل ذكره: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ هواجس النّفس ودواعيها تدعو- فى الطريقة- إلى الشّرك، وذلك بشهود شىء منك، وحسبان أمر لك، وتعريح فى أوطان الفرق، والعمى عن حقائق الجمع.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 15]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
__________
(1) وردت (راح) بالراء والمعنى لا يتقلبها فاخترنا (لاح) لأنها أقرب فى المعنى والخط.
(2) وردت (السلطان) وهى خطأ في النسخ.
(3) وردت (لصورت) والراء زائدة كما هو واضح.(2/221)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
المؤمن يسجد لله طوعا، وإذا نزل به ضر ألجأه إلى أن يتواضع ويسجد، وذلك معنى سجوده كرها- وهذا قول أهل التفسير. والكافر يسجد طائعا مختارا، ولكن لمّا كان سجوده لطلب كشف الضّرّ قال تعالى: إنه يسجد كرها وعلى مقتضى هذا كلّ من يسجد لابتغاء عوض أو لكشف محنة.
ويقال السجود على قسمين: ساجد بنفسه وساجد بقلبه فسجود النّفس معهود «1» ، وسجود القلب من حيث الوجود.. وفرق بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه.
ويقال الكلّ يسجدون لله إمّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار: سجود من حيث الدلالة على الوحدانية فكلّ جزء من عين أو أثر فعلى الوحدانية شاهد، وعلى هذا المعنى لله ساجد. وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
سلهم- يا محمد- من موجد السماوات والأرض ومقدّرها، ومخترع ما يحدث فيها ومدبّرها؟ فإن أسكتهم عن الجواب ما استكنّ فى قلوبهم من الجهل فقل الله منشيها ومجريها.
ثم قال: «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» : يعنى الأصنام، وهى جمادات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، ويلتحق فى المعنى بها كلّ من هو موسوم برقم الحدوث، فمن علّق قلبه بالحدثان ساوى- من وجه- من عبد الأصنام، قال تعالى: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «2» .
__________
(1) أي السجود فى الصلوات العادية بالنسبة للكافة، وأما سجود القلب فللخاصة.
(2) آية 106 سورة يوسف.(2/222)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قوله جل ذكره: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الأعمى من على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصير من كحلّ الحقّ بصيرة سرّه بنور التوحيد.. لا يستويان! ثم هل تستوى ظلمات الشّرك وأنوار التوحيد؟ ومن جملة النور الخروج إلى ضياء شهود التقدير.
قوله جل ذكره: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي لو كان له شريك لوجب أن يكون له ند مضاه، وفى جميع الأحكام له مواز، ولم يجد حينئذ التمييز بين فعليهما.
وكذلك لو كان له ند.. فإنّ إثباتهما شيئين اثنين يوجب اشتراكهما فى استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضا مستحقا له، وهذا يؤدى إلى ألا يعرف المحلّ.. وذلك محال.
قوله جل ذكره: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «كُلِّ شَيْءٍ» تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطب لا يدخل فى الخطاب.
«وَهُوَ الْواحِدُ» : الذي لا خلف عنه ولا بدل «1» ، الواحد الذي فى فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلّ أحد، ويستعين به كل أحد.
و «الْقَهَّارُ» : الذي لا يجرى يخلاف حكمه- فى ملكه- نفس.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
__________
(1) وردت (يدل) بالياء وهى خطأ فى النسخ.(2/223)
هذه الآية تشتمل على أمثال ضربها الله لتشبيه القرآن المنزّل بالماء المنزّل من السماء، وشبّه القلوب بالأودية، وشبّه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بالزّبد الذي يعلو الماء، وشبّه الخلق «1» بالجواهر الصافية من الخبث كالذهب والفضة والنحاس وغيرها، وشبّه الباطل بخبث هذه الجواهر. وكما أن الأودية مختلفة فى صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء فى القلة والكثرة- كذلك القلوب تختلف فى الاحتمال على حسب الضعف والقوة. وكما أن السيل إذا حصل فى الوادي يطهّر الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حفظه فى القلوب نفى الوساوس والهوى عنها، وكما أنّ الماء، قد يصحبه ما يكدره، ويخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفهم القرآن فى قلوب المؤمنين حين تخلص من نزغات الشيطان ومن الخواطر الرّديّة، فالقلوب بين صاف وكدر.
وكما أنّ الجواهر التي تتخذ منها الأوانى إذا أذيبت خلصت من الخبث كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقّ ويضمحل الباطل.
ويقال إن الأنوار إذا تلألأت فى القلوب نفت آثار الكلفة، ونور «2» اليقين ينفى ظلمة الشك، والعلم ينفى تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفى أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفى آثار البشرية،
__________
(1) هكذا فى المصورة ونرجح أنها (الحق) ليقابل (الباطل) كما تقابل الجواهر الصوفية الخبث- ويزيد من قوة هذا الترجيح ما سيأتى بعد قليل عند (التمييز بين الحق والباطل) .
(2) وردت (ونون) وهى خطأ فى النسخ.(2/224)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
وأنوار الجمع تنفى آثار التفرقة. وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوع الشمس من حيث العرفان تنفى صدفة الليل من حيث حسبان أثر الأغيار.
ثم الجواهر التي تتخذ منها الأوانى مختلفة فمن إناء يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره- كذلك القلوب تختلف، وفى الخبر: إن لله تعالى أوانى وهى القلوب» فزاهد قاصد ومحب واجد، وعابد خائف وموحّد عارف، ومتعبّد متعفّف ومتهجّد متصوف، وأنشدوا:
ألوانها شتّي الفنون وإنما ... تسقى بماء واحد من منهل
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 18]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
«الْحُسْنى» «1» : الوعد بقبول استجابتهم، وذلك من أجلّ الأشياء عندهم فلا شىء أعزّ على المحبّ من قبول محبوبه منه شيئا.
أما الذين لم يستجيبوا له فلو أنّ لهم جميع ما فى الأرض وأنفقوه عمدا لا يقبل منهم، ولهم سوء الحساب، وهو المناقشة فى الحساب، ثم مأواهم جهنم ودوام العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 19]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
«2» استفهام فى معنى النفي، أي لا يستوى البصير والضرير، ولا المقبول بالمردود بالحجبة، ولا المؤمّل بالتقريب بالمعرّض للتعذيب، ولا الذي أقصيناه عن شهودنا بالذي هديناه
__________
(1) يرى النسفي أن (الحسنى) هنا صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى.
(2) أخطأ الناسخ إذ جعلها (أفلم) .(2/225)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
بوجودنا. إنما يتّعظ من عقله له تشريف، دون من عقله له سبب إقصاء وتعنيف.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 20]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)
«1» الوفاء بالعهد باستدامة العرفان، والوفاء بشرط الإحسان، والتوقّى من ارتكاب العصيان بذلك أبرم العقد يوم الميثاق والضمان.
وميثاق قوم ألا يعبدوا شيئا سواه، وميثاق قوم ألا يسألوا سواه قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 21]
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21)
«2» الذين يصلون الإيمان به بالإيمان بالأنبياء والرسل.
ويقال الذين يصلون أنفاسهم بعضا ببعض فلا يتخلّلها نفس لغير الله، ولا بغير الله، ولا فى شهود غير الله.
ويقال يصلون سيرهم بسراهم فى إقامة العبودية، والتبرّى من الحول والقوة.
وقوله: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» : الخشية لجام يوقف المؤمن عن الرّكض فى ميادين الهوى، وزمام يجرّ إلى استدامة حكم التّقى.
وقوله: «وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 22]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
الصبر يختلف باختلاف الأغراض التي لأجلها يصبر الصابر، فالعبّاد يصبرون لخوف العقوبة، والزهاد يصبرون طمعا فى المثوبة، وأصحاب الإرادة هم الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وشرط هذا النوع من الصبر رفض ما يمنع من الوصول، واستدامة التوقي منه،
__________
(1) أخطأ النساخ إذ جعلها (والذين) . [.....]
(2) هذه الآية مستدركة فى هامش الورقة بعد أن سقطت من المتن.(2/226)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
فيدخل فيه ترك الشهوات، والتجرد عن جميع الشواغل والعلاقات، فيصبر عن العلة والزّلة.
وعن كل شىء يشغّل عن الله.
ومما يجب عليه الصبر الوقوف على حكم تعزّز الحق، فإنّه- سبحانه- يتفضّل على الكافة من المجتهدين، ويتعزز- خصوصا- على المريدين، فيمنحهم الصبر فى أيام إرادتهم، فإذا صدقوا فى صبرهم جاد عليهم بتحقيق ما طلبوا.
قوله جل ذكره: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً.
الأغنياء ينفقون أموالهم. والعبّاد ينفقون نفوسهم ويتحملون صنوف الاجتهاد، ويصبرون على أداء الفرائض والأوراد. والمريدون ينفقون قلوبهم فيسرعون إلى أداء الفرائض والأوراد ويصبرون إلى أن يبوح علم من الإقبال عليهم. وأمّا المحبون فينفقون أرواحهم..
وهى كما قيل:
ألست لى خلفا؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ومطلوب.
قوله جل ذكره: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ يعاشرون الناس بحسن الخلق فيبدأون بالإنصاف ولا يطلبون الانتصاف، وإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء، وإن أذنب إليهم قوم اعتذروا عنهم، وإن مرضوا عادوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : الآيات 23 الى 24]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)(2/227)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
يتم النعمة عليهم بأن يجمع بينهم وبين من يحبون صحبتهم من أقاربهم وأزواجهم، وقد ورد فى الخبر: «المرء مع من أحبّ» فمن كان محبوبه أمثاله وأقاربه حشر معهم، ومن كان اليوم بقلبه مع الله، فهو غدا مع الله، وفى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» ، وهذا فى العاجل، وأمّا فى الآجل، ففى الخبر: «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة» .
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
من كفر بعد إيمانه نقض عهد الإسلام فى الظاهر، ومن رجع إلى أحكام العادة بعد سلوكه طريق الإرادة، فقد نقض عهده فى السّرّاء ... فهذا مرتدّ جهرا، وهذا مرتدّ سرّا، والمرتد جهرا عقوبته قطع رأسه، والمرتد سرّا عقوبته قطع سرّه.
وقوله: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» ، هو نقض قوله: «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» .
ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وترك الاكتفاء بالله الجبّار.
ويقال نقض العهد الرجوع إلى الاختبار والتدبير بعد شهود الأقدار، وملاحظة التقدير.
ويقال نقض العهد بترك نفسه، ثم يعود إلى ما قال بتركه.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 26]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
يبسط الرزق للأغنياء ويطالبهم بالشكر ويضيّق على الفقراء ويطالبهم بالصبر(2/228)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
وعد الزيادة للشاكرين، ووعد المعيّة للصابرين. للأغنياء الأموال بمزيدها، وللفقراء التجرد فى الدارين عن طريقها وتليدها.
قوله جل ذكره: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ فرح الأغنياء بزكاء أموالهم، وفرح الفقراء بصفاء أحوالهم.
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» قليل بالإضافة إلى ما وعدهم الله فأموال الأغنياء- وإن كثرت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من وجود أفضاله، وأحوال الفقراء- وإن صفت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 27]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)
«يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» : وهم الذين لم يشهدوا ما أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الشواهد والبرهان حتى ( ... ) «1» الزيادة.
«وَيَهْدِي من يشاء» : وهم الذين أبصروا بعيون أسرارهم ما خصّ به من الأنوار فسكنوا بنور استبصارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 28]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قوم اطمأنت قلوبهم بذكرهم الله، وفى الذكر وجدوا سلوتهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم. وقوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فذكرهم الله- سبحانه- بلطفه، وأثبت الطمأنينة فى قلوبهم على وجه التخصيص لهم.
__________
(1) مشتبهة.(2/229)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
ويقال إذا ذكروا أنّ الله ذكرهم استروحت قلوبهم، واستبشرت أرواحهم، واستأنست أسرارهم، قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» لما نالت بذكره من الحياة، وإذا كان العبد لا يطمئن قلبه بذكر الله، فذلك لخلل فى قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 29]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
طابت أوقاتهم وطابت نفوسهم.
ويقال طوبى لمن قال له الحقّ: طوبى.
طوبى لهم فى الحال، وحسن المآب فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
لئن أرسلناك بالنبوة إليهم فلقد أرسلنا قبلك كثيرا من الرسل، ولئن أصابك منهم بلاء فلقد أصاب من قبلك كثير من البلاء، فاصبر كما صبروا تؤجر كما أجروا.
قوله جل ذكره: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ لئن كفروا بنا فآمن أنت، وإذا آمنت فلا تبال بمن جحد، فإنّك أنت المقصود من البريّة، والمخصوص بالرسالة والمحبة.
لو كان يجوز فى وصفنا أن يكون لنا غرض فى أفعالنا.
ولو كان الغرض فى الخلقة فأنت سيد البشر، وأنت المخصوص من بين البشرية بحسن الإقبال «1» ، فهذا مخلوق يقول فى مخلوق:
__________
(1) هذه أقصى درجة فى التصور لشخصية الرسول صلوات الله عليه- في نظر هذا الصوفي.. قارن ذلك بأقوال باحت آخر كابن عربى أو الجبلي عن «الإنسان الكامل» ، لتلحظ الفرق الهائل بين الاتجاهين.(2/230)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
وكنت أخّرت أو طارى لوقت ... فكان الوقت وقتك والسلام
وكنت أطالب الدنيا بحبّ ... فكنت الحبّ.. وانقطع الكلام
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
لو كان شىء من المخلوقات يظهر بغيرنا فى الإيجاد لكان يحصل بهذا القرآن، ولكن المنشئ الله، والخير والشر جملة من الله، والأمر كله لله. فإذا لم يكن شىء من الحدثان بالقرآن- والقرآن كلام الله العزيز- فلا تكون ذرة من النفي والإثبات لمخلوق.. فإن ذلك محال.
قوله جل ذكره: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً معناه أفلم يعلم الذين آمنوا، ويقال أفلم ييأسوا من إيمانهم وقد علموا أنه من يهديه الحق فهو المهتدى؟
قوله جل ذكره: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ يعنى شؤم كفرهم لا يزال واصلا إليهم، ومقتص «1» فعلهم لاحق بهم أبدا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
__________
(1) من (اقتص) والقصاص أن يوقع على الجاني مثل ماجنى.(2/231)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
أنزل هذه الآية على جهة التسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم- عما كان يلاقيه منهم.
وكما أن هؤلاء فى التكذيب جروا على نهجهم فنحن أدمنا سنّتنا فى التعذيب معهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 33]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
الجواب فيه مضمر أي أفمن هو مجرى ومنشئ الخلق والمطّلع عليهم، لا يخفى عليه منهم شىء كمن ليس كذلك؟ لا يستويان غدا أبدا.
قوله جل ذكره: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ قل لهم أرونى أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم؟ أتقولون ما يعلم الله بخلافه؟ وهذا معنى قوله: «بِما لا يَعْلَمُ» .
قوله جل ذكره: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطّرق، فإنّ من أضلّه حكمه- سبحانه- لا يهديه أحد قطعا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 35]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
المثل أي الصفة، فصفة الجنة التي وعد المتقون هى أنها جنة تجرى من تحتها الأنهار، وأكلها دائم وظلها دائم، أي أن اللذات فيها متصلة. وإنما لهم جنات معجلة ومؤجلة، فالمؤجّلة(2/232)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
ما ذكره الله- سبحانه- فى نص القرآن، والمعجلة جنة الوقت «1» .. والدرجات- من حيث البسط- فيها متصلة، ونفحات الأنس لأربابها لا مقطوعة ولا ممنوعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 36]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
يريد بهم مؤمنى أهل الكتاب الذين كانوا يفرحون بما ينزل من القرآن لصدق يقينهم.
وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي الأحزاب الذين قالوا كان محمد يدعو إلى إله واحد، فالآن هو ذا يدعو إلى إلهين لمّا نزل: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» «2» .
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ.
قل يا محمد: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ» . والعبودية المبادرة إلى ما أمرت به، والمحاذرة «3» مما زجرت عنه، ثم التبرّى عن الحول والمنّة، والاعتراف بالطول والمنّة.
وأصل العبودية القيام بالوظائف، ثم الاستقامة عند روح اللطائف.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 37]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
أي حكما ببيان العرب لأنّ الله تعالى أرسل الرسل فى كلّ وقت كلا بلسان قومه ليهتدوا إليه.
ويقال من صفات العرب الشجاعة والسخاء ومراعاة الذّمام وهذه الأشياء مندوب إليها فى الشريعة.
__________
(1) أي جنة أرباب الأحوال ... هنا فى هذه الدنيا
(2) آية 110 سورة الإسراء ومنهم كعب بن الأشرف والسيد والعاقب وأشياعهم.
(3) وردت (المحاضرة) بالضاد وهى خطا فى النسخ كما هو واضح من السياق.(2/233)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» : أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووقعت على قلبك حشمة من غير الله- فمالك من واق من الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 38]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38)
أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى قومهم، فلم يكونوا إلا من جنسك، وكما لكم أزواج وذرية كانت لهم أزواج وذرية، ولم يكن ذلك قادحا فى صحة رسالتهم، ولا تلك العلاقات كانت شاغلة لهم.
ويقال إن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الأشغال لا تؤثر فى حاله ولا يضره ذلك.
قوله جل ذكره: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ.
أي لكل شىء أجل مثبت فى كتاب الله وهو المحفوظ، وله وقت قسم له، وأنه لا اطلاع لأحد على علمه، ولا اعتراض لأحد على حكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 39]
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
المشيئة لا تتعلق بالحدوث، والمحو والإثبات متصلان بالحدوث.
فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، وقوله وحكمه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله المحو يرجع إلى العدم، والإثبات إلى الإحداث، فهو يمحو من قلوب الزّهاد حب الدنيا ويثبت بدله الزهد فيها، كما فى خبر حارثة: «عزفت نفسى عن الدنيا فاستوى عندى حجرها وذهبها» «1» .
__________
(1) سأل النبي (ص) حارثة. لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا......، خرجنا هذا الحديث فى هامش سابق.(2/234)
ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظ، ويثبت بدلها حقوقه تعالى، ويمحو عن قلوب الموحّدين شهود غير الحق ويثبت بدله شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية.
ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق.
ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقّ فيكون محوا عن الخلق مثبتا بالحق للحق.
ويقال يمحو العبد فلا يجرى عليه حكم التدبير، ويكون محوا بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطان التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء.
ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذكر الحق، ويثبت بدله غلبات الغفلة وهواجم النسيان.
ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوع إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة.
ويقال يمحو أو ضار الزّلّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين (ويثبت) «1» يدل ذلك لوعة النّدم، وانكسار الحسرة، والخمود عن متابعة الشهوة.
ويقال يمحو عن ذنوبهم السيئة، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» .
ويقال يمحو الله نضارة الشباب ويثبت ضعف المشيب.
ويقال يمحو عن قلوب الراغبين فى مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلا منه الزهد فى صحبتهم والاشتتغال بعشرتهم.
ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صفت من الغيب «2» ، وليال كانت مضاءة بالزلفة والقربة ويثبت بدلا من ذلك أياما هى أشدّ ظلاما من الليالى الحنادس «3» ، وزمانا يجعل سعة الدنيا عليهم محابس.
__________
(1) سقطت هذه اللفظة من الناسخ.
(2) من (الغيب) يكون المعنى أن الأيام التي كانت تمنح لهم من الغيب صافية، ولكننا لا نستبعد أنها قد تكون (الغيم) على معنى خلو تلك الأيام من كل كدورة بدليل المقابلة التي وردت فيما بعد.
(3) جمع حندس أي شديد السواد.(2/235)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم فى وقت آخر بلطف جماله.
ويقال يمحوهم إذا تجلّى لهم، ويثبتهم إذا تعزّز عليهم.
ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار.
قوله جل ذكره: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به علمه وحكمه مما لا تبديل ولا تغيير فيه.
ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 40]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)
نفى عنه الاستعجال أمرا، و (....) «1» فى قلوبهم أنه يوشك أن يجعل الموعود جهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 41]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)
فى التفاسير: بموت العلماء، وفى كلام أهل المعرفة بموت الأولياء، الذين إذا أصاب الناس بلاء ومحنة فزعوا إليهم فيدعون الله ليكشف البلاء عنهم.
ويقال هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشد فى طريق الله لم يجد من يهديه إلى الله.
ويقال: فى كل زمان لسان ينطق عن الحقّ سبحانه «2» ، فإذا وقعت فترة سكن ذلك اللسان- وهذا هو النقصان فى الأطراف الذي تشير إليه الآية، وأنشد بعضهم:
طوى العصران ما نشراه منى ... وأبلى جدتى نشر وطيّ
__________
(1) مشتبهة.
(2) يتصل ذلك بفكرة القطب والأوتاد والأبدال.(2/236)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
أرانى كلّ يوم فى انتقاص ... ولا يبقى مع النقصان شىّ
ويقال ينقصها من أطرافها أي بفتح المدائن وأطراف ديار الكفار، وانتشار الإسلام، قال تعالى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «1» .
ويقال ينقصها من أطرافها بخراب البلدان، قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» «2» وقال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» «3» فموعود الحقّ خراب العالم وفناء أهله، ووعده حقّ لأن كلامه صدقّ، والله يحكم لا معقّب لحكمه، ولا ناقض لما أبرمه، ولا مبرم لما نقضه، ولا قابل لمن ردّه، ولا رادّ لمن قبله، ولا معزّ لمن أهانه، ولا مذلّ لمن أعزّه.
«وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» : لأن ما هو آت فقريب.
ويقال «سَرِيعُ الْحِسابِ» فى الدنيا لأنّ الأولياء إذا ألموا بشىء، أو همّوا لمزجور عوتبوا فى الوقت، وطولبوا بحسن الرّجعى.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 42]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
مكرهم إظهار الموافقة مع إسرارهم الكفر، ومكر الله بهم توّهمهم أنهم محسنون فى أعمالهم، وحسبانهم «4» أنهم سنأ من أحوالهم، وظنّهم أنه لا يحيق بهم مكرهم، وتخليته إياهم- مع مكرهم- من أعظم مكره بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (13) : آية 43]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
__________
(1) آية 28 سورة الفتح. [.....]
(2) آية 88 سورة القصص.
(3) آية 26 سورة الرحمن.
(4) وردت (وحسناتهم) وهى خطأ فى النسخ.(2/237)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
وبال تكذيبهم عائد إليهم، فإنّ الله شهيد لك بصدقك. «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» هو الله سبحانه وتعالى عنده علم جميع المؤمنين. فالمعنى كفى بالله شهيدا فعنده علم الكتاب وكفى بالمؤمنين شهيدا إذ المؤمنون يعلمون ذلك.
السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه السلام
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله معناه بالله فقلوب العارفين بالله إشراقها، وقلوب الوالهين بالله احتراقها، لهؤلاء فا ( ... ) «1» محبته، ولهؤلاء شوقا إلى عزيز رؤيته.
وأصحاب الوصول قالوا: بالله.. فوصل من الطالبين من وصل قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
أقسم بهذه الحروف: إنّه لكتاب أنزل إليك لتخرج الناس به من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشّكّ إلى نور اليقين، ومن ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير، ومن ظلمات الابتداع «2» إلى نور الاتباع، ومن ظلمات دعاوى النّفس إلى نور معارف القلب، ومن ظلمات التفرقة إلى نور الجمع- بإذن ربهم، وبإرادته ومشيئته، وسابق حكمه وقضائه إلى صراط رحمته، وهو نهج التوحيد وشواهد التفريد.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 2]
اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2)
عرّف الخلق أنّ الله هو الذي له ما فى السماوات وما فى الأرض.
__________
(1) مشتبهة.
(2) وردت (الابتداء) بالهمزة وهى خطأ من الناسخ.(2/238)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
فمن عرف فله المآب الحميد، ومن جحد فله العذاب الشديد وذلك العذاب هو جهله بأنه- سبحانه- من هو.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 3]
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)
ثم ذكر ذميم أخلاقهم، فقال: هم الذين يؤثرون اليسير من حطام الدنيا على الخطير من نعم الآخرة، وذلك من شدة جحدهم، ويبغون للدّين عوجا بكثرة جمعهم، أولئك لهم فى الدنيا الفراق وهو أشد عقوبة، وفى الآخرة الاحتراق وهو أجلّ محنة ومصيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 4]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
إنما كان كذلك ليكون آكد فى إلزام الحجة، وأنّى ينفع ذلك إذا لم يوفّقوا لسلوك المحجّة؟ فأهل الهداية فازوا بالعناية السابقة، وأصحاب الغواية وقعوا فى ذلّ العداوة، فلا اعتراض عليه فيما يصنع، ولا يسأل عما يفعل أو لم يفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 5]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
أخرج قومك بدعوتك من ظلمات شكهم إلى نور اليقين، ومن إشكال الجهل إلى روح العلم. وذكّرهم بأيام الله ما سلف لهم من وقت الميثاق، وما رفع عنهم من البلاء فى سابق أحوالهم.(2/239)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
ويقال ذكّرهم بأيام الله وهى ما سبق لأهواحهم من الصفوة وتعريف التوحيد قبل حلولها فى الأشباح:
سقيا لها ولطيبها ولحسنها وبهائها أيام لم (......) «1»
ويقال ذكّرهم بأيام الله وهى التي كان العبد فيها فى كتم العدم، والحق يتولّى عباده قبل أن يكون للعباد فعل فلا جهد للسابقين، ولا عناء ولا ترك للمقتصدين، ولا وقع من الظالم لنفسه ظلم «2» .
إذ كان متعلق العلم متناول القدرة، والحكم على الإرادة.. ولم يكن للعبد اختيار فى تلك الأيام.
قوله: « ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .
«صَبَّارٍ» : راض بحكمه واقف عند كون لذيذ العيش يسرّه.
«شَكُورٍ» : محجوب «3» بشهود النّعم عن استغراقه فى ظهور حقه.. هذا واقف مع صبره وهذا واقف مع شكره، وكلّ ملزم بحدّه وقدره ... والله غالب على أمره، مقدّس فى نفسه متعزّز بجلال قدسه.
قوله جل ذكره
[سورة إبراهيم (14) : آية 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
__________
(1) بقية الكلام غامضة فى الكتابة والمعنى، وتعجز المطبعة أن تنقل حروفها.
(2) يشير القشيري بذلك إلى الآية 33 من سورة فاطر: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» .
(3) فلا يزول الحجاب إلا إذا تجرد العبد عن شهود النعمة، وشاهد المنعم، ومن شاهد المنعم استقبل السراء والضراء بلا تمييز.(2/240)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
تذكّر ما سلف من النّعم يوجب تجديد ما سبق من المحبة، وفى الخبر:
«جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» فالحقّ أمر موسى عليه السلام.
بتذكير قومه ما سبق إليهم من فنون إنعامه، ولطائف إكرامه.. وفى بعض الكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم السلام: «عبدى، أنا لك محبّ فبحقى عليك كن لى محبا» قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 7]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)
إن شكرتم لأزيدنكم من إنعامى وإكرامى، وإن كفرتم بإحسانى لأعذبنكم اليوم بامتحانى، وغدا بفراقى وهجرانى.
لئن عرفتم وصالى لأزيدنكم من وجود نوالى إلى شهود جمالى وجلالى «1» .
ويقال لئن شكرتم وجوه توفيق العبادة لأزيدنكم بتحقيق الإرادة.
ويقال لئن شكرتم شهود المكافي لأزيدنكم بشهود أوصافى.
ويقال لئن شكرتم صنوف إنعامى لأزيدنكم بشهود إكرامى ثم إلى شهود إقدامى.
ويقال لئن شكرتم مختص نعمائى لأزيدنكم منتظر آلائي.
ويقال لئن شكرتم مخصوص نعمى لأزيدنكم مأمول كرمى.
ويقال لئن شكرتم ما خوّلناكم من عطائى لأزيدنكم ما وعدناكم من لقائى.
ويقال لئن شكرتم ما لوّحت فى سرائركم زدناكم ما ألبسنا من العصمة لظواهركم.
ويقال لئن كفرتم نعمتى بأن توهمتم استحقاقها «2» لجرّعناكم ما تستمرّون مذاقها.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 8]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
__________
(1) أي إن الوجود والشهود- عند هذا الصوفي- يرتبطان بالأوصاف لا بالذات، فقد جلت الصمدية عن أن يستشرف العبد من الذات.
(2) أي ينبغى أن تنظروا لأعمالكم بعين الاستصغار وأن ما تنالون من نعمة فضل من الله وليس نظير أعمالكم.(2/241)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
إن اجتمعتم أنتم ومن عاضدكم، وكل من غاب عنكم وحضركم، والذين يقتفون أثركم- على أن تكفروا بالله جميعا، وأخذتم كل يوم شركاء قطيعا- ما أوجهتم لعزّنا شينا، كما لو شكرتم ما جعلتم بملكنا زينا. والحقّ بنعوته ووصف جبروته علىّ، وعن العالم بأسره غنىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
استفهام فى معنى التقرير. أخبره أنه لما جاءتهم الرسل قابلوهم بالكنود، وعاملوهم بالجحود وردوا أيديهم فى أفواههم، وحذوا سبيل أمثالهم فى الكفر، وبنوا على الشك والريبة قواعدهم، وأسسوا على الشّرك والغىّ مذاهبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 10]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)
استفهام والمراد منه توبيخ ونفى. سبحانه لا يتحرك نفس إلا بتصريفه.
وكيف يبصر جلال قدره إلا من كحلّه بنور برّه؟
ثم قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» : ليس العجب ممن تكلف لسيده المشاق وتحمل ما لا يطاق، وألّا يهرب من خدمة أو يجنح إلى راحة.. إنما العجب من سيد عزيز كريم يدعو عبده ليغفر له وقد أخطأ، ويعامله بالإحسان وقد جفا.(2/242)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
والذي لا يكفّ عن العناد، ولا يؤثر رضاء سيده على راحة نفسه فلا يحمل هذا إلا على قسمة بالشقاء سابقة.. وإن أحكام الله بردّه صادقة. ثم أخبر أنهم قالوا لرسلهم:
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ نظروا إلى الرسل من ظواهرهم ولم يعرفوا سرائرهم، ومالوا إلى تقليد أسلافهم، وأصروا على ما اعتادوه من شقاقهم وخلافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 11]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قالت لهم الرسل ما نحن إلا أمثالكم، والفرق بيننا أنه- سبحانه- منّ علينا بتعريفه، واستخلصنا بما أفردنا به من تشريفه. والذي اقترحتم علينا من ظهور الآيات فليس لنا إلى الإتيان به سبيل إلّا أن يظهره الله علينا إذا شاء بما شاء- وهو عليه قدير.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 12]
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
«ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» : وقد رقّانا من حدّ التكليف بالبرهان إلى وجود روح البيان بكثرة ما أفاض علينا من جميل الإحسان، فكفانا من مهان الشان. «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» : وقد حقّق لنا ما سبق به الضمان من وجود الإحسان، وكفاية ما أظلّنا من الامتنان. «ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» ولم نخرج إلى التقاضي على الله فيما وعدنا الله.(2/243)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
قوله: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» : والصبر على البلاء يهون إذا كان على رؤية المبلى، وفى معناه أنشدوا:
يستقدمون بلاياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قبلوا
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
لما عجز الأعداء عن معارضة الأنبياء عليهم السلام فى الإتيان بمثل آياتهم أخذوا فى الجفاء معهم بأنواع الإنذار، والتهديد بفنون البلاء من الإخراج عن الأوطان، والتشريد فى البلدان.
وبسط الله على قلوبهم بوعد نصره ولقائه ما أظلّهم من الأمر، ومكّن لهم من مساكن أعدائهم بما قوّى قلوبهم على الصبر على مقاساة بلائهم فقال:
«لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» ، وقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 14]
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)
«وَخافَ وَعِيدِ» : أي خاف مقامه فى محل الحساب غدا فأناب إلى نفسه على وجه التخصيص.
ويقال خاف مقامى أي هاب اطلاعى عليه، فالأول تذكير المحاسبة فى الآجل، والثاني تحقيق المراقبة فى العاجل.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 15]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
الاستفتاح طلب الفتح، والفتح القضاء، واستعجلوا حلول القضاء مثل قولهم: «إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» «1» وغيره فلما نزل بهم البلاء، وتحقق لهم
__________
(1) آية 32 سورة الأنفال.(2/244)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
الأمر لم ينفعهم تضرعهم وبكاؤهم، ولم تقبل منهم صدقتهم وفداؤهم، وندموا حين لا ندامة، وجزعوا بعد ما عدموا السلامة.
ويقال: «وَاسْتَفْتَحُوا» : بغير الرسل، ولما وجد الرسل إصرار قومهم سألوا النصرة عليهم من الله كقول نوح- عليه السلام: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ، وقول موسى عليه السلام: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» «1» فأجابهم الله بإهلاكهم.
ويقال إذا اشتد البلاء وصدق الدعاء قرب النّجاء.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 16 الى 17]
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
لفظ «وراء» يقع على ما بين يديه وعلى ما خلف، والوراء ما توارى عليك أي استتر يريد هذا الكافر يأتيه العذاب فيما بين يديه من الزمان، وعلى ما خلفه أي لأجل ما سلف من الماضي من قبيح أفعاله، ويسقى من النار ما يشربه جرعة بعد جرعة، فلصعوبته ومرارته لا يشربه مرة واحدة.
قوله جل ذكره: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ يرى العذاب- من شدته- فى كل عضو، وفى كل وقت، وفى كل مكان. وليس ذلك الموت لأنّ أهل النار لا يموتون، ولكنه فى الشدة كالموت. ثم «مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» : وهو الخلود فى النار، وهذا جزاء من اغترّ بأيام قلائل ساعدته المشيئة فيها، وانخدع فلم يشعر بما يليها.
__________
(1) الآية 88 سورة يونس.(2/245)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
أي وفيما يتلى عليك- يا محمد- مثل لأعمال الكفار فى تلاشيها، وكيف أنه لا يقبل شىء منها كرماد فى يوم عاصف، فإنه لا يبقى منه شىء- كذلك أعمالهم.
ومن كان كذلك فقد خاب فى الدارين، وحلّ عليه الويل.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
خلق السماوات والأرض بالحكم الحق، أي له ذلك بحقّ ملكه، وخلقهما بقوله الحق فجعل كلّ جزء منهما على وحدانيته دليلا، ولمن أراد الوصول إلى ربّه سبيلا.
ثم قال: إن يشأ يذهبكم بالإفناء، ويأت بخلق جديد فى الإنشاء، وليس ذلك عليه بعزيز ... وأنّى ذلك وهو على كل شىء قدير؟! قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 22]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
لم يكونوا عن الحقّ- سبحانه- مستترين حتى يظهروا له، ولكن معناه صارت معارفهم ضرورية فحصلوا فى مواطن لم يكن لغير الله فيها حكم، فصاروا كأنهم ظهروا لله.
فقال الضعفاء للذين استكبروا: «إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» توهما أن يرفعوا عنهم شيئا من العناء، فأجابهم المتكبرون: إنّا جميعا فى العذاب مشتركون، ولو أمكننا أن نرفع عنكم من(2/246)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
العذاب، وقدرنا على أن نهديكم إلى طريق النجاة لنجيناكم مما شكوتم، وأجبناكم إلى ما سألتم، ولكنكم لستم اليوم لنا بمصرخين، ولا نحن لكم بمغيثين، ولا لما تدعونا إليه بمستجيبين ...
فلا تلومونا ولوموا أنفسكم، ولات حين ملام! إنما ينفع لوم النّفس فيما تتعاطاه من الإساءة فى زمان المهلة وأوقات التكليف فإنّ أبواب التوبة مفتوحة، ولكن لمن لم ينزع روحه.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
ذلك الذي مضى ذكره صفة الكفار والأعداء. وأمّا المؤمنون والأولياء، فقال:
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ... » والإيمان هو التصديق، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تحقيق التصديق.
ويدخل فى جملة الأعمال الصالحة ما قلّ أو كثر من وجوه الخيرات حتى القذر تميطه «1» عن الطريق.
و «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» - وكذلك قال تعالى: «لَهُمْ دارُ السَّلامِ» ، فالوصف العام والتحية لهم من الله السلام.
ويقال إن أحوالهم متفاوتة فى الرتبة فقوم سلموا من الاحتراق ثم من الفراق ثم من العذاب ثم من الحجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 26]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)
__________
(1) أماط الأذى أي نحاه وأبعده.(2/247)
هذا مثل ضربه الله للإيمان والمعرفة به سبحانه، فشبهه بشجرة طيبة، وأصل تلك الشجرة ثابت فى الأرض وفروعها باسقة وثمراتها وافية. تؤتى أكلها كل وقت، وينتفع بها أهلها كل حين.
وأصل تلك الشجرة المعرفة، والإيمان مصحّحا بالأدلة والبراهين، وفروعها الأعمال الصالحة التي هى الفرائض ومجانبة المعاصي.
والواجب صيانة الشجرة مما يضرّ بها مثل كشف القشر وقطع العرق وإملاق الغصن «1» وما جرى مجراه.
وأوراق تلك الشجرة القيام بآداب العبودية، وأزهارها الأخلاق الجميلة، وثمارها حلاوة الطاعة ولذة الخدمة.
وكما أن الثمار تختلف فى الطّعم والطبع والرائحة والصورة.. كذلك ثمرات الطاعات، ومعانى الأشياء التي يجدها العبد فى قلبه تختلف من حلاوة الطاعة وهى صفة العابدين، والبسط الذي يجده العبد فى وقته وهو صفة العارفين، وراحة فى الضمير وهو صفة المريدين، وأنس يناله فى سرّه وهو صفة المحبين. وقلق واهتياج يجدهما ولا يعرف سببهما، ولا يجد سبيلا إلى سكونه وهو صفة المشتاقين. إلى ما لا يفى بشرحه نطق، ولا يستوفيه تكلّف قول. وذكر من لوائح ولوامع، وطوارق وشوارق، كما قيل.
طوارق أنوار تلوح إذا بدت ... فتظهر كتمانا وتخبر عن جمع
ثم إن ثمرات الأشجار فى السنة مرة، وثمرات هذه الشجرة فى كل لحظة كذا كذا مرة.
وكما قال الله تعالى فى ثواب الجنة: «لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» كذا لطائف هذه الشجرة
__________
(1) أي إذهاب الفاسد منه. [.....](2/248)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقلوب أهل الحقائق عنها لا مصروفة ولا محجوبة، وهى فى كل وقت ونفس تبدو لهم غير محجوبة.
وثمرات الشجرة أشرف الثمار، وأنوارها ألطف وأظرف الأنوار، وإشارات أهل هذه القصة وألفاظهم فى مراتبهم ومعانيهم كالرياحين والنّور.
ويقال الكلمة الطيبة هى الشهادة بالإلهية، وللرسول- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة.
وإنما تكون طيبة إذا صدرت عن سرّ مخلص.
والشجرة الطيبة المعرفة، وأصلها ثابت فى أرض غير سبخة، والأرض السبخة قلب الكافر والمنافق، فالإيمان لا ينبت فى قلبيهما كما أن الشجرة فى الأرض السبخة لا تنبت.
ثم لا بدّ للشجرة من الماء، وماء هذه الشجرة دوام العناية، وإنما تورق بالكفاية، وتتورّد بالهداية.
ويقال ماء هذه الشجرة ماء الندم والحياء والتلهف والحسرة والأمانة والخشوع وإسبال «1» الدموع.
ويقال ثمرات هذه الشجرة مختلفة بحسب اختلاف أحوالهم فمنها التوكل والتفويض والتسليم، والمحبة والشوق، والرضا، والأحوال الصافية الوافية، والأخلاق العالية الزكية.
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هى كلمة الكفر، وخبثها ما صحبها من نجاسة الشّرك، فخبث الكلمة لصدورها عن قلب هو مستقرّ الشّرك ومنبعه.
والشجرة الخبيثة هى الشّرك اجتثّ من فوق الأرض لأن الكفر متناقض متضاد، ليس له أصل صحيح، ولا برهان موجب، ولا دليل كاشف، ولا علة مقتضية، إنما هو شبه وأباطيل وضلال، تقتضى وساوس وتسويلات ما لها من قرار، لأنها حاصلة من شبه واهية وأصول فاسدة.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 27]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
__________
(1) أسبلت العين- سال دمها (الوسيط ج 1 ص 417) .(2/249)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
بالقول الثابت وهو البقاء على الاستقامة، وترك العوج.
ويقال القول الثابت هو الشهادة الضرورية عن صفاء العقيدة وخلوص السريرة.
ويقال القول الثابت هو بنطق القلوب لا بذكر اللسان.
ويقال القول الثابت هو قول الله العزيز القديم الذي لا يجوز عليه الفناء والبطول «1» فهو بالثبوت أولى من قول العبد لأن قول العبد أثر، والآثار لا يجوز عليها الثبوت والبقاء وإنما يكون باقيا حكما ثبات العبد لقول الله وهو حكمه بالإيمان وإخباره أنه مؤمن وتسميته بالإيمان. وقول الله لا يزول ففى الدنيا يثبته حتى لا بدعة تعتريه، وفى الآخرة يثبته برسله من الملائكة، وفى القيامة يثبته عند السؤال والمحاسبة وفى الجنة يثبته لأنه لا يزول حمد العبد لله، ومعرفته به. وإذا تنوعت عليه الخواطر ورفع إليه- سبحانه- دعاءه ثبّته حتى لا يحيد عن النهج المستقيم والدين القويم.
ويقال إذا دعته الوساوس إلى متابعة الشيطان، وصيّرته الهواجس إلى موافقة النّفس فالحق يثبته على موافقة رضاه.
ويقال إذا دعته دواعى المحبة من كل جنس كمحبة الدنيا، أو محبة الأولاد والأقارب والأموال والأحباب أعانه الحقّ على اختيار النجاة منها، فيترك الجميع، ولا يتحسّس إلا دواعى الحقّ- سبحانه كما قيل:
إذا ما دعتنا حاجة كى تردّنا ... أبينا وقلنا: مطلب الحقّ أوّلا
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 28]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)
__________
(1) بطل الشيء بطولا وبطلانا- ذهب ضياعا (الوسيط ج 1 ص 61) .(2/250)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
وضعوا الكفران محل الشكر، فاستعملوا النعمة للكفر، بدلا من استعمالها فيما كان ينبغى لها من الشكر. واستعمال النعمة فى المعصية من هذه الجملة، فأعضاء العبد كلها نعم من الله على العبد، فإذا استعمل العاصي بدنه فى الزّلة بدلا من أن يستعملها فى الطاعة فقد بدّل النعمة كفرا، وكذلك إذا أودع الغفلة قلبه مكان المعرفة، والعلاقة فيه مكان الانقطاع إليه، وعلّق قلبه بالأغيار بدل الثقة به، ولطّخ لسانه بذكر المخلوقين ومدحهم بدل ذكر الله واشتغل بغير الله دون العناء فى ذكره ... كلّ هذا تبديل نعم الله كفرا. وإذا كان العبد منقطعا إلى الله، مكفيا من قبل الله.. وجد فى فراغه مع الله راحة عن الخلق، ومن إقباله عليه- سبحانه- كفاية، فإذا رجع إلى أسباب التفرقة، ووقع فى بحار الاشتغال ومعاملة الخلق ومدحهم وذمهم فقد أحلّ قومه دار البوار على معنى إيقاعه قلبه ونفسه وجوارحه فى المذلة من الخلق، والمضرة فى الحال، وشأنه كما قيل:
ولم أر قبلى من يفارق جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنم
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 29]
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29)
وهى الجحيم المعجّل.. وعذابها الفرقة لا الحرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 30]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
رضوا بأن يكون معمولهم معبودهم، ومنحوتهم مقصودهم، فضلّوا عن نهج الاستقامة، ونأوا عن مقر الكرامة، وسيلقون غبّ «1» ما صنعوا يوم القيامة كما قيل:
قد تركناك والذي تريد ... فعسى أن تملّهم فتعودا
قل تمتعوا أياما قليلة فأيام السرور قصار، ومتع الغفلة سريعة الانقضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 31]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
__________
(1) وردت (غير) وقد آثرنا أن تكون (غب) ليقوى المعنى أي عاقبة ما صنعوا.(2/251)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
جعل الله راحة العبد- اليوم- بكمالها فى الصلاة فإنّها محلّ المناجاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحنا يا بلال بالصلاة» «1» والصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى:
«وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» «2» وفى الصلاة يبث «3» العبد أسراره مع الحق فإذا كان لقاء الإخوان- كما قالوا- مسلاة لهم فكيف بمناجاتك مع الله، ونشر قصتك بين يديه؟ كما قيل:
قل لى بألسنة التنفّس ... كيف أنت وكيف حالك؟
«وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ» : أمرهم بإنفاق اللسان على ذكره، وإنفاق البدن على طاعته، والوقت «4» على شكره، والقلب على عرفانه، والروح على حبه، والسّرّ على مشاهدته..
ولا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها، وإنما يطالب بأن تحضر إلى الباب، وتقف على البساط بالشاهد الذي آتاك ... يقول العبد المسكين: لو كان لى نفس أطوع من هذه لأتيت بها، ولو كان لى قلب أشدّ وفاء من هذا لجدت به، وكذلك بروحى وسرّى، وقيل:
يفديك بالروح صبّ لو انّ له ... أعز من روحه شيئا فداك به
«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» : وفى هذا المعنى أنشدوا:
قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 33]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33)
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث الشريف.
(2) آية 132 سورة طه.
(3) وردت (يثبت) والمعنى يقتضى (يبث) .
(4) وردت (الوقف) وهى- كما هو واضح- خطأ فى النسخ.(2/252)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
فى الظاهر رفع السماء فأعلاها، والأرض من تحتها دحاها، وخلق فيها بحارا، وأجرى أنهارا، وأنبت أشجارا، وأثبت لها أنوارا وأزهارا، وأمطر من السماء ماء مدرارا. وأخرج من الثمرات أصنافا، ونوّع لها أوصافا، وأفرد لكلّ منها طعما مخصوصا، ولإدراكه وقتا معلوما.
وأمّا فى الباطن فسماء القلوب زيّنها بمصابيح العقول، وأطلع فيها شمس التوحيد، وقمر العرفان. ومرج فى القلوب بحرى الخوف والرجاء، وجعل بينهما برزخا لا يبغيان فلا الخوف يقلب الرجاء ولا الرجاء يقلب الخوف، كما جاء فى الخبر: «لو وزنا لاعتدلا» «1» - هذا لعوام المؤمنين، فأمّا الخواص فالقبض والبسط، ولخاص الخاص فالهيبة والأنس والبقاء والفناء.
وسخّر لهم الفلك فى هذه البحار ليعبروها بالسلامة، وهى فلك التوفيق والعصمة، وسفينة الأنوار والحفظ. وكذلك ليالى الطلب للمريدين، وليالى الطرب لأهل الأنس من المحبين، وليالى الحرب «2» للتائبين، وكذلك نهار العارفين باستغنائهم عن سراج العلم عند متوع نهار اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 34]
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
ما سمت إليه هممكم، وتعلّق به سؤالكم، وخطر تحقيق ذلك ببالكم، أنلناكم
__________
(1) أورده السراج فى لمعه ص 91 (قال صلى الله عليه وسلم: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)
(2) ربما يقصد القشيري بالحرب هنا جهاد التائب مع نفسه، وإظهار الحزن والتأسف.(2/253)
فوق ما تؤمّلون «1» ، وأعطيناكم أكثر مما ترجون «2» ، قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .
وقرأ بعض القراء «3» : «مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» فينوّن قوله: كل، ويجعل ما سألتموه (ما) للنفى أي كل شىء مما لم تسألوه.
كذلك جاز أن يكون المعنى، قل يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألونى- وهذا لأرباب الطاعات، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى- وهذا لأصحاب الزلات. علم قصور لسان العاصي وما يمنعه من الخجل وما يقبض على لسانه إذا تذكّر ما عمله من الزلّات، فأعطاه غفرانه، وكفاه حشمة السؤال، والتفضل فقال: غفرت لكم قبل أن تستغفرونى.
ولكن متى يخطر على قلب العبد ما أهّله الحق- سبحانه- من العرفان؟ وكيف يكون ذلك الحديث؟ .. قبل أن كان له إمكان، أو معرفة وإحسان، أو طاعة أو عصيان، أو عبادة وعرفان، أو كان له أعضاء وأركان، أو كان العبد شيخا أو عينا أو أثرا..
لا بل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا
قوله جل ذكره: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ كيف يكون شكركم كفاء نعمه..؟ وشكركم نزر يسير، وإنعامه وافر غزير.
وكيف تكون قطرة الشكر بجوار بحار الإنعام؟
إنّ نعمه علومكم عن تفصيلها متقاصرة، وفهومكم عن تحصيلها متأخّرة.
__________
(1) وردت (تؤمنون) وهى- كما هو واضح- لا يستقيم بها السياق فآثرنا تؤملون.
(2) وردت (ترجعون) وهى- كما هو واضح- لا يستقيم بها السياق فآثرنا ترجون.
(3) لا يهتم القشيري بالقراءات إلا نادوا، وحيثما وجد فى ذلك مجالا لإشارة نافعة للصوفية(2/254)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
وإذا كان ما يدفع عن العبد من وجوه المحن «1» وفنون البلايا من مقدوراته لا نهاية له.
فكيف يأتى الحصر والإحصاء على مالا يتناهى؟
وكما أن النّفع من نعمه فالدفع أيضا من نعمه.
ويقال إن التوفيق للشكر من جملة ما ينعم به الحقّ على العبد فإذا أراد أن يشكره لم يمكنه إلا بتوفيق آخر فلا يبقى من النعم إلا ما يشكر عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 36]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
«2» كما سأل أن يجعل مكة بلدا آمنا طلب أن يجعل قلبه محلا آمنا أي لا يكون فيه شىء إلا بالله. «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» : والصنم ما يعبد من دونه، قال تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «3» فصنم كلّ أحد ما يشغله عن الله تعالى من مال وولد وجاه وطاعة وعبادة.
ويقال إنه لمّا بنى البيت استعان بالله أن يجرّده من ملاحظة نفسه وفعله.
ويقال إنه- صلى الله عليه وسلم- كان مترددا بين شهود فضل الله وشهود رفق نفسه، فلما لقى من فضله وجوده قال من كمال بسطه: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .
ولما نظر من حيث فقر نفسه قال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» .
ويقال شاهد غيره فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» ، وشاهد فضله ورحمته ولطفه فقال: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .
__________
(1) وردت (المحسن) وهى خطأ فى النسخ.
(2) سقطت (وإذ) من الناسخ. [.....]
(3) آية 23 سورة الجاثية.(2/255)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله جل ذكره: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «فَإِنَّهُ مِنِّي» : أي موافق لى ومن أهل ملّتى، ومن عصانى خالفنى وعصاك.
قوله: «فَإِنَّكَ «1» غَفُورٌ رَحِيمٌ» : طلب للرحمة بالإشارة، أي فارحمهم.
وقال: «وَمَنْ عَصانِي» .. ولم يقل: من عصاك، وإن كان من عصاه فقد عصى الله، ولكن اللفظ إنما لطلب الرحمة فيما كان نصيب من ترك حقه، ولم ينتصر لنفسه بل قابلهم بالرحمة.
ويقال إن قول نبينا صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب أتمّ فى معنى العفو حيث قال:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وإبراهيم- عليه السلام- عرّض وقال: «فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
ويقال لم يجزم السؤال لأنه بدعاء الأدب «2» فقال: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 37]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
أخبر عن صدق توكله وصدق تفويضه بقوله: «إِنِّي أَسْكَنْتُ ... » وإنما رأى الرّفق بهم فى الجوار لا فى المبارّ فقال: «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ثم قال: «لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» :
أي أسكنتهم لإقامة حقّك لا لطلب حظوظهم.
ويقال اكتفى أن يكونوا فى ظلال عنايته عن أن يكونوا فى ظلال نعمته.
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ جعلها «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
(2) تفيد هذه الإشارة فى النواحي البلاغية حيث استبدل التعبير بالأسلوب الإنشائى بالأسلوب الخبرى.(2/256)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
ثم قال: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» أي ليشتغلوا بعبادتك، وأقم قومى- ما بقوا- بكفايتك، «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» : فإنّ من قام بحقّ الله أقام الله بحقّه قومه، واستجاب الله، دعاءه فيهم، وصارت القلوب من كل بر وبحر كالمجبولة على محبة تلك النسبة، وأولئك المتصلين به، وسكان ذلك البيت.
ويقال قوله: «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» : أي أسكنتهم بهذا الوادي حتى لا تتعلق بالأغيار قلوبهم، ولا تشتغل بشىء أفكارهم وأسرارهم فهم مطروحون ببابك، مصونون بحضرتك، مرتبطون بحكمك إن راعيتهم كفيتهم وكانوا أعزّ خلق الله، وإن أقصيتهم ونفيتهم كانوا أضعف وأذلّ خلق الله.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 38]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38)
استأثرت بعلم الغيب فلا يعزب عن علمك معلوم، وحالى لا تخفى عليك، فهى كما عرفت، أنت تعلم سرّى وعلني ... ومن عرف هذه الجملة استراح من طوارق الأغيار، واستروح قلبه عن ترجّم الأفكار، والتّقّسم في كون الحوادث من الأغيار.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 39]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
أسعده بمنحه الولد على الكبر، ويلتحق ذلك بوجه من المعجزات فحمد عليه.
ولمّا كان هذا القول عقيب سؤاله ما قدّم من ذكر نعمته- سبحانه- عليه، وإكرامه بأنواره، وهذا يكون بمعنى الملق «1» ، ويكون استدعاء نعمة بنعمة، فكأنه قال: كما أكرمتنى بهبة الولد على الكبر فأكرمنى بهذه الأشياء التي سألتها.
ويقال الإشارة فى هذا أنه قال: كما مننت علىّ فوهبتنى على الكبر هذه الأولاد
__________
(1) الملق- الدعاء والتضرع (الوسيط) .(2/257)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
فأجنبنا أن نعبد الأصنام لتكون النعمة كاملة. وفى قوله: «إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
إشارة إلى هذه الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 الى 41]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
فى قوله: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ..» إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة، فمعناه اجعل صلاتى، والجعل والخلق بمعنى، فإذا جعله مقيم الصلاة فمعناه أن يجعل له صلاة.
وقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» : أي اجعل منهم قوما يصلّون، لأنه أخبره فى موضع آخر بقوله: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1» ثم قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» وهذ قبل أن يعلم أنه لا يؤمن.
ويقال إن إجابة الدعاء ابتداء فضل منه. ولا ينبغى للعبد أن يتّكل على دعاء أحد وإن كان علىّ الشأن، بل يجب أنّ يعلق العبد قلبه بالله فلا دعاء أتمّ من دعاء إبراهيم عليه السلام، ولا عناية أتمّ من عنايته بشأن أبيه، ثم لم ينفعه ولا شفع الله له.
ويقال لا ينبغى للعبد أن يترك دعاءه أو يقطع رجاءه فى ألا يستجيب الله دعاءه، فإن إبراهيم الخليل عليه السلام دعا لأبويه فلم يستجب له، ثم إنه لم يترك الدعاء، وسأل حينما لم يجب فيه.
فلا غضاضة على العبد ولا تناله مذلّة إن لم يجبه مولاه فى شىء فإنّ الدعاء عبادة لا بدّ للعبد من فعلها، والإجابة من الحقّ فضل، وله أن يفعل وله ألا يفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)
هذا وعيد للظالمين وتسلية للمظومين فالمظلوم إذا تحقّق بأنه- سبحانه- عالم بما يلاقيه من البلاء هانت على قلبه مقاساته، وحق عليه تحمله.
__________
(1) آية 124 سورة البقرة.(2/258)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
والظلم على وجوه ظلم على النّفس بوضع الزّلّة مكان الطاعة، وظلم على القلب بتمكين الخواطر الردية منه، وظلم على الروح بجعلها لمحبة المخلوقين.
ويقال من جملة الظالمين الشيطان، فالعبد المؤمن مظلوم من جهته، والحقّ- سبحانه- ينتصف له منه غدا، وذلك إن لم يتّبعه اليوم، ودفعه عن نفسه بالمجاهدة وترك وساوسه.
قوله جل ذكره: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي ... الآية وهذا للعوام من المؤمنين، علّق قلوبهم بالانتقام منهم فى المستأنف، وأمّا الخواص فإذ علموا أنه- سبحانه- عالم بهم وبحالهم فإنهم يعفون ويكتفون بذلك، وأمّا خواص الخواص فإذ علموا أنهم عبيده فإنهم لا يرضون بالعفو عن ظلمهم حتى يستغفرلهم، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وفى معناه أنشدوا:
وما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وازدادوا
وأما أصحاب التوحيد فإذ علموا أنه المنشئ، وألا مخترع سواه فليس بينهم وبين أحد محاسبة، ولا مع أحد معاتبة، ولا منه مطالبة، لأنه يعدّون إثبات الغير فى الظن والحسبان شركا.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 44]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)
أفسدوا فى أول أمورهم، وقصّروا فى الواجب عليهم، ولم يكن للخلل فى أحوالهم جبران، ولا لعذرهم قبول لتصحّ الحجة عليهم، فافتضح المجرم منهم، وخاب الكافر، وحقّ الحكم عليهم.(2/259)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 45]
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)
أحللنا بهم العقوبة، وأشهدناكم ذلك مما اعتبرتم، وجريتم على منهاجهم، وفعلتم مثل فعلهم، وبإمهالنا لكم اغتررتم.. فانتظروا منّا ما عاملناكم به جزاء لكم على ما أسلفتم.
ويقال إن معاشرة أهل الهوى والفسق ومجاورتهم مشاركة لهم فى فعلهم، فيستقبل فاعل ذلك استقبالهم، ومن سلكهم ينخرط فى التردّى نحو وهدة هلاكه مثلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 47]
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)
أي لا تحسبنّه يخلف رسله وعده لأنه لا يخلف الوعد لصدقه فى قوله، وله أن يعذبهم بما وعدهم لحقّه فى ملكه، وهو «عَزِيزٌ» لا يصل إليه أحد، وإن كان وليا. «ذُو انتِقامٍ» لا يفوته أحد وإن كان (......) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 48]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48)
لا يختلف عينها وإنما تختلف صورتها، وكذلك إذا انكدرت النجوم، وانشقت السماء يقال ما بدّل عينها وإنما بدّل الأزمان والمكان على الناس باختلاف أحوالهم فى السرور والمحن كمن صار من الرخاء إلى البلاء يقول: تغيّر الزمان والوقت.. وكذلك من صار من البلاء إلى الرخاء.
ويقال إن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر قال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
وفى هذه القصة «2» من كان صاحب بسط فردّ إلى حال القبض، ومن كان صاحب أنس
__________
(1) وردت لفظتان هكذا (سهما قوما) .
(2) يشير القشيري إلى (بالقصة) إلى الحياة الصوفية.(2/260)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
فصار صاحب حجاب- يصحّ أن يقال بدل له الأرض، قال بعضهم:
ما الناس بالناس الذي عهدى بهم ... ولا البلاد بتلك التي كنت أعرفها
وكذلك العبد المريد إذا وقعت له وقفة أو فترة كانت الشمس له كاشفة، وكانت الأرض به راجفة، وكان النهار له ليلا، وكان الليل له ويلا، وكما قيل:
فما كانت الدنيا بسهل ولا الضحى ... يطلق ولا ماء الحياة ببارد
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 49 الى 51]
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
الأصفاد الأغلال. الأصفاد تجمعهم، والسلاسل تقيدهم، والقطران سرابيلهم، والحميم شربهم، والنار محيطة بهم.. وذلك جزاء من خالف إلهه.
قوله جل ذكره:
[سورة إبراهيم (14) : آية 52]
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
الحجج ظاهرة، والأمارات لائحة، والدواعي واضحة، والمهلة متسعة، والرسول عليه السلام مبلّغ، والتمكين من القيام بحق التكليف مساعد. ولكنّ القسمة سابقة، والتوفيق عن القيام ممنوع، والربّ- سبحانه- فعّال لما بريد، فمن اعتبر نجا، ومن غفل تردّى. ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله أعلم.(2/261)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
السورة التي يذكر فيها الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أن الإثبات والإسقاط بلا علة فلم يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب علة. فإن قيل العلّة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء من بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة.
فإن قيل العلة فى زيادة شكل الباء بركة أفضالها باسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال بها موجود، فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
أسمعهم هذه الحروف مقطّعة على خلاف ما كانوا يسمعون الحروف المنظومة فى الخطاب، فأعرضوا عن كل شىء وسمعوا لها. ونبههم القرآن إلى أن هذه التي يسمعونها آيات الكتاب، فقال لهم لما حضرت ألبابهم، واستعدت لسماع ما يقول آذانهم: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» .
ووصف القرآن بأنه مبين لأنه يبين للمؤمنين ما يسكن قلوبهم، وللمريدين ما يقوى رجاءهم، وللمحسنين ما يهيج اشتياقهم، وللمشتاقين ما يثير لواعج أسرارهم، ويبيّن للمصطفى- صلى الله عليه وسلم- تحقيق ما منع غيره بعد سؤاله.. ألم تر إلى ربك قال لموسى عليه السلام: «لَنْ تَرانِي» بعد سؤاله: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» «1»
__________
(1) آية 143 سورة الأعراف(2/262)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 2]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)
إذا عرفوا حالهم وحال المسلمين يوم القيامة لعلموا كيف شقوا، وأي كأس رشفوا.
ويقال إذا صارت المعارف ضرورية أحرقت نفوس أقوام العقوبة، وقطّعت قلوبهم الحسرة.
ويقال لو عرفوا حالهم وحال المؤمنين لعلموا أن العقوبة بإهلاكهم حاصلة لقوله تعالى بعدئذ:
[سورة الحجر (15) : آية 3]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قيمة كل امرئ على حسب همّته فإذا كانت الهمة مقصورة على الأكل والتمتع بالصفة البهيمية لا يحاسب، وعلى العقل لا يطالب فالتّكليف يتبعه التشريف! وغدا سوف يعلمون.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
الآجال معلومة، والأحوال مقسومة والمشيئة فى الكائنات ماضية، ولا تخفى على الحق خافية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 6]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
الجنون معني يوجب إسناد ما ينكشف للعقلاء من التحصيل على صاحبه، فلمّا كانوا بوصف التباس الحقائق عليهم فهم أولى بما وصفوه به «1» ، فهم كما فى المثل: رمتني بدائها وانسلّت.
__________
(1) لأنهم ليسوا عقلاء ولا تحصيل لهم.(2/263)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 7 الى 8]
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
اقترحوا عليه الإتيان بالملائكة بعد ما أزيحت العلة عليهم بما أيّد به معجزاته، فيتوجب اللّوم عليهم لسوء أدبهم. وأخبر الحقّ- سبحانه- أنه أجرى عادته أنه إذا أظهر الملائكة لأبصار بنى آدم فيكون ذلك عند استبصارهم لأنه تصير المعرفة ضرورية. وفى المعلوم أنه لم يكن ذلك الوقت أوان هلاكهم لعلمه أنّ فى أصلابهم من يؤمن بالله سبحانه فى المستأنف.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 9]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
أنزل التوراة وقد وكل حفظها إلى بنى إسرائيل بما استحفظوا من كتاب الله، فحرّفوا وبدّلوا، وأنزل الفرقان وأخبر أنه حافظه، وإنما يحفظه بقرائة فقلوب القرّاء خزائن كتابه، وهو لا يضيع كتابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 13]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
أخبر أنه كانت عادتهم التكذيب، وأنه أدام سنّته معهم فى التعذيب. ثم قال:
«كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» : وهم لا يؤمنون به لأنه أزاح قلوبهم عن شهود الحقيقة، وسدّ- بالحرمان- عليهم سلوك الطريقة، وبيّن أنه لو أراهم الآيات عيانا ما ازدادوا(2/264)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
إلا عتوا وطغيانا، وأن من سبق له الحكم بالشقاء فلا يزداد على ممر الأيام إلا ما سبق به القضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
من عليه التقدير كان بأمر التكليف مدعوا، وبأمر التكوين مقضيا.. فمتى ينفع فيه النصح؟ ومتى يكون للوعظ فيه مساغ؟ كلا.. إن البصيرة له مسدودة، و (....) «1»
الخذلان بقدمه مشدودة، فهو يحمل النصيحة له على الوقيعة، والحقيقة على الخديعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 18]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)
بروجا أي نجوما هى لها زينة، ثم تلك النجوم للشياطين رجوم.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ إذا رام الشياطين أن يسترقوا السمع كانت النجوم لها رجوما كذلك للقلوب نجوم وهى المعارف وهى فى الوقت ذاته رجوم على الشياطين فلو دنا إبليس وجنوده من قلب ولىّ من الأولياء أحرقته بل محقته نجوم عقله وأقمار علمه وشموس توحيده.
وكما أنّ نجوم السماء زينة للناظرين إذا لاحظوها فقلوب العارفين إذا نظر إليها ملائكة السماء لهى زينة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 19 الى 20]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
__________
(1) مشتبهة وهى فى الخط هكذا (متقلاب) وربما كانت (مثقلات) بمعنى أثقال وقيود.(2/265)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
النفوس أرض عبادة العابدين، وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والخوف والرجاء لها رواس. وكذلك الرغبة والرهبة.
ويقال من الرواسي التي أثبتها فى الأرض الأولياء فبهم يثبت الناس إذا وقع بهم الفزع.
ومن الرواسي العلماء الذين بهم قوام الشريعة فعلماء الأصول هم قوام أصل الدّين، والفقهاء بهم نظام الشرع، قال بعضهم:
وا حسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والأمن والمزن.
قوله جل ذكره: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ كما أنبت فنونا من النبات ذات أنوار «1» أنبت فى القلوب صنوفا من الأنوار «2» ، منها نور اليقين ونور العرفان، ونور الحضور ونور الشهود، ونور التوحيد.. إلى غير ذلك من الأنوار.
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ سبب عيش كلّ واحد مختلف فعيش المريدين من إقباله، وعيش العارفين التجمل بأفضاله «3» قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 21]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
خزائنه فى الحقيقة مقدوراته، وهو- سبحانه- قادر على كل ما هو مرسوم بالحدوث.
ويقال خزائنه فى الأرض قلوب العارفين بالله، وفى الخزانة جواهر من كل صنف فحقائق العقل جواهر وضعها فى قلوب قوم، ولطائف العلم جواهر بدائع المعرفة، وأسرار العارفين
__________
(1) أنوار النبات جمع نورة وهى الزهرة البيضاء.
(2) أنوار القلوب جمع نور.
(3) وردت (أفعاله) وقد رجحنا (أفضاله) لأنها أدق في المعنى، وإن كان كلاهما صحيحا(2/266)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
مواضع سرّه، والنفوس خزائن توفيقه، والقلوب خزائن تحقيقه، واللسان خزانة ذكره.
ويقال من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خطاه عن التردد على منازل الناس فى طلب الإرفاق منهم، وسعى فى الآفاق فى طلب الأرزاق منها، قاطعا أمله عن الخلق، مفردا قلبه لله متجردا عن التعلّق بغير الله.
قوله: «وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» : عرف القسمة من استراح عن كدّ الطلب فإنّ المعلوم لا يتغير، والمقسوم لا يزيد ولا ينقص، وإذا لم يجب عليه شىء لأحد فبقدرته على إجابة العبد إلى طلبته لا يتوجب عليه شىء.
ويقال أراح قلوب الفقراء من تحمّل المنّة من الأغنياء مما يعطونهم، وأراح الأغنياء من مطالبة الفقراء منهم شيئا، فليس للفقير صرف القلب عن الله سبحانه إلى مخلوق واعتقاد منّة لأحد، إذ الملك كله لله، والأمر بيد الله، ولا قادر على الإبداع إلا الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 22]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)
كما أن الرياح فى الآفاق مقدّمات المطر كذلك الآمال فى القلوب، وما يقرب العبد مما يتوارد على قلبه من مبشرات الخواطر، ونسيم النجاة فى الطلب يحصل، فيستروح القلب إليه قبل حصول المأمول من الكفاية واللطف.
قوله جل ذكره: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أسقاه إذا جعل له السّقيا كذلك يجعل الحق- سبحانه- لأوليائه ألطافا معلومة فى أوقات محدودة! كما قال فى وصف أهل الجنة: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» .
كذلك يجعل من شراب القلوب لكلّ وردا معلوما، ثم قضايا ذلك تختلف:
فمن شراب يسكر، ومن شراب يحضر، ومن شراب يزيل الإحساس، كما قيل:
فصحوك من لفظى هو الصحو كله ... وسكرك من لحظى يبيح لك الشّربا
ويقال إذا هبت رياح التوحيد على الأسرار كنست آثار البشرية، فلا للأغيار فيها أثر، ولا عن الخلائق لهم خبر.(2/267)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
ويقال إذا هبّت رياح القرب على قلوب العارفين عطّرتها بنفحات الأنس، فيسقون فى نسيمها على الدوام، وفى معناه أنشدوا:
وهبّت شمال آخر الليل قرّة «1» ... ولا ثوب إلا بردة وردائيا
وما زال بردى لينا من ردائها ... إلى الحول حتى أصبح البرد باليا
ويقال إذا هبّت رياح العناية على أحوال عبد عادت مساويه مناقبه ومثالبه محاسنه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 23]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23)
نحيى قلوبهم بالمشاهدة، ونميت نفوسهم بالمجاهدة.
ويقال نحييهم بأن نفنيهم بالمشاهدة، ونميتهم بأن نأخذهم عن شواهدهم.
ويقال يحيى المريدين بذكره، ويميت الغافلين بهجره.
ويقال يحيى قوما بموافقة الأمر فى الطاعات، ويميت قوما بمتابعة الشهوات.
ويقال يحيى قوما بأن يلاطفهم بلطف جماله، ويميت قوما بأن يحجبهم عن أفضاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 24]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
العارفون مستقدمون بهممهم، والعابدون مستقدمون بقدمهم، والتائبون بندمهم.
وأقوام مستأخرون بقدمهم وهم العصاة، وآخرون مستأخرون بهمومهم وهم الراضون بخسائس الحالات.
ويقال المستقدمون الذين يسارعون فى الخيرات، والمستأخرون المتكاسلون عن الخيرات.
ويقال المستقدمون الذين يستجيبون خواطر الحقّ- من غير تعريج إلى تفكر، والمستأخرون الذين يرجعون «2» إلى الرّخص والتأويلات.
ويقال المستقدمون الذين يأتون على مراكب التوفيق، والمستأخرون الذين تثبطهم مشقة الخذلان.
__________
(1) قرة أي باردة. [.....]
(2) وردت (يرجون) وهى خطا فى النسخ- حسبما نعرف من رأى القشيري فى مثل هذا الموقف.(2/268)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 25]
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
يبعث كلا على الوصف الذي خرجوا من الدنيا عليه: فمن منفرد القلب بربه، ومن متطوّح فى أودية التفرقة، ثم يحاسبهم على ما يستوجبونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
ذكّرهم بخسّتهم لئلا يعجبوا بحالتهم.
ويقال القيمة فى القربة لا بالتّربة والنسب تربة ولكن النعت قربة.
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. وإذا انطفأت النار صارت رمادا لا يجىء منها شىء، والطين إذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، كذلك العدو «1» لمّا انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة لم ينجبر بعده، وأمّا آدم- عليه السلام فلمّا اغترّ جبره ماء العناية، قال تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ... » «2»
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 31]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
أظهرهم بهذا القول، وفى عين ما أظهرهم سترهم.
ويقال ليست العبرة بقوالبهم، إنما الاعتبار بالمعاني التي أودعها فيهم.
__________
(1) يقصد إبليس.
(2) آية 122 سورة طه.(2/269)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
ويقال الملائكة لا حظوه بعين الخلقة فاستصغروا قدره وحاله، ولهذا عجبوا من أمر الله- سبحانه- لهم بالسجود له، فكشف لهم شظية مما اختصّه به فسجدوا له.
قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ: وكذا أمر من حجب عن أحواله ادّعى الخيرة وبقي فى ظلمة الحيرة.
ويقال بخل بسجدة واحدة، وقال: أستنكف أن أسجد لغير الله. ثم من شقاوته لا يبالى بكثرة معاصيه، فإنه لا يعصى أحد إلّا وهو سبب وسواسه، وداعيه إلى الزّلّة.
وذلك هو عين الشّقوة وقضية الخذلان.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 32 الى 35]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
سأله ومعلوم له حاله، ولو ساعدته المعرفة لقال: قل لى مالك؟ وما منعك؟ ومن منعك حتى أقول. أنت ... حيث أشقيتني، وبقهرك أغويتني، ولو رحمتني، لهديتنى وفى كنف عصمتك آويتنى ... ولكنّ الحرمان أدركه حتى قال: «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ» قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 36 الى 38]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
ولمّا أبعده الحقّ- سبحانه- عن معرفته، وأفرده باللعنة استنظره إلى يوم القيامة والبعث، فأجابه. وظنّ اللّعين أنه حصل فى الخبر مقصوده، ولم يعلم أنه أراد بذلك تعذيبه عذابا شديدا، فكأنه كان فى الحقيقة مكرا- وإن كان فى الحال فى صورة إجابة السؤال بما يشبه اللطف والبرّ.
وبعض أهل الرجاء يقول: إن الحق- سبحانه- حينما يهين عدوّه لا يردّ دعاءه(2/270)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
فى الإمهال ولا يمنعه من الاستنظار فالمؤمن- إذ أمره الاستغفار والسؤال بوصف الافتقار- أولى ألا يقنط من رحمته، لأنّ إنظار اللعين زيادة شقاء له لا تحقيق عطاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 39]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
الباء فى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» باء القسم، ولم يكن إغواؤه إياه مما يجب أن يقسم به لولا فرط جهله. ثم هو فى المعنى صحيح، لأنّ الإغواء مما يتفرّد الحق بالقدرة عليه، ولا يشاركه فيه أحد، ولكنّ اللّعين لا يعرف الله على الحقيقة، إذ لو عرفه لم يدع إلى الضلال، لأنه لو قدر على إضلال غيره لا ستبقى على الهداية نفسه. وعند أهل التحقيق إنه يقول جميع ذلك حدسا وهو لم يعرف الله- على الحقيقة- قطّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 40 الى 41]
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
الإخلاص هو تصفية الأعمال عن الغين وعن الآفات المانعة من صالح الأعمال وقد علم اللعين أنه لا سبيل له إليهم بالإغواء لمّا تحقق من عناية الحقّ بشأنهم.
«قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» تهديد، كما تقول: افعل ما شئت.. وهذا طريقى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 42]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)
السلطان الحجة، وهى لله على خلقه، وليس للعدوّ حجة على مخلوق، إذ لا تتعدّى مقدرته محلّه، فلا تسلّط- فى الحقيقة «1» - لمخلوق على مخلوق بالتأثير فيه.
«إِنَّ عِبادِي ... » : إذا سمى الله واحدا عبدا فهو من جملة الخواص، فإذا أضافه إلى نفسه فهو خاص الخاص، وهم الذين محاهم عن شواهدهم، وحفظهم وصانهم عن أسباب التفرقة
__________
(1) نلاحظ أن القشيري يكثر فى هذا الموضوع من قوله (في الحقيقة، وعلى الحقيقة ... ونحو ذلك) والسبب فى ذلك راجع إلى أن ظاهر النصوص أن لابليس إرادة وفعلا، ولكن- فى الحقيقة- كل شىء مرده إلى الحق سبحانه.(2/271)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
وجرّدهم عن حولهم وقوّتهم، وكان النائب عنهم فى جميع تصرفاتهم وحالاتهم، وحفظ عليهم آداب الشرع، وألبسهم صدار الاختيار فى أوان أداء التكليف، وأخذهم عنهم باستهلاكهم فى شهوده، واستغراقهم فى وجوده ... فأىّ سبيل للشيطان إليهم؟ وأي يد للعدو عليهم؟
ومن أشهده الحقّ حقائق التوحيد، ورأى العالم مصرّفا فى قبضة التقدير، ولم يكن نهبا للأغيار ... فمنى يكون للّعين عليه تسلط، وفى معناه قالوا:
جحودى فيك تقديس ... وعقلى فيك تهويس
فمن آدم إلّاك ... ومن فى البيت إبليس «1»
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 43 الى 44]
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
اجتمعوا اليوم فى أصل الضلالة، ثم الكفر ملل مختلفة، ثم يجتمعون غدا فى العقوبة وهم زمر مختلفون، لكلّ دركة من دركات جهنم قوم مخصّون.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 45]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
المتقى من وقّاه الله بفضله لا من اتّقى بتكلّفه، بل إنه ما اتقى بتكلفه إلّا بعد أن وقّاه الحقّ- سبحانه- بفضله. هم اليوم فى جنات ولها درجات بعضها أرفع من بعض، كما أنهم غدا فى جنّات ولها درجات بعضها فوق بعض.
اليوم لقوم درجة حلاوة الخدمة وتوفيق الطاعة، ولقوم درجة البسط والراحة، ولآخرين درجة الرجاء والرغبة، ولآخرين درجة الأنس والقربة، قد علم كلّ أناس مشربهم ولزم كلّ قوم مذهبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 46]
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) .
__________
(1) هذان البيتان للحلاج (الطواسين ص 43) والديوان المقطعة رقم 28 ومعناهما: أننى لو سجدت لغيرك- حسبما أمرتنى- فأنا جاحد، ولكن- نظرا لمعرفتى بك- فإن جحودى عين تقديسى، لأننى أعلم أنه لا يستحق السجود على الحقيقة إلا أنت، فأنا راض باحتمال لعنتك ثمنا لعدم امتثالى لإرادتك.(2/272)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
معناه: يقال لهم: «ادْخُلُوها» ، وأجمل ذلك ولم يقل من الذي يقول لهم. ويرى قوم أن الملك يقول لهم: أدخلوها.
ويقال إذا وافوا الجنة وقد قطعوا المسافة البعيدة، وقاسوا الأمور الشديدة فمن حقّهم أن يدخلوا الجنة، خاصة وقد علموا أنّ الجنة مباحة لهم، ولعلهم لا يفقهون حتى يقال لهم ويقال يحتمل أنهم لا يدخلونها بقول الملك حتى يقول الحقّ: أدخلوها، كما قالوا:
ولا ألبس النّعمى وغيرك ملبس ... ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب
قوله: «بِسَلامٍ آمِنِينَ» : بمعنى السلامة، وهى الأمان، فيأمنون أنهم لا يخرجون منها ويقال كما لا يخرجون من الجنة لا يخرجون عما هم عليه من الحال فالرؤية لهم وما هم فيه من الأحوال الوافية- مديدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 47]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47)
أمر الخليل عليه السلام ببناء الكعبة وتطهيرها فقال: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» «1» ، وأمر جبريل عليه السلام حتى غسل قلب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فطهّره «2» . وتولّى هو- سبحانه- بنفسه تطهير قلوب العاصين، فقال: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» «3» وذلك رفقا بهم، فقد يصنع الله بالضعيف ما يتعجّب منه القوى، ولو وكل تطهير قلوبهم إلى الملائكة لاشتهرت عيوبهم، فتولّى ذلك بنفسه رفقا بهم.
ويقال قال: «ما فِي صُدُورِهِمْ» ولم يقل ما فى قلوبهم لأن القلوب فى قبضته يقلبها، وفى الخبر: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» : يريد بذلك قدرته، فاستعمل لفظ الإصبع لذلك توسعا. وقيل بين إصبعين أي نعمتين.
قوله جل ذكره: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قابل بعضهم بعضا بالوجه، وحفظ كلّ واحد عن صاحبه سرّه وقلبه، فالنفوس متقابلة
__________
(1) آية 26 سورة الحج.
(2) أنظر كتاب (المعراج) للقشيرى ففيه تفصيل ذلك
(3) عن على بن الحسين أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم وأن الغل غل الجاهلية الذي كان بين تيم وعد وبنى هاشم فلما أسلموا تحابوا.(2/273)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
ولكنّ القلوب غير متقابلة إذ لا يشتغل بعضهم ببعض، قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «1» قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 48]
لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
أي لا يلحقهم تعب لا بنفوسهم ولا بقلوبهم. وإذا أرادوا أمرا لا يحتاجون إلى أن ينتقلوا من مكان إلى مكان، ولا تحار أبصارهم، ولا يلحقهم دهش، ولا يتغير عليهم حال عما هم عليه من الأمر، ولا تشكل عليه صفة من صفات الحق.
«وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» أي لا يلحقهم «2» ذلّ الإخراج بل هم بدوام الوصال.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 49]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
لمّا ذكر حديث المتقين وما لهم من علوّ المنزلة انكسرت قلوب العاصين، فتدارك الله قلوبهم، وقال لنبيّه- صلى الله عليه وسلم- أخبر عبادى العاصين أنى غفور رحيم، وأنى إن كنت الشكور الكريم بالمطيعين فأنا الغفور الرحيم بالعاصين.
ويقال من سمع قوله: «أَنِّي أَنَا» بسمع التحقيق لا يبقى فيه مساغ لسماع المغفرة والرحمة لأنه يكون عندئذ مختطفا عن شاهده، مستهلكا فى إنّيته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 50]
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
العذاب الأليم هنا هو الفراق، ولا عذاب فوق الفراق فى الصعوبة والألم «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 52]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
ألا عرّفهم كيف كانت فتوة الخليل فى الضيافة، وقيامه بحقّ الضيفان، وكان الخليل
__________
(1) آية 24 سورة الأنفال.
(2) هنا وقع الناسخ فى خطأ التكرار إذ أعاد كتابة عبارات سابقة مما ورد بعد (لا يلحقهم تعب ... إلخ) :
(3) أي أن عذاب الفراق يفوق فى نظر الصوفية- عذاب الاحتراق.(2/274)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
عليه السلام يقوم بنفسه بخدمة الضيفان، فلمّا سلموا من جانبهم وردّ عليهم وانفضّوا عن تناول طعامه:
قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ.
وجلون أي خائفون، فإنّ الإمساك عن تناول طعام الكرام موضع للريبة. ولمّا علم أنهم ملائكة خاف أن يكونوا نزلوا لتعذيب قومه إذ كانوا مجرمين. ولكن سكن روعه عند ما قالوا له:
[سورة الحجر (15) : آية 53]
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
فليس لك موضع للوجل لكن موضع للفرج فإنا جئناك مبشّرين، وإن كنّا لغيرك معذّبين.
نحن «نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» : أي يعيش حتى يعلم، لأن الطفل ليس من أهل العلم، وكانت بشارتهم بالولد وببقاء الولد هى العجب فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 54 الى 56]
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
قال أبشرتموني وقد مسّنى الكبر؟ وإنّ الكبير قد فاته الوقت الذي يفرح فيه من الدنيا بشىء. بماذا تبشروني وقد طعنت فى السنّ، وعن قريب أرتحل إلى الآخرة؟ قالوا:
بشرناك بالحق فلا تكن من جملة من يقنط من رحمة الله، ولا يقنط من رحمة ربه إلا من كان ضالا.
قال: كيف أخطأ ظنكم فىّ فتوهمتم أنى أقنط من رحمة ربى؟
فلما فرغ قلبه من هذا الحديث، وعرف أنه لن يصيبه ضرر منهم سألهم عن حالهم:(2/275)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
قال ما شأنكم؟ وإلى أين قصدكم؟
قالوا: أرسلنا لعذاب قوم لوط، ولننجى أهله إلا امرأته لمشاركتها معهم فى الفساد، وكانت تدل قومه على أضافه، فاستوجبت العقوبة.
فلمّا وافى المرسلون من آل لوط أنكرهم لأنه لم يجدهم على صورة البشر، وتفرّس فيهم على الجملة أنهم جاءوا لأمر عظيم، قالوا: بل جئناك بما كان قومك يشكّون فيه من تعديبنا إياهم، وآتيناك بالحق، أي بالحكم الحق:
[سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 66]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
فأسر بأهلك بعد ما يمضى شىء من الليل، وامش خلفهم، وقدّمهم عليك، واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب، وإنا ننقذك وأهلك إلا امرأتك، فإنا نعذبها لمشاركتها مع قومك فى العصيان. «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» :
فلكم السلامة ولقومكم العقوبة.
[سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 71]
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)
أي علّمناه وعرّفناه: «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ» أي أنهم مهلكون ومستأصلون بالعقوبة.
ثم لما نزل الملائكة بلوط عليه السلام قال لقومه إن هؤلاء أضيافى، فلا تتعرضوا لهم فتفضحونى، واتقوا الله، وذروا مخالفة أمره ولا تخجلوني. فقال قومه: ألم ننهك عن أن تحيى أحدا، وأمرناك ألا تمنع منّا أحدا؟ فقال: هؤلاء بناتي يعنى نساء أمتى. وقال قوم:(2/276)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
أراد بناته من صلبه، عرضهن عليهم لئلا يلمّوا بتلك الغلطة الفحشاء، فلم تنجع فيهم نصيحة، ولم يقلعوا عن خبيث قصدهم.
فأخبره الملائكة ألا يخاف عليهم، وسكنوا من روعه حين أخبروه بحقيقة أمرهم، وأنهم إنما أرسلوا للعقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 72]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
أقسم بحياته تخصيصا له فى شرفه، وتفضيلا له على سائر البرية، فقال وحياتك- يا محمد- إنهم لفى ضلالتهم وسكرة غفلتهم يتردّون، وإنهم عن شركهم لا يقلعون.
ويقال أقسم بحياته لأنه لم يكن فى وقته حياة أشرف من حياته- إنهم فى خمار سكرهم، وغفلة ضلالتهم لا يترقبون عقوبة، ولا يخافون سوءا.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 73 الى 75]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
باتوا فى حبور وسرور، وأصبحوا فى محنة وثبور، وخرّت عليهم سقوفهم، وجعلنا مدنهم ومنازلهم عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم من العقوبة مالم يبق عينا ولا أثرا، إنّ فى ذلك لعبرة لمن اعتبر، ودلالة ظاهرة لمن استبصر، «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» لمن شاء أن يعتبر قوله جل ذكره: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «1» جاء فى التفسير «المتفرسين» ، والفراسة خاطر يحصل من غير أن يعارضه ما يخالفه عند ظهور برهان عليه، فيخرج من القلب عين ما يقع لصاحب الفراسة. مشتق من فريسة
__________
(1) أخر الناسخ تفسير هذه الآية عند النقل فوضعها بعد الآية 86 (إن ربك هو الخلاق العليم) وقد صححنا هذا الوضع.(2/277)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
الأسد إذ لفريسته يقهر. والحق- سبحانه- يطلع أولياءه على ما خفى على غيرهم.
وصاحب الفراسة لا يكون بشرط التفرس فى جميع الأشياء وفى جميع الأوقات بل يجوز أن تسدّ عليه عيون الفراسة فى بعض الأوقات كالأنبياء عليهم السلام فنبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كان يقول لعائشة- رضى الله عنها- فى زمان الإفك: «إن كنت فعلت فتوبى إلى الله» . وكابراهيم ولوط- عليهما السلام- لم يعرفا الرسل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، وكان شعيب- عليه السلام- مبعوثا لهم فكذّبوه، فانتقمنا منهم.
قوله: «وَإِنَّهُما» يعنى مدين والأيكة ... «لَبِإِمامٍ مُبِينٍ» : أي بطريق واضح من قصده ( ... ) «1»
وكذلك أخبر أن أصحاب الحجر «2» - وهم ثمود- كذبوا المرسلين إليهم، وأنهم أعرضوا عن الآيات التي هى المعجزات كناقة صالح وغيرها، وأنهم كانوا أخلدوا إلى الأرضين وكانوا مغترّين بطول إمهال الله إياهم من تأخير العقوبة عنهم، وكانوا يتخذون من الجبال بيوتا، ويظنون أنهم على أنفسهم آمنون من الموت والعذاب.
__________
(1) مشتبهة.
(2) الحجر واد بين المدينة، والشام. [.....](2/278)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
ثم أخبر أنهم أخذتهم الصيحة على بغتة، ولم تغن عنهم حيلتهم لمّا حلّ حينهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 85]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
دلّت الآية على أنّ أكساب العباد مخلوقة لله لأنها بين السماوات والأرض.
إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ «إِلَّا بِالْحَقِّ» : أي وأنا محق فيه ويقال «بِالْحَقِّ» : بالأمر العظيم الكائن إن الساعة لآتية يعنى القيامة.
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ يقال الصفح الجميل الذي تذكر الزّلّة فيه.
ويقال الصفح الجميل سحب ذيل الكرم على ما كان من غير عقد الزّلّة، بلا ذكر لما سلف من الذنب، كما قيل:
تعالوا نصطلح ويكون منّا (.....) «1»
ويقال الصفح الجميل الاعتذار عن الجرم بلا عدّ الذنوب من المجرم، والإقرار بأن الذنب كان منك لا من العاصي، قال قائلهم:
(وتذنبون فننسى ونعتذر) قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 86]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
«هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» إذ لا يصح الفعل بوصف الانتظام والاتساق من غير عالم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
أكثر المفسرين على أنها سورة الفاتحة، وسميت مثانى لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة
__________
(1) الشطر الثاني مطموس غير واضح.(2/279)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
ومرة بالمدينة، ولأنها شىء فى كل صلاة يتكرر، من «التثنية» وهى التكرير، أو لأن بعضها يضاف إلى الحق وبعضها يضاف إلى الخلق ... ومعنى هذا مذكور فى كتب التفاسير «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 88]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
لم يسلّم له إشباع النظر إلى زهرة الدنيا وزينتها.
ويقال غار على عينيه- صلى الله عليه وسلم- أن يستعملها فى النظر إلى المخلوقات.
ويقال أدّبه الله- سبحانه- بهذا التأديب حتى لا يعير طرفه من حيث الاستئناس به.
ويقال أمره بحفظ الوفاء لأنه لمّا لم يكن اليوم سبيل لأحد إلى رؤيته «2» ، فلا تمدن عينيك إلى ملاحظة شىء من جملة ما خوّلناهم، كما قال بعضهم:
لمّا تيقّنت أنى لست أبصركم ... أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد
ويقال شتّان بينه وبين موسى- عليه السلام! قال له: لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» ، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- منعه من النظر إلى المخلوقات بوصف هو تمام النظر فقال: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» .
ويقال إذا لم يلم له إشباع النظر بظاهره إلى الدنيا فكيف يسلم له السكون بقلبه إلى غير الله؟! ويقال لما أمر بغضّ بصره عما يتمتّع به الكفار فى الدنيا تأدّب- عليه السلام- فلم ينظر ليلة المعراج إلى شىء مما رأى فى الآخرة، فأثنى عليه الحقّ بقوله: «ما زاغَ الْبَصَرُ. وَما طَغى» وكان يقول لكل شىء رآه: «التحيات لله» أي الملك لله.
__________
(1) ويرى بعضهم أنها نسبع سور وهى الطوال، واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما فى حكم سورة بدليل عدم التسمية بينهما، وقيل سورة يونس. أو أسباع القرآن.
(2) الضمير فى (رؤيته) يعود إلى الحق سبحانه، والمقصود حفظ العين- من قبيل الوفاء- لكى لا تعاين سواه سبحانه فيما بعد.(2/280)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
قوله جل ذكره: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أدّبه حتى لا يتغير بصفة أحد، وهذه حال التمكين.
قوله جل ذكره: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ألن لهم جانبك. وكان عليه السلام إذا استعانت به الوليدة «1» فى الشفاعة إلى مواليها يمضى معها.. إلى غير ذلك من حسن خلقه- صلوات الله عليه- وكان فى الخبر: إنه كان يخدم بيته وكان فى (مهنة) أهله «2» . وتولّى خدمة الوفد، وكان يقول: سيد القوم خادمهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 89]
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
لمّا لم يكن بنفسه وكان قائما بحقه- سبحانه وتعالى- سلّم له أن يقول: إنى وأنا.
وفى الخبر: أن جابرا دقّ عليه الباب، فقال: من؟ قال: أنا ... فقال النبي عليه السلام:
«أنا أنا» .. كأنه كرهها «3» ويقال: قل لاحدّ لاستهلا كك فينا، سلّمنا أن تقول: إنى أنا، لما كنت بنا ولنا.
قوله جل ذكره
[سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 91]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
أي قل إنى أنا لكم منذر بعذاب كالعذاب الذي عذّبنا به المقتسمين وهم الذين تقاسموا بالله لنبيّه فى قصه صالح عليه السلام. وقيل هم من أهل الكتاب الذين اقتسموا كتاب الله فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
ويقال إنى لكم نذير أخوفكم عقوبة المقتسمين الذين اقتسموا الجبال والطرق بمكة فى الموسم، وصدوا الناس. وكان الواحد منهم يقول لمن مرّ به: لا تؤمن بمحمد فإنه ساحر، ويقول الآخر: إنه كاهن ويقول ثالث: إنه مجنون، فهم بأقسامهم:
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ «4»
__________
(1) الوليدة- الجارية، قال طرفة:
فذالت كما ذالت وليدة مجلس ... ترى ربها أذيال سحل ممدد
(2) عن الأسود بن يزيد: قال سئلت عائشة رضى الله عنها ما كان النبي (ص) يصنع فى بيته؟ قالت:
كان يكون فى مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إليها (رواه البخاري) .
(3) الحديث جاء مضطرب الكتابة في النسختين وقد صححناه كما أورد النووي فى رياض الصالحين ط بيروت ص 351
(4) عضين ج عضة وأصلها عضوة أي جزء، وعضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وأجزاء وأقساما.(2/281)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
ففرقوا القول فيه، فقال بعضهم إنه شعر، وقال بعضهم إنه سحر، وقال بعضهم إنه كهانه ... إلى غير ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 93]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
العوام يسألهم عن تصحيح أعمالهم، والخواص يسألهم عن تصحيح أحوالهم.
ويقال يسأل قوما عن حركات ظواهرهم، ويسأل آخرين عن خطرات سرائرهم. ويسأل الصديقين عن تصحيح المعاني بفعالهم، ويسأل المدّعين عن تصحيح الدعاوى تعنيفا لهم.
ويقال سماع هذه الآية يوجب لقوم أنسا وسرورا حيث علموا أنه يكلّمهم ويسمعهم خطابه لاشتياقهم إليه، ولا عجب فى ذلك فالمخلوق يقول فى مخلوق:
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انتهت أحدوثة لو تعيدها
فلا أسعد من بشر يعرف أنّ مولاه غدا سيكلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 94]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
كن بنا وقل بنا، وإذا كنت بنا ولنا فلا تجعل حسابا لغيرنا، وصرّح بما خاطبناك به، وأفصح عمّا نحن خصصناك به، وأعلن محبتنا لك:
فسبّح «1» باسم من تهوى ودعنا من الكني ... فلا خير في اللّذات من بعدها ستر
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
الذين دفعنا عنك عادية «2» شرّهم، ودرأنا عنك سوء مكرهم، ونصرناك بموجب
__________
(1) الأصل فى البيت (فصرح) والتصريح يقابل (الكناية) .
(2) وردت (عادية) بالغين، والملائم للسياق (عادية) بالعين. حيث يقال (دفعت عنك عادية فلان أي ظلمه وشره) : الوسيط ص 595.(2/282)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
عنايتنا بشأنك.. فلا عليك فيما يقولون أو يفعلون، فما العقبى إلا لك بالنصر والظفر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 98]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وقال: «يَضِيقُ صَدْرُكَ» ولم يقل يضيق قلبك لأنه كان فى محل الشهود، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولا تكون مع اللقاء وحشة.
ويقال هوّن عليه ضيق الصدر بقوله: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ» ويقال إن ضاق صدرك بسماع ما يقولون فيك من ذمّك فارتفع «1» بلسانك فى رياض تسبيحنا، والثناء علينا، فيكون ذلك سببا لزوال ضيق صدرك وسلوة لك بما تتذكر من جلال قدرنا وتقديسنا، واستحقاق عزّنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجر (15) : آية 99]
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قف على بساط العبودية معتنقا للخدمة، إلى أن تجلس على بساط القربة، وتطالب بآداب الوصلة.
ويقال التزم شرائط العبودية إلى أن ترقى بل تكفى بصفات الحرية.
ويقال فى «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» «2» : إن أشرف خصالك قيامك بحقّ العبودية.
__________
(1) وردت هكذا ونرجح أنها فى الأصل (فارتع) فهى أكثر ملائمة للمعنى. جاء فى رسالة القشيري ص 111 (وفى الخبر المشهور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها، فقيل له: وما رياض الجنة؟ فقال: مجالس الذكر.
(2) عن العلاقة بين العبودية واليقين ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله: «العبادة لمن له علم اليقين، والعبودية لمن له عين اليقين والعبودة لمن له حق اليقين» الرسالة ص 99.(2/283)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
السورة التي يذكر فيها النحل
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألف الوصل فى «بِسْمِ اللَّهِ» لم يكن لها فى التحقيق أصل، جلبت للحاجة إليها للتوصل بها إلى النطق بالسّاكن، وإذ وقع ذلك أنفا عنها أسقطت فى الإدراج، ولكن كان لها بقاء فى الخط وإن لم يكن لها ظهور فى اللفظ، فلمّا صارت إلى «بِسْمِ اللَّهِ» أسقطت من الخط كذلك..
وكذلك من ازداد صحبة استأخر «1» رتبة.
ويقال أي استحقاق لواو عمرو حتى ثبتت فى الخط؟ وأي استحقاق إلى الألف فى قولهم قتلوا وفعلوا؟ وأىّ موجب لحذف الألف من السماوات؟
طاحت العلل فى الفروق، وليس إلا اتفاق الوضع ... كذلك الإشارة فى أرباب الردّ والقبول، قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
صيغة أتى للماضى، والمراد منه الاستقبال لأنه بشأن ما كانوا يستعجلونه من أمر الساعة، والمعنى «سيأتى» أمر القيامة، والكائنات كلّها والحادثات بأسرها من جملة أمره أي حصل أمر تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصل بتقديره وتيسيره، وقضائه وتدبيره فما يحصل من خير وشرّ، ونفع وضرّ، وحلو ومرّ.. فذلك من جملة أمره تعالى.
«فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئا باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمرا، وإذا أمّلوا شيئا، أو أخبروا بحصول شىء فلا استعجال لهم، بل شأنهم
__________
(1) إن صح نقل هذه الكلمة عن الأصل فلربما يقصد القشيري منها استخفى عن الظهور، وازداد ذبولا، وبعدا عن التظاهر والدعوى.
(2) آية 107 سورة هود.(2/284)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
التأنّى والثبات والسكون. وإذا بدا من التقدير حكم فلا استعجال لهم لما يرد عليهم، بل يتقبلون مفاجأة التقدير بوجه ضاحك، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردّ والقبول، والمنع والفتوح بوصف الرضاء، ويحمدون الحق- سبحانه وتعالى- على ذلك.
«سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تعالى عما يشركون بربهم، والكفار لم ييسر لهم حتى أنّه لا سكن لقلوبهم من حديثه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
ينزل الملائكة على الأنبياء- عليهم السلام- بالوحى والرسالة، وبالتعريف والإلهام على أسرار أرباب التوحيد وهم المحدّثون. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير مردود لكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك، ولا يحملون رسالة إلى الخلق.
ويراد بالروح الوحى والقرآن، وفى الجملة الروح ما هو سبب الحياة إمّا حياة القلب أو حياة الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
خلقها بالحق، ويحكم فيها بالحق، فهو محقّ فى خلقها لأنّ له ذلك، ويدخل فى ذلك أمره بتكليف الخلق، وما يعقب ذلك التكليف من الحشر والنّشر، والثواب والعقاب.
«تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تقديسا وتشريفا له عن أن يكون له شريك أو معهم ليك قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
تعرّف إلى العقلاء بكمال قدرته حيث أخبر أنه قدر على تصوير الإنسان على ما فيه من التركيب العجيب، والتأليف اللطيف من نطفة متماثلة الأجزاء، متشاكلة فى وقت الإنشاء، مختلفة الأعضاء وقت الإظهار والإبداء، والخروج من الخفاء. ثم ما ركّب فيه من تمييز وعقل،(2/285)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
ويسّر له النطق والفعل، والتدبير فى الأمور، والاستيلاء على الحيوانات على وجه التسخير.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 5]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5)
ذكّرهم بما تفضّل عليهم، وأخبرهم بما للحيوانات من النّعم، وما لهم فيها من وجوه الانتفاع فى جميع الأحوال، كالحمل وكالسفر عليها وقطع المسافات، والتوصّل على ظهورها إلى مآربهم، وما لنسلها ولدرّها من المنافع.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 6 الى 7]
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
الغنيّ له جمال بماله، والفقير له استقلال بحاله.. وشتّان ماهما! فالأغنياء يتجملون بأنعامهم حين يريحون وحين يسرحون، والفقراء يستقلون بمولاهم حين يصبحون وحين يمسون. أولئك تحمل أثقالهم جمالهم، وهؤلاء يحمل الحقّ عن قلوبهم أثقالهم.
«لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» : قوم أحوالهم مقاساة الشدائد يصلون سيرهم بسراهم، وقوم فى حمل مولاهم بعيدون عن كدّ التدبير، مستريحون بشهود التقدير، راضون باختيار الحقّ فى العسير واليسير «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 8]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)
فالنفوس فى حملها كالدواب، والقلوب معتقة عن التعنّى فى الأسباب. «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» : كما أن أهل الجنة من المؤمنين يجدون فى الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فكذلك أرباب الحقائق يجدون- اليوم- ما لم يخطر قطّ على بال، ولا قرأوا فى كتاب، ولا تلقنوه من أستاذ، ولا إحاطة بما أخبر الحق أنه
__________
(1) يطلق القشيري على الأول اصطلاح (متحمل) وعلى الثاني (محمول) . [.....](2/286)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
لا يعلم تفصيله «1» سواه.. وكيف يعلم من أخبر الحقّ- سبحانه- أنه لا يعلم؟
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 9]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قوم هداهم السبيل، وعرّفهم الدليل، فصرف عن قلوبهم خواطر الشكّ، وعصمهم عن الجحد والشّرك، وأطلع فى قلوبهم شمس العرفان، وأفردهم بنور البيان. وآخرون أضلّهم وأغواهم، وعن شهود الحجج أعماهم، وفى سابق حكمه من غير سبب أذلّهم وقمعهم «2» ، ولو شاء لعرّفهم وهداهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
أنزل المطر وجعل به سقيا النبات، وأجرى العادة بأن يديم به الحياة، وينبت به الأشجار، ويخرج الثمار، ويجرى الأنهار.
ثم قال: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ثم قال بعده بآيات: «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ، ثم قال بعده: «لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» . وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة «3» ، فأولا التفكر ثم العلم ثم التذكر، أولا يضع النظر موضعه فإذا لم يكن فى نظره خلل وجب له العلم لا محالة، ولا فرق بين العلم والعقل فى الحقيقة، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر.
ويقال إنما قال: «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» : على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير
__________
(1) وردت (تفضله) وهى خطأ من الناسخ.
(2) (قمعهم) - قهرهم وذلهم. على أننا لا نستبعد- حسبما نعرف من كلف القشيري بالخوض على الموسيقى اللفظية- أنها ربما كانت (أقماهم) أي صغرهم وأذلهم (انظر آية 4 سورة القصص المجلد الثالث) .
(3) هذه نقطة هامة إذا أردنا أن ندرس مذهب المعرفة عند الصوفية عموما، والقشيري بخاصة(2/287)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
عارفا، وكل جزء من العلم تحصل له آية ودليل، فللعالم حتى يكون عارفا بربّه آيات ودلائل، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة فبدليل واحد يعلم وجه النظر، وبأدلة كثيرة يصير عارفا بربه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 12]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
الليل والنهار ظرفا الفعل، والناس فى الأفعال مختلفون: فموفّق ومخذول فالموفّق يجرى وقته فى طاعة ربه، والمخذول يجرى وقته فى متابعة هواه.
العابد يكون فى فرض يقيمه أو نفل يديمه، والعارف فى ذكره وتحصيل أوراده بما يعود على قلبه فيؤنسه، وأما أرباب التوحيد فهم مختطفون عن الأحيان والأوقات بغلبة ما يرد عليهم من الأحوال كما قيل:
لست أدرى أطال ليلى أم لا ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟
لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت مخلّا
قوله جل ذكره: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
هذا فى الظاهر، وفى الباطن نجوم العلم وأقمار المعرفة وشموس التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 13]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
أقوام خلق لهم فى الأرض الرياض والغياض «1» ، والدور والقصور، والمساكن والمواطن، وفنون النّعم وصنوف القسم.. وآخرون لا يقع لهم طير على وكر، ولا لهم فى الأرض شبر لا ديار تملكهم، ولا علاقة تمسكهم- أولئك سادات الناس وضياء الحق.
__________
(1) الغياض جمع غيضة وهى الموضع يكثر فيه الشجر ويلتف.(2/288)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 14]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
سخر البحر فى الظاهر، وسهّل ركوبه فى الفلك، ويسّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحلىّ كاللؤلؤ والدّرّ، وما يقتات به من السمك وحيوان البحر.
ومن وجوه المعاني خلق صنوفا من البحر، فقوم غرقى فى بحار الشغل وآخرون فى بحار الحزن، وآخرون فى بحار اللهو.. فالسلامة من بحر الشغل فى ركوب سفينة التوكل، والنجاة من بحر الحزن فى ركوب سفينة الرضا، والسلامة من بحر اللهو من ركوب سفينة الذكر، وأنشد بعضهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 15]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
الرواسي فى الظاهر الجبال، وفى الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق، بهم يرحمهم، وبهم يغيثهم.. ومنهم أبدال ومنهم أوتاد ومنهم القطب. وفى الخبر: «الشيخ فى قومه كالنبى فى أمته» وقال تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «2» ، كما قال تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ» «3» ، وأنشد بعضهم:
وا حسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والأمن والمزن
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 16]
وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
الكواكب نجوم السماء ومنها رجوم للشياطين، والأولياء نجوم فى الأرض. وكذلك العلماء وهم أئمة فى التوحيد وهم رجوم للكفّار والملحدين.
__________
(1) سقط الشاهد الشعرى من الناسخ.
(2) آية 33 سورة الأنفال.
(3) آية 25 سورة الفتح.(2/289)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
ويقال فرق بين نجوم يهتدى بها فى فجاج الدنيا، ونجوم يهتدى بهم إلى الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 17]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)
تدل هذه الآية على نفى التشبيه بينه- سبحانه- وبين خلقه. وصفات القدم لله مستحقّة، وما هو من خصائص الحدثان وسمات الخلق يتقدّس الحقّ- سبحانه- عن جميع ذلك. ولا تشبّه ذات القديم بذوات المخلوقين، ولا صفاته بصفاتهم، ولا حكمه بحكمهم، وأصل كلّ ضلالة التشبيه، ومن قبح ذلك وفساده أنّ كلّ أحد يتبرّأ منه ويستنكف من انتحاله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 18]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
الموجودات لا تحصوها لتقاصر علومكم عنها، وما هو من نعم الدفع «1» فلا نهاية له. وهو غفور رحيم حيث يتجاوز عنكم إذا عجزتم عن شكره، ويرضى بمعرفتكم ( ... ) «2» لكم عن شكره.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 19]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
ما تسرّون من الإخلاص وملاحظة الأشخاص.. فلا يخفى عليه حسان، وما تعلنون من الوفاق والشقاق، والإحسان والعصيان. والآية توجب تخويف أرباب الزّلّات، وتشريف أصحاب الطاعات.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 20]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
أخبر أن الأصنام لا يصحّ منها الخلق لكونها مخلوقة، ودلّت الآية على أنّ من وجدت له سمة الخلق لا يصحّ منه الخلق، والخلق هو الإيجاد ففى الآية دليل على خلق الأعمال.
__________
(1) من قصور الإنسان أنه لا يشعر إلا بنعم المنح، ولكن نعم الدفع التي لا تتناهى لا يكاد الإنسان يشعر بها البتة وبالتالى لا يشكر عليها ... وما أكثرها!
(2) مشتبهة.(2/290)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 21]
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
لأنّ من لحقه وصف التكوين لا يصحّ منه الإيجاد. وفى التحقيق كلّ من علق قلبه بشىء، وتوهّم منه خيرا أو شرا فقد أشرك بالله بظنّه، وإنما التوحيد تجريد القلب عن حسبان شظيّة من النفي والإثبات من جميع المخلوقين والمخلوقات.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 22]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
لا قسيم لذاته جوازا أو وجوبا، ولا شبيه له ولا شريك. ومن لم يتحقق بهذه الجملة قطعا، وبشهادة البراهين له تفصيلا فهو فى دركات الشّرك واقع، وعن حقائق التوحيد بمعزل، قال تعالى فى صفة الكفار: «قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» أي فى أسر الشّرك وغطاء الكفر، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان لأنّ العلة- لمن أراد المعرفة- متاحة، وأدلة الخلق لائحة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 23]
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
فيفضحهم ويبيّن نفاقهم، ويعلن للمؤمنين كفرهم وشقاقهم.
قوله جل ذكره: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين، ويكفيهم فضلا بشارة الحق لهم بمحبته لهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 24]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
لحقهم شؤم تكذيبهم، فأصرّوا على إعراضهم عن النظر، وقست قلوبهم ولم تجنح(2/291)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
إلى الإقرار بالحق، فلبّسوا على من يسائلهم، وقالوا: هذا الذي جاء به محمد من أكاذيب العجم، فضلّوا وأضلوا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 25]
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)
لما سعوا فى الدنيا لغير الله لم تصف أعمالهم، وفى الآخرة حملوا معهم أوزارهم. أولئك الذين خسروا فى الدنيا والآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 26]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)
اتصفوا بالمكر فحاق بهم مكرهم، ووقعوا فيما حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذاب من مأمنهم، واشتغلوا بلهوهم فنغّص عليهم أطيب عيشهم:
فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
الذي وصف نفسه به فى كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب فى التوسع فى الخطاب.
وهو سبحانه يكشف الليل ببدره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمكره، وفى معناه قالوا:
وأمته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأياما
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 27]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)(2/292)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
فى الدنيا عاجل بلائهم، وبين أيديهم آجله. وحسرة «1» المفلس تتضاعف إذا ما حوسب، وشاهد حاصله.
«قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..» : يسمع الكافرين قول المؤمنين، ويبيّن للكافة صدقهم.
ويقع الندم على جاهلهم «2» . وأما اليوم فعليهم بالصبر والتحمّل، وعن قريب ينكشف الغطاء، وأنشد بعضهم:
خليلىّ لو دارت على رأسى الرّحى ... من الذّلّ لم أجزع ولم أتكلّم
وأطرقت حتى قيل لا أعرف الجفا ... ولكننى أفصحت يوم التكلّم
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 29]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
«ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» : بارتكاب المعاصي وهم الكفار.
«فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» : انقادوا واستسلموا لحكم الله.
«ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» : جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات.
«بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» : هكذا قالت لهم الملائكة، ثم يقولون لهم:
«فَادْخُلُوا أَبْوابَ..» : وكذلك الذين تقسو نفوسهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزلت بهم الوفاة يأخذون فى الجزع وفى التضرع، ثم لا تطيب نفوسهم بأن يقرّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لما أخلّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبدا فى وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقهم فى أخراهم.
__________
(1) وودت (مرة) بالميم (وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
(2) وردت (جاهدهم) بالدال. وربما كانت فى الأصل (جاحدهم) ، فالجهل والجحد من صفات الكافرين.(2/293)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 30]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30)
أما المسلمون فإذا وردوا عليهم، وسألوهم عن أحوال محمد- صلى الله عليه وسلم، وعما أنزل الله عليه، قالوا: دينه حقّ، والله أنزل عليه الحقّ.. والذين أحسنوا فى الدنيا يجدون الخير فى الآخرة.
ويقال فى هذه الدنيا حسنة، وهى ما لهم من حلاوة الطاعة بصفاء الوقت ويصحّ أن تكون تلك الحسنة زيادة التوفيق لهم فى الأعمال، وزيادة التوفيق لهم فى الأحوال.
ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يوفّقهم بالاستقامة على ما هم عليه من الإحسان.
ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يبلّغهم منازل الأكابر والسادة، قال تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» «1» ويصح أن تكون تلك الحسنة ما يتعدّى منهم إلى غيرهم من بركات إرشادهم للمريدين، وما يجرى على من اتبعهم مما أخذوه وتعلموه منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهتدى بهداك رجل خير لك من حمر النعم» «2» .
ثم قال: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» ، لأن ما فيها يبقى، وليس فيها خطر الزوال. ولأن فى الدنيا مشاهدة وفى الآخرة معاينة «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 31]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
__________
(1) آية 24 سورة السجدة.
(2) سبق تخريج هذا الحديث.
(3) نفهم من هذا أن المعاينة أعلى درجة من المشاهدة، ونفهم كذلك أن المشاهدة- وهى تنم فى هذه الدنيا- هى أقصى درجات المعراج الروحي عند أصحاب وحدة الشهود، وكل قول بما يزيد عن ذلك خروج عن أصول هذا المذهب، وقد نعى كثير من الباحثين على الغلاة والأدعياء والظالمين، فى هذا الخصوص. [.....](2/294)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
كما أن الإرادات والهمم تختلف فى الدنيا فكذلك فى الآخرة، وفى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن مريد يكتفى من الجنة بورودها، ومن مريد لا يكتفى من الجنة دون شهود ربّ الجنة.
ويقال إذا شاءوا أن يعودوا إلى ما فاتهم من قصورهم، وما وجدوا فى ذلك من صحبة اللّعين «1» فى سائر أحوالهم وأمورهم يسلم لهم ذلك، ومن شاء أن تدوم رؤيته، ويتأبّد سماع خطابه فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد، وهو ما لم يخطر ببال أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 32]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
يقبض أرواحهم طيبة. أو يقال «طَيِّبِينَ» حال.
والأسباب التي تطيب بها قلوبهم وأرواحهم مختلفة، فمنهم من طاب وقته لأنه قد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه سلّم عليه محبوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه لم يفته مطلوبه.
ومنهم من طاب وقته لأنه يعود إلى ثوابه، ويصل إلى حسن مآبه.
ومنهم من يطيب قلبه لأنه أمن من زوال حاله، وحظى بسلامة مآله «2» ، ومنهم من يطيب قلبه لأنه وصل إلى أفضاله، وآخر لأنه وصل إلى لطف جماله، وثالث لأنه خصّ بكشف جلاله- قد علم كلّ أناس مشربهم.
ويقال «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» طيبة نفوسهم أي طاهرة من التدنّس بالمخالفات، وطاهرة قلوبهم عن العلاقات، وأسرارهم عن الالتفات إلى شىء من المخلوقات.
__________
(1) اللعين مقصود به إبليس.
(2) وردت (ماله) والملائم هنا أن تكون (مآله) .(2/295)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» احظوا بالجنة، منهم من يخاطبه بذلك الملك، ومنهم من يكاشفه بذلك الملك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
القوم ينتظرون مجىء الملك لأنهم لم يعرفوه ولم يعتقدوا كونه. ولكن لمّا كانوا يستعجلون معتقدين أن الرسل غير صادقين، ولمّا سلكوا «1» مسلك أضرابهم من المتقدمين- عوملوا بمثل ما لقى أسلافهم، وما كان ذلك من الله ظلما، لأنه يتصرف فى ملكه من غير حكم حاكم عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 35]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)
خبثت قصودهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء، وغلبت على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم، وانكشف عدم صدقهم فى أحوالهم.
وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ..» يشبه قولهم: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» «2» . ولا خلاف أن الله لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك.
__________
(1) وردت (سكنوا) وهى خطأ من الناسخ.
(2) آية 47 سورة يس.(2/296)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 36]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
لم يخل زمانا من الشرع توضيحا لحجته، ولكن فرّقهم فى سابق حكمه ففريقا هداهم، وفريقا حجبهم «1» وأعماهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 37]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
ألزمهم الوقوف على حدّ العبودية فى إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال:
إنك وإن كنت بأمرنا لك حريصا على هدايتهم فإن من قسمت له الضلال لا يجرى عليه غير ما قسمت له.
ويقال من ألبسته صدار الضلال لا تنزعه وسيلة ولا شفاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 38]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)
القسم يؤكّد الخبر، ولكنّ يمين الكاذب توجب ضعف قوله لأنه كلما زاد فى جحد الله ازداد القلب نفرة من قوله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 39]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
__________
(1) وردت (حجتهم) وهى خطأ فى النسخ إذ ربما كانت النقطتان فوق الباء فتحة فى الأصل وتوهم الناسخ أنها نقطتان.
(2) وردت (وأعمالهم) والمعنى والسياق يرفضانها ويتقبلان (وأعماهم) .(2/297)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
إذا بيّن الله صدق ما ورد به الشرع فى الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاح أهل التكذيب فيكون فى ذلك زيادة لهم فى التعذيب.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 40]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
فيكون بالسمع علم تعلّق قوله بما يفعله. وحمله قوم على أن معناه أنه لا يتعسّر عليه فعل شىء أراده، فالآية على القولين جميعا.
والذي لا يحتاج فى فعله إلى مادة يخلق منها لا يفتقر إلى مدة يقع الفعل فيها.
وتدل الآية على أنّ قوله ليس بمخلوق إذ لو كان مخلوقا لكان مقولا له: كن، وذلك القول يجب أن يكون مقولا له بقول آخر ... وهذا يؤدى إلى أن يتسلسل ما يحصل إلى ما لا نهاية له «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 41]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
من هاجر عن أوطان السوء- فى الله- أبدل له الله فى جوار أوليائه ما يكون له فى جوارهم معونة على الزيادة فى صفاء وقته. ومن هجر أوطان الغفلة مكّنه الله من مشاهد الوصلة. ومن فارق مجالسة المخلوقين، وانقطع بقلبه إليه- سبحانه- باستدامة ذكره- فكما فى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» . وبداية هؤلاء القوم نهاية أهل الجنة ففى الخير «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة» . ويقال القلب مظلوم من جهة النّفس لما تدعوه إليه من شهواتها، فإذا هجرها أورث الله القلب أؤطان النّفس حتى تنقاد لما يطالب به القلب
__________
(1) كلام الله ليس بمخلوق- هذا أصل عام من أصول المذهب الأشعري الذي يعد القشيري من أعظم أنصاره. وقد ناقش هذه القضية بإسهاب فى كتابه القيم: «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» . وانظر أيضا كتابنا (الإمام القشيري: تصوفه وأدبه- فصل: القشيري متكلما) :(2/298)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
من الطاعة فبعد ما تكون أوطان الزّلّة بدواعى الشهوة تصير أوطان الطاعة لسهولة أدائها.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 42]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
الصبر الوقوف بحسب جريان القضاء، والتوكل التوقي بالله بحسن الرجاء.
ويقال صبروا فى الحال، وتوكلوا على الله فى تحقيق الآمال.
ويقال الصبر تحسّى كاسات المقدور، والتوكل الثقة فى الله فى استدفاع المحذور.
ويقال الصبر تجرّع ما يسقى، والتوكل الثقة بما يرجو.
ويقال إنما يقوون على الصبر بما حققوا من التوكل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 43]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43)
تعجبوا أن يكون من البشر رسلا، فأخبر أنّ الرسل كلّهم كانوا من البشر، وأنّ فيمن سبق من أقرّ بذلك. و «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم العلماء والعلماء مختلفون: فالعلماء بالأحكام إليهم الرجوع فى الاستفتاء من قبل العوام فمن أشكل عليه شىء من أحكام الأمر والنهى يرجع إلى الفقهاء فى أحكام الله، ومن اشتبه عليه شىء من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله، فالفقيه يوقّع عن الله، والعارف ينطق- فى آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها- عن الله، فهو كما قيل: (أليس حقا نطقت بين الورى فاشتهرت، كاشفها يعلم ما منّ عليها فجرت، فهى عناء به عينيه قد طهرت) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 44]
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
أي إن البيان إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا.
__________
(1) ما بين القوسين نقلناه كما هو من النص، وربما كان شاهدا شعريا مضطرب الكتابة.(2/299)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
العبد فى جميع أحواله عرضة لسهام التقدير، فينبغى أن يستشعر الخوف فى كلّ نفس من الإصابة بها، وألّا يأمن مكر الله فى أي وقت، وأكثر الأسنة تعمل فى الموطأة نفوسهم وقلوبهم على ما عوّدهم الحق من عوائد المنّة، ولكن كما قيل:
يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا «1»
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 48]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
كل مخلوق من عين أو أثر، من حجر أو مدر أو غبر فلله- من حيث البرهان- ساجد، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 49]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة، فإذا امتنعت عن إقامة الشهادة لقوم قالة، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 50]
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
يخافون الله أن ينزل عليهم عذابا من فوق رءوسهم.
__________
(1) كان عبد الحميد المكفوف كثيرا ما يتمثل بهذا البيت في قصصه (الحيوان ج 6 ص 508) .(2/300)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
«وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته.
ويقال خير شىء للعبد فى الدنيا والآخرة الخوف إذ يمنعه من الزّلة ويحمله على الطاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 52]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
الحاجة إلى إثبات صانع واحد داعية، وما زاد على الواحد (قالا ... ) «1» فيه متساوية.
ويقال إثبات الواحد ضرورة، وقدرة الاثنين محصورة.
قوله جل ذكره: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ له الدين خالصا وله الدين دائما، وله الدين ثابتا، فالطاعة له واجبة. فلا تتقوا غيره، وأطيعوا شرعه بخلاف هواكم، واعبدوه وحده، واستجيبوا له فى المسرّة والمضرّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 53]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53)
النّعمة ما يقرّب العبد من الحق، فأمّا مالا يوجب النسيان والطغيان، والغفلة والعصيان فأولى أن يكون محبة.
ويقال ما للعبد فيه نفع، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة سواء كان دينيا أو دنيويا، فالعبد مأمور بالشكر على كل حال. وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان، «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «2» على كل حال.
وفائدة الآية قطع الأسرار عن الأغيار فى حالتى اليسر والعسر، والثقة بأن الخير والشر، والنفع والضر كلاهما من الله تعالى.
قوله جل ذكره ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ إذ ليس لكم سواه فإذا أظلّت العبد هواجم الاضطرار التجأ إلى الله فى استدفاع
__________
(1) بقية الكلمة مشتبهة.
(2) آية 13 سورة سبأ.(2/301)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
ما مسّه من البلاء ثم إذا منّ الحقّ عليه، وجاد عليه بكشف بلائه صار كأن لم يمسه سوء أو أصابه همّ كما قيل:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا «1»
وقال:
[سورة النحل (16) : آية 54]
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
الخطاب عام، وقوله «مِنْكُمْ» : لأنّ القوم منهم
[سورة النحل (16) : آية 55]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
فى هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامة، ويعتذرون حين لا يقبل لهم عذر.. ومن زرع شرا فلن يحصد إلا جزاء عمله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 56]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
أي يجعلون لما لا يعلمون- وهى أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم- نصيبا من أرزاقهم فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا.
«تَاللَّهِ» أقسم إنهم سيلقون عقوبة فعلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 57]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)
من فرط جهلهم وصفوا المعبود بالولد، ثم زاد الله فى خذلانهم حتى قالوا: الملائكة بنات الله. وكانوا يكرهون البنات، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء فى استحقاق
__________
(1) تمول أي نما المال له.(2/302)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
الذمّ كلّ من آثر حظّ نفسه على حقّ مولاه، فإذا فعل ماله فيه نصيب وغرض كان مذموم الوصف، ملوما على ما اختاره من الفعل.
ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه ويتصفون به من كراهة أن تولد لهم الإناث فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
استولت عليهم رؤية الخلق «1» ، وملكتهم الحيرة، فحنقوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البعل فيهن.. وهذه نتائج الإقامة فى أوطان التفرقة، والغيبة عن شهود الحقيقة.
ثم قال: «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» أي يحبس المولود إذا كان أنثى على مذلّة، «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» ليموت؟ وتلك الجفوة فى أحوالهم جعلت- من قساوة قلوبهم فى أحوالهم- العقوبة أشدّ ممّا كانت بتعجيلها لهم. وجعلهم فرط غيظهم، وفقد رضائهم، وشدة حنقهم على من لا ذنب له من أولادهم- من أهل النار فى دركات جهنم، وتكدّر عليهم الوقت، واستولت الوحشة.. ونعوذ بالله من المثل السوء! قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 60 الى 61]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
__________
(1) أي تشتت رؤيتهم حين لم ينظروا إلى الخالق واستبدلوا ذلك بأن نظروا للمخلوق ... وهذه صفة هل التفرقة والغيبة- كما سيأتى بعد.(2/303)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
مثل السوء للكفار الذين جحدوا توحيده فلهم صفة السوء.
ولله صفات الجلال ونعوت العزّ، ومن عرفه بنعت الإلهية تمّت سعادته فى الدارين، وتعجلت راحته، وتنزّه سرّه على الدوام فى رياض عرفانه، وطربت روحه أبدا فى هيجان وجده.
أمّا الذين وسموا بالشّرك ففى عقوبة معجّلة وهموم محصّلة. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ ... »
أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلا لحلّ الاستئصال بهم، ولكنّ الحكم سبق بإمهالهم، وسيلقون غبّ أعمالهم فى مآلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
انخدعوا لمّا لان لهم العيش، فظنوا أنهم ينجون، وبما يؤمّلونه يحيطون فحسنت فى أعينهم مقابح صفاتهم، ويوم يكشف الغطاء عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة، فلا تسمع منهم دعوة، ولا تتعلق بأحدهم رحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 63]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم وذلك أنه أخبر أن من تقدّمه من الأمم كانوا فى سلوك الضلالة، والانخراط فى سلك الجهالة كما كان من قومه، ولكن الله- سبحانه- لم يعجز عنهم. وكما سوّل الشيطان لأمّته، وكان وليا لهم، فهو ولىّ هؤلاء وأمّا المؤمنون فالله وليّهم، والكافرون لا مولى لهم.(2/304)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 64]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
أنت «1» الواسطة بيننا وبين أوليائنا، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى تبلّغ عنّا وتؤدّى منّا، فأنت رحمة أرسلناك لأوليائنا.. فمن تبعك اهتدى، ومن عصاك ففى هلاكه سعى.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 65]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
أحيا بماء التوفيق قلوب العابدين فجنحت إلى جانب الوفاق، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رقّ الآثار، وانفردت بحقائق الاتصال.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 66]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)
سخّرها لكم، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها، وجلدها وشعرها ودرّها، وأصلها ونسلها. ثم عجيب ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن- مع صفائه، وطعمه ونفعه- من بين الروث «2» والدم، وذلك تقدير العزيز العليم. والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزّلّة من وجوهها المختلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
__________
(1) وردت (آية) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(2) الفرث والروث بقايا الطعام.(2/305)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
منّ على العباد بما خلق لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس..
وغير ذلك.
والرزق الحسن ما كان حلالا. ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب، ويقال هو الذي لا منّة لمخلوق فيه ولا تبعة عليه.
ويقال هو ما لا يعصى الله مكتسبه فى حال اكتسابه.
ويقال هو ما لا ينسى الله فيه مكتسبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
أوحى إلى النحل: أراد به وحي إلهام.. ولما حفظ الأمر وأكل حلالا، طاب مأكله وجعل ما يخرج منه شفاء للناس.
ثم إن الله- سبحانه- عرّف الخلق أنّ التفضيل ليس من جهة القياس والاستحقاق إذ أن النحل ليس له خصوصية فى القامة أو الصورة أو الزينة، ومع ذلك جعل منه العسل الذي هو شفاء للناس.
والإنسان مع كمال صورته، وتمام عقله وفطنته، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى.. فأىّ فضيلة للنحل؟ وأىّ ذنب للإنسان؟ ليس ذلك إلا اختياره- سبحانه.
ويقال إن الله- سبحانه- أجرى سنّته أن يخفى كلّ شىء عزيز فى شىء حقير(2/306)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
فجعل الإبريسم «1» فى الدود وهو أضعف الحيوانات، وجعل العسل فى النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدّرّ فى الصدف وهو أوحش «2» حيوان من حيوانات البحر، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر ... كذلك أودع المعرفة به والمحبة له فى قلوب المؤمنين وفيهم من يعصى وفيهم من يخطىء «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
خلق الإنسان فى أحسن تركيب، وأملح ترتيب، فى الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم والذكاء. ورزقه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأى والتدبير، ثم فى آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا، ويرى فى كل يوم ألما جديدا.
ويقال «مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق فهو يكون فى أول أحوال عمره مطيعا ثم يصير فى آخر عمره عاصيا.
ويقال أرذل العمر أن يرغب فى عنفوان شبابه فى الإرادة، ويسلك طريق الله مدّة، ثم تقع له فترة، فيفسخ عقد إرادته، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم هذه ردّة فى هذا الطريق.
ويقال أرذل العمر رغبة الشيخ فى طلب.
ويقال أرذل العمر حبّ المرء للرياسة.
__________
(1) الإبريسم- أحسن الحرير (معرب) (الوسيط ح 1 ص 2) .
(2) هنا معناها أجوع الحيوان، من قولهم بات وحشا أي جائعا لم يأكل شيئا فحلا جوفه (الوسيط ج 2 ص 6، 10) .
(3) ينسجم اتجاه القشيري فى هذه الإشارة مع السياق القرآنى.. إذ يأتى بعد قليل: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» .. وفضل الله بلا علة.(2/307)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
ويقال أرذل العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يرضى خصومه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أرزاق المخلوقات مختلفة فمن مضيّق عليه رزقه، ومن موسّع عليه رزقه، ومن أرزاق هى أرزاق النفوس، وأرزاق للقلوب وأرزاق للأرواح، وأرزاق للأسرار فأرزاق النفوس لقوم بتوفيق الطاعات، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقوم حضور القلب باستدامة الفكر، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم، فيكون بلاؤهم فى محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقّ، فأمّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
شغل الخلق بالخلق لأنّ الجنس أولى بالجنس. ولمّا أراد الحقّ- سبحانه- بقاء الجنس هيّأ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل. ثم منّ على البعض بخلق البنين، وابتلى قوما بالبنات- كلّ بتقديره على ما يشاء.
قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ والرزق الطيب لعبد ما تستطيبه نفسه، ولآخر ما يستطيبه سرّه.
فمنهم من يستطيب مأكولا ومشروبا، ومنهم من يستطيب خلوة وصفوة ... إلى غير ذلك من الأرزاق.(2/308)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
«أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» ، وهو حسبان حصول شىء من الأغيار، وتعلّق القلب بهم استكفاء منهم أو استدفاعا لمحذور أو استجلابا لمحبوب.
«وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» والنعمة التي كفروا بها هى الثقة بالله، وانتظار الفرج منه، وحسن التوكل عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 73]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)
ومن يتعلّق بشخص أو بسبب مضاه «1» لعبّاد الأصنام من حيث إنه يضيّع وقته فيما لا يعينه، فالرزق، من الله- فى التحقيق- مقدّر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 74]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
كيف تضرب الأمثال لمن (لا) «2» يساويه أحد فى الذات والصفات وأحكام الأفعال؟
ومن نظر إلى الحقّ من حيث الخلق «3» وقع فى ظلمات التشبيه، وبقي عن معرفة المعبود.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 75]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
شبّه الكافر بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شىء ولا ملك له فى الشرع، والمؤمن المخلص بمن رزقه الخيرات ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثواب وحسن المآب على ما أنفقه.
__________
(1) فى الهامش هكذا، بينما هى فى النص (معناه) ، والصواب ما جاء فى الهامش أي مماثل.
(2) سقطت (لا) والمعنى يتطلبها.
(3) أي من حيث مضاهاته بالخلق، ومناظرته بالحدثان.(2/309)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس من كان بنفسه، ملاحظا لأبناء جنسه، متماديا فى حسبان مغاليطه كمن كان مدركا بربّه مصطلما «1» عن شاهده، غائبا عن غيره، والمجرى عليه ربّه ولا حول له إلا به.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 76]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
هذا المثل أيضا للمؤمن والكافر فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجىء منه شىء، ولا يحصل منه نفع، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حوله وقوّته، ولا يعترف إلا بطوله- سبحانه- ومنّته.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 77]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
استأثر الحقّ- سبحانه- بعلم الغيبيات، وسترها على الخلق فيخرج قوما فى الضّلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية، ويقيم قوما برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية.. فالعواقب مستورة، والخواتيم مبهمة، والخلق فى غفلة عما يراد بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 78]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
__________
(1) الاصطلام: نعت غلبة ترد على المقول فيستلبها بقوة سلطانه وقهره (اللمع ص 450) .(2/310)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
خلقهم من غير أن شاورهم، وأثبتهم- على الوصف الذي أراده- دون أن خيّرهم، ولم يعلموا بماذا سبق حكمهم.. أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدم أخرجهم من من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاح أنفسهم علموا، ولا صفة ربّهم عرفوا ثمّ بحكم الإلهام هداهم حتى قبل الصبيّ ثدى أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف.
«وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ» : لتسمعوا خطابه، «وَالْأَبْصارَ» لتبصروا أفعاله، «وَالْأَفْئِدَةَ» لتعرفوا حقّه، ثم لتشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 79]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
الطائر إذا حلق فى الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط، وقد قامت الدلالة على أن الحقّ- سبحانه- متفرّد بالإيجاد، ولا يخرج حادث عن قدرته، وفى ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
للنفوس وطن، وللقلوب وطن. والناس على قسمين مستوطن ومسافر: فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم فالمريد أو الطالب مسافر بقلبه لأنه يتلوّن، ويرتقى من درجة إلى درجة، والعارف مقيم ومستوطن لأنه واصل متمكن والطريق منازل ومراحل، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب، والمريد سالك والعارف واصل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 81]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)(2/311)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
فى الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالا.. كذلك جعل فى ظل عنايته لأوليائه مثوى وقرارا.
وكما ستر ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم- كذلك ألبس سرائركم لباسا يلفكم به فى السراء والضراء، ولباس العصمة يحميكم من مخالفته، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته، وكساكم بحلل الوصل مما يؤهلكم لقربته، وصحبته.
قوله: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ..» ، إتمام النعمة بأن تكون عاقبتهم مختومة بالخير، ويكفيهم أمور الدين والدنيا، ويصونهم عن اتباع الهوى، ويسدّدهم حتى يؤثروا ما يوجب من الله الرضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 82]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)
إذا بلّغت الرسالة فما جعلنا إليك «1» حكم الهداية والضلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 83]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
يستوفقون إلى الطاعة، فإذا فعلوا أعجبوا بها «2» .
__________
(1) وردت (إليكم) والخطاب موجه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فالصواب (إليك) .
(2) فى هذا الصدد ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله (لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟.
فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها.
فقال: هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشيها ومجريها؟) الرسالة ص 34.(2/312)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
ويقال يستغيثون، فإذا أجابهم مقصّروا فى شكره.
ويقال إذا وقعت لهم محنة استجاروا بربهم، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة.
ويقال يعرفون فى حال توبتهم قبح ما كانوا فيه فى حال زلتهم، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 84]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
إذا كان يوم الحشر سأل الرسل عن أحوال أممهم، فمن نطق بحجة أكرم، ومن لم يدل بحجة لا تراعى له حرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 85]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
أي يشدّد عليهم الأمر ولا يسهّل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 86]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)
تمنوا أن ينقموا من إخوانهم الذين عاشروهم، وحملوهم على الزّلّة، فيتبرأون من شركائهم، ويلعن بعضهم بعضا، وتضيق صدورهم من بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 87]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
استسلموا لأمر الله وحكمه، ويومئذ لا تضرّع منهم يرى، ولا محنة- يصرخون من ويلها- عنهم تكشف(2/313)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
تأتى- يوم القيامة- كلّ أمة مع رسولها، فلا أمة كهذه الأمة فضلا، ولا رسول كرسولنا صلى الله عليه وسلم رتبة وقدرا.
«وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» أي القرآن تبيانا لكل شىء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلى الكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم.
أمر الله الإنسان بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق فالعدل الذي بينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها، قال تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» «1» ، وكمال عدله مع نفسه كىّ عروق طمعه.
والعدل الذي بينه وبين ربّه إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر.
والعدل الذي بينه وبين الخلق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل «2» أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تشى إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بالهمّ أو العزم.
__________
(1) آية 40 سورة النازعات.
(2) وردت (كل) بالكاف وهى خطأ من الناسخ.(2/314)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
وإذا كان نصيب العوام بذل الإنصاف وكفّ الأذى فإنّ صفة الخواص ترك الانتصاف، وإسداء الإنعام، وترك الانتقام، والصبر على تحمّل ما يصيبك من البلوى.
وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلم مأمور به- أي العلم بحدوث نفسه، وإثبات محدثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها. وأما الإحسان فى الفعل فالحسن منه ما أمر الله به، وأذن لنا فيه، وحكم بمدح فاعله.
ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقّ وجب عليك حتى لو كان لطير فى ملكك، فلا تقصر فى شأنه.
ويقال أن تقضى ما عليك من الحقوق وألا تقتضى لك حقا من أحد.
ويقال الإحسان أن تترك كل مالك عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحسانا. وجاء فى الخبر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم.
قوله: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إعطاء ذى القرابة، وهو صلة الرّحم، مع مقاساة ما منهم من الجور والجفاء والحسد.
يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» : وذلك كلّ قبيح مزجور عنه فى الشريعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 91]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)
يفرض على كافة المسلمين الوفاء بعهد الله فى قبول الإسلام والإيمان، فتجب عليهم استدامة الإيمان. ثم لكلّ قوم منهم عهد مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مطالبون بالوفاء به فالزاهد عهده ألا يرجع إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نقض عهده ولم يف به. والعابد عاهده فى ترك الهوى. والمريد عاهده فى ترك العادة، وآثره بكل وجه.
والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه. والمحب عهده ترك نفسه معه بكل وجه «1» .
__________
(1) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» .(2/315)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
والموحّد عهده الامتحاء «1» عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد منهىّ عن تقصير عهده، مأمور بالوفاء به.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 92]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
من نقض عهده أفسد بآخر أمره أوّله، وهدم بفعله ما أسّسه، وقلع بيده ما غرسه، وكان كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا «2» ، أي من بعد ما أبرمت فتله.
وإنّ السالك إذا وقعت له فترة، والمريد إذا حصلت له فى الطريق وقفة، والعارف إذا حصلت له حجبة «3» ، والمحبّ إذا استقبلته فرقة- فهذه محن عظيمة ومصائب فجيعة، فكما قيل:
فلأبكينّ على الهلال تأسّفا ... خوف الكسوف عليه قبل تمامه
فما هو إلا أن تكسف شمسهم، وينطفىء- فى الليلة الظلماء- سراجهم، ويتشتّت من السماء ضياء نجومهم، ويصيب أزهار أنسهم وربيع وصلهم إعصار فيه بلاء شديد، وعذاب أليم. فإنّ الحقّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاء فكما يقول: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «4» » فإنّ آثار سخط الملوك موجعة، وقصة إعراض السلطان موحشة وكما قيل:
والصبر يحسن فى المواطن كلها ... إلا عليك- فإنّه مذموم
__________
(1) القشيري مستفيد من قول بعض الشيوخ: المحبة محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته.
«الرسالة ص 158» [.....]
(2) أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث قتله، وقيل هى ربطة، وكانت حمقاء تغزل هى وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن غزلهن.
(3) وردت (محبة) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا (حجبة) لأنها أقرب إلى السياق، ومشابهة فى الكتابة لكلمة (محبة) حيث يحتمل أن يحدث الالتباس فى حرف الميم عند النقل.
(4) آية 110 سورة الأنعام.(2/316)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
هنالك تنسكب العبرات، وتشق الجيوب، وتلطم الخدود، وتعطّل العشار، وتخرّب المنازل، وتسودّ الأبواب، وينوح النائح:
وأتى الرسول فأخ ... بر أنهم رحلوا قريبا
رجعوا إلى أوطانهم ... فجرى لهم دمعى صبيبا
وتركن نارا فى الضلوع ... وزر عن فى رأسى مشيبا
قوله جل ذكره: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بلاء كلّ واحد على ما يليق بحاله فمن كان بلاؤه بحديث النّفس أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه فى عقباه فاسم البلاء فى صفته مجاز، وإنما هذا بلاء العوام. ولكنّ بلاء الكرام غير هذا فهو كما قيل:
من لم يبت- والحبّ ملء فؤاده ... لم يدر كيف تفتّت الأكباد
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 93]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
ليست واقعة القوم بخسران يصيبهم فى أموالهم، أو من جهة تقصيرهم فى أعمالهم ولما ضيّعوه من أحوالهم.. فهذه- لعمرى- وجوه وأسباب، ولكنّ سرّ القصة كما قيل:
أنا صب لمن هويت ولكن ... ما احتيالى بسوء رأى الموالي؟
قوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» : لو شاء الله سعادتهم لرحمهم، وعن المعاصي عصمهم، وبدوام الذكر- بدل الغفلة- ألهمهم.. ولكن سبقت القسمة فى ذلك، وما أحسن ما قالوا:
شكا إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران.. لو شئت اهتدى ... ظمآن ... نو شئت ورد(2/317)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
أبعدكم عدم صدقكم فى إيمانكم عن تحققكم ببرهانكم، لأنكم وقفتم على حدّ التردد دون القطع والتعيين، فأفضى بكم تردّدكم إلى أوطان شرككم، إذ الشكّ فى الله والشّرك به قرينان فى الحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 95]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
لا تختاروا على القيام بحقّ الله والوفاء بعهده عوضا يسيرا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حلالكم وحرامكم، فإنّ ما أعدّ الله لكم فى جناته- بشرط وفائكم لإيمانكم- يوفى ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 96]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
الذي عندكم عرض حادت فان، والذي عند الله من ثوابكم فى مآلكم نعم مجموعة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ويقال ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة «1» ، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة، وأصناف متناوبة، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة «2» ، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.
__________
(1) أي مصابة بالدّخل
(2) لأنها منكم فعلا ومن الله حكما.(2/318)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فمعرّض للزوال، وقابل للانقضاء، وما وصفنا به أنفسا من الإقبال لا يتناهى وأفضال لا تفنى، كما قيل:
ألا طال شوق الأبرار إلى لقائى ... وإنى للقائهم لأشدّ شوقا
قوله: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ... » : جزاء الصبر الفوز بالطّلبة، والظّفر بالبغية.
ومآلهم فى الطلبات يختلف: فمن صبر على مقاساة مشقة فى الله. فعوضه وثوابه عظيم من قبل الله، قال تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1» .
ومن صبر عن اتباع شهوة لأجل الله، وعن ارتكاب هفوة مخافة لله فجزاؤه كما قال تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» «2» .
ومن صبر تحت جريان حكم الله، متحققا بأنه بمرآة من الله فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
الصالح ما يصلح للقبول، والذي يصلح للقبول ما كان على الوجه الذي أمر الله به. وقوله «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» : فى الحال، «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» : فى المآل فصفاء الحال يستوجب وفاء المآل، والعمل الصالح لا يكون من غير إيمان، ولذا قال: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» .
ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح. ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه. قوله «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» :
__________
(1) آية 10 سورة الزمر.
(2) آية 75 سورة الفرقان.
(3) صبر العبد مع الله أشد أنواع الصبر ويكون- كما يقول عمرو بن عثمان: بالثبات مع الله، وتلقى بلائه بالرحب والدعة.
وصبر الله مع العبد يصفه الشيخ الدقاق بقوله: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله تعالى معيته. (الرسالة ص 93) .(2/319)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
الفاء للتعقيب، «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ... » الواو للعطف ففى الأولى معجّل، وفى الثانية مؤجّل، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يعرف بالنطق، وإنما يعرف ذلك بالذوق فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة، وقوم قالوا إنه القناعة، وقوم قالوا إنه الرضا، وقوم قالوا إنه النجوى، وقوم قالوا إنه نسيم القرب ... والكل صحيح ولكلّ واحد أهل.
ويقال الحياة الطيبة ما يكون مع المحبوب، وفى معناه قالوا:
نحن فى أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى ... أنكم غيّب ونحن حضور
ويقال الحياة الطيبة للأولياء ألا تكون لهم حاجة ولا سؤال ولا أرب ولا مطالبة وفرق بين من له إرادة فترفع وبين من لا إرادة له فلا يريد شيئا «1» ، الأولون قائمون بشرط العبودية، والآخرون معتقون بشرط الحرية.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 98]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)
شيطان كلّ واحد ما يشغله عن ربه، فمن تسلّطت عليه نفسه حتى شغلته عن ربه ولو بشهود طاعة أو استحلاء عبادة أو ملاحظة حال- فذلك شيطانه. والواجب عليه أن يستعيذ بالله من شرّ نفسه، وشرّ كل ذى شر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 99]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
أنّى يكون للشيطان سلطان على العبد والحقّ- سبحانه- متفرّد بالإبداع، متوّحد بالاختراع؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 100]
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) .
__________
(1) فى هذا الصدد يقول القشيري فى رسالته: «والمريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له فمن يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا. (الرسالة ص 101) .(2/320)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
إنما سلطانه على الذين هم فى غطاء غفلهم، وسر ظنونهم ومشتبهاتهم فأمّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثات بالله ظهورها، ومن الله ابتداؤها، وإلى الله مآلها وانتهاؤها.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 102]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
ما ازدادوا فى طول مدتهم إلا شكا على شك، وجحدا على جحد، وجروا على منهاجهم فى التكذيب، فلم يصدّقوه صلى الله عليه وسلم، وما زادوا فى ولايته إلا شكا ومرية:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: ردّ على فرط جهلهم بربهم، وبعد رتبتهم عن التحصيل، فلمّا كانوا متفرقين فى شهود الملك ردّوا فى حين التعريف إليهم بذكر الملك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 103]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
لم يستوحش الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاء حاله وقدره عليهم.. وأىّ ضرر يلحق من كانت مع السلطان مجالسته إذا خفيت على الأخسّ من الرعية حالته؟
ثم إنه أقام الحجة فى الردّ عليهم حيث قال: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» : فمن فرط جهلهم توهموا أنّ هذا القرآن- الذي عجز كافة الخلق(2/321)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
عن معارضته فى فصاحته وبلاغته- مقول وحاصل باتصاله بمن هو أعجمى النطق «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 104]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
إنّ من سبقت بالشقاوة قسمته لم تتعلق من الحق- سبحانه- به رحمته، ومن لم يهده الله فى عاجله إلى معرفته لا يهديه الله فى آجله إلى جنته.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 105]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
هذا من لطائف المعاريض إذ لمّا وصفوه- عليه السلام- بالافتراء أنار الحقّ- سبحانه- فى الجواب، فقال: لست أنت المفترى إنما المفترى من كذّب معبوده وجهل توحيده.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 106]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)
إذا علم الله صدق عبده بقلبه، وإخلاصه فى عقده، ولحقته ضرورة فى حاله خفّف عنه حكمه، ودفع عنه عناءه فلا يلفظ بكلمة الكفر إلا مكرها- وهو موحّد، وهو مستحق العذر فيما بينه وبين الله تعالى «2» ... وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم،
__________
(1) أرادوا به غلاما كان لحويطب اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب، أو هو جبر غلام رومى لعامر بن الحضرمي وكان يقرأ التوراة والإنجيل، أو سلمان الفارسي.. وكلهم أعاجم.
(2) ومن أمثال ذلك عمار بن ياسر الذي جرت كلمة الكفر على لسانه مكرها وهو معتقد الإيمان، وأتى رسول الله وهو يبكى، فجعل الرسول بمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» .
وكان يقول عنه: «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه»(2/322)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
وتجردوا لسلوك طريق الله ثم عرضت لهم أسباب، واتفقت لهم أعذار كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغال أو إلى شىء من العلوم رجوع.. لم يكن ذلك قادحا فى صحة إرادتهم، ولا يعدّ ذلك فسخا لعهودهم، ولا ينفى بذلك عنهم سمة القصد إلى الله تعالى.
أمّا «مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» : فرجع باختياره، ووضع قدما- كان قد رفعه فى طريق الله- بحكم هواه فقد نقض عهد إرادته، وفسخ عقده، وهو مستوجب ( ... ) «1»
إلى ( ... ) «2» تتداركه الرحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 107]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107)
السالك إذا اثر (الحظوظ) «3» على الحقوق بقي عن الله، ولم يبارك له فيما آثره على حقّ الله، ولقد قالوا:
قد تركناك والذي تريد ... فعسى أن تملهم فتعود
قوله جل ذكره
[سورة النحل (16) : آية 108]
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)
إذا تمادى فى غفلته، ولم يتدارك حاله بملازمة حسرته، ازداد قسوة على قسوة، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة، وكما قال جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 109]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
هم فى الآخرة محجوبون، وبذلّ البعد موسومون.
__________
(1) مشتبهة
(2) مشتبهة.
(3) سقطت هذه اللفظة والسياق يتطلبها، فأثبتناها حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى المقابلة بين حظوظ النفس وحقوق الحق. [.....](2/323)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
قوله جل ذكره
[سورة النحل (16) : آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
ومن صبر حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرّخص، وأخذ فى الأمور بالأشقّ أكرم الله حقّه، وقرّب مكانه، ولقّاه فى كل حالة بالزيادة، وربحت صفقته حين خسر أشكاله، وتقدّم على الجملة وإن قلّ احتياله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
غدا كلّ مشغول بنفسه، ليس له فراغ إلى غيره. وعزيز عبد لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان بحال لقى الله بها» . إنما يكون الفارغ غدا من كان اليوم فارغا، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمام بنفسه. والمؤمن لا نفس له قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» «1» اشتراها الحقّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمر الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 112]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
فراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبد بهذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرف فى فساد الشهوة، شوّش الله عليه قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء وقته لأنّ طوارق النفس توجب عزوب شوارق القلب، وفى الخبر: إذا أقبل الليل من
__________
(1) آية 111 سورة التوبة(2/324)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
هاهنا أدبر النهار من هاهنا» . وكذلك القلب إذا انقطع عنه معهود ما كان الحقّ أتاحه له أصابه عطش شديد ولهب عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 113]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
كما جاءهم الرسول جهرا فإنه تتأدّى إليهم من قبل خواطرهم إشارات تترى «1» ، فمن لم يستجب لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق «2» أخذه العذاب من حيث لا يشعر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 114]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
الحلال الطيب ما يتناوله العبد على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب فى ترك الشبهة «3» ، وحقيقة الشكر على النعمة الغيبة عن شهود النعمة بالاستغراق فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 115]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
يباح تناول المحرمات عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يرخّص فى ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبقدر ما يسدّ الرّمق، كذلك عند استهلاك العبد بغلبات الحقيقة لا بد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، ثم لا يمكّن من التعريج فى أوطان التفرقة والتمييز بعد مضى أوقات الصحو من أجل أداء الشرع «4» ، كما قيل:
__________
(1) تترى أي تتابع، وربما كانت (سرا) لتقابل جهرا
(2) أي إعتاق النفس وتحريرها من رق الشهوات
(3) وردت (الشدة) والصواب- حسب ما يقول القشيري في مواضع مماثلة- أن تكون (الشبهة)
(4) هذه هى حالة الفرق الثاني التي تتخلل حالة جمع الجمع، وفيها يرد العبد إلى الصحو عند أوقات الفرائض ويكون رجوعه لله بالله لا للعبد بالعبد.(2/325)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
فإن تك منه غيبة بعد غيبة ... فإنّ إليه بالوجود إيابي
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
الصدق فى كل شىء أولى «1» من الكذب، وكثير من أقوالهم فى الاعتراض عينّات «2» من الكذب.
والصّدّيق لا يكذب صريحا، ولا يتداول أقوال كاذب مهين. وصاحب الكذب تظهر عليه المذلّة لما هو فيه من الزلّة، وله فى الآخرة عذاب أليم «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 118]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
بيّن أنه أوضح لمن تقدّم الحلال والحرام، فمنهم من أتى بما أمر به ومنهم من خالف..
وكلّ عومل بما استوجبه فمن أطاع قلبه قرّبه، ومن عصى ردّه وحجبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) .
__________
(1) وردت (أولا) وهى خطا فى النسخ.
(2) عينات جمع عينة وهى نموذج من أصل الشيء ومادته (الوسيط)
(3) قمنا هنا ببعض إصلاحات طفيفة نظرا لانبهام الخط ورداءته، ووجود بعض حروف تعجز المطبعة عن نقلها كما هى فى الرسم.(2/326)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
إذا ندموا على قبيح ما قدّموا، وأسفوا على كثير مما أسلفوا وفيه أسرفوا، ومحا صدق عبرتهم آثار عثرتهم- نظر الله إليهم بالرحمة، فتاب عليهم إذا أصلحوا، ونجّاهم إذا تضرّعوا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 120]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
قيل آمن بالله وحده فقام مقام الأمة، وفى التفسير: كان معلّما- للخير- لأمة.
ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون فى أمة متفرقا.
ويقال لمّا قال إبراهيم لكلّ ما رآه: «هذا رَبِّي» ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هى بل كان مستهلكا فى شهود الحقّ، ورأى الكون كلّه بالله، وما ذكر حين ذكر غير الله.. كذلك كان جزاء الحق فقال: أنت الذي تقوم مقام الكلّ، ففى القيام بحق الله منك على الدوام غنية عن الجميع.
و «الحنيف» : المستقيم فى الدّين، أو المائل إلى الحق بالكلية «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 121]
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
الشاكر فى الحقيقة- من يرى عجزه عن شكره، ويرى شكره من الله عزّ وجل، لتحقّقه أنه هو الذي خلقه، وهو الذي وفّقه لشكره، وهو الذي رزقه الشكر، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له- سبحانه.
«وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي تحقّق بأنه عبده، وأنه رقّاه إلى محلّ الأكابر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 122]
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
الحسنة التي آتاه الله هى دوام ما أتاه حتى لم تنقطع عنه.
__________
(1) الحنيف- فى اللغة- من الأضداد- المائل والمستقيم (ابن الأنباري فى كتاب الاضداد)(2/327)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
ويقال هى الخلة. ويقال هى النبوة والرسالة.
ويقال آتيناه فى الدنيا حسنة حتى كان لنا بالكلية، ولم تكن فيه لغير بقية.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 123]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
«مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» أي الكون بالحق، والامتحاء «1» عن شاهد نفسه فكان نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى اتباعه ابراهيم مؤتمرا بأمر الله. وكانت ملة إبراهيم- عليه السلام- الخلق والسخاء والإيثار والوفاء، فاتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد عليه، فقد زاد على الكافة شأنه، وبانت مزيّته.
قوله جل ذكره
[سورة النحل (16) : آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قوم حرّموا العمل فيه وقوم حللوه معصية منهم، وقيل جعل الجمعة لهم فقالوا: لا نريد إلا يوم السبت.. فهذا اختلافهم فيه.
والإشارة من ذلك أنهم حادوا «2» عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم. ثم أنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) .
__________
(1) وردت (الامتحان) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (جادوا) وهى خطأ فى النسخ.(2/328)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
الدعاء إلى سبيل الله بحثّ «1» الناس على طاعة الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله.
والدعاء بالحكمة ألا يخالف بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق.
والموعظة الحسنة ما يكون صادرا عن علم وصواب، ولا يكون فيها تعنيف.
«وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» : بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» «2» : فشرط الأمر بالمعروف استعمال ما تأمر به، والانتهاء عما تنهى عنه «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 127]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
إذا جرى عليكم ظلم من غيركم وأردتم الانتقام.. فلا تتجاوزوا حدّ الإذن بما هو فى حكم الشرع.
«وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» : فتركتم الانتصاف لأجل مولاكم فهو خير لكم إن فعلتم ذلك.
والأسباب التي قد يترك لأجلها المرء الانتصاف مختلفة فمنهم من يترك ذلك طمعا فى الثواب غدا فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعا فى أن يتكفّل الله بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مكتف بعلم الله تعالى بما يجرى عليه، ومنهم من يترك ذلك لكرم نفسه، وتحرّره عن الأخطار ولاستحبابه العفو عند الظّفر، ومنهم من لا يرى لنفسه حقا، ولا يعتقد أنّ لأحد هذا الحق فهو على عقد إرادته بترك نفسه فملكه مباح ودمه هدر. ومنهم من ينظر إلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنّ فعله جزاء على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» «4» . فاشتغاله باستغفاره عن جرمه يمنعه عن انتصافه من خصمه.
قوله جل ذكره: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
__________
(1) وردت (بحيث) وهى خطأ فى النسخ.
(2) آية 88 سورة هود.
(3) أي تكون أنت قدوة فيما تدعو إليه من أوامر وما تنهى عنه من زواجر. [.....]
(4) آية 30 سورة الشورى.(2/329)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
«وَاصْبِرْ» تكليف، «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» : تعريف. «وَاصْبِرْ» تحقق بالعبودية «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» إخبار عن الربوبية.
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ..» أي طالع التقدير، فما لا نجعل له خطرا عندنا لا ينبغى أن يوجب أثرا فيك فمن أسقطنا قدره فاستصغر أمره. وإذا عرفت انفرادنا بالإيجاد فلا يضيق قلبك بشدة عداوتهم، فإنّا ضمنّا كفايتك، وألا نشمتهم بك، وألا نجعل لهم سبيلا إليك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (16) : آية 128]
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة.
«الَّذِينَ اتَّقَوْا» رؤية النصرة من غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحول والقوة.
والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة.(2/330)
بسم الله الرحمن الرحيم « ... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة..
جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية.
ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكا فينا غليلا، مهدّنا له فى دار فضلنا مقيلا» عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف(2/331)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
السورة التي يذكر فيها بنو إسرائيل «1»
قوله تعالى وتقدّس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة ما سمعها عابد إلّا شكر عصمته، وما سمعها مالك إلا وجد رحمته، وما تحقّقها عارف إلّا تعطر قلبه بنسيم قربته، وما شهدها موحّد إلا تقطّر دمه لخوف فرقته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه فقال: «سُبْحانَ الَّذِي..» : الحقّ سبّح نفسه بعزيز خطابه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قدره، وعن توحّده بعلوّ نعوته.
ولمّا أراد أن يعرف العباد ما خصّ به رسوله- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج من علوّ ما رقّاه إليه، وعظم ما لقّاه به أزال الأعجوبة بقوله: «أَسْرى» ، ونفى عن نبيّه خطر الإعجاب بقوله: «بِعَبْدِهِ» لأنّ من عرف ألوهيته، واستحقاقه لكمال العزّ فلا يتعجّب منه أن يفعل ما يفعل. ومن عرف عبودية نفسه، وأنّه لا يملك شيئا من أمره فلا يعجب بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نفى التعجّب من إظهار فعل الله عزّ وجل، ونفى الإعجاب فى وصف رسول الله عليه السلام.
ويقال أخبر عن موسى عليه السلام- حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة-
__________
(1) يقول السيوطي فى الإتقان: «وتسمى أيضا سورة الإسراء، وسورة سبحان وسورة بنى إسرائيل» الإتقان ط الحلبي سنة 1951 ح 1 ص 54.
أما القاضي البيضاوي (ص 370) فيقول: سورة بنى إسرائيل أو سورة «أَسْرى»(2/333)
فقال: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» «1» ، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه «أَسْرى بِعَبْدِهِ» وليس من جاء بنفسه كمن أسرى به ربّه، فهذا متحمّل وهذا محمول، هذا بنعت الفرق وهذا بوصف الجمع، هذا مريد وهذا مراد.
ويقال جعل المعراج بالليل عند غفلة الرّقباء وغيبة الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أهبة واستعداد، كما قيل: «2» ويقال جعل المعراج بالليل ليظهر تصديق من صدّق، وتكذيب من تعجّب وكذّب أو أنكر وجحد.
ويقال لما كان تعبّده صلى الله عليه وسلم وتهجّده بالليل جعل الحقّ سبحانه المعراج بالليل ويقال:
ليلة الوصل أصفى ... من شهور ودهور سواها
ويقال أرسله الحقّ- سبحانه- ليتعلّم أهل الأرض منه العبادة، ثم رقّاه إلى السماء ليتعلّم الملائكة منه آداب العبادة، قال تعالى في وصفه- صلى الله عليه وسلم-: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» «3» ، فما التفت يمينا ولا شمالا، وما طمع فى مقام ولا فى إكرام تجرّد عن كلّ طلب وأرب.
قوله: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كشف بالذات.
ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله- سبحانه- شىء فى جلاله وجماله، وعزّه وكبريائه، ومجده وسنائه ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عرف به صلوات الله عليه- أنه ليس أحد من الخلائق مثله فى نبوته ورسالته وعلوّ حالته وجلال رتبته.
__________
(1) آية 143 سورة الأعراف.
(2) هنا شاهد شعرى مضطرب فى الكتابة، وأكثر أجزائه سلامة هو: والناس عما نحن فيه بمعزل.
(3) آية 17 سورة النجم.(2/334)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 2]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2)
أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنّ نبيّنا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعا، فإنّ الشمس فى طلوعها وإشراقها تكون أقرب ممن طلعت له من حقائقها.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 3]
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
أي يا ذرية من حملنا مع نوح- على النداء.. إنه كان عبدا شكورا.
والشكور الكثير الشكر وكان نوح قد لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وكان يضرب فى كل ( ... ) «1» كما فى القصة- سبعين مرة، وكان يشكر. كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه: أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأمر حين دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» .
ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيق الله له لشكره، ولا يتقاصر عن شكره لنعمه.
ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه فى سبيل الله ولا يدّخره، ويشكر بنفسه فيستعملها فى طاعة الله، ولا يبقى شيئا من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبه ربّه فلا تأتى عليه ساعة إلا وهو يذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 4]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
__________
(1) مشتبهة.
(2) آية 26 سورة نوح ويكون المراد أنه لم يدع بإهلاكهم نتيجة نفاد صبره أو عدم شكره بل حسبما أمره الله، ولو وضعنا الفاصلة بعد (وأمر) يكون المعنى: إلا من قد آمن وأمر بالايمان. وهذا التأويل لا يتعارض مع المذهب العام للقشيرى، فكل شىء عنده بأمر الله وتوفيقه.(2/335)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
القضاء هاهنا بمعنى الإعلام، والإشارة فى تعريفهم بما سيكون فى المستأنف منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقينا إذا لقوا ما أخبروا به، وليكون أبلغ فى إلزام الحجّة عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سبق به القضاء فلا محالة يحصل وإن ظنّ التباعد عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 5]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)
إن الله سبحانه يعدّ أقواما لأحوال مخصوصة حتى إذا كان وقت إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 6]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)
يدلّ على أنه مقدّر أعمال العباد، ومدبّر أفعالهم فإنّ انتصارهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقّ أنه هو الذي تولّاه بقوله: «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ... »
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 7]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)(2/336)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
إن أحسنتم فثوابكم كسبتم، وإن أسأتم فعداءكم جلبتم- والحقّ أعزّ من أن يعود إليه من أفعال عباده زين أو يلحقه شين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 8]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
كلمة «عَسى» فيها ترجية وإطماع، فهو- سبحانه- وقفهم على حد الرجاء والأمل، والخوف والوجل.
وقوله «عَسى» : ليس فيه تصريح بغفرانهم ورحمتهم، وإنما فيه للرجاء موجب قوىّ فبلطفه وعد أن يرحمكم.
قوله جل ذكره: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي إن عدتم إلى الزّلّة عدنا إلى العقوبة، وإن استقمتم فى التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة.
ويقال إن عدتم إلى نقض العهد عدنا إلى تشديد العذاب.
ويقال إن عدتم للاستجارة عدنا للإجارة.
ويقال إن عدتم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء.
ويقال إن عدتم إلى ما يليق بكم عدنا إلى ما يليق بكرمنا.
«وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ، لأنهم (....) «1» وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين.
و «حَصِيراً» أي محبسا ومصيرا. فالمؤمن- وإن كان صاحب ذنوب وإن كانت كبيرة- فإنّ من خرج من دنياه على إيمانه فلا محالة يصل يوما إلى غفرانه.
__________
(1) هنا بياض فى النسخة.(2/337)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 9]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)
القرآن يدل على الحقّ والصواب. و «أَقْوَمُ» : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير فالقرآن يدل على الحق والصواب، ولكنّ الخلل من جهة المستدلّ لا الدليل، إذ قد يكون الدليل ظاهرا ولكنّ المستدلّ معرض، وبآداب النظر مخلّ، فيكون العيب فى تقصيره لا فى قصور الدليل «1» .
القرآن نور من استضاء به خلص من ظلمات جهله، وخرج من غمار شكّه. ومن رمدت عيون نظره التبس رشده.
ويقال الحول ضرره أشدّ من العمى لأنّ الأعمى يعلم أنه ليس يبصر فيتبع قائده، ولكن الأحوال يتوهّم الشيء شيئين، فهو بتخيّله وحسبانه يمارى من كان سليما.. كذلك المبتدع إذا سلك طريق الجدل، ولم يضع النظر موضعه بقي فى ظلمات جهله، وصال بباطل دعواه على خصمه، كما قيل:
بأطراف المسائل كيف يأتى ... - ولا أدرى لعمرك- مبطلوها؟
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
من الأدب فى الدعاء ألّا يسأل العبد إلّا عند الحاجة «2» ، ثم ينظر فإنّ كان شىء لا يعنيه ألا يتعرّض له فإنّ فى الخبر «3» : «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» . ثم من آداب الداعي إذا سأل من الله حاجته ورأى تأخيرا فى الإجابة ألا يتّهم الحقّ- سبحانه- ويجب أن يعلم
__________
(1) هذا نموذج مصغر لأسلوب القشيري الجدلي.
(2) وردت (نجاحه) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (الخير) بالياء(2/338)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
أن الخير فى ألا يجيبه، والاستعجال- فيما يختاره العبد- غير محمود، وأولى الأشياء السكون والرضا بحكمه سبحانه، إن لم يساعده الصبر وسأل فالواجب ترك الاستعجال، والثقة بأنّ المقسوم لا يفوته، وأنّ اختيار الحقّ للعبد خير له من اختياره لنفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
جعل الليل والنهار علامة على كمال قدرته، ودلالة على وجوب وحدانيته فى تعاقبهما وتناوبهما، وفى زيادتهما ونقصانهما.
ثم جعلهما وقتا صالحا لإقامة العبادة، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته فالعبادة شرطها الدوام والاتصال، والوظائف حقّها التوفيق والاختصاص ولو وقع فى بعض العبادات تقصير أو حصل فى أداء بعضها تأخير تداركه بالقضاء حتى يتلافى التقصير.
ويقال من وجوه الآيات فى الليل والنهار إفراد النهار بالضياء من غير سبب، وتخصيص الليل بالظلام بغير أمر مكتسب «1» ، ومن ذلك قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» : وهو اختلاف أحوال القمر فى إشراقه ومحاقه، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة، بل هو فى كل ليلة فى منزل آخر، إما بزيادة أو بنقصان.
وأمّا الشمس فحالها الدوام.. والناس كذلك أوصافهم فأرباب التمكين الدوام شرطهم، وأصحاب التلوين التنقل «2» حقّهم، قال قائلهم:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحير الألباب دون نزوله
__________
(1) أي أن أفعال الله بمخلوقاته لا تخضع لعلة أو سبب، أو حيلة أو كسب.
(2) يقصد بالتنقل هنا التقلب فى الأحوال.. وليس التنقل من مكان إلى مكان.(2/339)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 13]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13)
ألزم كلّ أحد ما لبس بجيده. فالذين هم أهل السعادة أسرج لهم مركب التوفيق، فيسير بهم إلى ساحات النجاة، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مطيّة الخذلان فأقعدتهم عن النهوض نحو منهج الخلاص، فوقعوا فى وهدة الهلاك.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 14]
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
من ساعدته العناية الأزلية حفظ عند معاملاته مما يكون وبالا عليه يوم حسابه، ومن أبلاه بحكمه ردّه وأمهله، ثم تركه وعمله، فإذا استوفى أجله عرف ما ضيّعه وأهمله، ويومئذ يحكّمه فى حال نفسه، وهو لا محالة يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عند ما يتحقق من قبيح أعماله..
فكم من حسرة يتجرّعها، وكم من خيبة يتلقّاها! ويقال من حاسبه بكتابه فكتابه ملازمه فى حسابه فيقول: ربّ: لا تحاسبنى بكتابي..
ولكن حاسبني بما قلت: إنّك غافر الذّنب وقابل التوب.. لا تعاملنى بمقتضى كتابى ففيه بواري وهلاكى قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 15]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
قضايا أعمال العبد مقصورة عليه إن كانت طاعة فضياؤها لأصحابها، وإن كانت زلّة فبلاؤها لأربابها. والحقّ غنىّ مقدّس، أحدى منزّه.
قوله جل ذكره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا كلّ مطالب بجريرته. وكلّ نفس تحمل أوزارها لا وزر نفس أخرى.. «وَما كُنَّا(2/340)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»
: دلّ ذلك على أن الواجبات إنما تتوجّه من حيث السمع «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 16]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
إذا كثر أهل الفساد غلبوا، وقلّ أهل الصلاح وفقدوا فعند ذلك (يغمر) «2» الله الخلق ببلائه، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا فى بابهم، ولا فيهم من يبتهل إلى الله فيسمع دعاؤه، فيخترم «3» أولياءه، ويبقى أرباب الفساد، وعند ذلك يشتدّ البلاء وتعظم المحن إلى أن ينظر الله تعالى إلى الخلق نظر الرحمة والمنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 17]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
فى الآية تسلية للمظلومين إذا استبطأوا هلاك الظالمين، و ( ... ) «4» قصر أيديهم عنهم. فإذا فكّروا فيما مضى من الأمم أمثالهم وكيف بنوا مشيدا، وأمّلوا بعيدا..
فبادوا جميعا، يعلمون أنّ الآخرين- عن قريب- سينخرطون فى سلكهم، ويمتحلون بمثل شأنهم. وإذا أظلّتهم سحب الوحشة فاءوا إلى ظلّ شهود التقدير، فتزول عنهم الوحشة، وتطيب لهم الحياة، وتحصل الهيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 18]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)
__________
(1) نظن أن القشيري يريد بذلك أن يرد على بعض أهل الكلام الذين يقولون إن الله يعذب الناس على ذنوبهم حتى ولو لم يبعث لهم رسولا لأن عقل الإنسان مطالب بالتكليف قبل سماع الرسل. [.....]
(2) وردت (يعمر) بالعين والصواب أن تكون بالغين لأن السياق يتطلب ذلك.
(3) وردت (فيحترم) بالحاء والسياق يتطلب أن الله (يخترم) أولياءه أي يأخذهم إليه.
(4) مشتبهة، وترجح أنها كلمة تؤدى إلى معنى (وأحسوا) قصر أيديهم عن الظالمين.(2/341)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
من رضى بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بقي عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بقدر ما اشتمّه، ثم يكون آنس ما به قلبا وأشدّ ما يكون به سكونا.. ثم يختطف عن نعمته، ولا يخصه بشىء مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه فى الآخرة.. ولقد قيل:
يا غافلا عن سماع الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت
من لم تزل نعمته عاجلا ... أزاله عن نعمته الموت
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 19]
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
علامة من أراد الآخرة- على الحقيقة- أن يسعى لها سعيها فإرادة الآخرة إذا تجرّدت عن العمل لها كانت مجرد إرادة، ولا يكون السعى مشكورا. قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما أنه مؤمن فى الحال. ويقال وهو مؤمن أنّ نجاته بفضله لا بسببه.
«فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» أي مقبولا، ومع القبول يكون التضعيف والتكثير فكما أن الصدقة يربيها كذلك طاعة العبد يكثّرها وينّميها.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 20]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
يجازى كلا بقدرة فلقوم نحاة ولقوم درجات، ولقوم سلامة ولقوم كرامة، ولقوم مثوبته، ولقوم قربته.
قوله جل ذكره
[سورة الإسراء (17) : آية 21]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
التفضيل على أقسام، فالعبّاد فضّل بعضهم على بعض ولكن فى زكاء أعمالهم، والعارفون فضّل بعضهم على بعض ولكن فى صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال(2/342)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
بالاستخلاص فقوم تفاضلوا بصدق القدم، وقوم تفاضلوا بعلوّ الهمم والتفضيل فى الآخرة أكبر: فالعبّاد تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم لترون أهل علّيين كما ترون الكوكب الدرىّ فى أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم» وأهل الحضرة تفاضلهم بلطائفهم من الأنس بنسيم القربة بما لا بيان يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرة فى الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون فى الرؤية ويتفاوتون فى نصيب كلّ أحد، وليس كلّ من يراه يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم «1» :
لو يسمعون- كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 22]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
الذي أشرك بالله أصبح مذموما من قبل الله، ومخذولا من قبل (من) «2» عبده من دون الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 23]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)
أمر بإفراده- سبحانه- بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبد منها، وأن يكون مغلوبا باستيلاء سلطان الحقيقة عليه بما يحفظه عن شهود عبادته «3» وأمر بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقّهما، والوقوف عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما،
__________
(1) البيت لكثير صاحب عزة.
(2) سقطت (من) والسياق يتطلبها، والخذلان ناجم عن أنّ أي معبود غير الله لا يملك لمن يعبده نفعا ولا يدفع عنه ضرا.
(3) فاخلاص العبد فى التحقق يحفظه عن التقصير فى أمور الشريعة.(2/343)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحسن عشرتهما ورعاية حرمتهما، وألا يبدى شواهد الكسل عند أوامرهما، وأن يبذل المكنة فيما يعود إلى حفظ قلوبهما ... هذا فى حال حياتهما، فأمّا بعد وفاتهما فبصدّق الدعاء لهما، وأداء الصدقة عنهما، وحفظ وصيتهما على الوجه الذي فعلاه، والإحسان إلى من كان من أهل ودّهما ومعارفهما.
ويقال إنّ الحقّ أمر العباد بمراعاة حقّ الوالدين وهما من جنس العبد.. فمن عجز عن القيام بحقّ جنسه أنّى له أن يقوم بحقّ ربه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 24]
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
اخفض لهما جناح الذّلّ بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البرم بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تدّخر عنهما ميسورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 25]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
إذا علم الله صدق قلب عبد أمدّه بحسن الأمجاد، وأكرمه بجميل الامتداد «1» ، ويسّر عليه العسير من الأمور، وحفظه عن الشرور، وعطف عليه قلوب الجمهور.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 26]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)
إيتاء الحقّ يكون من المال ومن النّفس ومن القول ومن الفعل، ومن نزل على اقتضاء حقّه، وبذل الكلّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقّ سبحانه بأمره.
__________
(1) أي الاستدامة والاستمرار دون وقفة أو فترة- وتلك من أعظم المنن فى نظر القشيري، وقد قال الرسول (ص) : «خير العمل أدومة وإن قل» .(2/344)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
والتبذير مجاوزة الحدّ عمّا قدّره الأمر والإذن. وما يكون لحظّ النّفس- وإن كان سمسمة- فهو تبذير، وما كان له- وإن كان الوفاء بالنّفس- فهو تقصير.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 27]
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
إنما كانوا إخوان الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم، وجروا فى طريقهم على دواعى الشياطين ووساوسهم، ولمّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوان الشياطين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 28]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
إن لم يساعدك الإمكان على ما طالبوك من الإحسان فاصرفهم عنك بوعد جميل إن لم تسعفهم بنقد جزيل. وإنّ وعد الكرام أهنأ من نقد اللئام «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
لا تمسك عن الإعطاء فتكدى «2» ، ولا تسرف فى البذل بكثرة ما تسدى، واسلك بين الأمرين طريقا وسطا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 30]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
إذا بسط لا تبقى فاقة، وإذا قبض استنفد كلّ طاقة «3» .
__________
(1) وردت (الأيام) وقد أثبتنا (اللئام) فيها يقوى المعنى وتستقيم المقابلة.
(2) تكدى أي تبخل، قال تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى» .
(3) واضح أن القشيري يوجه الإشارة إلى رزق الأحوال.(2/345)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 31]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
من عرف أنّ الرازق هو الله خفّ عن قلبه همّ العيال «1» - وإن كثروا، ومن خفى عليه أنه قسّم- قبل الخلق- أرزاقهم تطوح فى متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبدن ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 32]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)
ترجّح «2» الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييع حرمة الحقّ، وهتك حرمة الخلق، ثم لما فيه من الإخلال بالنّسب، وإفساد ذات البين «3» من مقتضى الأنفة والغضب.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 33]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق. وكما أنّ قتل النّفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرّم فكذلك القصد إلى هلاك المرء محرّم.
ومن انهمك فى مخالفة ربه فقد سعى فى هلاك نفسه. «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي تسلطا على القاتل فى الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة: إن النصرة من قبل الله ومنصور الحقّ لا تنكسر سنانه، ولا تطيش سهامه «4» .
__________
(1) وردت (القيال) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
(2) ترجح زاد وثقل.
(3) وردت (اليمين) وهى خطأ فى النسخ
(4) وردت (شهامه) بالشين وهى خطا فى النسخ [.....](2/346)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 34]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
لمّا لم يكن لليتيم من يهتم بشأنه أمر- سبحانه- الأجنبيّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سبب أن يتولّى أمره، ويقوم بشأنه، وأوصاه فى بابه فالصبيّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى «1» ، والولىّ ساع بمقاساة العنا..
فأمر الحقّ- سبحانه- للولىّ أحظى للصبيّ من شفقة آله عليه فى حال حياتهم «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 35]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
كما تدين تدان، وكما تعامل تجازى، وكما تكيل يكال لك، وكما تكونون يكون عليكم، ومن وفى وفوا له، ومن خان خانوا معه، وأنشدوا:
أسأنا فساءوا.. عدل بلا حيف ... ولو عدلنا لخلّصنا من المحن
قوله جل ذكره
[سورة الإسراء (17) : آية 36]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
إذا غلبت عليك مجوّزات الظنون، ولم يطلعك الحقّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان، وإذا أشكل عليك شىء من أحكام الوقت فارجع إلى الله فإن لاح لقلبك وجه من الدليل على حدّ الالتباس فكل علمه إلى الله، وقف حيثما وقفت.
__________
(1) الهوينى- الخفض والدعة
(2) ما يقوله القشيري فى حالة اليتيم يتصرف- كما هو واضح- على حالة المريد بالنسبة لشيخه فالمريد يجد من شيخه مالا يجده عند ذويه، ذلك يربى الأرواح وهؤلاء يربون الأشباح.(2/347)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا ثم يعلمون بعلمهم، وأصحاب الحقّ يجرى عليهم بحكم التصريف شىء لا علم لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يكشف لهم وجهه، وربما يجرى على ألسنتهم شىء لا يدرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه، ودليل ما نطقوا به من شواهد العلم «1» .
قوله: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ... » هذه أمانة الحق- سبحانه- عند العبد، وقد تقدم فى بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة.
ومن استعمل هذه الجوارح فى الطاعات، وصانها عن استعمالها فى المخالفات فقد سلّم الأمانة على وصف السلامة، واستحق المدح والكرامة. ومن دنّسها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة، واستوجب الملامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 37]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37)
الخيلاء والتجبّر، والمدح والتكبّر- كل ذلك نتائج الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقّ فإنّ الله إذا تجلّى لشىء خشع له- بذلك ورد الخبر. فأمّا فى حال حضور القلب واستيلاء الذكر وسلطان الشهود. فالقلب مطرق، وحكم الهيبة غالب. ونعت المدح وصفة الزّهو وأسباب التفرقة- كل ذلك ساقط.
والناس- فى الخلاص من صفة التكبر- أصناف: فأصحاب الاعتبار إذ عرفوا أنهم مخلوقون من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم..
تعلو هممهم عن التضييق والتدنيق «2» ، ويبعد عن قلوبهم قيام أخطار للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبّر.
__________
(1) من هذه الوصية وما جاء بعدها يتضح رأى القشيري فى التفرقة بين المعرفة عند أرباب العلوم والمعرفة عند أرباب الحقائق، ويذهب القشيري فى «رسالته» إلى أن باستطاعة كبار شيوخ أهل هذه الطريقة أن يفتوا في مسائل الفقه إفتاء يعتدّ به حتى لو كان أحدهم أميا (أنظر الرسالة ص 198 وقصة شيبان الراعي مع الشافعي وابن حنبل) .
(2) دنّق البخيل بالغ فى التضييق فى النفقة(2/348)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
وأمّا أرباب الحضور فليس فى طلوع الحق إلا انخناس النّفس، وفى معناه قالوا:
إذا ما بدا لى تعاظمته ... فأصدر فى حال من لم يرد
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 38 الى 39]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
إذا سعدت الأقدام بحضور ساحات الشهود، وعطرت الأسرار بنسيم القرب تجرّدت الأوقات عن الحجبة، واستولى سلطان الحقيقة، فيحصل التنقّي من هذه الأوصاف المذمومة.
وقال تعالى لنبيّه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» : بالوحى والإعلام، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 40]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
جوّزوا أن يكون لله- سبحانه- ولد، وفكّروا فى ذلك، ثم لم يرضوا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم، فما زادوا فى تمرّدهم إلا عتوّا، وفى طغيانهم إلا غلوّا، وعن قبول الحقّ إلا نبوّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 43]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
بيّن أنه لو كان الصانع أكثر من واحد لجرى بينهم تضادّ وتمانع، وصحّ عند ذلك فى صفتهم العجز، وذلك من سمات المحدثات.
ثم قال سبحانه- تنزيها له عن الشّريك والظهير، والمعين والنظير:(2/349)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
[سورة الإسراء (17) : آية 44]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
الأحياء من أهل السماوات والأرض يسبّحون له تسبيح قالة «1» ، وغير الأحياء يسبّح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزء من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيدا للإله تعجبوا- لجهلهم وتعسّر إدراكهم- وأنكروا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 45]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)
أي أدخلناك فى إيواء حفظنا، وضربنا عليك سرادقات عصمتنا، ومنعنا الأيدى الخاطئة عنك بلطفنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 46]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
«2» صرّح بأنه خالق ضلالتهم، وهو المثبت فى قلوبهم ما استكنّ فيها من فرط غوايتهم «3» «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ..» أحبوا أن تذكر آلهتهم، قد ختم الله على قلوبهم، فلا حديث يعجبهم إلّا ممّن لهم شكل ومثل.
__________
(1) وردت (ماله) بالميم والصواب أن تكون (قالة) بمعنى أن تسبيح الأحياء بالقول والنطق.
(2) يمكن أن تكون (نفورا) مصدرا من نفر ينفر أي ولىّ، ويمكن أن تكون جمع نافر كقاعد وقعود.
(3) هذا رأى على جانب كبير عن الخطورة ينبنى على أصل فى مذهب القشيري- نوهنا به سابقا- وهو أن الله خالق كل شىء- على الحقيقة- حتى أكساب العباد، هى له حكما ولهم فعلا.(2/350)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 47]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
لبّسوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحوالهم، وأظهروا الوفاق من أنفسهم، ففضحهم الله تعالى، وكشف أسرارهم، وبيّن مقابحهم، وهتك أستارهم، فما تنطوى عليه السريرة لا بدّ أن يظهر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسرّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 48]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
عابوه بما ليس بنقيصة فى نفسه حيث قالوا: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي ذا سحر. وأىّ نقيصة كانت له إذا كان- صلى الله عليه وسلم- من جملة البشر؟
والحقّ سبحانه وتعالى متول نصرته، ولم يكن تخصيصه ببنية، ولا بصورة، ولا بحرفة، ولم يكن منه شىء بسببه وإنما بان شرفه لجملة ما تعلّق به لطفه القديم- سبحانه- ورحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 49]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)
أقرّوا بأنّ الله خلقهم، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عدمهم، ولكن.. كما جاز أن يوجدهم أولا وهم فى كتم العدم ولم يكن لهم عين ولا أثر، ولكنهم كانوا فى متناول القدرة ومتعلق الإرادة، فمن حقّ صاحب القدرة والإرادة أن يعيدهم إلى الوجود مرة أخرى..
وهكذا إذا رمدت عين قلب لم يستبصر صاحبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 51]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)(2/351)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
«1» أخبر- سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصّى عليه مقدور لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقدرته عامّة التعلق فلا المشقة تجوز فى صفته ولا الرفاهية. فالخلق الأول والإعادة عليه سيّان لا من هذا عائد إليه ولا من ذاك، لأن قدمه يمنع تأثير الحدوث فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 52]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبد على النعمة والآية تدل على أنهم- وهم فى قبورهم- فى نعمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 53]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)
القول الحسن ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحسن، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المحبّ بعبودية محبوبه.
ويقال أحسن قول من المذنبين الإقرار بالجرم، وأحسن قول من العارفين الإقرار بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم: سبحانك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
__________
(1) يتغضون رءوسهم أي يحركونها تعجيا واستهزاء.(2/352)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 54]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)
سدّ على كلّ أحد طريق معرفته بنفسه ليتعلّق كلّ قلبه بربه. وجعل العواقب على أربابها مشتبهة، فقال «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» . ثم قدّم حديث الرحمة على حديث العذاب، فقال:
«إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» وفى ذلك ترجّ للأمل أن يقوى.
ويوصف العبد بالعلم ويوصف الربّ بالعلم، ولكن العبد يعلم ظاهر حاله، وعلم الرب يكون بحاله وبمآله، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وهذا معنى: «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بعد قوله: «أَعْلَمُ بِكُمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 55]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
فضّل بعض الأنبياء على بعض فى النبوة والدرجة، وفى الرسالة واللطائف والخصائص.
وجعل نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم فهم كالنجوم وهو بينهم بدر، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموس وهو شمس الشموس.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 56]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)
استعينوا فيما يستقبلكم «1» بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادة شىء من دون الله، ولا يضركم ترك ذلك، ولقد قيل فى الخبر: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «2»
__________
(1) أي ما يستقبلكم من البلايا
(2) رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة، وأحمد عن الحسين بن على والعسكري عن علىّ، وأوضحه الشيخان فى تخريج الأربعين.(2/353)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 57]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
يعنى الذين يعبدونهم ويدعونهم- كالمسيح وعزير والملائكة- لا يملكون نفعا لأنفسهم ولا ضرّا، وهم يطلبون الوسيلة إلى الله أي يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاء إحسان الله، وطمعا فى رحمته، ويخافون العذاب من الله ... فكيف يرفعون عنكم البلاء وهم يرجون الله ويخافونه فى أحوال أنفسهم؟
ويقال فى المثل: تعلّق الخلق بالخلق تعلّق مسجون بمسجون.
ويقال: إذا انضمّ الفقير إلى الفقير ازدادا فاقة.
ويقال إذا قاد الضرير ضريرا سقطا معا فى البئر، وفى معناه أنشدوا:
إذا التقى فى حدب واحد ... سبعون أعمى بمقادير
وسيّروا بعضهم قائدا ... فكلّهم يسقط فى البير
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
العذاب على أقسام: فالألم الذي يرد على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى ما يرد على القلوب والسرائر فعذاب القلوب لأصحاب الحقائق أحدّ فى الشّدّة ممّا يصيب أصحاب الفقر والقلة.
ثم إن الحقّ سبحانه أجرى سنّته بأن من وصلت منه إلى غيره راحة انعكست الراحة إلى موصلها، وبخلاف ذلك من وصلت منه إلى غيره وحشة عادت الوحشة إلى موصلها(2/354)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
ومن سام «1» الناس ظلما وخسفا فبقدر ظلمه يعذّبه الله- سبحانه وتعالى- فى الوقت بتنغيص العيش، واستيلاء الغضب من كلّ أحد عليه، وتترجّم ظنونه وتتقسّم أفكاره فى أحواله وأشغاله. ولو ذاق من راحة الفراغ وحلاوة الخلوة شظية لعلم ما طعم الحياة..
ولكنّ حرموا النّعم، وما علموا ما منوا به من النّقم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
«2» أجرى الله سنّته أنه إذا أظهر آية اقترحتها أمّة من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أن يعجّل لها العقوبة، وكان المعلوم والمحكوم به ألا يجتاح العذاب القوم الذين كانوا فى وقت الرسول- عليه السلام- لأجل من فى أصلابهم من الذين علم أنهم يؤمنون فلذلك أخّر عنهم العذاب الذي تعجّلوه «3» .
وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله فإنّ لم يخافوا وقع عليهم العذاب. ثم إنه علم أنه لا يفوته شىء بتأخير العقوبة عنهم فأخّر العذاب، وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حكمه وعلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
__________
(1) وردت (صام) بالصاد وهى خطأ فى النسخ.
(2) اختار من الآيات التي اقترحها الأولون ناقة صالح (عم) لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم.
(3) عن عائشة رضى الله عنها ( ... نادانى ملك الجبال فسلم علىّ ثم قال:
يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربى إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (جبلين يحيطان بمكة) فقال النبي (ص) : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) .(2/355)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
«1»
الإيمان بما خصصناك به امتحان لهم وتكليف، ليتميز الصادق من المنافق، والمؤمن من الجاحد فالذين تداركتّهم الحماية وقفوا وثبتوا، وصدّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خامر الشكّ قلوبهم، ولم تباشر خلاصة التوحيد أسرارهم، فما ازدادوا بما امتحنوا به إلا تحيّرا وضلالا وتبلّدا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 61]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61)
امتنع الشقىّ وقال: لا أسجد لغيرك بوجه سجدت لك به، وكان ذلك جهلا منه، ولو كان بالله عارفا لكان لأمره مؤثرا، ولمحيط نفسه تاركا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 62]
قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)
لو علقت به ذرّة من المعرفة والتوحيد لم يحطب «2» على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنّه أقامه الحقّ بذلك المقام، وأنطقه بما هو لقلوب أهل التحقيق متّضح.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 63 الى 64]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
__________
(1) الرؤيا المقصودة هى التي سبقت يوم بدر، وفيها بشر بالنصرة وبأنه سيهزم الجمع ويولون الدبر، فسخروا منه. وربما كانت رؤيا المعراج عند من قال إن المعراج كان فى المنام.
والشجرة الملعونة هى الزّقوم حيث قالوا كيف يزعم محمد أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول إن بها تثبت شجرة! فجعلوها سخرية [.....]
(2) حسطب- جنى على نفسه لعدم تفقد أمره وكلامه(2/356)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويت، ولو، أخّر عقوبة قوم فإن ذلك إمهال لا إهمال، ومكر واستدراج لا إنعام وإكرام.
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ: أي افعل ما أمكنك، فلا تأثير لفعلك فى أحد، فإنّ المنشئ والمبدع هو الله.. وهذا غاية التهديد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 65]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم «1» ، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده.
ويقال السلطان هو التّسلّط، وليس لإبليس على أحد تسلط إذ المقدور بالقدرة الحادثة لا يخرج عن محل القدرة الإلهية، فالحادثات كلها تحدث بقدرة الله فلا لإبليس ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير فى أحد، وعلى هذا أيضا فالآية للعموم.
ويقال أراد بقوله: «عِبادِي» الخواص من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قبل الله فإن وساوس الشيطان لا تضرّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قرب من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم.
ويقال إنّ فرار «2» الشيطان من المؤمنين أشدّ من فرار المؤمنين، من الشيطان.
والخواص من عباده هم الذين لا يكونون فى أسر غيره، وأمّا من استعبده هواه،
__________
(1) العموم هنا معناها الكافة أي الخواص وغير الخواص.
(2) وردت (قرار) بالقاف وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق.(2/357)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
واستمكنت منه الأطماع، واسترقته «1» كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه..
وفى الخبز «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار» «2» ويقال فى «عِبادِي» هم المتفيّئون فى ظلال عنايته، والمتبرّون عن حولهم وقوّتهم، المتفرّدون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلّق به.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 66]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)
تعرّف إلى عباده بخلقه وإنعامه، فما من حادث من عين أو أثر أو طلل أو غبر إلا وهو شاهد على وحدانيته، دالّ على ربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 67]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)
جبل الإنسان على أنه إذا أصابته نقمة، أو مسّته محنة فرع «3» إلى الله لاستدفاعها، وقد يعتقد أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال الله تلك النّقمة «4» وكشف تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا فى ضرّ مسّهم، وفى معناه أنشدوا:
فكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا ... أحباءنا كم تجهلون! وتحلم!
__________
(1) وردت (ويسرقة) ولا معنى لها هنا.
(2) فى رسالة القشيري ص 99 جاء هذا الخبر مضافا إليه (.. تعس عبد الخميصة) .
(3) وردت (فرغ) بالراء والأفضل أن تكون بالزاي.
(4) وردت (النعمة) وهى خطأ فى النسخ.(2/358)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 68 الى 69]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس- كذلك قال الشيوخ «1» . وأعرفهم بالله أخوفهم من الله. وصنوف العذاب كثيرة فكم من مسرور أوّل ليله أصبح فى شدّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النّعم! وفى معناه قالوا:
إن من خاف البيات لا يأخذه السّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا:
مستوفزون على رجل كأنهمو ... يريدون أن يمضوا ويرتحلوا
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
المراد من قوله: «بَنِي آدَمَ» هنا المؤمنون لأنه قال فى صفة الكفار: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» «2» . والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حرم الكافر الإكرام.
فمتى يكون له التكريم؟.
ويقال إنما قال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد
__________
(1) هذه العبارة للجنيد كما جاء فى رسالة القشيري ص 65 فى رواية أبى عبد الله الصوفي عن على بن ابراهيم العكبري.
(2) آية 18 سورة الحج.(2/359)
توضيحا بأن التكريم لا يكون مقابل فعل، أو معلّلا بعلة، أو مسببا باستحقاق يوجب ذلك التكريم.
ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة.
ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خاطبه، وإذا أراد أن يسأل شيئا سأله.
ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جرمه ثم توبته يضاعف له قبوله التوبة وعفوه.
ومن التكريم أنه إذا شرع فى التوبة أخذ بيده، وإذا قال: لا أعود- يقبل قوله وإن علم أنه ينقض توبته.
ومن التكريم أنه زيّن ظاهرهم بتوفيق المجاهدة، وحسّن باطنهم بتحقيق المشاهدة.
ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا فى الأثر: «أعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى» .
ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «1» ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن.
وكما خصّ بنى آدم بالتكريم خصّ أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «2» و «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» «3» وقوله «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» «4» .
ومن التكريم قوله: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
«5» .
__________
(1) آية 152 سورة البقرة.
(2) آية 54 سورة المائدة.
(3) آية 119 سورة المائدة.
(4) آية 165 سورة البقرة.
(5) آية 110 سورة النساء. [.....](2/360)
ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه.
ومن التكريم لقوم توفيق صدق القدم، ولقوم تحقيق علوّ الهمم. قوله: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» : سخّر البحر لهم حتى ركبوا فى السفن، وسخّر البرّ لهم حتى قال:
«لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» .
ويقال محمول الكرام لا يقع، فإن وقع وجد من يأخذ بيده.
ويقال الإشارة فى حملهم فى البرّ ما أوصل إليهم جهرا «1» ، والإشارة بحديث البحر ما أفردهم به من لطائف الأحوال سرّا.
ويقال لمّا حمل بنو آدم الأمانة «2» حملناهم فى البر، فحمل هو جزاء حمل، حمل هو فعل من لم يكن «3» وحمل هو فضل من لم يزل.
قوله: «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق فمن لم يكن غائبا بقلبه «4» ولا غافلا عن ربّه استطاب كلّ رزق، وأنشدوا:
يا عاشقى إنى سعدت شرابا ... لو كان حتى علقما أو صابا
قوله: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» : أي الذين فضلناهم على خلق كثير، وليس يريد أن قوما بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلّ من خلقنا، وذلك التفضيل فى الخلقة. ثم فاضل بين بنى آدم فى شىء آخر هو الخلق الحسن، فجمعهم فى الخلقة- التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومايز بينهم فى الخلق.
ويقال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» : هذا اللفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قوم على الباقين، ففضّل أولياءه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاق الولاية.
__________
(1) وردت (خيرا) والصواب أن تكون (جهرا) لتقابل سرا) وبذلك يقوى السياق ويتماسك.
(2) وردت (الاهانة) بالهاء ومن المؤكد أن الميم التبست على الناسخ والمراد (الأمانة) إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ... الآية» .
(3) (من لم يكن) هو الإنسان و (من لم يزل) هو الرب سبحانه وتعالى.
(4) غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره (الرسالة ص 40) .(2/361)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
ويقال فضّلهم بألّا ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 71]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
إمام كلّ أحد من يقتدى به، ولكن.. من إمام يهتدى به مقتديه، ومن إمام يتردّى به مقتديه.
«فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» : لكمال صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفهم وتردّدهم لا يقرأون كتابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 72]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
فى الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته.
فى الآخرة عذابه الفرقة وتضاف إليها الحرقة- لهذا فهو «أَضَلُّ سَبِيلًا» .
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 73]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)
ضربنا عليك سرادقات العصمة، وآويناك فى كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزّلّة منك محال «1» ، والافتراء فى نعتك لا يجوز.. ولو جنحت لحظة إلى الخلاف لتضاعفت عليك تشديدات البلاء، لكمال قدرك وعلوّ شأنك فإنّ من كان أعلى درجة فذنبه- لو حصل- أشدّ تأثيرا.
__________
(1) وردت (مجال) بالجيم وهى خطأ فى النسخ، ومن قول القشيري يتضح أنه يؤيد عصمة الأنبياء من الزلات.(2/362)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 74 الى 75]
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
لو وكلناك ونفسك، ورفعنا عنك «1» ظلّ العصمة لألممت بشىء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناك بالحفظ، فلا تتقاصر عنك آثاره، ولا تغرب عن ساحتك أنواره.
قوله: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ... الآية» هبوط الأكابر على حسب صعودهم، ومحن الأحبّة وإن قلّت جلّت، وفى معناه أنشدوا:
أنت عينى وليس من حقّ عينى ... غضّ أجفانها على الأقذاء
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 76]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
من ظنّ (أنه يستمتع بحياته بعد مضىّ الأعزّة) «2» والأكابر غلط فى حسابه، وإن الحسود لا يسود:
وفى تعب من يحسد الشمس ضوءها ... (ويجهد أن يأتى لها) «3» بضريب
والأرض كلها ملك لنا، ونقلّب أولياءنا فى ترددهم فى البلاد وتطوافهم فى الأقطار، ترددا على بساطنا، وتقلبا فى ديارنا فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا:
(فسر أو أقم) «4» وقف عليك محبتى ... مكانك من قلبى عليك مصون
__________
(1) وردت (عليك) والملائم للسياق أن تكون (عنك) .
(2) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.
(3) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.
(4) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردىء.(2/363)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 77]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
الحقّ أمضى سنّته مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام «1» ، فلا لهذه أو هذه تحويل.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 78]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)
الصلاة قرع باب الرزق. والصلاة الوقوف فى محل المناجاة.
والصلاة اعتكاف القلب فى مشاهد التقدير.
ويقال هى الوقوف على بساط النجوى. وفرّق أوقات الصلاة ليكون للعبد عود إلى البساط فى اليوم والليلة مرات.
«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» : تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم.
وأمّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه- يبعد من النوم وكسل النفس فله هذه المزية.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 79]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
الليل لأحد أقوام: لطالبى النجاة وهم العاصون من جنح «2» منهم إلى التوبة، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يجدّون فى الطاعات، ويسارعون فى الخيرات، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عند ما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة.
ويقال الليل لأحد رجلين: للمطيع والعاصي: هذا فى احتيال أعماله، وهذا فى اعتذاره عن قبيح أفعاله.
__________
(1) أدغمه الله إدغاما أي سود وجهه وأذله (الوسيط) .
(2) وردت (نجح) وهى خطأ فى النسخ.(2/364)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
والمقام المحمود هو المخاطبة فى حال الشهود، ويقال الشهود.
ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر. ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خصّ به- صلى الله عليه وسلم «1» - بما لا يشاركه فيه أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 80]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)
أي أدخلنى إدخال صدق وأخرجنى إخراج صدق. والصدق أن يكون دخوله فى الأشياء بالله لله لا لغيره، وخروجه عن الأشياء بالله لله لا لغيره.
«وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» : فلا ألاحظ دخولى ولا خروجى.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 81]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
أراد بالحقّ هاهنا الإسلام والدين، وأراد بالباطل الكفر والشّرك، والحقّ المطلق هو الموجود الحق، والحق المقيد ما كان حسنا فى الاعتقاد والفعل والنطق، والباطل نقيض الحق.
والله حقّ: على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه محقّ الحق «2» .
ويقال الحقّ ما كان الله، والباطل ما كان لغير الله.
ويقال الحقّ من الخواطر ما دعا إلى الله، والباطل ما دعا إلى غير الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
القرآن شفاء من داء الجهل للعلماء، وشفاء من داء الشّرك للمؤمنين، وشفاء من داء
__________
(1) إضافة من جانبنا حتى يتضح السياق.
(2) قارن ذلك بنظرية «وحدة الوجود» وما تراه في معنى «الوجود» و «الحق» .(2/365)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم
قوله: «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» : الخطاب خطاب واحد، والكتاب كتاب واحد، ولكنه لقوم رحمة وشفاء، ولقوم سخط وشقاء. قوم أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشى على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 83]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)
إذا نزعنا عنه موجبات الخوف، وأرخينا له حبل الإمهال، وهيّأنا له أسباب الرفاهية اعترته مغاليط النسيان، واستولت عليه دواعى العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق.
ويقال إعراضه فى هذا الموضوع نسيانه، ورؤية الفضل منه لا من الحقّ، وتوهمه أنّ ما به من النّعم فباستحقاق طاعة أخلصها أو شدة قاساها.. وهذا فى التحقيق شرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 84]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
كلّ يترشح بمودع باطنه، فالأسرّة تدل على السريرة، وما تكنّه الضمائر يلوح على السرائر، فمن صفا من الكدورة جوهره لا يفوح منه إلا نشر مناقبه، ومن طبعت على الكدورة طينته فلا يشمّ من يحوم حوله إلا ريح مثالبه.
ويقال حركات الظواهر تدلّ وتخبر عن بواطن السرائر.
ويقال حبّ ( ... ) «1» لا ينبت غضّ العود.
__________
(1) مشتبهة. [.....](2/366)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
ويقال من عجنت بماء الشّقوة طينته، وطبعت على النكرة جبلّته لا تسمح بالتوحيد قريحته، ولا تنطق بالتوحيد عبارته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
أرادوا أن يجادلوه ويغلّطوه فأمره أن ينطق بلفظ يفصح عن أقسام الروح لأنّ ما يطلق عليه لفظ «الروح» يدخل تحت قوله تعالى:
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه فى القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، (وكما يصح أن يكون البصر محلّ الرؤية والأذن محلّ السمع.. إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة- وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النّفس، والحكم أو الاسم راجع إلى الجملة) «1» وفى الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ما دام الروح فى جسده.
والروح لطيفة تفررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق.
«وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» : لأن أحدا لم يشاهد الروح ببصره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 86]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86)
__________
(1) ما بين القوسين مضطرب اضطرابا شديدا فى النسخ، وقد عدنا إلى رسالة القشيري فاعتمدنا عليها فى تنظيم السياق بقدر الإمكان. (أنظر الرسالة ص 48) .(2/367)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
سنّة الحقّ- سبحانه- مع أحبائه وخواص عباده أن يديم لهم افتقارهم إليه، ليكونوا فى جميع الأحوال منقادين لجريان حكمه، وألا يتحرك فيهم عرق بخلاف اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبه- صلوات الله عليه- بقوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» : (فمن كان استقلاله بالله يقدّم) «1» مراد سيده- فى العزل والولاية- على مراد نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 87]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
والمقصود (من هذا إدامة تفرّد سرّه) «2» صلى الله عليه وسلم به- سبحانه- دون غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 88]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
(سائر الأنبياء) «3» معجزاتهم باقية حكما، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- معجزته باقية عينا، وهى القرآن (الذي نتلوه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه) «4» ولا من خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 89]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
لا شىء أحظى عند الأحباب من كتاب الأحباب، فهو شفاء من داء الضنى، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البلاء، وفى معناه أنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم
__________
(1) ، (2) ، (3) ، (4) مدونة في أعلى الورقة بعلامات مميزة لمكانها من النص، وقد أثبتنا كلا فى موضعه.(2/368)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
اقترحوا الآيات بعد إزاحة العلّة وزوال الحاجة، فركضوا فى مضمار سوء الأدب، وحرموا الوصلة والقربة. ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جحدا، ونكرة، وقد قيل:
إنّ الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
«قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» : قل يا محمد: سبحان ربى! من أين لى الإتيان بما سألتم من جهتى؟ فهل وصفي إلا العبودية؟ وهل أنا إلا بشر؟ قال تعالى:
َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ»
«1» قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 94]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
__________
(1) آية 172 سورة النساء.(2/369)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
تعجّبوا «1» مما ليس بمحلّ شبهة، ولكن حملهم على ذلك فرط جهلهم، ثم أصرّوا على تكذيبهم وجحدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 95]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)
الجنس إلى الجنس أميل، والشكل بالشكل آنس، فقال سبحانه لو كان سكان الأرض ملائكة لجعلنا الرسول إليهم ملكا، فلمّا كانوا بشرا فلا ينبغى أن يستبعد إرسال البشر إلى البشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 96]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
الحقّ- سبحانه- هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يقاس حكمه على حكم الخلق، ولا يجوز فى صفة المخلوق أن يكون الحاكم هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخلق لا تشبه صفته صفة الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 97]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
من أراده بالسعادة فى آزاله استخلصه فى آباده بأفضاله، ومن علمه فى الأزل بالشقاء وسمه فى أبده بسمة الأعداء. فلا لحكمه تحويل، ولا لقوله تبديل.
__________
(1) وردت (تعجلوا) والمعنى يقتضى (تعجبوا) .(2/370)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 98]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
لمّا أصرّوا على تكذيبهم جازاهم الحقّ بإدامة تعذيبهم، ولو ساعدهم التوفيق لوجد منهم التحقيق، لكنهم عدموا التأييد فحرموا التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 99]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
مهد بهذه الآية طريق إثبات القياس «1» ، فلم يغادر فى الكتاب شيئا من أحكام الدّين لم يؤيده بالدليل والبيان «2» ، فعلم الكلّ أن الركون إلى التقليد عين الخطأ والضلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 100]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
إذ البخل غريزة الإنسان، والشحّ سجيته [ ( ... ) «3» المعروف لا يعرف الخلقة] «4»
__________
(1) من هذا نعرف أن القشيري مؤمن بأهمية القياس العقلي ضمن ما هو معروف من مصادر الشريعة وفى هذا رد على من يتهم الصوفية بالتنكر للعقل، مع أنهم حريصون كل الحرص على تصحيح الإيمان فى مراحل البداية عن طريق الوسائل العقلية.
(2) ربما كانت (البرهان) بدل (البيان) ، فالبرهان أقرب إلى (الدليل) وإلى (القياس) كما أن البيان- فى مذهب القشيري المعرفى- مرحلة قلبية وليست عقلية.
ومع ذلك فقد يكون المقصود أن كتاب الله لم يغادر شيئا إلا أيده (بالدليل العقلي) و (البيان) القلبي.
(3) هنا بياض فى الأصل.
(4) ما بين القوسين الكبيرين ورد هكذا وفيه غموض ناتج عن سقوط ما سبق.(2/371)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 102]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)
«1» هى أمارات كرامته وعلامات محبته.
قوله جل ذكره: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أنت- يا فرعون- سلكت طريق الاستدلال فعلمت أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا من قبل الله، ولكنّك ركنت إلى الغفلة فى ظلمات الجهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 103]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103)
أراد فرعون إهلاك بنى إسرائيل واستئصالهم، وأراد الحقّ- سبحانه- نصرتهم وبقاءهم، فكان ما أراد الحقّ لا ما كاد اللعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 104]
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
أورثهم منازل أعدائهم، ومكّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شكر نعمته، وعرّفهم أنهم إن سلكوا في العصيان مسلك من تقدّمهم ذاقوا من العقوبة مثل عقوبتهم.
__________
(1) عن ابن عباس أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن أنها الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور.(2/372)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 106 الى 105]
القرآن حقّ، ونزوله بحق، ومنزّله حق، والمنزّل عليه حق، فالقرآن بحقّ نزل ومن حقّ نزل وعلى حقّ نزل، وقد فرّق القرآن ليهوّن عليه- صلوات الله عليه- حفظه، وليكثر تردد الرسول من ربّه عليه، وليكون نزوله فى كل وقت وفى كل حادثة وواقعة دليلا على أنه ليس مما أعان عليه غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 108 الى 107]
إن آمنتم حصل النفع لكم، وإن جحدتم ففى إيمان من آمن من أوليائنا عنكم خلف، وإنّ الضّرر عائد عليكم.
وإنّ من أضأنا عليهم شموس إقبالنا لتشرق أنوار معارفهم فإذا تليت عليهم آياتنا سجدوا بدل جحدهم، واستجابوا بدل تمردهم، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 109]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
تأثيره فى قلوب قوم يختلف فتأثير السماع فى قلوب العلماء بالتبصّر، وتأثير السماع(2/373)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
فى أنوار الموحّدين بالتحير «1» تبصّر العلماء بصحة الاستدلال، وتحيّر الموحدين فى شهود الجمال والجلال.
وبكاء كل واحد على حسب حاله: فالتائب يبكى لخوف عقوبته لما أسلفه من زلّته وحوبته، والمطيع يبكى لتقصيره فى طاعته، ولكيلا يفوته ما يأمله من منّته.
وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم.
وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسرا على ما يفوتهم من الحق.
والبكاء عند الأكابر معلول «2» ، وهو فى الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفى معناه أنشدوا:
خلقنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغواني للبكا والمآتم
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 110]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)
من عظيم نعمته- سبحانه- على أوليائه تنزّههم بأسرارهم فى رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس.
ويقال الأغنياء ترددهم فى بساتينهم، والأولياء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله.
قوله جل ذكره: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلّها، وارفع صوتك فى بعضها دون بعض.
ويقال ولا تجهر بها جهرا يسمعه الأعداء، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء.
«وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» : يكون للأحباب مسموعا، وعن الأجانب ممنوعا.
__________
(1) ليس (التحير) هنا ناجما عن الشك، وإنما ناجم عن شدة الوله وعنف الأخذ.
(2) لأن الأكابر في حال التمكين لا التلوين.(2/374)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
ويقال «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ» : بالنهار، «وَلا تُخافِتْ بِها» : بالليل.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (17) : آية 111]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
احمده يذكر تقدسه عن الولد، وأنه لا شريك له ولا ولى له من الذلّ إما على أنه لم يذلّ فيحتاج إلى ولى، أو على أنه لم يوال أحدا من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته. ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرّفك بذلك.
ويقال له الأولياء ولكن لا يعتريهم بذلّهم، إذ يصيرون بعبادته أعزّة.
«وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» بأن تعلم أنّك تصل إليه به لا بتكبيرك.
السورة التي يذكر فيها الكهف
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما سعدت القلوب إلا بسماع اسم الله، وما استنارت الأسرار إلا بوجود الله، وما طربت الأرواح إلا بشهود جلال الله.
سماع «بِسْمِ اللَّهِ» راحة القلوب وضياؤها، وشفاء الأرواح ودواؤها.
«بِسْمِ اللَّهِ» قوت العارفين بها يزول كدّهم وعناؤهم، وبها استقلالهم وبقاؤهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)
__________
(1) لاحظ الربط بين تفسير البسملة فى أول هذه السورة وبين قصة أهل الكهف، الذين فنوا عن أنفسهم لبقائهم بالله.(2/375)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
إذا حمل «الْحَمْدُ» هنا على معنى الشكر فإنزال الكتاب من أجلّ نعمه، وكتاب الحبيب لدى الحبيب. أجلّ موقع وأشرف محلّ، وهو من كمال إنعامه عليه، وإن سمّاه- عليه السلام- عبده فهو من جلائل نعمه عليه لأنّ من سمّاه عبده جعله من جملة خواصّه.
وإذا حمل «الْحَمْدُ» فى هذه الآية على معنى المدح كان الأمر فيه بمعنى الثناء عليه- سبحانه، بأنّه الملك الذي له الأمر والنهى والحكم بما يريد، وأنه أعدّ الأحكام التي فى هذا الكتاب للعبيد، وسمّاه صلى الله عليه وسلم عبده لمّا كان فانيا عن حظوظه، خالصا لله بقيامه بحقوقه.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 2]
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)
«قَيِّماً» : أي صانه عن التعارض والتناقض، فهو كتاب عزيز من ربّ عزيز.
«والبأس الشديد» : معجّله الفراق، ومؤجّله الاحتراق.
ويقال هو البقاء عن الله تعالى، والابتلاء بغضب الله.
ومعنى الآية لينذرهم ببأس شديد.
قوله جل ذكره: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً.
والعمل الصالح ما يصلح للقبول، وهو ما يؤدّى على الوجه الذي أمر به. ويقال العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص، وصاحبه صادق فيه.
ويقال هو الذي لا يستعجل عليه صاحبه حظّا فى الدنيا من أخذ عوض، أو قبول جاه، أو انعقاد رياسة.. وما فى هذا المعنى.
وحصلت البشارة بأنّ لهم أجرا حسنا، والأجر الحسن ما لا يجرى مع صاحبه استقصاء فى العمل.
ويقال الأجر الحسن ما يزيد على مقدار العمل.
ويقال الأجر الحسن ما لا يذكّر صاحبه تقصيره، ويستر عنه عيوب عمله.(2/376)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 3]
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3)
البشارة منه أنّ تلك النّعم على الدوام غير منقطعة، وأعظم من البشارة بها قوله «1» :
[سورة الكهف (18) : الآيات 4 الى 5]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
قالتهم القبيحة نتيجة جهلهم بوحدانية الله، ولقد توارثوا ذلك الجهل عن أسلافهم والحيّة لا تلد إلا حيّة! كبرت كلمتهم فى الإثم لمّا خسّت فى المعنى. ومن نطق بما لم يحصل له به إذن لحقه هذا الوصف. ومن تكلّم فى هذا الشأن قبل أوانه فقد دخل فى غمار هؤلاء «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 6]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
من فرط شفقته- صلى الله عليه وسلم- داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان، فهوّن الله- سبحانه- عليه الحال، بما يشبه العتاب فى الظاهر كأنه قال له: لم كل هذا؟
ليس فى امتناعهم- فى عدّنا- أثر، ولا فى الدّين من ذلك ضرر.. فلا عليك من ذلك.
ويقال أشهده جريان التقدير، وعرّفه أنه- وإن كان كفرهم منهيّا عنه فى الشرع- فهو فى الحقيقة مراد الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 7]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)
__________
(1) البشارة بالآية التالية أعظم لأن المؤمن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
(2) فى هذه الإشارة غمزة بمن ينطقون- بدعوى المحو- بما لا يليق. [.....](2/377)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
ما على الأرض زينة لها تدرك بالأبصار، وممن على الأرض من هو زينة لها يعرف بالأسرار. وإنّ قيمة الأوطان لقطّانها، وزينة المساكن فى سكّانها.
ويقال العبّاد بهم زينة الدنيا، وأهل المعرفة بهم زينة الجنة.
ويقال الأولياء زينة الأرض وهم أمان من فى الأرض.
ويقال إذا تلألأت أنوار التوحيد فى أسرار الموحدين أشرقت جميع الآفاق بضيائهم.
قوله جل ذكره: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أحسنهم عملا أصدقهم نيّة، وأخلصهم طوية.
ويقال أحسنهم عملا أكثرهم احتسابا إذ لا ثواب لمن لا حسبة له، وأعلى من هذا بل وأولى من هذا فأحسنهم عملا أشدّهم استصغار لفعله، وأكثرهم استحقارا لطاعته لشدة رؤيته لتقصيره فيما يعمله، ولانتقاصه أفعاله فى جنب ما يستوجبه الحقّ بحقّ أمره.
ويقال أحسن أعمال المرء نظره إلى أعماله بعين الاستحقار والاستصغار، لقول الشاعر:
وأكبر من فعله وأعظمه ... تصغيره فعله الذي فعله
معناه: أكبر من فعله- الذي هو عطاؤه وبذله- تقليله واستصغاره لما يعطيه ويجود به.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 8]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
كون ما على الأرض زينة لها فى الحال سلب قدره بما أخبر أنه سيفنيه فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 9]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)
أزال الأعجوبة عن أوصافهم بما أضافه إلى ربّه بقوله: «مِنْ آياتِنا» فقلب العادة من قبل الله غير مستنكر ولا مبتدع.(2/378)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
ويقال مكثوا فى الكهف مدة فأضافهم إلى مستقرّهم فقال: «أَصْحابَ الْكَهْفِ» ، وللنفوس محال، وللقلوب مقارّ، وللهم مجال، وحيثما يعتكف يطلب أبدا صاحبه «1» .
ويقال الإشارة فيه ألا تتعجّب من قصتهم فحالك أعجب فى ذهابك إلينا فى شطر من الليل حتى قاب قوسين أو أدنى «2» ، وهم قد بقوا فى الكهف سنين.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 10]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفى الباطن فهو مقيلهم فى ظلّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم «3» .
وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. «رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً» :
أي أنهم أخذوا فى التبرّى من حولهم وقوّتهم، ورجعوا إلى الله بصدق فاقتهم، فاستجاب لهم دعوتهم، ودفع عنهم ضرورتهم «4» ، وبوّأهم فى كنف الإيواء مقيلا حسنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 11]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)
أخذناهم عن إحساسهم بأنفسهم، واختطفناهم عن شواهدهم بما استغرقناهم فيه من حقائق ما كاشفناهم به من شهود الأحدية، وأطلعناهم عليه من دوام نعت الصمدية.
__________
(1) معنى العبارة يطلب صاحب المكان من حيث المكان الذي يعتكف فيه.
(2) يشير القشيري بذلك إلى المنزلة الرفيعة التي وصل إليها المصطفى- صلوات الله عليه- ليلة الإسراء والمعراج، وكيف أنه انتهى فى ليلة واحدة إلى ما لم يصل إليه أصحاب الكهف فى سنين.
(3) واضح أن القشيري يعالج قصة أهل الكهف في ضوء حال الفناء وحال البقاء.. وهذا من النماذج التي يقدمها التصوف لتفسير الظواهر العجيبة التي تقلب فيها العادة، وبحار فيها العقل.
(4) يقصد من الضرورة هنا ما يلزم الإنسان من طعام وشراب وتخلص من بقاياهما.. ونحو ذلك.(2/379)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 12]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
أي رددناهم إلى حال صحوهم وأوصاف تمييزهم، وأقمناهم بشواهد التفرقة بعد ما محوناهم عن شواهدهم بما أقمناهم بوصف الجمع.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 14]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)
لمّا كانوا مأخوذين عنهم تولّى الحق- سبحانه- أن قصّ عنهم، وفرق بين من كان عن نفسه وأوصافه قاصّا لبقائه فى شاهده وكونه غير منتف بجملته.. وبين من كان موصوفا بواسطة غيره لفنائه عنه وامتحائه منه وقيام غيره عنه.
ويقال لا تسمع قصة الأحباب أعلى وأجلّ مما تسمع من الأحباب، قال عزّ من قائل:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» ، وأنشدوا:
وحدّثتني يا سعد عنها فزدتنى ... حنينا فزدنى من حديثك يا سعد
قوله: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ» : يقال إنهم فتية لأنهم آمنوا- على الوهلة- بربّهم، آمنوا من غير مهلة، لمّا أتتهم دواعى الوصلة «1» .
ويقال فتية لأنهم قاموا لله، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله.
قوله جل ذكره: وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لاطفهم بإحضارهم، ثم كاشفهم فى أسرارهم، بما زاد من أنوارهم، فلقّاهم أولا التبيين، ثم رقاهم عن ذلك باليقين.
__________
(1) لاحظ أهمية ذلك فى فهم معنى (الفتوة) عند الصوفية.(2/380)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ: بزيادة اليقين حتى متع نهار «1» معارفهم، واستضاءت شموس تقديرهم، ولم يبق للتردد مجال فى خواطرهم، و ( ... ) «2» فى التجريد أسرارهم، وتمّت سكينة قلوبهم.
ويقال «رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» : بأن أفنيناهم عن الأغيار، وأغنيناهم عن التفكّر بما أوليناهم من أنوار التبصّر.
ويقال ربطنا على قلوبهم بما أسكنّا فيها من شواهد الغيب، فلم تسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين.
قوله جل ذكره: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاموا لله بالله، ومن قام بالله فقد عمّا سوى الله.
ويقال من قام لله، لم يقعد حتى يصل إلى الله.
ويقال قعدت عنهم الشهوات فصحّ قيامهم بالله.
قوله جل ذكره: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
من أحال الشيء على الحوادث فقد أشرك بالله، ومن قال إنّ الحوادث من غير الله فقد اتخذ إلها من دون الله.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 15]
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
__________
(1) متوع النهار اصطلاح يأتى فى مذهب القشيري بعد اللوائح والطوالع واللوامع، وهو يلتقى مع المعنى من حيث اللغة (يقال متع النهار أي بلغ غاية ارتفاعه) .
(2) مشتبهة وهى قريبة فى الرسم من (واتخذوا) ومصوبة فى الهامش (وانحدروا) لأجل هذا لم نستطع أن نحسم فيها برأى، وهى على العموم كلمة تفيد خلوص أسرارهم فى التجريد وإلا لما حدثت سكينة قلوبهم.(2/381)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
لمّا لم يكن لهم حجة اتضح فيما ادعوه كذبهم، فمن اكتفى بنفي القالة دون ما يشهد لقوله من أدلته فهو معلول فى نحلته.
«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟» فمن ذكر فى الدّين قولا لم يؤيّد ببرهان عقلى أو نقلى فهو مفتر، ومن أظهر من نفسه حالا لم يوجبه صدق مجاهدته أو منازلته فهو على الله مفتر. والذي يصدق فى قوله- فى هذه الطريقة- فهو الذي يسمع من الحق بسرّه، ثم ينطق بلفظه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 16]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
العزلة عن غير الله توجب الوصلة بالله. بل لا تحصل الوصلة بالله إلا بعد العزلة عن غير الله.
ويقال لما اعتزلوا ما عبد من دون الله آواهم الحقّ إلى كنف رعايته، ومهد لهم مثوى فى كهف عنايته.
ويقال من تبرّأ من اختياره فى احتياله، وصدق رجوعه إلى الله فى أحواله، ولم يستعن- بغير الله- من أشكاله وأمثاله آواه إلى كنف أفضاله، وكفاه جميع أشغاله، وهيّأ له محلّا يتفيؤ فيه فى برد ضلاله، بكمال إقباله.
قوله جل ذكره: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ «2» عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
__________
(1) هذا رأى على جانب كبير من الخطورة فى قضية هامة من قضايا التصوف، كانت لها في بعض الأحيان عواقب جسيمة: وهى هل يفصح الصوفي الواله أم يكتم؟ ونلاحظ أنى القشيري ربط القضية بعنصر أساسى هو الصدق ...
(2) نزاور من الزور وهو الميل، والزور الميل عن الصدق.(2/382)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
«1» كانوا فى متّسع من الكهف، ولكن كان شعاع الشمس لا ينبسط عليهم مع هبوب الرياح عليهم.
ويقال أنوار الشمس تتقاصر وتتصاغر بالإضافة إلى أنوارهم «2» .
إن نور الشمس ضياء يستضىء به الخلق، ونور معارفهم أنوار يعرف بها الحق، فهذا نور يظهر فى الصورة، وهذا نور يلوح فى السريرة. وبنور الشمس يدرك الخلق وبنورهم كانوا يعرفون الحق.
وفى قوله- عزّ اسمه: «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» فيه دلالة على أن فى الأمر شيئا بخلاف العادة، فيكون من جملة كرامات الأولياء ويحتمل أن يكون شعاع الشمس إذا انتهى إليهم ازورّ عنهم، ومضى دونهم بخلاف «3» ما يقول أصحاب الهبة، ليكون فعلا ناقضا للعادة فلا يبعد أن يقال إن نور الشمس يستهلك فى النور الذي عليهم.
قوله جل ذكره: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً فالله يهدى قوما بالأدلة والبراهين، وقوما بكشف اليقين فمعارف الأولين قضية الاستدلال، ومعارف الآخرين حقيقة الوصال، فهؤلاء مع برهان، وهؤلاء على بيان كأنهم أصحاب عيان:
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» : أي من وسمه بسمة الحرمان فلا عرفان ولا علم ولا إيمان.
قوله جل ذكره: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ
__________
(1) تقرضهم أي تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم.
(2) بالإضافة إلى أنوارهم أي إذا قيست بانوارهم.
(3) أي هذا على لسان أهل التفسير أما على لسان أهل الإشارة. وهذه أول مرة يطلق القشيري (أصحاب الهبة) هذا الوصف عليهم فى «لطائفه» ، لهذا نبهنا إليه.(2/383)
هم مساوبون عنهم، مختطفون منهم، مستهلكون فيما كوشفوا به من وجود الحق فظاهرهم- فى رأى الخلق- أنهم بأنفسهم، وفى التحقيق: القائم عنهم غيرهم. وهم محو فيما كوشفوا به من الحقائق.
ثم قال: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» : وهذا إخبار عن حسن إيوائه لهم فلا كشفقة الأمهات بل أتم، ولا كرحمة الآباء بل أعزّ ... وبالله التوفيق.
ويقال إن أهل التوحيد صفتهم ما قال الحقّ- سبحانه- فى صفة أصحاب الكهف:
«وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ» فهم بشواهد الفرق فى ظاهرهم، لكنهم بعين الجمع بما كوشفوا به فى سرائرهم، يجرى عليهم أحوالهم وهم غير متكلّفين، بل هم يثبتون- وهم خمود عما هم به- أن تصرفاتهم القائم بها عنهم سواهم، وكذلك فى نطقهم «1» .
قوله جل ذكره: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ. ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما ذكرهم ذكر كلبهم، ومن صدق فى محبة أحد أحبّ من انتسب إليه وما ينسب إليه.
ويقال كلب خطا مع أحبائه خطوات فإلى القيامة يقول الصبيان- بل الحق يقول بقوله العزيز-: «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ....» فهل ترى أنّ مسلما يصحب أولياءه من وقت شبابه إلى وقت مشيبه يردّه يوم القيامة خائبا.؟ إنه لا يفعل ذلك.
ويقال فى التفاسير إنهم قالوا للراعى الذي تبعهم والكلب معه: اصرف هذا الكلب عنّا ... فقال الراعي: لا يمكننى، فإنى أنا دينه.
ويقال أنطق الله سبحانه- الكلب فقال لهم: لم تضربوننى؟
فقالوا: لتنصرف عنّا.
فقال: لا يمكننى أن أنصرف.. لأنه ربّانى.
ويقال كلب بسط يده على وصيد الأولياء فإلى القيامة يقال «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ»
__________
(1) فنطق العبد الواله وتصرفه يكونان بالله.... تذكر قصة الحلاج.(2/384)
«بِالْوَصِيدِ» ... فهل إذا رفعها مسلم إليه خمسين سنة ترى يردّها خائبة؟ هذا لا يكون.
ويقال لما صحبهم الكلب لم تضره نجاسة صفته، ولا خساسة قيمته.
ويقال قال فى صفة أصحاب الكهف إن كانوا «سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» ، أو خمسة سادسهم كلبهم فقد قال فى صفة هذه الأمة: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» ..
وشتّان ما هما! ويقال كل يعامل بما يليق به من حالته ورتبته فالأولياء قال فى صفتهم: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» ، والكلب قال فى صفته: «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» .
ويقال كما كرّر ذكرهم، كرر ذكر كلبهم.
وجاء فى القصة أن الكلب لما لم ينصرف عنهم قالوا: سبيلنا إذا لم يتصرف عنّا أن نحمله حتى لا يستدّل علينا بأثر قدمه فحملوه، فكانوا فى الابتداء (بل إياه) «1» وصاروا فى الانتهاء مطاياه.. كذا من اقتفى أثر الأحباب.
ويقال في القصة إن الله أنطق الكلب معهم، وبنطقه ربط على قلوبهم بأن ازدادوا يقينا بسماع نطقه، فقال: لم تضربونى؟ فقالوا: لتنصرف، فقال: أنتم تخافون بلاء يصيبكم فى المستقبل وأنتم بلائي فى الحال:
ثم إنّ بلاءكم الذي تخافون أن يصيبكم من الأعداء، وبلائي منكم وأنتم الأولياء.
ويقال لما لزم الكلب محلّه ولم يجاوز حدّه فوضع يديه على الوصيد بقي مع الأولياء ...
كذا أدب الخدمة يوجب بقاء الوصلة.
قوله جل ذكره: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
__________
(1) وردت هكذا ونرجح أنها (بلاياه) بدليل ما سيأتى بعد ذلك:
(وأنتم بلائي فى الحال) . [.....](2/385)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
الخطاب له- صلى الله عليه وسلم. والمراد منه غيره.
ويقال لو اطلعت عليهم من حيث أنت لولّيت منهم فرارا، ولو شاهدتهم من حيث شهود تولّى الحق لهم لبقيت على حالك.
ويقال لو اطلعت عليهم وشاهدتهم لولّيت منهم فرارا من أن تردّ عن عالى منزلتك إلى منزلتهم والغنىّ إذا ردّ إلى منزلة الفقير فرّ منه، ولم تطب به نفسه. «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» بأن يسلب عظيم ما هو حالك، وتقام فى مثل حالهم النازلة عن حالك.
ويقال: «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لأنك لا تريد أن تشهد غيرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 19]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)
استقلوا مدة لبثهم وقد لبثوا (طويلا) ، ولكنهم كانوا مأخوذين عنهم، ولم يكن لهم علم بتفصيل أحوالهم، قال قائلهم:
لست أدرى أطال ليلى أم لا؟ ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟
لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت مخلّا
ويقال أيام الوصال عندهم قليلة- وإن كانت طويلة، ولو كان الحال بالضدّ لكان الأمر بالعكس، وأنشدوا:
صباحك سكر والمساء خمار «1» ... نعمت وأيام السرور قصار
قوله جل ذكره: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لأنه هو الذي خصّكم بما به أقامكم.
__________
(1) الخمار ما خالط الإنسان من سكر الخمر.(2/386)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
قوله جل ذكره: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ما داموا مأخوذين عنهم لم يكن لهم طلب لأكل ولا شرب ولا شىء من صفة النّفس، فلمّا ردّوا إلى التمييز أخذوا فى تدبير الأكل أوّل ما أحسوا بحالهم، وفى هذا دلالة على شدة «1» ابتداء الخلق بالأكل.
قوله جل ذكره: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً تواصوا فيما بينهم بحسن التّخلق وجميل الترفّق، أي ليتلطف مع من يشترى منه شيئا.
ويقال أوصوا من يشترى لهم الطعام أن يأتيهم بألطف شىء وأطيبه، ومن كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن من الملبوس ولا المبتذل فى المطعم من المأكول.
ويقال أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات طعامهم الخشن ولباسهم كذلك «2» .
والذي بلغ المعرفة لا يوافقه إلا كل لطيف، ولا يستأنس إلا بكل مليح.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 20]
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
تواصوا فيما بينهم بكتمان الأسرار عن الأجانب «3» وأخبر أنهم إن اطلعوا عليهم وعلى أحوالهم بالغوا فى مخالفتهم إمّا بالقتل وإما بالضرب وبما أمكنهم من وجوه الفعل، ولا يرضون
__________
(1) شدة هنا معناها ضرورة.
(2) معنى هذا أن القشيري يميز بين مطعم وملبس أصحاب الرياضات ومطعم وملبس أهل المعرفة، وربما كان سبب ذلك أن أهل المعرفة الواجب عليهم ستر أحوالهم عن الخلق، بدليل قوله فيما بعد: «تواصوا فيما بينهم بكتمان الأسرار عن الأجانب» .
(3) من هذا نفيم ضرورة أن يكتم أرباب الأحوال أسرارهم، وإلا تعرضوا لأذى الذين لا يدركون حقائق أحوالهم، وقد يصل الأذى إلى حد الضرب والقتل (تذكر قصة الحلاج وغيره) .(2/387)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
إلا بردّهم إلى ما منه تخلصوا، فمن احترق كدسه فما لم يحترق كدس غيره لا تطيب نفسه.
ويقال من شأن الأبرار حفظ الأسرار عن الأغيار.
ويقال من أظهر لأعدائه سرّه فقد جلب باختياره ضرّه، وفقد ما سرّه «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
جعل أحوالهم عبرة لمن جاء بعدهم حين كشف لأهل الوقت قصتهم، فعاينهم الناس، وازداد يقين من كان يؤمن بالله حين شاهدوا بالعيان ما كان نقضا للعادة المستمرة.
ثم إن الله تعالى ردّهم إلى ما كانوا عليه من الحالة، كانوا مأخوذين عن التمييز، متقلبين فى القبضة على ما أراده الحق، مستودعين فيما كوشفوا، مستهلكين عنهم فى وجود الحق- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
أخبر أنّ علوم الناس متقاصرة عن عددهم فالأحوال التي لا يطلع عليها إلا الله فى أسرارهم وقلوبهم.. متى يكون للخلق عليها إشراف؟
أشكل عليهم عددهم، وعددهم يعلم بالضرورة، وهم لا يدركون بالمشاهدة.
__________
(1) يقول الشبلي واصفا سبب محنة الحلاج: «كنت والحسين بن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت» .(2/388)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
ويقال سعد الكلب حيث كرّر الحقّ- سبحانه- ذكرهم وذكر الكلب معهم على وجه التكرار، ولمّا ذكرهم عدّ الكلب فى جملتهم.
قوله جل ذكره: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ لما كانوا من أوليائه فلا يعلمهم إلا خواصّ عباده، ومن كان قريبا فى الحال منهم فهم فى كتم الغيرة وإيواء الستر لا يطّلع الأجانب عليهم ولا يعلمهم إلا قليل لأنّ الحق- سبحانه- يستر أولياءه عن الأجانب، فلا يعلمهم إلا أهل الحقيقة فالأجانب لا يعرفون الأقارب، ولا تشكل أحوال الأقارب على الأقارب كذلك قال شيوخ هذه الطائفة:
«الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم» «1» .
قوله جل ذكره: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً كما لا يعرفهم من كان بمعزل عن حالتهم، ولا يهتدى إلى أحكامهم من لا يعرفهم..
فلا يصحّ استفتاء من غاب علمهم عنه فى حالهم. ومن لم يكن قلبه محلا لمحبة الأحباب لا يكون لسانه مقرا لذكرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
إذا كانت الحوادث صادرة عن مشيئة الله فمن عرف الله لم يعدّ من نفسه ما علم أنه لا يتم إلا بالله.
ويقال من عرف الله سقط اختياره عند مشيئته، واندرجت أحكامه فى شهوده لحكم الله.
ويقال المؤمن يعزم على اعتناق الطاعة فى مستقبله بقلبه، لكنه يتبرأ عن حوله وقوّته
__________
(1) هذا القول للجنيد (ص 139) الرسالة(2/389)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
بسرّه، والشرع يستدعى منه نهوض قلبه فى طاعته، والحقّ يقف سرّه عند شهود ما منه لمحبوبه تحت جريان قسمته «1» .
قوله جل ذكره: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن طرأت عليك طوارق النسيان- لا بتعهدك- فجرّد بذكرك قصدك عن أوطان غفلتك.
ويقال «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» : فى الحقيقة نفسك تمنعك من استغراقك فى شهود ذكرك.
ويقال واذكر ربك إذا نسيت ذكرك لربّك: فإن العبد إذا كان ملاحظا لذكره كان ذلك آفة فى ذكره «2» .
ويقال واذكر ربك إذا نسيت حظّك منه.
ويقال واذكر ربّك إذا نسيت غير ربّك.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 25]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)
كانوا مأخوذين عنهم فى إحساسهم بأنفسهم فلم يقفوا على تطاول مدتهم، وفى المثل:
«أيام السرور قصار» ، والدهور فى السرور شهور، والشهور فى المحن دهور، وفى معناه:
أعدّ الليالى ليلة بعد ليلة ... وقد كنت قبلا لا أعد اللياليا
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 26]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
__________
(1) معنى هذه الفقرة انه قد يبدو فى الظاهر ان للعبد إرادة فى الامتثال للطاعة وفي إجراء أحكام الشريعة، ولكن فى الحقيقة أن الحق سبحانه يتولى تبرئته من حوله وإرادته، وتهيئة سره للتجرد عن كل غير وسوى.
(2) لأن أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور.(2/390)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
من لم يعد أيامه لاشتغاله بالله أحصى الله أنفاسه التي لله، قال تعالى: «أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
تسلّ- حينما تتنوع عليك الأحوال- بما نطلعك عليه من الأخبار وإنّ كتب الأحباب فيها شفاء لأنها خطاب الأحباب للأحباب.
قوله جل ذكره: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي لا تغيير لحكمه فمن أقصاه فلا قبول له، ومن أدناه فلا وصول له، ومن قبله فلا ردّ له، ومن قرّ به فلا صدّ له.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
قال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» ولم يقل: «قلبك» لأن قلبه كان مع الحقّ، فأمره بصحته جهرا يجهر، واستخلص قلبه لنفسه سرّا بسرّ.
ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : معناها مريدين وجهه أي فى معنى الحال، وذلك يشير إلى دوام دعائهم ربهم بالغداة والعشىّ وكون الإرادة على الدوام.
ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : فآويناهم فى دنياهم بعظائمنا، وفي عقباهم بكرائمنا.
ويقال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : فكشف قناعهم، وأظهر صفتهم، وشهرهم بعد ما كان قد سترهم، وأنشدوا:(2/391)
وكشفنا لك القناع وقلنا ... نعم وهتكنا لك المستورا
ويقال لما زالت التّهم سلمت لهم هذه الإرادة، وتحرروا عن إرادة كلّ مخلوق وعن محبة كل مخلوق.
ويقال لمّا تقاصر لسانهم عن سؤال هذه الجملة مراعاة منهم لهيبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرمة باب الحقّ- سبحانه- أمره بقوله: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» وبقوله:
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا ترفع بصرك عنهم، ولا تقلع «1» عنهم نظرك.
ويقال لما نظروا بقلوبهم إلى الله أمر رسوله- عليه السلام- بألا يرفع بصره عنهم، وهذا جزاء فى العاجل.
والإشارة فيه كأنه قال: جعلنا نظرك اليوم إليهم ذريعة لهم إلينا، وخلفا عما يفوتهم اليوم من نظرهم إلينا، فلا تقطع اليوم عنهم نظرك فإنا لا نمنع غدا نظرهم عنّا «2» .
قوله جل ذكره: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً هم الذين سألوا منه- صلى الله عليه وسلم- أن يخلى لهم مجلسه من الفقراء، وأن يطردهم يوم حضورهم من مجلسه- صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
ومعنى قوله: «أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» : أي شغلناهم بما لا يعنيهم.
ويقال «أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» أي شغلناهم حتى اشتغلوا بالنعمة عن شهود المنعم.
ويقال هم الذين طوّح قلوبهم فى التفرقة، فهم فى الخواطر الرّديّة مثبتون، وعن شهود مولاهم محجوبون.
__________
(1) لا تقلع عنهم نظرك أي لا تكف وتبعد.
(2) تهم هذه الإشارة فى تقدير مدى تصور الصوفية لشخصية محمد (ص) .(2/392)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
ويقال أغفلنا عن ذكرنا الذين ابتلوا بنسيان الحقيقة ولا يتأسّفون «1» على ما منوا به ولا على ما فاتهم.
ويقال الغفلة تزجبة الوقت فى غير قضاء فرض أو أداء نفل.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
قل يا محمد: ما يأتيكم من ربّكم فهو حقّ، وقوله صدق.. فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر.. هذا غاية التهديد، أي إن آمنتم ففوائد إيمانكم عليكم مقصورة، وإن أبيتم فعذاب الجحود موقوف عليكم، والحقّ- سبحانه- عزيز لا يعود إليه بايمان الكافة- إذا وحّدوا- زين، ولا من كفر الجميع- إن جحدوا- شين.
قوله جلّ ذكره: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً العقوبة الكبرى لهم أن يشغلهم بالألم حتى لا يتفرغوا عنه إلى الحسرة على مافاتهم من الحقّ، ولو علموا ذلك لعلّه كان يرحمهم. والحقّ- سبحانه- أكرم من أن يعذب أحدا يتّهم لأجله.
ويقال لو علموا من الذي يقول: «وَساءَتْ مُرْتَفَقاً» لعله كان لهم تسل ساعة، ولكنهم لا يعرفون قدر من يقول هذا، وإلا فهذا شبه مرتبة لهم، والعبارة عن هذا تدق.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
__________
(1) وردت (ولا ينافسون) والمعنى يرفضها مما يرجح خطأ الناسخ فى نقلها.(2/393)
أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها.
والحقّ- سبحانه- منزّه عن أن يعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة ولا من تنعيم هؤلاء فائدة ... جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية! ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة «1» كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكا فينا غليلا «2» مهّدنا له- فى دار فضلنا- مقيلا.
«أجر من أحسن عملا» : العمل أحسنه ما كان مضبوطا بشرائط الإخلاص.
ويقال «مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» بأن غاب عن رؤية إحسانه.
ويقال من جرّد قصده عن كلّ حظّ ونصيب.
ويقال الإحسان فى العمل ألا ترى قضاء حاجتك إلا فى فضله، فإذا أخلصت فى توسلك إليه بفضله، وتوصّلك إلى ما موّلك من طوله بتبرّيك عن حولك وقوّتك استوجبت حسن إقباله، وجزيل نواله.
قوله أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أولئك هم أصحاب الجنان، فى رغد العيش وسعادة الجدّ «3» وكمال الرّفد «4» ، يلبسون حلل الوصلة، ويتوّجون بتاج القربة،
__________
(1) وردت (سيده) .
(2) وردت (عليلا) بالعين.
(3) الجد- الحظ. [.....]
(4) الرفد- العطاء والصلة.(2/394)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
ويحملون على المباسط، ويتّكئون على الأرائك، ويشمون رياحين الأنس، ويقيمون فى مجال الزّلفة، ويسقون شراب المحبة، ويأخذون بيد الزلفة ما يتحفهم الحقّ به من غير واسطة، ويسقيهم شرابا طهورا يطهّر قلوبهم عن محبة كلّ مخلوق.
«نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» : نعم الثواب ثوابهم، ونعم الربّ ربّهم، ونعم الدار دارهم، ونعم الجار جارهم، ونعم الحال حالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 41]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)(2/395)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
أخبر أنه خلق رجلين جعل لهما جنتين على الوصف الذي ذكره، فشكر أحدهما لخالقه وكفر الآخر برازقه، فأصبح الكافر وجنّته أصابتها جائحة، وندم على ما ضيّعه من الشكر، وتوجّه عليه اللوم.
وفى الإشارة يخلق عبدين يطيّب لهما الوقت، ويمهّد لهما بساط اللطف، ويمكّن لهما من البسط.. فيستقيم أحدهما فى الترقي إلى النهاية من مقامات البداية بحسن المنازلة وصدق المعاملة، فتميز له المجاهدة ثمرات أحسن الأخلاق فيعالجها بحسن الاستقامة، ثم يتحقق بخصائص الأحوال الصافية، ثم يختطف عنها بما يكاشف به من حقائق التوحيد، ويصبح منتفى عن جملته باستهلاكه فى وجود ما بان له من الحقائق.
والثاني لا يقدّر قدر ما أهّل له من حسن البداية فيرجع إلى مألوفاته، فينتكس أمره، بانحطاطه إلى ذميم عاداته، وفيرتدّ عن سلوك الطريقة ويتردّى «1» فى ظلمة الغفلة فيصير وقته ليلا مظلما، ويتطوح فى أودية التفرقة، ويوسم الطرد، ويسقى شراب الإهانة، وينخرط فى سلك الهجر.. وذلك جزاء من لم يرهم الحقّ لوصلته أهلا، ولم يجعل لولائهم فى التحقيق والقبول أصلا:
تبدّلت وتبدلنا يا حسرة لمن ... ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 43]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)
__________
(1) وردت (ويرتدى) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق.(2/396)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
إذا ظهر خسران من آثر حظّه على حقّ الله، قرع باب ندامته، ثم لا ينفعه.
ولو قرع باب كرمه فى الدنيا- حين وقعت له الفترة- لأشكاه «1» عند ضرورته، أنجاه من ورطته.. ولكنه ربط بالخذلان، ولبّس عليه الأمر بحكم الاستدراج.
قوله: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ» : من اشتهر أمره بسخط السلطان عليه لم ينظر إليه أحد من الجند والرعية، كذلك من وسمه الحقّ بكىّ الهجر لم يرث له ملك ولا نبىّ، ولم يحمه صديق ولا ولىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 44]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
هو الحقّ المتفرّد بنعت ملكوته، لا يشرك فى جلال سلطانه من الحدثان أحدا، وإذا بدا من سلطان الحقيقة شظية فلا دعوى ولا معنى لبشر، ولا وزن فيما هنا لك لحدثان ولا خطر، كلّا.. بل هو الله الخلّاق الواحد القهار.
هنا لك الولاية لله أي القدرة- والواو هنا بالكسر، وهنا لك الولاية لله أي النصرة- والواو هنا بالفتح «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 45]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) .
__________
(1) أشكاه: أزال سبب شكواه، وأعانه.
(2) الولاية (بالكسر) بمعنى القدرة أي: السلطان والملك كله لله، ويتولى الله كل مضطر فيكون قوله: «لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا من شؤم كفره- ولولا ذلك لم يقلها.
أو على الولاية (بالفتح) بمعنى النصرة تقريرا لقوله: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(2/397)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
من وطّن النّفس على الدنيا وبهجتها غرته بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها. ثم إنها تخفى الصّاب فى شرابها، والحنظل فى عسلها، والسراب فى مآربها تعد ولا تفى بعداتها، وتوفى آفاتها على خيراتها.. نعمها مشوبة بنقمها، وبؤسها مصحوب بمأنوسها، وبلاؤها فى ضمن عطائها. المغرور من اغترّ بها، والمغبون من انخدع فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 46]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
من اعتضد بعتاده، واغترّ بأولاده، ونسى مولاه فى أوان غفلاته.. خسر فى حاله، وندم على ما فاته فى مآله.
ويقال زينة أهل الغفلة فى الدنيا بالمال والبنين، وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين..
فهؤلاء رتّبهم لظواهرهم.. وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وافتخارهم بمعرفة ربوبيته.
ويقال ما كان للنّفس فيه حظّ فهو من زينة الحياة الدنيا، ويدخل فى ذلك الجاه وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها.
ويقال ما كان للإنسان فيه شرب ونصيب فهو معلول: إن شئت فى عاجله وإن شئت فى آجله.
قوله جل ذكره: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا.
وهى الأعمال التي بشواهد الإخلاص والصدق.
ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : ما كان خالصا لله تعالى غير مشوب بطمع، ولا مصحوب بغرض.
ويقال «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» : ما يلوح فى السرائر من تحلية العبد بالنعوت، ويفوح نشره فى سماء الملكوت.
ويقال هى التي سقت من الغيب لهم بالقربة وشريف الزلفة.(2/398)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
ويقال هى ضياء شموس التوحيد المستكنّ (فى السرائر مما لا يتعرّض لكسوف الحجبة) «1» قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 47]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)
كما تسيّر جبال الأرض «2» يوم القيامة فإنها تقتلع بموت الأبدال الذين يديم بهم الحقّ- اليوم- إمساك الأرض، فهؤلاء السادة- فى الحقيقة- أوتاد العالم.
قوله: «فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» : الإشارة منه أنه ما من أحد إلا ويسقى كأس المنية، ولا يغادر الحقّ أحدا اليوم على البسيطة إلا وينخرط عن نظامه. وإنّ شرفهم فى الدرجات فى توقّيهم عن مساكنة الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 48]
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
يقيم كلّ واحد يوم العرض فى شاهد مخصوص، ويلبس كلّا ما يؤهّله له فمن لباس تقوى، ومن قميص هوى، ومن صدار وجد، ومن صدرة محبة، ومن رداء شوق، ومن حلّة وصلة.
ويقال يجرّدهم عن كل صفة إلا ما عليه نظرهم يوم القيامة. وينادى المنادى على أجسادهم:
هذا الذي أتى ووجد، وهذا الذي أبى وجحد. وهذا الذي خالف فأصرّ، وهذا الذي أنعمنا عليه فشكر، وهذا الذي أحسنّا إليه فذكر. وهذا الذي أسقيناه شرابنا، ورزقناه محابّتا، وشوّقناه إلى لقائنا، ولقّيناه خصائص رعائنا» .
وهذا الذي وسمناه بحجبتنا، وحرمناه وجوه قربتنا. وألبسناه نطاق فراقنا، ومنعناه، توفيق وفاقنا، وهذا، وهذا ...
__________
(1) تكملة فى أسفل الصفحة موضحة فى المتن بالعلامة.
(2) نلاحظ كثيرا أن القشيري يتحدث عن الأوتاد والأبدال والقطب كلما ورد فى القرآن ذكر للجبال، فكما أن الله يمسك بها الأرض ويثبتها كذلك يقوم هؤلاء بحفظ الخلق، وبكرامتهم يندفع البلاء عنهم.
(3) الرعاء: المراعاة والمحافظة.(2/399)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
وا خجلتي من وقوفي وسط دارهم! وقال لى مغضبا: من أنت يا رجل؟
وقوله جل ذكره: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
جئتمونا بلا شفيع ولا ناصر، ولا معين ولا مظاهر.
قوم يقال لهم: سلام عليكم ... كيف أنتم؟ وكيف وجدتم مقيلكم؟ وكم إلى لقائنا اشتقتم! وقوم يقال لهم: ما صنعتم، وما ضيّعتم؟ ما قدّمتم، وما أخرتم؟ ما أعلنتم، وما أسررتم؟
قل لى بألسنة التنفّس «1» ... كيف أنت وكيف حالك؟
ويقال يجيب بعضهم عند السؤال فيفصحون عن مكنون قلوبهم، ويشرحون ما هم به من أحوال مع محبوبهم وآخرون تملكهم الحيرة وتسكتهم الدهشة، فلا لهم بيان، ولا ينطق عنهم لسان. وآخرون كما قيل:
قالت سكينة من هذا فقلت لها: ... أنا الذي أنت من أعدائه زعموا
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 49]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
إنما يصيبهم ما كتب فى الكتاب الأول وهو المحفوظ، لا ما فى الكتاب الذي هو كتاب أعمالهم نسخه ما فى اللوح المحفوظ.
ويقال إن عامل عبدا بما فى الكتاب الذي أثبته الملك عليه فكثير من عباده يعاملهم بما فى كتاب الملك- سبحانه، وفرق بين من يعامل بما فى كتاب الحقّ من الرحمة «2» والشفقة وبين من يحاسبه بما كتب عليه الملك من الزّلة «3»
__________
(1) التنفس: الاستراحة من الكد والتعب
(2) يشير بذلك إلى قوله تعالى «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (آية 12 سورة الأنعام) وإلى قوله تعالى:
«فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (آية 54 سورة الأنعام) .
(3) يشير بذلك إلى قوله تعالى: «بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (آية 80 سورة الزخرف) .(2/400)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
ويقال إذا حاسبهم فى القيامة يتصور لهم كأنهم فى الحال ما فارقوا الزّلة، وإن كانت مباشرة الزّلة قد مضت عليها سنون كثيرة.
قوله جل ذكره: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً يملك الحزن قلبه لأنه يعلم أنه يرى فى عمله سيئة فهو فى موضع الخجل لتقصيره. وإن رأى حسنة فهو فى موضع الخجل أيضا لقلة توقيره فخجلة أهل الصدق عند شهود حسناتهم توفى وتزيد على خجلة أهل الغفلة إذا عثروا على زلّاتهم.
ويقال أصحاب الطاعة إذا وجدوا ما قدّموا من العبادات فمآلهم السرور والبهجة وحياة القلب والراحة، وأمّا أصحاب المخالفات فإنما يجدون فيما قدّموا مجاوزة الحدّ ونقض العهد، وما فى هذا الباب من الزّلة وسوء القصد.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 50]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
أظهر للملائكة شظيّة مما استخلص به آدم فسجدوا بتيسير من الله- سبحانه، وسكّر بصر اللعين فما شهد منه غير العين «1» فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، ولا صدق فى قوله:
«أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» لمّا فسق عن الأمر، ولكن أدركته الشقاوة الأصيلة فلم تنفعه الوسيلة بالحيلة.
قوله جل ذكره: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ
__________
(1) أي نظر إبليس إلى الجسد المادي لآدم فقال: خلقتنى من نار وخلقته من طين، ولم ينظر إلى الجوهر، والسبب فى ذلك في رأى القشيري أن الله أغلق عليه.(2/401)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فى الآية إشارة إلى أنّ من يفرده بالولاية فلا يقتفى غيره ولا يخاف غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 51]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
أكذب المنجمين والأطباء الذين يتكلمون فى الهيئات والطبائع بقوله: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» : وبيّن أن ما يقولونه من إيجاب الطبائع لهذه الكائنات لا أصل له فى التحقيق.
«وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» : أي لم أجعل للذين يضلّون الناس عن دينهم بشبههم فى القول بالطبائع حجة، ولم أعطهم لتصحيح ما يقولونه برهانا.
ويقال إذا تقاصرت علوم الخلق عن العلم بأنفسهم فكيف تحيط علومهم بحقائق الصمدية، واستحقاقه لنعونه إلا بمقدار ما يخصّهم به من التعريف على ما يليق برتبة كل أحد بما جعله له أهلا؟
ويقال أخبر أنّ علومهم تتقاصر عن الإحاطة بجميع أوصافهم وجميع أحوالهم وعن كلّ ما فى الكون، ولا سبيل لهم إلى ذلك ولا حاجة بهم إلى الوقوف على ما قصرت علومهم عنه، إذ لا يتعلّق بذلك شىء من الأمور الدينية. فالإشارة فى هذا أن يصرفوا عنايتهم إلى طلب العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإنه لا بدّ لهم- بحكم الديانة- من التحقق بها إذ الواجب على العابد معرفة معبوده بما يزيل التردد عن قلبه فى تفاصيل مسائل الصفات والأحكام «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 52]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)
__________
(1) فى هذا أبلغ رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلوم، وكيف يجافونها وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟(2/402)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
علم الحقّ- سبحانه- أنّ الأصنام لا تغنى ولا تنفع ولا تضر، ولكن يعرّفهم فى العاقبة بما يصيّر معارفهم ضرورية «1» حسما لأوهام القوم حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «2» .
فإذا تحققوا بذلك صدقوا فى الندم، وكان استيلاء الحسرة عليهم، وذلك من أشد العقوبات لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 53]
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
إذا صارت الأوهام منقطعة، والمعارف ضرورية، والنار معاينة استيقنوا أنهم واقعون فى النار، فلا يسمع لهم عذر، ولا تنفع لهم حيلة، ولا تقبل فيهم شفاعة، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل.. لقد استمكنت الخيبة، وغلب اليأس، وحصل القنوط، وهذا هو العذاب الأكبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 54]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)
أوضح للكافة الحجج، ولكن لبّس على قوم النهج فوقعوا فى العوج.
«وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» الجدل فى الله محمود مع أعدائه، والجدل مع الله شرك لأنه صرف إلى مخالفة توهم أن أحدا يعارض التقدير، وتجويز ذلك انسلاخ
__________
(1) المعارف إما ضرورية أو كسبية، والضرورية من الحق، والكسبية من الخلق.
(2) آية 3 سورة الزمر. [.....](2/403)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
عن الدّين. ومن أمارات السعادة للمؤمن فتح باب العمل عليه، وإغلاق باب الجدل دونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 55]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)
لا عذر لهم إذا لجأوا إلى ما تعاطوه من العصيان وترك المبادرة إلى المأمور، ولا توفيق يساعدهم فيخرجهم عن حوار الداعي إلى عزم الفعل، فهم- وإن لم يكونوا بنعت الاستطاعة على ما ليسوا يفعلونه- ليسوا عاجزين عن ذلك ولكنهم بحيث لو أن العبد منهم أراد ما أمر به لتأبّى منه ذلك، وتعذّر عليه ففى الحال ليس بقادر على ما ليس يفعله ولا هو عاجز عنه، وهذا يسميه القوم حال التخلية وهى واسطة بين القدرة والعجز.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 56]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
أرسل الرسل- عليهم السلام- تترى، وأيّدهم بالحجج والبراهين، وأمرهم بالإنذار والتخويف، والتشريف فى عين التكليف، وتضمين ذلك بالتحقيق، ولكن سعد قوم باتباعهم، وشقى آخرون بخلافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 57]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)(2/404)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
لا أحد أظلم ممّن ذكّر ووعظ بما لوّح له من الآيات، وبما شاهده وعرفه من أمر أصلح أو شغل كفى أو دعاء أجيب له، أو سوء أدب حصل منه، فأدّب بما يكون تنبيها له، أو حصلت منه طاعة وكوفىء فى العاجل إمّا بمعني وجده فى قلبه من بسط أو حلاوة أو أنس، وإمّا بكفاية شغل أو إصلاح أمر.. ثم إذا استقبله أمر نسى ما عومل به، أو أعرض عن تذكّره، ونسى ما قدّمت يداه من خيره وشرّه، فوجد فى الوقت موجبه..
ومن كانت هذه صفته جعل على قلبه سترا وغفلة وقسوة حتى تنقطع عنه بركات ما وهبه.
ويقال من أظلم ممن يستقبله أمر مجازاة لما أسلفه من ترك أربه فيتّهم ربّه، ويشكو مما يلاقيه، وينسى حرمة الذي بسببه أصابه ما أصابه؟ وكما قيل:
وعاجز الرأى مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
قوله جلّ ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 58]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
«غفور» : لأنه ذو الرحمة، ورحمته الأزلية أوجبت المغفرة لهم.
ويقال «الْغَفُورُ» : للعاصين من عباده، و «ذُو الرَّحْمَةِ» بجميعهم فيصلح أحوال كافتهم.
«لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا» : لعجّل لهم العذاب أي عاملهم بما استوجبوه من عصيانهم، فعجّل لهم العقوبة، لكنه يؤخرها لمقتضى حكمته، ثم فى العاقبة يفعل ما يفعل على قضية إرادته وحكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 59]
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
لمّا لم يشكروا النّعم ولم يصبروا فى المحن عجّلنا لهم العقوبة.
ويقال لمّا غفلوا عن شهود التقدير، وحرموا روح الرضا وكّلناهم إلى ظلمات تدبيرهم، فطاحوا فى أودية غفلاتهم.(2/405)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 61]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)
لما صحّت صحبة يوشع مع موسى عليهما السلام استحقّ اسم الفتوة، ولذا قال:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» وهو اسم كرامة لا اسم علامة.
جعل دخول السمك الماء علامة لوجود الخضر هنالك «1» ، ثم أدخل النسيان عليهما ليكون أبلغ فى الآية، وأبعد من اختيار البشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 62]
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)
كان موسى فى هذا السّفر متحمّلا، فقد كان سفر تأديب واحتمال مشقة، لأنه ذهب لاستكثار العلم. وحال طلب العلم حال تأديب ووقت تحمّل المشقة، ولهذا لحقه الجوع، فقال: «لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» .
وحين صام فى مدة انتظار سماع الكلام من الله صبر ثلاثين يوما، ولم يلحقه الجوع ولا المشقة، لأن ذهابه فى هذا السفر كان إلى الله، فكان محمولا.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 63 الى 64]
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
__________
(1) كان الحوت سمكة مملوحة، فنزلا ليلة على شاطىء عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السكة الماء عاشت ووقعت فى الماء (النسفي) .(2/406)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
«1»
طال عليهما السفر لأنهما احتاجا إلى الانصراف إلى مكانهما، ثم قال يوشع:
«وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» : الله- سبحانه- أدخل عليه النسيان ليكون الصّيد من تكلفه، ثم قال: «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» : يعنى دخول السمك الماء وكان مشويا فصار ذلك معجزة له، فلما انتهيا إلى الموضع الذي دخل السمك فيه الماء لقيا الخضر.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 65]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)
إذا سمى الله إنسانا بأنه عبده جعله من جملة الخواص فإذا قال: «عبدى» جعله من خاص الخواص.
«آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» : أي صار مرحوما من قبلنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوما، ويكون بها راحما على عبادنا.
«وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» : قيل العلم من لدن الله «2» ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطلّب.
ويقال ما يعرّف به الحقّ- سبحانه- الخواص من عباده.
ويقال ما يعرّف به الحق أولياءه فيما فيه صلاح عباده.
__________
(1) قال الزجاج: القصص اتباع الأثر، فقص قصصا: اتبع الأثر.
(2) يتخذ الصوفية من قصة الخضر وموسى مصدرا ثريا لاستمداد كثير من أصولهم فيما يتصل بالعلم اللدني وعلم الوراثة، والولاية والنبوة، والعلاقة بين المريد والشيخ، وفكرة الظاهر والباطن، والملامة على ظاهر مستشنع باطنه سليم.. ونحو ذلك.
وقد نجد خلال إشارات القشيري شيئا من ذلك.(2/407)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
وقيل هو ما لا يعود منه نفع إلى صاحبه، بل يكون نفعه لعباده ممّا فيه حقّ الله- سبحانه.
ويقال هو ما لا يجد صاحبه سبيلا إلى جحده، وكان دليلا على صحة ما يجده قطعا، فلو سألته عن برهانه لم يجد عليه دليلا فأقوى العلوم أبعدها من الدليل «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 66]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)
تلطف فى الخطاب حيث سلك طريق الاستئذان، ثم صرّح بمقصوده من الصحبة بقوله: «عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» .
ويقال إن الذي خصّ به الخضر من العلم لم يكن تعلمه من أستاذ ولا من شخص، فما لم يكن بتعليم أحد إياه.. متى كان يعلمه غيره؟
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 67 الى 69]
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
سؤال بذلك العطف وجواب بهذا العطف! ثم تدارك قلبه بقوله: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟» ، فأجابه موسى:
«قالَ سَتَجِدُنِي ... » وعد من نفس موسى بشيئين: الصبر، وبأن لا يعصيه فيما يأمر به، فأمّا الصبر فقرنه بالاستثناء بمشيئة الله فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» فصبر حتى وجد صابرا، فلم يقبض على يدى الخضر فيما كان منه من الفعل، والثاني قوله: «لا أَعْصِي»
__________
(1) وسر قوة العلم الذي يبعد عن الدليل أنه من الحق، وبقدر ما تختفى الجوانب الإنسانية فى العلم وتبرز المنن الإلهية فيه تكون نصاعة برهانه وقوة بيانه.(2/408)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
«لَكَ أَمْراً» : أطلقه ولم يقرنه بالاستنشاء، فما استنشأ لأجله لم يخالفه فيه، وما أطلقه وقع فيه الخلف «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 70]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
فإنه ليس للمريد أن يقول: «لا» لشيخه، ولا التلميذ لأستاذه، ولا العامىّ، للعالم المفتى فيما يفتى ويحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 71]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)
لما ركبوا الفلك خرقها وكان ذلك إبقاء على صاحبها لئلا يرغب فى السفينة المخروقة الملك الطامع فى السفن.
وقوله: «لِتُغْرِقَ أَهْلَها» أي لتؤدى عاقبة هذا الأمر إلى غرق أهلها لأنه علم أنه لم يكن قصد إغراق أهل السفينة.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 72]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72)
أي أنت تنظر إلى هذا من حيث العلم، وإنّا نجريه من حيث الحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 73]
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)
طالبه بما هو شرط العلم حيث قال: «لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» لأن الناسي لا يدخل تحت التكليف، وأيّد ذلك بما قرن به قوله: «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» فالمتمكّن من حقه
__________
(1) الخلف- الإخلاف، فقد خالف موسى الأمر حين كان ينسى ويتساءل عقب كل حادثة فى القصة، وكان الحضر فى كل مرة يقول: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» .(2/409)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
التكليف، ومن لا يصحّ منه الفعل والترك لا يتوجه () «1» والناسي «2» من جملتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 74]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
كان بخلق العلم واجبا على موسى- عليه السلام- قصره حيث يرى فى الظاهر ظلما، ولكن فيما عرف من حال الخضر من حقه التوقف ريثما يعلم أنه ألمّ بمحظور أو مباح، ففى ذلك الوقت كان قلب العادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 75]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
كرّر قوله: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ... » لأنه واقف بشرط العلم، وأمّا فى محل الكشف فشرط عليه موسى عليه السلام فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 76]
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
بلغ عصيانه ثلاثا والثلاثة آخر حدّ القلّة وأوّل حدّ الكثرة، فلم يجد المسامحة بعد ذلك «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) .
__________
(1) بياض فى النسخة، ونرجح أن المفقود (عليه لوم) او مؤاخذة.
(2) وردت (والناس) والسياق يتطلب (والناسي) بالياء إذ جاء فى الآية ( ... بما نسيت) .
(3) قد تكشف هذه العبارة عن تصور القشيري لأقصى درجات الذنب القابل للتوبة.(2/410)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
كان واجبا فى ملتهم على أهل القرية إطعامهما، ولم يعلم موسى أنه لا جدوى من النكير عليهم ولو كان أغضى على ذلك منهم لكان أحسن.
فلمّا أقام الخضر جدارهم ولم يطلب عليه أجرا لم يقل موسى إنك قمت بمحظور، ولكنه قال له: «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أي إن لم تأخذ بسببك فلو أخذت بسببنا لكان أخذك خيرا لنا من تركك ذلك، ولئن وجب حقّهم فلم أخللت بحقنا؟
ويقال إنّ سفره ذلك كان سفر تأديب فردّ إلى تحمّل المشقة، وإلّا فهو حين سقى لبنات شعيب فإنّ ما أصابه من التعب وما كان فيه من الجوع كان أكثر «1» ، ولكنه كان فى ذلك الوقت محمولا وفى هذا الوقت متحمّلا. فلما قال موسى هذا قال له الخضر:
[سورة الكهف (18) : آية 78]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
أي بعد هذا فلا صحبة بيننا.
ويقال قال الخضر إنّك نبيّ.. وإنما أؤاخذك بما قلت، فأنت شرطت هذا الشرط وقلت: إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى وإنما أعاملك بقولك.
ويقال لمّا لم يصبر موسى معه فى ترك السؤال لم يصبر الخضر أيضا معه فى إدامة الصحبة فاختار الفراق.
ويقال ما دام موسى عليه السلام سأله لأجل الغير- فى أمر السفينة التي كانت للمساكين، وقتل النّفس بغير حق- لم يفارقه الخضر، فلمّا صار فى الثالثة إلى القول فيما كان فيه حظّ لنفسه من طلب الطعام ابتلى بالفرقة، فقال الخضر: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» .
ويقال كما أن موسى- عليه السلام- كان يحب صحبة الخضر لما له فى ذلك من غرض الاستزادة من العلم فإن الخضر كان يحب ترك صحبة موسى عليه السلام إيثارا للخلوة بالله عن المخلوقين.
__________
(1) ومع ذلك لم يطلب اجرا، ولم يفكر في ذلك البتة.. لأنه كان بحق الله ولكنه فى هذا الموقف كان متكلفا، فهو يفكر بحظ نفسه، ولذا فكر فى الأجر وطلب الطعام.(2/411)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 79]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
لما فارق الخضر موسى عليه السلام لم يرد أن يبقى فى قلب موسى شبه اعتراض فأزال عن قلبه ذلك بما أوضح له من الحال، وكشف له أنّ السّرّ فى قصده من خرق السفينة سلامتها وبقاؤها لأهلها حيث لن يطمع فيها الملك الغاصب، فبقاء السفينة لأهلها- وهى مصيبة- كان خيرا لهم من سلامتها وهى مغضوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 80 الى 81]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)
بيّن له أن قتل الغلام لمّا سبق به العلم مضى من الله الحكم أنّ فى بقائه فتنة لوالديه، وفى إبدال الخلف عنه سعادة لهما.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 82]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
أما تسوية الجدار فلاستبقاء كنز الغلامين وترك طلب الرفق من الخلق.(2/412)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 90 الى 92]
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
أقوام هم أهل مطلع الشمس الغالب عليهم طول نهارهم، وآخرون كانوا من أهل مغرب الشمس الغالب عليهم استتار شمسهم.. كذلك الناس فى طلوع شمس التوحيد: منهم الغالب عليهم طلوع شموسهم، والحضور نعتهم والشهود وصفهم والتوحيد حقّهم، وآخرون لهم من شموس التوحيد النصيب الأقل والقسط الأرذل.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 93 الى 95]
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95)
أي ما كانوا يهتدون إلا إلى لسان أنفسهم، وما كانوا يفقهون فقه غيرهم فلجئوا إلى عبراتهم فى شرح قصتهم، ورفعوا إليه- فى باب يأجوج وماجوج- مظلمتهم، وضمنوا له خراجا يدفعونه إليه، فأجابهم إلى سؤلهم، وحقّق لهم بغيتهم، ولم يأخذ منهم ما ضمنوا له من الجباية، لمّا رأى أنّ من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 96]
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)(2/413)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم من الإمداد بما قال: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» فلمّا فعلوا ما أمرهم به، ونفخوا فيه النار جعل السد بين الصدفين أي جانبى الجبل. ثم أخبر أنه إنما يبقى ذلك إلى أن يأذن الله له فى الخروج، وتندفع عن الناس عادية (....) «1» إلى الوقت المضروب لهم فى التقدير.
وبعد ذلك يكون من شأنهم ما يريد الله. وبيّن- سبحانه- أنّ خروجهم من وراء سدّهم من أشراط الساعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 101]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
نظروا بأعين رءوسهم لأنهم فقدوا نظر القلب من حيث الاعتبار والاستدلال، ولم يكن لهم سمع الإجابة لما فقدوا من التوفيق، فتوجه عليهم التكليف ولم يساعدهم التعريف.
قوله: «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» : لأنهم فقدوا من قبله- سبحانه- الإسماع فلم يستطيعوا لهم القبول.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 102]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
أي توهموا أنه ينفعهم ما فعلوه حسب ظنهم، واعتقدوا فى أصنامهم استحقاق التعظيم، وكانوا يقولون: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «2» ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
__________
(1) مشتبهة.
(2) آيه 3 سورة الزمر.(2/414)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 104]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)
ضلّ سعيهم لأنهم عملوا لغير الله.. وما كان لغير الله فلا ينفع.
ويقال الذين ضلّ سعيهم هم الذين قرنوا أعمالهم بالرياء، ووصفوا أحوالهم بالإعجاب، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمنّ.
ويقال هم الذين يلاحظون أعمالهم وما منهم بعين الاستكثار «1» .
قوله جل ذكره: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً لم يكونوا أصحاب التحقيق، فعملوا من غير علم، ولم يكونوا على وثيقة «2» قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 105]
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)
عموا عن شهود الحقيقة فبقوا فى ظلمة الجحد، فتفرقّت بهم الأوهام والظنون، ولم يكونوا على بصيرة، ولم تستقر قلوبهم على عقيدة مقطوع بها فليس لهم فى الآخرة وزن ولا خطر، اليوم هم كالأنعام، وغدا واقعون ساقطون ( ... ) «3» الأقدام.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 106]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
__________
(1) ملاحظة الأعمال واستكثارها من أخطر دعاوى النفس، كثيرا ما حذّر منهما أهل الملامة فى نيسابور- موطن القشيري.
(2) الوثيقة ما يضبط به الأمر ويحكم.
(3) مشتبهة، وقد ضبطنا (الأقدام) بفتح الهمزة مراعاة للانسجام مع (الأنعام) على عادة القشيري فى ضبط الموسيقى الداخلية للجمل والفقرات، ومع ذلك فإنّ صحة ضبطها تتوقف على معرفة الكلمة المشتبهة. [.....](2/415)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
هم اليوم فى عقوبة الجحد، وغدا فى عقوبه الردّ. اليوم هم فى ذلّ الفراق، وغدا فى أليم الاحتراق.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 107]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107)
لهم جنات معجّلة سرا، ولهم جنان مؤجلة جهرا.
اليوم جنان الوصل وغدا جنان الفضل.
اليوم جنان العرفان وغدا جنان الرضوان.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 108]
خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
عرّفنا- سبحانه- أن ما يخوّله لهم غدا يكون على الدوام، فهم لا ينفكون عن أفضالهم، ولا يخرجون عن أحوالهم فهم أبدا فى الجنة، ولا إخراج لهم منها. وأبدا لهم الرؤية، ولا حجاب لهم عنها «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 109]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)
أي لا تعدّ معانى كلمات الله لأنه لا نهاية لها فإنّ متعلقات الصفة القديمة لا نهاية لها كمعلومات الحقّ- سبحانه- ومقدوراته وسائر متعلقات صفاته.
والذي هو مخلوق «2» لا يستوفى ما هو غير متناه- وإن كثر ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الكهف (18) : آية 110]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
__________
(1) القشيري من الباحثين الذين يصرحون بالرؤية بالأبصار فى الآخرة، أما فى الدنيا فيقول: الأقوى فيه أنه لا يجوز، الرسالة ص 175.
(2) يفصد (البحر) إذا صار مدادا فالبحر يتناهى. وكلمات الله لا تتناهى.(2/416)
أخبر أنّك لهم من حيث الصورة والجنسية مشاكل، والفرق بينك وبينهم تخصيص الله- سبحانه- إياك بالرسالة، وتركه إياهم فى الجهالة.
ويقال: قل اختصاصى بما لى من (الاصطفاء) «1» ، وإن كنا- أنا وأنتم- فى الصورة أكفاء.
قوله جل ذكره: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً حمل الرجاء فى هذه الآية على خوف العقوبة ورجاء المثوبة حسن، ولكنّ ترك هذا على ظاهره أولى فالمؤمنون قاطبة يرجون لقاء الله.
والعارف بالله- سبحانه- يرجو لقاء الله والنظر إليه والعمل الصالح الذي بوجوده يصل إلى لقائه هو صبره على لواعج اشتياقه، وأن يخلص فى عمله.
«وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ» : أي لا يلاحظ عمله، ولا يستكثر طاعته، ويتبرأ من حوله وقوّته.
ويقال العمل الصالح هنا اعتقاد (وجود الصراط ورؤيته وانتظار وقته) «2»
__________
(1) هنا كلمة منبهمة فى الخط، فوضعنا كلمة (الاصطفاء) من عندنا فهى أليق بالمعنى والسياق.
(2) هكذا في ص وليس واضحا عودة الضمير فى (رؤيته) هل هى على الصراط أم على الحق. فنحن تعلم أن القشيري شافعىّ من حيث مذهبة الفقهي، ونعلم كذلك أن الشافعي يقول: لو علم ابن إدريس أنه لا يرى ربّه يوم القيامة ما عبده.
انتهت سورة الكهف بهذا التذييل فى النسخة من.
[تمّ بعون الله تعالى وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ 12 شهر شوال سنة 1134] .(2/417)
كهيعص (1)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
سورة مريم عليها السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله، اسم عزيز من عبده واصل جهاده، ومن طلبه ودّع وساده، ومن عرفه أنكر أحبابه. ومن يسّر له أوقفه على محبته.
من ذكره نسى اسمه، ومن شهده فقد عقله ولبّه «1» .
اسم عزيز جبلّت القلوب على محبته، وكل قلب ليس يوقفه على محبته، فليس بحيلة يصل.
اسم ما اتصفت أشباح الأبرار إلا بعبادته، وما اعتكفت أرواح الأحرار إلا بمشاهدته.
اسم عزيز من عرفه اعترف أنه وراء ما وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1)
تعريف للأحباب بأسرار معانى الخطاب، حروف خصّ الحقّ المخاطب بها بفهم معانيها، وإذا كان للأخيار سماعها وذكرها، فللرسول- عليه السلام- فهمها وسرّها.
ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي فى الإنعام والانتقام، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحكم.
__________
(1) المقصود بفقد العقل واللب هنا غيبة التمييز فى حال الشهود.(2/418)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
ويقال فى الكاف تعريف بكونه مع أوليائه، وتخويف بخفيّ مكره فى بلائه.
ويقال فى الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نفسه قبل كتابة الملائكة الزّلّة على عباده.
والهاء تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه، وماله من الحق بحكم إحسانه.
والياء إشارة إلى يسر نعمه بعد عسر محنه. وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده.
والعين تشير إلى علمه بأحوال عبده فى سرّه وجهره، وقلّه وكثره، وحاله ومآله، وقدر طاقته وحق فاقته.
وفى الصاد إلى أنه الصادق فى وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 2]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
تخصيصه إياه بإجابته فى سؤال ولده، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 3]
إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)
وإنما ذلك لئلا يطّلع أحد على سرّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه، والاعتقاد بالسّوء فى نفسه، ثم أخفى سرّه عن الخلق لئلا يقع لأحد إشراف على حاله، ولئلا يشمت بمقالته أعداؤه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 4]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
أي لقيت بضعفي عن خدمتك ما لا أحبّه فطعنت فى السنّ، ولا قوة بعد المشيب فهب لى ولدا ينوب عنى فى عبادتك.
قوله جل ذكره: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
أي إنى أسألك واثقا بإجابتك لعلمى بأنى لا أشقى بدعائك فإنّك تحبّ أن تسأل.(2/419)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
ويقال إنك عوّدتنى إجابة الدعاء، ولم تردّنى فى سالف أيامى إذا دعوتك.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 5 الى 6]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
إنى خفت أن تذهب النبوة من أهل بيتي، وتنتقل إلى بنى أعمامى فهب لى ولدا يعبدك، ويكون من نسلى ومن أهلى.
وهو لم يرد الولد بشهوتة الدنيا وأخذ الحظوظ منها، وإنما طلب الولد ليقوم بحقّ الله، وفى قوله: «يَرِثُنِي» دليل على أنه كما سأل الولد سأل بقاء ولده فقال: ولدا يكون وارثا لى أي يبقى بعدي، ويرث من آل يعقوب النبوة وتبليغ الرسالة.
واجعله ربّ رضيا: رضى فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مرضيّا لك. ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضيا منك، وراضيا بتقديرك.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 7]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
أي استجبنا لدعائك، ونرزقك ولدا ذكرا اسمه يحيى تحيا به عقرة أمّه، ويحيا به نسبك، ويحيا به ذكرك، وما سألته من أن يكون نائبا عنك فيحيا به محلّ العبادة والنبوة فى بيتك.
«لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» : انفراده- عليه السلام- بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة أي لم يكن له سمىّ قبله فلا أحد كفو له فى استجماع أوصاف فضله.
ويقال لم نجعل له من قبل نظيرا لأنه لم يكن أحد لا ذنب له قبل النبوة ولا بعدها غيره «1»
__________
(1) هذا رأى في مذهب القشيري الكلامى يتصل بقضية هامة: هل يكون من النبي ذنب؟(2/420)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 8]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
سأل الولد فلمّا أجيب قال أنّى يكون لى غلام؟ ومعنى ذلك- على ما جاء فى التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدة طويلة فكأنه سأل الولد فى ابتداء حال سنّه، واستجيبت دعوته بعد ما تناهى فى سنّه، فلذلك قال: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟» .
ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد.. أمن هذه المرأة وهى عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفزشها؟ فالسؤال إنما كان لتعيين من منها يكون الولد. فقال تعالى:
[سورة مريم (19) : آية 9]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة فى هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرّ العادة ولادة مثل هذه المرأة دلالة ومعجزة لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد من وجه معجزة ومن وجه راحة وكرامة.
قوله جل ذكره: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً دلّت الآيه على أن المعدوم ليس بشىء لأنه نفى أن يكون قبل خلقه له كان شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 10]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
أراد علامة على علوق المرأة بالولد ولم يرد علامة يستدل بها على صدق ما يقال له.
فأخبره تعالى: أنبئك علامة وقت إجابتك.. إنّ لسانك لا ينطق معهم بالمخاطبة- ولو اجتهدت كلّ الجهد- ثلاثة أيام، وعليك أن تخاطبني، وأن تقرأ الكتب المنزّلة التي كانت فى وقتك. فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يكلّمهم، وإذا أراد أن يقرأ الكتب أو يسبّح الله انطلق مع الله لسانه.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 11]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)(2/421)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
أي فلمّا خرج عليهم عرّفهم- من طريق الإشارة «1» - أنّ اللسان الذي كان يخاطبهم به ليس الآن منطلقا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 13]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13)
أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة منّا، خصصناك بها.. لا قوة يد ولكن قوة قلب، وذلك خير خصّه الله تعالى به وهو النبوة.
ودلّت الآية على أنه كان من الله له كتاب.
«وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» أي النبوة، بعثه الله بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبّى.
ويقال الحكم بالصواب والحقّ بين الناس.
ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر.
قوله وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي آتيناه رحمة من عندنا، وطهارة وتوفيقا لمجلوبات التقوى وتحقيقا لموهوباتها فإن التقوى على قسمين: مجموع ومجلوب يتوصّل إليه العبد بتكلّفه وتعلّمه، وموضوع من الله تعالى ومرهوب منه يصل إليه العبد ببذله سبحانه وبفضله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 14]
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
«بَرًّا بِوالِدَيْهِ»
كأمر الله- سبحانه- له بذلك لا لمودّة البشر وموجب عادة الإنسانية.
ولم يكن متمردا عن الحق، جاحدا لربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 15]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
أي له منّا أمان يوم القيامة، ويوم ولادته فى البداية، ويوم وفاته فى النهاية، وهو أن يصونه عن الزّيغ والعوج فى العقيدة بما يشهده على الدوام من حقيقة الإلهية.
__________
(1) كأنما يقصد القشيري إلى بيان أنّ الإشارة تغنى عن العبارة وأنها بأمر إلهى.(2/422)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
وكذلك هو فى القيامة له منه- سبحانه- الأمان فهو فى الدنيا معصوم عن الزلة.
محفوظ عن الآفة. وفى الآخرة معصوم عن البلاء والمحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 17]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17)
اعتزلت عنهم لتحصيل يطهرها، فاستترت عن أبصارهم.
فلمّا أبصرت جبريل فى صورة إنسان لم تتوقعه أحسّت فى نفسها رعبا، ولم تكن لها حيلة إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 18]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
قالت مريم لجبريل- وهى لم تعرفه- إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يخاف ويتقّى منه أي إن كنت تقصد السوء. ومعنى قولها «بِالرَّحْمنِ»
ولم تقل:
«بالله» - أي بالذي يرحمنى فيحفظنى منك.
ويقال يحتمل أن يكون معناه: إن كنت تعرف الله وتكون متقيا مخالفة أمره فإنّى أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 19]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19)
تعرّف جبريل إليها بما سكّن روعها، وقرن مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام.
[سورة مريم (19) : الآيات 20 الى 21]
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)(2/423)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
قالت أنى يكون لى ولد ولم ألمّ بزلة ولا فاحشة؟ فقال جبريل- عليه السلام-:
الأمر كما قلت لك فلا يتعصّى ذلك على الله تعالى إذ هو أقدر أن يجعل هذا الولد دلالة على كمال قدرته، ويكون هذا الولد رحمة منه- سبحانه- لمن آمن، وسبب جهل للآخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 22]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
لمّا ظهر بها الحمل، وعلمت أنّ الناس يستبعدون ذلك، ولم تثق بأحد تفشى إليه سرّها.. مضت إلى مكان بعيد عن الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 23]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)
ألجأها وجع الولادة إلى الاعتماد إلى جذع النخلة. ولمّا أخذها الطلق، وداخلها الخجل من قومها نطقت بلسان العجز، وقالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» .
ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقا من قومها، لأنها علمت أنّهم سيبسطون لسان الملامة فيها بلسان الفجر وينسبونها إلى الفحشاء.
ويقال قالتها شفقة على قومها لئلا تصيبهم بسببها عقوبة.
ويقال قالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» حتى لم أسمع من قال فى الله تعالى بسببى إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريم زوجته ... تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا! ويقال «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» : فى الوقت الذي كنت مرفوقا بي، ولم تستقبلنى هذه الخشونة فى الحالة التي لحقتني.(2/424)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
ويقال «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» : فى الوقت الذي لم يكن قلبى متعلقا بسبب.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 24]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
«1» فى التفسير أنّ المعنيّ بقوله «مِنْ تَحْتِها» : جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام.
والمقصود منه تسكين ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولدا سريا.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 25 الى 26]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
وكان جذعا يابسا أخرج الله تعالى منه فى الوقت الثمرة، وهى الرّطب الجنىّ، وكان فى ذلك آية ودلالة لها فالذى قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى- عليه السلام- من غير أب.
ويقال عند ما كانت مجرّدة بلا علاقة، فقد كان زكريا- عليه السلام- يجد عندها رزقا من غير أن أمرت بتكلف، فلمّا جاءت علاقة الولد أمرت بهزّ النخلة اليابسة- وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد، ليعلم أنّ العلاقة توجب العناء والمشقة.
ويقال بل أمرت بهزّ النخلة اليابسة، وكان تمكنها من ذلك أوضح دلالة على صدقها فى حالها.
ويقال لمّا لم يكن لها فى هذه الحالة من يقوم بتعهدها تولّى الله تعالى كفايتها ليعلم العالمون أنه لا يضيع خواصّ عباده فى وقت حاجتهم.
قوله جل ذكره:
__________
(1) السرى- السيد الكريم، وقيل هو نهر صعير أو جدول.(2/425)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
كفاها أسباب ما احتاجت إليه من أكلها وشربها، وسكّن من خوفها، وطيّب قلبها.
«فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً» : فلا تخاطبيهم وعرّفيهم- بالإشارة- أنّك نذرت للرحمن الصمت مع الخلق، وترك المخاطبة معهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 28]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
بسط قومها فيها لسان الملامة لما رأوها قد ولدت- وظاهر الحال كان معهم- فقالوا لها على سبيل الملامة: يا من كنا نعدّك فى الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح.. من أين لك هذه الحالة الشنعاء؟
ويقال كان أخوها اسمه هارون: ويقال كان هارون رجلا فاسقا فى قومهم، فقالوا:
يا شبيتهه فى الفساد.. ما هذا الولد؟
ويقال كان هارون رجلا صالحا فيهم فقالوا: يا أخت هارون، ويا من فى حسابنا وظنّنا ما كان أبواك فيهما سوء ولا فساد.. كيف أتيت بهذه الكبيرة الفظيعة؟! قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 29]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
فى الظاهر أشارت إلى الولد، وفى الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا: كيف نكلّم من هو أهل بأن ينوّم فى المهد؟!(2/426)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
ف «كانَ» هاهنا فى اللفظ صلة.. وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 30]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
لما قالوا ذلك أنطق الله عيسى حتى قال: إنى عبد الله، فظهرت براءة ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثله. وجرى على لسانه حتى قال: إنى عبد الله ليقال للنصارى إن صدق عيسى أنه عبد الله بطل قولكم إنه ثالث ثلاثة، وإن كذب فالذى يكذب لا يكون ابنا لله، وإنما يكون عبدا لله، وإذا لم يكن عبد هواه، ولا فى أسر شىء سواه فمن تحرر من غيره فهو فى الحقيقة عبده.
و «آتانِيَ الْكِتابَ» : أي سيؤتينى الكتاب أو آتاني فى سابق حكمه.
«وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» بفضله. وفى الآية ردّ على من يقول إن النبوة تستحقّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك فى حال ولادته ولم تكن منه بعد عبادة وأخبر أن الله جعله نبيا «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 31 الى 32]
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32)
أي نافعا للخلق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزّلّة التي فيها هلاكهم، ومن استضاء بنوره نجا. فهذه بركاته التي كانت تصل إلى الخلق. ومن بركاته إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخلق، وكفّ الأذى عنهم وحمل الأذى منهم.
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يجعلنى غير قابل للنصيحة.
__________
(1) فى موضع آخر حاول القشيري ان يوضح ضرورة استقلال عمل الإنسان والنظر إليه بعين الاستصغار رغبة منه في ربط كل شىء بالفضل والاجتباء الإلهيين، فاستشهد بأن عيسى صار نبيا- وهو بعد لم تكن منه طاعة ولا عمل.(2/427)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
ويقال «شَقِيًّا» : أي متكبرا متجبرا. ويقال مختوما بكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 33]
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قال عيسى عليه السلام: «وَالسَّلامُ عَلَيَّ» ، وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج:
«السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» .. فشتان ما هما! والسلام بمعنى السلامة، أي سلامة لى يوم الولادة مما نسبوا إلىّ من قول النصارى في مجاوزة الحدّ فى المدح، ومما وصفنى به اليهود من الذمّ «1» ، فلست كما قالت الطائفتان جميعا.
وسلام علىّ يوم أموت ففى ذلك اليوم تكون لى سلامة حتى تكون بالسعادة وفاتي.
وسلام علىّ يوم أبعث أي سلامة لى فى الأحوال ممّا يبتلى به غير أهل الوصال.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 34]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
أي الذي قال ما أخبر الله عنه هو عيسى ابن مريم ... أيكون بقول إله؟
وقد شكّ فيه أكثر الخلق فردّه قوم وقبله قوم، والفرق بينهما فى استحقاقه «2» .
وقوله: «قَوْلَ الْحَقِّ» أي يكون بقوله الحق وهو:
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : الآيات 35 الى 36]
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
لا يجوز أن يكون له ولد على الحقيقة لأنه واحد، والولد بعض والده.
__________
(1) فقد اتهم اليهود امه بالزنا.
(2) أي فى نصيبه من الحق الفارق بين الردّ والقبول.(2/428)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
ولأنه لا داعى له إلى صحبة زوجة فيكون له ولد على الحقيقة. ولا يجوز عليه التبني لأحد لعدم الجنسية بينهما.
وقوله: «وَإِذا قَضى أَمْراً ... » إذا أراد إحداث شىء خلقه بقدرته، وخاطبه بأمر التكوين «1» ، ولا يتعّصى عليه- فى التحقيق- مقدور.
«وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» أي أمرنى بأن تعلموا ذلك وأمرنى بتبليغ رسالتى، واتباع ما شرع الله من العبادات.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 37]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
فمن عجنت بماء السعادة طينته أطاع فى عاجله وما ضاع فى آجله، ومن أقصته القسمة السابقة لم تدنه الخدمة اللاحقة، وسيلقون غبّ هذا الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 38]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
صير معارفهم ضرورية، وأحوالهم كلّها معكوسة، والحجّة تتأكّد عليهم، والحاجة لا تسمع منهم، والرحمة لا تتعلّق بهم، فلا ترحم شكاتهم، ولا يسمع نداؤهم.
قوله جل ذكره:
[سورة مريم (19) : آية 39]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)
تقوم الساعة بغتة، وتصادفهم القيامة وهم غير مستعدين لها فيتحسّرون على ما فانهم.
ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سبقت لقوم الشقاوة- وهم فى محو العدم، ولآخرين السعادة- وهم بنعت العدم، ولم يكن من أولئك جرم بعد، ولا من هؤلاء وفاق بعد.
__________
(1) أي كن فيكون.(2/429)