[الجزء الاول]
مدخل
ترجع أهمية نشر هذا الكتاب إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما.
فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة 283 هـ) وقد طبعته السعادة فى عام 1908 م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض.
وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة 412 هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة 150 تفسير دار الكتب ص 221] .(1/3)
وعند ما ظهر حقائق التفسير، أحدث ضجة كبرى، فقد لقى معارضات شديدة من معاصريه وممن أتوا بعده، فانّهم بالابتداع والتحريف والقرمطة والتشيع ووضع الأحاديث على الصوفية يقول ابن الصلاح: (وجدت عن الإمام الواحدي أنه قد صنّف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر) وقال الذهبي فى «تذكرته» : أتى السّلمى فى «حقائقه» بمصائب وتأويلات للباطنية نسأل الله العافية تذكرة الحفاظ ج 3 ص 249.
ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج 4 ص 155) .
وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: «.... وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة 1839 ص 31) .
أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى) ، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم.
وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران) : «أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة 256، 257] .
وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج 1 ص 18) .(1/4)
نعم صدق الأستاذ الإمام، فالكتاب مملوء بدعاوى وحدة الوجود، وما جرّه هذا المذهب من ويلات، ولسنا هنا بصدد دراسة تفصيلية له، ولكننا نشعر بالحاجة إلى أن نسوق شواهد قليلة تثبت مجانبة هذا التفسير للحق، وكيف أنه لا يصح أن يكون نموذجا للاتجاه الصوفي السديد- كما حلا لجولد تسيهر أن يظهره ويتحمس له، ليخرج من ذلك بأحكام عامة يصدرها عن التصوف الإسلامى- كأنما يروى غليله.
ففى سورة المزمل عند قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا، يقول: (واذكر اسم ربك الذي هو أنت..) !! ج 2 ص 352.
وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) ، يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا، وظهورنا فى صوركم) ج 2 ص 291 وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله وحلّ فيها!! وليس من الإنصاف أن يقال للناس هذا هو رأى الصوفية المسلمين ولا رأى بعده، بل يجب أن نضع فى اعتبارنا أن مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفى يبتعد عن المنهج القلبي العرفانى الذي اختطه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود، وفى وحدة الشهود- ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع وباطنه سليم على حدّ تعريف أبى نصر السراج الطوسي للشطح- يبقى دائما شىء هام قوى ناصع أن العبد عبد والرب رب ولا تداخل ولا امتزاج ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته يصل إلى التحقق من ربوبيته الرب وتنزيهه عن كل إفك وباطل ... تعالى الله علوّا كبيرا.
ولا ينبغى لنا أن نغض الطرف عن قيمة التفاسير المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإن تبعثر هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حق قدرها، ذلك لأنها غالبا ما سيقت لتدعيم موقف أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة، فهى من هذه الناحية لا تخرج عن كونها تفسيرا صوفيا غير مجموع.
وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير الصوفية التي نعرفها كتابان أولهما «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لأبى محمد روزبهان بن أبى النصر البقلى الشيرازي المتوفى سنة 606 هـ[كشف الظنون ج 2 ص 21](1/5)
وثانيهما التأويلات النجمية» لنجم الدين داية المتوفى سنة 654 هـ وقد مات قبل أن يكمله فأكمله علاء الدولة السمناني المتوفى 736 هـ (كشف الظنون ج 1 ص 238) .
لأجل هذا كله نحتفل «بلطائف الإشارات» فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد، ولا يصحّ أن يكون نموذجا صالحا لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق.
«لطائف الإشارات» سفر نفيس كتبه صاحبه محاولا أن يوفّق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة، وقاصدا إلى هدف بعيد أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأن أي كلام يناقض ذلك خروج على أىّ منهما وعلى كليهما (فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، الشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده) الرسالة القشيرية ص 46.
وهذا ما حدث فعلا.. فأنت خلال قراءة «اللطائف» تشعر أن كل صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا فى النص القرآنى كالذكر والتوكل والرضا، والولي والولاية والحق والظاهر والباطن، والقبض والبسط ... إلخ فلا تملك إلا أن تحكم أن الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة ولا مستوردة كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامى بالتأثر بالتيارات الأجنبية: اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية ونحوها.
كذلك تلحظ عبقرية القشيري إزاء اللفظة أو الآية حيثما لا يكون فيها اصطلاح صوفى، فإنه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات فى الصحبة والصاحب، ومن علاقة النبي بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات رائعة تتصل اتصالا وثيقا بالرياضيات والمجاهدات أو بالمواصلات والمكشوفات.
وربما قيل إن صنيع القشيري مسبوق وملحوق، ولكن ها نحن منذ قليل أوضحنا مقدار ما أصاب التفاسير الصوفية من سهام النقد، وبقي أن نتعرف الأسباب التي جعلتنا نحكم بأن لطائف الإشارات، خير مناضل عن التفسير الصوفي بعامة، بل بأنه من أفضل الأعمال(1/6)
التي أنتجتها قرائح الصوفية فى شتى العصور، وربما يبدو فى ذلك بعض التعميم مع أن الأحكام العلمية ينبغى ألا تخضع للتعميم لأننا لا نستطيع أن ندّعى المعرفة الشاملة بكل التراث الصوفي، ونعترف أن عشرتنا مع الكتاب وصاحبه عشر سنوات كاملة أثناء إعداد بحثى الماجستير والدكتوراه فى الموضوعات الصوفية، ونعترف أن حماسنا لما نلحظه من الاعتدال عند القشيري دون سائر الباحثين، ونعترف أنّ ما كنا نشعر به من وجوه النقص فى سائر المصنّفات التي نهض بها غيره فى هذا الخصوص- كلّ ذلك ربما كان الدافع إلى لجوئنا إلى هذا الحكم الذي سقناه.
ومن أعجب الأمور أن القشيري يشتهر «بالرسالة» التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الأسانيد المنسوبة إلى الشيوخ فى موضوعات بعينها، ومجموعة من التراجم لأبرز الشيوخ الذين ظهروا منذ نهاية القرن الثاني الهجري حتى بداية القرن الخامس فى صفحات قليلة ربّما أغنت عنها الكتب المطوّلة التي وضعت خصيصا لهذا الغرض مثل تذكرة العطار أو طبقات السلمى أو طبقات الشعراني ونحوها. ومع تقديرنا «للرسالة» إلا أننا لا نعتبرها بحال من الأحوال أفضل أعمال القشيري، وأنها ظلمته حين شهرته، وحين أوقفت اسمه عليها، وأصبح حتما منذ الآن أن يقول الناس «القشيري صاحب اللطائف» لا صاحب «الرسالة» . فاللطائف هى أبلغ أعماله التي تزيد على العشرين- فى نقل صورة واضحة لشخصيته، ولست أدرى لماذا لم يجد هذا الكتاب ما هو جدير به من الاهتمام فى العصور الماضية؟ لماذا حكم عليه دائما أن يبقى فى منطقة الظل؟ حتى صار ما نعرفه عن نسخه كما نفهم من «تذكرة النوادر» وكما يقول بروكلمان- محدودا ومبعثرا بين روما وبرلين واسطنبول وتونس والهند والقاهرة، ومعظمها كما سنذكر بعد قليل غير كامل.
ولكى ندرك أهمية هذا الكتاب فى تصحيح كثير من المقاييس العلمية عن التصوف والتفسير الصوفي لا بدّ لنا أن نلم بشىء من سيرة صاحبه، ونكتفى من معالم هذه السيرة بما يمكن أن يتبرر به وصول هذا العمل الجليل بتلك الأوصاف وإلى تلك النتائج. وذلكم هو العامل الثاني لأهمية نشر هذا الكتاب:
ثانيا: صاحب هذا الكتاب هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ولقبه زين الإسلام، وشهرته القشيري.(1/7)
ولد فى ربيع الأول عام 376 هـ الموافق يوليو 986 م.
وتوفى فى يوم الأحد السادس عشر من ربيع الآخر عام 465 هـ وهو عربى النسب من جهة أبيه فهو من قبيلة قشير العدنانية المتصلة بهوازن، ويذكر ابن حزم أن سلالات من قشير اتجهت إلى المغرب نحو الأندلس إبّان الفتح الإسلامى زمن الأمويين، واتجه بعضها إلى المشرق وكان منها ولاة وقواد على خراسان ونيسابور. (جمهرة الأنساب 273 و 459) كذلك فإن القشيري عربى النسب من جهة أمه فهى سلمية وأخوها أبو عقيل السلمى من وجوه دهاقين أستوا، واستوا هى الناحية التي ولد فيها القشيري وتلقى بها تعليمه الأولىّ.
وحدث أن اجتاحت المنطقة ضائقة اقتصادية، ففكر الأهالى فى إرسال لفيف من أبنائهم إلى نيسابور لكى يتلقوا من دروس الحساب ما يمكّنهم- بعد عودتهم- من المشاركة فى تنظيم الأمور الاقتصادية، وكان القشيري أحد هؤلاء الأبناء.
وبدأ القشيري فى نيسابور يتهيأ لهذا اللون من الدراسة، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها عند ما اجتذبته مجالس الفقه والكلام والحديث والتفسير والأدب، ولم تبخل نيسابور عليه بزاد، فلقد كانت فى ذلك الوقت تعج بالنشاط الفكرى، وتحفل بكبار الشيوخ أمثال ابن فورك، ومحمد بن أبى بكر الطوسي، وأبى إسحق الاسفرايينى، وقد ظفر القشيري فى كنف هؤلاء الأئمة برعاية خاصة حينما أتيح له الاتصال بهم، وأتيح لهم معرفته عن قرب، ووضح لهم فيه حسن الاستعداد، والدأب، واستقامة الخلق.
ولم يكن القشيري يضيع فترة ما بعد الدرس هباء، بل كان ينكب على القراءة والاستذكار وكان شديد الولع بالعلوم العقلية، وبخاصة تلك التي تتناول المسائل التي طالما اشتجر الخلاف حولها بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، واستوعب فى هذه الفترة معظم ما صنّف الباقلاني.
وجاء يوم سأل فيه الإمام الاسفرايينى تلميذه القشيري- حين وجده لا يكتب كما يكتب سائر الطلاب: أما علمت يا بنى أن هذا العلم لا يحصل بالسماع؟
(ولكن القشيري أعاد عليه كل ما سمعه، وقرره أحسن تقرير، من غير إخلال بشىء فتعجّب منه وأكرمه، وقال له ما كنت أدرى يا بنى أنك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درس يكفيك أن تطالع مصنفاتى، وتنظر فى طريقتى، وإن أشكل عليك شىء طالعتنى به(1/8)
ففعل ذلك، وجمع بين طريقة الاسفرايينى وطريقة ابن فورك) طبقات الشافعية للسبكى ج 3 ص 243 وما بعدها.
وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض.
ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه.
وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا:
- إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل.
وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها) ، وفيات الأعيان ج 2 ص 375.
وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق.(1/9)
فكان هذا الاتصال عاملا جديدا من عوامل الاستقرار النفسي، وبداية لمرحلة جديدة من النضج الفكرى، لأنه أتاح له أن يجد فى صهره شيخا ورائدا وصديقا، وسهّل عليه أن يهرع إليه يستنصحه إزاء كل مسألة تعرض له أو أمر ينبهم عليه، فلم يقع تحت تأثير بلبلة، ولم يخضع لأزمة، ولم تتجاذبه ضغوط أو صراعات.
كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل.
ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه.
يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- رحمه الله- فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله عزّ وجلّ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص 147.
وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق،(1/10)
لأن هذه الكلمة على إيجازها لا تكشف لك عن سمات الدقاق وحسب إنما هى سمات، القشيري ذاته فى أدق التفاصيل.
يقول المناوى «هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى الشافعي، كان لسان وقته وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة، سرّىّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفال والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدّت إليه الرّحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي، قال ابن شهبه: وزاد عليه حالا ومقاما ... وقد أخذ عنه القشيري صاحب «الرسالة» وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة 104 هـ كلام المناوى بعد أن أخذ يضرب أمثلته لأقواله المنثورة والمنظومة [الكواكب الدرية فى تراجم الصوفية ترجمة الدقاق] .
أمّا فى مجال الصداقة فلعلّ أوثق من نعرف اتصالا به صديقه أبو عبد الرحمن السلمى وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين.
وترجع أهمية السّلمى فى حياة القشيري إلى أنه غزير الإنتاج فى العلوم الصوفية، وأن القشيري استفاد من علمه، وآية ذلك أنك تجد السلمى فى «الرسالة» حلقة اتصال بارزة فى العديد من الأسانيد والأخبار التي عليها يعتمد القشيري موصولة بالدارقطنى والسّراج والنصرآباذي وغيرهم، ولكن الأهم من ذلك- فى تقديرنا- أن القشيري استفاد من السّلمى فائدة أبعد أثرا، ذلك أنه تجنّب التورط فى المزالق التي أدّت بصديقه إلى أن يتّهم وأن يكون موضع نقد معاصريه ومن جاء بعده، وقد نوّهنا بشىء من ذلك عند كلامنا عن «حقائقه» .
أمّا الجويني فقد كان- كالقشيرى- شافعيا من حيث المذهب الفقهي، أشعريا من حيث العقيدة الكلامية، وقد تعرّض- كالقشيرى- لآلام المحنة التي اكتوى بنارها الأشاعرة، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهاجر البلاد وجاور الحرمين، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد انجلاء الغمّة.
وإذا كان السّلمى صديقا أقرب إلى الأستاذ فإن الجويني كان صديقا أقرب إلى التلميذ، فقد استفاد من علم القشيري، فإذا تذكرنا أن الجويني أستاذ الغزالي أمكن أن نقول إن(1/11)
القشيري موصول بالغزالي لا بطريق المصنفات التي خلّفها وحسب بل بطريق السّند الذي يمثله الجويني.
وفى مجال الحياة العملية نجد القشيري يضطلع بأعمال تتفق واستعداده وثقافته، فقد اشتغل بالتدريس فى مسجد المطرز وهو فى الثلاثين من عمره ويتضح ذلك من هذا النص:
«كنت فى ابتداء وصلتي بالاستاذ أبى علىّ- رضى الله عنه- عقد لى المجلس فى مسجد المطرز، فاستأذنته وقتا للخروج إلى «نسا» ، فكنت أمشى معه يوما فى طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عنّى فى مجالسى أيام غيبتى.... إلخ» الرسالة ص 116.
وإلى جوار ذلك كان القشيري يعكف على التأليف دون انقطاع فانتهى من التفسير الكبير المعروف (بالتيسير في التفسير) قبل عام 410 هـ، ومن اللطائف عام 434، ومن الرسالة عام 437 واستمر يمارس هذا النشاط فى دأب لا يعرف الكلال حتى وصلت كتبه إلى خمسة وعشرين كتابا أو نحوها، ومن أهمها إلى جوار ما سبق: ترتيب السلوك، والتحبير فى التذكير، والأربعون حديثا، وشكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، واستفادات المرادات، والقصيدة الصوفية، والتوحيد النبوي، واللّمع، والفصول، والفتوّة، ونحو القلوب الصغير، والكبير، والمقامات الثلاثة، وفتوى، والمعراج.
ولم يطبع من هذه الكتب إلا النذر اليسير، وفى النية أن نقوم- بعون من الله- بإخراج ما وقع لنا منها خلال رحلات طويلة عديدة، حتى يزداد الناس علما به وتقديرا له.
ولم يسلم القشيري خلال حياته من المحن والآلام، وربّما كانت أشدها جميعا ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ووزيره اللعين الكندري.
كان السلطان طغرل سنيا حنفيا، ووزيره أبو نصر الكندري معتزليا رافضيا، خبيث العقيدة، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال، والقدر، وكان متعصبا فى ذلك أشد التعصب.
وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامة والخاصة نفوذ كبير، ومحبة فائقة، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعية،(1/12)
وكان كثير المال جوادا، وكان مرموقا بالوزارة، وداره مجتمع العلماء، وملتقى الأئمة، ونظرا لما عرف عنه من تعلّق بالمذهب الأشعري، وذود عنه، وسعى حثيث لنشره فقد ألهب ذلك حقد الكندري، خاصة وقد كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه، فمضى يلفق- لدى السلطان- عنه التهم. ولم يكتف بذلك بل لجأ إلى حيلة دنيئة حين حصل من السلطان على تفويض بسبّ المبتدعة على المنابر، فلم يجد السلطان فى ذلك بأسا، فوافق عليه، ولكن الكندري استغل هذه الموافقة فأقحم اسم أبى الحسن الأشعري ضمن المبتدعة الواجب سبّهم، وكل من كان يرفض الانصياع لذلك من الوعاظ والخطباء يفصل من عمله، ويطرد من البلاد، فنجم عن ذلك شر خطير، وفتنة كبرى امتد شررهما إلى سائر المشرق، وبات الأشاعرة فى حزن مقيم.
وفى وسط هذه المحنة، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق، ونفيهم، ومنعهم من المحافل، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر.
أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان، واتجه إلى الحجاز، وهناك جاور، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي.
وبقي السجينان الجليلان فى المحبس، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق.
فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما، حتى لقد خصص الخليفة العباسي- القائم بأمر الله- له مجلسا خاصا فى مسجد قصره، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه، ويكرمه، ويحظى ببركته.(1/13)
وقد وصف الخطيب البغدادي (صاحب تاريخ بغداد) مقدار إعجاب الناس بالقشيري، وكان هو نفسه أحد تلاميذه حيث يقول (حدّثنا وكتبنا عنه وكان ثقة) .
(تاريخ بغداد ج 10 ص 83) .
وذهب القشيري الحج، وهناك التقى بصديقه الجويني وبعدد كبير من الأئمة الذين شردتهم المحنة طوال سنوات عديدة، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم، واستقر رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة حتى يتم الاتفاق على مبدأ ثابت يسرى عليهم جميعا، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيري.
فصعد المنبر، وظل يتكلم، وهم يجدون لكلامه وقعا مؤثرا على قلوبهم وعقولهم، ثم مرّت لحظات صمت، بعدها شخص القشيري ببصره إلى السماء ضارعا ثم أطرق، والناس من حوله يتابعون أمره، ويتفرّسون ملامحه ... ثم قبض على لحيته وصاح بصوت عال:
«يا أهل خراسان.. بلادكم بلادكم، إن الكندري غريمكم يقطّع الآن إربا إربا، وإنى أشاهده الساعة وقد تمزّقت أعضاؤه ثم أنشد:
عميد الملك ساعدك الليالى ... على ما شئت من درك المعالي
فلم يك منك شىء غير أمر ... بلعن المسلمين على التوالي
فقابلك البلاء بما تلاقى ... فذق ما تستحق من الوبال
(تبيين كذب المفترى لابن عساكر ليدن ص 93) ويقول السبكى فى طبقاته: (وضبط التاريخ فكان ذلك اليوم بعينه وتلك الساعة بعينها قد أمر السلطان بأن يقطع الكندري إربا إربا. وأن يرسل عضو منه إلى كل مكان) السبكى فى «طبقات الشافعية» ج 2 ص 272.
وهكذا عاد القشيري بعد هذه السنوات العشر الثّقال (من 445 إلى 455) إلى بلاده، وهى وإن كانت أقسى فترات عمره، وأشدها آلاما إلا أنها كانت حافلة بالتجارب، وأعانته على زيادة خبرته بالحياة والأحياء، وساعدت على توثيق الصلة بينه وبين الأوساط العلمية والأدبية خارج المشرق، ودفعته إلى أن يصنّف العديد من المصنفات المتصلة بالمذهب الأشعري(1/14)
وبخاصة كتابه الجليل القدر «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» ، وهى قبل كل شىء وبعد كل شىء آية ثباته على مبدئه، وأنه خليق أن يتصدّر المفكرين الأحرار فى جيله.
وجاء السلطان ألب أرسلان خلفا لعمه طغرل، وبمجىء أرسلان ووزيره الهمام الفذ نظام الملك استقبل العالم الإسلامى كله والأشاعرة بوجه خاص والقشيري بوجه أخص عهدا زاهرا آمنا، وعاد القشيري إلى مدينته الحبيبة نيسابور حيث قضى بها بقية عمره، وقضى بها عشر سنوات (كان فيها مرفها محترما، ومطاعا معظما، وأكثر صفوه فى آخر أيامه التي شاهدناه فيها آخرا، وازداد من يقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إليه من نصرة المذهب حتى بلغ المنتمون إليه آلافا، فأملوا تذكيره وتصانيفه أطراف) «تاريخ نيسابور لعبد الغافر الفارسي حفيد القشيري» .
وكان نظام الملك أحد تلاميذه والمقربين إليه، وأعاد الوزير- بفضل توجيه القشيري- للأشاعرة وللزهاد وللعلماء كل ما فقدوه إبّان المحنة الأليمة من كرامة وحظوة.
أمّا أبناء القشيري فلا نعرف له إلا بنتا واحدة هى أمة الرحيم أم عبد الغافر الفارسي (قاموس الأعلام باللغة الأوزبكية ط اسطانبول سنة 1314 ص 3080) .
ونعرف له ستة أبناء كلهم عبادلة وكلهم أئمة، سلكوا مسلك أبيهم وقد ترجم لهم السبكى فى طبقاته كما تحدّث عنهم ابن عساكر وابن خلكان.
ولهذا ينبغى أن نتحفظ فى نسبة الأقوال المنسوبة إلى القشيري فى بعض المراجع فقد تكون هذه الأقوال صادرة عن أحد أبنائه فهم جميعا أشاعرة وهم جميعا شافعية وهم جميعا سلكوا طريق الإرادة.
لبث القشيري فى نيسابور فى أخريات حياته لم يكد يبرحها إلا لزيارة أقاربه فى البلاد المجاورة مثل نسا وأبيورد، ولكنه كان يعود مسرعا إلى نيسابور بعد كل زيارة.
وقبل أن تبزغ شمس السادس عشر من ربيع الآخر من عام 465 هـ، كانت روحه الطاهرة قد عادت إلى بارئها. فوورى جثمانه إلى جوار صهره وشيخه وملهمه وصديقه أبى على الدقاق فى مقبرة خاصة بالأسرة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر يزورها الناس للتبرك.(1/15)
من خلال هذه السيرة التي حاولنا إيجازها نستطيع أن ندرك أهمية الكتاب الذي نقدم له.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم- كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ- وهو يستخرج إشارة من العبارة- إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني(1/16)
ليؤدى الفرائض الواجبة عليه ثم يعود إلى حالة الجمع مرة أخرى، ويكون فى كل أحواله مصرّفا بإرادة مولاه. كذلك فإن من كان صادقا فى بدايته ووسيلته وغايته كان محفوظا- من قبل الحق- فى كل كلمة ينطق بها أو كل حركة تصدر عنه، فإذا نطق نطق بالله، وإذا تحرّك تحرّك بالله. ومثل هذا العبد لا ينتظر منه- وهو فى يد الله على هذا النحو- أن يكون غريب الأقوال أو غريب الأفعال. فالصدق هو عمدة الأمر فى هذا السبيل- كما يرى هذا الإمام الجليل.
ثالثا: ننتقل بعد ذلك إلى العامل الثالث فى أهمية إخراج هذا الكتاب، وهو فى هذه المرة يعود إلى النسخة أو النسختين اللتين نعتمد عليهما فى التحقيق.
النسخ الكاملة من «اللطائف» نادرة فهى حسبما تقول تذكرة النوادر لا تزيد على خمس إحداها فى خزانة بانكى پور مكتوبة فى القرن التاسع، والثانية فى المكتبة الحبيبية تاريخ كتابتها عام 844 وهى ناقصة من أولها، والثالثة فى الخزانة الآصفية بخط قديم جدا، والرابعة فى مكتبة الجامعة العثمانية بحيدرآباد مكتوبة بخطوط مختلفة سنة 726 والخامسة فى مكتبة محمد باشا باسطنبول.
غير أننا نعتقد أن هناك عددا أكبر من النسخ يزيد عما ذكرت التذكرة وأنها منبثة فى أنحاء متفرقة من العالم، ونرجح أن النسخ الكاملة نادرة جدا كما يشير بروكلمان. وإنه لمن دواعى التوفيق أن يتاح لنا أن نحصل- لأول مرة- على الكتاب كاملا، فقد وجدنا فى مدينة طشقند عاصمة جمهوريات أوزبكستان السوفيتية فى المركز الديني لمسلمى آسيا الوسطى وقازاخستان نسخة شبه كاملة تحت رقم 1302 تفسير تبدأ بمقدمة بقلم القشيري- وهى على جانب كبير من الأهمية- لأنها تكشف عن منهجه فى الدراسة، ثم بعدها الفاتحة والبقرة و.... حتى سورة قريش، ومعنى ذلك أنها تنقص فقط سور الماعون والكوثر والكافرون والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس. وهذه السور القصيرة موجودة فى النسخة الأخرى التي عندنا فى مصر ورقمها 266 تفسير (أنظر فهرس الخزانة التيمورية ط تفسير ص 230) والتي تبدأ بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ... ) فى سورة الأنبياء وقد قمنا بنسخ هذه المخطوطة، كما قمنا بالتقاط صورة بالميكروفيلم للنسخة الطشقندية ثم أجرينا تصويرها(1/17)
وتكبيرها بحيث تسهل قراءتها وكانت النسختان المادة الأساسية التي اعتمدنا عليها أثناء إعداد الدكتوراه عند كلامنا عن القشيري المفسّر.
النسختان إذا تتكاملان، ويصبح هذا السفر النفيس كاملا، ويقع فى نحو ألف ومائتين صفحة، اخترنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء تصدر متلاحقة فى مدى عام أو عامين حسبما تساعدنا الظروف ويرزقنا الله العافية.
وصف عام للنسخة السوفيتية
تبلغ أوراقها 597 ورقة، والأرقام التي كتبها الناسخ مطموسة فى كثير من الأحيان ولذا حرصنا عند تكبير الميكروفيلم والتصوير والطبع أن نرقمها نحن من خلف حتى لا تضطرب الأمور عند القراءة والدراسة.
وعلى الورقة الأولى توجد تعليقة مكتبة الإدارة الدينية هكذا:
تفسير أبو القاسم القشيري
200- صو ا 1302- II 35 أما الورقة الثانية فيبدو أنها كانت خالية فملأها أحد القراء بأحاديث وشواهد شعرية وكتابة باللغة الفارسية.
ثم تبدأ مقدمة الكتاب بقلم القشيري منذ الورقة الثالثة.
وقد وقع خطأ فى ترقيم الصفحات، فبينما نجد الحديث متصلا غير منقطع بعد الورقة 214 نجد رقم الورقة التالية هو 225 بدلا من 215، وهناك خطأ آخر ربما حدث قبل تغليف الكتاب: فالأوراق من 394 إلى 401 كلها موجودة عقب الورقة 431 دون أن يحدث خلل أو سقوط، ومعنى هذا أن الكتاب رغم هذا- كامل لم يضع منه شىء.
كذلك يقع تفسير أواخر طه وأوائل الأنبياء- خطأ- ضمن تفسير الفرقان. وقد صححنا هذا الوضع.(1/18)
ونظرا لعدم اكتمال النسخة من آخرها- كما قلنا من قبل- فلقد كنا نخشى أن يغيب عنّا التذييل الذي يذكر فيه الناسخ اسم وتاريخ انتهائه من عمله كما جرت العادة، ولكن لحسن الحظ وجدناه قد قسّم الكتاب قسمين كبيرين ينتهى القسم الأول بنهاية تفسير سورة الكهف ورقة 378، وعندها كتب هذه العبارة باللغة الفارسية المختلفة بالعربية:
(تمّ بعون الله وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ شهر شوال سنة 1224) .
ومن هذه العبارة يتضح أن الناسخ غير عربى، وأنه ربما كان فارسيا أو أفغانيا أو أوزبكيا أو أذربيجانيا، فكثرة من سكان أفغانستان وأزبكستان وأذربيجان يعتبرون الفارسية لغة اتصالهم بالعلوم الإسلامية حتى اليوم.
وقد نجم عن كون الناسخ فارسيا جنسا أو لغة أن كتابته ومراعاته للإملاء لم تكونا جيدتين، وكان علينا أن نقرأ الكتاب قراءة متفحصة لنحاول أن نحدد الطريقة التي اتبعها، لأنها- بما فيها من خطأ أحيانا أو خروج على المألوف فى الرسم أحيانا أخرى- هى التي جرى عليها عند نقله من النسخة الأخرى التي يحتمل أنها تجرى على هذا النحو، وربما كان الناسخ ينقل على نحو يكون مفهوما لديه، وميسور القراءة له وحده.
وهو لا يهتم بضبط الكلمات، ولا بترقيم العبارات فليس هناك ضبط أو فاصلة أو علامات استفهام أو أقواس أو علامات تعجب أو نحو ذلك. وقد وقع الناسخ فى أخطاء عديدة أثناء النسخ، وربّما كان مسئولا عن ذلك أو يحتمل أن النسخة التي نقل عنها بهذا الوصف.
وهامش النسخة وبخاصة فى القسم الأول من الكتاب حافلة بالتعليقات، بعضها مكتوب بالفارسية قصد منها شرح المفردات وترجمتها.
وهناك عناوين جزئية مكتوبة باللغة العربية بخط حسن تشير إلى موضوعات متنوعة ربما قصد بعض القراء إلى أن يجمعها ليستفيد منها، وليحدد موقف المصنّف إزاءها مثل (الروح- حقوق الوالدين- الدعاء- النّفس ... إلخ) .
وعند ما كانت تسقط بعض الكلمات أو العبارات من الناسخ أثناء النقل كان يستدرك(1/19)
فيضع علامة مميزة على آخر كلمة فى المتن بدأ بعدها السقوط ويضع العلامة نفسها فى الهامش فوق الكلمة أو العبارة الساقطة، فإذا تكرر السقوط فى الصفحة الواحدة ميّز كل موضع وكل مستدرك بعلامة مباينة. كذلك فإنه كان يضع علامة خاصة عند ما يعيد كتابة كلمة أو عبارة أو سطر بدون داع حتى يلفت نظر القارئ إلى ما وقع فيه من سهو.
ولم يحدث أن وضع الناسخ ترجمة فارسية لكلمة داخل المتن بل كان يكتب الترجمة أسفل نظيرها، اللهم إلا فى حالة واحدة داخل شاهد شعرى:
آن كه شاد شود در عطا دادن ومعناها: أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء.
ونستبعد أن القشيري يفعل ذلك، فعلى الرغم من إتقانه للغة الفارسية إلا أنه حرص فيما نعرف له من مصنفات أن يكتب بالعربية خالصة.
ويبدو أن النسخة أتيح لها أن تراجع ذات مرة، فهناك تصحيحات مختلفة فى رسم الكتابة موجودة فى الهامش فى أماكن مقابلة لموضع التصحيح فى المتن. ومن أمثلة ذلك ما جاء فى الورقة 350 أول سورة الإسراء (وتوحّد بعلو قعونه) تصحح فى المراجعة (وتوحّد بعلو نعوته) .
وفى الورقة 361 (لبلاء أو شدة يقاليها) تصحح فى الهامش (لبلاء أو شدة يقاسيها) .
وفى الورقة 372 جاء فى سياق وصف الدنيا (نعمها مشوقة بنقمتها تصحح فى المراجعة (نعمها مشوبة بنقمها) .
وقد كنا نحكّم الدقة عند الاستفادة من هذه المراجعة لأننا نفترض أنها قد تكون نوعا من الاجتهاد الشخصي وليست تصويبا على نسخه أفضل.
بقي شىء هام جدا، وهو توضيح موقفنا من أخطاء الناسخ، ويمكن أن نقول إننا اتخذنا منها ثلاثة مواقف.
(ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكّدا ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.(1/20)
(ب) موقفا فيه الخطأ شبه مؤكد وعند ذلك نكتب فى المتن ما نراه صوابا دون أن نترك الأمر على عواهنه بل نثبت فى الهامش ما جاء فى النسخة، موضحين أسباب رفضنا لما كتبه الناسخ حتى نضع أمام القارئ صورة أمينة لما نقوم به من عمل، وكان المفروض أن نكتب كل ما كتب الناسخ فى المتن وأن نصوّب ما نراه فى الهامش ولكن هذه الأخطاء كثيرة جدا بحيث تعوّق القراءة، وتشق على الدارس.
(ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا ... أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب.
أمّا المشتبهات فنضع مكانها نقطا بين أقواس ونشير إليها فى الهامش، وليس لنا فيها حيلة إلا إذا ظهرت لنا نسخة من الكتاب أكثر وضوحا.
وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش.
وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له، وله أن يرفض.
ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة، على أننا نعد- إن أعاننا الله- أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة.(1/21)
النسخة المصرية
تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ... ) حتى نهاية الكتاب، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور، كما أنها ساعدت- نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها- على التقليل من المشتبهات، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني.
ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء.
منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته
صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن، وسائله وغاياته.
أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج 2 ص 257 ط ثالثة سنة 1339 غير صحيحة حيث يقول:
«لطائف الإشارات فى حقائق العبارات» .
ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ- مفردة أو مركبة- دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم- بفضل من الله- العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر.
وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة، وصفّى نفسه من كل كدورة، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة: دراسة كلام الحق جلّ ذكره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(1/22)
وفى ذلك يقول القشيري فى مقدمته: «أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضمنه من دقيق إشاراته وخفّى رموزه، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحق- سبحانه وتعالى- يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون، وعن لطائفه مخبرون، وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون» .
ويتضح- بادئ ذى بدء- أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك، وكان لديك استعداد ملائم، وخصصته بعنايتك، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة.
وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه- زورا أو خطأ- عن التفسير الإشارى السديد.
فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم(1/23)
افتيات الإشارة على العبارة، فلا تخرج بها عن مألوف ما ينسجم مع الأسلوب العربي سواء من حيث اللغة أو النحو أو الاشتقاق أو الفنون الأدبية، ولا تخرج بها عن الدلالات التي توافق أسباب النزول والأخبار الموثوقة وعلوم الحديث والأصول والفقه، فكأن الإشارة ليست انبعاثا تلقائيا محضا ولكنها مقيدة- منذ البداية- بالكثير من العلوم العقلية والنقلية فما أشبه موقف اللفظة القرآنية فى هذا المجال بموقف من يتهيأ لارتياد الطريق الصوفي فكلاهما يتعرّى عن ظاهره، وكلاهما يخضع لما تتطلبه المعارف العقلية والنقلية من شرائط البداية، وكلاهما يصبح صافيا رائقا يشف درجة بعد درجة كلما زاد الصعود وارتقى القصود..
فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب.
قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد.
ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء، ولا عقيدة باطنية مستورة، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله- جل ذكره، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟! وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة»(1/24)
فهو منذ الصفحة الأولى فى «رسالته» يحاول أن يعرّف بأن عقيدة الشيوخ «الذين بهم اقتداء» عقيدة سليمة لا تخرج في قليل أو كثير عن عقيدة التوحيد الرائقة الصافية، ثم يسير فى تراجم الشيوخ ليختار لك من أقوالهم وأخبارهم وأفعالهم ما يؤيد ذلك، ثم يبوّب رسالته إلى التوبة والزهد والتوكل والرضا والمحبة ... إلخ. ولا ينثنى عند استفتاح كل باب عن ذكر آيات من كتاب الله الكريم بعدها أحاديث وأخبار عن الرسول صلوات الله عليه..
لماذا كل ذلك؟ لكى يثبت أن هناك لقاء بين الشريعة والحقيقة، وأنهما وجهان لشىء واحد..
تلك هى الغاية القصوى التي يطمح إليها هذا الإمام الجليل، والتي من أجلها نذر عمره، وخصص جهده، ولم يضن عليها بشىء في استطاعته، ولم يفارقه الطموح إليها فى مصنّف من مصنفاته ... وما أعظمها وما أشرفها من غاية! فإذا كنّا أخرجنا من نطاق التفسير الإشارى هذه التفاسير المنسوبة لبعض المنتسبين للتصوف فأولى أن نخرج من هذه التأويلات الاعتزالية والشيعية والبدعية والإلحادية وغيرها مما تعتمد فى مباحثها على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدّامة، وارتكبت فى حق الظاهر القرآنى جرائم خطيرة حين أريد له أن يؤول لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة، وفى ذلك يقول التفتازانيّ فى شرح العقائد النسفية: «سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية» ، ويستدرك التفتازانيّ قائلا: «وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان ومحض الإيمان» (شرح العقائد النسفية ط الحلبي سنة 132 هـ) .
والذي نحمده للقشيرى وينبغى أن نشيد به فى هذا التقديم أنه حرص أشد الحرص على النص القرآنى، وأنه التزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس، وكان عمله أشبه بمن يقبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الزهاد والعارفين، دون أن يتورط فى تعسّف أو ينزلق فى درب من دروب الشطط، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج(1/25)
أنه سني حريص على سنيته بقدر ما هو صوفى حريص على صوفيته، فكان عليه أن يرضى أوساط أهل السنة فى الوقت الذي كان عليه أن ينفع الصوفية، وأن يوضح لكلا الطرفين أن الأصول والفروع فى الحالين مستمدة من كتاب الله الكريم.
ولقد أعان القشيري فى عمله أنه صنّف قبل «اللطائف» كتابا كاملا فى تفسير القرآن على نحو تقليدى هو «التيسير فى التفسير» - الذي حصلنا على مصورة للجزء الخامس منه من أكاديمية العلوم السوفيتية- ونجده فى «التيسير» يعنى أشد العناية باللغة والاشتقاق والنحو وأسباب النزول والأخبار والقصص. وقد صنّفه قبل أن يلتقى بشيخه الدقاق أي قبل أن يسلك المسلك الصوفي، فأعانه ذلك على أن يفقه العبارة من معظم زواياها المتصلة بالظاهر، حتى إذا بدأ يكتب «اللطائف» كان طريقه إلى الإشارة وإلى فقه الباطن ممهدا، ومناله ميسورا، وآفاقه مفتّحة.
سار القشيري فى «اللطائف» على خطة واضحة محددة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة، وأحيانا حرفا حرفا، والبسملة تتكرر بلفظها فى مفتتح كل سورة، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر إذ هى تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلّما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلّها، فالله والرحمن والرحيم لها دلالات خاصة فى سورة القارعة، ولها دلالات أخرى فى سورة النساء ولها دلالات خاصة فى الأنفال وهكذا ...
ونستنتج من ذلك عدّة نتائج:
أولا: أنه يعتبر البسملة قرآنا وليست كما يقول البعض- شيئا يستفتح به للتبرك، شأن ما نصنع فى بداية أقوالنا وأفعالنا (انظر «المغني» للقاضى عبد الجبار المتوفى سنة 415 هـ ج 11 ط وزارة الثقافة (تراثنا) ص 161) .
ثانيا: أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا، ومادام يجد لها مقاصد متجددة، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار فى القرآن، وفى ذلك يقول فى الورقة الثالثة من(1/26)
اللطائف: «فلمّا أعاد الله- سبحانه وتعالى- هذه الآية- أعنى بسم الله الرّحمن الرّحيم- فى كل سورة، وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة وإشارات غير معادة» .
ثالثا: أن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا عند استبطان الظاهر، لأننا نجده أمام أربع كلمات تتكرر بلفظها ومعناها من بداية القرآن إلى نهايته، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه سار على هذه السّنّة فى «التيسير» ازداد إعجابنا به وعجبنا له.
ومن الخير أن نضرب هنا مثلين لما صنع فى بسملة «اللطائف» لنستوضح مقاصده من هذا الاتجاه.
يقول فى بسملة سورة «الحجر» : «سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب (لاستحقاق) علة. فإن قيل العلة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء فى بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود.
فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء» .
ويتضح من هذا أن استنباط الإشارة ليس- كما قلنا من قبل- مسألة عشوائية إنما هو خاضع لقواعد وأصول، وإلى تفنيد لمختلف الآراء، ومحاولة للإقناع.
وليس هذا فقط.. بل إنك لو تعمقت داخل السورة لأدهشك- كما أدهشنى- أن هناك صلة وثيقة محكمة بين هذا الذي فسرت به البسملة وبين كلام فى داخل السورة عن رفع الخلق بلا علة، وخفضهم بلا علة، وذلك كما ورد فى قصة خلق آدم، وكيف أن الملائكة (كانوا فى حال سترهم لأنهم نظروا إلى القوالب مع أن الاعتبار بالمعاني التي يودعها، فالملائكة استصغروا قدر آدم وحاله وتعجبوا من الأمر لهم بالسجود فكشف لهم شظيّة مما اختصه فسجدوا للأمر وكذا حال من ادّعى الخيرية) أما إبليس فلم يفطن للمشيئة الإلهية(1/27)
العليا، فسجد الملائكة كلهم أجمعون (بعد ما لاحت لهم المعرفة) وبقي هو على عناده متأبيا أن يسجد لبشر مخلوق من صلصال من حمأ مسنون (لأنه لا يعرف أن مشيئة الله تجرى على غير علة) .
وفى سورة براءة- التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة، استمع إليه يقول: «الحقّ- سبحانه- جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- إلا أنه ضعيف، وفى التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا ... » ومثل قوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ... » فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة فى أوائلها، وهى متضمنة ذكر الكفار.
وقد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق» .
... ... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته.
ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات» . وربما كان أفضل(1/28)
ما يورده هنا قول القشيري فى (الم) التي افتتحت بها سورة البقرة لأنها كانت أول حروف مقطعة يقابلها أثناء عمله. يقول: «هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم. ولكل كتاب سر، وسرّ الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة.
وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه فالألف من اسم «الله» واللام يدل على اسم «اللطيف» ، والميم يدل على اسم «المجيد» و «الملك» .
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه، وقيل إنها أسماء السور، وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلّى الله عليه وسلّم فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد (ص) .
والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة، فلينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع.
ويقال «1» يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدّس الحق- سبحانه وتعالى- عن التخصص ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج، غير الألف فإنها هويته لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالمرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوي، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير
__________
(1) عند ما يقول القشيري «ويقال ... » فليس معنى ذلك دائما أن يورد بعدئذ رأيا لغيره فربما- وهذا هو الغالب- أنه يقصد إلى توضيح وجهة نظره من زوايا مختلفة.(1/29)
مركبة على سنّة الأحباب فى ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبى من هذه القصة، قال شاعرهم:
قلت لها قفى قالت قاف ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب، ومراعاة لقلب الحبيب، وهكذا تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم:
قال لى مولاى ما هذا الدنف ... قلت تهوانى قال: لام ألف
... ... ويمضى القشيري بعد ذلك فيستخرج للصوفية إشارات ثمينة مما يصادفه فى الآية من حكم تشريعى يتصل بالقتال والغنيمة والأسر والكيل والميزان والدين والشهادة ونحو ذلك أو كلام فى العبادات كالصوم والصلاة والحج والزكاة أو ما يعود بالآية إلى أسباب نزولها والأخبار والقصص التي رويت من حولها، أو ما تحتوى من مظاهر قدرة المولى- جل وعلا- فى خلق الإنسان والكون.
وينبغى ألا ننتظر من القشيري إسهابا فى الأحكام الفقهية والقواعد التعبدية والأسانيد ونحو ذلك فما لهذا ألّف كتابه، ولا يصح للقارئ أن يتوقع منه ذلك فهناك تفاسير مخصوصة وضعت للوفاء بهذه الأمور، إنما قصد القشيري إلى استمداد شىء نافع للصوفية يتدعم به رأى من آرائهم أو عمل من أعمالهم، فهذا هو مقصوده، وتلك مراميه، ونحن من أجل ذلك نقول بلا تحفظ إن «لطائف الإشارات» يمثل تمثيلا صادقا مذهب القشيري فى التصوف أكثر مما تمثله «الرسالة» فهو يغنى عنها وهى لا تغنى عنه.
وعلينا الآن أن نسوق أمثلة قليلة توضح موقف القشيري فى تلك الأمور حتى يعرف القارئ منذ البداية أي نوع من التفسير ذلك الذي نضعه بين يديه. ففيما يختص بالأحكام التشريعية نراه مثلا عند الآية الكريمة «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» يقول:
الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولمّا كان الجهاد قسمين: جهاد الظاهر مع الكفّار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان، وكما أن للجهاد(1/30)
الأصغر غنيمة عند الظفر كذلك للجهاد الأكبر غنيمة وهو أن يملك نفسه التي كانت فى يد عدوّيه: الهوى والشيطان، وبعد أن كانت ظواهره مقرا للأعمال الذميمة وباطنه مستقرّا للأحوال الدنيئة يصير محلّ الهوى مسكن الرضا، ومقرّ الشهوات والمنى محلّا لما يرد عليه من مطالبات المولى، وتصير النّفس مستلبة من إصرار الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والروح منزوعة من أيدى العلاقات، والسرّ مصونا من الملاحظات. وكما أنّ من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول وهو الخمس فما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب لا من كرائم العقبى ولا من ثمرات التقريب ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محررا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله» .
ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى، وهى: النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج ... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه.
ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ... » «حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر» .
أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه(1/31)
منها، كذلك نراه يهتم اهتماما ملحوظا بالحث على التغلغل فى بواطنها، ومعرفة جواهرها، فهى ليست رسوما ظاهرية يؤديها البدن وحسب ولكنها ذات مقاصد بعيدة.
فاستقبال القبلة عند الصلاة له عند القشيري إشارة: (لتكن القبلة مقصود نفسك، وسبحانه مقصود مشهود قلبك لا تعلّق قلبك بأحجار وآثار، وأفرد قلبك لى) وعند قوله تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية، وأفضل الحج الشجّ والعجّ فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامى والصفات (أسماء الله الحسنى وصفاته) ، وطواف القلوب حول مشاهد العز، والسعى بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه» .
وتسمع القشيري عند: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... » يقول: «الصوم على ضربين:
صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات....
ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق فصومهم لله حتى شهودهم، وفطرهم لله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله» .(1/32)
هذا عن العبادات أما عن أسباب النزول فينظر إليها القشيري كما ينظر إلى مورد المثل ومضربه، فالآية «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» يقول عندها القشيري: «نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود: أي فائدة فى هذا؟
أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟
فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه:
لم؟ لم يفلح، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله- بسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء» .
وفى قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يقول: «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة، وكان يتصدّق منها للمساكين، فلما ورثه أهله قالوا: لن نفعل فعله، وأقسموا ألا يعطوا شيئا، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة، ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال، ويقع فى فترة، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله، وردّ عن الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، وصارت صفوته قسوة، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف، وندامة على ما فات من أمره، فقلّما يصل إلى حاله، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله، فيقبله بعد ذلك، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله، فإن الله تعالى رءوف بعباده» .
ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» : «مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله،(1/33)
كان نطفة وفى انتهائه إلى جيفة، وفى وسائط حاله كنيف فى قميص، فبالحرىّ ألا يدل ولا يفخر ... ثم صوّره فأحسن صورته فهو قادر على أن يرقيك من الأحوال الخسيسة إلى المنازل الشريفة النفيسة.
والإنسان أفضل من الجان لأن الجان من نار، والنار بالماء تنطفىء وتصبح رمادا ولا يجىء منها شىء. أمّا الطين (الإنسان) فإذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، ولذلك العدو (إبليس) انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة، ولكن آدم عليه السّلام لما اغترّ جبره ماء العناية فقال تعالى: ثم اجتباه ربه» .
«خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «رضى الله عنهم ورضوا عنه» خلق الإنسان من طين ولكنه يقول «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» خلق الإنسان من طين ولكن:
فكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري
وبعد ... فهذه أمثلة سريعة أردنا أن نقدمها للتدليل على المواقف التي يتخذها القشيري فى ظلال القرآن من زوايا مختلفة وفى ظروف متنوعة، ومن مجموع هذه المواقف يتحصل مذهبه فى التصوف فضلا عن مذهبه فى الكلام، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حاول أن يحل بطريق العلم الصوفي ما عجز المتكلمون عن حلّه، فحين حلّ القلب محلّ العقل ليصعد ويقصد نحو الملأ الأعلى، وأصبح الحقّ مناط الأمل لم يعد هناك معنى لأى حديث فى الجبر والاختيار والحسن والقبيح والثواب والعقاب- على النحو الذي اشتجر من حوله الخلاف بين المتكلمين. الله- فى عرف هذا الصوفي وفى عرف الصوفية الخلّص- مشهود ومحبوب لا معبود فقط، وكلّ كلام عن جبر الحب وعذاب الحب يسمج ويسخف، وهل هناك أجمل من أن يتعذب الإنسان فى حبه حتى يهلك؟ ألا ما أروعها من غاية! وما أجدر من أن يضيع العمر بين فقد ووجد! وما أعظم أن يكون الحقّ خلفا لك عن كل حطام الدنيا وأن تكون مشاهدته بديلا لك عن كل نعيم الجنان!(1/34)
بقيت مسألة هامة لا أحب أن أنهى هذا التقديم دون أن أوضحها، وهى قيمة هذا الكتاب من الناحية الأدبية.
والواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة.
وإنى لأتساءل: إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف، لأن الإنتاج الصوفي- فى كثير من الأحوال- درر من المنظوم والمنثور، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا.
وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة، فهذا له مكان آخر، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء.
وفى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة- مفردة ومركبة- تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا، حيث استكمل ناحيتين: أدب المفسّر وأدب المفسّر.(1/35)
حقا إن القرآن كتاب دين وهداية وتشريع وعلم وغير ذلك مما يمكن أن تحج إليه المقاصد الإنسانية تلتمس فيه زادا ينمى المعارف، ويثرى العلوم، ويفتح مغاليق الأمور. ولكنه قبل كل ذلك معجزة فنية بهرت سامعيها أول ما بهرتهم بالبيان، والنظم، والقول، فوجدوا لذلك حلاوة، وعليه طلاوة، وهم أهل لسن وفصاحة، فنحن نعلم أن المعجزة تكون من جنس معجزات المخاطبين ولكنها من حيث الدرجة أعلى قدرا وأصعب دركا وأعزّ منالا.
تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف- راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر- إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية.
ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى.
فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا كأن يقول عند قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته» .
والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة» .
والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر» .
ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» :
كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليه السّلام من غير أب، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها ... » .(1/36)
وإذا ضرب القرآن مثلا بالكلب أو الذبابة أو البعوضة أو التي نقضت غزلها من بعد قوة، فإن هذا التصوير القرآنى الأخاذله على وجدان القشيري الأديب وقع مؤثر، يقول مثلا (.... وضرب المثل بالبعوضة لأنها إذا جاعت فرّت وطارت، وإذا شبعت تشققت وتلفت، كذلك الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. «وما فوقها» أي الذباب، وجهة الإشارة فى أن للذباب وقاحة حيث يعود عند البلاغ فى الذبّ، والله سبحانه خلق القوة فى الأسد ولكنه خلق فيه النفور من الناس، وخلق الضعف فى الذباب، ولكنه خلق فيه الوقاحة، وتلك حكمة الله) .
والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر، والليل والنهار، والجبال والبحار، والسحب والأمطار.... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح، وعلم اليقين وحق اليقين، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية....
إلى آخره.
يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس) .
وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة، وشاعر له حس دقيق مرهف، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد.
نفعنا الله بعلمه وبركته.
دكتور ابراهيم بسيونى(1/37)
نرمز للنسخة السوفيتية المصوّرة بالحرف (ص) ونرمز للنسخة المصرية بالحرف (م) ونرمز للرسالة القشيرية ط الحلبي سنة 1959 (بالرسالة)(1/38)
صورة لورقة من النسخة السوفيتية(1/39)
ربّ يسّر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرح قلوب أوليائه بعرفانه، وأوضح نهج الحق بلائح برهانه، لمن أراد طريقه، وأتاح البصيرة لمن ابتغى تحقيقه، وأنزل الفرقان هدى وتبيانا، على صفيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- معجزة وبيانا، وأودع صدور العلماء معرفته وتأويله، وأكرمهم بعلم قصصه ونزوله، ورزقهم الإيمان بمحكمه ومتشابهه وناسخه، ووعده ووعيده، وأكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأن (واره) لاستبصار ما ضمنّه من دقيق إشاراته، وخفىّ رموزه، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصّوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحق سبحانه وتعالى يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون وعن لطائفه مخبرون «1» وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون.
قال الإمام جمال الإسلام أبو القاسم القشيري رحمه الله: وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من إشارات القرآن»
على لسان أهل المعرفة، إما من معانى مقولهم، أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلا (ل) خشية الملال، مستمدين من الله تعالى عوائد المنّة، متبرئين من الحول والمنّة «3» مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوفقين لأصوب القول والعمل، ملتمسين أن يصلى على سيدنا محمد صلّى الله عليه و (سلّم) ، ليختم لنا بالحسنى بمنّه وأفضاله. وتيسّر الأخذ
__________
(1) وردت فى ص (مخيرون) والسياق لا يتطلبها.
(2) ما تحته خط هو تكملة اعتمدنا فى إثباتها هنا على ما جاء فى (تذكرة النوادر) التي اقتبست بضع فقرات رجوعا إلى نسخة أخرى.
(3) المنّة بضم الميم القوة.(1/41)
فى ابتداء هذا الكتاب فى شهور سنة أربع وثلاثين وأربعمائة «1» ، وعلى الله إتمامه إن شاء الله تعالى عز وجلّ.
سورة فاتحة الكتاب
هذه السورة بدا (ية) الكتاب، ومفاتحة الأحباب بالخطاب والكتاب منه أجلّ النّعمى، وأكرم الحسنى إذ هى ( ... ) «2» وابتداء وفى معناه قيل.
أفديك بل أيام دهرى كلها ... تفدين أياما (.....)
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبى للصبابة معهدا «3»
ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم غير مرتقب لهذا الشأن، وما كان هذا الحديث منه على بال، وحينما نزل عليه جبريل صلوات الله عليه وسلامه أخذ فى الفرار، وآثر التباعد لهذا الأمر آوى ( ... ) قائلا: دثرونى دثرونى، زمّلونى زمّلونى، وكان يتحنّث فى حراء، ويخلو هنالك (....) فجأة، وصادفته القصة بغتة كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا «4»
وكان صلوات الله عليه وسلم رضى بأن يقال له أجير خديجة ولكن (الحق سبحانه وتعالى أراده لأن) «5» يكون سيد الأولين والآخرين حيث قال. «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» ، (رفعه إلى) أشرف المنازل وإن لم يسم إليه بطرف التأميل سنّة منه تعالى وتقدّس ( ... ) إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك ما قصّوا العجب من شأنه ( ... ) يتيم أبى طالب
__________
(1) اعتمدنا في استكمال رقمى الآحاد والعشرات من السنة على (تذكرة النوادر) حيث سقطا فى ص.
وبهذا يبطل قول صاحب كشف الظنون (المجلد الثاني ص 1551) بأن القشيري ألف اللطائف قبل عام 410، ويبدو أن الأمر قد التبس على حاجى خليفة فظن تاريخ تأليف «التيسير فى التفسير» هو تاريخ تأليف «اللطائف» .
(2) ما بين الأقواس المفرغة ساقط فى ص ومن حسن الحظ أن السقوط الكثير على هذا النحو لا يتكرر بعد الورقتين الأولى والثانية من (ص) .
(3) اعتمدنا فى تكملة البيت على هذا النحو على وروده فى (م) كاملا عند تفسير سورة الحديد.
(4) الشطر الثاني من البيت ناقص فى (ص) ومكمل فى (م) عند تفسير آية: علم القرآن من سورة الرحمن.
(5) زيادة أضفناها ليستقيم المعنى
.(1/42)
من بين البرية، ولقد كان صلوات الله عليه وسلم فى سابق (علمه) سبحانه وتعالى مقدّما على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفى معناه قيل:
هذا ( ... ) أطمار ... وكان فى فقر من السيار
آثر عندى (بالإكبار) ... من أخى (ومن) جارى
وصاحب الدرهم (والدينار) ... فإن صاحب الأمر مع الإكثار «1»
ولقد كان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة حميد الشأن، (محمود) الذكر، ممدوح الاسم، أمينا لكل واحد. وكانوا يسمونه محمدا الأمين، ولكن (الكافرين) ( ... ) حالته، بدّلوا اسمه، وحرّفوا وصفه، وهجّنوا ذكره، فواحد كان يقول ساحر وآخر يقول ( ... )
وثالث يقول كاذب، ورابع يقول شاعر:
أشاعوا لنا فى الحي أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
وهكذا صفة المحبّ، لا ينفك عن الملام ولكن كما قيل
أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمنى اللّوم «2»
وماذا عليه من قبيح قالة (من) يقول، (والحق سبحانه يقول) : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أي استمع إلى ما يقال فيك بحسن الثناء علينا.
[فصل] وتسمى هذه السورة أيضا أمّ الكتاب، وأم الشيء أصله، وإمام كل شىء مقدّمه. وهذه السورة لما تشتمل عليه من الأمر بالعبودية، والثناء على الله بجمال الربوبية، ثم «3» كمالها من الفضائل- لا تصح الفرائض إلا بها. وقوله صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» يعنى قراءة هذه السورة، فصارت أمّ الكتاب، وأصلا لما تنبنى عليه من لطائف الكرامات وبدائع التقريب والإيجاب.
__________
(1) أضاع البياض الذي فى المصورة كثيرا من ألفاظ هذه الأبيات فحاولنا إضافة بعض الألفاظ.
وإن كان وزن الشعر ما زال غير سليم.
(2) وردت خطأ فى (ص) : فليسلمنى اللؤم.
(3) لا نستبعد أن تكون فى الأصل (تمّ) كمالها ...(1/43)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الباء فى «بسم الله» حرف التضمين أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغير من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل- إلا بالحق وجوده، والحق ملكه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وجد من وحّد، وبه جحد من ألحد «1» ، وبه عرف من اعترف، وبه تخلّف من اقترف.
وقال «بسم الله» ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفرق بين هذا وبين القسم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله «الله» على قلب منقّى وسر مصفّى. وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء (بره) «2» بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين «3» سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعنى بسم الله الرحمن الرحيم فى كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية «4» كلمات غير مكررة «5» ، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصى القول هاهنا وبه الثقة.
__________
(1) وردت فى ص (اللحد) .
(2) سقطت فى ص وأثبتناها لأن ما بعدها يدل عليها. [.....]
(3) وردت فى ص (بالسنين) .
(4) من هنا ندرك أن القشيري يعتبر البسملة قرآنا خلافا لمن يعدونها من قبيل الاستفتاح والتبرك، فتبدأ بها القراءة كما يفعل فى سائر الأفعال (أنظر المغني للقاضى عبد الجبار ج 11 ط وزارة الثقافة سلسلة تراثنا ص 161) .
(5) من هنا ومما نعلم من مذهب القشيري نراه لا يعتقد فى فكرة التكرار فى القرآن لأن التكرار أليق بالمخلوقين ولأسباب أخرى لا محل لها هنا.(1/44)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام هاهنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق فجميع المحامد لله سبحانه إمّا وصفا وإمّا خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود (قدرة) «1» القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدى، والكون الصمدى، والبقاء الأزلى، والبهاء الأبدى، والثناء الديمومى، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطول، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد فى ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه! [فصل] علم الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حمد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: «الحمد لله» فانتعشوا بعد الذّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم بكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا:
ولوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل
هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به فى هذه الحالة فقال: «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
داوود لو سمعت أذناه قالتها ... لما ترنّم بالألحان داوود
غنت سعاد بصوتها فتخاذلت ... ألحان داوود من الخجل
__________
(1) هذه كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، ويرجح ذلك نظم الأسلوب وسياق المعنى، أو ربما كانت (قدمه) .(1/45)
[فصل] وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم فى أحوالهم فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعى صفة نفعه ودفعه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» ، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفى غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القسم، و (فرق بين) «1» من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم:
وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا ... ولكننا جئنا بلقياك نسعد
وقوم حمدوه مستهلكين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبّرون، ومنه إليه يشيرون، يجرى عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم «2» بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذة بحكم جمع «3» الجمع، كما قالوا:
بيان بيان الحق أنت بيانه ... وكل معانى الغيب أنت لسانه
قوله جل ذكره: رَبِّ الْعالَمِينَ الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومنشيها، وموجد الرسوم والديار بما فيها.
ويدل اسم الرب أيضا على تربية الخلق، فهو مرب نفوس العابدين بالتأييد ومرب قلوب الطالبين بالتسديد، ومرب أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مرب الأشباح بوجود النّعم، ومرب الأرواح بشهود الكرم.
ويدل اسم الرب أيضا على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين
__________
(1) وردت (وفر ... ) ثم بعدها بياض فأكملناها على هذا النحو ليتم المعنى.
(2) وردت (وظاهرهم) ولكن السياق يقتضى ما أثبتناه.
(3) وردت (جميع الجمع) ولكن الاصطلاح الصوفي هو جمع الجمع وهو درجة فوق الجمع وجمع الجمع هو الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس بما سوى الله (رسالة القشيري ط سنة 1959 ص 39) .(1/46)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم:
مادام عزّك مسعودا طوالعه ... فلا أبالى أعاش الناس أم فقدوا
قوله جلّ ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 3]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهى إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق.
وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم فى الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هى (عند قوم فالنعم فى أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هى) «1» نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هى نعمة الأرواح والأسرار.
وعلى طريقة من فرّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روّح، والرحيم بما لوّح فالترويح بالمبارّ، والتلويح بالأنوار:
والرحمن بكشف تجلّيه والرحيم بلطف تولّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى «2» من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يمنّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية.
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
المالك من له الملك، وملك الحق سبحانه وتعالى قدرته على الإبداع، فالملك مبالغة من المالك وهو سبحانه الملك المالك، وله الملك. وكما لا إله إلا هو فلا قادر على الإبداع إلا هو، فهو بإلهيته متوحد، وبملكه متفرد، ملك نفوس العابدين فصرفها فى خدمته، وملك قلوب العارفين فشرّفها بمعرفته، وملك نفوس القاصدين
__________
(1) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ فأثبتناها فى موضعها.
(2) وردت (أسرى) والأصح (أسدى) .(1/47)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
فتيّمها، وملك قلوب الواجدين فهيّمها. ملك أشباح من عبده فلاطفها بنواله وأفضاله، وملك أرواح من أحبهم (....) «1» فكاشفها بنعت جلاله، ووصف جماله. ملك زمام أرباب التوحيد فصرفهم حيث شاء على ما شاء ووفّقهم حيث شاء على ما شاء كما شاء، ولم يكلهم إليهم لحظة، ولا ملّكهم من أمرهم سنّة ولا خطرة، وكان لهم عنهم، وأفناؤهم له منهم «2» .
[فصل] ملك قلوب العابدين إحسانه فطمعوا فى عطائه، وملك قلوب الموحدين سلطانه فقنعوا ببقائه. عرّف أرباب التوحيد أنه مالكهم فسقط عنهم اختيارهم، علموا أن العبد لا ملك له، ومن لا ملك له لا حكم له، ومن لا حكم له لا اختيار له، فلا لهم عن طاعته إعراض ولا على حكمه اعتراض، ولا فى اختياره معارضة، ولا لمخالفته تعرّض، «ويوم الدين» .
يوم الجزاء والنشر، ويوم الحساب والحشر- الحق سبحانه وتعالى يجزى كلّا بما يريد، فمن بين مقبول يوم الحشر بفضله سبحانه وتعالى لا بفعلهم، ومن بين مردود بحكمه سبحانه وتعالى لا بجرمهم. فأمّا الأعداء فيحاسبهم ثم يعذبهم وأمّا الأولياء فيعاتبهم ثم يقربهم:
قوم إذا ظفروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
معناه نعبدك ونستعين بك. والابتداء بذكر المعبود أتمّ من الابتداء بذكر صفته- التي هى عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل فى اللفظ، وأعذب فى السمع. والعبادة الإتيان بغاية ما فى (بابها) «3» من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع.
والاستعانة طلب الإعانة من الحق.
والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمنّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمنّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. فى العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه. والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزّز وتحمّل:
وإذا تذللت الرقاب تقربا ... منّا إليك، فعزّها فى ذلّها
__________
(1) مشتبهة فى ص، وربما كانت (وأحبوه) .
(2) (له) هنا معناها لأجله اى أنه أفناهم من أنفسهم لأجله ليبقوا به، وكان الأسلم أن تكون العبارة:
وأفناؤهم منهم له ولكن حرص المصنّف على مراعاة الانسجام بين عنهم ومنهم.
(3) وردت (بابه)(1/48)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
وفى معناه:
حين أسلمتني لذال ولام ... ألقيتنى فى عين وزاى «1»
[فصل] العبادة نزهة القاصدين «2» ، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قرّة أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه «3» أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: أرحنا بها يا بلال» . ولقد قال مخلوق فى مخلوق:
يا قوم ثارى عند أسمائى ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أصدق أسمائى
والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوى «4» ، وتثق بكرم أزلى، وتتكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده (غير ضعف) «5» .
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
الهداية الإرشاد، وأصلها الإمالة، والمهدىّ من عرف الحق سبحانه، وآثر رضاه، وآمن به. والأمر فى هذه الآية مضمر فمعنا اهدنا بنا «6» - والمؤمنون على الهداية فى الحال- فمعنى السؤال الاستدامة والاستزادة. والصراط المستقيم الطريق الحق وهو ما عليه أهل التوحيد. ومعنى اهدنا أي مل بنا إليك، وخذنا لك، وكن علينا دليلنا، ويسّر إليك سبيلنا، وأقم لنا هممنا، واجمع بك همومنا.
[فصل] اقطع أسرارنا عن شهود الأغيار، ولوّح فى قلوبنا طوالع الأنوار، وأفرد
__________
(1) وردت و (زار)
(2) وردت (القاصرين) [.....]
(3) أي وإلى ذلك أشار
(4) وردت (قومى) وهى غير مناسبة للمعنى.
(5) إما أن تكون زائدة أو ينقصها حرف الجر في فتكون (فى غير ضعف) أو تكون (غير ضعف) (أساس البلاغة ص 563) أي غير متكثر بالأسباب لجلب المال.
(6) ويكون المعنى على هذا أقم فينا ما يجعلنا نهتدى به إليك، ولكن نرجح أن يكون قد وقع خطأ من الناسخ وأن الأصل (اهدنا بك) لأن ذلك يتفق مع مذهب القشيري وغيره من الصوفية حيث يعتبرون كل شىء يقع من العبد مرده إلى الحق سبحانه، فلا قدرة للعبد- وحده- على معرفة الله، ولا على الاهتداء إليه، وتدل الدلائل فيما بعد على ذلك مثل قوله (فنجدك بك) . واما أن يكون الأصل (اهد بنا) أي- كما جاء فيما بعد- مل بنا.(1/49)
قصودنا إليك عن دنس الآثار، ورقّنا عن منازل الطلب والاستدلال إلى جمع ساحات القرب والوصال.
[فصل] حل بيننا وبين مساكنة «1» الأمثال والأشكال، بما تلاطفنا به من وجود الوصال، وتكاشفنا به من شهود الجلال والجمال.
[فصل] أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، ويقع على وجه التوحيد غبار الظنون وحسبان الإعلال.
«اهدنا الصراط المستقيم» أي: أزل عنّا ظلمات أحوالنا لنستضىء «2» بأنوار قدسك عن التفيؤ بظلال طلبنا، وارفع عنا ظل جهدنا لنستبصر بنجوم جودك، فنجدك بك.
[فصل] اهدنا الصراط المستقيم حتى لا يصحبنا قرين من نزغات الشيطان ووساوسه، ورفيق من خطرات النفوس وهواجسها، أو يصدنا عن الوصول تعريج فى أوطان التقليد، أو يحول بيننا وبين الاستبصار ركون لى معتاد من التلقين، وتستهوينا آفة من نشو أو هوادة، وظن أو عادة، وكلل أو ضعف إرادة، وطمع مال أو استزادة.
[فصل] الصراط المستقيم ما عليه من الكتاب والسنة دليل، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل. الصراط المستقيم ما شهدت بصحته دلائل التوحيد، ونبهت عليه شواهد التحقيق. الصراط المستقيم ما درج عليه سلف الأمة، ونطقت بصوابه دلائل العبرة.
الصراط المستقيم ما باين الحظوظ سالكه، وفارق «3» الحقوق قاصده. الصراط المستقيم ما يفضى بسالكه إلى ساحة التوحيد، ويشهد صاحبه أثر العناية والجود، لئلا يظنّه موجب (ببذل) «4» المجهود.
__________
(1) وردت (ساكنة) والأصح بالميم فقد جاءت كذلك فى مواضع كثيرة أخرى.
(2) وردت خطأ (لنصتضىء) .
(3) وردت (وفارن) فى ص، والأصح أن تكون بالقاف فالحظوط للعبد والحقوق للحق.
(4) وردت (بذل) بدون باء والأقوى فى رأينا أن تكون بالباء وأن نقرأ موجب بفتح الجيم أي مستحق، وبذلك يتضح موقف القشيري من قضية هامة وهى هل يجب على الله أن يثيب المطيع؟ ولا يرى القشيري هذا الوجوب لأنه يربط كل عمل للعبد بالعناية الإلهية لا بالمجهود الإنسانى. وقد صدق الرسول (ص) حين قال: «ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .(1/50)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
يعنى طريق من أنعمت عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهم الأولياء والأصفياء.
ويقال طريق من (أفنيتهم) «1» عنهم، وأقمتهم بك لك، حتى لم يقفوا فى الطريق، ولم تصدهم عنك خفايا المكر. ويقال صراط من أنعمت عليهم بالقيام بحقوقك دون التعريج على استجلاب حظوظهم.
ويقال صراط من (طهرتهم) «2» عن آثارهم حتى وصلوا إليك بك.
ويقال صراط من أنعمت عليهم حتى تحرروا من مكائد الشيطان، ومغاليط «3» النفوس ومخاييل الظنون، وحسبانات الوصول قبل خمود آثار البشر (ية) .
ويقال صراط من أنعمت عليهم بالنظر والاستعانة بك، والتبري من الحول والقوة، وشهود ما سبق لهم من السعادة فى سابق الاختيار، والعلم بتوحيدك فيما تمضيه من المسار والمضار.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بحفظ الأدب فى أوقات الخدمة، واستشعار نعت الهيبة.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بأن حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها عند غلبات (بواده) «4» الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم، ولم يخلّوا بشىء من أحكام الشريعة.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم حتى لم تطفئ شموس معارفهم أنوار ورعهم ولم يضيّعوا شيئا من أحكام الشرع «5» .
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بالعبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله جلّ ذكره: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
__________
(1) وردت (أقنتهم) فى ص.
(2) وردت (ظهرتهم) فى ص.
(3) وردت (مغاليظ) فى ص.
(4) وردت (بواد) .
(5) نلاحظ أن القشيري يلح كثيرا على التزام آداب الشريعة مهما غلبت على العبد سطوة الانمحاء، واستلبه سلطان الفناء، ويحسن هنا أن نشير إلى اصطلاح فى مذهب القشيري وهو الفرق الثاني وهى حالة عزيزة يرد عندها العبد إلى الصحو لكى يؤدى ما يجب عليه من الفرائض فى أوقاتها، ويكون رجوعه لله بالله (انظر الرسالة القشيرية ص 39) .(1/51)
المغضوب عليهم الذين صدمتهم هواجم الخذلان «1» ، وأدركتهم مصائب الحرمان، وركبتهم سطوة الرد، وغلبتهم بواده الصد والطرد.
ويقال هم الذين لحقهم ذل الهوان، وأصابهم «2» سوء الخسران، فشغلوا فى الحال باجتلاب الحظوظ- وهو فى التحقيق (شقاء) إذ يحسبون أنهم على شىء، وللحق فى شقائهم سر.
ويقال هم الذين أنسوا بنفحات التقريب زمانا ثم أظهر الحق سبحانه فى بابهم شانا بدّلوا بالوصول بعادا، وطمعوا فى القرب فلم يجدوا مرادا، أولئك الذين ضلّ سعيهم، وخاب ظنهم.
ويقال غير المغضوب عليهم بنسيان التوفيق، والتعامي عن رؤية التأييد. ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار، وجريان التصاريف والأقدار.
ويقال غير المغضوب عليهم بتضييعهم آداب الخدمة، وتقصيرهم فى أداء شروط الطاعة.
ويقال غير المغضوب عليهم هم الذين تقطعوا فى مفاوز الغيبة، وتفرّقت بهم الهموم في أودية وجوه الحسبان.
[فصل] ويقول العبد عند قراءة هذه السورة آمين، والتأمين سنّة، ومعناه يا رب افعل واستجب، وكأنه يستدعى بهذه القالة التوفيق للأعمال، والتحقيق للآمال، وتحط رجله بساحات الافتقار، ويناجى حضرة الكرم بلسان الابتهال، ويتوسل (بتبريه) «3» عن الحول والطاقة والمنّة والاستطاعة إلى حضرة الجود. وإن أقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة.
السورة التي تذكر فيها البقرة
قوله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم مشتق من السمو والسّمة، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتسم بظاهره بأنواع المجاهدات، ويسمو بهمته إلى محالّ المشاهدات. فمن عدم سمة المعاملات على ظاهرة، وفقد
__________
(1) يقول القشيري في الرسالة (ومنهم من تغيرهم البواده وتصرفه الهواجم، ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالا ووقتا.. أولئك هم سادات الوقت) ص 44. [.....]
(2) وردت (أحبابهم) .
(3) وردت (ببريته) والصواب (بتبريه) .(1/52)
الم (1)
سموّ الهمّة للمواصلات بسرائره لم يجد لطائف الذكر عند قالته، ولا كرائم القرب فى صفاء حالته.
[فصل] معنى الله: الذي له الإلهية، والإلهية استحقاق نعوت الجلال. فمعنى بسم الله:
باسم من تفرّد بالقوة والقدرة. الرحمن الرحيم من توحّد فى ابتداء الفضل والنصرة. فسماع الإلهية يوجب الهيبة والاصطلام، وسماع الرحمة يوجب القربة والإكرام. وكلّ من لاطفه الحق سبحانه عند سماع هذه الآية ردّه بين صحو ومحو، وبقاء وفناء، فإذا كاشفه بنعت الإلهية أشهده جلاله، فحاله محو. وإذا كاشفه بنعت الرحمة أشهده جماله فحاله صحو:
أغيب إذا شهدتك ثم أحيا ... فكم أحيا لديك وكم أبيد
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
هذه الحروف المقطعة فى أوائل السورة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- عند قوم، ويقولون لكل كتاب سر، وسر الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم إنها مفاتح أسمائه، فالألف من اسم «الله» ، واللام يدل على اسمه «اللطيف» ، والميم يدل على اسمه «المجيد» و «الملك» .
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه.
وقيل إنها أسماء السور.
وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام تدل على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلى عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع.
ويقال يتذكر العبد المخلص «1» من حالة الألف تقدّس الحق سبحانه وتعالى عن التخصص
__________
(1) وردت في ص (المخلض) وهى خطأ من الناسخ.(1/53)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
بالمكان فإن سائر الحروف لها محل من الحلق أو الشفة «1» أو اللسان إلى غيره من المدارج «2» غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه فى (مراعاة) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه.
ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير مركبة، على سنة الأحباب فى ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبى من القصة- قال شاعرهم:
قلت لها قفى لنا قالت قاف لا تحسبى أنّا نسينا لا يخاف ولم يقل وقفت سترا على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل: «قالت قاف» .
ويقال تكثر العبارات «3» للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: ألف ... وقال عليه السّلام: أوتيت جوامع الكلم «4» فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم: قال لى مولاى: ما هذا الدنف؟
قلت: تهوانى؟ قال: لام الف قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
__________
(1) وردت فى ص (الشفق) وهى خطأ من الناسخ.
(2) معناها المخارج- كما جاء فى الهامش.
(3) وردت فى ص (العبادات) والأصح بالراء لأن القشيري فى مواضع كثيرة يقابل بين العبارة والإشارة.
(4) وردت فى ص (القلم) وهى خطأ من الناسخ. وسيأتى تخريج الحديث فى هامش قريب.(1/54)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدتك إنزاله عليك يوم الميثاق.
لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله. وقيل ذلك الكتاب الذي كتبت فيه الرحمة على نفسى لامتك- لا شك فيه، فتحقق بقولي.
وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمى، وقديم قضائى لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه.
وقيل (حكمى الذي أخبرت أن رحمتى سبقت على غضبى لا شك فيه «1» ) .
وقيل إشارة إلى ما كتب فى قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم وروحهم، وفى معناه أنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم
وأنشدوا:
ورد الكتاب بما أقرّ عيوننا ... وشفى القلوب فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسما وكان أجلهم حظّا أنا «2»
قوله جل ذكره: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بيانا وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل. وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمّى وبلاء. المتّقى من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم ير نجاته إلا بفضل مولاه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
__________
(1) ما بين القوسين تكملة استدرك بها الناسخ فأثبتها فى هامش الصفحة.
(2) لم يكن الناسخ يظهر اهتماما بأبيات الشعر فوصلتنا رديئة الخط كثيرة الأخطاء فقمنا بتصحيحها بقدر الإمكان حتى تبدو ذات معنى، وذلك استنادا إلى حالة لها اكثر ضبطا إما في مواضع أخرى من هذا الكتاب أو من كتب القشيري الأخرى.(1/55)
حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق. والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، فى حفظ العهد، ومراعاة الحد. فالمؤمنون هم الذين صدّقوا باعتقادهم ثم الذين صدقوا فى اجتهادهم.
وأمّا الغيب فما يعلمه «1» العبد مما خرج عن حد الاضطرار فكل أمر دينى أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غيبيّ. فالرب سبحانه وتعالى غيب.
وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب- غيب.
وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين، فأوردهم صدق الاستدلال ساحات الاستبصار، وأوصلهم صائب الاستشهاد إلى مراتب السكون فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعى الريب.
ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردّ وردع لدواع ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفى معناه أنشدوا:
ليلى من وجهك شمس الضحى ... وظلامه فى الناس سارى
والناس فى سدف الظلا ... م ونحن فى ضوء النهار
وأنشدوا:
طلعت شمس من أحبّك ليلا ... فاستضاءت ومالها من غروب
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب «2»
ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب فى شهود الغيب فصار غيبا يغيب.
وأمّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة «3» عن شهودها برؤية من يصلّى له «4»
__________
(1) وردت (يعمله) والأرجح أن تكون (يعلمه) حتى تتلاءم مع طبيعة الغيب.
(2) وردت (مما لها) ، (وتغيب بالليل) ، (ليت تغيب) وقد صححنا ذلك بما يتلاءم مع الوزن والمعنى
(3) وردت (ثم الغيت) وهى خطأ من الناسخ والأصح (الغيبة) كما سنجد فى الهامش التالي.
(4) القشيري هنا متأثر بفكرة الواسطي حينما دخل نيسابور وسأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها. فقال «.... هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها» الرسالة ص 34.(1/56)
فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجرى عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القبلة، وقلوبهم مستغرقة فى حقائق الوصلة:
أرانى إذا صلّيت يمّمت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
أصلى فلا أدرى إذا ما قضيتها ... أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا؟
وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون. أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون فشتّان بين غائب يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة، وبين غائب يرجع إلى أحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة.
قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الرزق ما تمكّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمّا نفلا وإما فرضا على موجب تفصيل «1» العلم. وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئا من ميسورهم فينفقون نفوسهم فى آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية. فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفى منهم عشرين بنصف ومن المائتين بخمس «2» ، وعلى هذا السّنن جميع الأموال يعتبر فيه النّصاب. وأمّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم- لأنفسهم ولحظوظهم- لحظة قامت عليهم القيامة.
[فصل] الزاهدون أنفقوا فى طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا فى سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سرا وعلنا نفوسهم. والمريدون أنفقوا فى سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شىء من دنياهم وعقباهم. والعارفون أنفقوا فى سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، وبحكم الإفراد به لقّاهم.
__________
(1) وردت (تفضيل) ولا يرجحها السياق فالمقصود ما يفصله العلم من مقادير زكاة المال. [.....]
(2) إشارة إلى ان زكاة الأموال مقدارها ربع العشر.(1/57)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
[فصل] الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على منابتهم «1» ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله، فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لحقّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان هاهنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلّى الله عليه وسلّم فى بعض ما أخبر يوجب تصديقه فى جميع ما أخبر، فإن دلالة صدقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، وكأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون «2» وكأنى بعرش ربى بارزا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصبت فالزم.
وهذا عامر بن عبد القيس يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» . وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يعنى على بيان
__________
(1) من (أناب) وعند القشيري: التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما، فكل من تاب لخوف عقوبة فهو صاحب توبة ومن تاب طمعا فى الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب، او رهبة من العقاب فهو صاحب اوبة (الرسالة ص 50) .
(2) وردت (وكانى بأهل النار تعاويون) ووردت فى موضع آخر من الكتاب عند تفسير الآية 49 من سورة البقرة (يتعادون) . وبالرجوع إلى مصادر الحديث وجدناه على النحو التالي: «سأل النبي (ص) حارثة فقال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا، فأسهرت ليلى، واظمأت نهارى، وكأنى انظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى انظر إلى اهل الجنة يتزاورون، وإلى اهل النار فى النار كيف يتعاوون. فقال له النبي (ص) : عرفت فالزم.» .
البزاز بسند ضعيف عن انس، والطبراني فى الكبير من حديث الحارث بن مالك، وسنده ضعيف ايضا(1/58)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلّى لقلوبهم أولا بآياته ثم تجلّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته.
وقوم «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بدلائل العقول وضعوها فى موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار.
«وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الفلاح الظفر بالبغية «1» ، والفوز بالطلبة، ولقد نال القوم البقاء فى مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهى غانمة «2» النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها «3» ، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)
من كان فى غطاء وصفه محجوبا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعى الغفلة أميل، وفى الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بكىّ الفرقة موسوم، وفى سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان فلمّا لم يؤمنوا لم يؤمنوا. حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تعارض، ومن زاحم الحق فى القضية «4» كبسته سطوات العزة، وقصمته بواده «5» الحكم.
ويقال إن الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن
__________
(1) وردت فى ص (بالبغتة) وهى خطأ من الناسخ.
(2) الغاغة مرعى البهائم.
(3) يقول القشيري فى رسالته: إن الهاجس خاص بالنفس والخاطر خاص بالقلب ص 46، 47.
(4) القضية هنا معناها القضاء.
(5) البواده ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة (الرسالة ص 44) .(1/59)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
الذي بقي فى ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المبطلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركات الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يصغى إلى داعى الرشاد، كما قيل:
وعلى النصوح نصيحتى ... وعلىّ عصيان النصوح
ويقال من ضلّ عن شهود المنّة عليه فى سابق القسمة توهّم أن الأمر من حركاته وسكناته فاتّكل على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حكم الحقّ سبحانه بألا يفارق قلوب أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شىء من البصيرة والهداية. على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سدّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس شغلتها عن استماع خواطر الحق.
وأمّا الخواص فخواطر العلوم وجولان تحقيقات المسائل فى قلوبهم شغلت قلوبهم عن ورود أسرار الحق عليهم بلا واسطة، وإنما ذلك لخاص الخاص، لذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر» «1» فهذا المحدّث مخصوص من الخواص كما أن صاحب العلوم مخصوص من بين العوام. وعلى بصائر الأجانب غشاوة فلا يشهدون لا ببصر العلوم ولا ببصيرة الحقائق، ولهم عذاب عظيم لحسبانهم أنهم على شىء، وغفلتهم عما منوا من المحنة (و ... ) »
فى الحال والمال «3» ، فى العاجل فرقته، وفى الآجل حرقته.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
__________
(1) للحديث صورة أخرى «إن من أمتى مكلّمين ومحدّثين وإن عمر منهم» .
(2) مشتبهة فى ص.
(3) والأرجح أنها (فى الحال والمآل) حتى تنسجم مع العاجل والآجل.(1/60)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبّسوا على المسلمين، فهتك الله أستارهم بقوله: وما هم بمؤمنين كذا قيل:
من تحلى بغير ما هو فيه ... فضح الامتحان ما يدّعيه
ولما تجردت أقوالهم عن المعاني كان وبال ما حصلوه منها أكثر من النفع الذي توهموه فيها، لأنه تعالى قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ولولا نفاقهم لم يزدد عذابهم.
ويقال لما عدموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق فى الحال، وقيل:
أيها المدعى سليمى هواها ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت فى هواها كواو ... ألصقت فى الهجاء ظلما بعمرو
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه «1» إلى أنفسهم فصاروا فى التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما استخفّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبال فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينهم. ومن كان عالما بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه.
والإشارة فى هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لى ربى ومنى وأنا يقع فى وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات «2» لأنه يرى سرابا فيظنه شرابا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقّاه حسابه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
فى قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضا بتوهمهم أنهم نجوا بما لبّسوا
__________
(1) وردت فى ص (عليها) والأصح أن تكون عليه لأن الضمير يعود على الخداع وربما قصد القشيري عودة الضمير على مفهوم، وهو جريمة الخداع.
(2) جاء فى رسالة القشيري «التوحيد إسقاط الياءات فلا تقول لى وبي ومنى وإلى» ص 149(1/61)
على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يخلص وجعه إليهم فى المآل. (وفى) الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظّه، وشاب إرادته بهواه (أن) يتقدم فى الإرادة بقدم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النفس بأخرى، فهو لا مريد صادق ولا عاقل متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا فى عقائدهم لأمنوا «1» فى الآخرة من العقوبة كما أمنوا فى الدنيا من نحو بذل الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة «2» ، كذلك لو صدق المريد فى إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبغية، ولكن حاله كما قيل:
فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف ... ولو خلصنا تخلصنا من المحن «3»
وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القرب والمناجاة. وأمّا من ركن إلى الدنيا واتّبع الهوى فسكونهم «4» إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة فى علتهم تكون بزيادة حرصهم كلما وجدوا منها شيئا- عجّل لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه.
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتت همومهم ثم تنغّص عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفى معناه قيل:
تبدلت فتبدلنا وا حسرتا ... لمن ابتغى عوضا ليسلو فلم يجد «5»
والإشارة فى العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هى الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأوا أنفسهم كيف خسروا.
__________
(1) وردت (لآمنوا) وهى خطأ من الناسخ. [.....]
(2) وردت (وألزمته) وهى خطأ فى الكتابة.
(3) أصلحنا قليلا فى البيت لكى يؤدى معنى، لأن ما فى البيت من اخطاء كتابية تفقده كل قيمة، وترجح أنها (حيف) لا (حنف) وإن كان الحنف معناه الميل إلا أن الحيف وهو الظلم أقرب.
(4) ويحتمل ايضا انها فى الأصل (فركونهم) حتى تتلاءم مع (ومن ركن ... ) ، وكلاهما مقبول.
(5) وزن البيت غير سليم وقد ورد فيه (وا خسرانا) و (ليلى) ويبدو أن الناسخ قد وقع فى اخطاء أخرى عند النقل.(1/62)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
الإشارة منها: أنه إذا دعاهم واعظ فى قلوبهم من خفى خواطرهم إلى ما فيه رشدهم تتبعوا رخص التأويل، ولبّسوا على أنفسهم ما يشهد بقساوة قلوبهم، وحين جحدوا برهان الحق من خواطر قلوبهم نزع الله البركة من أحوالهم، وأبدلهم تصامما عن الحق، وابتلاهم بالاعتراض على الطريقة «1» وسلبهم الإيمان بها.
وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفى المثل: من اخترق كدسه «2» تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه.
وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة- عند الصادقين منهم- غير مقبول كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل زكاة ثعلبة.
ويقال كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له فى وجهه كذبت، فهم لمّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» : إنّا نعلمهم فنفضحهم.
قوله عز ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
الإشارة منها أن المنافقين لما دعوا إلى الحق وصفوا المسلمين بالسّفه، وكذلك أصحاب الغنى إذا أمروا بترك الدنيا وصفوا أهل الرشد بالكسل والعجز، ويقولون إن الفقراء ليسوا على شىء، لأنه لا مال لهم ولا جاه ولا راحة ولا عيش، وفى الحقيقة هم الفقراء وهم أصحاب المحنة وقعوا فى الذل مخالفة الذل، ومارسوا الهوان خشية الهوان، شيّدوا القصور ولكن
__________
(1) يقصد القشيري طريقة الصوفية.
(2) الكدس بضم الكاف وتسكين الدال: المجتمع من كل شىء كالحب المحصود والتمر والدرام والرمل والجمع اكداس (الوسيط واللسان) .(1/63)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
سكنوا القبور، زيّنوا المهد ولكن أدرجوا اللحد، ركضوا فى ميدان الغفلة ولكن عثروا فى أودية الحسرة، وعن قريب سيعلمون، ولكن حين لا ينفعهم علمهم، ولا يغنى عنهم شىء.
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أراد المنافقون أن يجمعوا بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، فإذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خلوا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمرين فنفوا عنهما. قال الله تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» ، وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، و «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ، وإذا ادلهم الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا، ومن كان له فى كل ناحية خليط، وفى زاوية من قلبه ربيط كان نهبا للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل فى قلبه كل (....) «1» ، فقلبه أبدا خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له فى التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم:
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
ولما قال المنافقون إنما نحن مستهزئون قال الله تعالى: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزمّتهم فى أيدى الشهوات استهوتهم فى أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا فى متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين فى طغيانهم يعمهون يطيل مدة «2» هؤلاء فى مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملا، وأسوأ ما كانوا عملا، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة فى أعينهم من
__________
(1) مشتبهة فى ص.
(2) وربما كانت يطيل (مد) والسياق يقبل كليهما.(1/64)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة «1» أجلّ مصيبة لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء فى أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم:
وما ربحت تجارتهم. والذي رضى بالدنيا عن العقبى لفى خسران ظاهر.
ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا.
وإذا كان المصاب «2» بفوات النعيم مغبونا فالذى مني بالبعاد عن المناجاة وانحاز «3» بقلبه عن مولاه، وبقي فى أسر الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا فى سرّه شهود- فهذا هو المصاب والممتحن.
وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خلف عنها ولا بدل منها، ولقد قال بعضهم:
كنت السواد لمقلتى ... فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد نارا «4» فى ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقى صاحبها فى الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شىء من العوافي فى الدنيا بظاهره ثم امتحنوا فى الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شىء من إقرارهم ثم بقوا فى ظلمة إنكارهم.
والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة يسلك طريق الإرادة، ويتعنّي مدة، ويقاسى بعد الشدة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عوده ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجّل كسوف الفترة على
__________
(1) الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل، ووقفة المريد شر من فترته (الرسالة ص 199) .
(2) وردت (المصايب) فى ص وهى غير ملائمة.
(3) وردت (وأنجاز) والأرجح ما اخترنا.
(4) وردت (نارى) والأرجح ما اخترنا.(1/65)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل.
حين قرّ الهوى وقلنا سررنا ... وحسبنا من الفراق أمنّا
بعث البين رسله فى خفاء ... فأبادوا من شملنا ما جمعنا
وكذلك تحصل الإشارة فى هذه الآية لمن له أدنى شىء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإذا انقطع عنه ( ... ) «1» ماله من أحواله بقي فى ظلمة دعاواه.
وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد- برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكل ويحمل الكلّ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 18]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
صم عن سماع دواعى الحق بآذان قلوبهم، بكم عن مناجاة الحق بألسنة أسرارهم، عمى عن شهود جريان المقادير بعيون بصائرهم، فهم لا يرجعون عن تماديهم فى تهتكهم، ولا يرتدعون عن انهماكهم فى ضلالتهم.
ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمى عن مطالعة الخلق بالحق.
لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
معنى قوله أو لإباحته ضرب مثلهم إمّا بهذا وإما بذلك شبّه القرآن بمطر ينزل من السماء، وشبّه ما فى القرآن من الوعد والوعيد بما فى المطر من الرعد والبرق، وشبه التجاءهم إلى الفرار عند سماع أصوات الرعد. كذلك الإشارة لأصحاب الغفلات إذا طرق أسماعهم وعظ الواعظين، أو لاحت لقلوبهم أنوار السعادة ولو أقلعوا عمّاهم فيه من الغفلة لسعدوا، لكنهم ركنوا إلى التشاغل بآمالهم الكاذبة، وأصروا على طريقتهم الفاسدة، وتعللوا بأعذار واهية،
__________
(1) هنا كلمات زائدة وضع الناسخ عليها علامات مميزة توضح ضرورة الاستغناء عنها.(1/66)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، ويسعون فى الخطر بأيمانهم «1» :
إن الكريم إذا حباك بودّه ... ستر القبيح وأظهر الإحسانا
وكذا الملول «2» إذا أراد قطيعة ... ملّ «3» الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 20]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
من تمام مثل المنافقين- كذلك أصحاب الغفلات- إذا حضروا مشاهد الوعظ، أو جنحت «4» قلوبهم إلى الرقة، أو داخلهم شىء من الوهلة تقرب أحوالهم من التوبة، وتقوى رغبتهم فى الإنابة حتى إذا رجعوا إلى تدبرهم، وشاوروا إلى قرنائهم، أشار الأهل والولد عليهم بالعود إلى دنياهم، وبسطوا فيهم لسان النصح، وهدّدوهم بالضعف والعجز، فيضعف قصودهم، وتسقط إرادتهم، وصاروا كما قيل:
إذا ارعوى، عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسة
وقال: «ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم» يعني سمع المنافقين الظاهر وأبصارهم الظاهرة، كما أصمهم وأعماهم بالسر، فكذلك أرباب الغفلة، والقانعون من الإسلام بالظواهر- فالله تعالى قادر على سلبهم التوفيق فيما يستعملونه من ظاهر الطاعات، كما سلبهم التحقيق فيما يستبطنونه من صفاء الحالات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 21]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
العبادة موافقة الأمر، وهى استفراغ الطاقة فى مطالبات تحقيق الغيب، ويدخل فيه التوحيد بالقلب، والتجريد بالسر، والتفريد بالقصد، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم.
ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد فى أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات
__________
(1) جمع يمين ومعناها هنا اليد. [.....]
(2) وردت (الملوك) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (ملا) وهى خطأ فى النسخ.
(4) وردت في ص (جنهت) وهى خطأ فى النسخ.(1/67)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج فى منازل الكسل والاستهانة.
قوله: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» : تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة- أعنى لعلّ- على حد الخوف والرجاء.
وحقيقة التقوى التحرز والوفاء (بالطاعة) «1» عن متوعدات العقاب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 22]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
تعرّف إليهم بذكر ما منّ به عليهم من خلق السماء لهم سقفا «2» مرفوعا، وإنشاء الأرض لهم فرشا موضوعا، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقا مجموعا. ويقال أعتقهم عن منّة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لا بدّ منه، فكافيهم السماء لهم غطاء، والأرض وطاء، والمباحات رزقا، والطاعة حرفة، والعبادة شغلا، والذكر مؤنسا، والرب وكيلا- فلا تجعلوا لله أندادا، ولا تعلّقوا قلوبكم بالأغيار فى طلب ما تحتاجون إليه فإن الحق سبحانه وتعالى متوحّد بالإبداع، لا محدث سواه، فإذا توهمتم أن شيئا من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك- فى التحقيق شركا.
وقوله عز وجل: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن من له حاجة فى نفسه لا يصلح أن ترفع حاجتك إليه.
وتعلّق المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد فى الفقر، ولا يزيل هواجم الضر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
__________
(1) هذه كلمة احتاجها السياق فآضفناها مستفيدين من اقوال القشيري فى موقف مماثل فى الرسالة ص 56 (وحقيقة الاتقاء التحرز......) .
(2) وردت (شقفا) وهى خطأ فى النسخ.(1/68)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
لبّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا فى أودية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتيانا بالآيات، وإظهارا من المعجزات إلا ازدادوا ريبا على ريب وشكّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمى عن الحقيقة قال الله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ، وليبلغ عليهم فى إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كنه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن. ثم قال فإن لم تفعلوا- وأخبر أنهم قطعا لا يقدرون على ذلك ولا يفعلون فقال:
«ولن تفعلوا» ، فكان كما قال- فانظروا لأنفسكم، واحذروا الشّرك الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من (سطوتها) «1» بحيث وقودها الناس والحجارة، فإذا كانت تلك النار التي لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها () «2» فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم، وحين أشرفت «3» قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال: «أعدّت للكافرين، ففى ذلك بشارة للمؤمنين. وهذه سنّة من الحق سبحانه: إذا خوّف أعداءه «4» بشّر مع ذلك أولياءه.
وكما أنّ كيد الكافرين يضمحل فى مقابلة معجزات الرسل عليهم السلام فكذلك دعاوى الملبسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين، وأمارة المبطل فى دعواه رجوع الزجر منه إلى القلوب، وعلامة الصادق فى معناه وقوع القهر «5» منه على القلوب. وعزيز من فصلّ وميّز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
__________
(1) وردت بالصاد وعند ذلك يكون الخطأ من الناسخ، وربما كانت فى الأصل (صفتها) ، وقد تخيرنا (سطوتها) لأنها أقرب إلى الشكل الوارد ولتلاؤمها مع المعنى والسياق.
(2) هنا كلمة زائدة وضع الناسخ عليها علامة مميزة.
(3) وردت بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
(4) وردت هكذا (اعداويه) وهى خطأ فى النسخ.
(5) وردت (التهم) ولكن ما جاء بعدها يثبت خطأ الناسخ، فضلا عن أنها غير ذات معنى هنا.(1/69)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفا بنعم مؤجلة لعموم المؤمنين على الوصف الذي يشرح بلسان التفسير. ويشير إلى البشارة للخواص بنعم معجّلة مضافة إلى تلك النعم يتيح (ها) الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة «1» جنان المثوبة وهذه جنان القربة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوصال، وتلك رفع الدرجات وهذه روح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العطاء للظواهر وهذه كشف الغطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله.
قوله جل ذكره: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ.
كما أن أهل الجنة تتجدد «2» عليهم النعم فى كل وقت، فالثانى عندهم- على ما يظنون- كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم- فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم فى السرائر أبدا فى الترقي، فإذا رقىّ أحدهم عن محلّه توهّم أن الذي سيلقاه فى هذا النّفس مثل ما تقدم فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:
مازلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 26]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)
الاستحياء من الله تعالى بمعنى التّرك، فإذا وصف نفسه بأنه يستحى من شىء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحى فمعناه لا يبالى بفعل ذلك.
والخلق فى التحقيق- بالإضافة إلى وجود الحق- أقلّ من ذرة من الهباء فى الهواء،
__________
(1) وقع الناسخ فى خطأ فكتبها (المعجلة) والسياق يرفضها لأن الإشارة للبعيد بتلك وللقريب بهذه.
(2) وردت (يحدد) والسياق برفضها ويقبل (تتجدد) وربما كانت (يجدد) أي الحق سبحانه وتعالى يجدد.(1/70)
لأن هذا استهلاك محدود فى محدود. فسيّان- فى قدرته»
- العرش والبعوضة، فلا خلق العرش أشق وأعسر، ولا خلق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإنه سبحانه متقدّس عن لحوق العسر واليسر.
فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحى أن يضرب بالبعوضة مثلا كما لا يستحى أن يضرب بالعرش- فما دونه- مثلا.
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فرّت «1» وطارت، وإذا شبعت تشققت فتلفت كذلك (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) .
وقيل ما فوقها يعنى الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى إنه ليعود عند البلاغ فى الذب، ولو كان ذلك فى الأسد لم ينج منه أحد من الخلق، ولكنه لمّا خلق القوة فى الأسد خلق فيه تنافرا من الناس، ولمّا خلق الوقاحة فى الذباب خلق فيه الضعف، تنبيها منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته.
قوله جل ذكره: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار. وأمّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضرب الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال.
قوله جل ذكره: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
هذا الكتاب لقوم شفاء ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» تذكّروا عند ورود الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- قديم عهده، وسابق ودّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومن رسمه بذلّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة
__________
(1) وردت (فريت) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (قدرة) . [.....](1/71)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
النبوية إلا جحدا على جحد، وما خفى عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لما تقدم لهم سابق الضلالة. لذلك قال الله تعالى: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 27]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
الإشارة فيه إلى حال من سلك طريق الإرادة، ثم رجع إلى ما هو عليه أهل العادة، قال بترك نفسه ثم لم يصدق حين عزم الأمر، ونزل من إشارة الحقيقة إلى رخص الشريعة «1» ، وكما أنّ من سلك الطريق بنفسه- مادام يبقى درهم فى كيسه- فغير محمود رجوعه فكذلك من قصد بقلبه- مادام يبقى نفس من روحه- فغير مرضىّ رجوعه:
إن الألى ماتوا على دين الهدى ... وجدوا المنية منهلّا معلولا «2»
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: وصل أسباب الحق بقطع أسباب الخلق، ولا يتم وصل ماله إلا بقطع ما لك، فإذا كان الأمر بالعكس كان الحال بالضد.
ومما أمر العبد بوصله: حفظه ذمام أهل هذه الطريقة، والإنفاق على تحصيل ذلك بصدق الهمم لا ببذل النّعم، فهممهم على اتصال أسباب هذه الطريقة وانتظام أحوالها موقوفة، وقلوبهم إلى توقع الحراسة من الله تعالى لأهلها مصروفة. وفساد هذه الطريقة فى الأرض:
أما من لهم حواشى أحوالهم، وإطراق أمورهم فيتشاغلون عن إرشاد مريد بكلامهم، وإشحاذ قاصد بهممهم وذلك مما لا يرضى به الحق سبحانه منهم.
ومن نقض العهد أيضا أن يحيد سرّك لحظة عن شهوده، ومن قطع ما أمرت بوصله
__________
(1) من عناصر المذهب الصوفي عند القشيري إلحاحه الدائم على ألا يلجأ الصوفي إلى الاسترخاص، ذلك لأن الرخصة- وإن كانت متاحة بأمر الشريعة- إلا أنها- أي الشريعة- للعموم، وفيها يؤخذ فى الاعتبار أمر المستضعفين وأصحاب الأشغال والحوائج أما «هؤلاء الطائفة فليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، فإذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عهده مع الله تعالى» .
الرسالة ص 199.
(2) وردت (الهوى) وفى موضع آخر من اللطائف (و 165) وردت: (منهلا معسولا) .(1/72)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
أن يتخلل أوقاتك نفس لحظّك دون القيام بحقه، ومن فسادك فى الأرض ساعة تجرى عليك ولم تره فيها. ألا إن ذلك هو الخسران المبين، والمحنة العظمة، والرزية الكبرى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغى مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبه.
ويقال تعرّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال: «وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» يعنى نطفة، أجزاؤها متساوية، «فَأَحْياكُمْ» : بشرا اختصّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظما، وبعضها بكونه لحما، وبعضها بكونه شعرا، وبعضها بكونه جلدا ... إلى غير ذلك.
«ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بأن يجعلكم عظاما ورفاتا، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بأن يحشركم بعد ما صرتم أمواتا، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة.
ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» بجهلكم عنّا، «فَأَحْياكُمْ» بمعرفتكم بنا، «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عن شواهدكم، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» به بأن يأخذكم عنكم، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق «1» .
ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم فى قبضته سبحانه وتعالى.
ويقال يحبس عليهم الأحوال فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أثبتهم وأبقاهم، فهم أبدا بين نفى وإثبات، وبين بقاء وفناء، وبين صحو ومحو ... كذلك جرت سنته سبحانه معهم.
__________
(1) وردت (بأجزاء) وهى خطأ قطعا.
والمقصود بإجراء الحق هنا هو ما سبق ان نوّهنا به فى هامش سابق عن حالة الفرق الثاني حيث «يرد العبد إلى الصحو عند اوقات أداء الفرائض ليجرى عليه الفرائض فى أوقاتها فيكون رجوعا لله بالله.
فالحق مجرى أفعاله وأحواله عليه» الرسالة ص 39.(1/73)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
سخّر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شىء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون. لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون.
ويقال مهّد لهم سبيل العرفان، ونبّههم إلى ما خصّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» .
قوله جل ذكره: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته- على مخلوق- استوى، وأنّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكان بذاته استوى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
هذا ابتداء إظهار سرّه فى آدم وذريته. أمر حتى سلّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحا، وكل واحد من الملائكة يفضى «1» العجب: ما حكم هذه الطينة؟ فلمّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها فى بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ... » ترجّمت الظنون، وتقسّمت القلوب، وتجنّت الأقاويل، وكان كما قيل:
وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري
ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يقل فى شأن شىء منه ما قال فى حديث آدم حيث قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة
__________
(1) وردت فى ص (يقصى) بالقاف والصواب أن تكون (يفضى) بالفاء.(1/74)
لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إنى خالق عرشا أو جنة أو ملكا، وإنما قال تشريفا وتخصيصا لآدم إنى جاعل فى الأرض خليفة.
[فصل] ولم يكن قول الملائكة: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حمل الخطاب على ما يوجب تنزيه الملائكة أولى لأنهم معصومون ... قال تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» .
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنّ فى قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم: «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» . ثم إن الحق سبحانه عرّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلا وأقدمه، وآدم كان أكثر علما وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته.
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» ، من غفرانى لهم.
ويقال: فى تسبيحهم إظهار فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم «1» ، ومن غفرانه لمعاصى بنى آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غنى عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه.
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم فى محبتنا، وذكاء سرائرهم فى حفظ عهودنا وإن تدنّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف «2» شفيع
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من محبتى لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفى عليهم أسرارى فيهم، وفى معناه أنشدوا:
ما حطّك الواشون عن رتبة ... عندى ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- ... عليك عندى بالذي عابوا «3»
__________
(1) نلاحظ هنا تأثر القشيري بفكرة الملامة النيسابورية التي ظهرت فى موطنه، والتي من أصولها عدم إظهار الفعل، لأن فى ذلك ملاحظة واستجلاب، ملاحظة لفعل الإنسان وهو مهما بلغ تافه حقير، واستجلاب لرضاء الناس والاشتهار بينهم، وكلا الأمرين- فى نظر الملامتية- شرك خفى.
(2) وردت (بألفى) وبها ينكر الوزن.
(3) وردت أخطاء كثيرة فى البيتين مثل (ضربك) ولم (يعلموا علمك) .(1/75)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولة قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم فى رتبة وفاقكم وفى عصمة أفعالكم، وفى تجميل تسبيحكم، وهم منكرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماما قويا.
ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلى، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوى؟ ويقال لبّستكم طاعتكم ولبستهم رحمتى، فأنتم فى صدار «1» طاعتكم وفى حلّة تقديسكم وتسبيحكم، وهم فى تغمد عفوى وفى ستر رحمتى ألبستهم ثوب كرمى، وجللتهم رداء عفوى.
ويقال: إن أسعدتكم عصمتى فلقد أدركتهم رحمتى.
وإيصال عصمتى بكم عنده وجودكم وتعلّق رحمتى بهم فى أزلى.
ويقال: لئن كان محسنكم عتيق العصمة فإن مجرمهم غريق الرحمة.
ويقال: اتكالهم علىّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 31]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)
عموم قوله الأسماء يقتضى الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم «2» محل تخصصه فى علمه أسماء المخلوقات وبذلك المقدار بان رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سرّ لم يطّلع عليه ملك مقرّب. ومن ليس له رتبة مساواة آدم فى معرفة أسماء المخلوقات فأى طمع فى مداناته فى أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب؟
وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحّ (به سجود) «3» الملائكة
__________
(1) الصدار قميص صغير يلى الجسد، ولاحظ مقابلة القشيري بين الصدار للملائكة وبين الثوب والرداء للإنسان لتدرك مقاصده البعيدة.
(2) أي للملائكة.
(3) وردت فى ص (بسجود) ونرجح أنها كما أثبتنا.(1/76)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه؟ ما الذي يوجب لمن أكرم به؟
ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين فإنّ الطاعة سمة العبيد ولا تتعداهم، والعلم فى الجملة صفة مدح يجب فى نعت الحق سبحانه واجبا لا يصحّ لغيره، فالذى يكرمه بما يتصف هو سبحانه (بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقا على جنس المخلوقات) «1» .
ويقال أكرمه فى السر بما علّمه ثم بيّن تخصيصه يوم الجهر وقدّمه. ويقال قوله: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» ثم: حرف تراخ ومهلة.. إمّا على آدم فإنه أمهله من الوقت ما تقرر ذلك فى قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذ استخبره عما تحقّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة فقال لهم على وجه الوهلة: «أَنْبِئُونِي» فلمّا لم يتقدم لهم تعريف تحيّروا، ولمّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهارا لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه.
وقوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيه إشارة إلى أنهم تعرّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه فى قديم تخصيصه. ولمّا علم الحقّ سبحانه تقاصر علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنّ الأمر أمره، والحكم حكمه، فله تكليف المستطيع، ردا على من توهّم أن أحكام الحق سبحانه معلّلة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحسن ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه «2» .
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 32]
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قدّموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به، ونزّهوا حقيقة حكمه عن أن يكون يعرض وهم المعترضون «3» ، يعنى لا علم لنا بما سألتنا عنه، ولا يتوجّه عليك لوم فى تكليف العاجز
__________
(1) هكذا جاءت العبارة فى ص وهى لا تخلو من غموض ولكننا آثرنا عدم التدخل فى إصلاحها نظرا لخطورة الموقف الذي تصفه، ونرجح أن الناسخ مخطئ فى نقله.
(2) يغمز القشيري هنا بالمعتزلة الذين يقيسون الأفعال الإلهية بمقاييس إنسانية عقلية (ولكنهم نزهوا الله من حيث العقل فأخطأوا ونزهه الصوفية من حيث العلم فأصابوا) الرسالة ص 29.
(3) وردت (المعترضين) ، ويعرض هنا مضارع عرض فى الآية السابقة.(1/77)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
بما علمت أنه غير مستطيع له، إنك أنت العليم الحكيم أي ما تفعله فهو حقّ صدق ليس لأحد عليك حكم، ولا منك سفه وقبح.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 33]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
من آثار العناية بآدم عليه السّلام أنّه لمّا قال للملائكة: «أَنْبِئُونِي» داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط به علومهم. ولما كان حديث آدم عليه السّلام ردّه فى الإنباء إليهم فقال: «أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» ومخاطبة آدم عليه السلام الملائكة لم يوجب له الاستغراق فى الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السّلام بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضيلته عليهم فقال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى ما تقاصرت عنه علوم الخلق، وأعلم ما تبدون من الطاعات، وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم عليه السّلام والصلاة.
[فصل] ولمّا أراد الحق سبحانه أن ينجّى «1» آدم عصمه، وعلّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نسى فى الحضرة عهده، وجاوز حدّه، فقال الله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجرى وتمضى، ذلّ بحكمه العبيد، وهو فعّال لما يريد.
[فصل] ولمّا توهموا حصول تفضيلهم بتسبيحهم وتقديسهم عرّفهم أن بساط العز مقدس عن التجمل بطاعة مطيع أو التدنس بزلة جاحد عنيد، فردّهم إلى السجود لآدم أظهر الغناء عن كل وفاق وخلاف «2» .
__________
(1) وردت (ينجب) وهى بلا ريب خطأ فى النسخ ويمكن أن تكون ينجى آدم- كما أثبتنا- أو ينجو آدم، والأرجح ما اخترناه. [.....]
(2) وردت (وخلاق) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا ما يلائم السياق.(1/78)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
السجود لا يكون عبادة لعينه «1» ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودهم لآدم عبادة لله لأنه كان بأمره، وتعظيما لآدم لأنه أمرهم به تشريفا لشأنه، فكأن ذلك النوع خضوع له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحّ لغيره سبحانه.
ويقال بيّن أن تقدّسه- سبحانه- بجلاله لا بأفعالهم، وأن التجمّل بتقديسهم وتسبيحهم عائد إليهم، فهو الذي يجل من أجلّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزّ قدره سبحانه بإعزازه، جلّ عن إجلال الخلق قدره، وعزّ عن إعزاز الخلق ذكره.
قوله تعالى: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين فى سابق حكمه وعلمه. ولقد كان إبليس مدة فى دلال طاعته يختال فى صدار موافقته، سلّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبّت به ريح من البين فانطفا
كان يحسب لنفسه استيجاب الخيرية، ويحسب استحقاق الزلفة والخصوصية:
فبات بخير والدنى «2» مطمئنة ... وأصبح يوما والزمان تقلبا
فلا سالف طاعة نفعه، ولا آنف رجعة رفعه، ولا شفاعة شفيع أدركته، ولا سابق عناية أمسكته. ومن غلبه القضاء لا ينفعه العناء.
ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركته رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية. خاب رجاؤه، وضلّ عناؤه.
__________
(1) الضمير عائد على آدم أي ليس السجود لآدم عينه، ويحتمل أنها (لغيره) بدليل قوله فيما بعد (وذلك لا يصح لغيره سبحانه)
(2) وردت (والزمان) وقد صححنا البيت طبقا لما ورد فى عيون الأخبار لابن قتيبة.(1/79)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 35]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
«1» أسكنه الجنة ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولا، وبالخضرة يبسا، وبالوجود فقدا، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع.
ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدّها لم يقع فى شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكان أفضل من الجنة ولا بشر أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قولة إشارة الحق عليه، ولا غريبة (منه) قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنّ القدرة لا تكابر، والحكم لا يعارض.
ويقال لما قال له: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً» كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخلق السكون إلى الخلق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السّلام وحده كان بكل خير وكل عافية، فلمّا جاء الشكل والزوج ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة فحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل:
داء قديم فى بنى آدم ... صبوة إنسان بإنسان
[فصل] وكلّ ما منع «2» منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه.
فهذا آدم عليه السّلام أبيحت له الجنة بجملتها ونهى عن شجرة واحدة، فليس فى المنقول أنه مدّ يده إلى شىء من جملة ما أبيح، وكان عيل صبره حتى واقع ما نهى عنه- هكذا صفة الخلق.
[فصل] وإنما نبّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» فإذا أخبر أنه جاعله خليفته فى الأرض كيف يمكن بقاؤه فى الجنة؟
__________
(1) وردت خطأ (فكلا) ، والصحيح (وكلا) البقرة: 35.
(2) وردت (امتنع) ثم استدرك الناسخ فصححها على هذا النحو فى الهامش.(1/80)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
ويقال أصبح آدم عليه السّلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القربة، وفى جيده (....) «1» الزلفة، لا أحد فوقه فى الرتبة، ولا شخص مثله فى الرفعة، يتوالى عليه النداء فى كل لحظة يا آدم يا آدم. فلم يمس حتى نزع عنه لباسه، وسلب استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخرج بغير مكث:
وأمنته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا
ولمّا تاه آدم عليه السّلام فى مشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل:
لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك وراحوا كالمساكين
[فصل] نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبّس عليه ما أخفاه فيه من سرّه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 36]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
أزلهما أي حملها على الزّلة، وفى التحقيق: ما صرّفتهما إلا القدرة «2» ، وما كان تقلبهما إلا فى القضية، أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهرا، ولكن ما ازداد- فى حكم الحق سبحانه- شأنهما إلا رفعة وقدرا.
قوله جل ذكره: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
أوقع العداوة بينهما وبين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم (وحرب وهو معهم محالهم بالظفر «3» ) .
[فصل] لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزه قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .
[فصل] لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكان فى هداية نفسه،
__________
(1) مشتبهة ولكن يحتمل انها (نضار) فهى قريبة من ذلك فى الرسم.
(2) هذا رأى على جانب كبير من الأهمية.
(3) هكذا وردت العبارة فى ص وقد أثبتناها كما هى دون تصرف حتى فى رسم الحروف.(1/81)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
وكيف يكون ذلك؟ والتفرد بالإبداع لكل شىء من خصائص نعته سبحانه.
قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، ومعهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحدثان تعلّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 37]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
جرت على لسان آدم مع الحق- سبحانه- كلمات، وأسمع الحقّ- سبحانه- آدم كلمات، وأنشدوا:
وإذا خفنا من الرقباء عينا ... تكلمت السرائر فى القلوب
وأجمل الحقّ سبحانه القول فى ذلك إجمالا ليبقى القصة مستورة، أو ليكون للاحتمال والظنون مساغ، ولما يحتمله الحال من التأويل مطرح «1» .
ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السّلام اعتذارا وتنصلا، وكلمات الحق سبحانه قبولا وتفضلا. وعلى لسان التفسير أن قوله تعالى له: أفرارا منا يا آدم؟ كذلك قوله عليه السلام: ربنا ظلمنا أنفسنا. وقوله: أمخرجى أنت من الجنة؟ فقال: نعم، فقال أتردني إليها؟ فقال: نعم.
ويقال حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زادا، ليكون له تذكرة وعتادا:
وأذكر أيام الحمى ثم انثني على ... على كبدى «2» من خشية أن تقطّعا
ومخاطبات الأحباب لا تحتمل الشرح، ولا يحيط الأجانب بها علما، وعلى طريق الإشارة لا على معنى التفسير والتأويل، والحكم على الغيب بأنه كان كذلك وأراد به الحق سبحانه
__________
(1) مطرح أي موضع.
(2) وردت على (كبد) . (والأصل فى البيت) (تصدعا) بدلا من (تقطعا) .(1/82)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
ذلك يحتمل فى حال الأحباب عند المفارقة، وأوقات الوداع أن بقال إذا خرجت من عندى فلا تنس عهدى، وإن تقاصر عنك يوما خبرى فإياك أن تؤثر علىّ غيرى، ومن المحتمل أيضا أن يقال إن فاتنى وصولك فلا يتأخّرنّ عنى رسولك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 38]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
سوء الأدب على البساط يوجب الرد إلى الباب، فلما أساء آدم عليه السّلام الأدب فى عين القربة قال الله تعالى: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، بعد أن كان لكم فى محل القربة قرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، يستمتعون يسيرا ولكن (فى) آخرهم يعودون إلى الفقر، وأنشدوا:
إذا افتقروا عادوا إلى الفقر حسبة «1» ... وإن أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر
وحين أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض بشّره بأنه يردّه إلى حاله لو جنح بقلبه إلى الرجوع فقال: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
والذين قابلوا النعمة بغير الشكر، وغفلوا عن التصديق والتحقيق فلهم عذاب أليم مؤجلّ، وفراق معجّل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 40]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
حقيقة النعمة على لسان العلماء «2» لذة خالصة عن الشوائب، وما يوجب مثلها فهى أيضا عندهم نعمة، وعند أهل الحقيقة النعمة ما أشهدك المنعم أو ما ذكّرك بالمنعم أو ما أوصلك إلى إلى المنعم أو ما لم يحجبك عن المنعم.
__________
(1) حسبة أي احتسابا- هكذا فى الهامش.
(2) واضح أن مقصود القشيري من (لسان العلماء) و (لسان التفسير) هو التفسير العادي، أما (عند أهل الحقيقة) و (الإشارة منه) ونحو ذلك فهو التفسير الصوفي.(1/83)
وتنقسم إلى نعمة أبشار وظواهر، ونعمة أرواح وسرائر، فالأولى وجوه الراحات والثانية صنوف المشاهدات والمكاشفات. فمن النعم الباطنة عرفان القلوب ومحاب الأرواح ومشاهدات السرائر «1» .
[فصل] ويقال أمر بنى إسرائيل بذكر النّعم وأمر أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بذكر المنعم، وفرق بين من يقال له اذكر نعمتى وبين من يقال له: فاذكرونى أذكركم.
قوله جل ذكره: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
عهده- سبحانه- حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة، عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه، عهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب.
أوفوا بعهدي بحفظ السر أوف بعهدكم بجميل البر، أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق، أوفوا بعهدي فى ألا تؤثروا علىّ غيرى أوف بعهدكم فى ألا أمنع عنكم لطفى وخيرى، أوفوا بعهدي برعاية ما أثبتّ فيكم من الودائع أوف بعهدكم بما أديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع «2» ، أوفوا بعهدي بحفظ أسرارى أوف بعهدكم بجميل مبارّى، أوفوا بعهدي باستدامة عرفانى أوف بعهدكم فى إدامة إحسانى، أوفوا بعهدي فى القيام بخدمتي أوف بعهدكم فى المنّة عليكم بقبولها منكم، أوفوا بعهدي فى القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوف بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة، أوفوا بعهدي بالتبري عن الحول والمنّة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمنّة، أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل أوف بعهدكم بالكفاية والتفضل، أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوف بعهدكم بكمال القربة، أوفوا بعهدي اكتفوا منى بي أوف بعهدكم أرضى بكم عنكم، أوفوا بعهدي فى دار الغيبة على بساط الخدمة بشدّ نطاق الطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة أوف بعهدكم فى دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة، أوفوا بعهدي فى المطالبات بترك
__________
(1) نعرف من هذا ان الملكات الباطنة عند القشيري هى فضلا عن النفس التي هى محل المحظورات والمعلولات، والعقل الذي به تصحيح الإيمان فى البداية- القلب وهو مستودع المعرفة والروح وهى مستودع المحبة ثم السر وهو الذي يشاهد الحقائق، وله فوق ذلك ملكة أخرى هى سر السر أو عين السر لا يطلع عليها سوى الحق.
(2) اللوامع تسبق الطوالع فى الظهور، والطوالع أبقى وقتا وأقوم سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة وانفى للتهمة (الرسالة ص 43، 44) . [.....](1/84)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات، أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبدا: ربى ربى أوف بعهدكم بأن أقول لكم عبدى عبدى. وإياى فارهبون، أي أفردونى بالخشية لانفرادى بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا منّة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 41]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
الإشارة أن يقرن (العبد) إيمانه من حيث البيان بإيمانه من حيث البرهان، وجمهور المؤمنين لهم إيمان برهان بشرط الاستدلال، وخواص المؤمنين لهم إيمان من حيث البيان بحق الإقبال، وأقبل الحق سبحانه عليهم فآمنوا بالله، وآخر أحوالهم الإيمان من حيث العيان، وذلك لخواص الخواص.
ولا تكونوا أول كافر به، ولا تسنّوا «1» الكفر سنّة فإن وزر المبتدئ فيما يسنّ أعظم من وزر المقتدى فيما يتابع.
«ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا» لا تؤثروا على عظيم حقى خسيس حظّكم. «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ» كثير «2» من يتقى عقوبته وعزيز من يهاب اطلاعه ورؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 42]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
«3» لا تتوهموا أن يلتئم لكم جمع الضدين، والكون فى حالة واحدة فى محلين «4» ، (فالعبد) إما مبسوط بحق أو مربوط بحظ، وأمّا حصول الأمرين فمحال من الظن.
«وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» تدنيس، «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» تلبيس، «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن حق الحق تقديس، وأنشدوا:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله، كيف يلتقيان؟!
هى شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا استهل يمانى!
__________
(1) وردت (ولا تنسوا) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (كثيرا) وهى خطأ حيث يجب الرفع على تقدير (من يتقى عقوبته كثير) .
(3) أخطأ الناسخ إذ كتبها. (ولا تلبس) والصحيح ولا تلبسوا (البقرة: 41) .
(4) وردت فى (محلى) وهى خطأ فى النسخ.(1/85)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 43]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
احفظوا آداب الحضرة فحفظ الآداب أتمّ فى الخدمة من الخدمة، والإشارة فى إيتاء الزكاة إلى زكاة الهمم كما تؤدّى زكاة النّعم، قال قائلهم:
كلّ شىء له زكاة تؤدّى ... وزكاة الجمال رحمة مثلى
فيفيض من زوائد هممه ولطائف نظره على المتّبعين والمربين بما ينتعشون به و ( ... ) «1» ،
«وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» : تقتدى بآثار السلف فى الأحوال، وتجتنب سنن الانفراد فإن الكون فى غمار الجمع أسلم من الامتياز من الكافة «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
أتحرّضون الناس على البدار «3» وترضون بالتخلّف؟ ويقال أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنّا؟ أتسرحون الوفود وتقصرون فى الورود «4» ؟ أتنافسون الخلق «5» وتنافرونهم بدقائق الأحوال وترضون بإفلاسكم عن ظواهرها؟
ويقال أتبصرون من الحق مثقال الذّر ومقياس الحبّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرّمال والجبال؟ قال قائلهم:
وتبصر فى العين منى القذى ... وفى عينك الجذع لا تبصر؟!
ويقال أتسقون بالنّجب «6» ولا تشربون بالنّوب؟
__________
(1) هنا لفظتان مشتبهتان وفيهما شطب.
(2) الاشارة وإن كانت لصلاة الجماعة إلا أنها توضح أيضا حرص القشيري على الاهتمام بالإجماع كمصدر من مصادر الشريعة.
(3) وردت بالياء وهى خطأ فى النسخ.
(4) من ورد الماء أي ذهب ليستسقى.
(5) وردت أتنافسون (الحق) وواضح أنها خطا فى النسخ.
(6) نجب الأشياء وتجائبها لبابها وخالصها، وربما كانت النخب (بالخاء) ج نخب وهو الشربة العظيمة الوسيط ص 915.(1/86)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
«وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» ثم تعاندون بخفايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ» إن ذلك ذميم من الخصال وقبيح من الفعال.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 45]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)
الصبر فطم النفس عن المألوفات، والصلاة التعرّض لحصول المواصلات، فالصبر يشير إلى هجران الغير، والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب، وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلّى الحق لسرّه فإن فى الخبر المنقول: «إن الله تعالى إذا تجلّى لشىء «1» خشع له» . وإذا تجلّى الحق، خفّ وسهل ما توقّى الخلق لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة، والتجلي بالمشاهدات- بحكم التحقيق- يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة.
ويقال استعينوا بي على الصبر معى، واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لى، حتى لا تستغرقكم واردات الكشف والهيبة، فلا تقدرون على إقامة الخدمة.
وإن تخفيف سطوات الوجود على القلب فى أوان الكشف حتى يقوى «2» العبد على القيام بأحكام الفرق لمنّة عظيمة من الحق «3» .
وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر فى الله، والصبر لله، والصبر بالله والصبر مع الله إلا صبرا واحدا وهو الصبر عن «4» الله:
والصبر يخسن فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم «5»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 46]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) .
__________
(1) وردت بدون اللام، والأصح بها.
(2) وردت حتى (يقول) وهى خطأ فى النسخ.
(3) يشير القشيري بذلك إلى الفرق الثاني، ويعتبر أن من علامة قبول العبد عند ربه أن يساعده على الرجوع إلى هذا الفرق حتى يستطيع أداء ما عليه من فريضة
(4) الأرجح أنها (على) بدليل ورودها فى البيت الشاهد، كذا في «الرسالة» فى سياق مماثل. [.....]
(5) ورد البيت فى الرسالة هكذا (والصبر يجمل) و (فإنه لا يجمل) ص 93.(1/87)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
الظن يذكر، ويقال المراد به اليقين، وهو الأظهر هاهنا.
ويذكر ويراد به الحسبان فمن ظنّ ظن يقين فصاحب وصلة.
ومن ظنّ ظن تخمين فصاحب فرقة. وملاقو ربهم، صيغة تصلح لماضى الزمان والحاضر وهم ملاقون ربهم فى المستقبل. ولكن القوم «1» لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعد لهم تقرّر، والغيب لهم حضور.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 47]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)
أشهد بنى إسرائيل فضل أنفسهم فقال: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» .
وأشهد المسلمين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فضل نفسه فقال: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» «2» .
فشتّان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر وهو خطر الإعجاب، وشهود العبد فضل الحق- الذي هو جلاله فى وصفه وجماله فى استحقاق نعته- يقتضى الثناء وهو يوجب الإيجاب «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
العوام خوّفهم بأفعاله فقال: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «وَاتَّقُوا النَّارَ» .
والخواص خوّفهم بصفاته فقال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» وقال:
«وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ... إلى قوله إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» «4» .
وخاص الخاص خوّفهم بنفسه فقال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» .
__________
(1) يقصد الصوفية.
(2) سورة يونس آية 58.
(3) الإيجاب- الاستحقاق والقبول.
(4) يونس آية 61.(1/88)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
والعدل الفداء.
ويوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له، وأذن فيه، فهو الشفيع الأكبر- على التحقيق- وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف «1» .
وفى معناه قيل:
الحمد لله شكرا ... فكلّ خير لديه
صار الحبيب شفيعا ... إلى شفيع إليه
والذين أصابتهم نكبة القسمة لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وما لهم من ناصرين، فلا يقبل منهم فداء، ولو افتدوا بملء السموات وملء الأرضين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
من صبر فى الله على بلاء أعدائه عوّضه الله صحبة أوليائه، وأتاح «2» له جميل عطائه فهؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياءهم، وجعلهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين. «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» : قيل نعمة عظيمة وقيل محنة شديدة. وفى الحقيقة ما كان من الله- فى الظاهر- محنة فهو- فى الحقيقة لمن عرفه- نعمة ومنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
تقاصرت بصائر بنى إسرائيل فأراهم المعجزات عيانا، ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سرا، وبذلك جرت سنّته سبحانه، وكل من كان أشحذ بصيرة كان الأمر عليه أغمض،
__________
(1) وردت (التوفيق) وهى خطأ فى النسخ، والقشيري- كغيره من الباحثين- يرى أنه لا ينبغى إضافة اسماء وصفات لما ورد فى الحديث المروىّ عن أبى هريرة والذي أبلغها تسعة وتسعين، فلا يصح أن يسمى الله عاقلا ولا ذكيا ونحو ذلك.
(2) وردت (بالخاء) وهى خطأ فى النسخ.(1/89)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
والإشارات معه أوفر، قال صلّى الله عليه وسلّم» : أوتيت جوامع الكلم واختصر لى الكلام اختصارا» «1» .
وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون- داخلهم ريب فقالوا: إنه لم يغرق «2» حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون. وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وقوة بصائرهم (أن) قال واحد من أفتاء «3» الناس: «كأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون وكأنى أنظر عرش ربى بارزا» «4» فشتّان بين من يعاين فيرتاب مع عيانه، وبين من يسمع فكالعيان حاله من قوة إيمانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 51]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)
شتّان بين أمة وأمة فأمّة موسى عليه السّلام- غاب نبيّهم عليه السّلام أربعين يوما فاتخذوا العجل معبودهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبودا، فقالوا:
«هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» «5» وأمة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مضى من وقت نبيّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحدا يذكر فى وصف معبودهم ما يوجب تشبيها لما أبقوا على حشاشتهم ولو كان فى ذلك ذهاب أرواحهم «6» .
__________
(1) «إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لى الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون» البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى قتادة مرسلا (المنتخب من كنز العمال 4 ص 302) .
والتهوك الاضطراب فى القول وأن يكون على غير استقامة.
(2) الفعل بالمفرد هنا لأنه عائد على لفظ آل أو على فرعون، ثم تحدث بعد ذلك بالجمع حين أعاده على المعنى
(3) إفتاء وفتاء جمع فتّى وهو الشاب من إنسان أو حيوان الوسيط ص 610.
(4) خرّجتا هذا الحديث المروي عن حارثة فى هامش سبق.
(5) سورة طه آية 88.
(6) يغمز القشيري هنا بالمشبهة، فيلحق من يقول بالتشبيه بعيدة العجل، فكلاهما توقح ونسب للالوهية ما ينبغى أن تتنزه عنه. وأهل السنة يرفضون رفضا قاطعا كل ما يشين الذات الإلهية من تصورات مادية.(1/90)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
ويقال إن موسى- صلوات الله عليه- سلّم أمته إلى أخيه فقال: اخلفني فى قومى، وحين رجع وجدهم وقعوا فى الفتنة، ونبيّنا- صلوات الله عليه- توكّل على الله فلم يشر على أحد فى أمر الأمة وكان يقول فى آخر حاله: الرفيق الأعلى. فانظر كيف تولّى الحق رعاية أمته فى حفظ التوحيد عليهم. لعمرى يضيّعون حدودهم ولكن لا ينقضون «1» توحيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 52]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
سرعة العفو على عظيم الجرم تدل على حقارة قدر المعفو عنه، يشهد لذلك قوله تعالى (مخاطبا أمهات المسلمين) : «مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» ، هؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال الله تعالى: «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» ، وقال لهذه الأمة (يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم) : «وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 53]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
فرقان هذه الأمة الذي اختصّوا به نور فى قلوبهم، به يفرّقون بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لوابصة: «استفت قلبك» «2» .
وقال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «3» .
وقال الله تعالى: «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» وذلك الفرقان ميراث ما قدّموه من الإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عزّه من ظلم الظالمين شىء، ومن وافق هواه واتّبع مناه فعجله ما علّق به همّه، وأفرد له قصده.
__________
(1) وردت (ينقصون) بالصاد والأقوى أن تكون بالضاد لأن المقصود هو تمسك أمة محمد (ص) بعدم (نقض) التوحيد. [.....]
(2) هكذا رواه أحمد فى مسنده والبخاري فى تاريخه والدارمي فى سننه وحسنه النووي فى رياض الصالحين بلفظ «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون» .
(3) الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة والترمذي من حديث أبى سعد والطبراني وابو نعيم عن انس(1/91)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
قوله جل ذكره: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ.
الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية.
قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.
التوبة بقتل النفوس غير ( ... ) «1» إلا أن بنى إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سرا، فأوّل قدم فى القصد إلى الله الخروج عن النفس.
[فصل] ولقد توهم الناس أن توبة بنى إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمّا أهل الخصوص من هذه (الأمة) «2» ففى كل لحظة قتل، ولهذا:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
وقتل النفس فى الحقيقة التبري عن حولها وقوتها أو شهود شىء منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطر له ولا عبرة به.
قوله جل ذكره: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
كونه لكم عنكم أتمّ من كونكم لأنفسكم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 55]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاح بترك الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة.
__________
(1) هنا كلمة مشتبهة.
(2) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.(1/92)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقرونا بملاطفات القربة من علامات الوصلة دلالات السعادة.
فلا جرم لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 56]
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنّة فى الصفح عن الجرم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هنات الخدم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
لمّا طرحهم فى متاهات الغربة لم يرض إلا بأن ظلّلهم، وبلبسة الكفايات جلّلهم، وعن تكلف التكسّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولّاهم فلا شعورهم كانت تطول، ولا أظفارهم كانت تنبت، ولا ثيابهم كانت تتسخ، ولا شعاع الشمس عليهم كان ينبسط. وكذلك سنّته لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيرا مما يختاره لنفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 58]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
() «1» بنو إسرائيل على تضييع ما كانوا يؤمرون، حتى قالة أوصوا بحفظها فبدّلوها، وحالة من السجود أمروا بأن يدخلوا عليها فحوّلوها، وعرّضوا أنفسهم لهام الغيب، ثم لم يطيقوا الإصابة بقرعها «2» ، وتعرضوا لمفاجات العقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وقعها.
__________
(1) كلمة مشتبهة فى ص.
(2) وردت بدون الباء فى ص وقد أضفناها ليستقيم المعنى.(1/93)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 59]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم، أو يصدوا من دونهم أسباب البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم، فزعوا من الندم لما عضّهم ناب»
الألم، وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
إن الذي قدر عل إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، وإيصال محل الاستغاثة إليه، وليكون على موسى عليه السّلام- أيضا فى نقل الحجر- مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساة نوع من معالجة ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه «2» .
ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جاريا على سنّة، ملازما لحدّه، غير مزاحم لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامة يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يردون مشرب الآخرين، والآخرون لا يردون مشرب الأولين.
وحين كفاهم ما طلبوا أمرهم بالشكر، وحفظ الأمر، وترك اختيار الوزر، فقال:
ولا تعثوا فى الأرض مفسدين.
والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلّ يرد مشربه فمشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، ومشرب صاف زلال، ومشرب رتق أوشال «3» . وسائق كلّ قوم
__________
(1) وردت (تاب) بالتاء وهى خطأ فى النسخ.
(2) لاحظ هنا مذهب القشيري فى التوكل، وكيف أنه لا يتعارض مع السعى.
(3) أوشال: جمع وشل وهو الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره الوسيط ص 1047.(1/94)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
يقودهم، ورائد كلّ طائفة يسوقهم فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك فى حقيقة الوجود والذات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
لم يرضوا بحسن اختياره لهم، ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يهمّهم من كفاية مأكولهم وملبوسهم، فنزلوا فى التحير إلى ما جرت «1» عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام، والرضا بالدون من الحال، فردّهم إلى مقاساة الهوان، وربطهم بإدامة الخذلان، حتى سفكوا دماء الأنبياء وهتكوا حرمة الأمر بقلّة الاستحياء، وترك الاروعاء، فعاقبهم على قبيح فعالهم، وردّهم إلى ما اختاره لأنفسهم من خسائس أحوالهم، وحين لم تنجح فيهم «2» النصيحة، أدركتهم النقمة والفضيحة. ويقال كان بنو إسرائيل متفرقى الهموم مشتّتي القصود لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد، ولم يكتفوا فى تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السّلام- لمّا رأوا قوما يعبدون الصنم «3» - يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم إله،
__________
(1) وردت فى ص (مرت) وهى بالجيم أصوب.
(2) وردت (فهيم) وهى خطأ في النسخ.
(3) وردت (الضم) وهى خطأ فى النسخ.(1/95)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
وهكذا صفة أرباب التفرقة. والصبر مع الواحد شديد، قال تعالى: «وإذا ذكرت ربك فى القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدّق الحق سبحانه فى آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتباين الشرع واختلاف وقوع الاسم غير قادح فى استحقاق الرضوان، لذلك «1» قال: «إن الذين آمنوا والذين هادوا» ثم قال: «من آمن منهم، أي إذا اتفقوا فى المعارف فالكلّ لهم حسن المآب، وجزيل الثواب. والمؤمن من كان فى أمان الحق سبحانه، ومن كان فى أمانه- سبحانه وتعالى- فبالحرىّ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
أخذ سبحانه ميثاق جميع المكلّفين، ولكنّ قوما أجابوا طوعا لأنه تعرّف إليهم فوحّدوه وقوما أجابوه كرها لأنه ستر عليهم فجحدوه، ولا حجّة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور- وهو الجبل- ولكن عدموا نور البصيرة، فلا ينفعهم عيان البصر. قال الله تعالى «ثم توليتم من بعد ذلك» ، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحلمه بأفضاله لعاجلكم بالعقوبة، وأحلّ عليكم عظيم المصيبة ولخسرت صفقتكم بالكلّية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 65]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) .
__________
(1) وردت (كذلك) .(1/96)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
مسخ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما ألزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النّصّ، فهذه الأمة من نقض العهد ورفض الحدّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» » وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفى معناه أنشدوا:
يا سائلى: كيف كنت بعده؟ ... لقيت ما ساءنى وسرّه
ما زلت أختال فى وصالى حتى ... أمنت من الزمان مكره «2»
طال علىّ الصدود حتى ... لم يبق مما شهدت ذرّة
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 66]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
هكذا من منى بالهجران، ووسم بالخذلان صارت أحواله عبرة، وتجرّع- من ملاحظته لحاله- عليه الحسرة، وصار المسكين- بعد عزّه لكلّ خسيس سخرة. هكذا آثار سخط الملوك وإعراض السادة عن الأصاغر:
وقد أحدق الصبيان بي وتجمعوا ... علىّ وأشلوا بالكلاب ورائيا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 68]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)
كان الواجب عليهم استقبال الأمر بالاعتناق ولكنهم تعللوا ببقاء الأشكال توهما بأن يكون لهم ( ... ) «3» تفضى بالإخلاد إلى الاعتدال «4» عن عهدة الإلزام فتضاعفت عليهم المشقة وحلّ بهم «5» ما حذروه من الافتضاح.
[فصل] ولما قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك، أي ليست بفتية ولا مسنّة بل هى بين السّنّين. حصلت الإشارة أن الذي يصلح لهذه الطريقة من لا يستهويه
__________
(1) سورة الأنعام آية 110. [.....]
(2) ورد في البيت (أحتال) و (وجال) و (أتيت) من الزمان وقد أصلحنا ليستقيم المعنى والوزن.
(3) سقطت هنا لفظة من الناسخ وهو ينتقل من ورقة إلى أخرى
(4) الاعتدال هنا بمعنى العدول عن الشيء.
(5) وردت (وجلبهم) وهى غير ملائمة للمعنى والسياق.(1/97)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
نزق الشباب وسكره، ولم يعطّله عجز المشيب وضعفه، بل هو صاح استفاق عن سكره، وبقيت له- بعد «1» - نضارة من عمره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 69 الى 70]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة «2» يستغرق شاهده القلوب لما ألبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب «3» حتى أن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولى عليه ذكر الحق، كذا فى الخبر المنقول: أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله (....) «4»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 71]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
«5» كما أن تلك البقرة لم يذللها العمل، ولم تبتذل فى المكاسب، لا لون فيها يخالف عظم لونها فالإشارة منه أن أهل الولاية «6» الذين لم يتبذلوا بالأغيار لتحصيل ما طلبوا من الأسباب، ولم يركنوا بقلوبهم إلى الأشكال والأمثال، ولم يتكلوا على الاختيار والاحتيال، وليسوا نهبا لمطالبات المنى، ولا صيدا فى مخلب الدنيا، ولا حكم للشهوات عليهم، ولا سلطان للبشرية تملّكهم، ولم يسعوا قط فى تحصيل مرادهم، ولم يشقوا لدرك بغيتهم، وليس عليهم رقم الأغيار، ولا سمة الأسباب- فهم قائمون بالله، فانون عما سوى الله، بل هم محو، مصرّفهم الله. والغالب- على قلوبهم- الله.
وكما أن معبودهم الله كذلك مقصودهم الله.
__________
(1) ربما صحت على هذا ويكون المعنى ما زالت فيه بقية من نضارة عمره، ويحتمل أن تكون فى الأصل (بعض) ويكون المعنى وبقيت له بعض نضارة من عمره.
(2) يقصد أهل التصوف.
(3) وردت (الغير) ولا معنى لها هنا لأن شهود الغيب هو الذي يحدث ذلك الأثر.
(4) فى (ص) علامات تدل على أن الكلام مبتور، ونرجح أن (ذاكر) بدل (ذكر) .
(5) أخطأ الناسخ عند كتابة هذه اللفظة من الآية الكريمة حيث وردت (قال) الآية 70 من سورة البقرة.
(6) فى ص (ولاية) بدون تعريف والأصح بها.(1/98)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
وكما أن مقصودهم الله كذلك مشهودهم الله، وموجودهم الله، بل هم محو بالله و (....) «1»
عنهم الله، وأنشد قائلهم.
إذا شئت أن أرضى وترضى وتملكى ... زمامى- ما عشنا معا- وعنانى
إذن فارمقى الدنيا بعيني واسمعي ... بأذنى وانطقى بلساني
قوله جل ذكره: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.
طلبوا الحيلة ما أمكنهم فلما ضاقت بهم الحيل استسلموا للحكم فتخلصوا من شدائد المطالبات، ولو أنهم فعلوا ما أمروا به لما تضاعفت عليهم المشاق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 72]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
الخائن خائف، ولخشية أن يظهر سرّه يركن إلى التلبيس والتدليس، والإنكار والجحود ولا محالة ينكشف عواره، وتتضح أسراره، وتهتك عن شين فعله أستاره. قال الله تعالى:
«وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 73]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
أراد الله سبحانه أن يحيى ميتهم ليفضح بالشهادة على قاتله فأمر بقتل حيوان لهم فجعل سبب حياة مقتولهم قتل حيوان لهم، صارت الإشارة منه:
أن من أراد حياة قلبه لا يصل إليه إلا بذبح نفسه فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيى قلبه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد الله حياة ذكره فى الأبدال «2» أمات فى الدنيا ذكره بالخمول «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) .
__________
(1) مشتبهة فى ص.
(2) ربما كانت فى الأصل (الأبد)
(3) أي منع عنه الاشتهار بين الخلق لأن المهم مرتبته لدى الحق.(1/99)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
بيّن أنهم- وإن شاهدوا عظيم الآيات وطالعوا واضح البينات- فحين لم تساعدهم العناية ولم يخلق الله (لهم) الهداية، لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة، ولم تبرز لهم من مكامن التقدير إلا شقوة (على شقوة، وشبّه قلوبهم بالحجارة لأنها لا تنبت ولا تزكو، وكذلك قلوبهم لا تفهم «1» ، ولا تغنى «2» . ثم بيّن أنها أشد (......) «3» من الحجارة، فإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، ومنها ما تظهر عليه آثار خشية الله «4» ، وأمّا قلوبهم فخالية عن كل خير، وكيف لا وفد منيت بإعراض الحقّ عنها، وخصّت بانتزاع الخيرات منها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 76]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)
أنبأهم عن إيمانهم، وذكر أنهم بعد سماع الخطاب من الله- سبحانه- حرّفوا وبدّلوا فكيف يؤمنون لكم وإنما يسمعون بواسطة الرسالة، ومن لم يبق على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان، والذي لم يصلح للحق لا يصلح لكم، ومن لم (يحتشم من الحق) فكيف يحتشم منكم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 77]
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
تواصوا فيما بينهم بإنكار الحق، وإخفاء الحال على المسلمين، ولم يعلموا أن الله يطلع رسوله عليه السّلام على أسرارهم، وأن نورا أظهره الغيب لا ينطفئ بمزاولة الأغيار. وموافقة اللّسان مع مخالفة العقيدة لا يزيد إلا زيادة الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
__________
(1) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ أثبتناها فى موضعها. [.....]
(2) أي لا تغنى عنهم من الله شيئا، وربما كانت فى الأصل (ولا تعى) حتى تتلاءم مع (لا نفهم) .
(3) زيادة ميزها الناسخ- لا لزوم لها.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» .(1/100)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
أخبر أنهم متفاوتون فى نقائص كفرهم، فقوم منهم أخسّ درجة وأكثر جهلا ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة بل اغتروا بظنّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها. ومنهم من أكثر شأنه ما يتمناه فى نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق. ثم أخبر عن سوء عاقبتهم بقوله جل ذكره:
«فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» .
أي خسروا فى الحال والمآل، والإشارة فى هذه الآية لمن عدم الإخلاص فى الصحبة فى طريق الحق ينضمّ إلى الأولياء ظاهرا ثم لا تصدق له إرادة فهو مع أهل الغفلة مصاحب، وله مع هذه الطريقة جانب، كلما دعته هواتف الحظوظ تسارع إلى الإجابة طوعا، وإذا قادته دواعى الحق- سبحانه- يتكلف شيئا، فبئست الحالة حين لم يخلص، وما أشد ندمه فيما ادّخر عن الله! ثم لا يفلح.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)
الإشارة فى هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة، وغلب عليه حسبانه، فحكم لنفسه- لفرط غفلته- بأنه من أهل القصة «1» ، ويخلد إلى هواجس مناه، فيحكم على الغيب بأنه يتجاوز عنه نسى قبائح ما أسلفه، ويذكر مغاليط ما ظنّه، فهو عبد نفسه، يغلب عليه حسن ظنه، وفى الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره، قال تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 81]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)
الذي أحاطت به خطيئته هو الكافر- على لسان العلم «2» .
__________
(1) أي من أهل الطريق الصوفي.
(2) أي على لسان التفسير العادي أي غير الاشارى.(1/101)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
ولكنّ الإشارة منه إلى من سكن قلبه على استغاثاته على وجه الدوام، فإن أصحاب الحقائق كالحبّ «1» على المقلى- فى أوقات صحوهم، فمن سكن فلفرط عزّته- لا يفترون «2» .
ومن استند إلى طاعة يتوسّل بها ويظن أنه يقرب بها ينبغى أن يتباعد عن السكون إليها ومن تحقّق بالتوحيد علم ألا وسيلة إليه إلا به.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 82]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
فى الحال جنان الوصل.........
(..........)
(..........)
(.........) «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 85]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
... أضرابكم وقرنائكم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، الإشارة فيه أن نصرتكم لإخوانكم على ما فيه بلاؤهم نصرة عليهم بما فيه شقاؤهم، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى «4» تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
أي كما تراعون- بالفداء عنهم- حقوقهم، فكذلك يفترض عليكم كفّ أيديكم عنهم، وترك إزعاجهم عن أوطانهم، فإذا قمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم
__________
(1) وردت (كالحسب) وهى خطأ فى النسخ.
(2) من الفترة، وقد أوضحنا رأى المصنف فى الفترة والوقفة فى هامش سبق.
(3) حدث سقوط فيما بين (الوصل) و ... (أضرابكم) وبذلك لم يصلنا تفسير الآيات الكريمة من رقم 82 إلى 84.
(4) يستخرج القشيري من لفظة أسارى إشارات معينة بعد قليل.(1/102)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
عن الباقي، حتى تقوموا به كما أمرتم؟ أما علمتم أن من فرّق بين ما أمر به فآمن ببعض وكفر ببعض فقد حبط- بما ضيّعه- أجر ما عمله.
قوله جل ذكره: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي ظنوا أن ما فعلوه نفعهم، فانكشف لهم فى الآخرة أن جميع ما فعلوه- لمّا مزجوه بالآفات وجرّدوه عن الصدق والإخلاص- غير مقبول منهم.
والأسراء أصناف: فمن أسير غرق فى بحار الهوى فإنقاذه بأن تدلّه على الهدى.
ومن أسير بقي فى أيدى الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشك والتخمين، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين. ومن أسير تجده فى أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه، ففكّ أسره بأن تدلّه على شهود المنن، بتبرّيه عن حسبان كلّ حول يخلق وغير. ومن أسير تجده فى ربيطة ذاته ففكّ أسره إنشاده «1» إلى إقلاعه، وإنجاده على ارتداعه. ومن أسير تجده فى أسر صفاته ففكّ أسره أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون»
، ومن أسير تجده فى قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء، ولا لقتلاهم عود، ولا لربيطهم خلاص، ولا عنهم بدّ، ولا إليهم سبيل، ولا من دونهم حيلة، ولا مع سواهم راحة، ولا لحكمهم ردّ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 86]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
إن الذين آثروا عليه شيئا خسروا فى الدنيا والآخرة كما قالوا:
__________
(1) إنشاده إلى إقلاعه أي مطالبته والنصح له.
(2) وردت (المكون) والأصوب الكون لأن المقصود يقتضى ذلك.(1/103)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
أناس أعرضوا عنّا ... بلا جرم ولا معنى
فإن كانوا «1» قد استغنوا ... فإنّا عنهم أغنى
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
الإشارة: أوصلنا لهم الخطاب، وأردفنا رسولا بعد رسول، والجميع دعوا إلى واحد.
ولكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قبلوه، وما استثقلته «2» أهواؤهم جحدوه «3» ، فإذا كان الهوى «4» صفتهم ثم عبدوه، صارت للمعبود «5» صفات العابد، فلا جرم الويل لهم ثم الويل! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
لو كان منهم شىء بمجرد الدعوى لهان وجود المعاني، ولكن عند مطالبات التحقيق تفترّ أنياب المتلبّسين عن أسنان شاحذة بل (.....) «6» وقيل:
إذا انسكبت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى
__________
(1) اللفظة ناقصة فى المتن ومصححة فى الهامش على اليسار.
(2) وردت (استسقلته) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (هجدوه) ثم تصحيح لها فى الهامش (جهدوه) ولا يستبعد أنها: (جحدوه) على أساس نكرانهم للتوحيد. [.....]
(4) وردت (الهوا) والصحيح (الهوى) .
(5) وردت (المعبود) وهى خطأ فى النسخ.
(6) هنا كلمة مشتبهة.(1/104)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
الإشارة فيه لمن عزم على الصفاء، ووعد من نفسه تحقيق الوفاء، ونشر أعلام النشاط عند البروز «1» إلى القتال، تنادى بالنّزال وصدق القتال- انهدم عند التفات «2» الصفوف، وانجزل عن الجملة خشية هجوم المحذور، قال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
أنزلهم التحاسد عن مقر العزّ «3» إلى حضيض الخزي، وسامهم ذلّ الصّغر حين لم يرضوا بمقتضى الحكم، فأضافوا استيجاب مقت آنف إلى استحقاق مقت سالف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) .
__________
(1) وردت (البرود) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت هكذا فى (ص) ، وربما كانت فى الأصل (التقاء) الصفوف أو (التفاف) كذلك يحتمل (انهزم) بدلا من (انهدم) .
(3) وردت (العسر) وهى خطأ فى النسخ.(1/105)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
الإشارة فيه: إذا قيل لهم حقّقوا ما أظهرتم من حكم الوفاق بتحقيق الحال وإقامة البرهان سمحت نفوسهم ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم، (....) «1» بعدا عن زمرة الخواص، غير معدودين فى جملة أرباب الاختصاص.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
«2» أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عجل اتخذتموه، وصنم تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم، لكن بقيت آثاره فى قلوبهم وقلوب أعقابهم، ولذلك يقول أكثر اليهود بالتشبيه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
كرّر الإخبار عن غلوّهم فى حبّ العجل، ونبوّهم عن قبول الحق، و (.........) «3»
وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل، فلا النصح نجع فيهم، ولا العقوبة أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا «4» ، ولا بموجب الأمر عملوا.
__________
(1) هنا لقطة مشتبهة.
(2) أخطأ الناسخ حين كتبها (جاءهم) فصححناها طبقا للاية 92.
(3) هنا عبارة غامضة كتابة وبالتالى معنى.
(4) وردت (اختلفوا، والملائم للسياق (احتفلوا) أي أظهروا الاهتمام.(1/106)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
من علامات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافي فمن وثق بأن له الجنة قطعا- فلا محالة- يشتاق إليها، ولمّا لم يتمنوا الموت «1» - وأخبر الله سبحانه أنهم لن يتمنوه أبدا- صار هذا التعريف معجزة للرسول صلوات الله عليه وعلى آله إذ كان كما قال.
وفى هذا بشارة «2» للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديما قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.
قال الله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
«3» حبّ الحياة فى الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أحبّهم للبقاء فى الدنيا. وحال المؤمن من هذا على الضدّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم فالعبد الآبق لا يريد رجوعا إلى سيّده. والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء مع من شرّه غير مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين
__________
(1) فى النسخة (الجنة) ولكن الآية الكريمة والسياق يشيران إلى تمنى الموت ثم إن الضمير فيما بعد في (لن يتمنوه أبدا) ضمير مذكر وليس ضمير مؤنث.
(2) وردت (وفى هذا إشارة) والمعنى يتطلب (بشارة) مما يرجح هذه على تلك.
(3) أسقط الناسخ من الآية من أول (وما هو) إلى (أن يعمر) فأثبتناه.(1/107)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
الموت (لا قيمة له) إذا فاجأ الأمر وانقطع العمر. وكلّ ما هو آت فقريب، وإذا انقضت المدّة فلا مردّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
زعمت اليهود أن جبريل لا يأتى بالخير، وأنهم لا يحبونه، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به، فأكذبهم الحقّ سبحانه فقال: من كان عدوا لجبريل لأنه لا يأتى بالخير فأى خير أعظم مما نزل به من القرآن؟! ثم قال إن من عادى «1» جبريل وميكائيل فإن الله عدو له فإنّ رسول الحبيب إلى الحبيب العزيز المورد- كريم المنزلة، عظيم الشرف. وما ضرّت جبريل- عليه السّلام- عداوة الكفار، والحق سبحانه وتعالى وليّه، ومن عادى جبريل فالحقّ عدوّه، وما أعزز «2» بهذا الشرف وما أجلّه! وما أكبر علوه! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 100]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
لم يكفر بواضح آياته إلا من سدّت عن الإدراك بصائره، وسبقت من الله بالشقاوة
__________
(1) وردت (عبادى) وهى خطأ في النسخ، فعادى مناسبة لعدم محبتهم لجبريل كما سبق. [.....]
(2) الصحيح ان يقال وأعزز بهذا الشرف أو: ما أعز هذا الشرف فليس فى التعجب ما أفعل به فما حدث هو خطأ من الناسخ لأن القشيري- كما تعلم من سيرته- حريص أشد الحرص على قواعد النحو.(1/108)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قسمته، ولا عقل لمن يجحد أنّ النهار نهار، وكذلك لا وصل لمن لم تساعده من الحق أنوار واستبصار. أو كلّما عاهدوا عهدا سابق التقدير لهم كان يشوّش عليهم، وينقض عهدهم لا حق التدبير منهم، والله غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 101]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
«1» جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر، وكذّبوا رسلهم الذين أتوهم فى الظاهر، فيا جهلا ما فيه شظية من العرفان! ويا حرمانا قارنه خذلان! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
من فرّقته الأهواء وقع فى كل مطرح من مطارح الغفلة، فيستقبله كل جنس من قضايا
__________
(1) أخطأ الناسخ فكتبها (مصدقا) والصحيح (مصدق) الآية 101.(1/109)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
الجهالة، ثم إن من طالت به الغيبة صار للناس عبرة، ولمن سلك طريقه فتنة، فمن اقتدى به فى غيّه انخرط فى سلكه، والتحقق بجنسه، هكذا صفة هاروت وماروت فيما استقبلهما، صارا للخلق فتنة بل عبرة، فمن أصغى إلى قيلهما، ولم يعتبر بجهلهما تعلّق به بلاؤهما، وأصابه فى الآخرة عناؤهما.
والإشارة من قصتهما إلى من مال فى هذه الطريقة إلى تمويه وتلبيس، وإظهار دعوى بتدليس، فهو يستهوى من اتّبعه «1» ، ويلقيه فى جهنم بباطله، (............) «2»
ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستاره، وظهر لذوى البصائر عواره.
وإن هاروت وماروت لما اغترّا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بسطا لسان الملامة فى عصاة بنى آدم، فلما ركّب فيهما من نوازع الشهوات، ودواعى الفتن والآفات، اقتحما فى العصيان، وظهر منهما ما انتشر ذكره على ألسنة القصاص، وهما منكّسان إلى يوم القيامة ولولا الرفق بهما وبشأنهما لما انتهى فى القيامة عذابهما، ولكنّ لطف الله مع الكافة كثير. ولمّا قال الله تعالى: «وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» علم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم- وإن كان صفة مدح- ففيه غير مرغوب فيه، بل هو مستعاذ منه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بك من علم لا ينفع.
قوله جل ذكره: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
لو علم المغبون ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسرات، ولكن سيعلم- يوم تبلى السرائر- الذي فاته من الكرائم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 103]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
ولو آثروا الإقبال على الله على اشتغالهم عن الله، لحصّلوا ذخر الدارين، ووصلوا إلى
__________
(1) وردت (التبعة) وهى خطأ فى النسخ.
(2) هنا عبارة غامضة كتابة ومعنى، ويرجح أن الناسخ قد وقع فى أخطاء نقلية.(1/110)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
عزّ الكونين، ولكن كبستهم سطوات القهر، فأثبتهم فى مواطن الهجر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 104]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
قصود الأعداء فى جميع أحوالهم- من أعمالهم وأقوالهم- قصود خبيثة فهم- على مناهجهم- يبنون فيما يأتون ويذرون. فسبيل الأولياء التّحرز عن مشابهتهم، والأخذ فى طريق غير طريقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 105]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصلة مستدامة، ولكن الحسود لا يسود، ولا يحصل له مقصود وخصائص الرحمة للأولياء كافية- وإن زعم من الأعداء أفّاك أنه انهدمت من أوطان فرحهم أكناف وأطراف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 106]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
النسخ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هى فوقها وأعلى منها، فغصن وصلك أبدا ناضر، ونجم عزّك أبدا ظاهر، فلا ننسخ من آثار العبادة شيئا إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودة «1» .
__________
(1) وردت (من أقمار العبودية) وهى خطأ من الناسخ، لأن السياق هنا يتطلب (العبودة) -(1/111)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
فأبدا «1» سرّك فى الترقي، وقدرك فى الزيادة بحسن التّولّي وقيل ما رقّاك عن محل العبودية إلا سلكك بساحات الحرية، وما رفع عنك شيئا من صفات «2» البشرية إلا أقامك بشاهد من شواهد الألوهية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 107]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
سنّته- سبحانه- أن يجذب أولياءه عن شهود ملكه إلى رؤية ملكه «3» ، ثم يأخذهم من مطالعة ملكه إلى شهود حقّه، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى شهود ذاته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
إنّ بنى إسرائيل آذوا موسى عليه السّلام، فنهى المسلمون عن فعل ما أسلفوه، وأمروا
__________
- فنحن نعرف من مذهب القشيري ان العبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص.
العبادة لأصحاب المجاهدات، والعبودية لأرباب المكابدات، والعبودة صفة أهل المشاهدات ...
وهكذا- ومن أسانيد كثيرة فى باب العبودية فى «الرسالة» - نلحظ أن الدرجة القصوى في الأمر هى (العبودة) ، والترتيب هنا يمشى هكذا آثار العبادة، أنوار العبودية، أقمار العبودية، وهو ترتيب فى غاية الدقة، يعطى كل درجة قدرها.
(1) وردت (فأبد) بدون تنوين.
(2) تلقت النظر هنا إلى أهمية كلمة صفات البشرية، أي أن المقصود- حسب مذهب القشيري- ليس سقوط البشرية فى حد ذاتها، وإنما صفاتها المعلولة، وينبغى أن يكون واضحا تمام الوضوح أن التصوف الإسلامى الحق- والقشيري من أفضل المعبرين عنه- لا يقول بأدنى تداخل بين البشرية والألوهية فالعبد عبد والرب رب.
(3) ضبطنا ملك وملك مستفيدين من كلام القشيري فى كتابه «التحبير» ضمن اسم «الملك» .(1/112)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
بمراعاة أن حشمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغاية ما يتسع فى الإمكان. فكانوا بحضرته كأنّ على رءوسهم الطير. قال تعالى: «تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» وحسن الأدب- فى الظاهر- عنوان حسن الأدب مع الله فى الباطن.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 109]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
من لحقه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودّ ألا يطلع لأحد بالسلامة نجم، ومن اعتراه الحسد أراد ألا تنبسط على محسوده شمس.
وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم الله أنفهم، وكبّهم على «1» وجوههم.
والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة فى البداية إذا رغبوا فى السلوك، فمن لم يساعده التوفيق (فى الصحبة، وعاشر أناسا مترسّمين بالظواهر) «2» فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقا، أدركهم مقت الوقت.
وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئا من روائح الصدق.
«فاعفوا واصفحوا ... » فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سرّه، ويستعمل مع كل أحد ضلة «3» ، ويبذل فى الطلب رفعة «4» ، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه.
__________
(1) فى النسخة ص (وكبهم لوجوههم) وقد آثرنا عليها (على وجوههم) .
(2) أصلحنا فى هذه العبارة قليلا لكى يتضح معناها طبقا لوصايا القشيري للمريدين فى «رسالته»
(3) هكذا وردت فى (ص) وقد نقلناها كما جاءت، وربما كانت فى الأصل (خلة) بمعنى الصفة اى أن يحافظ على سره مع ربه عن طريق اتصافه مع صحبته بصفات ملائمة. تضمن أن يكون سره محفوظا
(4) ربما كانت فى الأصل (ويبذل فى الطلب وسعه) .(1/113)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 110]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
الواجب على المريد إقامة المواصلات، وإدامة التوسل بفنون «1» القربات، واثقا بأن ما يقدمه من صدق المجاهدات تدرك «2» ثمرته فى أواخر الحالات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 111]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)
«3» كلّ حزب يمهّد الأمل لنفسه، ويظنّ النجاة لحاله، ويدعى الوسل «4» من سهمه.
ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتى بحاصل، ولا يحوز بطائل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 112]
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
«5» أسلم وجهه أي أخلص لله قصده، وأفرد لله وجهه، وطهّر عن الشوائب عقله.
«وهو محسن» . عالم بحقيقة ما يفعله وحقيقة ما يستعمله، وهو محسن فى المآل كما أنه مسلم فى الحال.
ويقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فتكون مستسلما بظاهرك، مشاهدا بسرائرك، فى الظاهر جهد وسجود وفى الباطن كشف ووجود.
__________
(1) جاءت هكذا فى ص (يقنون) ثم صححها الناسخ فى الهامش. [.....]
(2) جاءت فى ص (تدركوا) .
(3) أخطأ الناسخ إذ كتبها (يدخلوا) والصحيح (يدخل) الآية 111.
(4) الوسل والوسيلة والواسلة الوصلة والقربى من الله (الوسيط ص 1044) .
(5) أسقط الناسخ (بلى) والصحيح وجودها الآية 112.(1/114)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
ويقال «أسلم وجهه» بالتزام الطاعات، «وهو محسن» قائم بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر، ولا يلحقهم خفىّ المكر، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غدا عن الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
الإشارة فى هذه الآية على العكس من حكم الظاهر فالأعداء يتبرأ بعضهم من بعض اليوم، والأولياء من وجه كذلك، ولذا قالوا: لا زالت الصوفية بخير ما تنافروا، ولا يقبل بعضهم بعضا لأنه لو قبل بعضهم بعضا بقي بعضهم مع بعض.
لكنّ الأعداء كلهم على الباطل. عند تبرّى بعضهم من بعض أمّا الأولياء فكلّهم على الحق- وهذه ما ذكرنا من حكم العكس.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
الإشارة فيه أن الظالم من خرّب أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين. وخرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وأوطان المعرفة قلوب العارفين.
وخرّب أوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهى أرواح الواجدين. وخرّب أوطان(1/115)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
المشاهدات بالالتفات إلى القربات وهى أسرار الموحدين «1» .
قوله جلّ ذكره: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
لأهل الإشارة خزى الدنيا بذل الحجاب، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها. وللقلوب شوارق وطوارق. وطوارقها هواجس النفوس تطرق فى ظلمات المنى والشهوات.
وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف.
فما دامت الشوارق طالعة فقبلة القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت «2» الحقائق خفى سلطان الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حسّ وفهم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان.
فإن وجدان «3» هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محوا فأنّى لهم ببقاء الصفة! قال تعالى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» مادام يبقى من الإحساس والتمييز بقية- ولو شظية- فالقبلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائل بكلّ وجهة، ولا معرفة بالقبلة تساوت الجهات فى جواز الصلاة إلى كل واحد منها إذا لم يكن للنية ترجيح.
__________
(1) نعرف من مذهب القشيري أن الأسرار (للموحدين) ولذا نرجح أن الناسخ أخطأ حينما كتبها (الواجدين) وقد أثبتناها هنا على هذا الترجيح.
(2) وردت (سولت) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وجدان، ووجود مصدران لوجد، غير أن القشيري يؤثر استعمال لفظة (الوجود) بمعناها الاصطلاحي الدقيق فى موضعها للائم (التواجد بداية والوجد واسطة والوجود نهاية) .(1/116)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 116]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)
مكر بهم لم يفنهم- من الإفناء- فى الحال، بل جعل موجب اغترارهم طول الإمهال، فنطقوا بعظيم الفرية على الله، واستنبطوا عجيب المرية فى وصف الله، فوصفوه بالولد! وأنّي بالولد وهو أحدى الذات؟! لا حدّ لذاته، ولا تجوز الشهوة فى صفاته.
قوله جل ذكره: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ.
أي ليس فى الكون شىء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادى عليه آثار الخلقة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامت منها ناطق، وعلى وحدانيته- سبحانه- دليل وشاهد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
البديع عند العلماء موجد العين لا على مثل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شىء مثله. فهذا الاسم يشير إلى نفى المثل عن ذاته، ونفى المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أمد يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوّره، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمرا فلا يعارض «1» عليه مقدور، ولا ينفك من حكمه محظور.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
«2» «3»
__________
(1) الصواب أن تكون (فلا يعتاص) ، فهكذا يعبر القشيري فى مثل هذا السياق.
(2) وردت (لولا يكلمهم) وهى خطأ، وقد صححناها طبقا للآية 117.
(3) وردت خطأ (بيّن) والصحيح (بينا) الآية 117.(1/117)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها، وأمر التكوين (يتناول المكلفين وأفعال المكلفين) «1» ، لكن من عدم سمع الفهم تصامم «2» عن استماع الحق، فإنه- سبحانه- خاطب قوما من أهل الكتاب، وأسمعهم خطابه «3» ، فلم يطيقوا سماعه، وبعد ما رأوا من عظيم الآيات حرّفوا وبدّلوا. وفى الآيات التي أظهرها ما يزيح العلّة من الأغيار، ويشفى الغلّة من الأخيار، ولكن ما تغني الدلائل- وإن وضحت- عمن حقّت لهم الشقاوة وسبقت؟
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
أفردناك بخصائص لم نظهرها على غيرك فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافقك، والمردود من خالفك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال، ولا عنك لأحد ( ... ) «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
لا تبال برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم، ودون ذلك لهم حظ القتال فأعلن «5» التبري منهم، وأظهر الخلاف معهم، وانصب العداوة
__________
(1) العبارة التي فى (ص) مضطربة فى الخط والمعنى، وقد صحناها طبقا لما نعرف من آراء القشيري الكلامية: إن الله خالق العباد وأفعال العباد (فالله خالق كل شىء، أما الإنسان فليس له أن يوصف بذلك لأن كل من لحقه وصف التكوين لا يصح منه الإيجاد) .
(2) وردت (تصامح) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت أسمعهم (خاطبهم) والأرجح أنها فى الأصل أسمعهم (خطابه) .
(4) مشتبهة. [.....]
(5) وردت (ما علف) وهى خطأ فى النسخ، وقد جعلناها (فأعلن) لتلائم (وأظهر) بعدها.(1/118)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
لهم، وأعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة، فاحرص ألا يخطر ذلك ببالك «1» ، وادع- إلى البراءة عنهم وعن طريقتهم- أمّتك، وكن بنا لنا، متبرّيا عمن سوانا، واثقا بنصرتنا، فإنّك بنا ولنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
الذين فتحنا أبصارهم بشهود حقنا وكلنا أسماع قلوبهم بسماع خطابنا، وخصصناهم بإسبال نور العناية عليهم، وأيّدناهم بتحقيق التعريف فى أسرارهم، يقومون بحق التلاوة، ويتصفون بخصائص الإيمان والمعرفة فهم أهل التخصيص، ومن سواهم أصحاب الرد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 122]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)
جرت سنته- سبحانه- فى الخطاب مع قوم موسى عليه السّلام أن يناديهم بنداء العلامة فيقول: يا بنى إسرائيل اذكروا، أي يا بنى يعقوب، ومع هذه الأمة «2» أن يخاطبهم بنداء الكرامة فيقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 123]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
أمّا الأعداء فلا يقبل منهم شيئا، وأما الأولياء فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» ، والكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا حكم كل أمة مع نبيّها، وأمّا المؤمنون- فعلى التخصيص- تنفعهم شفاعة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) جاءت الجملة فى ص هكذا (فاحرس عن أخطار ذلك ببالك) وسمحنا لأنفسنا بشىء من التصرف يقبح فهم المعنى، وربما كان أقرب إلى الأصل.
(2) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.(1/119)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
وكلّ أحد يقول يومئذ نفسى نفسى ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم يقول: أمتى أمتى «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
البلاء تحقيق الولاء، فأصدقهم ولاء أشدّهم بلاء.
ولقد ابتلى الحق- سبحانه- خليله عليه السّلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووفّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» - من التوقية- أي لم يقصّر بوجه البتة.
يقال حمّله أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخلّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شىء، فقام بتصحيح ذلك مختليا عن جميع ما سواه، سرّا وعلنا. «2»
كذلك لم يلاحظ جبريل عليه السّلام حين تعرض له وهو يقذف فى لجة الهلاك، فقال:
هل من حاجة؟ فقال: أمّا إليك.... فلا.
ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السّلام فى تلك الحالة، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنا من كان؟!
__________
(1) أخطأ الناسخ حين نقلها «كل عهد يقول ... والصواب» كل أحد ... وقد سمع القشيري هذه العبارة من أستاذه الدقاق- كما يقول فى رسالته فى باب الفتوة.
(2) هذا هو رأى القشيري فى «الخلّة» ، ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى بعض الآراء الأخرى فيها.
فالمعتزلة- الذين يبتعدون عن كل ما يحمل على التشبيه- يبذلون جهدهم فى الاستعانة باللغة للحصول على تأويلات للنص القرآنى تخدم هذه الغاية، فلما لم يرضهم حمل لفظة الخليل على ظاهرها فى الآية «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (النساء: 125) استشهدوا ببيت من الشعر القديم لزهير وهو:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم
(ديوان زهير نشر دار الكتب ص 153) وفيه خليل بمعنى محتاج، وقد أورد القشيري هذا الرأى ضمن تفسيره للآية 124 النساء، أي أنه لا يعارض أن تحتمل اللفظة هذا المعنى.
ويفسر دكتور عبد الرحمن بدوي قول أبى طالب المكي (إن رابعة قد ارتفعت إلى وصف معنى الخلة) بما يلى: (على أن مقام الخلة هذا يمكن أن يفسر على أساس أنه شعور بتجاوز الخير والشر، ذلك أن القيم الأخلاقية لا اعتبار لها إلا بالنسبة إلى بنى الإنسان والدنيا. أما- رابعة ورباح- فقد تجاوزا نطاق البشرية وصارا يلوذان بجوار الألوهية واطرحا الناسوت وشاع فيهما اللاهوت» .
شهيد العشق الإلهي ص 63، 64(1/120)
وفى هذا إشارة دقيقة إلى الفرق بين حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وحال إبراهيم عليه السّلام، لأنه تعرض جبريل للخليل وعرض عليه نفسه:
فقال: أمّا إليك.. فلا. ولم يطق جبريل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فنطق بلسان العجز وقال:
لو دنوت أنملة لاحترقت «1» .
وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السّلام من قوّته بحيث يعرض للخليل عليه السّلام نفسه، وبين حالة يعترف للحبيب- صلوات الله عليه- فيها بعجزه.
قوله جل ذكره: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً.
الإمام من يقتدى به، وقد حقّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال: «ملة أبيكم إبراهيم» أي اتبعوا ملة إبراهيم يعنى التوحيد، وقال:
«واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» .
هذا هو تحقيق الإمامة. ورتبة الإمامة أن يفهم عن الحق ثم يفهم الخلق فيكون واسطة بين الحق والخلق، يكون بظاهره مع الخلق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلق ما يقوله له الحق.
قوله جل ذكره: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.
نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أكرم به. فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نسب، أو باستيجاب سبب، وإنما هى أقسام مضت بها أحكام فقال له: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»
__________
(1) يشير بهذا إلى ما حدث ليلة الاسراء والمعراج فى الملأ الأعلى (انظر كتاب المعراج) للقشيرى نشره دكتور على عبد القادر. ط. (الكتب الحديثة) سنة 1964.(1/121)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهى لا ادّخار لها عن أحد وإن كان كافرا، ولذلك:
قال جلّ ذكره: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 126]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
يعنى ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدى لا يناله إلا من اخترته من خواص عبادى.
أمّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد.
أمّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد.
قوله جل ذكره: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً.
واذكر يا محمد حين جعلنا البيت- يعنى الكعبة- مثابة للناس إليه يثوبون، ومأمنا لهم إليه يرجعون، وإياه من كل نحو يقصدون.
هو بيت خلقته من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل فمن نظر إلى البيت بعين الخلقة انفصل، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل «1» ، وكلّ من التجأ إلى ذلك البيت أمن من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام، والتوبة عن الآثام.
ويقال بنى البيت من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد.
بيت من وقع عليه ظلّه أناخ بعقوة «2» الأمن.
__________
(1) قارن رأى القشيري الصوفي الحريص بآراء بعض الصوفية الذين أوتوا حظا من الجرأة فى التعبير.
عن هذا الموضوع، من ذلك مثلا قول رابعة «لا أريد الكعبة بل رب الكعبة أما الكعبة فماذا أفعل بها ... ولم تشأ أن تنظر إليها (تذكرة الأولياء. العطار ج 1 ص 61) .
وقول الحلاج: «إن شوقنا إلى الله يجب أن يمحو عقليا فى نفوسنا صورة الكعبة، كيما نجد من أقامها «شخصيات قلقة فى الإسلام. د. بدوي ص 68.
(2) العقوة- الموضع المتسع أمام الدار أو المحلة أو حولهما (الوسيط ص 624) .(1/122)
بيت من وقع عليه طرفه بشّر بتحقيق الغفران.
بيت من طاف حوله طافت اللطائف بقلبه، فطوفة بطوفة، وشوطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيت ما خسر من أنفق على الوصول «1» إليه ماله.
بيت ما ربح من ضنّ عليه بشىء من زاره نسى مزاره، وهجر دياره.
بيت لا تستبعد إليه المسافة، بيت لا تترك زيارته لحصول مخافة، أو هجوم آفة، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة.
بيت من قعد عن زيارته فلعدم فتوّته، أو لقلة محبته.
بيت من صبر عنه فقلبه أقسى من الحجارة. بيت من وقع عليه شعاع أنواره تسلّى عن شموسه وأقماره.
بيت ليس العجب ممن بقي (عنه) «2» كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع! قوله جل ذكره: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.
عبد رفع لله سبحانه قدما فإلى القيامة جعل أثر قدمه قبلة لجميع المسلمين إكراما لا مدى له.
قوله جل ذكره: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
__________
(1) وردت (الوصل) وهى خطا فى النسخ.
(2) (عنه) تكملة جاءت فى هامش الصفحة وهى تكملة ضرورية.(1/123)
قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الأمر فى الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب.
وتطهير البيت بصونه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار.
وطواف الحجاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحق فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين «1» وهؤلاء أرباب التمكين.
وقلوب القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدا واقفة.
وقلوب الموحّدين على بساط الوصل أبدا راكعة.
وقلوب الواجدين على بساط القرب أبدا ساجدة.
ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدا واقفة، وسوامى قصود المريدين بمشهد الجود أبدا طائفة، ووفود همم العارفين بحضرة العزّ أبدا عاكفة.
قوله جل ذكره: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً.
السؤال إذا لم يكن مشوبا بحظّ العبد كان مستجابا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظّ نفسه، وإنما كان لحقّ ربّه عزّ وجلّ.
ولمّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم
__________
(1) وردت (التكوين) وهى خطأ من الناسخ، والصحيح أنها (التلوين) .
والتلوين والتمكين لفظان اصطلاحيان: (التلوين صفة ارباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين لأنه يرتقى من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف وهو أبدا فى الزيادة أما صاحب التمكين فوصل ثم اتصل، وأمارة أنه اتصل أنه بالكلية عن كليته بطل.
والتغير بما يرد على العبد إما لقوة الوارد او لضعف صاحبه، والسكون إما لقوته أو لضعف الوارد عليه) الرسالة ص 44(1/124)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
وفى الذين لم يؤمنوا. ولمّا قال فى حديث الإمامة: «ومن ذرّيتى» من غير إذن منع وقيل له:
«لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
نجح السؤال فى صدق الابتهال فلما فزعا إلى الخضوع فى الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال.
«إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لأقوالنا «الْعَلِيمُ» بأحوالنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 128]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
«مُسْلِمَيْنِ» : منقادين لحكمك حتى لا يتحرك منّا عرق بغير رضاك، واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك لتقوم بعدنا مقامنا فى القيام بحقوقك، وشتان بين من يطلب وارثا لماله، وبين من يطلب نائبا بعده يقوم بطاعته فى أحواله.
«وَأَرِنا مَناسِكَنا» إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام.
«وَتُبْ عَلَيْنا» : بعد قيامنا بجميع ما أمرتنا حتى لا نلاحظ حركاتنا وسكناتنا، ونرجع إليك عن شهود أفعالنا لئلا يكون خطر الشّرك الخفىّ فى توهّم شىء منّا بنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 129]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)(1/125)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
إن الواجبات لمّا كانت من قبل الرسل دون مجرد المعقول سأل ألا يتركهم سدى، وألا يخليهم عن رسول وشرع. وطلب فى ذلك الموقف أن يكون الرسول «مِنْهُمْ» ليكونوا أسكن إليه وأسهل عليهم، ويصحّ أن يكون معناه أنه لما عرّفه- سبحانه- حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به (أمره «1» ) .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
أخبر أنه آثر الخليل صلوات الله عليه على البرية، فجعل الدين دينه، والتوحيد شعاره والمعرفة صفته فمن رغب عن دينه أو حاد عن سنّته فالباطل مطرحه، والكفر مهواه إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
الإسلام هو الإخلاص وهو الاستسلام، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس، قال: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» : قابلت الأمر بالسمع والطاعة، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة. ولم يدخر شيئا من ماله وبدنه وولده، وحين أمر بذبح الولد قصد الذبح، وحين قال له خلّه من الأسر (عمل) «2» ما أمر به، فلم يكن له فى الحالين «اختيار» ولا تدبير.
ويقال إن قوله: «أَسْلَمْتُ» : ليس بدعوى من قبله لأن حقيقة الإسلام إنما هو التّبرى من الحول والقوة، فإذا قال: «أَسْلَمْتُ» فكأنه قال أقمنى فيما كلفتنى، وحقّق منى ما به أمرتنى. فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شىء من قبل نفسه.
ويقال أمره بأن يستأثر بمطالبات القدرة فإن من حلّ فى الخلّة محلّه يحل به- لا محالة- ما حلّ به.
__________
(1) نرجح أنها فى الأصل (أخبره) حتى تتلاءم مع السياق وبذا يكون الناسخ مخطئا فى نقلها.
(2) فى ص (فعلم) ويمكن أن يحتملها المعنى، ولكن ترجيح (عمل) أقوى فى الدلالة على الامتثال.(1/126)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
ويسأل هاهنا سؤال فيقال: كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه: «أَسْلَمْتُ» ولم يقل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم حينما قيل له اعلم «علمت» ؟.
والجواب عن ذلك من وجوه: منها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أنا أعلمكم بالله «1» » ولكن لم يرد بعده شرع فكان يخبر عنه بأنه قال علمت.
ويقال: إن الله سبحانه أخبر عن الرسول عليه السّلام بقوله: «آمن الرسول» لأن الإيمان هو العلم بالله سبحانه وتعالى، وقول الحق وإخباره عنه أتمّ من إخباره- عليه السّلام- عن نفسه.
والآخر أن إبراهيم لما أخبر بقوله: «أسلمت» اقترنت به البلوى، ونبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- يتحرز عما هو صورة الدعوى فحفظ وكفى.
والآخر أن إبراهيم عليه السّلام أمر بما يجرى مجرى الأفعال، فإن الاستسلام به إليه يشير. ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بالعلم، (ولطائف العلم أقسام) «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 132]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
أخبر أن إبراهيم عليه السّلام وصّى بنيه، وكذلك يعقوب عليه السّلام قال لبنيه لا يصيبنكم الموت إلا وأنتم يوصف الإسلام. فشرائعهم- وإن اختلفت فى الأفعال- فالأصل واحد، ومشرب التوحيد لا ثانى- له فى التقسيم- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ»
__________
(1) «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله» .
البخارى عن أنس «والله إنى لأخشاكم وأتقاكم له» .
والشيخان عن عائشة «والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» . [.....]
(2) هنا وضع الناسخ علامة تدل على أنه أخطأ فى الثقل، ولهذا فإن العبارة التى وردت فى (ص) مضطربة وقد آثرنا أن نلتقط منها ما نرجح أنه ملائم للمعنى. فالمقصود أن إبراهيم عليه السّلام عبّر بقوله «أسلمت» وهذا فعل إنسانى بينما لم يقل الرسول (ص) «علمت» لأن العلم ليس كسبا للعبد وإنما هو قسمة له أى أنه من عين الجود لا من قبيل المجهود، والله أعلم.(1/127)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
بشارة بما تقوى به دواعيهم على الرغبة فيما يكلفهم من الإسلام، لأنهم إذا تحققوا أن الله سبحانه اصطفى لهم ذلك علموا أنه لا محالة يعينهم فيسهل عليهم القيام بحق الإسلام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
جروا كلهم- صلوات الله عليهم- على منهاج واحد فى التوحيد والإسلام، وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، فهم أهل بيت الزلفة، ومستحقو القربة، والمطهّرون من قبل الله- على الحقيقة.
قوله جل ذكره: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قدره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طيّع له «1» بقولهم «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
أنزل الحقّ- سبحانه- كلّا بمحلّه، وأفرد لكل واحد قدرا بموجب حكمه، فلا لهؤلاء عن أشكالهم خبر، ولا بما خصّ به كل طائفة إلى آخرين أثر، وكلّ فى إقليمه ملك، ولكل يدور بالسعادة فلك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) .
__________
(1) وردت (طبع لهم) ونرجح أن الناسخ قد أخطأ فى النقل لأن «ونحن له مسلمون» معناه (ونحن طيّع له) وطيّع جمع طائع مثل ركّع وسجّد من راكع وساجد.(1/128)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
معناه إذا تجاذبتك الفرق، واختلفت عليك المطالبات بالموافقة، فاحكم بتقابل دعاواهم، وأزد من توجهك إلينا، جاريا على منهاج الخليل عليه السّلام فى اعتزال الجملة، سواء كان أباه، أو كان ممن لا يوافق مولاه، ولذا قال «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله» للحق بالحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
لمّا آمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بجميع ما أنزل من قبله أكرم بجميع ما أكرمه من قبله، فلمّا أظهر موافقة الجميع أمر الكلّ بالكون تحت لوائه فقال: «آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة» » .
ولمّا آمنت أمّته بجميع ما أنزل الله على رسله «2» ، ولم يفرقوا بين أحد فهم ضربوا فى التكريم بالسّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
إن سلكوا طريقتكم، وأخذوا بسبيلكم، أكرموا بما أكرمتم، ووصلوا إلى ما وصلتم، وإن أبوا إلا امتيازا أبينا إلا هوانهم. فإنّ نظرنا لمن خدمك يا محمد بالوصلة،
__________
(1) «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» .
من أحاديث الشفاعة رواه الترمذي (79/ 6 منتخب كنز العمال) .
(2) وردت رسوله، والأولى أن تكون رسله لأن السياق يقتضى ذلك.(1/129)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
وإعراضنا عمن باينك وخالفك ( ... ) «1» ، من خالفك فهو فى شق الأعداء، ومن خدمك فهو فى شق «2» الأولياء.
«فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» : كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادى النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم (منا) «3» خصائص اللطف والإكرام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
معناه الزموا صبغة الله، فهو نصب بإضمار فعل.
والإشارة أن العبرة بما وضع الحق لا بما جمع العبد، فما يتكلفه الخلق فإلى الزوال مآله، وما أثبت الحقّ عليه الفطرة فبإثباته العبرة.
وللقلوب صبغة وللأرواح صبغة وللأسرار صبغة وللظواهر صبغة. صبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
«4» كيف تصحّ محاجة الأجانب «5» وهم تحت غطاء الغيبة، وفى ظلال الحجبة. والأولياء فى ضياء الكشف وظهر الشهود؟
__________
(1) هنا كلمة (بالواجب) ونظن أنها فى الأصل (بالفرقة) او ما فى معناها لتقابل (الوصلة) .
(2) وردت (سك) والمعنى يرفضها تماما مما يدل على أنها خطأ من الناسخ وربما كانت (سلك) .
(3) وردت (من) وهى مقبولة، ولكن الأجمل أن تكون (منا) حتى تنسجم الموسيقى الداخلية- وهذه خصيصة فى أسلوب القشيري- مع (معنا) فى الجملة السابقة عليها، فضلا عن أن فيها إعادة كل فضل إلى الله.
(4) أخطأ الناسخ وكتبها (مصلحون) وصحة الآية (138) (.. مخلصون) .
(5) وردت (الاجابة) وهى خطأ من الناسخ.(1/130)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
ومتى يستوى حال من هو بنعت الإفلاس بغيبته مع حال من هو فى حكم الاختصاص والإخلاص لانغراقه فى قربته؟ هيهات لا سواء! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
من نظر من نفسه إلى الخلق يتخيّل كلّا برقمه، ويحسب الجميع بنعت مثله فلمّا كانوا بحكم الأجنبيّة حكم الأنبياء- عليهم السّلام- بمثل حالتهم، فردّ الحقّ- سبحانه- عليهم ظنّهم و ( ... ) «1» فيهم رأيهم. وهل يكون المجدوب عن شاهده كالمحجوب فى شاهده؟
وهل يتساوى المختطف «2» عن كلّه بالمردود إلى مثله؟
ذلك ظن الذين كفروا فتعسا «3» لهم! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
حالت بينكم وبينهم حواجز من القسمة فهم على الفرقة والغفلة أسسوا بنيانهم، وأنتم على الزلفة والوصلة ضربتم خيامكم. وعتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا «4» .
__________
(1) مشتبهة فى (ص) .
(2) وردت (المختلف) وهى خطأ من الناسخ، فمن معرفتنا بأسلوب القشيري نجزم أنها (المختطف) عن كله خذ مثلا قوله فى مستهل رسالته معبرا عن الفكرة ذاتها ... واختطفوا عنهم بالكلية) .
(3) وردت (فتعاسا) والصحيح (فتعسا) .
(4) أخطأ أحد قراء النسخة (ص) حينما فهم (عتيق) هنا على معنى قديم والمقصود هنا- حسب السياق العام- أنها بمعنى حر، فمعنى العبارة: إن من يتحرر فى أكناف فضل الله ليس كمن يشرد في متاهات قهره.(1/131)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
سقمت بصائر الكفار فلم يلح لهم وجه الصواب فى جميع أحوال المؤمنين، فطالعوها بعين الاستقباح، وانطلقت ألسنتهم بالاعتراض «1» فى كل ما كان ويكون منهم، فلم يروا شيئا جديدا إلا أتوا عليه باعتراض جديد.
فمن ذلك تغير أمر القبلة حينما حوّلت إلى الكعبة قالوا إن كانت قبلتهم حقا فما الذي ولّاهم «2» عنها؟ فقال جل ذكره:
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
يتعبّد العباد إلى أي قطر و ( ... ) ونحو شاءوا، وكذلك أصحاب الغيبة والحجبة- عن شهود تصريف الحق لأوليائه- يطلبون وجوها من الأمر، يحملون عليها أحوالهم، ولو طالعوا الجميع من عين واحدة لتخلصوا عن ألم توزّع الفكر، وشغل ترجّم الخاطر، ومطالبات تقسّم الظنون، ولكنّ الله يهدى لنوره من شاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
الوسط الخيار، فجعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة «3» خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار. فكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم فى القيامة فهذه الطائفة هم الأصول، وعليهم المدار، وهم القطب، وبهم يحفظ الله جميع الأمة، وكلّ من قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردّته «4» قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم
__________
(1) وردت (بالأعراض) وربما يقبلها المعنى، ولكن النطق (بالاعتراض) أكثر ملاءمة، خصوصا وقد جاءت (الاعتراض) بعد قليل. [.....]
(2) وردت (وليهم) وهى خطأ فى الكتابة.
(3) يقصد أهل الحقائق.
(4) فى النسخة (روية) ومصححة فى الهامش (ردّته) وهى الصحيحة.(1/132)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
عصم جميع الأمة (عن) «1» الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ فى النظر والحكم، والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وكل ما لا يكون فيه اقتداء بالرسول «2» عليه السّلام فهو عليه ردّ «3» ، وصاحبه على لا شىء.
قوله جل ذكره: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
بيّن أن الحكم فى تقرير أمر القبلة إلى وقت التحويل، وتحويلها من وقت التبديل كان اختبارا لهم من الحق ليتميز الصادق من المارق «4» ، ومن نظر إلى الأمر بعين التفرقة لكبر عليه أمر التحويل، ومن نظر بعين الحقيقة ظهرت لبصيرته وجوه الصواب. ثم قال:
«وما كان الله ليضيع إيمانكم» أي من كان مع الله فى جميع الأحوال على قلب واحد فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غيّر أو قرّر، وأثبت أو بدّل، وحقّق أو حوّل فهم به له فى جميع الأحوال، قال قائلهم:
كيفما دارت الزجاجة درنا ... يحسب الجاهلون أنّا جننّا
فإن قابلوا شرقا أو واجهوا غربا، وإن استقبلوا حجرا أو قاربوا مدرا، فمقصود قلوبهم واحد، وما كان للواحد فحكم الجميع فيه واحد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) .
__________
(1) وردت (على) والصحيح عصم (عن) وقد استعملت (عن) فى الجملة التالية فى المعنى نفسه.
(2) أخطأ الناسخ فكتبها (بالوصل) .
(3) جاءت (فهو عليهم رد) والصواب أن تكون (فهو عليه رد) .
(4) وردت (المارن) وقد جعلناها (المارق) لملاء منها للمعنى. ونرجح أنها كذلك فى الأصل.(1/133)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
حفظ- صلوات الله عليه- الآداب حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنّاه من أمر القبلة بقلبه، فلاحظ السماء لأنها طريق جبريل عليه السّلام، فأنزل الله عزّ وجل: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» أي علمنا سؤلك عمّا لم تفصح عنه بلسان الدعاء، فلقد غيّرنا القبلة لأجلك، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب.
كلّ العبيد يجتهدون فى طلب رضائى وأنا أطلب رضاك: فلنولينك قبلة ترضاها» .
«فولّ وجهك شطر المسجد الحرام» : ولكن لا تعلّق قلبك بالأحجار والآثار، وأفرد قلبك لى، ولتكن القبلة مقصود نفسك، والحقّ مشهود قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أخلصوا قلوبكم لى وأفردوا شهودكم بي.
قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
ولكنه علم لا يكون عليهم حجة، ولا تكون لهم فيه راحة أو منه زيادة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» تهويلا على الأعداء، وتأميلا على الأولياء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
«1» سبق لكم من قديم الحكم ( ... ) «2» انفراد بطريق الحق، ووقوع أعدائكم فى شق
__________
(1) وقع الناسخ فى الخطأ حين وضع مكان (إنك إذا لمن الظالمين) مالك من الله من ولى ولا نصير، فأصلحناه.
(2) هنا كلمة (القرب) ثم استبعدها الناسخ لزيادتها.(1/134)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
البعد، فبينكما برزخ لا يبغيان، فما هم بتابعى قبلتكم وإن أريتهم من الآثار ما هو أظهر من الشموس والأقمار، ولا أنت- بتابع قبلتهم وإن أتوا بكل احتيال، حكما من الله- سبحانه- بذلك فى سابق الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 146]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
حملتهم مستكنّات الحسد على مكابرة ما علموه بالاضطرار، فكذلك المغلوب فى ظلمات نفسه، ألقى «1» جلباب الحياء فلم ينجع فيه ملام، ولم يردعه عن انهماكه كلام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 147]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
أي بعد ما طلعت لك شموس اليقين فلا تذعن «2» إلى مجوزات التخمين «3» . والخطاب له والمراد به الأمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
الإشارة منه: أنّ كل قوم اشتغلوا عنّا بشىء حال بينهم وبيننا، فكونوا أنتم أيها المؤمنون لنا وبنا، وأنشد بعضهم:
إذا الأشغال ألهونى عنك بشغلهم ... جعلتك أشغالى فأنسيتنى شغلى
__________
(1) وردت (تلقى) وهى خطأ من الناسخ.
(2) وردت (فلا ترعن) . والصواب أن تكون (فلا تذعن) بالذال.
(3) يغمز القشيري هنا بما بين علوم أرباب الأحوال وبين العلوم العقلية، لأننا نعرف من مذهبه أنه مع احترامه للعقل فى البداية إلا أنه محتمل للإصابة بالتجويز والتخمين وغيرهما من الآفات التي لا تجعله جديرا- وحده- بالوصول إلى المعارف العليا.(1/135)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 149]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
كما تستقبلون أينما كنتم القبلة- قربتم منها أم بعدتم- فكذلك أقبلوا علينا بقلوبكم كيفما كنتم حظيتم منا أو منيتم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
إذا أردت ألا يكون لأحد عليك سبيل، ولا يقع لمخلوق عليك ظلّ، ولا تصل إليك بالسوء يد، فحيثما كنت وأينما كنت وكيفما كنت كن لنا وكن منّا، فإنّ من انقطع إلينا لا يتطرق إليه حدثان.
قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.
إذا كانوا محوا عن كونهم رسوما تجرى عليهم أحكامنا- فأنّى بالخشية منهم!؟
قوله جل ذكره: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده، وفى معناه أنشدوا:
نحن فى أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه- يا أهل ودّى- ... أنّكم غيّب ونحن الحضور
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
«1»
__________
(1) أخطأ الناسخ حين كتبها (يتلون) .(1/136)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
إرسال الرسول مفاتحة لأبواب الوصول، فكان فى سابق علمه- سبحانه- أن قلوب أوليائه متعطشة إلى لقائه. ولا سبيل لأحد إليه إلا بواسطة الرسل فأقوام ألزمهم- بإرسال الرسل إليهم الكلف، وآخرون أكرمهم- بإرسال الرسل إليهم- بفنون القرب والزّلف، وشتّان بين قوم وقوم! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 152]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
الذكر استغراق الذاكر فى شهود المذكور، ثم استهلاكه فى وجود المذكور، حتى لا يبقى منك أثر يذكر، فيقال قد كان مرة فلان.
«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي كونوا مستهلكين فى وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم، قال الله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا وقتا ولكنهم بانوا دائما «1» :
أناس حديث حسن ... فكن حديثا حسنا لمن وعنى «2»
وطريقة أهل العبارة «3» (فَاذْكُرُونِي) بالموافقات (أَذْكُرْكُمْ) بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة (فَاذْكُرُونِي) بترك كل حظ (أَذْكُرْكُمْ) بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم.
(فَاذْكُرُونِي) مكتفين بي «4» عن عطائى وأفضالى (أَذْكُرْكُمْ) راضيا بكم دون أفعالكم.
(فَاذْكُرُونِي) بذكرى لكم ما تذكرون، ولولا سابق ذكرى لما كان لاحق ذكركم.
(فَاذْكُرُونِي) بقطع العلائق (أَذْكُرْكُمْ) بنعوت الحقائق.
ويقال اذكرني لكل من لقيته أذكرك لمن خاطبته، فمن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم.
__________
(1) يقول يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن. ومرة قال: المعارف كان فبان (الرسالة ص 157) . [.....]
(2) البيت منقول كما جاء فى ص، لم نحاول أن نبدل فى كتابته وهو مضطرب وزنا ومعنى.
(3) وردت (العبادة) والأصوب أن يكون احتمال ورودها فى الأصل (العبارة) لتعبّر عن درجة أدنى من درجة أهل (الإشارة) .
(4) وردت (مكتفيا لى) والأقرب الى المعنى أن تجعلها فى صورة الجمع وأن يكون حرف الباء أولى من اللام حيث يقال اكتفيت بالله عن عطاء الله.(1/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
ويقال (وَاشْكُرُوا لِي) على عظيم المنّة عليكم بأن قلت: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) .
ويقال الشكر من قبيل الذكر، وقوله (وَلا تَكْفُرُونِ) النهى عن الكفران أمر بالشكر، الشكر ذكر، فكرر عليك الأمر بالذكر، والثلاث أول حدّ الكثرة، والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنّ فى الخبر: «من أحب شيئا أكثر ذكره» فهذا- فى الحقيقة- أمر بالمحبة أي أحببني أحبك «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي أحبونى أحببكم.
ويقال: (فَاذْكُرُونِي) بالتذلل (أَذْكُرْكُمْ) بالتفضّل.
(فَاذْكُرُونِي) بالانكسار (أَذْكُرْكُمْ) بالمبار.
(فَاذْكُرُونِي) باللسان (أَذْكُرْكُمْ) بالجنان.
(فَاذْكُرُونِي) بقلوبكم (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق مطلوبكم.
(فَاذْكُرُونِي) على الباب من حيث الخدمة (أَذْكُرْكُمْ) بالإيجاب على بساط القربة بإكمال النعمة.
(فَاذْكُرُونِي) بتصفية السّر (أَذْكُرْكُمْ) بتوفية البرّ.
(فَاذْكُرُونِي) بالجهد والعناء (أَذْكُرْكُمْ) بالجود والعطاء.
(فَاذْكُرُونِي) بوصف السلامة (أَذْكُرْكُمْ) يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة.
(فَاذْكُرُونِي) بالرهبة (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق الرغبة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 153]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
استعينوا بالصبر على الصلاة أي بصبركم- عند جريان أحكام الحق عليكم- استحقاقكم صلاة ربكم عليكم، ولذا فإنه تعالى بعد «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يقول: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ» .
ويقال استوجب الصابرون نهاية الذخر، وعلو القدر حيث نالوا معيّة الله قال تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» .(1/138)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
فاتتهم الحياة فى الدنيا ولكن وصلوا إلى الحياة الأبدية فى العقبى، فهم فى الحقيقة أحياء، يجدون من الله فنون الكرامات.
ويقال هم أحياء لأن الخلف عنهم الله ومن كان الخلف عنه الله لا يكون ميتا، قال قائلهم فى مخلوق:
إن يكن عنّا مضى بسبيله فما ... مات من يبقى له مثل خالد
ويقال هم أحياء بذكر الله لهم، والذي هو مذكور الحق بالجميل يذكره السرمدي ليس بميت.
ويقال إنّ أشباحهم وإن كانت متفرقة، فإنّ أرواحهم- بالحق سبحانه- متحققة.
ولئن فنيت بالله أشباحهم فلقد بقيت بالله أرواحهم لأنّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله.
ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم، عليهم رداء الهيبة وهم فى ظلال الأنس، يبسطهم جماله مرة، ويستغرقهم جلاله أخرى «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 155]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
ابتلاهم بالنعمة ليظهر شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم فى الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قسمه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ابتلاهم
__________
(1) شبيه بذلك ما يقوله القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» حينما شرح «المحيي المميت» و «الجليل الجميل» : «من كاشفه بجلاله أفناه، ومن كاشفه بجماله أحياه، فكشف الجلال يوجب محوا وغيبة، وكشف الجمال يوجب صحوا وقربة» .(1/139)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال تزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم.
«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يعنى الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه.
ويقال طالبهم بالخوف (ابتعادا) عن عقوبته ثم بمقاساة الجوع ابتغاء قربته وكرامته، ونقص من الأموال بتصدّق الأموال والخروج عنها طلبا للخير منه بحصول معرفته.
«وَالْأَنْفُسِ» تسليما لها إلى عبادته. «وَالثَّمَراتِ» القول بترك ما يأملونه من الزوائد فى نعمته «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» على استحسان قضيته، والانقياد لجريان قدرته.
ومطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب فمن أوقف المال لله فله النجاة «1» ، ومن بذل لحكمه النّفس فله الدرجات، ومن صبر عند مصائب الأقارب فله الخلف والقربات، ومن لم يدخر عنه الروح فله دوام المواصلات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 156]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)
... الآية.
قابلوا الأمر بالصبر لا بل بالشكر لا بل بالفرح والفخر.
ومن طالع الأشياء ملكا للحق رأى نفسه أجنبيا بينه وبين حكمه فمنشىء الخلق أولى بالخلق من الخلق.
ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله، ومن شاهد المبلى علم أن ما يكون من الله فهو عبد بالله، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله الذي كان لله فصابر واقف، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم، إن أثبته ثبت، وإن محاه انمحى، وإن حرّكه تحرك، وإن سكّنه سكن، فهو عن اختياراته فان، وفى القبضة مصرّف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 157]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .
__________
(1) ربما كانت فى الأصل (الجنات) .(1/140)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
بصلواته «1» عليهم ابتداء وصلوا إلى صبرهم ووقوفهم عند مطالبات التقدير، لا بصبرهم ووقوفهم وصلوا إلى صلواته، فلولا رحمته الأزلية لما حصلت طاعتهم بشرط العبودية، فعنايته السابقة أوجبت لهم هداية خالصة «2» .
قال تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» لما رحمهم فى البداية اهتدوا فى النهاية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
تلك المشاهد والرسوم، وتلك الأطلال والرقوم، تعظّم «3» وتزار، وتشدّ إليها الرحال «4» لأنها أطلال الأحباب، وهنالك تلوح الآثار:
أهوى الديار لمن قد كان ساكنها ... وليس فى الدار هم ولا طرب «5»
وإن لتراب طريقهم بل لغبار آثارهم- عند حاجة الأحباب- أقدارا عظيمة، وكل غبرة تقع على (حافظات طريقهم) «6» لأعزّ من المسك الأذفر:
وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمة ... فى تربها وجرّت به بردا
قوله جل ذكره: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
حظى الصفا والمروة بجوار البيت فشرع السعى بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن فى النّسك فالسعى أيضا ركن، والجار يكرم لأجل الجار.
__________
(1) وردت (بصلواتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن السياق يؤدى إلى (صلاته) سبحانه عليهم فى سابق الأزل، كذلك تشير الآية الكريمة إلى صلاته لا إلى صلواتهم.
(2) لاحظ هنا معارضة القشيري لفكرة وجوب إثابة المطيع على الله. فالله فى رأى القشيري تنزه عن أن يجب عليه شىء، لأن طاعة المطيع أو لا فضل من الله، وليست بفضل العبد.
(3) وردت (تعظيم) وهى خطأ فى النسخ.
(4) وردت (الرجال) وهى خطأ فى النسخ.
(5) إما أن تكون (همّ) صحيحة، أي لا حزن ولا فرح، واما أنها فى الأصل (همس) لتناسب الطرب، وليتناسبا مع خلو الدار من أقل أثر للحياة.
(6) هكذا وردت فى (ص) .(1/141)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
الإشارة فى هذه الآية لمن كاشفه الحقّ سبحانه بعلم من آداب السلوك ثم ضنّ «1» بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت فى الوقت، ويخشى عليه نزع البركة عن علمه متى قصّر فيه لما أخّر من تعليم المستحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 160]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحسن الرّجعى، والقيام للمريدين على وجه النصيحة، وبيّنوا لهم- بجميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون- حسن قيامهم بمعاملاتهم.
فإنّ أظهر الحجج لبيان أفعالك وأصدق الشهادة لتصحيح ما تدعو به الخلق إلى الله- ألا يخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك، قال الله تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
الإشارة فيه أن الذين بدا لهم بعد ما سلكوا طريق الإرادة (أن) يرجعوا إلى أحوال العادة، ثم فى تلك الوحشة قبضوا، وعلى تلك الحالة من الدنيا خرجوا، أولئك أصحاب الفرقة،
__________
(1) وردت (ضمن) وهى خطأ من الناسخ وقد استندنا فى الوصول إلى أنها (ضنّ) من كلمة (بخل) التي سجلها الناسخ تحتها. والسياق يؤيدها.(1/142)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
فلا على أرواحهم إقبال ولا لمصيبتهم جبران، ولا لأحد عليهم ترحم، خسروا فى الدنيا والآخرة، يلعنهم البقّ فى الهواء والنقع على الماء.
خالِدِينَ أي مقيمين أبدا فى هوانهم وصغرهم، لا تخفيف ولا إسعاف، ولا رفق ولا ألطاف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
شرّفهم غاية التشريف بقوله وإلهكم. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا: علامة من يعدّه من خاصّ الخواص أن يقول له: عبدى، وذلك أتمّ من هذا بكثير لأن قوله:
«وَإِلهُكُمْ» : وإضافة نعته أتمّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لك بلا علّة، وكونك له عبد يعوّض كل نقصك وآفتك. ومتى قال لكم «وَإِلهُكُمْ» ؟
حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حين ولا أوان، ولا رسم ولا حدثان.
و «الواحد» من لا مثل له يدانيه، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا قديم يؤانسه.
لا شريك يعاضده ولا معين يساعده ولا منازع يعانده.
أحدىّ الحق صمدىّ العين ديمومّى البقاء أبدىّ العز أزلىّ الذات.
واحد فى عز سنائه فرد فى جلال بهائه، وتر فى جبروت كبريائه، قديم فى سلطان عزّه، مجيد فى جمال ملكوته. وكل من أطنب فى وصفه أصبح منسوبا إلى العمى «1» (ف) لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبد إذا تعرّض لعرفانه عند أول ساطع من باديات عزّه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
__________
(1) وردت (الأعمى) فى ص ويمكن قبولها على أنها اسم جنس.(1/143)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
تعرّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته، وأمارات وجوده، وسمات ربوبيته التي هى أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهين تلطف عن العبارة، ووجوه من الدلالات تدقّ عن الإشارة، فما من عين من العدم محصولة- من شخص أو طلل، أو رسم أو أثر، أو سماء أو فضاء «1» ، أو هواء أو ماء، أو شمس أو قمر، أو قطر أو مطر، أو رمل أو حجر، أو نجم أو شجر- إلا وهو على الوحدانية دليل، ولمن يقصد وجوده سبيل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة، فشغلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هوته أنفسهم، فرضوا بمعمول لهم أن يعبدوه، ومنحوت- من دونه- أن يحبوه.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.
ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبّ حبيبا استكثر ذكره، بل استحسن كل شىء منه.
ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن (هذه) محبة الجنس
__________
(1) وردت (قضاء) فى ص. [.....](1/144)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبة من ليس بجنس لهم فذلك أعزّ وأحق.
ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حال بينهم وبين (شهوده) رداء الكبرياء على وجهه.
ويقال الذين آمنوا أشد حبا لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإن عذّبهم. والكافر تبرأ من الصنم والصنم من الكافر كما قال تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... » الآية.
ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهى أتم، قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» .
ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.
ويقال محبة المؤمنين أتمّ وأشدّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناما أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك فى حال فقرهم فكانوا يتخذون من الفضة- عند غناهم- أصناما ويهجرون ما كان من الحديد ... وعلى هذا القياس! وأمّا المؤمنون فأشدّ حبا لله لأنهم عبدوا إلها واحدا فى السّرّاء والضراء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 166]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)
إذا بدت لهم أوائل العذاب اتضح أنهم لم يقفوا من الصدق على قدم، وأمّا المؤمنون فيسلبهم أرواحهم وأملاكهم وأزواجهم وأولادهم، ويسكن (أولئك) «1» فى القبور سنين ثم يبتليهم فى القيامة بطول الآجال «2» وسوء الأعمال ثم يلقيهم فى النار.
__________
(1) أضفنا (أولئك) ليمتنع اللبس.
(2) فى ص (طول الأحوال) ونرجح أنها فى الأصل (الآجال) لأن وصف الأحوال بالطول غير ملائم فضلا عن أننا نفترض أن القشيري لا يستعمل الأحوال الا لأرباب الأحوال. وطول الآجال فى جهنم معناه تأبيد العذاب.(1/145)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
(أما المؤمنون) «1» فيأتى عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة (على محبة) «2» ولذلك قال: والذين آمنوا أشدّ حبا لله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 167]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
عند «3» ذلك يعرفون مرارة طعم صحبة المخلوقين ولكن لا يحصلون إلا على حسرات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
الحرام- وإن استلذّ فى الحال- فهو وبيء فى المآل، والحلال- وإن استكره فى الحال- فهو مرىء فى المآل.
والحلال الصافي ما لم ينس مكتسبه الحقّ فى حال اكتسابه «4» .
ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق فى كل حال.
وكلّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
لاجترائه على الله يدعوك به إلى افترائك على الله.
__________
(1) أضفناها ليستقيم السياق إذ يبدو أنها سقطت أثناء النسخ.
(2) فى الهامش مستدركة وعليها علامة بموضعها.
(3) وردت (عن) والأصح (عند) .
(4) القشيري هنا مستفيد من تعريف سهل بن عبد الله التستري للحلال الصافي (الرسالة ص 59) .(1/146)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
لا ترفع أبصارهم عن أشكالهم وأصنافهم، من أضرابهم وأسلافهم، فبنوا على منهاجهم، فلا جرم انخرطوا فى النار، وانسلكوا فى سلكهم، ولو علموا أن أسلافهم لا عقل يردعهم، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين، وعاندوهم مخالفين، ولكن سلبوا أنوار البصيرة، وحرموا دلائل اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
عدموا سمع الفهم والقبول، فلم ينفعهم سمع الظاهر، فنزلوا منزلة البهائم فى الخلوّ عن التحصيل، ومن رضى أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 172]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
الحلال ما لا تبعة عليه، والطيب الذي ليس لمخلوق فيه منّة، وإذا وجد العبد (طعاما) يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب.
وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس فى غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)(1/147)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
حرّم على الظواهر هذه المعدودات وهى ما أهل به لغير الله، وحرّم على السرائر صحبة.
غير الله بل شهود غير الله، فمن اضطر- أي لم يجد إلى الاستهلاك فى حقائق الحق وصولا- فلا يسلكنّ غير سبيل الشرع سبيلا، فإما أن يكون محوا فى الله، أو يكون قائما بالله، أو عاملا لله، والرابع همج لا خطر له.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 174]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)
العلماء مطالبون بنشر دلائل العلم، والأولياء مأمورون بحفظ ودائع السّر فإن كتم هؤلاء براهين العلوم ألجموا بلجام من النار، وإن أظهر هؤلاء شظية من السر عوجلوا ببعاد الأسرار، وسلب ما أوتوا «1» من الأنوار. ولكل حدّ، وعلى كل أمر قطيعة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 175 الى 176]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
إن الذين آثروا الغير على الغيب، والخلق على الحقّ، والنفس على الأنس، ما أقسى قلوبهم، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم، وما أخسّ «2» قدرهم، وما أفضح «3» لذوى الأبصار أمرهم! ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق، وأوصلهم إلى ما له أهّلهم، وأثبتهم على الوجه الذي عليه جبلهم.
__________
(1) وردت (أتوا) والصواب (أوتوا) لتناسب المعنى.
(2) وردت (أخص) والصواب أخس لتناسب المعنى.
(3) وردت ما (أفصح) ونرجح أنها فى الأصل ما (افضح) .(1/148)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
«1» والإشارة أن الظواهر ليس لها كثير اعتبار إنما الخبر عن الله عزيز.
وكثرة الأوراد- وإن جلّت- فحرفة العجائز، وإخلاص الطاعات- وإن عزّ- فصفة العوام، ووصل الليل بالنهار فى وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر فى استحقاق الثواب، ولكنّ معرفة الحق عزيزة.
وما ذكر فى هذه الآية من فنون الإحسان، ووجوه قضايا الإيمان، وإيتاء المال، وتصفية الأعمال، وصلة الرحم، والتمسك بفنون الذّمم والعصم، والوفاء بالعهود، ومراعاة الحدود- عظيم الأثر، كثير الخطر، محبوب الحق شرعا، ومطلوبه أمرا لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك، وامتحانك من شاهدك، واستهلاكك فى وجود القدم، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك- أتمّ وأعلى فى المعنى لأن التوحيد لا يبقى رسما ولا أثرا، ولا يغادر غيرا ولا غبرا «2»
__________
(1) اخطأ الناسخ فكتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) .
(2) الغير السوي أما (الغبر) فمعروف.(1/149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 178]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)
حق القصاص مشروع، والعفو خير، فمن جنح إلى استيفاء حقه فمسلّم له، ومن نزل عن ابتغاء حقه فمحسن، فالأول صاحب عبادة بل عبودية، والثاني صاحب فتوة بل حرية والدم المراق يجرى فيه القصاص على لسان أهل العلم، وأمّا على لسان الإشارة لأهل القصة «1» فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال:
وإن فؤدا رعته لك حامد ... وإنّ دما أجريته بك فاخر
وسفك دماء الأحباب (فوق) «2» بساط «3» القرب خلوف أهل الوصال، قال النبي
صلّى الله عليه وسلّم: «اللون لون الدم ... والريح ريح المسك»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 179]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
فى استيفاء القصاص حياة لأنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أمسك عن القتل وفى ذلك حياة القاتل والمقتول.
ولكن ترك القصاص- على بيان الإشارة- فيه أعظم الحياة لأنه إذا تلف فيه (سبحانه)
__________
(1) أهل القصة هم أرباب الأحوال.
(2) وردت (فى) والأصوب فوق.
(3) وردت (سباط) وقد رجحنا (بساط) القرب لورودها فى مواضع أخرى هكذا. [.....](1/150)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فهو الخلف عنه، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه، وإذا كان الوارث عنهم الله والخلف عنهم الله فبقاء الخلف «1» أعزّ من حياة من ورد عليه التلف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 180]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
من ترك مالا فالوصية له فى ماله مستحبة، ومن لم يترك شيئا فأنّى بالوصية!! فى حالة الأغنياء يوصون فى آخر أعمارهم بالثلث، أمّا الأولياء فيخرجون فى حياتهم عن الكلّ، فلا تبقى منهم إلا همة انفصلت عنهم ولم تتصل بشىء لأن الحق لا سبيل للهمة إليه، والهمة لا تعلّق لها بمخلوق، فبقيت وحيدة منفصلة غير متصلة، وأنشدوا:
أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... يحبكم عظمى فى التراب رميم
هذه وصيتهم: وقال بعضهم:
(..............) «2»
لا بل كما قال قائلهم:
وأتى الرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا ... رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعى صبيبا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 181]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
من حرّف نطقا جرى بحقّه لحقه شؤم ذلك ووباله.
وعقوبته أن يحرم رائحة الصدق أن يشمه. فمن أعان الدين أعانه الله، ومن أعان على الدين خذله الله.
__________
(1) وردت (الخلق) والصواب (الخلف) .
(2) هنا شاهد شعرى عجزنا تماما عن قراءته أو إصلاحه ... وما أكثر خطأ الناسخ فى نقل شواهد الشعر!!(1/151)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 182]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
الإشارة فيه: أن من تفرّس «1» فى بعض المريدين ضعفا، أو رأى فى بعض «2» أهل البداية رخاوة قصد أو وجد بعض الناصحين يتكلم بالصدق المحض على من لم يحتمله- فرأى أن يرفق بذلك المريد بما يكون ترخيصا له أو استمالة له أو مداراة أو رضا بتعاطى مباح- فلا بأس به فإن حمل الناس على الصدق المحض مما لم يثبت له كثير أجر. فالرّفق بأهل البداية- إذا لم يكن لهم صارم عزم، ولا صادق جهد- ركن فى ابتغاء الصلاح عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 183]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
الصوم على ضربين: صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السّرّ عن الملاحظات.
ويقال صوم العابدين شرطه- حتى يكمل- صون اللسان عن الغيبة، وصون الطرف عن النظر بالريبة كما فى الخبر: (من صام فليصم سمعه وبصره ... ) ... الخبر «3» ، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره.
وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق، قال صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» : الهاء فى قوله
__________
(1) وردت بالصاد وهى خطأ من الناسخ.
(2) وردت (فى أهل بعض البداية) وواضح أنها خطأ من الناسخ.
(3) (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك: معناه من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) .
رواه البخاري وأصحاب السنن عن أبى هريرة.(1/152)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
عليه السّلام- لرؤيته- عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماء يقولون معناه عندهم صوموا إذا رأيتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله، والذي «1» هم به محو- الله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 184]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله، فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة. الصوم لله تحقيق العبادة والصوم بالله تصحيح الإرادة. الصوم لله صفة كل عابد والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة.
من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك فى جميع أوقاته عن شهود المخلوقات.
من صام بنفسه سقى شراب السلسبيل والزنجبيل، ومن صام بقلبه سقى شراب المحاب بنعمة الإيجاب.
ومن صام بسرّه فهم الذين قال فيهم الله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» .
شراب يا له من شراب!! شراب لا يدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف.
شراب استئناس لا شراب كاس.
قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك. الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة
__________
(1) وردت (والذين) وهو خطأ من الناسخ.(1/153)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
فليمهل حتى تقوى عزيمته وتشتد إرادته، فعند ذلك يستدرك منه ما رخّص له بالأخذ بالتأويل، وتلك سنّة الله سبحانه وتعالى فى التسهيل على أهل البداية، ثم استيفاء ذلك منهم واجب فى آخر الحال.
قوله جل ذكره: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ «1» ............ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الإشارة منه أنّ من فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجردا للواحد.
[فصل] ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضى المشقة خففه عليك ذلك بأن قلّل أيام الصوم فى قلبك فقال: «أياما معدودات» أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره، وهذا كقوله تعالى: وجاهدوا فى الله حق جهاده. ثم قال: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لا يلحقكم كثير مشقة فى القيام بحق جهاده.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 185]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
رمضان يرمض ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم، وشتان بين من تحرق ذنوبه رحمته وبين من تحرق رسومه حقيقته.
__________
(1) وقع الناسخ فى سهو حين أعاد ثلاثة أسطر مما سبق له أن كتبه، ووقعت هذه الأسطر المعادة بين كلمتى (فدية، وطعام) فى الآية الكريمة.(1/154)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة. شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة.
شهر النجاة، شهر المناجاة.
قوله جل ذكره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر.
ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) «1» بطلب اليسر ولو لم يرد به اليسر لما جعله راغبا فى اليسر، قال قائلهم:
لو لم ترد نيل ما أرجوا وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتنى الطلبا
حقّق الرجاء وأكّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال: «ولا يريد بكم العسر» لينفى عن حقيقة التخصيص مجوزات الظنون.
قوله جل ذكره: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.
على لسان العلم تكملوا مدة الصوم.
وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال (وفاء) «2» (المآل) «3» ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون» فى النّفس الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيق فى أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة- أعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 186]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
__________
(1) جاءت (أقام) وقد جعلناها (أقامه) ليزداد وضوح المعنى.
(2) جاءت (ووفاء) ونظن أن الواو الأولى زائدة من الناسخ.
(3) جاءت (المال) وقد اعتاد الناسخ أن يكتب المال مثل المآل أي بدون علامة على المد، وآثرنا هنا أن نضعها، فالمقصود الإعداد لليوم الآخر بالطاعات والعبادات، وغاية التمام أن تجمع بين الحقيقة والشريعة. هذا فضلا عن أن الإشارة للصوفية، والصوفية قوم لا مال لهم.(1/155)
سؤال كل أحد يدلّ على حاله لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين «1» ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي» . وليس هؤلاء من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ» ، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» ، ولا من جملة من قال: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» ، و «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» .
هؤلاء قوم مخصوصون: «وَإِذا سَأَلَكَ «2» .... عِبادِي عَنِّي» .
أي إذا سألك عبادى عنى فبماذا تجيبهم؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإن كنت السفير بيننا وبين الخلق فهذا الجواب أنا أتولاه «فَإِنِّي قَرِيبٌ» (رفع الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يقل قل لهم إنى قريب بل قال جل شأنه: فإنى قريب) «3» .
ثم بيّن أن تلك القربة ما هى: حيث تقدّس الحقّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» وإن الحق سبحانه قريب- من الجملة والكافة- بالعلم والقدرة والسماع والرؤية، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة، وجلّ وتقدّس عن أن يكون قريبا من أحد بالذات والبقعة فإنه أحدىّ لا يتجه فى الأقطار، وعزيز لا يتصف بالكنه والمقدار.
قوله جل ذكره: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
لم يعد إجابة من كان باستحقاق زهد أو فى زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعانى وكيفما دعانى وحيثما دعانى ثم قال: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» هذا تكليف، وقوله:
__________
(1) تكررت كلمة (دنيا) مرتين فرجحنا أن تكون الأولى (دين) وتركنا الثانية (دنيا) لتتقابل مع (عقبى) .
(2) وضع الناسخ علامة تشعر بوجود كلمات زائدة بين (سألك) ... (وعبادى) فحذفنا الزائدة.
(3) ما بين القوسين تكملة من الهامش استدركها الناسخ فوضعناها فى موضعها.(1/156)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
«أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» تعريف وتخفيف، قدّم التخفيف على التكليف، وكأنه قال: إذا دعوتنى- عبدى- أجبتك، فأجبنى أيضا إذا دعوتك، أنا لا أرضى بردّ دعائك فلا ترض- عبدى- بردّى من نفسك. إجابتى لك بالخير تحملك- عبدى- على دعائى، ولا دعاؤك يحملنى على إجابتك. «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي» : وليثقوا فى، فإنى أجيب من دعانى، قال قائلهم:
يا عزّ أقسم بالذي أنا عبده ... وله الحجيج وما حوت عرفات «1»
لا أبتغى بدلا سواك خليلة ... فثقى بقولي والكرام ثقات
ثم قال فى آخر الآية: «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
أخبر أنه- فى الحقيقة- لا يعود إليه عائد من أوصاف الخلق إن كنت فى العبادة التي هى حق الحق أو فى أحكام العادة من صحبة جنسك التي هى غاية النفس والحظ، فسيّان فى حالك إذا أورد فيه الإذن.
__________
(1) جاءت (عرفان) وهى خطأ فى النسخ. [.....](1/157)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
نزلت الآية فى زلّة بدرت من الفاروق «1» ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع «2» المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.
ويقال علم أنه لا بدّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار فى هذا الشهر بين حقه وحظّك، فقال أما حقى ف «أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» ، وأما حظك ف «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» .
قوله جل ذكره: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أخبر أن محل القدرة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بكم فيكم، وإذا كنتم قائمين بنا فلا تعودوا منّا إليكم.
ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يمزج الجدّ بالهزل، قالت عائشة رضى الله عنها: يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك فقال عليه السّلام: ذريتى يا ابنة أبى أبكر أتعبد ربى. وقال صلّى الله عليه وسلّم لى وقت لا يسعنى غير ربى «3» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) .
__________
(1) أي عمر بن الخطاب. قال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله إنى أردت أهلى البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتلّ فواقعتها فنزل فى عمر (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) وهكذا روى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 1 ص 220، 221 ط الحلبي) .
(2) وردت (جميع) .
(3) للحديث صورة أخرى «لى مع الله وقت لا يسعنى فيه شىء غير الله عز وجلّ» والمعنى صحيح ولكن سنده غير معروف.(1/158)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
إذا تحاكم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم، وعلمه محيط بكم، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه، ولئن كان المخلوقون «1» عالمين بالظواهر فالحق- سبحانه وتعالى- متولى السرائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
الأهلة- جمع هلال- مواقيت للناس لأشغالهم ومحاسباتهم.
وهى مواقيت لأهل القصة فى تفاوت أحوالهم فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهى لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم.
أعد الليالى ليلة بعد ليلة ... وقد كنت قدما لا أعد اللبالبا
وقال آخر:
ثمان قد مضين بلا تلاق ... وما فى الصبر فضل عن ثمان
وقال آخر:
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار «2»
قوله جل ذكره: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
يعنى ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 190]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
لتكن نفوسكم عندكم ودائع الحق إن أمر بإمساكها أمسكوها وصونوها، وإن أمر
__________
(1) وردت (المخلوقين) وهى خطأ من الناسخ لأن اسم كان مرفوع بالواو.
(2) سرار النهر وسراره (بالكسر والفتح) آخر ليلة فيه (الوسيط ص 428) .(1/159)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
بتسليمها إلى القتل فلا تدّخروها عن أمره، وهذا معنى قوله: «وَلا تَعْتَدُوا» وهو أن تقف حيثما أوقفت، وتفعل ما به أمرت.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 191]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)
يعنى عليكم بنصب العداوة مع أعدائى- كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائى- فلا تشفقوا «1» عليهم وإن كان بينكم واصد «2» الرحم ووشائج القرابة.
«وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» . أولا أخرجوا حبّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم (....) «3» عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جاريا عليهم.
قوله جل ذكره: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
والإشارة: أنّ المحنة التي ترد على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي ترد على النفوس من بذل الروح، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النّفس، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله.
ويقال الفتنة أشد من القتل: أن «4» تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك.
قوله جل ذكره: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
الإشارة منه: لا تشوش وقتك «5» مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك
__________
(1) ووردت (فلا تشقوا) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.
(2) الواصد والآصد العهد. مثل الورث والإرث والوحد والأحد وربما كانت أواصر.
(3) مشتبهة فى ص وربما كانت: ثم (أخرجوهم) .
(4) وردت (تنقى) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.
(5) قال الدقاق- شيخ القشيري- فى تعريف الوقت: الوقت ما أنت فيه فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.
ويعلّق القشيري على رأى أستاذه قائلا: يريد بهذا أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان. ويقولون الصوفي ابن وقته يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به فى الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين. وينبغى ألا يفرط العبد فيما يقتضيه حق الشرع.(1/160)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وإن كانت نوافل من الطاعات، فإن زاحمك مزاحم يشغلك عن الله فاقطع مادة ذلك عن نفسك بكل ما أمكنك لئلا تبقى لك علاقة تصدك «1» عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 192]
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
الإشارة منه: إذا انقطعت عنك غاغة خواطرك وأعداء نفسك، مما يخرجك عنه ويزاحمك، فلم حديث النفس ودع مجاهداتها فإنّ من طولب بحفظ الأسرار لا يتفرغ إلى مجاهدات النفوس بفنون المخالفات «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 193]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
الإشارة من الآية إلى مجاهدات النفوس فإنّ أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك.
أي استوف أحكام الرياضات حتى لا يبقى للآثار البشرية شىء، وتسلم النّفس والقلب لله، فلا يكون معارض ولا منازع منك لا بالتوقي ولا بالتلقى، لا بالتدبير ولا بالاختيار- بحال من الأحوال تجرى عليك صروفه «3» كما يريد، وتكون «4» محوا عن الاختيارات، بخلاف ما يرد به الحكم، فاذا استسلمت النفس فلا عدوان إلا على أرباب التقصير، فأمّا من قام بحق الأمر تقصى عن عهدة الإلزام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 194]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .
__________
(1) وردت (تصدق) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم:
(2) يريد القشيري بهذه الفقرة أن تنزل على حكم المرحلة التي وصلت إليها، فإذا اجتاز بك فضل الله مرحلة جهادك مع نفسك إلى ما فوقها فلا تشغلنّ وقتك إلا بما صرت عليه، بمعنى أن تنزل على حكم الوقت.
(3) وردت (حروفه) والصواب صروفه، وقد جاء فى الرسالة هذا الشاهد:
تجرى عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقة (الرسالة ص 63)
(4) وردت (يكون) وهى خطأ من الناسخ. [.....](1/161)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
الإشارة فيه: إذا تقابل حقان كلاهما لله فسلّم الوقت بحكم الوقت، ودل مع إشارات الوقت، وإياك أن ترجح أحدهما على الآخر بمالك من حظ- وإن قلّ- فتحجب عن شهود الحق، وتعمى بصيرة قلبك. وكلّ ما كان إلى خلاف هواك أقرب، وعن استجلابك وسكونك إليه أبعد- كان ذلك فى نفسه أصوب.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» : الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه، فإذا قاموا لله- فيما يأتون- لا لهم فإن الله تعالى بالنصرة معهم، قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»
- قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 195]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
إنفاق الأغنياء من أموالهم، وإنفاق العابدين بنفوسهم لا يدخرونها عن العبادات والوظائف، وإنفاق العارفين بقلوبهم لا يدخرونها عن أحكامه، وإنفاق المحبين بأرواحهم لا يدخرونها عن حبّه.
إنفاق الأغنياء من النّعم وإنفاق الفقراء من الهمم.
إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس، وإنفاق الموحّدين إخراج الخلق من السّر.
قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» الإشارة فيه إلى إمساك يدك عن البذل فمن أمسك يده وادّخر شيئا لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة. ويقال: إلى إيثار هواك على رضاه.
ويقال «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» أي الغفلة عنه بالاختيار.
ويقال توهّم أنك تعيش من دون لطفه وإقباله لحظة.
ويقال الرضا بما أنت فيه من الفترة والحجاب.
ويقال إمساك اللسان عن دوام الاستغاثة فى كل نفس.
قوله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» الإحسان أن ترفق مع كل أحد(1/162)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
إلا معك فإحسانك إلى نفسك فى صورة إساءتك إليها فى ظن الاعتماد، وذلك لارتكابك كل شديدة، ومقاساتك فيه كل عظيمة. والإحسان أيضا ترك جميع حظوظك من غير بقية، والإحسان أيضا تفرغك الى قضاء حق كل أحد علّق عليك حديثه. والإحسان أن تعبده على غير غفلة. والإحسان أن تعبده وأنت بوصف المشاهدة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 196]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)
إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيها (دون) التقصير فى بعض أحوالها.
وفى التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك «1» .
وعلى لسان الإشارة الحج هو القصد فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص.
وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك.
وأفضل الحج الشجّ والعجّ الشّجّ صبّ الدّم والعجّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف «2» ، ورفع أصوات السّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف
__________
(1) قال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن على أنه قال فى هذه الآية (وأتموا الحج والعمرة لله) قال أن تحرم من دويرة أهلك، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس.
(تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 1 ص 230 ط الحلبي) .
(2) الخلاف هنا معناها (المخالفة) أي مخالفة النفس وأهوائها.(1/163)
القلوب الأسامى والصفات لعزّ الذات (عند) «1» المواصلات. ثم طواف القلوب حول (مشاهدة) «2» العز، والسعى بالأسرار بين صفّىّ كشف الجلال ولطف الجمال.
ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات.. بكل وجه.
قوله جل ذكره: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
الحصر بأمرين بعدو أو مرض.
والإشارة فيه إن استولى عدو النفس فلم تجد بدا من الإناخة بعقوة الرّخص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحكم. «والهدى» الذي يهدى به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر. وإن مرضت الواردات وسقمت القصود وآل الأمر إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه فى الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك- بشرط الفدية.
ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد فى أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإن رجع- والعياذ بالله- لم يقابل إلا بالردّ والصد، وقيل:
فلا عن قلى كان التقرب بيننا ... ولكنه دهر يشتّ ويجمع
وقال الآخر:
ولست- وإن أحببت من يسكن الفضا ... بأوّل راج حاجة لا ينالها
قوله جل ذكره: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
__________
(1) وردت (عن) فى ص، والأسامى والصفات مقصود بها أسماء الله الحسنى وصفاته.
(2) نرجح أنها فى الأصل (مشاهد) جمع مشهد لتناظر (مشاهد) الحج.(1/164)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة.
«فمن كان منكم مريضا ... » إلخ: الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء.
قوله جل ذكره: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرق نور الإقبال فى تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنف للوصلة وقتا، وليفرش للقربة بساطا، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطا، وليقل: حىّ على البهجة! فقد مضت أيام المحنة.
وليكمل الحج والعمرة، وليستدم القيام بأحكام الصحبة والخدمة.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بالحجاب لمن لم يره أهلّة الوصلة والاقتراب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 197]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
كما أن الحج بالنفوس أشهر معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها، ولا يجوز فعل الحج فى جميع السّنة إلا فى وقت مخصوص، من فاته ذلك الوقت فاته الحج- فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها، وهى أيام الشباب فمن لم تكن له إرادة فى حال شبابه فليست له وصلة فى حال مشيبه، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة.. فلا.
قوله جل ذكره: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.(1/165)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يعرّج على شىء فى الطريق، ولا يمزج إرادته بشىء. فمن نازعه أو عارضه أو زاحمه- سلّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحد يخاصم، ولا لشىء من حظوظ النّفس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» .
قوله جل ذكره: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
تكتفى بعلمه وحكمه عن شهود خلقه وحكم خلقه وعلم خلقه.
قوله جل ذكره: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
تقوى العامة مجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 198]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
الإشارة فيه أن ما تبتغى من فضل الله مما يعنيك على قضاء حقّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدين- فهو محمود. وما تطلبه لاستيفاء حظك أو لما فيه نصيب لنفسك- فهو معلول.
قوله جل ذكره: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
الإشارة فيه إذا وقفت حتى قمت بحق طلبه فاذكر فضله معك فلولا أنه أرادك لما أردته، ولولا أنه اختارك لما آثرت رضاه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 199]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
الإشارة فيه ألا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك فى الظاهر لا بلبسة ولا بخرقة ولا بصفة،(1/166)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
بل تكون كواحد من الناس، وإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئا، أو بك أو لك أو معك شىء فاستغفر الله، وجدّد إيمانك فإنه شرك خفى خامر قلبك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 200]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)
«قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق العبودية.
«فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق المحبة.
قضاء المناسك قيام بالنفس.
«فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» قيام له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر.
ويقال كما أنّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فليكن افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.
ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقّ التربية فحقّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم.
ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب «1» ، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.
ويقال إنك لا تملّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاستدم ذكرنا، ولا تعترضنّك ملالة أو سآمة «2» أو نسيان.
ويقال إن طعن فى نسبك طاعن لم ترض فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبدع فذبّ عنّا.
ويقال الأب يذكر بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.
وقال «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يذكر احتراما والأم تذكر شفقة عليها، والله يرحم ولا يرحم.
__________
(1) وردت (مثاقب) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (مسامة) وهى خطأ فى النسخ.(1/167)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
«أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» لأن الحقّ أحقّ، ولأنك قد تستوحش كثيرا عن أبيك، والحقّ سبحانه منزّه عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضى الواجب حتى إن كان ذرة.
وقوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه.
قوله جل ذكره: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا «1» وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
خطاب لوقاله مخلوق لك كان شاكرا «2» ، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أحلّك محل أن يشكو إليك فقال: من الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنّا، فلا يبصر غير نفسه وحظّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 201]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)
إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات، والحسنة التي بها تحصل جميع الحسنات فى الدنيا- حفظ الإيمان عليهم فى المآل فإنّ من خرج من الدنيا مؤمنا لا يخلد فى النار، وبفوات هذا لا يحصل شىء. والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة- المغفرة، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير.
ويقال الحسنة فى الدنيا العروف عنها، والحسنة فى الآخرة الصون عن مساكنتها.
والوقاية من النار ونيران الفرقة إذ اللام فى قوله «النار» لام جنس فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعا.
ويقال الحسنة فى الدنيا شهود بالأسرار وفى الآخرة رؤية بالأبصار.
ويقال حسنة الدنيا ألا يغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك.
__________
(1) التبس على الناسخ نقل هذه الآية بالآية التي تليها فوضع هنا (حسنة) وهى زائدة.
(2) نرجح أنها (شاكيا) فى الأصل.(1/168)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 202]
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
إن كان خيرا فخير وإن كان غير فغير. «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» للعوام فى الفرصة، وللخواص فى كل نفس.
ويقال ذكر فريقين: منهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا، والثاني يقول فى الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 203]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
هذه صفة أواخر النسك، وهو الرمي فى أيام مني لما قدموا بأركان الحج خفّف عنهم بأن خيّرهم فى المقام والإفاضة والتعجيل فى التفريق.
والإشارة منه أنّ من خمدت نفسه، وحبى قلبه، واستدام بحقائق الشهود (سرّه) «1» - فإن سقط عنه شىء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديم من آداب الحضور عوض عن الذي يفوت.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 204]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)
أخبر أن قوما أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم فى الظاهر بسطة فى اللسان ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان فهم فى غطاء جهلهم، ليس وراءهم معنى، ولا على قولهم اعتماد، ولا على إيمانهم اتّكال، ولا بهم ثقة بوجه.
__________
(1) نعلم من مذهب القشيري أن حقائق الشهود متصلة بالسر، وما دام قد ذكر النفس والقلب فقد وجدنا من الضروري للتوضيح ذكر (سره) حيث نرجح أنها سقطت من الناسخ.(1/169)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجب صون الأسرار عنهم فإنهم لا يقابلون هذا الحديث إلا بالإنكار «1» ، وإن أهل الوداعة «2» من العوام الذين فى قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، ولهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثير ممن عدّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 205]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)
الإشارة لمن سعيه مقصور على استجلاب حظوظه، فهو لا يبالى بما ينحلّ من عرى الدين، ويهى من أسباب الإسلام، بعد ما تشتد حبال دنياهم، وتنتظم أسباب مناهم، من حرام جمعوه، وحطام حصّلوه. فإذا خلوا لوساوسهم وقصودهم الردية سعوا بالفساد بأحكام أسباب الدنيا، واستعمالهم من يستعينون بهم فى تمشية أمورهم من القوم الذين نزع الله البصيرة من قلوبهم.
«والله لا يحب الفساد» : ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفساد الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 206]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)
هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبّر، وزال عنهم خضوع الإنصاف فشمخت آنافهم عن قبول الحق فإذا أمرته بمعروف قال: ألمثلي يقال هذا؟!
__________
(1) هنا نلاحظ أن القشيري يرى عدم البوح باسرار الطريقة وأن الكتمان خير- وهذا موقف هام فى مسألة على جانب عظيم من الخطورة.
(2) وردت (الاوداعة) ونرجح أنها الوداعة لأنها أقرب إلى السياق.(1/170)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك ( ... ) «1» فيقول: وأنت أولى بأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء «2» وصفه، لم يطو على نصيحة جنبيه وتبقى فى القلب- إلى سنين- آثارها.
قال تعالى «فحسبه جهنم» يعنى ما هو فيه فى الحال من الوحشة وظلمات النّفس وضيق الاختيار حتى لا يسعى فى شىء غير مراده، فيقع فى كل لحظة غير مرة فى العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رءوف بالعباد: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 208]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
كلّف المؤمن بأن يسالم كل أحد إلا نفسه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده فإن من سالم نفسه فتر عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجب فترة كل مريد.
و «خطوات الشيطان» ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وترك نزعات لا عبرة بها، ولا ينبغى أن يلتفت إليها، بل كما قال الله تعالى: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» ثم أبصر ما الذي فعل به حين ألقته، وكيف مدّه إليها بعد ما نجّاه.
__________
(1) مشتبهة.
(2) وردت (سواء) وهى خطأ فى النسخ.(1/171)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 209]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
الزّلة الواحدة بعد كشف البرهان أقبح من كثير منها قبل ذلك، ومن عرف فى الخيانة لا يعتمد عليه فى الأمانة. ومحنة الأكابر «1» إذا حلّت كان فيها استئصالهم بالكلية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 210]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
استبطأ القوم قيام الساعة فأخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر.
وتلك أفعال فى معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال فى علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد. «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه منزّه عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
فائدة السؤال ليقرر عليهم بالسؤال الحجة، لا ليقرّر للرسول صلّى الله عليه وسلّم بسؤالهم ما أشكل عليهم من واضح المحبة.
«وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بزوال تلك النعمة. وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يندبونها ولا يصلون إليها قط، قال قائلهم:
ستهجرنى وتتركنى ... فتطلبنى فلا تجد
__________
(1) محنة الأكابر المقصود بها هنا زلات الأكابر، وعقوبتها أشد، وقد استدل القشيري على ذلك فى موضع سابق بأن من ترتكب فاحشة من أمهات المسلمين يضاعف لها العذاب ضعفين. [.....]
(2) إشارة إلى ما فى الآية الكريمة (يأتيهم الله) .(1/172)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
مكروا «1» فلم يشعروا، وحملهم اشتداد الظلمة على بصائرهم على الوقيعة فى أوليائه سبحانه، والسخرية منهم، وحين تقشعت غواية الجهل عن قلوبهم (.....) «2» علموا من الخاسر منهم من الذي كان فى ضلال بعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
يعنى الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رزقوا من أنوار البصيرة وحرموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجىء الرسل تهود قوم وتنصّر قوم، ثم فى العاقبة يردّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم فى علمه سبحانه ثم تفرّقوا فى حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجهم وقوم
__________
(1) ربما كانت فى الأصل (مكر بهم) فلم يشعروا، فالآية تقول (زيّن للذين ... ) فهم لم يشعروا بأن تزيين الدنيا لهم مكر من الله والله خير الماكرين.
(2) زائدة.(1/173)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا من المقبولين أمر مكتسب، ولا لردّ المردودين سبب، بل هو حكم بتّ وقضاء جزم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
خلق الله الجنة وحفّها بالمصائب، وخلق النار وحفّها بالشهوات والرغائب، فمن احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنون من مقاساة الشدائد، وكلّ من ألحق بهم من خلف الأولياء أدخلهم فى سلكهم، وأدرجهم فى غمارهم، فمن ظنّ غير ذلك فسراب ظنّه ماء، وحكم لم يحصل على ما ظنه تأويلا. ولقد مضت سنّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا ينيخون بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم الترقّب صادفهم اللطف بغتة وتحقق لهم المبتغى فجأة. قال تعالى «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
علموا أن العبد غير منفرد بالفاعلية أن يفعل، فإنّ العبد ليس له فعل شىء إلا بإذن مولاه فتوقفوا فى الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنّ العبوديّة الوقوف حيثما أوقفك الأمر.(1/174)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنّ ما طالعوه تفاصيل الأمر وإشارات الشرع والواو فى هذه الآية فى قوله: «وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى» تشير إلى نوع من الترتيب فالأولى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها فى حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هى فى وصف التقريب، فالسادة فى مخالفة النفوس فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة فى موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السنّة العليا.
وبشرى ضمان الحق باليسر أولى أن تقبل من محذرات هواجس النفوس فى حلول العسر وحصول الضر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 217]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)
من المعاصي ما يكون أشد من غيره وأصعب فى المعنى، فسوء الأدب على الباب لا يوجب ما يوجبه على البساط فإذا حصلت الزلة بالنّفس فأثرها بالعقوبة المؤجلة وهى الاحتراق، وإذا زلّ «1» القلب فالعقوبة معجلة وهى بالفراق، وأثر الغفلة على القلوب أعظم من ضرر الزلة
__________
(1) وردت (زال) وهى قطعا خطأ فى النسخ.(1/175)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
على النفوس، فإن النفس عن الحظ تبقى، والقلب عن الحق يبقى قوله جل ذكره: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صرفك إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومن فسخ مع الله عهده مسخ قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 218]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
إن الذين صدقوا فى قصدهم، وأخلصوا فى عهدهم، ولم يرتدوا فى الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا فى روح الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها فالسكر حرام بقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«حرّمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» ، فمن سكر من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السكر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمن لم يصدّق فليجرّب.(1/176)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
ومعنى القمار موجود فى أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحيل والخداع والكذب فى المقال. وبذل الصدق والإنصاف عزيز.
قوله جل ذكره: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
قيل العفو ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر به غيره على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثر به غيبا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 220]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
إصلاح حالهم بما يكون فيه تأديبهم أتمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح، و (مفارقة المال من من إرشادهم خير من الترخص بأن يقول إنه لا يتوجه على فرضيهم) «1» .
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فيعامل كلا على سواكن قلبه من القصود لا على ظواهر كسبه من جميع الفنون.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
__________
(1) فيما بين قوسين غموض ربما نتج عن خطأ فى النقل.(1/177)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
صلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهى إلى أحد يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة فى فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا فى الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشرك فحرام مواصلتهم قطعا، وأوجه مباينتهم فى هذا الباب حكم جزم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 222]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
ليس كل ما يكون موجب الاستحياء والنفور مما هو باختيار العبد، فقد يكون من النقائص ما ليس للعبد فيه كسب، وهو ابتداء حكم الحق، فمن ذلك ما كتب الله على بنات آدم من تلك الحالة، ثم أمرن باعتزال المصلّى فى أوان تلك الحالة، فالمصلّى مناج ربّه، فنحيّن عن محل المناجاة حكما من الله لا جرما لهن. وفى هذا إشارة فيقال: إنهن- وإن منعن عن الصلاة التي هى حضور بالبدن فلم يحجبن عن استدامة الذكر بالقلب واللسان، وذلك تعرض بساط القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه تعالى: «أنا جليس من ذكرنى» .
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب.
ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة.
ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات.
ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار.(1/178)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
ويقال التوّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة.
ويقال التوّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئا بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 223]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
لمّا كانت النفوس بوصف الغيبة عن الحقيقة أباح لها السكون إلى أشكالها إذا كان على وصف الإذن، فلمّا كانت القلوب فى محل الحضور حرم عليها المساكنة إلى جميع الأغيار والمخلوقات.
«وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 224]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
نزّهوا ذكر ربكم عن ابتذاله بأى حظ من الحظوظ.
ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركا يصطاد به حطام الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 225]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطر فى الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيرا فجزاء جميل، وإن كان شرا فعناء طويل.(1/179)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 226]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
إذا كان حق صحبة الأشكال محفوظا عليك- حتى لو أخللت به- وأخذك بحكمه:
فحقّ الحقّ أحقّ بأن تجب مراعاته. «فَإِنْ فاؤُ» أي رجعوا إلى إحياء ما أماتوا، واستدراك ما ضيّعوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فلما تقاصر لسان الزوجة- لكونها أسيرا فى يد الزوج- تولّى الله- سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 227]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
إن ملّ حق صحبتها، وأكّد العزم على مفارقتها فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له باد من ندم فلا يلبس بأركان الطلاق فإن الله سبحانه عليم أنه طلّقها.
ولمّا كان الفراق شديدا عزّى المرأة بأن قال إنه «سَمِيعٌ» أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
أمر المطلقات بالعدّة احتراما لصحبة الأزواج، يعنى إن انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سلف من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة فاصبروا حتى يمضى مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة؟
ثم قال جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
يعنى إن انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النّسب.
ثم قال جل ذكره: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.(1/180)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
يعنى من سبق له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع فى النكاح من الثلمة فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
يعنى أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعد ما أرجعها.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
يعنى إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال.
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فى الفضيلة، ولهن مزية فى الضعف وعجز البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق، وقيل فى معناه:
إن تبيّنت أنّ عزمك قتلى ... فذرينى أضنى قليلا قليلا
ثم قال جلّ ذكره: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
إمّا صحبة جميلة أو فرقة جميلة. فأمّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مرضى فى الطريقة، ولا محمود فى الشريعة.
قوله جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
فإن فى الخبر «العائد فى هبته كالعائد فى قيئه» والرجوع فيما خرجت عنه خسّة.
ثم قال جل ذكره: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.(1/181)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
يعنى إن أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنّ النفس تساوى لصاحبها كل شىء، والرجل إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئا فلا أقلّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شىء من المال.
قوله جل ذكره: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
هذه آداب يعلّمكمها الله ويسنّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 230]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
الرجل يشقّ عليه أن ينكح زوجته غيره فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بغية المنع «1» لما بيّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل «2» غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني ليحذر الطلاق ما أمكنه. ثم قال «فَإِنْ طَلَّقَها» يعنى الزوج «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» يعنى تتزوج بالزوج الأول.
والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يهوّن مقاساة كلّ شديدة فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة فى هذه الحالة كأنها ( ... ) «3» من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتى على نفسه فى احتمال ذلك.
ثم قال جل ذكره: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
يعنى لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانيا إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم:
ولقد حلفت لئن لقيتك مرة ... ألا أعود إلى فراقك ثانية
__________
(1) وردت (بغاية المنع) والأرجح أنها (بغية المنع) فإن السياق يتطلب ذلك.
(2) وردت (يفعل) والأصوب أن تعود على المرأة لأنها هى التي ستتزوج ثانية وهذا هو ما يشق على الزوج الأول.
(3) هنا كلمة رسمها هكذا (الميشور) وربما كانت (المبتور) .(1/182)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
تضمنت الآية الأمر بحسن العشرة، وترك المغايظة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج فإمّا تخلية سبيل من غير جفاء أو قيام بحق الصحبة على شرط الوفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
تضمنت الآية نهى الأولياء «1» عن مضارتهن، وترك حمية الجاهلية، والانقياد لحكم الله فى تزويج النساء إن أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية.
بل إذا رضيت بكفو يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويب عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشدّ مجاهدة وأصدق معاملة لله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) .
__________
(1) الأولياء هنا من ولاية الرجل على المرأة وليست من الولاية فى باب التصوف.(1/183)
غاية الرحمة التي يضرب بها المثل رحمة الأمهات فأمر الله سبحانه الأمهات بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حولين كاملين، وقطع الرضاعة عنه قبل الحولين إشارة إلى أن رحمة الله بالعبد أتمّ من رحمة الأمهات.
ثم قال جل ذكره: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
يعنى الأب عليه رزقهن وكسوتهن- أي المرضعات- بالمعروف. لمّا ينبن عنك وجب حقّهن عليك، فإنّ من لك كله فعليك كله.
ثم قال جل ذكره: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها.
ادخار المستطاع بخل، والوقوف- عند العجز- عذر.
ثم قال جل ذكره: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها.
فى الإرضاع وما يجب عليه.
وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ.
يعنى الوالد «1» بولده يعنى فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود.
ثم قوله جل ذكره: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يعنى فطاما قبل الحولين، فلا جناح بعد ما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق فى أحكام العسرة وإن من لا يرحم لا يرحم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم لمن ذكر أنه لم يقبّل أولاده: «إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقى» .
__________
(1) وردت (الولد) والسياق يقتضى أن تكون (الوالد) بعد أن تحدث عن (الوالدة) .(1/184)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
لمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول. وكانت عدة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحق براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر. والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحد كما قيل:
وكما تبلى وجوه فى الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحرّم منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عدة بجرم «1» .
قوله جل ذكره: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
__________
(1) وردت بالحاء والصحيح أن تكون بالجيم.(1/185)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
أي تنقضى عدة الأول فإن حرمة الماضي لا تضيع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 236]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
إن ابتلاء تمّ بوصيلة «1» أشكالكم ثم بدا لكم فلا جناح «2» عليكم فى اختيار الفرقة- إذا أردتم- فإن الذي لا يجوز اختيار فرقته- واحد فأمّا صحبة الخلق بعضهم مع بعض فليس بواجب، بل غاية وصفه أنه جائز.
ولمّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمّى يجب لهن، فإن الفراق- كيفما كان- فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخلف لها عند تجرع كأس الفرقة.
فإن لم يكن مسمّى فلا يخلو العقد من متعة فإن تجرع الفرقة- مجردا عن الراحة- بلاء عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 237]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
ثم ذكر أن العفو أتم وأحسن، إمّا من جهة المرأة فى النصف المستحق لها، أو من قبل الزوج فى النصف العائد إليه.
__________
(1) وردت (بوصيلة) وربما كانت الياء زائدة وأنها (بوصلة) أشكالكم.
(2) وردت (فلاح جرح) وهى خطأ من الناسخ، وقد صححناها (فلا جناح) طبقا للآية، ويحتمل أيضا أنها فى الأصل (فلا جرم) .(1/186)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
ثم قال جلّ ذكره: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل «1» بالفرض.
ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سنّة الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم فى اقتناء أسباب الفضل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 238]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)
المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة، ويخرج بالتعظيم، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب، والصلاة الوسطى (أيهم ذكرها على البيت) «2» لتراعى الجميع اعتقادا منك لكل واحدة أنها هى لئلا يقع منك تقصير فى شىء منها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 239]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
أي لا تخلّوا بمناجاتي لأوقاتها على الوصف الذي أمكنكم فان ما تحسونه «3» من أعدائكم أنا سلّطتهم عليكم، فاذا خلوتم بي بقلوبكم قصرت أيديهم عنكم، وجعلت لكم الظفر عليهم، ثم إذا زال عنكم الخوف وأمنتم فعودوا إلى استقراركم باستفراغ أوقاتكم فى الاعتكاف بحضرتي سرا وجهرا.
__________
(1) يحتمل انها (بخل) و (يخلّ) ، فإذا عرفنا أن الصوفية عموما يتشددون في التعبد ويتفوقون فيه على الكافة أمكن القول أن المعنى ممكن أن ينصرف إلى بخل بمعنى أن القشيري يحذر من أن الاكتفاء بالفرض قد يؤدى إلى البخل به، وهذا بدوره يؤدى إلى أن بخل بشأنه وقد وردت بخل وبخل فى السياق فيما بعد- والله أعلم. [.....]
(2) وردت هكذا وقد نقلناها من النص دون تعديل وربما كانت (أبهم ذكرها عن البت) .
(3) يحتمل أن تكون (تخشونه) من أعدائكم وكلاهما مقبول، وإن كنا نؤثر (تخشونه) لتناسب «فَإِنْ خِفْتُمْ» فى الآية.(1/187)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
كانت عدّة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم ذلك حيث يقول قائلهم:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكم ... ومن لبّاك حولا كاملا فقد اعتذر
ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بد من انتهاء مدة الحداد ولقد قال قائلهم:
قال: لو متّ لم أعش ... قلت: نافقت فاسكت
أي حى رأيته ... مات وجدا بميّت؟! «1»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
الإشارة ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الدلائل، فتتأدبوا بما أشير عليكم، وتفلحوا بما تعقلون من إشارات حكمى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) .
__________
(1) فى الشعر أخطاء كثيرة وقع فيها الناسخ فحاولنا إصلاحها بقدر الممكن ليكون مفهوما.(1/188)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
لمّا استبعدوا قدرة الله فى الإعادة أراهم فى أنفسهم عيانا، ثم لم ينفع إظهار ذلك لمن لم يشحذ بصيرته فى التوحيد. ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات فإنهم تحققوا بما أخبروا، لما آمنوا به بالغيب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
يعنى إن مسّكم ألم فتصاعد «1» منكم أنين فاعلموا أن الله سميع لأنينكم، عليم بأحوالكم، بصير بأموركم. والآية توجب تسهيل ما يقاسونه من الألم، وقالوا:
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك فتسمع
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
سمّى القرض قرضا لأنه يقطع «2» من ماله شيئا ليعطيه للمقترض، والمتصدّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضا، فالقرض القطع، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك فى باب الصدقة باسم القرض ولفظه.
ويقال دلّت الآية على عظم رتبة الغنيّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير فى هذا أعظم لأنه سأل لأجله القرض، وقد يسأل القرض من «3» كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفى الخبر «مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند أبى شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله «4» أبصر ممّن اقترض ولأجل من اقترض! ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العوض.
__________
(1) وردت (فقصاعد) وواضح أنها خطأ فى النسخ.
(2) أخطأ الناسخ فجاءت (يقع) وقد اخترنا (يقطع) لتناسب القرض ... القطع كما سيذكر بعد.
(3) وردت (عن) والصحيح والملائم للسياق أن يقال (من) .
(4) للحديث بقية ( ... ولم يترك دينارا ولا درهما، ولم يقسم له ميراث ولم يوجد له فى بيت أثاث) البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة (توفي ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين) ، وعن البيهقي بثلاثين صاعا من الشعير، والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عباس بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله. وسنده حسن، ولم يترك ولا درهما، مسلم عن عائشة.(1/189)
ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة، وإنما يعطى عن شهود.
ويقال القرض الحسن من العلماء «1» إذا كان عند ظهر الغنى، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه.
ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خمسة «2» ، وعلى لسان القوم بذل الكل، وزيادة الروح على ما يبذل.
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خلفه.
ويقال يقبض الرزق أي يضيق، يبسط الرزق أي يوسّع يقبض على الفقراء ليمتحنهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر.
ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء، ويبسط لئلا يتقلدوا المنّة من الأغنياء.
ويقال قال للأغنياء: إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم.
ويقال قبض القلوب بإعراضه وبسطها بإقباله.
ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء.
ويقال القبض لقهره والبسط لبرّه.
ويقال القبض لسرّه والبسط لكشفه.
ويقال القبض للمريدين والبسط للمرادين.
ويقال القبض للمتسابقين «3» والبسط للعارفين.
ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به.
__________
(1) يقصد القشيري بالعلماء. على لسان الشريعة، وبالأكابر- على لسان الحقيقة.
(2) يشير بذلك إلى مقدار زكاة المال وهى ربع العشر.
(3) ربما كانت «للسابقين» إشارة إلى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» .(1/190)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
ويقال القبض حقه، والبسط حظك.
ويقال القبض لمن تولّى عن الحق، والبسط لمن تجلّى له الحق.
ويقال يقبض إذا أشهدك فعلك، ويبسط إذا أشهدك فضله.
ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
استقبلوا الأمر بالاختيار، واقترحوا على نبيّهم بسؤال الإذن لهم فى القتال، فلمّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل، وعرّجوا في أوطان التجادل والتغافل. ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد فى القتال ذبّا عن أموالهم ومنازلهم حيث:
قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يخلص- لحقّ الله- عزمهم، ولو أنهم قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره- لعلّهم وفّقوا لإتمام ما قصدوه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)(1/191)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
نسوا حق الاختيار فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكا لأنه «1» كان فقيرا لا مال له، فبيّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق، وأنه وإن عدم المال فقد زاده الله علما ففضلكم بعلمه وجسمه، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يرد عظيم البنية فإن فى المثل: «فلان اسم بلا جسم» أي ذكر بلا معنى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
إن الله سبحانه إذا أظهر نورا أمدّه بتأييد من قبله، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيّهم فى اختياره، فردّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة، فاتضحت لهم آية ملكه، وأن نبيهم عليه السّلام صدقهم فيما أخبرهم.
ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بنى إسرائيل فى التابوت الذي رضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السّلام، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة «2» فى قلوبهم، فقال: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» ثم إن التابوت كان تتداوله أيدى الأعداء وغيرهم فمرّة كان يدفن ومرة كان يغلب عليه فيحمل، ومرة يرد ومرة ومرة ...
وأما قلوب المؤمنين فحال بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكا ولا نبيا، ولا سماء ولا هواء، ولا مكانا ولا شخصا، وقال صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) وردت (كأنه) وهى خطأ فى النسخ.
(2) يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.(1/192)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» يعنى فى قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه «القدرة» ، وشتّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تسلّط وأمة سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه سلطان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخلق بصحبة الخلق وبالدنيا وبالنّفس، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدّ الاضطرار بمقدار القوام، وما لا بد منه نجا وسلم «1» ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط فى صحبته مع شىء من ذلك من الدنيا والنفس والخلق بموجب الشهادة «2» والاختيار- فليس من الله فى شىء إن كان ارتكاب محظور، وليس من هذه الطريقة فى شىء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بد.
ثم قال جل ذكره: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
كذلك الخواص فى كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم.
قوله جل ذكره: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.
فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فداخلهم شىء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء.
__________
(1) هذه درجة فى الاعتدال يتسم بها مذهب القشيري، يوفق بها بين الشريعة والحقيقة فى النظر إلى الدنيا والنفس والناس فى عرف أرباب القلوب.
(2) أي أن يشهد الدنيا والنفس والخلق في شىء من الأشياء والواجب أن يشهد الله فى كل شىء، غير أننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (الشهوة) أي أنه ليس من الله فى شىء من ينظر إلى هذه الأمور بشهوة واختيار. [.....](1/193)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
قوله جل ذكره: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 250]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو، ثم بعده النصرة عليهم، فإن الصبر حق الحق، والنصرة نصيبهم، فقدّموا تحقيق حقه- سبحانه- وتوفيقه لهم، ثم وجود حظّهم من النصرة، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم- لا للانتقام منهم لأجل ما فاتهم من نصيبهم- ولكن لكونهم كافرين، أعداء الله.
فقاموا بكل وجه لله بالله فلذلك نصروا ووجدوا الظفر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 251]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
هيّب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة فى الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدى داود. وكان كما فى القصة ربع القامة غير عظيم الجثة، مختصر الشخص، ولم يكن معه من السلاح إلا مقلاع، ولكن الظفر كان له لأن نصرة الله سبحانه كانت معه.
قوله جل ذكره: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داود جالوت. وداود بالإضافة إلى جالوت فى الضخامة والجسامة كان بحيث لا تتوهم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم.(1/194)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
استقبلني وسيفه مسلول ... وقال لى واحدنا معذول «1»
قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
لو تظاهر الخلق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرّهم عن قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
لم يكن فى علمك ولا فى وسع احتيالك الوقوف على هذه الغائبات من الكائنات التي سلفت، وإنما وقفت عليها بتعريف من قبل الله سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا فى خصائص التفضيل، لكل واحد منهم أنوار، ولأنوارهم مطارح، فمنهم من هو أعلى نورا، وأتم من الرفعة وفورا. فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حكم بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم.
قوله جل ذكره: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.
__________
(1) ربما كانت (مخذول) .(1/195)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
ولكنهم مصرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يعنى اغتنموا مساعدة الإمكان فى تقديم الإحسان قبل فتور الجلد وانقضاء الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
«الله» اسم تفرّد به الحق- سبحانه فلا سمىّ له فيه. قال الله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» أي هل تعرف أحدا غيره تسمّى «الله» ؟
من اعتبر فى هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال.
قوله «لا إله إلا هو» : إخبار عن نفى النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذرّة من الإثبات بغيره أو من غيره فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فيصدق إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفراده، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يقبل إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محو عما سوى الله، فما له شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عرق، فاذا استوفى الحق عبدا لم يبق للحظوظ- البتة- مساغ.
ثم إن هذه القالة تقتضى التحقق بها، والفناء عن الموسومات بجملتها، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق- سبحانه، فلا وصل ولا فصل ولا قرب ولا بعد، فإن ذلك أجمع آفات لا تليق بالقدم.
وقوله «الحي القيوم» : المتولى لأمور عباده، القائم بكل حركة، و (المحوى) «1» ، لكل عين وأثر.
__________
(1) وردت هكذا ويحتمل أن تكون فى الأصل إما (المحيي) لتتلاءم مع (الحي) أو أن تكون (المجرى) أي القائم أو (القيوم) على ملكه:(1/196)
«لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» لأنه أحدى لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفرد لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلحقه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة.
تقدّس من جماله جلاله، وجلاله جماله، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمده قدمه، وقدمه وجوده قوله جل ذكره: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
ملكا وإبداعا، وخلقا واختراعا.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
من ذا الذي يتنفس بنفس ( ... ) «1» إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنّ أنه يتوسل إليه باستحقاق أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب- فالظنّ وطنه والجهل مألفه والغلط غايته والبعد قصاراه.
قوله جل ذكره: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.
لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم.
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ.
يعنى من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا باذنه.
فأى طمع لها فى الإحاطة بذاته وحقه؟ وأنّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه فى عزّه أمد، ولا يدركه حدّ؟! قوله جل ذكره: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأى خطر للأكوان عند صفاته؟
جلّ قدره عن التعزز بعرش أو كرسى، والتجمل بجن أو إنسى.
__________
(1) مشتبهة فى (ص) ويحتمل أن تكون مشطوبة لزيادتها فهناك شبه علامة على ذلك.(1/197)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
قوله جل ذكره: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
كيف تتعب المخلوقات من خلق الذرة والكون بجملته- له سواء فلا من القليل له نيسّر، ولا من الكثير عليه تعسّر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
فإن الحجج لائحة، والبراهين ظاهرة واضحة.
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
وامتاز الليل بظلامه عن النهار بضيائه، والحقوق الأزلية معلومة، والحدود الأولية معلولة فهذا بنعت القدم وهذا بوصف العدم.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وطاغوت كلّ واحد ما يشغله عن ربه وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ والإيمان حياة القلب بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الاستمساك بالعروة الوثقى الوقوف عند الأمر والنهى، وهو سلوك طريق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله.
لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
فمن تحقق بها سرا، وتعلّق بها جهرا فاز فى الدارين وسعد فى الكونين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
الولي بمعنى المتولى لأمورهم، والمتفرد بإصلاح شئونهم، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل فى معنى المفعول فالمؤمنون يقولون «1» طاعته. وكلاهما حق: فالأول جمع والثاني فرق،
__________
(1) أخطا الناسخ فكتبها (يقولون) بالقاف ونرجح أنها (يتولون) بالتاء.(1/198)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
وكلّ جمع لا يكون مقيدا بفرق وكلّ فرق لا يكون مؤيدا بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل «1» والآية تحمل عليهما جميعا.
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعنى بحكمه الأزلى صانهم عن الظلمات التي هى الضلال والبدع، لأنهم «2» ما كانوا فى الظلمات فط فى سابق علمه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ما استهواهم من دواعى الكفر يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
باستيلاء الشبه على قلوبهم، فيجحدون الربوبية، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبديا.
ويقال يخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سمة شهود تقديره.
ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يصلون إليه بشىء من سكناتهم وحركاتهم.
ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظلّ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته.
ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم.
ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
__________
(1) يقصد القشيري من ذلك أن الفرق ضرورى وهام إذ يتسنى للعبد خلاله أن يؤدى ما عليه من فرائض، وهذا ركن أساسى فى مذهب القشيري وغيره من الشيوخ الثقات.
(2) سقطت (ما) والمعنى يتطلبها.(1/199)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
عجّل الحق سبحانه لاعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثرا فى التحقيق- لو كانت لهم عين البصيرة. وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السّلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أوضح منها- لا لخلل فى الحجة- ولكن لقصور فى فهم الكافر، ومحكّ من سدّت بصائره عن التحقيق تضييع الوقت بلا فائدة تجدى، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمر لا بدّ منه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
لم يكن ذلك سؤال جحد، ولا قضية جهل، ولا دلالة شك فى القدرة، فإن هذا الخبر عن عزير النبي عليه السّلام، والأنبياء عليهم السّلام لا يجوز عليهم الشّكّ والجهل، ولكنه كان سؤال تعجّب، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين، فأراه الله ذلك فى نفسه، بأن أماته(1/200)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه، فازداد يقينا على يقين. وسؤال اليقين من الله، والحيلة فى ردّ الخواطر المشكلة، ديدن المتعرفين، ولذلك (.....) «1» الله سبحانه عزيرا فى هذه المقالة حتى قدّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال «واعلم أن الله على كل شىء قدير» من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك، وأرانى من عظيم الآيات ما ازداد به يقينا فإنّ طعامه وشرابه لم يتغيرا فى طول تلك المدة، وحماره مات بلا عظام.
والطعام والشراب بالتغيير أولى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قيل كان فى طلب فى زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلا من عين اليقين «2» .
وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى» كنت أومن ولكنى اشتقت إلى قولك لى أو لم تؤمن، فإن بقولك لى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» تطمينا لقلبى.
والمحبّ أبدا يجتهد فى أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
__________
(1) مشتبهة.
(2) من أقوال القشيري التي تتناثر فى كتبه نجد أنه ينظر للمعرفة على أنها ثلاث درجات.
1- عقلية ونورها البرهان أو علم اليقين.
2- قلبية ونورها البيان أو عين اليقين:
3- كشفية ونورها العرفان أو حق اليقين، ويقول: (علم اليقين كالنجوم يطلع عليها بدر عين اليقين، ولكن كل الأنوار تتبدد أمام شمس حق اليقين) .
اللطائف- التحبير فى التذكير ص 70- الرسالة ص 43، 44 والواقع أن القشيري التزم بهذا الترتيب التزاما دقيقا ولم يتخل عنه فى كل ما كتب.(1/201)
وقيل إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . وإن موسى- عليه السّلام- لما سأل الرؤية جهرا وقال:
«رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فردّ بالجهر صريحا وقيل له «لن ترانى» .
وقيل إنما طلب حياة قلبه فأشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفى الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعنى زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحرصه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه.
ولما قال إبراهيم عليه السّلام: أرنى كيف تحيى الموتى؟ قيل له: وأرنى كيف تذبح الحي؟
يعنى إسماعيل، مطالبة بمطالبة. فلمّا وفّى بما طولب به وفّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.
وقيل كان تحت ميعاد من الحق- سبحانه- أن يتخذه خليلا، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى.
ووصل بين «1» قصة الخليل صلّى الله عليه وسلّم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عزير إذ أراه فى نفسه لأن الخليل يرجح على عزير فى السؤال وفى الحال، فإن إبراهيم- عليه السّلام- لم يردّ عليه فى شىء ولكنه تلطّف فى السؤال، وعزير كلمه كلام من يشبه قوله قول المستبعد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمّ دلالة حيث أظهر إحياء الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم- عليه السّلام- ربى الذي يحيى ويميت، فقال «أنا أحيى وأميت» أراد إبراهيم أن يريه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادّعى.
وفى هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادة اليقين من الله سبحانه وتعالى فى حال النظر «2» .
ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» يعنى أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شىء رأيته «هذا ربى» فلم تدر كيف بلّغناك إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سمعت إليه همّتك.
__________
(1) جميل من القشيري أن يوضح التماسك والالتئام فى السياق القرآنى بين قصة وقصة.
(2) خصوصا فى مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان.(1/202)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعنى النفس فمن لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يحى قلبه بالله.
وفيه إشارة أيضا وهو أنه قال قطّع بيدك هذه الطيور، وفرّق أجزاءها، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا، فما كان مذبوحا بيد صاحب الخلة، مقطعا مفرّقا بيده- فإذا ناداه استجاب له كل جزء مفرّق.. كذلك الذي فرّقه الحق وشتّته فإذا ناداه استجاب:
ولو أنّ فوقى تربة ودعوتني ... لأجبت صوتك، والعظام رفات
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)
فالخلف لهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم فى سبيل الله فالخلف عنهم الحقّ سبحانه، وشتان بين خلف من أنفق ماله فوجد مثوبته، ومن أنفق حاله فوجد قربته فإنفاق المال فى سبيله بالصدقة، وإنفاق الأحوال فى سبيله بملازمة الصدق، وبنفي كل حظ ونصيب، فترضى لجريان حكمه عليك من غير تعبيس القلب، قال قائلهم:
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد
والإنفاق على ضربين: إنفاق العابدين وإنفاق الواجدين. أمّا العابدون فاذا أنفقوا حبّة ضاعف لهم سبعين إلى ما ليس فيه حساب، وأما الواجدون فكما قيل:
فلا حسن نأتى به يقبلونه ... ولا إن أسأنا كان عندهم محو
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 262]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
المنّ شهود ما تفعله، والأذى تذكيرك- لمن أحسنت إليه- إحسانك.(1/203)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون البتة أفعالهم ولا أعمالهم.
ويقال كيف يمنون بشىء تستعذرونه وتستحقونه.
ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
يعنى قول- للفقير المجرد- يرد به من تعرض له بإظهار العذر خير وأتم من صدقة المعجب بفعله، وما يتبع من إلزام المنة فيه.
ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجرمك، وغفران الله لك على تلك القالة- خير من صدقة بالمنّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
إنما يحمل جميل المنة من الحق سبحانه، فأمّا من الخلق فليس لأحد على غيره منّة فإنّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة، قال قائلهم:
ليس إجلالك الكبار بذلّ ... إنما الذّلّ أن تجلّ الصّغارا
ويقال أفقر الخلق من ظنّ نفسه موسرا فيبين له إفلاسه، كذلك أقل الخلق قدرا من ظن أنه على شىء فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه.(1/204)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق: لمن أنفق فى سبيل الله، ولمن أنفق ماله فى الباطل فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف، وهؤلاء لا يحصل لهم فى الحال إلا الردّ، وفى المآل «1» إلا التلف. وهؤلاء ظلّ سعيهم مشكورا، وهؤلاء يدعون ثبورا ويصلون سعيرا هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم، وهؤلاء حبطت أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وبالهم.
ويقال مثل هؤلاء كالذى أنبت زرعا فزكا أصله ونما «2» فصله، وعلا فرعه وكثر نفعه. ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت- على كبره «3» -
__________
(1) وردت (المال) والصحيح أنها (المآل) على عادة القشيري فى المقابلة بين ما يحدث فى الدنيا وفى الآخرة بين الحال والمآل.
(2) وردت (نماء) والصحيح أنها فعل (نما) لينسجم التركيب الداخلى للأسلوب.
(3) إشارة إلى ما فى الآية: (وأصابه الكبر) .(1/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
حيلته وتواترت من كل وجه وفى كل وقت محنته.... هل يستويان مثلا؟ وهل يتقاربان شبها؟
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
لينظر كلّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك: فما كان لحظّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللّقمة لقمته) «1» ، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة.
ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقبله منك، بل أبصر كيف بمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك الكلّ منه فضلا لكنه ينسبه إليك فعلا «2» ، ثم يونى عليك عطاءه ويسمى العطاء جزاء، يوسعك بتوفيقه برّا، ثم يملأ العالم منك شكرا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
يعد الشيطان الفقر لفقره، والله يعد المغفرة لكرمه.
__________
(1) وردت هكذا (فلقمته لقمته) ويحتمل أن تكون كما أثبتنا، أو أن تكون فالقيمة لقيمته بدليل ما بعدها. [.....]
(2) تأمل كيف يرى القشيري قيمة العمل الإنسانى: إنه على الحقيقة فضل من الله ولكن من الناحية النسبية فعل للانسان ... وهذه مسألة هامة تتفرع عنها قضايا كلامية كثيرة يختلف فيها عن المعتزلة.(1/206)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
الشيطان يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم- بطاعته- بالحرص ولا فقر فوقه.
يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.
يعدكم الفقر بنسيان ما تعوّدتموه من فضله- سبحانه «1» .
ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.
ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.
ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.
«وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» أي الرغبة فى الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوى الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شىء سواه ببالك.
ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.
ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» : الفضل الموعود- فى العاجل- القناعة، وفى الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و (....) «2» والغفران.
ويقال فى العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنس.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) .
__________
(1) أضفنا (سبحانه) ليمتنع اللبس وهى غير موجودة فى (ص) .
(2) هنا لفظة مشتبهة أقرب ما تكون إلى (العفو) ولكننا آثرنا عدم إثباتها فى النص لعدم التأكد.(1/207)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
الحكمة: يحكم عليكم خاطر الحقّ لا داعى النفس، وتحكم عليكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان.
ويقال الحكمة صواب الأمور.
ويقال هى ألا تحكم عليك رعونات البشرية.
(ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره) «1» .
ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى، والسّفه مخالفة أمره.
ويقال الحكمة شهود الحق والسّفه شهود الغير قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 270]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)
قوم توعّدهم بعقوبته، وآخرون توعدهم بمثوبته.. وآخرون توعدهم بعلمه فهؤلاء العوام «2» وهؤلاء الخواص. قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» فلا شىء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه، فليحذر المريد من إزلال «3» نفسه فى ذلك غاية الحذر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 271]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) .
__________
(1) ربما وقع الناسخ فى خطأ حين وضع هذه الجملة فى هذا المكان، والأقرب أن تكون بعد كلمة (زواجر الشيطان) فنحن نعرف من مذهب القشيري أنه يرى أن الشيطان لا يملك أن يغرى الخلق (لأنه لو كان قادرا على ذلك لكان يمسك على الهداية نفسه، ومن عجز أن يحافظ على نفسه كان في إغراء غيره أشد عجزا) قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .
(2) العوام هنا تنصرف إلى الموعودين بالمثوبة والمتوعدين بالعقوبة.
(3) (إزلال) بالزاي معناها الإيقاع فى الزلة والتسبب فى ارتكابها، أوضحناها حتى لا تلتبس (بإذلال) ومع ذلك فيمكن قبول (إذلال) بالذال إذا فهمنا أن سقوط العبد من عين الله هو (ذلة) لنفسه.(1/208)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
إن أظهرت صحبتك معنا وأعلنت فلقد جوّدت وأحسنت، وإن حفظت سرّنا عن دخول الوسائط بيننا صنت شروط الوداد، وشيّدت من بناء الوصلة العماد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 272]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)
لك المقام المحمود، واللواء المعقود، والرتب الشريفة، والمنازل العلية، والسنن المرضية.
وأنت سيد الأولين والآخرين، ولا يدانيك أحد- فضلا عن أن يساميك، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا، وليس للأغيار منه شظية. يا محمد: أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق، فلا لهم فى الشرق مذهب، ولا لهم فى الغرب مضرب. كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم:
كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها ... عليهم فما تزداد طولا ولا عرضا
__________
(1) من هذه الفقرة يتضح موقف التصوف الإسلامى الحق في نظرته إلى الرسول صلوات الله عليه وليس في الأمر- كما ترى- جموح أو شطط (قارن ذلك بنظرة ابن عربى وتلاميذه) .(1/209)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
ولا يسلم لهم نفس مع الخلق، وأنّى بذلك ولا خلق!! وإذا لم يكن فإثبات ما ليس شرك (سقها) «1» فى التوحيد.
والفقير الصادق واقف مع الله بالله، لا إشراف للأجانب عليه، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار فى لبسة سوى ما هو به قال تعالى: «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» ، فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شىء من أحوالهم. تعرفهم يا محمد- أنت- بسيماهم، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة. لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية.
ويقال «تعرفهم بسيماهم» : استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم، وصياح أسرارهم إلى العرش (نشاطا عنه) عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش «2» .
ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافا، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال- لما يشير إليه دليل الخطاب- فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم، لئلا يلاحظهم الخلق بعين السؤال، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار «3» .
ويقال: «أحصروا فى سبيل الله» : وقفوا على حكم الله، وأحصروا نفوسهم على طاعته وقلوبهم على معرفته، وأرواحهم على محبته، وأسرارهم على رؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
ما دام لهم مال لا يفترون ساعة عن إنفاقه ليلا ونهارا، فإذا تفد المال لا يفترون عن شهوده لحظة ليلا ونهارا.
__________
(1) مشتبهة وقد أثرنا أن ننقلها كما هى وربما كانت (سقما) أي علة فى التوحيد.
(2) العبارة فيها شىء من غموض نتيجة اشتباه ما بين القوسين ولكن المراد- والله أعلم- أنه بينما تبدوا ظواهرهم ذابلة بحكم التواضع والانكسار فإن أسرارهم جادة فى التسبيح من حول العرش.
(3) هنا يبدو القشيري متأثرا بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.(1/210)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 275]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)
من أعرض عن الأمر، ورخّص لنفسه بما يسوّله له خاطره من التأويل فلا استقلال لهم فى الحال ولا انتعاش فى المآل خسروا فى عاجلهم ولم يربحوا فى آجلهم.
ومن انتبه بزواجر الوعظ، وكبح لجام الهوى، ولم يطلق عنان الإصرار فله الإمهال فى الحال، فإن عاد إلى مذموم تلك الأحوال فلينتظروا أوشك الاستئصال وفجاءة النّكال.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 276]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
ما كان بإذن منه- سبحانه- من التصرّفات فمقرون بالخيرات، ومصحوب بالبركات.
وما كان بمتابعة الهوى يسلّط عليه المحق، وكانت عاقبة أمره الخسران قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 277]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
إن الذين كانوا لنا يكفيهم ما يجدون منّا، لا نضيع أجر من أحسن عملا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 278]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)(1/211)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
الاكتفاء بموعود الربّ خير للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه.
ومقصودك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 279]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار، ولا قدر ولا أخطار.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حبسه، وإن ظهرت لذى الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه، ولكنه فى إمهال وإنظار. والرب لا يحكم بهذا علينا فمع علمه بإعسارنا وعجزنا، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له- يرحمنا.
قوله «إلى ميسرة» : ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شىء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين، فأمّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد..
وأنّى للمفلس به؟! وأمّا الربح فى التجارة من تقليب رأس المال والتصرّف فيه.. فأنّى للمفلس به؟! ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء (..........) «1» وإن كان ضعيفا، فذلك لمن بقيت له منة الحراك أما المفلس عن قوته- كما هو مفلس عن ماله- ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه.
قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
__________
(1) هنا عبارة مطموسة.(1/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
الرجوع على ضربين: بالأبشار والنفوس غدا عند التوفى، وبالأسرار والقلوب فى كل نفس محاسبة نقد ووعد، فنقد مطالبته أحقّ مما سيكون فى القيامة من وعده.
وقال للعوام: «واتقوا يوما» وقال للخواص: «وإياى فاتقون» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)(1/213)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
أمر الله سبحانه الخلق بالقيام بالصدق، وعلّمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يجرى- بعضهم على بعض- حيفا، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم، وموجب رفقه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة.
ومن شرع اليوم ما يقطع الخصومة بينهم فبالحرى أن يجرى ما يرفع فى الآخرة آثار الخصومة «1» بينهم، وفى الخبر المنقول: تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالى عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر.
وفيما شرع من الدين «2» رفق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذن له فى الاستدانة ليجبر أمره فى الحال، وينتظر فضل الله فى المآل، وقد وعد على الإدانة الثواب الكثير، وذلك من لطفه تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
__________
(1) وردت (الحكومة) ونظن أنها خطأ فى النسخ وأن الأصل (الخصومة) .
(2) ضبطناها هكذا وذلك هو الملائم للسياق.(1/214)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
من المعاني والدعاوى، ويقال من القصود والرغائب، وفنون الحوائج والمطالب.
ويقال ما «تبديه» : العبادة، «وما تخفيه» الإرادة.
ويقال ما «تخفيه» : الخطرات و «ما تبديه» : «العبارات» .
ويقال ما «تخفيه» : السكنات والحركات «1» ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة، فلا تغفل «2» خطرة ولا تحمل وقتك نفسا «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 285]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
هذه شهادة الحق- سبحانه- لنبيّه- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- بالإيمان، وذلك أتمّ له من إخباره عن نفسه بشهادته.
ويقال آمن الخلق كلّهم من حيث البرهان وآمن الرسول- عليه السّلام- من حيث العيان.
ويقال آمن الخلق بالوسائط وآمن محمد- صلّى الله عليه وسلّم- بغير واسطة.
__________
(1) ربما كانت فى الأصل «تخفيه» السكنات «وتبديه» الحركات وسقطت تبديه من الناسخ. [.....]
(2) وردت (تعقل وربما صحت على أساس أن تعقل (بمعنى تحبس) أو بمعنى استخدام العقل، وهو فى هذه الحالة آفة تعترض الفناء الكامل.
(3) ضبطناها هكذا لأن الانتباه إلى (النّفس) أمارة عدم اكتمال الفناء.(1/215)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر فقال «آمن الرسول» ، ولم يقل آمنت، كما تقول لعظيم الشأن من الناس: قال الشيخ، وأنت تريد قلت.
ويقال آمن الرسول والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلّ آمنوا استدلالا، وأنت يا محمد آمنت وصالا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (2) : آية 286]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رفق منه وفضل.
لَها ما كَسَبَتْ من الخيرات.
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ما تكسبه من التوبة التي تنجّى من كسب «1» .
قوله جل ذكره: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ كان إذا وقعت حاجة كلّموه بلسان الواسطة. قالوا «يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ» وهذه الأمة قال لهم: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .
وكانت الأمم (السالفة) «2» إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضى مدة لقبول التوبة، وفى هذه الأمة قال صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» .
وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصهم أكثر من أن يأتى عليه الشرح.
__________
(1) قد يبدو للوهلة الأولى ان القشيري فى استخراج إشارته من (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) يتجه اتجاها مخالفا للتفسير التقليدى، ولكن الواقع ان إشارة القشيري مرتبطة بمذهبه فى أن الله خالق كل شىء حتى أفعال العباد، فهو خالق التوبة وحين يتقبلها تعود (على) العبد، انظر مثلا تفسيره (ويتوب عليكم) من سورة النساء.. من هذا الكتاب) .
(2) (السالفة) موجودة فى الهوامش فأثبتناها فى موضعها من المتن.(1/216)
قوله جل ذكره: وَاعْفُ عَنَّا فى الحال وَاغْفِرْ لَنا فى المآل وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
فى جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.
ولما قالوا «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» خسف الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة.
والحمد الله رب العالمين.
السورة التي يذكر فيها آل عمران
«بسم الله الرحمن الرحيم» اختلف أهل التحقيق فى اسم «الله» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا إنه ليس بمشتق من مغني، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص «1» ، يجرى فى وضعه مجرى أسماء الأعلام فى صفة غيره، فاذا قرع بهذا اللفظ أسماء أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحقّ هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب فاذا قال بلسانه «الله» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «الله» .
وكما لا تدل هذه الكلمة على معنى سوى «الله» لا يكون مشهود قائلها إلا «الله» فيقول بلسانه «الله» ، ويعلم بفؤاده «الله» ، ويعرف بقلبه «الله» ، ويحب بروحه «الله» ،
__________
(1) وردت (الاقتصاص) .(1/217)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
ويشهد بسره «الله» ، ويتملق «1» بظاهره بين يدى الله، ويتحقق بسرّه الله، ويخلو بأحواله لله وفى الله فلا يكون فيه نصيب لغير الله، وإذا أشرف على أن يصير محوا فى الله لله بالله تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله «2» الرحمن الرحيم استبقاء لمهجتهم أن تتلف، وإرادة فى قلوبهم أن تنقى فالتلطف سنّة منه سبحانه لئلا يفنى أولياؤه بالكلية.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
أشار بقوله ألف إلى قيامه بكفايتك على عموم أحوالك، فأنت فى أسر الغفلة لا تهتدى إلى صلاحك ورشدك، وهو مجر ما يجبرك، وكاف بما ينصرك، فبغير سؤالك- بل بغير علمك بحالك- يكفيك من حيث لا تشعر، ويعطيك من غير أن تطلب.
والإشارة من اللام إلى لطفه بك فى خفىّ السّر حتى أنه لا يظهر عليك محل المنة فيما يثبتك فيه. والإشارة من الميم لموافقة جريان التقدير بمتعلقات الطّلبة من الأولياء، فلا يتحرك فى العالم شىء، ولا تظهر ذرة إلا وهو بمحل الرضا منهم حتى أن قائلا لو قال فى قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» إن ذلك الشأن تحقيق مراد الأولياء- لم يكن ذلك ببعيد.
ويقال تفرّق عن القلوب- باستماع هذه الحروف المقطعة التي هى خلاف عادة الناس فى التخاطب- كلّ معلوم ومرسوم، ومعتاد وموهوم، من ضرورة أو حسّ أو اجتهاد، حتى إذا خلت القلوب عن الموهومات والمعلومات، وصفىّ الأسرار عن المعتادات والمعهودات يرد هذا الاسم وهو قوله: «الله» على قلب مقدّس من كل غير، وسرّ مصفىّ عن كل كيف فقال «الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .
فهو الذي لا يلهو فيشتغل عنك، ولا يسهو فتبقى عنه، فهو على عموم أحوالك رقيب سرّك إن خلوت فهو رقيبك، وإن توسطت الخلق فهو رقيبك «3» ، وفى الجملة- كيفما دارت بك الأحوال- فهو حبيبك.
__________
(1) استخدم القشيري هذا الفعل فى موضع مماثل عند قوله (تذكير ما سلف من الإنعام فتح لباب التملق فى اقتضاء أمثاله فى المستقبل) وفى موضع آخر (فيحمله صدق الإرادة على التملق والتضرع ص 248 من هذا الجزء.
(2) وردت (بقو) .
(3) وردت فهو (قريبك) والمعنى يحتملها ولكن الانسجام فى الأسلوب يتطلب (رقيبك) مكررة(1/218)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 3 الى 4]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
وما كنت يا محمد تدرى ما الكتاب، ولا قصة الأحباب، ولكنما صادفك اختيار أزلىّ فألقاك فى أمر عجيب شانه، جلىّ برهانه، عزيز محلّه ومكانه.
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.
أي محققا لموعوده لك فى الكتاب على ألسنة الرسل عليهم السلام.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
أي إنا وإن أنزلنا قبلك كتبنا على المرسلين فما أخلينا كتابا من ذكرك، قال قائلهم:
وعندى لأحبابنا الغائبين ... صحائف ذكرك عنوانها
وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار.
قوله جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ.
وهو ذلّ الحجاب، ولكنهم لا يشعرون.
«وَاللَّهُ عَزِيزٌ» على أوليائه «ذُو انْتِقامٍ» من أعدائه، عزيز يطلبه كل أحد، ولكن لا يجده- كثيرا- أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 5]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5)
لا يتنفس عبد نفسا إلا والله سبحانه وتعالى محصيه «1» ، ولا تحصل فى السماء والأرض ذرة لا وهو سبحانه محدثه ومبديه، ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه.
هذا على العموم، فأمّا على الخصوص: فلا رفع أحد إليه حاجة إلا وهو قاضيها، ولا رجع أحد إليه فى نازلة إلا وهو كافيها.
__________
(1) وردت (محيصة) وهى خطا من الناسخ.(1/219)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 6]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة، وهو الذي قدّر أحوالكم فى الأزل كيف شاء، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فلا يعقّب حكمه بالنقض، أو يعارض تقديره بالإهمال والرفض.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
جنّس عليهم الخطاب فمن ظاهر واضح تنزيله، ومن غامض مشكل تأويله. القسم الأول لبسط الشرع واهتداء أهل الظاهر، والقسم الثاني لصيانة الأسرار عن اطلاع الأجانب عليها، فسبيل العلماء الرسوخ فى طلب معناه على ما يوافق الأصول، فما حصل عليه الموقوف فمقابل بالقبول، وما امتنع من التأثر فيه بمعلول الفكر سلّموه إلى عالم الغيب.
وسبيل أهل الإشارة والفهم إلقاء السمع بحضور القلب، فما سنح لفهومهم من لائح التعريفات بنوا (عليه) «1» إشارات الكشف.
__________
(1) فى ص (بنوا على) والأصوب (بنوا عليه) حتى تتماسك العبارة لأن الإشارة تنبنى على التعريف.(1/220)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
إن (طولبوا) «1» باستدامة الستر وطىّ السّر تخارسوا عن النطق، وإن أمروا بالإظهار والنشر أطلقوا بيان الحق، ونطقوا عن تعريفات الغيبة، فأمّا الذين أيّدوا بأنوار البصائر فمستضيئون بشعاع شموس الفهم، وأمّا الذين ألبسوا غطاء الريب، وحرموا لطائف التحقيق، فتنقسم بهم الأحوال وتترجّم بهم الظنون، ويطيحون فى أودية الرّيب والتلبيس، فلا يزدادون إلا جهلا على جهل، ونفورا على شك.
قوله جل ذكره: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
ومن وجد علمه من الله فيكون إيمانهم بلا احتمال جولان خواطر التجويز بل عن صريحات الظهور، وصافيات اليقين. وأمّا أصحاب العقول الصاحية ففى صحبة التذكر، لظهور البراهين و (....) «2» أحكام التحصيل.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 8]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب «3» .
ويقال حين صدقوا فى حسن الاستغاثة أمدّوا بأنوار الكفاية.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 9]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب، وغدا جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب،
__________
(1) فى ص (طالبوا) والأوفق أن تبنى للمجهول مثل (أمروا) التي بعدها، لأن فاعليتهم حينئذ مفقودة.
(2) مشتبهة.
(3) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة أنهم أبدا طامعون فى الهداية محتاجون- لا لأعمالهم- بل لفضل الله، ومهما أسبغ عليهم يشعرون بأنهم ما زالوا بعيدين عن التمام، وعلى هذا التفسير تنسجم هذه العبارة مع سابقتها «ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا» .(1/221)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال، وغدا جمع الأبشار لشهود الأحوال، ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
فلا فداء ينفعهم، ولا غناء يدفعهم، ولا مال يقبل منهم، ولا حجاب يرفع عنهم، ولا مقال يسمع فيهم، بهم يسعّر الجحيم، ولهم الطرد الأليم، والبعد والحميم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
أصرّوا فى العتوّ على سننهم، وأدمنا لهم فى الانتقام سنننا، فلا عن الإصرار أقلعوا، ولا فى المبارّ طمعوا، ولعمرى إنهم هم الذين ندموا وتحسّروا على ما قدّموا- ولكن حينما وجدوا الباب مسدودا، والندم عليهم مردودا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
أخبرهم أنهم يفوتهم حديث الحق فى الآجل «1» ، ولا تكون لهم لذة عيش فى العاجل، والذي يلقونه فى الآخرة من شدة العقوبة بالحرقة فوق ما يصيبهم فى الدنيا من الغيبة عن الله والفرقة «2» ، ولكن سقمت البصائر فلم يحسوا بأليم العقاب.
__________
(1) يشير القشيري بهذا إلى الآية الكريمة «لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» . [.....]
(2) أما الخواص فيرون رؤية الله منتهى آمالهم، وصدّه عنهم أشد عليهم من عذاب السعير، يقول البسطامي: «لله خواص من عباده لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته ساعة لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار» .(1/222)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
إذا أراد الله إمضاء أمر قلّل الكثير فى أعين قوم، وكثّر القليل فى أعين قوم، وإذا لبّس على بصيرة قوم لم ينفعهم نفاذ أبصارهم، وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
يذكر بعض الشهوات على ما سواها مما هو فى معناها، وفى الجملة ما يحجبك عن الشهود فهو من جملتها. وأصعب العوائق فى هذه الطريق الشهوة الخفية. وأداء الطاعات على وجه الاستحلاء معدود عندهم فى جملة الشهوة الخفية. ومن المقاطع المشكلة السكون إلى ما يلقاك به من فنون تقريبك، وكأنه فى حال ما يناجيك يناغيك، فإنه بكل لطيفة يصفك (فيطريك) «2» وتحتها خدع خافية. ومن أدركته السعادة كاشفه بشهود جلاله وجماله (لا) «3» بإثباته فى لطيف أحواله وما يخصه به من أفضاله وإقباله.
__________
(1) من هذا نفهم أن ترتيب ملكات الاطلاع عند القشيري هو على هذا النحو: البصر ثم البصيرة ثم السر
(2) مستدركة فى الهامش فأثبتناها فى موضعها.
(3) نظن أن (لا) زائدة لأن السعادة التي تدرك العبد لا تتم إلا (بإثباته فى ... ) .(1/223)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 15]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)
بيّن فضيلة أهل التقوى على أرباب الدنيا، فقال: هؤلاء لهم متابعة المنى وموافقة الهوى وأولئك لهم الدرجات العلى، والله بصير بالعباد أنزل كل قوم منزله، وأوصله إلى ما له أهلّه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 16]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16)
أي ينقطعون إلينا بالكلية، ويتضرعون بين أيدينا بذكر المحن والرزية، أولئك ينالون منا القربة والخصوصية، والدرجات العليّة، والقسم المرضيّة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 17]
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
الصبر حبس النّفس، وذلك على ثلاث مراتب:
صبر على ما أمر به العبد، وصبر عما نهى عنه وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد إمّا فى فوات محبوبك أو هجوم ما لا تستطيعه «1» .
فإذا ترقيت عن هذه الصفة- بألا تصيبك مشقة أو تنال راحة- فذلك رضا لا صبر «2» .
ويقال الصابرين على أمر الله، والصادقين، فيما عاهدوا الله.
و «القانتين» ، بنفوسهم بالاستقامة فى محبة الله.
__________
(1) فوات المحبوب صدّه عنك وهجره لك، والهجوم الذي لا تستطيعه هو الذي (يرد على القلب بقوة الوقت من غير تصنع منك، ومنهم من تصرفه الهواجم ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالا وقوة، أولئك سادات الوقت) الرسالة ص 44.
(2) لاحظ الفرق بين الرضا والصبر.(1/224)
و «المستغفرين» عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم فى الله «1» ويقال: «الصابرين» بقلوبهم و «الصادقين» بأرواحهم و «القانتين» بنفوسهم، و «المستغفرين» بألسنتهم.
ويقال «الصابرين» على صدق القصود و «الصادقين» فى العهود و «القانتين» بحفظ الحدود و «المستغفرين» عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد.
ويقال «الصابرين» الذين صبروا على الطلب ولم يتعللوا بالهرب ولم يحتشموا من التعب، وهجروا كل راحة وطلب. وصبروا على البلوى، ورفضوا الشكوى، حتى وصلوا إلى المولى، ولم يقطعهم «2» شىء من الدنيا والعقبى.
و «الصادقين» الذين صدقوا فى الطلب فقصدوا، ثم صدقوا حتى وردوا، ثم صدقوا حتى شهدوا، ثم صدقوا حتى وجدوا، ثم صدقوا حتى فقدوا ... فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود «3» .
و «القانتين» الذين لازموا الباب، وداوموا على تجرّع الاكتئاب، وتركوا المحاب، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب.
و «المنفقين» الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، (ثم جادوا بميسورهم من الأموال) «4» ، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال، ثم جادوا بترك كل حظ لهم فى العاجل الآجل، استهلاكا عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال «5» .
و «المستغفرين» عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الاسحار يعنى ظهور الإسفار، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر فى الأقطار.
__________
(1) قارن ذلك بما يحكيه المناوى في (طبقاته) وابن الجوزي فى (صفة الصفوة) عن رابعة أنها كانت تردد: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه) .
(2) قواطع الدنيا معروفة أما قواطع العقبى فهى تعليق العمل المبذول بالأجر، إما الطمع فى المثوبة أو الخوف من العقوبة.
(3) هذا تلخيص دقيق للمعراج الروحي ينبغى أن نتمهل عنده لحسن فهمه واستيعابه.
(4) مستدركة فيما بين السطور فأثبتناها فى موضعها.
(5) الاستئصال هو الذي عبر عنه القشيري فى رسالته بقوله: (كأس تصطمهم منهم وتفنيهم وتختطفهم ولا تبقهم، كأس لا تبقى ولا تذر، تمحوهم بالكلية، ولا تبقى شظية من آثار البشرية) الرسالة ص 43(1/225)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
أي علم الله وأخبر الله وحكم الله بأنه لا إله إلا هو، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق، وأوّل من شهد بأنه الله- الله، فشهد فى آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلى، وأخبر عن وجوده الأحدى، وكونه الصمدى، وعونه القيومى، وذاته الدعومى، وجلاله السرمدي، وجماله الأبدى. فقال: «شَهِدَ اللَّهُ» ثم فى آباده، «شَهِدَ اللَّهُ» أي بيّن الله بما نصب من البراهين، وأثبت من دلائل اليقين، وأوضح من الآيات، وأبدى من البينات. فكلّ جزء من جميع ما خلق وفطر، ومن كتم العدم أظهر، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل، من أعيان مستقلة، وآثار فى (ثانى) «1» وجودها مضمحلة، وذوات للملاقاة قابلة، وصفات فى المحالّ متعاقبة- فهو لوجوده مفصح، ولربوبيته موضّح، وعلى قدمه شاهد، وللعقول مخبر بأنه واحد، عزيز ماجد، شهد سبحانه بجلال قدره، وكمال عزه، حين لا جحد ولا جهود «2» ولا عرفان لمخلوق ولا عقل، ولا وفاق، ولا كفر، ولا حدثان، ولا غير، ولا إلحاد، ولا شرك، ولا فهم ولا فكر، ولا سماء ولا فضاء، ولا ظلام ولا ضياء، ولا وصول للمزدوجات «3» ، ولا فضول باختلاف الآفات.
قوله جل ذكره: وَالْمَلائِكَةُ لم يؤيّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيّدهم، حين وفّقهم بشهادته وسدّدهم، وإلى معرفة وجدانيته أرشدهم.
قوله جل ذكره: وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم أولياء بنى آدم إذ علموا جلال قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم، فشهدوا عن شهود وتعيين، لا عن ظن وتخمين، إن لم يدركوه- اليوم-
__________
(1) ربما كانت فى الأصل فى (شان) وجودها ... بتخفيف الهمز.
(2) ربما كانت فى الأصل (جحود) ، ويحتمل أنها (جهود) فيكون المقصود الجهود الإنسانية الكسبية.
(3) ربما قصد منها كل شىء وضده، وربما كانت (للدرجات) . [.....](1/226)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ضرورة وحسّا، لم يعتقدوه ظنّا وحدسا تعرّف إليهم فعرفوه، وأشهدهم فلذلك شهدوا، ولو لم يقل لهم إنه من هو لما عرفوا من هو.
ولكنّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم، والموحّدون يشهدون بعد خمودهم فهم كما قيل:
مستهلكون بقهر الحق قد همدوا ... واستنطقوا بعد افتنائهم بتوحيد
فالمجرى عليهم ما يبدو منهم- سواهم، والقائم عنهم بما هم عليه وبه- غيرهم، ولقد كانوا لكنهم بانوا، قال قائلهم:
كتابى إليكم بعد موتى بليلة ... ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب
وأولو العلم على مراتب: فمن عالم نعته وفاق ورهبانية، ومن عالم وصفه فناء وربّانية، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله، ومحكمه وتنزيله، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوى حججه وتوحيده بحديث يخرجه (....) «1» ، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره، فالاسم باق، والعين محو، والحكم طارق والعبد محق، قال قائلهم.
بنو حق غدوا بالحق صرفا ... فنعت الخلق فيهمو مستور
وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم، وعند علمهم بأنفسهم، فأما أعمالهم «2» أعيانهم فمخلوقة، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان، وصفات ذاته لا تقبل اتصالا بالغير ولا انفصالا عن الذات، تقدّس الحق عن كل ضدّ وندّ، ووصل وفصل، وجمع وفرق، وعين وخلق، وملك وفلك، ورسم وأثر، وعبد وبشر، وشمس وقمر، وشخص وغبر.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) .
__________
(1) مشتبهة.
(2) نرجح أنه فى الأصل (وأعيانهم) وأن الواو سقطت من الناسخ أي أنهم وما يصنعون- من خلق الله، وذلك الأصل من الأصول الكلامية عند القشيري.(1/227)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
الدّين الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يلقّيه- هو الإسلام.
والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود.
قوله جل ذكره: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
جاءهم العلم الذي عليهم حجة، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة، فأصروا على الجحود، لأنهم حجبوا عن محل الشهود.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
طالعهم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال فى شهود اختلافهم وتباين أطوارهم فإنّ من طالع الكائنات بعين القدرة علم أن المثبت للكلّ- على ما اختص به كل واحد من الكل- واحد.
فادعهم جهرا بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سرّا بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سرّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمجرى للأمور والمبدى- نحن.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 21]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)(1/228)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
إن الذين ربطناهم بالخذلان ووسمناهم بوصف الحرمان- أخبرهم بأن إعراضنا عنهم مؤبد، وأن حكمنا سبق بنقلهم عن دار الجنان إلى دار الهوان، من الخذلان والحرمان إلى العقوبة والنيران.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 22]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
أولئك الذين ليس لهم- اليوم- توفيق بأعمالهم، ولا غدا تحقيق لآمالهم، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا فى الدارين نصرتنا، ولم يشهدوا عزّنا وقدرتنا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 23]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون، فاصبر على ما أمرت فيهم، واعلم سوء أحوالهم، فإنهم أهل التولّى عن الإجابة، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 24]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
عاقبناهم فى الدنيا بالاستدراج حتى حكموا لأنفسهم بالنجاة وتخفيف العقاب، وسوف يعلمون تضاعف البلاء عليهم، ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكاذبون.
ظن المخطئون حكما ...(1/229)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
[سورة آل عمران (3) : آية 25]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم، وانقطاع دواعيهم، وانخلاع قلوبهم من مكامنها، وتراقيها إلى تراقيهم، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب، والعذاب والعقاب، وعدم الإكرام والإيجاب، وما فى هذا الباب.
وقيامة الكفار يوم الحشر، وقيامة الأحباب فى الوقت، ولشرح هذا تفسير طويل «1» قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 26]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
«اللَّهُمَّ» معناها يا الله والميم فى آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صفنى بما أستحقّه من جلال القدر فقل: يا مالك الملك لا شريك لك ولا معين، ولا ظهير ولا قرين، ولا مقاسم لك فى الذات، ولا مساهم فى الملك، ولا معارض فى الإبداع.
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
حتى نعلم أن الملك لك، والملك من المخلوقين من تذلّل له، ومنزوع الملك ممن تكبّر عليه فتجمّل الخلق فى تذللهم للحق، وعزّهم فى محوهم فيه، وبقاؤهم فى فنائهم به وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بعز ذاتك.
وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ.
بخذلانك.
وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك. وتعزّ
__________
(1) من كلام القشيري فى هذا الخصوص فى موضع آخر من هذا الكتاب:
(والقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق، وليس لها كاشف غيره سبحانه)(1/230)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
من تشاء بيمن إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك. وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه. وتعز من تشاء بطوالع أنسه وتذل من تشاء بطوارق «1» نفسه. وتعز من تشاء ببسطه بك، وتذل من تشاء بقبضه عنك.
وتؤتى الملك من تشاء بشد نطاق خدمتك، وتنزع الملك ممن تشاء بنفيه عن بساط عبادتك «2» . تؤتى الملك من تشاء بإفراد سرّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق، وتعز من تشاء بإقامته بالإرادة، وتذل من تشاء بردّه إلى ما عليه أهل العادة.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ.
ولم يذكر الشر حفظا لآداب الخطاب، وتفاؤلا بذكر الجميل، وتطيرا من ذكر السوء.
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
من الحجب والجذب، (والنصرة) «3» والخذلان، والأخذ والرد، والفرق والجمع، والقبض والبسط.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 27]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) .
__________
(1) الطوارق فى اللغة ما يطرق بالليل، وروى عن النبي (ص) أنه كان يدعو: «وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير» .
وعن بعض المشايخ: يطرق سمعى علم من علوم أهل الحقائق فلا أدعه أن يدخل قلبى إلا بعد أن أعرضه على الكتاب والسّنة. (اللمع للطوسى ص 422) .
(2) وردت (عبادك) والأصوب أن يقال (عبادتك) لأن العبودية لا تنتفى عن مخلوق، أما العبادة فهى حالة مخصوصة يعان عليها العبد أو لا يعان، فالعبد إما فى العبادة أو فى العادة:
(3) أضفنا هذه الكلمة من عندنا حتى يتم الانسجام الداخلى للأسلوب ويكون المعنى أوضح، ونحن فى هذه الإضافة- كدأبنا دائما- متمثلين النهج الذي يسلكه القشيري فى مثل هذا المواضع.(1/231)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
تولج الليل فى النهار حتى يغلب سلطان ضياء التوحيد فلا يبقى من آثار النفس وظلماتها شىء، وتولج النهار فى الليل حتى كأن شموس القلوب كسفت، أو كأن الليل دام، وكأن الصبح فقد.
وتخرج الحي من الميت حتى كأن الفترة لم تكن، وعهد الوصال رجع فتيّا، وعود القلوب صار غضا طريّا.
وتخرج الميت من الحي حتى كأن شجرة البرم أو رقت شوكا وأزهرت شوكا، وكأن اليائس لم يجد خيرا، ولم يشم ريحا، وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة.
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
حتى لا (كدر) «1» ولا جهد ولا عرق جبين. ولا تعب يمين. ليله روح وراحة، ونهاره طرب وبهجة، وساعاته كرامات، ولحظاته قربات، وأجناس أفعاله على التفصيل لا يحصرها لسان، ولا يأتى على استقصاء كنهها عبارة ولا بيان.
وفيما لوّحنا من ذلك تنبيه على طريق كيفية الإفصاح عنه.
ويقال لما قال: «وتنزع الملك ممن تشاء انكسر خمار كلّ ظانّ أنه ملك لأنه شاهد ملكه يعرض للزوال فعلم أن التذلل إليه فى استبقاء ملكه أولى به من الإعجاب والإدلال.
ويقال الملك فى الحقيقة- من لا يشغله شىء بالالتفات إليه عن شهود من هو الملك على الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
من حقائق الإيمان الموالاة فى الله والمعاداة فى الله.
وأولى من تسومه الهجران والإعراض عن الكفار- نفسك فإنها مجبولة على
__________
(1) نرجح أنها (كدّ) بدون راء، ومع ذلك فالمعنى يتقبل كليهما.(1/232)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
المجوسية حيث تقول: لى ومنى وبي «1» ، وقال الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» «2» .
وإن الإيمان فى هذه الطريقة عزيز، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام- وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغا عظيما- فليسوا بأهل لموالاتك، والشكل بالشكل أليق.
قوله جل ذكره: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم- البتة.
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» : هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة، فأمّا الذين نزلت رتبتهم عن هذا فقال لهم: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي ... » وقال: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ ... » إلى غير ذلك من الآيات.
ويقال: «يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» أن يكون عندكم أنكم وصلتم فإن خفايا المكر تعترى الأكابر، قال قائلهم:
وأمنته فأتاح لى من مأمنى ... مكرا، كذا من يأمن الأحبابا
ويقال: «يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» لأن يجرى فى وهم أحد أنه يصل إليه مخلوق، أو يطأ بساط العزّ قدم همة بشر، جلّت الأحدية وعزّت! وإنّ من ظن أنه أقربهم إليه ففى الحقيقة أنه أبعدهم عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 29]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
__________
(1) وإلى هذا يشيرون حين يقولون (التوحيد إسقاط الياءات) الرسالة ص 149. لأن التوحيد الحق لا يقتضى شعورك بما سوى الموحّد، ولكن النفس مجبولة على الدعوى. وهذا شرك خفى.
(2) سورة التوبة آية 123.(1/233)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
لا يعزب معلوم عن علمه، فلا تحتشم من نازلة بك تسوءك، فعن قريب سيأتيك الغوث والإجابة، وعن قريب سيزول البلاء والمحنة، ويعجّل المدد والكفاية.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 30]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
ودّ أهل الطاعات أن لو استكثروا منها، وودّ أهل المخالفات أن لو كبحوا لجامهم عن الركض فى ميادينهم، قال قائلهم:
ولو اننى أعطيت من دهرى المني ... وما كلّ من يعطى المنى بمسدّد
لقلت لأيام مضين: ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين ألا ابعدي
قوله جل ذكره: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
الإشارة من قوله: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» للعارفين، ومن قوله «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» للمستأنفين، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.
ويقال لمّا قال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» اقتضى أسماع هذا الخطاب تحويلهم «1» فقال مقرونا به «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» لتحقيق تأميلهم، وكذلك سنّته يطمعهم «2» فى عين ما يروعهم.
ويقال أفناهم بقوله «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» ثم أحياهم وأبقاهم بقوله «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ»
__________
(1) ربما يقصد القشيري تحويلهم من الخوف إلى الرجاء، فبعد أن خوفهم نفسه أطمعهم فى رافته.
(2) وردت (يطعمهم) وواضح أنها خطا فى النسخ فأصلحناه بما يلائم السياق.(1/234)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 31]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
«تُحِبُّونَ اللَّهَ» فرق، و «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» جمع.
«تُحِبُّونَ اللَّهَ» مشوب بالعلة، و «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» بلا علّة، بل هو حقيقة الوصلة.
ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضى منه تلك الحالة إيثاره- سبحانه- على كل شىء وعلى كل أحد.
وشرط المحبة ألا يكون فيها حظّ بحال، فمن لم يفن عن حظوظه بالكلّية فليس له من المحبة شظيّة.
ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانه إليه ولطفه به، وهى إرادة فضل مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله.
ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك فى محبوبك، قال قائلهم.
وما الحب حتى تنزف العين بالبكا ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وهذا فرق «1» بين الحبيب والخليل قال الخليل: «فمن تبعني فإنه منى» .
وقال الحبيب: «فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» .
فإن كان متّبع الخليل «منه» إفضالا فإن متابع الحبيب محبوب الحقّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالا.
ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحد نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ويقال فى هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة، أو التجرد
__________
(1) وردت (فراق) وهى خطأ من الناسخ، إذ المراد التفرقة بين موقف المصطفى (ص) وإبراهيم عليه السّلام.(1/235)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
عن آفة لأنه قال يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، بيّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبّ الله ويحبّه الله.
ويقال قال أولا: «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» ثم قال: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» والواو تقتضى الترتيب ليعلم أنّ المحبة سابقة على الغفران أولا يحبهم ويحبونه (وبعده) يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجب الغفران لأن العفو يوجب المحبة.
والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حبب الأسنان «1» وهو صفاؤها.
والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب فى السر.
ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب.
والحبّ حرفان حاء وباء، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البدن، فالمحبّ لا يدّخر عن محبوبه لا قلبه ولا بدنه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 32]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
أمرهم بالطاعة ثم قال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا» أي قصّروا فى الطاعة بأن خالفوا، ثم قال: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» لم يقل العاصين بل قال الكافرين، ودليل الخطاب أنه يحب المؤمنين وإن كانوا عصاة «2» قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
اتفق آدم وذريته فى الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قبله، لا بالنّسب ولا بالسبب.
__________
(1) وردت (الإنسان) وهى خطأ من الناسخ (أنظر الرسالة ص 158) .
(2) فالمؤمن العاصي منزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر- فى نظر القشيري المتكلم. [.....](1/236)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
المحرّر الذي ليس فى رقّ شىء من المخلوقات، حرّره الحق سبحانه فى سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجوه والأحوال. فلمّا نذرت أمّ مريم ذلك، ووضعتها أنثى خجلت، فلمّا رأتها قالت «رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» وهى لا تصلح أن تكون محررا فقال تعالى:
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ولعمرى ليس الذكر كالأنثى في الظاهر، ولكن إذا تقبّلها الحقّ- سبحانه وتعالى- طلع عنها كل أعجوبة.
ولما قالت «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» قالت «فَتَقَبَّلْ مِنِّي» فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عالم وهلك بسببها عالم، ووقعت الفتنة لأجلهما فى عالم.
قالت: «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» استجارت بالله من أن يكون للشيطان فى حديثها شىء بما هو الأسهل، لتمام ما هم به من أحكام القلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 37]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
حيث بلّغّها فوق ما تمنّت أمها، ويقال تقبّلها بقبول حس حتى أفردها لطاعته، وتولّاها بما تولّى به أولياءه، حتى أفضى جميع من فى عصرها العجب من حسن توليه أمرها، وإن كانت بنتا.(1/237)
ويقال القبول الحسن حسن تربيته لها مع علمه- سبحانه- بأنه يقال فيه بسببها ما يقال، فلم يبال بقبح مقال الأعداء.
أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمنى اللّوم
وكما قيل:
ليقل من شاء ما ... شاء فإنى لا أبالى
ويقال القبول الحسن أن ربّاها على نعت العصمة حتى كانت تقول: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» .
«وأنبتها نباتا حسنا» حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه- سبحانه- فى جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السّلام، وهذا هو النبات الحسن، وكفلها زكريا. ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل كافلها والقيّم بأمرها وحفظها نبيا من الأنبياء مثل زكريا عليه السّلام، وقد أوحى الله إلى داود عليه السّلام: إن رأيت لى طالبا فكن له خادما.
قوله جل ذكره: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
من أمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا فى المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبّد فيه وهناك يوجد المحراب- فذلك عبد عزيز.
ويقال من القبول الحسن أنه لم يطرح أمرها كلّه وشغلها على زكريا عليه السّلام فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العاملون أن الله- سبحانه- لا يلقى شغل أوليائه على غير «1» ، ومن خدم وليا من أوليائه كان هو فى رفق الولي لا إنه
__________
(1) وردت على (عين) وهى خطأ فى النسخ.(1/238)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
تكون عليه مشقة لأجل الأولياء. وفى هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه فى رفق الفقراء.
ثم كان زكريا عليه السّلام يقول: أنّى لك هذا؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شغلها، فكان يسأل ويقول: أنّى لك هذا؟ ومن أتاك به؟
وكانت مريم تقول: هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان:
إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به. قوله «كلما دخل عليها زكريا المحراب» فلفظة كلّما للتكرار «1» وفى هذا إشارة: وهو أن زكريا عليه السّلام لم يذر تعهّدها- وإن وجد عندها رزقا- بل كل يوم وكل وقت كان يتفقد حالها لأن كرامات الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعا فيجوز أن يظهر الله ذلك عليهم دائما، ويجوز ألا يظهر، فما كان زكريا عليه السّلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدّد السؤال عنها بقوله: «يا مريم أنّى لك هذا؟» لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله سبحانه «2» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» إيضاح عن عين التوحيد، وأن رزقه للعباد، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته، دون أن يكون معلّلا بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 38]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
أي لما رأى كرامة الله سبحانه معها ازداد يقينا على يقين، ورجاء على رجاء فسأل الولد على كبر سنّه، وإجابته إلى ذلك كانت نقضا للعادة.
__________
(1) أي لتكرار زيارة زكريا لها مرة بعد مرة.
(2) هنا إشارة دقيقة تتصل بمذهب القشيري- الذي يخالف المعتزلة- أنه لا وجوب على الله فى إثابة المطيع، لأن طاعة المطيع ليست زيّنا لله، ومعصيته ليست شيئا لله، وإنما المعول عليه فضل الله وهذا لا علة له، ولا وجوب على الله فيه.(1/239)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
ويقال إن زكريا عليه السّلام سأل الولد ليكون عونا له على الطاعة، ووارثا من نسله فى النبوة، ليكون قائما بحقّ الله، فلذلك استحق الإجابة فإن السؤال إذا كان لحقّ الحقّ- لا لحظّ النّفس- لا يكون له الرد «1» .
وكان زكريا عليه السّلام يرى الفاكهة الصيفية عند مريم فى الشتاء، وفاكهة الشتاء عندها فى الصيف، فسأل الولد فى حال الكبر ليكون آية ومعجزة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 39]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
لما سأل السؤال، ولازم الباب أتته الإجابة.
وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة.
ويقال حكم الله- سبحانه- أنه إنما يقبل بالإجابة على من هو معانق لخدمته، فأمّا من أعرض عن الطاعة ألقاه فى ذلّ الوحشة.
قوله جل ذكره: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
قيل سمّاه يحيى لحياة قلبه بالله، ولسان التفسير أنه حيى به عقر أمه.
ويقال إنه سبب حياة من آمن به بقلبه.
قوله: مصدقا بكلمة من الله: أن تصديقه بكلمة «الله» فيما تعبده به أو هو مكوّن بكلمة الله.
وقوله «وَسَيِّداً» : السيّد من ليس فى رق مخلوق، تحرّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال السيد من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السّلام.
__________
(1) الرد هنا معناها الرفض.(1/240)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقاما، ولا شاهد لنفسه قدرا. ولما أخلص فى تواضعه لله بكل وجه رقّاه على الجملة، وجعله سيدا للجميع.
وقوله «وَحَصُوراً» أي معتقا من الشهوات، مكفيا أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر. ويقال متوقيا عن المطالبات، مانعا نفسه عن ذلك تعززا وتقربا، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فضل لحظّ.
«وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» أي مستحقا لبلوغ رتبتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 40]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)
قيل كان بين سؤاله وبين الإجابة مدة طويلة ولذلك قال: أنّى يكون لى غلام؟
ويحتمل أنه قال: بأى استحقاق منى تكون لى هذه الإجابة لولا فضلك؟
ويحتمل أنه قال أنّى يكون هذا: أعلى وجه التبني أم على وجه التناسل؟
ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت فى السن أو من جهة التّسرّى بمملوكة؟ أم من هذه؟
فقيل له: لا بل من هذه فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معا، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 41]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لشك له فى أصل الإجابة.
وجعل آية ولايته «1» فى إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح، أي لا تمتنع عن خطابى فإنى لا أمنع أوليائى من مناجاتى.
__________
(1) وردت (دلالته) وقد تكون مقبولة فى المعنى أيضا.(1/241)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
قوله جل ذكره: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً.
بقلبك ولسانك فى جميع أوقاتك.
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.
فى الصلاة الدائبة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 42]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
يجوز أن يكون هذا ابتداء خطاب من الملائكة على مريم من قبلهم رفعا بشأنها، ويجوز أن تكون قد سمعت كلامهم وشاهدتهم، ويجوز أنها لم تشاهدهم وأنهم هتفوا بها: إن الله اصطفاك بتفضيلك، وإفرادك من أشكالك وأندادك، وطهّرك من الفحشاء والمعاصي بجميل العصمة، وعن مباشرة الخلق «1» ، واصطفاك على نساء العالمين فى وقتك.
وفائدة تكرار «2» ذكر الاصطفاء: الأول اصطفاك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة والثاني اصطفاك بأن حملت بعيسى عليه السّلام من غير أب، ولم تشبهك امرأة- ولن تشبهك- إلى يوم القيامة، ولذلك قال «عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 43]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
لازمى بساط العبادة، وداومى على الطاعة، ولا تقصّرى فى استدامة الخدمة، فكما أفردك الحقّ بمقامك، كونى فى عبادته أو حد زمانك.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 44]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
__________
(1) ربما يقصد القشيري من ذلك أنه أبعدها عن أن يباشرها الزوج شأن نساء العالمين.
(2) لاحظ كيف يلتمس القشيري معنى متجددا لكلمة تتكرر بلفظها- لأنه لا يرى أن فى القرآن تكرارا إلا لداع متجدد.(1/242)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
أي هذه القصص نحن عرفنا كهاو (خا) طبناك بمعانيها، وإن قصصنا نحن عليك هذا- فعزيز خطابنا، وأعزّ وأتم من أن لو كنت مشاهدا لها.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 46]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
لم يبشرها بنصيب لها فى الدنيا ولا فى الآخرة من حيث الحظوظ، ولكن بشّرها بما أثبت فى ذلك من عظيم الآية، وكونه نبيا لله مؤيّدا بالمعجزة.
ويقال عرّفها أن من وقع فى تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يلقى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدة بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن- فى التحقيق- ليس كما ظنّه الأغبياء «1» الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير.
وقيل إنه (........) «2» عرّفها ذلك بالتدريج والتفصيل، فأخبرها أن ذلك الولد يعيش حتى يكلّم الناس صبيّا وكهلا، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه.
وقيل كهلا بعد نزوله من السماء.
ويقال ربط على قلبها بما عرّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة ساحتها ينطق الله عيسى عليه السّلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها.
__________
(1) وردت (الأغنياء) والمعنى والسياق يرفضاتها.
(2) مشتبهة.(1/243)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 47]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة فى رزقنا فكذلك ننقض العادة فى خلق ولد من غير مسيس بشر.
قوله جل ذكره: إِذا قَضى أَمْراً.
أي أراد إمضاء حكم.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.
ولما بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السّلام وهو ابن يوم حتى قال:
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 49]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وتلك آياته الظاهرة، ودلالاته القاهرة الباهرة من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عمّا عملوه مسرّين به، إلى غير ذلك من معجزاته. وأخبر أنه(1/244)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
مصدّق لما تقدمه من الشرائع، ومختص بشريعة تنسخ بعض ما تقدمه، وأقرهم على البعض- على ما نطق به تفصيل القرآن.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 53]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
الآية.
حين بلّغهم الرسالة واختلفوا- فمنهم من صدّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون- علم أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء، فقطع عنهم قلبه، وصدق إلى الله قصده، وقال لقومه: من أنصارى إلى الله ليساعدونى على التجرد لحقّه والخلوص فى قصده؟ فقال من انبسطت عليهم آثار العناية، واستخلصوا بآثار التخصيص: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد علينا بالصدق، وليس يشكل عليك «1» شىء مما نحن فيه.
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وأما الباقون فجدّوا فى الشقاق، وبالغوا فى العداوة، ودسّوا له المكائد، ومكروا ولكن أذاقهم الله وبال مكرهم، فتوهموا أنهم صلبوا عيسى عليه السّلام وقتلوه، وذلك جهل منهم، ولبس عليهم. فالله- سبحانه- رفع عيسى عليه السّلام نبيّه ووليّه، وحقّ الطرد واللّعن على أعدائه، وهذا مكره بهم:
[سورة آل عمران (3) : آية 55]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قوله جل ذكره: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ.
الإشارة «2» فيه إنى متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك من نعوت البشرية، ومطهرك من إرادتك بالكلية، حتى تكون مصرّفا بنا لنا، ولا يكون عليك من
__________
(1) نرجح أنها فى الأصل: «يشكل (علينا) شىء مما نحن فيه» ، لأن هذا الترجيح يقوى المعنى، إذ يفصح عن مدى صحة إيمانهم، أما إذا كانت (عليك) فيكون المعنى أن أنصاره طمأنوه عن أنفسهم، وطلبوا إليه ألا يستشكل (عليه) أمر من أمورهم، بدليل ما أفصحوا عنه فى الآية التالية.
(2) تخدم هذه الإشارة فى إبراز وتدعيم واحدة من أخطر قضايا الفكر الديني.(1/245)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
اختيارك شىء، ويكون إسبال التولي عليك قائما عليك. وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة- جلّت.
ويقال طهّر قلبه عن مطالعة الأغيار، ومشاهدة الأمثال والآثار، فى جميع الأحوال والأطوار.
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
بالنصرة والقهر والحجة.
ومتبعوه من لم يبدّل دينه ومن هو على عقيدته فى التوحيد- وهم المؤمنون، فهم على الحقّ، إلى يوم القيامة لهم النصرة، ثم إن الله سبحانه يحكم- يوم القيامة- بينه وبين أعدائه. فأمّا الكفار ففى الجحيم وأمّا المؤمنون ففى النعيم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 58]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
ذلك نتلوه عليك يا محمد، نعرفك معانيه بما نوحى إليك، لا بتكلفك ما تصل إلى علمه، أو بتعلّمك من الأمثال، أو استنباطك ما تنزع من الاستدلال.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 59]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الآية خصّهما «1» بتطهير الروح عن التناسخ فى الأصلاب وأفرد آدم بصفة البدء وعيسى عليه السّلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز، وهما وإن كانا كبيرى الشأن فنقص الحدثان والمخلوقية لازم لهما:
ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 60]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
الآية
__________
(1) وردت (خصها) والصحيح خصهما لعودة الفعل على آدم وعيسى عليهما السّلام.(1/246)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
الحق من ربك يا محمد، فلا تشكّنّ فى أنه- سبحانه- لا يماثله فى الإيجاد أحد، ولا على إثبات بينه لمخلوق قدرة. والموجودات التي (.....) «1» وجودها عن كتم العدم- من الله مبدؤها وإليه عودها.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 61]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)
الآية يعنى بعد ما ظهرت على صدق ما يقال لك، وتحقّقت بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثق بأن لك القهر والنصرة، وأنّا توليناك، وفى كنف قربنا آويناك، ولو أنهم رغبوا فى هذه المباهلة لأحرقت الأودية عليهم نيرانا مؤججة، ولكن أخّر الله- سبحانه- ذلك عنهم لعلمه بمن فى أصلابهم من المؤمنين «2» .
والإشارة فى هذه الآية لمن نزلت حالته عن أحوال الصديقين، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار، ولا عنهم آثار.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
لا يتسلط على شواهد التوحيد غبار شبهة، ولا يدرك سر حكمه وهم «3» مخلوق، ولا يدانيه معلوم يحصره الوجود، أو موهوم يصوره التقدير «4» .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ فإن تولوا- يا محمد- فإنه لا ثبات عند شعاع أنوارك لشبهة مبطل.
«فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» إمّا يجتاحهم «5» ، أو يحلم «6» حتى إذا استمكنت ظنونهم يأخذهم بغتة وهم لا ينصرون.
__________
(1) مشتبهة.
(2) هذا تعليل ممتع لإمهال المخالفين. [.....]
(3) وردت (وهو) وهى خطأ من الناسخ، ونظن أن الأصل (وهم) وهى مناسبة للسياق.
(4) للقشيرى عبارة فى نفس الموضوع وردت فى مستهل رسالته: «وكل ما تصوره الأوهام فالله بخلاف ذلك» .
(5) وردت (يحتاجهم) وهى خطأ من الناسخ.
(6) وردت (ويحكم) والملائم للمعنى (أو يحلم) من الحلم، ويكون المعنى على هذا الأساس أنه إما أن يعجل بانتقامه فيجتاحهم أو يمهلهم بحلمه ثم يبغتهم.(1/247)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
الآية هى كلمة التوحيد وإفراد الحق سبحانه فى إنشاء الأشياء بالشهود.
وقوله: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ» : لا تطالع بسرّك مخلوقا. وكما لا يكون غيره معبودك فينبغى ألا يكون غيره مقصودك ولا مشهودك، وهذا هو اتّقاء الشرك، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم.
«وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً» ويظهر صدق هذا بترك المدح والذم لهم.
ونفى الشكوى والشك عنهم، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم قال صلّى الله عليه وسلّم «أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد» .
ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل «1»
فإنّ الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأمّا أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد، فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب، لفراغهم بقلوبهم من المعاني «2» ، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط.
والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 65]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65)
... الآية.
ضرب على خليله- صلوات الله- نقاب الضنّة وحجاب الغيرة، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادّعاء الكل فيه، وحكم بتعارض شبهاتهم، وكيف يكون إبراهيم- عليه السّلام- على دين من أتى بعده؟! إن هذا تناقض من الظن.
ثم قال:
[سورة آل عمران (3) : آية 66]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
__________
(1) رواه الشيخان عن أبى هريرة.
(2) المقصود من (المعاني) هنا كل ما تميل إليه النفس، والنفس محل المعلولات.(1/248)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
يعنى ما كان فى كتابكم له بيان، ويصح أن يكون لكم عليه برهان، فخصّهم فى ذلك إمّا بحق وإما بباطل، فالذى ليس لكم البتة عليه دليل ولا لكم إلى معرفته سبيل فكيف تصديتم للحكم فيه، وادّعاء الإحاطة به؟! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 67]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
الحنيف المستقيم على الحق، والأحنف هو المستقيم فى حلقة الرّجل، ويسمى مائل القدم بذلك على التفاؤل «1» . وإبراهيم عليه السّلام كان حنيفا لا مائلا عن الحق، ولا زائغا عن الشرع، ولا معرّجا على شىء فيه نصيب للنفس، فقد سلّم ماله ونفسه وولده، وما كان له به جملة- إلى حكم الله وانتظار أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 68]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر، بقي أهل الحقّ فى كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى، فكانوا حزبا واحدا، فبعضهم أولى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق، ومن دان بدينه- كمثل رسولنا صلّى الله عليه وسلّم وأمته- على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السّلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
«وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» لأنهم تولّوا دينه، ووافقوا توحيده، وولاية الله إنما تكون بالعون والنصرة والتخصيص والقربة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
من حلّت به فتنة، وأصابته محنة، واستهوته غواية- رضى لجميع الناس ما حلّ به،
__________
(1) فكلمة حنيف من الأضداد مستقيم ومائل.(1/249)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يعود إليهم وبال فعلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 70]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
قبل «1» بعثه- صلّى الله عليه وسلّم- على صحة نبوته «2» ، فما الذي يحملكم على غيكم حتى جحدتم ما علمتم؟
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 71]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
تكتمون الحق فى شأن محمد عليه السّلام وأنتم تعلمون أنه النبي الصادق، وهل هذا إلا حكم الخذلان وقضية الحرمان، ثم أخبر أنّ منهم من ينافق فى حالته، فيريد أن يدفع عنه أذى المسلمين، ولا يخالف إخوانه من الكافرين، فتواصوا فيما بينهم بموافقة الرسول عليه السّلام والمسلمين جهرا، والخلوص فى عقائدهم الفاسدة بعضهم مع بعض سرّا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 73]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
فبين الله سبحانه أن نفاقهم كشف للمسلمين، وأن ذلك لا ينفعهم أمّا فى الدنيا فلإطلاع الله نبيّه عليه السّلام والمؤمنين- عليه، وأمّا فى الآخرة فلفقد إخلاصهم فيه.
قوله جل ذكره: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ الآية.
__________
(1) فى ص (قيل) وهى خطأ في النسخ، ويكون المعنى أنتم- يا أهل الكتاب- تشهدون قبل بعثه على صحة نبوته ...
(2) فى ص (نبوية) وهى خطأ فى النسخ.(1/250)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
يحتمل أن يكون هذا ابتداء أمر من الله سبحانه للمسلمين، والإشارة فيه ألا تعاشروا الأضداد، ولا تفشوا أسراركم للأجانب.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.
فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 74]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
يختص من يشاء بفنون إنعامه، فالرحمة على هذا سبب لتخصيص النعمة لمن أراده. ولا بدّ من إضمار فيحتمل أن يختص بالرحمة من يشاء فلا تجرى الرحمة مجرى السبب فالرحمة على هذا التأويل تكون بمعنى النبوة وتكون بمعنى الولاية.
وبمعنى العصمة وجميع أقسام الخيرات التي يختصّ- بشىء منها- عبدا من عباده، فيدخل تحت قوله: يختص برحمته، أي بنعمته.
فقوم اختصهم بنعمة الأخلاق وقوم اختصهم بنعمة الأرزاق، وقوم اختصهم بنعمة العبادة وآخرين بنعمة الإرادة، وآخرين بتوفيق الظواهر وآخرين بعطاء الأبشار، وآخرين بلقاء الأسرار، قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .
ويقال لمّا سمعوا قوله: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» ، علموا أن الوسائل ليست بهادية «1» ، وإنما الأمر بالابتداء والمشيئة.
ويقال يختص برحمته من يشاء بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ويلقيه إليه من فنون التعريفات.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 75]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
... الآية
__________
(1) وصدق الرسول الكريم حين قال: «إنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدنى الله برحمته» رواه الشيخان عن عائشة(1/251)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
أخبر أنهم- مع ضلالتهم وكفرهم- متفاوتون فى أخلاقهم، فكلّهم خونة فى أمانة الدّين، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك فى إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب إذ الكفار مطالبون بتفصيل الشرائع، فإذا كانوا فى كفرهم أقلّ ذنبا كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلّ عذابا، وإن كانت عقوبتهم أيضا مؤبّدة.
ثم بيّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا:
قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.
فلا تجرى عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى.
قوله جلّ ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
الذين آثروا هواهم على عقباهم، وقدّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم فى الآخرة فللاستماع بما اختاروا من العاجل خسروا فى الدارين.
بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظّ، جمع عليهم فنون المحن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم: لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يخلّدهم فى العقوبة الأبدية.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)(1/252)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
الإشارة من هذه الآية إلى المبطلين فى الدعاوى فى هذه الطريقة.
يزيّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خبر فى قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيسا على الأغبياء والعوام وأهل البداية يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم.
قال تعالى فى صفة هؤلاء «لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ» ، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يروّجون قالتهم على المستضعفين، فأمّا أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة.
قال الله تعالى «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس فى هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خربة، وأسرار محجوبة، نعوذ بالله من استحقاق المقت! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 79]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
أي ليس من صفة من اخترناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه، أو يقول بإثبات نفسه وحظّه، لأن اختياره- سبحانه- إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عمّا لا يجوز، فتجويز ذلك فى وصفهم مناف لحالهم، وإنما دعاء الرسل والأولياء- للخلق- إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله تعالى: «وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين، والرّبانى منسوب إلى الرب كما يقال فلان دقيانى ولحيانى ... وبابه.
وهم العلماء بالله الحلماء فى الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرقون فى حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله محو عمّا سوى الله.(1/253)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
ويقال الرباني من ارتفع عنه ظلّ نفسه، وعاش فى كنف ظلّه- سبحانه.
ويقال الربّاني الذي لا يثبت غير ربّه موحّدا، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو من غيره.
ويقال الربّاني من هو محق فى وجوده- سبحانه- ومحو عن شهوده، فالقائم عنه غيره، والمجرى لما عليه سواه.
ويقال الرّبانى الذي لا تؤثّر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها.
ويقال الربّاني الذي لا تغيّره محنة ولا تضرّه نعمة- فهو على حالة واحدة فى اختلاف الطوارق.
ويقال الرّبانى الذي لا يتأثر بورود وارد عليه، فمن استنطقته رقة قلب، أو استماله هجوم أمر، أو تفاوتت عنده أخطار حادث- فليس بربانى.
ويقال إنّ الربّاني هو الذي لا يبالى بشىء من الحوادث بقلبه وسرّه، ومن كان لا يقصر فى شىء من الشرع بفعله.
«بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» من توالى إحسانى إليكم، وتضاعف نعمتى لديكم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 80]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
أي لا تنسبون إليهم ذرة من الإثبات فى الخير والشر.
ويقال يعرفكم حدّ البشرية وحقّ الربوبية.
ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة، وتحقير قدر الخلق- بالإضافة «1» إلى الربوبية. «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق؟
__________
(1) وتحقير قدر الخلق (بالإضافة إلى الربوبية) معناها (بالنسبة إلى) جلال الربوبية وعظمتها.(1/254)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
ويقال «أيأمركم بمطالعة الأشكال، ونسبة الحدثان إلى الأمثال، بعد أن لاحت فى أسراركم أنوار التوحيد، وطلعت فى قلوبكم شموس التفريد.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
الآية أخذ الله ميثاق محمد صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء عليهم السّلام، كما أخذ ميثاقهم فى الإقرار بربوبيته- سبحانه، وهذا غاية التشريف للرسول عليه السّلام، فقد قرن اسمه باسم نفسه، وأثبت قدوه كما أثبت قدر نفسه، فهو أوحد الكافة فى الرتبة، ثم سهّل سبيل الكافة فى معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الإشارة فيه: فمن حاد عن سنّته، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خبثت درجتهم، ووجب المقت عليهم لجحدهم، وسقوطهم عن تعلّق العناية بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 83]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
من لاحظه على غير الحقيقة، أو طالع سواه فى توهم الأهلية «1» كراء السراب ظنّه ماء فلمّا أتاه وجده هباء. ومغاليط الحسبانات مقطّعة مشكلة فمن حلّ بها نزل بواد قفر.
«وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 84]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
__________
(1) الأهلية معناها الاستحقاق، استحقاق كل تقديس، ولا نستبعد أنها فى الأصل الألوهية لأن السياق يسير متحدثا عن البشر الذين يقولون للناس كونوا عبادا لنا، وعن الملائكة والنبيين ووجوب عدم اتخاذهم أربابا.(1/255)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
آمنا بالله لا بنفوسنا أو حولنا أو قوتنا.
وآمنا بما أنزل علينا بالله، وأنّا لا نفرّق بين أحد منهم- بالله سبحانه- لا بحولنا واختيارنا، وجهدنا «1» واكتسابنا، ولولا أنه عرّفنا أنه من هو ما عرفنا وإلا فمتى علمنا ذلك؟! «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 85]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
من سلك غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلا زلّت قدمه فى وهدة «3» من المغاليط لا مدى لقعرها.
ويقال من توسّل إليه بشىء دون الاعتصام به فخسرانه أكثر من ربحه.
ويقال من لم يفن عن شهود الكل لم يصل إلى من به الكل.
ويقال من لم يمش تحت راية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم المعظّم فى قدره، المعلّى فى وصفه، لم يقبل منه شىء ولا ذرة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 86]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
__________
(1) وردت (وجحدتا) وهى خطأ من الناسخ.
(2) قارن ذلك بعبارة ذى النون المصري: عرفت ربى بربي ولولا ربى ما عرفت ربى. (الرسالة ص 156) . [.....]
(3) أخطأ الناسخ حين كتبها (وحدة) بالحاء.(1/256)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
من أبعده عن استحقاق الوصلة فى سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله فى وقته؟
ويقال: الذي أقصاه «1» حكم (الأول) «2» متى أدناه صدق العمل؟ والله غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 87 الى 89]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه فى ابتداء أمرهم، ابتداؤهم ردّ القسمة، ووسائطهم الصدّ عن الخدمة، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة.
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ خالدين فى تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة، ولم يكونوا فى شق السبق من تلك الجملة، وإن كانوا فى توهم الخلق من تلك الزمرة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
الإشارة منه: أن الذين رجعوا إلى أحوال أهل العادة بعد سلوكهم طريق الإرادة،
__________
(1) وردت (أقضاه) ونحن نرجح أن تكون (أقصاه) بالصاد حتى تتلاءم مع (أدناه) التي جاءت بعدها- فذلك أقرب إلى طبيعة أسلوب القشيري فى هذا السياق.
(2) هكذا كتبها الناسخ، ونحن نميل إلى أنها فى الأصل (الأزل) .
فالقشيرى يعتقد أن الأقسام سبقت فى الأزل وأن قيمة الإنسان مرتهنة بذلك.(1/257)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
وآثروا الدنيا ومطاوعة الهوى على طلب الحق سبحانه وتعالى، ثم أنكروا على أهل الطريقة، وازدادوا فى وحشة ظلماتهم- لن تقبل توبتهم، «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» عن طريق الحق فإنه لا يقبل الأمانة بعد ظهور الخيانة. وعقوبتهم أنهم على ممر الأيام لا يزدادون إلا نفرة قلب عن الطريقة، ولا يتحسرون على ما فاتهم من صفاء الحالة. ولو أنهم رجعوا عن إصرارهم لها لقبلت توبتهم، ولكن الحق سبحانه أجرى سنته مع أصحاب الفترة فى هذه الطريقة إذا رجعوا إلى أصول العادة ألا يتأسّفوا على ما مضى من أوقاتهم.
قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» وإن المرتدّ عن الإسلام لأشدّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلى، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكارا لها وأكثر إعراضا عن أهلها من الأجنبىّ عنها.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
الإشارة منه: لمن مات بعد فترته- وإن كانت له بداية حسنة- فلا يحشر فى الآخرة مع أهل هذه القصة، ولو تشفع له ألف عارف، بل من كمال المكر به أنه يلقى شبهه فى الآخرة على غيره حتى يتوهم معارفه من أهل المعرفة أنه هو- فلا يخطر ببال أحد أنه ينبغى أن يشفع له.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
لمّا كان وجود البرّ مطلوبا ذكر فيه «من» التي للتبعيض فقال: «مِمَّا تُحِبُّونَ» فمن أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض، ومن أراد البارّ فلينفق جميع ما يحبه. ومن أنفق محبوبه من الدنيا وجد مطلوبه من الحق تعالى، ومن كان مربوطا بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربّه.
ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء(1/258)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
والعوض، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحزن، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه، قال قائلهم:
ويهتز للمعروف فى طلب العلى ... لتذكر يوما- عند سلمى- شمائله
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 94]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
الأصل فى الأشياء ألا يشرع فيها بالتحليل والتحريم، فما لا يوجد فيه حدّ فذلك من الحق- سبحانه- توسعة ورفقة إلى أن يحصل فيه أمر وشرع فإنّ الله- سبحانه- وسّع أحكام التكليف على أهل النهاية «1» ، فسبيلهم الأخذ بما هو الأسهل لتمام ما هم به من أحكام القلوب، فإن الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأما أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب لفراغهم بقلوبهم من المعاني، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط.
والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله: «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ»
إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله- سبحانه- هواجسها، والله برئ عنها. وعزيز عبد يفرّق بين الخواطر والهواجس.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 95]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
ملّة إبراهيم الخروج إلى الله بالكلية، والتسليم لحكمه من غير أن تبقى بقية فإثبات ذرة فى الحسبان من الحدثان شرك- فى التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 96]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)
__________
(1) أهل النهاية هم العوام، وأهل البداية هم الخواص.(1/259)
البيت حجرة والعبد مدرة، فربط المدرة بالحجرة، فالمدر مع الحجر.
وتعزّز وتقدّس من لم يزل.
ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب! البيت أطلال وآثار وإنما هى رسوم وأحجار ولكن:
تلك آثارنا تدلّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ويقال البيت حجر، ولكن ليس كل حجر كالذى يجانسه من الحجر.
حجر ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج «1» ، لا بل لقلوب قوم مثلج مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.
وهم على أصناف: بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسر خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظى بكل تقريب وإيجاب، كما قيل:
إن الديار- وإن صمتت- فإنّ لها ... عهدا بأحبابنا إذ عندها نزلوا
بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته.
__________
(1) نفج الأرب أثاره والنافجة الربح الشديدة، فيكون معنى منفج شديد الإثارة.(1/260)
ويقال قال سبحانه: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» وأضافه إلى نفسه، وقال هاهنا: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» وفى هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع «1» .
وسميت (بكة) لازدحام الناس، فالكلّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون فى الطواف حواليه، ويبذلون المهج فى الطريق ليصلوا إليه.
والبيت لم يخاطب أحدا منذ بنى بمنية، ولم يستقبل أحدا بحظوة، ولا راسل أحدا بسطر فى رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر- هذا وصفه فى التعزز «2» فما ظنّك بمن البيت له. قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه: «الكبرياء ردائى والعظمة إزارى» .
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربّ البيت بالهوينى دون تحمّل المشقات ومفارقة الراحات؟! ويقال لا تعلّق قلبك بأول بيت وضع لك ولكن أفرد سرّك لأول حبيب آثرك.
ويقال شتّان بين عبد اعتكف عند أول بيت وضع له وبين عبد لازم حضرة أول عزيز كان له.
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بقدمهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بقدمهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم.
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه فى الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه فى السّر، قال قائلهم:
لست من جملة المحبين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافى إجالة السّر فيه ... وهو ركنى إذا أردت استلاما
فاللطائف تطوف بقلوب العارفين، والحقائق تعتكف فى قلوب الموحّدين، والكعبة مقصود العبد بالحج، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد.
__________
(1) ربما كان فى الأصل (...... الإشارة إلى عين الجمع، «وأول بيت وضع للناس» إشارة إلى الفرق) في الأول نسب البيت إلى نفسه، وفى الثاني أشار إلى وضعه للناس.
وسقطت هذه العبارة الأخيرة من الناسخ.
(2) وردت (التعذر) والسياق يتطلب (التعزز) .(1/261)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قوله جل ذكره: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فمن قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رشده.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 97]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
ولكن لا تدرك تلك الآيات بأبصار الرءوس ولكن ببصائر القلوب، ومقام إبراهيم- فى الظاهر- ما تأثر بقدمه، وفى الإشارة: ما وقف الخليل عليه السّلام بهممه.
ويقال إن شرف مقام إبراهيم لأنه أثر الخليل، ولأثر الخليل خطر عظيم.
قوله جل ذكره: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
يقال من دخل مقام إبراهيم كان آمنا، ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلما أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمنا فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإذا لم تكن للعبد إرادة واختيار فأىّ مساغ للخوف فى وصفه؟
ويقال إن الكناية «1» بقوله (دخله) راجعة إلى البيت، فمن دخل بيته- على الحقيقة- كان آمنا، وذلك بأن يكون دخوله على وصف الأدب، ولا محالة أدب دخول البيت تسليم الأمور إلى رب البيت، فإنّ من لم يكن صاحب تسليم فهو معارض للتقدير. ودخول البيت إنما الأدب فيه أن يكون دخولا على التسليم دون المعارضة والنزاع فيؤول إلى المعنى المتقدم.
وإن جعلت الإشارة من البيت إلى القلب فمن دخل قلبه سلطان الحقيقة أمن من نوازع البشرية وهواجس غاغة النفس، فإنّ من التجأ إلى ظل الملك لم يمتط إليه محذورا.
ويقال لا يكون دخول البيت- على الحقيقة- إلا بخروجك عنك، فإذا خرجت عنك صحّ دخولك فى البيت، وإذا خرجت عنك أمنت.
ويقال دخول بيته لا يصحّ مع تعريجك فى أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد
__________
(1) يقصد بها ضمير الغائب فى (دخله) .(1/262)
لا يكون فى حالة واحدة فى مكانين فمن دخل بيت ربّه فبالحرىّ أن يخرج عن معاهد «1» نفسه.
قوله جل ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
شرط الغنىّ ألا يدّخر عن البيت شيئا من ماله، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نفسا من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون فمستطيع بنفسه وماله وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزّمن المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيت فرض على أصحاب الأموال، وربّ البيت فرض على الفقراء فرض حتم فقد ينسدّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدّ الطريق إلى رب البيت، ولا يمنع الفقير عن ربّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى من تعظّمه: فقاصد بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فرضهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند «2» شهود ربهم، فأمّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جل ذكره: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء فى كدّ التأويل، ثم قال: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» وهذا زيادة تهديد تدل على زيادة تخصيص.
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن
__________
(1) أي مألوفات نفسه.
(2) وردت (عن) والصحيح (عند) .(1/263)
يفسخ كلّ عقد يصدّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طهّر تطهّر عن كل دنس من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوس له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبّي بلسانه وجب ألا تبقى شعرة من بدنه إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسرّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقّه على نفسه، ويتعرّف إلى الله تعالى بتبرّيه عن منّته «1» وحوله، والحقّ سبحانه يتعرّف إليه بمنّته وطوله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحّ ذكره لربّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ منّي نفى عن قلبه كل طلب ومنى، وكلّ شهوة وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة فى الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتقرّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحرم عزم على التباعد عن كل محرّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طرفه على البيت شهد بقلبه ربّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سرّه بالجولان فى الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حلق قطع كلّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربّه استأنف إحراما جديدا بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نسكه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنّ الله غنى عن العالمين وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحاج أشعث أغبر» ، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.
__________
(1) ضبطناها هكذا لأن القشيري يميز بين (المنّة) للحق و (المنّة) للعبد.(1/264)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 98]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98)
الخطاب بهذه الآية لتأكيد الحجة عليهم، ومن حيث الحقيقة والقهر يسدّ الحجة عليهم، فهم مدعوون- شرعا وأمرا، مطرودون- حكما وقهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
كيف يصد غيره من هو مصدود فى نفسه؟ إنّ فى هذا لسرّا للربوبية.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 100]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)
الوحشة ليست بلازمة لأصحابها، بل هى متعدية إلى كل من يحوّم حول أهلها، فمن أطاع عدوّ الله إلى شؤم صحبة (الأعداء) «1» ألقاه فى وهدته.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 101]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
لا ينبغى لمن أشرقت فى قلبه شموس العرفان أن يوقع الكفر عليه ظلّه، فإنه إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا.
وقوله: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ ... » الآية إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأمّا
__________
(1) مكتوبة (إلا) وسقطت بقية الكلمة فأكملناها (الأعداء) وربما (الأجانب) أو ما فى معناهما طبقا لما نعرفه عن اتجاه القشيري فى مواضع مماثلة.(1/265)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه فى البداية توجب اعتصامك فى النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.
وحقيقة الاعتصام صدق اللّجوء إليه، ودوام الفرار إليه، واستصحاب الاستغاثة إليه.
ومن كشف عن سرّه غطاء التفرقة تحقق بأنه لا لغير الله ذرة أو منه سينة، فهذا الإنسان يعتصم به ممن يعتصم به قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله:
«أعوذ بك منك» .
ومن اعتصم بنفسه دون أن يكون محوا عن حوله وقوته فى اعتصامه- فالشرك وطنه وليس يشعر.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
حقّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص.
هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين: على وجه الحتم وعلى وجه الندب وكذلك القول فى النهى على قسمين: تحريم وتنزيه، فيدخل فى جملة هذا أن يكون حق تقاته أولا اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقى من كل علّة، فإذا تقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتّقيت حقّ تقواك.
وحق التقوى رفض العصيان ونفى النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهية، والانسلاخ عن أحكام البشرية، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جرم وظلم، واستشعار الآنفة عن التوسل إليه بشىء من طاعتك دون صرف كرمه، والتحقق بأنه لا يقبل أحدا بعلّة ولا يردّ أحدا بعلة.
قوله جل ذكره: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
لا تصادفنّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)(1/266)
الاعتصام بحبله- سبحانه- التمسك بآثار الواسطة- العزيز صلوات الله عليه- وذلك بالتحقق والتعلّق بالكتاب والسّنّة.
ويصح أن يقال: الخواص يقال لهم «اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» ، وخاص الخاص قيل لهم «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» ، ولمن رجع عند سوانحه إلى اختياره واحتياله، أو فكرته واستدلاله، أو معارفه وأشكاله، والتجأ إلى ظل تدبيره، واستضاء بنور عقله وتفكيره «1» - فمرفوع عنه ظل العناية، وموكول إلى سوء حاله.
وقوله: «وَلا تَفَرَّقُوا» : التفرقة أشد العقوبات وهى قرينة الشرك.
وقوله: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً» . وكانوا أعداء حين كانوا قائمين بحظوظهم، معرّجين على ضيق البشرية، متزاحمين بمقتضى شحّ النفوس.
«فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» : بالخلاص من أسر المكونات، ودفع الأخطار عن أسرارهم، فصار مقصودهم جميعا واحدا فلو ألّف ألف شخص فى طلب واحد- فهم فى الحقيقة واحد.
«فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» نعمته التي هى عصمته إياكم، إخوانا متّفقى القصد والهمة، متفانين عن حظوظ النّفس وخفايا البخل والشحّ.
«وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» : بكونكم تحت أسر مناكم، ورباط حظوظكم وهواكم.
__________
(1) واضح أن القشيري يرى أن الالتجاء إلى العقل والفكر كوسيلة للوصول يعد قاطعا من القواطع، لأن للعقل آفات- ذكرها القشيري فى مواضع مختلفة- تجعله غير جدير بأن يعتمد عليه العبد فى معرفة الحقائق العليا إن مهمة العقل عند هذا الباحث لا تتجاوز منطقة البداية- عند تصحيح الإيمان.(1/267)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
«فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» : بنور الرضاء، والخمود عند جريان القضاء، وتلك حقا هى المكانة العظمى والدرجة الكبرى، ويدخل فى هذه الجملة ترك السكون إلى ما منك من المناقب والتّقى، ولعقل والحجا، والتحصيل والنّهى، والفرار إلى الله- عزّ وجلّ- عن كل غير وسوى.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
هذه إشارة إلى أقوام قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة، وقفوا جملتهم على دلالات أمره، وقصروا أنفاسهم واستغرقوا أعمارهم على تحصيل رضاه، عملوا لله، ونصحوا الدين لله، ودعوا خلق الله إلى الله، فربحت تجارتهم، وما خسرت صفقتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 105]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
هؤلاء أقوام أظهر عليهم فى الابتداء رقوم الطلب، ثم وسمهم «1» فى الانتهاء بكىّ الفرقة، فباتوا فى شق الأحباب، وأصبحوا فى زمرة الأجانب «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) .
__________
(1) الرقم نعت يجرى فى الابتداء والوسم نعت يجرى فى الأبد بما جرى فى الأزل. [.....]
(2) تأمل الدقة فى استعمال (باتوا) وكيف تعبر عن البداية ثم (أصبحوا) لتعبر عن النهاية.(1/268)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
أرباب الدّعاوى تسودّ وجوههم، وأصحاب المعاني تبيض وجوههم، وأهل الكشوفات غدا تبيضّ بالإشراق وجوههم، وأصحاب الحجاب تسودّ بالحجبة وجوههم، فتعلوها غبرة، وترهقها قترة.
ويقال من ابيض- اليوم- قلبه ابيضّ- غدا- وجهه، ومن كان بالضد فحاله العكس.
ويقال من أعرض عن الخلق- عند سوانحه- ابيضّ وجهه بروح التفويض، ومن علّق بالأغيار قلبه عند الحوائج اسودّ محيّاه بغبار الطمع فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففى أنس وروح، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففى محن ونوح.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
نديم مخاطبتنا معك على دوام الأوقات فى كل قليل وكثير، عمارة لسبيل الوداد:
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ وأنّى يجوز الظلم فى وصفه تقديرا ووجودا- والخلق كلّهم خلقه- والحكم عليهم حكمه؟
ولله ما فى السموات وما فى الأرض ملكا، وإلى الله ترجع الأمور حكما.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 110]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
لمّا كان المصطفى صلوات الله عليه أشرف الأنبياء كانت أمّته- عليه السّلام- خير الأمم. ولمّا كانوا خير الأمم كانوا أشرف الأمم، ولمّا كانوا أشرف الأمم كانوا أشوق الأمم، فلمّا كانوا أشوق الأمم كانت أعمارهم أقصر الأعمار، وخلقهم آخر الخلائق لئلا يطول مكثهم تحت الأرض. وما حصلت خيريتهم بكثرة صلواتهم(1/269)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وعباداتهم، ولكن بزيادة إقبالهم، وتخصيصه إياهم. ولقد طال وقوف المتقدمين بالباب ولكن لما خرج الإذن بالدخول تقدّم المتأخرون.
وكم باسطين إلى وصلنا ... أكفّهم لم ينالوا نصيبا
قوله جل ذكره: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المعروف خدمه الحق، والمنكر صحبة النفس.
المعروف إيثار حقّ الحق، والمنكر اختيار حظ النفس.
المعروف ما يزلفك إليه، والمنكر ما يحجبك عنه.
وشرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفا بالمعروف، وحقّ النّاهى عن المنكر أن يكون منصرفا عن المنكر.
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لو دخل الكافة تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزّ فى الدنيا والعقبى، ولكن بعدوا عن القبول فى سابق الاختيار فصار أكثرهم موسوما بالشّرك.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 111]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسلط على أوليائه إلا بمقدار ما يصدق إلى الله فرارهم، فإذا حق فرارهم أكرم لديه قرارهم، وإن استطالوا على الأولياء بموجب حسبانهم انعكس الحال عليهم بالصغار والهوان.
قال جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 112]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)(1/270)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
علم الهجران لا ينكتم، وسمة البعد لا تخفى، ودليل القطيعة لا يستتر فهم فى صغار الطرد، وذلّ الرد، يعتبر بهم أولوا الأبصار، ويغترّ بهم أضرابهم من الكفار الفجّار.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 114]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
كما غاير بين النور والظلام مغايرة تضاد فكذلك أثبت منافاة بين أحوال الأولياء وأحوال الأعداء، ومتى يستوى الضياء والظلمة، واليقين والتّهمة، والوصلة والفرقة، والبعاد والألفة، والمعتكف على البساط والمنصرف عن الباب، والمتصف بالولاء والمنحرف عن الوفاء؟ هيهات يلتقيان! فكيف يتفقان أو يستويان؟! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 115]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
لن يخيب عن بابه قاصد، ولم يخسر عليه (تاجر) «1» ، ولم يستوحش معه مصاحب، ولم يذلّ له طالب.
__________
(1) هكذا فى ص، وربما استوحاها القشيري من الآية (اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فيكون المعنى- والله أعلم- من آثر الله على كل شىء فقد ربحت تجارته وما خسر.(1/271)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 116]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
لا فى الحال لهم بدل ولا فى المآل عنهم خلف. فى عاجلهم خسروا، وفى آجلهم فى قطع وهجر، وبلاء وخسر، وعذاب ونكر:
تبدّلت وتبدلنا وا حسرة ... لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 117]
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
ما وجدوا ميراث ما بذلوا لغير الله إلا حسرات متتابعة، وما حصلوا من حسباناتهم إلا على محن مترادفة، وذلك جزاء من أعرض وتولّى قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
الركون إلى الضد- بعد تبين المشاق- إعانة على الحال بما لا يبلغه كيد العدو، فأشار الحقّ- سبحانه- على المسلمين بالتحرز عن الاعتراض، وإظهار البراءة عن كل غير، ودوام الخلوص للحق- سبحانه- بالقلب والسر. وأخبر أن مضادات القوم للرسول(1/272)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
صلّى الله عليه وسلّم أصلية غير طارئة عليهم، وكيف لا؟ وهو صلوات الله عليه محلّ الإقبال وهم محل الإعراض. ومتى يجتمع الليل والنهار؟! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
أنتم بقضية كرمكم تصفو- عن الكدورات- قلوبكم فتغلبكم الشفقة عليهم، وهم- لعتوّهم وخلفهم- يكيدون لكم ما استطاعوا، ولفرط وحشتهم لا تترشح منهم إلا قطرات غيظهم. ففرّغ- يا محمد- قلبك منهم.
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ دعهم يتفردوا بمقاساة ما نداخلهم من الغيظ، واستريحوا بقلوبكم عمّا يحلّ بهم، فإنّ الله أولى بعباده يوصل إلى من يشاء ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الإشارة من هذه الآية إلى المنصرفين عن طريق الإرادة، الراجعين إلى أحوال أهل العادة لا يعجبهم «1» أن يكون لمريد نفاذ، وإذا رأوا فترة لقاصد استراحوا إلى ذلك. وإنّ الله- بفضله ومنّته- يتمّ نوره على أهل عنايته، ويذر الظالمين الزائغين «2» عن سبيله فى عقوبة بعادهم، لا يبالى بما يستقبلهم.
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (لا يعجبكم) والسياق والمعنى يرفضانها.
(2) وردت (الذائقين) بالقاف وهى خطأ من الناسخ.(1/273)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 121]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
أقامه- صلّى الله عليه وسلّم- بتبوئه الأماكن للقتال، فانتدب لذلك بأمره ثم أظهر فى ذلك الباب مكنونات سرّه، فالمدار على قضائه وقدره، والاعتبار بإجرائه واختياره.
قوله جلّت قدرته:
[سورة آل عمران (3) : آية 122]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
يبرز الجميع فى صدار الاختيار كأنّ الأمر إليهم فى نفيهم وإثباتهم، وفعلهم وتركهم، وفى الحقيقة لا يتقلبون إلا بتصريف القبضة، وتقليب القدرة «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 123]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
تذكير ما سلف من الإنعام فتح لباب التملق فى اقتضاء أمثاله فى المستأنف «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 124 الى 125]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
كان تسكين الحقّ سبحانه لقلب المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- بلا واسطة من الله
__________
(1) خلاصة معنى هذه العبارة التي قد تبدو غامضة- أن التعبير القرآنى ظاهره نسبة الأفعال للانسان- وهذا من وجهة نظر الصوفي تعبير بالفرق، والحقيقة أن كل شىء مرجعه إلى الله حيث يكون التعبير عنه بالجمع، وقد تقدم معنى الجمع والفرق فى هامش آخر.
(2) المستأنف- المستقبل.(1/274)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
- سبحانه، والربط على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلّى الله عليه وسلّم- فلولا بقية بقيت عليهم ما ردّهم فى حديث النصرة إلى إنزال الملك، وأنّى بحديث الملك- والأمر كلّه بيد الملك؟!.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 126]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
أجرى الله- سبحانه- سنّته مع أوليائه أنه إذا ضعفت نيّاتهم، أو تناقصت «1» إرادتهم أو أشرفت «2» قلوبهم على بعض فترة- أراهم من الألطاف، وفنون الكرامات ما يقوّى به أسباب عرفانهم، وتتأكد به حقائق يقينهم.
فعلى هذه السّنّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال:
«وما النصر إلا من عند الله» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 129]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
إنّ الله لا يشمت بأوليائه عدوا فالمؤمن وإن أصابته نكبة، فعدوّه لا محالة يكبّه «3» الله فى الفتنة والعقوبة.
قوله جل ذكره: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
__________
(1) وردت (تناقضت) ولا يمنع أن تكون بالصاد حتى ينسجم النقص مع الضعف.
(2) وردت بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
(3) هكذا فى (ص) وهى صحيحة ولكننا لا نستبعد أن تكون فى الأصل (يكبته) حيث جاء هذا الفعل فى الآية الكريمة التي نحن بصددها.(1/275)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
الإله من له الأمر والنهى، فلمّا لم يكن له فى الإلهية نظير لم يكن له- (صلّى الله عليه وسلّم) «1» - من الأمر والنهى شىء.
ويقال جرّده- بما عرّفه وخاطبه- عن كلّ غير ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شىء، فإذا لم يجز أن يكون لسيّد الأولين والآخرين شىء من الأمر فمن نزلت رتبته عن منزلته فمتى يكون له شىء من الأمر؟
ويقال استأثر (بستر عباده فى حكمه «2» ) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادى وأعذّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك- يا محمد- لا تدرى سرى فيهم.
ويقال أقامه فى وقت مقاما فقال: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له فى وقت آخر: «ليس لك من الأمر شىء» ثم زاد فى البيان فقال: «ولله ما فى السموات وما فى الأرض» . فإذا كان الملك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه- فمن شاء عذّبه، ومن شاء قرّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 131]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131)
حرّم الربا على العباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخلق وإنما هو صفة الحق سبحانه.
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ: دليل الخطاب أنّ المؤمن لا يعذّب بها، وإن عذّب بها مدّة فلا يخلّد فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 132]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
__________
(1) أضفناها لتوضيح المعنى.
(2) ربما كانت فى الأصل هكذا (بسر حكمه فى عباده) لأنه بعد قليل يقول (لا تدرى سرى فيهم) أي أن المستأثر به هو السر، وكذلك كلمة (ستر عباده) مرفوضة فالأولى أنه يستر الحكم، أو العواقب كما جاء بعد قليل.(1/276)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قرن طاعة الرسول صلوات الله عليه بطاعة نفسه تشريفا لقدره، وتخفيفا على الأمة حيث ردّهم إلى صحبة شخص من أنفسهم، فإنّ الجنس إلى الجنس أسكن.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 133]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
معناه سارعوا إلى عمل يوجب لكم المغفرة، فتقسمت القلوب وتوهمت أن ذلك أمر شديد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» وإنما توجب المغفرة التوبة لأن العاصي هو الذي يحتاج إلى الغفران.
والناس فى المسارعة على أقسام: فالعابدون يسارعون بقدمهم فى الطاعات، والعارفون يسارعون بهممهم فى القربات، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرّع الحسرات. فمن سارع بقدمه وجد مثوبته، ومن سارع بهممه وجد قربته، ومن سارع بندمه وجد رحمته.
ولمّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول فى مقابلة العرض، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض، فقوم قالوا: المغفرة من صفات الذات وهى بمعنى الرحمة فعلى هذا فمغفرته حكمه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض.
ومن قال: مغفرته من صفات فعله قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية، إشارة إلى استغراقه جميع الذنوب.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 134]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
لا يدّخرون عن الله شيئا، ويؤثرونه على جميع الأشياء، ينفقون أبدانهم على الطاعات وفنون الأوراد والاجتهاد، وأموالهم فى إفشاء الخيرات وابتغاء القربات بوجوه الصدقات،(1/277)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
وقلوبهم فى الطلب ثم دوام المراعاة، وأرواحهم على صفاء المحبّات والوفاء على عموم الحالات، وينفقون أسرارهم على المشاهدات فى جميع الأوقات «1» ينتظرون إشارات المطالبات، متشمرين للبدار إلى دقيق المطالعات «2» قوله: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» : يتجاوزون عن الخلق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة، وأقوام يحملون على الخلق علما بأن ذلك بسبب جرمهم فيشهدونهم بعين التسلط، وآخرون يكظمون الغيظ تحققا بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافى الدرجات فى الذّلّ لأن نفوسهم ساقطة فانية، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار فى الإنشاء والإجراء فعلموا أنّ المنشئ الله فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه فلم يروا معه وجها غير التسليم لحكمه، فأكرمهم الحق سبحانه ببرد الرضاء، فقاموا له بشرط الموافقة.
قوله «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» فرضا «3» رأوه على أنفسهم لا فضلا منهم على الناس، قال قائلهم:
ربّ رام لى بأحجار الأذى ... لم أجد بدّا من العطف عليه
«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. هذا فى معاملة الحق، وأما فى معاملة الخلق فالإحسان أن تدع جميع حقّك بالكلية كم كان على من كان، وتقبل (....) «4» منه ولا تقلده فى ذلك منّة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
__________
(1) سقطت الواو فأثبتناها.
(2) أخطأ الناسخ إذ كتبها (المطالبات) أيضا، ونظرا لأن المطالعة مرتبطة بالكشف والكشف مرحلة متأخرة. فقد تركنا الأولى (المطالبات) وصوبنا الثانية (المطالعات) .
(3) وردت (قرضا) والصواب بالفاء فهكذا يرشدنا السياق، والشاهد الشعرى بعده. [.....]
(4) مشتبهة.(1/278)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السّلام «قل للظّلمة حتى لا يذكرونى فإنى أوجبت أن أذكر من ذكرنى، وذكرى للظّلمة باللعنة» . وقال لظلمة هذه الأمة:
«أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ» ثم قال فى آخر الآية: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» .
ويقال فاحشة كلّ أحد على حسب حاله ومقامه، وكذلك ظلمهم. وإن خطور المخالفات ببال الأكابر كفعلها من الأغيار، قال قائلهم:
أنت عينى وليس من حق عينى ... غضّ أجفانها على الأقذاء «1»
فليس الجرم على البساط كالذّنب على الباب.
ويقال فعلوا فاحشة بركونهم إلى أفعالهم، أو ظلموا أنفسهم بملاحظة أحوالهم، فاستغفروا لذنوبهم بالتبري عن حركاتهم وسكناتهم علما منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به، فخلصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لظلمات عند ظهور الحقائق، ومن طهّره الله بنور العناية صانه عن التورط فى المغاليط البشرية «2» .
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ بردّهم إلى شهود الربوبية، وما سبق لهم من الحسنى فى سابق القسمة.
«وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» مؤجلا من الفراديس، ومعجّلا فى روح المباحات وتمام الأنس.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
__________
(1) البيت لابن الرومي يعاتب صديقه أبا القاسم التوزى الشطرنجى.
(2) القشيري فى هذه الفقرة متأثر بتعاليم أهل الملامة النيسابورية الذين يعلنون حربا لا هوادة فيها على كل دعوى للنفس حتى ليحاولون ستر حياتهم الباطنية بفعل ما يوجب ملامة الناس، وكل ذلك فى سبيل كسر النفس وعدم استشعار العبد لأى فضل منه:(1/279)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
يعنى اعتبروا بمن سلف، وانظروا كيف فعلنا بمن والى وكيف انتقمنا ممن عادى، وقوله تعالى هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ: بيان لقوم من حيث أدلة العقول، ولآخرين من حيث مكاشفات القلوب، ولآخرين من حيث تجلى الحق فى الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 139]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
يعنى إذا قلتم بالله (ووصلتم «1» ) بالله فلا ينبغى أن تخافوا من غير الله، ولا تهنوا ولا تضعفوا فإن النصرة من عند الله، والغالب الله، وما سوى الله فليس منهم ذرة لا منهم سينة.
قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي ينبغى للمؤمن ألا تظله مهابة من غير الله.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 140]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
إن نالكم فينا مشقة فالذين تقدموكم لقوا مثل ما لقيتم، ومنوا بمثل ما به منيتم، فمن صبر منهم ظفر، ومن ضجر من حمل ما لقى خسر، والأيام نوب والحالات دول، ولا يخفى على الحق شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) .
__________
(1) لا نستبعد أنها (وصلتم) من صال يصول، ويدعم ذلك حرف الجر بعده، وكذلك السياق.(1/280)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
اختبارات الغيب سبك «1» للعبد فباختلاف الأطوار يخلصه من المشائب فيصير كالذهب الخالص لا خبث فيه، كذلك يصفو عن العلل فيتخلص لله.
«وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» فى أودية التفرقة. (وأما الزبد فيذهب جفاء) «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 142]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
من ظنّ أنه يصل إلى محل عظيم من دون مقاساة الشدائد ألقته أمانيه فى مهواة الهلاك، وإنّ من عرف قدر مطلوبه سهل عليه بذل مجهوده: (......) وهو بلذاته على من يظن يخلع العذار) «3» وقال قائلهم:
إذا شام الفتى برق المعاني ... فأهون فائت طيب الرقاد
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 143]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
طوارق التمني بعد الصبر على احتمال المشاق ولكن:
إذا انسكبت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى «4» ممن تباكى
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
__________
(1) وردت (شبك) ونرجح أنها (سبك) فالسياق يدعم ذلك.
(2) ترجح أن هذه الآية موضوعة هنا خطا وأن مكانها عقب (لا خبث فيه) ليتماسك المعنى.
(3) هكذا فى (ص) والصحيح أنه:
وما جاد دهر بلذاته ... على من يضنّ بخلع العذار
وهو لأبى نواس فى ملاحاة له مع مسلم بن الوليد.
(4) جاءت فى الشطر (تبين من بقي) وهى خطأ فى النسخ.(1/281)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
إن الرسل موقوفون حيثما وقفوا، ومخبرون عمّا عرّفوا بمقدار ما عرفوا فإذا أيّدوا بأنوار البصائر اطّلعوا على مكنونات السرائر بلطائف التلويح بمقدار ما أعطوا من الإشراق بوظائف البلوغ.
«أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» لما توفّى المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- سقمت البصائر إلا بصيرة الصديق رضى الله عنه فأمدّه الله بقوة السكينة، وأفرغ عليه قوة التولي فقال. «من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات» فصار الكلّ مقهورين تحت سلطان قالته لما انبسط عليهم من نور حالته، كالشمس بطلوعها تندرج فى شعاعها أنوار الكواكب فيستتر فيها مقادير مطارح شعاع كل نجم.
وإنما قال: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ» لأنه صلّى الله عليه وسلّم مات. وقيل أيضا لأنه قال:
«ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أوان قطعت أبهرى» «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
«2» الأنفاس محصورة لا زيادة فيها، ولا نقصان منها.
«وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها» : للصالحين العاقبة وللآخرين الغفلة.
«وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» : وثواب الآخرة أو له الغفران ثم الجنان ثم الرضوان.
__________
(1) وفى البخاري بلفظ «ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أيهرى من ذلك السم» قال المقريزى: «وهذا قاله فى مرض موته» .
(2) أخطأ الناسخ إذ أضاف (وسيجزى الله) وقد التبس عليها ختام الآية السابقة.(1/282)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
«وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» : وجزاء الشكر الشكر.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 146]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
إنّ الذين درجوا على الوفاء، وقاموا بحق الصفاء، ولم يرجعوا عن الطريق، وطالبوا نفوسهم بالتحقيق، وأخذوا عليها بالتضييق والتدقيق- وجدوا محبة الحقّ سبحانه ميراث صبرهم، وكان الخلف عنهم الحقّ عند نهاية أمرهم، فما «1» زاغوا عن شرط الجهد، ولا زاغوا فى حفظ العهد، وسلّموا تسليما، وخرجوا عن الدنيا وكان كلّ منهم للعهد مقيما مستديما، وعلى شرط الخدمة والوداد مستقيما.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 147]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
تحققوا بحقائق المعنى فخرسوا «2» عن إظهار الدعوى، ثم نطقوا بلسان الاستغفار، ووقفوا فى موقف الاستحياء، كما قيل:
يتجنّب الآثام ثم يخافها ... فكأنّما حسناته آثام
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 148]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
وأقل ذلك القناعة ثم الرضا ثم العيش معه ثم الأنس فى الجلوس بين يديه ثم كمال الفرح بلقائه، ثم استقلال السرّ بوجوده.
__________
(1) أخطا الناسخ إذ نقلها (فلما زاغوا) وهذا يخالف المعنى المراد، والصحيح (فما)
(2) وردت بالحاء والصواب أن تكون بالخاء، فالمعنى يتطلب ذلك ويقوى به.(1/283)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
يعنى دخولهم الجنة وهم محررون عنها، غير داخلين فى أسرها.
ويقال ثواب الدنيا والآخرة الغيبة عن الدارين برؤية خالفهما «1» .
ولمّا قال «ثواب الدنيا» قال فى الآخرة «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» فوجب أن يكون لثواب الآخرة مزية على ثواب الدنيا حيث خصّه بوصف الحسن، وتلك المزية دوامها وتمامها وثمارها، وأنها لا يشوبها ما ينافيها، ويوقع آفة فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 150]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
يعنى إن طاوعتم الأضداد جرّوكم إلى أحوالهم «2» ، فألقوكم فى ظلماتهم، بل الله مولاكم:
ناصركم ومعينكم وسيدكم ومصلح أموركم، «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» : لأنه يعينكم على أنفسكم ليكفيكم شرّها، ومن سواه يزيد فى بلائكم إذا ناصروكم لأنهم يعينون أنفسكم عليكم.
«وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» لأن من سواه يمن عليك بنصرته إياك، وهو يجازيك على استنصارك به.
ويقال كل من استنصرت به احتجت إلى أن تعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فإذا استنصرته- سبحانه- يعطيك كلّ لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
__________
(1) الغيبة فى المصطلح الصوفي من مقوماتها ألا يحس العبد بوارد من تذكر ثواب أو تفكر فى عقاب، وعلى حسب الغيبة عن الخلق يكون (حضور) العبد بالحق.
(2) وردت (أحوالكم) وهذا خطأ فى النسخ. [.....](1/284)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
إنّ الله سبحانه خصّ نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بإلقاء الرعب منه فى قلوب أعدائه، قال عليه السّلام: «نصرت بالرعب» . فكذلك أجرى هذه السّنّة مع أوليائه يطرح الهيبة منهم فى القلوب، فلا يكاد يكون محق إلا ومنه- على المبطلين وأصحاب الدعوى والتمويه- هيبة فى القلوب وقهر.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
(إنه سبحانه يجازيك على استنصارك به، ويقال كل من استنصرت به احتجت إلى أن يعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فاذا استنصرته- سبحانه- يعطيك كل لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك) . «1»
الإشارة من هذه الآية إلى أن الحق سبحانه أقام أولياءه بحق حقه، وأقعدهم عن تحصيل حظوظهم، وقام سبحانه بكفايتهم بكل وجه، فمن لازم طريق الاستقامة، ولم يزغ عن حدّه ولم يزغ فى عهده، فإنه سبحانه يصدق وعده له بجميل الكفاية ودوامها، ومن ضلّ عن الاستقامة- ولو خطوة- عثر فى مشيته، واضطربت عليه- بمقدار جرمه- حاله وكفايته، فمن زاد زيد له، ومن نقص نقص له.
قوله جل ذكره: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ
__________
(1) ما بين القوسين سبق وروده عند تفسير «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» فى ختام الآية قبل السابقة ولا ندرى هل أعادها القشيري هنا لتفسير «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» أم أن الناسخ قد وقع فى التكرار سهوا أثناء الكتابة؟(1/285)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
قيمة كل أحد إرادته فمن كانت همته الدنيا فقيمته خسيسة حقيرة كالدنيا، ومن كانت همته الآخرة فشريف خطره، ومن كانت هممه ربانية فهو سيد وقته.
ويقال من صفا عن إرادته وصل إليه، ومن وصل إليه أقبل- بلطفه- عليه، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه.
قوله: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» : الإشارة منه أنه صرف قوما عنه فشغلهم بغيره عنه، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له فالزاهدون صرفهم عن الدنيا، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى، والمريدون صرفهم عن المنى، والموحّدون صرفهم عما هو غير وسوى.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)(1/286)
قوله: «إِذْ تُصْعِدُونَ» الإشارة من هذه الآية لأقوام تقع لهم فترة، ودواعى الحق سبحانه- من أنفسهم، ومن جميع الأقطار حتى كأنّ الأحجار من الشوارع واللّبن من الجدران- تناديه: لا تفعل يا عبد الله! وهو مصرّ فى ليّه، مقيم على غيّه، جاحد لما يعلم أنه هو الأحقّ والأولى من حاله، فإذا قضى وطره واستوفى بهمته، فلا محالة يمسك من إرسال عنانه، ويقف عن ركضه فى ميدانه، فلا يحصل إلا على أنفاس متصاعدة، وحسرات متواترة فأورثه الحقّ- سبحانه- وحشة على وحشة. حتى إذا طال فى التحسّر مقامه تداركه الحق- سبحانه- بجميل لطفه، وأقبل عليه بحسن عطفه، وأنقذه من ضيق أسره، ونقله إلى سعة عفوه وفضله، وكثير من هؤلاء يصلون إلى محل الأكابر ثم يقفون بالله لله (......) «1» ويقومون بالله لله بلا انتظار تقريب ولا ملاحظة ترحيب.
قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم «2» إلى القول بترك أنفسهم، وغسل أيديهم منهم، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون بالله لله، بلا ملاحظة طمع وطلبة، بل على عقيدة اليأس عن كل شىء. عليه أكّدوا العهد، وبدّلوا اللحظ «3» ، وتركوا كل نصيب وحظ، وهذه صفة من أنزل عليه الأمنة.
فأمّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم- فبقوا فى وحشة نفوسهم، ومن عاجل عقوبتهم سوء
__________
(1) مشتبهة.
(2) وردت (فطراتهم) بالطاء والأصوب أن تكون بالتاء لأن الفترة وقت مقاساة ومعاناة فهى تتلاءم مع (وتجرع حسراتهم) .
(3) اللحظ هنا معناها الملاحظة، ملاحظة النفس أو ملاحظة العوض.(1/287)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
عقيدتهم فى الطريقة بعد إيمانهم بها قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .
والإشارة فى قوله تعالى: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» لهؤلاء أنهم يتحيّرون فى أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة، ولا إعراض بالكلية، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم، ويضيفون صفوة- لو كانت لقلوبهم- إلى اجتهادهم، وينسون ربّهم فى الحالين، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى:
«قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» : فمن عرف أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشّعر عن العجين، وسلّم أموره إلى الله بالكلية. وأمارة من تحقق بذلك أن يستريح من كدّ تدبيره، ويعيش فى سعة شهود تقديره.
وقوله: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» : لم يخلصوا فى عقائدهم، وأضمروا خلاف ما أظهروا، وأعلنوا غير ما ستروا، وأحالوا الكائنات على أسباب توهموها.
قال تعالى: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» :
أخبر أن التقدير لا يزاحم «1» ، والقدر لا يكابر، وأن الكائنات محتومة، وأن الله غالب على أمره.
وقوله: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» : فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفة وحجبة، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة، فتصبح قلوبهم خالصة من الشوائب، صافية عن العلائق، منفردة للحق، مجرّدة عن الخلق، محرّرة عن الحظّ والنّفس، ظاهرة عليها آثار الإقبال، غالبا عليها حسن التّولّى، بادية فيها أنوار التجلي.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) .
__________
(1) وردت بالهاء والصواب أن تكون بالحاء.(1/288)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
الإشارة من هذه الآية إلى أحوال من سقمت إرادتهم، وضعفت نيّاتهم، وقادهم الهوى، وملكتهم الفترة.
قابلهم نصح الناصحين، ودعوة المنى، ووساوس الشياطين فركنوا إلى الغيبة، وآثروا الهوى على التّقى فبقوا عنه، ولم يتهنّوا بما آثروه عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
من تعوّد أن يتلهف على ماضيه وسالفه، أو يتدبر فى مستقبله وآنفه، فأقلّ عقوبة له ضيق قلبه فى تفرقة الهموم، وامتحاء نعت الحياة «1» عن قلبه لغفلته وقالته ليت كذا ولعلّ كذا، وثمرة الفكرة فى ليت ولعلّ- الوحشة والحسرة وضيق القلب والتفرقة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 158]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
بذل الروح فى الله خير من الحياة بغير الله، والرجوع إلى الله خير لمن عرف الله من البقاء مع غير الله، وما يؤثره العبد على الله فغير مبارك، إن شئت: والدنيا، وإن شئت: والعقبى.
قوله وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ: إذا كان المصير إلى الله طاب المسير
__________
(1) حياة القلب عمارته بالله وقد وردت فى مطلع الإشارة التالية، ولا يستبعد أنها (الحياء) فهى مقبولة أيضا.(1/289)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
إلى الله: وإنّ سفرة إليه بعدها نحطّ رحالنا لمقاساتها أحلى من العسل! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
جرّده عن أوصاف البشرية، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي، لا من آثار الوفاق والتبري، ولولا أنه استخلصه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟! ويقال إن من خصائص رحمته- سبحانه- عليه أن قوّاه حتى صحبهم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم- مع سلطان ما كان مستغرقا له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه، فلولا قوة إلهية استأثره الحق بها وإلا متى أطاق صحبتهم؟! ألا ترى إلى موسى عليه السّلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه؟
ويقال لولا أنه صلّى الله عليه وسلّم شاهدهم محوا فيما كان يجرى عليهم من أحكام التصريف، وتحقّق أن منشئها الله- لما أطاق صحبتهم.
قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظّ لتفرقوا عنك، هائمين على وجوههم، غير مطيقين للوقوف لحظة، «فَاعْفُ عَنْهُمْ» فيما يكون تقصيرا منهم فى حقك وتوقيرك، وما عثرت عليه من تفريطهم فى خدمتنا وطاعتنا- فانتصب لهم شفيعا إلينا.
ويقال «فَاعْفُ عَنْهُمْ» فاعف- أنت- عنهم فإن حكمك حكمنا، فأنت لا تعفو إلا وقد عفونا. ثم ردّه عن هذه الصفة بما أثبته فى مقام العبودية، ونقله إلى وصف التفرقة(1/290)
فقال: ثم قف فى محل التذلل مبتهلا إلينا فى استغفارهم. وكذا سنّته- سبحانه- مع أنبيائه عليهم السّلام وأوليائه، يردّهم من جمع إلى فرق ومن فرق إلى جمع، فقوله: «فَاعْفُ عَنْهُمْ» جمع، وقوله: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فرق.
ويقال «فَاعْفُ عَنْهُمْ» وتجاوز عنهم فى حقوقك، ولا تكتف بذلك ما لم تستغفر لهم إكمالا للكرم ولهذا كان يقول: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .
ويقال ما يقصّرون فى حقّك تعلّق به حقّان: حقك وحقى، فاذا عفوت أنت فلا يكفى هذا القدر بل إن لم أتجاوز عنهم فى حقى كانوا مستوجبين للعقوبة فمن أرضى خصمه لا ينجبر حاله ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره.
وقوله «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» أي أثبت لهم محلا فإنّ المعفو عنه فى صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكرامة، فإذا شاورتهم أزلت عنهم انكسارهم، وطيّبت لهم قلوبهم.
ويقال تجنّسوا فى أحوالهم: فمن مقصّر فى حقه أمر بالعفو عنه، ومن مرتكب لذنوبه أمر بالاستغفار له، ومن مطيع غير مقصر أمر بمشاورته.
ثم قال: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي لا «1» تتكل على رأى مخلوق وكل الأمور إلىّ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبضة بحال.
وحقيقة التوكل شهود التقدير، واستراحة القلوب عن كد التدبير.
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» يذيقهم برد الكفاية ليزول عنهم كل لغب «2» ونصب، وإنه يعامل كلا بما يستوجبه فقوم يغنيهم- عند توكلهم- بعطائه، وآخرون يكفيهم- عند توكلهم- بلقائه، وقوم يرضيهم فى عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه، ويقفون معه به له- على تلوينات «3» قدره وقضائه.
__________
(1) سقطت (لا) من الناسخ.
(2) وردت (لقب) بالقاف والصواب أن تكون (لغب) بالغين، وربما كانت فى الأصل (تعب)
(3) اللفظة رديئة الخط، ويحتمل أنها (تقلبات) ، وتلوين الأحوال مصحوب- حسب الاصطلاح الصوفي- يتقلب الأحوال، ولهذا فالمعنى يتقبل كلا اللفظين.(1/291)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
المؤمنون نصرته لهم بالتوفيق للأشباح ثم بالتحقيق للأرواح.
ويقال ينصركم الله بتأييد الظواهر وتسديد «1» السرائر.
ويقال للنصرة إنما تكون على العدو، وأعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.
والنصرة على النّفس بأن تهزم دواعى منّتها بعواصم رحمته حتى تنفضّ جنود الشهوات بهجوم وفود المنازلات فتبقى الولاية لله خالصة من شبهات الدواعي التي هى أوصاف البشرية، وشهوات النفوس وأمانيها، التي هى آثار الحجبة وموانع القربة.
«إِنْ يَخْذُلْكُمْ» الخذلان التخلية مع المعاصي، فمن نصره قبض على يديه عن تعاطى المكروه، ومن خذله ألقى حبله على غاربه، ووكله إلى سوء اختياره، فيفترق عليه الحال فى أودية الشهوات، فمرة يشرّق غير محتشم، وتارة يغرّب غير محترم، ألا ومن سيّبه الحق فلا آخذ بيده، ومن أسلمه «2» فلا مجير له.
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» : فى وجدان الأمان عند صدق الابتهال، وإسبال ثوب «3» العفو على هناة الجرم عند خلوص الالتجاء، بالتبري من المنّة والحول.
ويقال لما كان حديث النصرة قال: «فَلا غالِبَ لَكُمْ» ، ولما كان حديث الخذلان لم يقل «فلا ناصر لكم» بل قال بالتلويح والرمز: «فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» :
وفى هذا لطيفة فى مراعاة دقائق أحكام الخطاب.
__________
(1) من السداد.
(2) أي أسلمه إلى نفسه:
(3) وردت (ثواب) ، والملائم للاسبال: (ثوب) ولذلك آثرناها.(1/292)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
نزّه «1» أحوال الأنبياء عن الدّنس بالخيانات، فمن حمّلناه من الرسالة إلى عبادنا يوصلها إلى مستحقيها واجبا، ولا يعتنى بشأن حميم له من دون أمرنا، ولا يمنع نصيب أحد أمرناه بإيصاله إليه، بحقد ينطوى عليه. ألا ترى كيف قال: «اذهب فواره» لأبى طالب لمّا قال له أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه: مات عمّك «2» الضال. وكيف قبل الوحشىّ قاتل حمزة لمّا أسلم؟
ويقال ما كان لنبى من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يضع أسرارنا فى غير أهلها، بل ينزلون كل أحد عند ما يستوجبه، وفى الأثر «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 162 الى 163]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
لا يستوى من رضى عنه فى آزاله ومن سخط عليه فخذله فى أحواله، وجعله متكلا على أعماله، ناسيا لشهود أفضاله، واتباع الرضوان بمفارقة ما زجر عنه، ومعانقة ما أمر به، فمن تجرّد عن المزجور، وتجلّد فى اعتناق المأمور فقد اتبع الرضوان، واستوجب الجنان.
__________
(1) أخطأ الناسخ فكتبها (نزح) بالحاء.
(2) «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه» هكذا أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن على رضى الله عنه:
وفى السيرة الحلبية: إن هذا الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن الجارود وابن خزيمة عن على قال: لما مات أبو طالب أخبرت النبي (ص) بموته فبكى وقال:
«اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه» .
وانظر أيضا «أسنى المطالب فى نجاة أبى طالب» لزينى دحلان ط طهران سنة 1382 (ص 44) . [.....](1/293)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ: أي هم أصحاب درجات فى حكم الله، فمن سعيد مقرّب، ومن شقىّ مبعد.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
أجزل لديهم العارفة، وأحسن إليهم النعم حيث أرسل إليهم مثل المصطفى سيد الورى صلوات الله عليه وعلى آله، وعرّفهم دينهم، وأوضح لهم براهينهم، وكان لهم بكل وجه فلا نعمه شكروا، ولا حقّه وقّروا، ولا بما أرشدهم استبصروا، ولا عن ضلالتهم أقصروا..
هذا وصف أعدائه الذين جحدوا واستكبروا. وأمّا المؤمنون فتقلدوا المنّة فى الاختيار، وقابلوا الأمر بالسمع والطاعة عن كنه الاقتدار، فسعدوا فى الدنيا والعقبي، واستوجبوا من الله الكرامة والزّلفى.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
عادة الخلق نسيان ما منهم من الخطأ والعصيان، والرجوع إلى الله بالتهمة فيما يتصل بهم من المحن والخسران، وفنون المكاره والافتتان، وإنّ من تعاطى ( ... ) «1» الإجرام فحقيق بألا ينسى حلول الانتقام.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
__________
(1) مشتبهة.(1/294)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
هوّن على المؤمنين وأصحاب البصائر ما لقوا من عظيم الفتنة يوم أحد، بأن قال إن ذلك أجمع كان بإذن الله، وإنّ بلاء يصيب بإذن الله لمن العسل أحلى، ومن كل نعيم أشهى.
ثم أخبر أن الذين لم يكن لهم فى الصحبة خلوص كيف تعللوا وكيف تكاسلوا:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا
قوله تعالى: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فلا جرم (سقوا العسل ودسّوا له فيه الحنظل) «1» ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 168]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
الذين ركنوا إلى ما سوّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تحرّزا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمذمومة تلك الظنون، ولذاهبة عن شهود التحقيق تلك القلوب.
__________
(1) هكذا يمكن أن تقرأ هذه العبارة لو بنى الفعلان فيها للمعلوم، أما لو بنيا للمجهول فإن الجزء الثاني منها يكون (ودس لهم فيه الحنظل) . فالفاعل فى الحالة الأولى يكون ضميرا يعود على المنافقين، ونائب الفاعل فى الحالة الثانية يكون المولى عز وجل وما جاء فى النسخة (ص) يرجح الثانية، وإن كنا نميل للأولى.(1/295)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قل لهم- يا محمد- استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة! ومتى تقدرون على ذلك؟! هيهات هيهات! قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس فى رضاء الحق أتمّ من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق.
ويقال إن الذي وارثه الحي الذي لم يزل فليس بميت- وإن قتل:
وإن كانت العبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ فى الله- لا شكّ- أفضل
قوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: من علم أن أحباءه ينتظرونه وهم فى الرّفة والنعمة لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 171]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
علّة استبشارهم وموجبه فضل من الله ونعمة منه، أي لولا فضله ونعمته بهم وإلا متى استبشروا؟ فليس استبشارهم بالنعمة إنما استبشارهم بأنهم عباده وأنه مولاهم «1» ، ولولا فضله ونعمته عليهم لما كانت لهم هذه الحالة.
__________
(1) يقول الدقاق- شيخ القشيري وصهره- ليس أشرف من العبودية، ولا اسم أتم للمؤمن من الاسم له بالعبودية، وقد وصف بها الرسول (ص) فى أشرف أوقاته فى الدنيا، قال تعالى «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى»
لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائى (الرسالة ص 100)(1/296)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 172]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
للاستجابة مزية وفضيلة على الإجابة من حيث الإشارة لا من مقتضى العربية «1» وهو أنه يستجيب طوعا لا كرها، فهم استجابوا لله من غير انطواء على تحمل مشقة بل بإشارة القلب ومحبة الفؤاد واختيار الروح واستحلاء «2» تحمّل الحكم. فالاستجابة للحق بوجوده، والاستجابة للرسول- عليه السّلام- بالتخلّق بما شرع من حدوده.
استجابة الحق بالتحقق بالصفاء فى حق الربوبية، واستجابة الرسول عليه السّلام بالوفاء فى إقامة العبودية.
«مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» : فى ابتداء معاملاتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم، وابتسام الحقائق فى أسرارهم.
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ» : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ... - وهو المشاهدة والتقوى- ... فإن لم تكن تراه فإنه يراك «3» - وهو المراقبة فى حال المجاهدة.
«أَجْرٌ عَظِيمٌ» لأهل البداية مؤجّلا، ولأهل النهاية معجّلا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 173]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
لم يلتبس على ظواهرهم شىء من أحوال الدنيا إلا انفتحت لهم- فى أسرارهم- طوالع من الكشوفات، فازدادوا يقينا على يقين.
__________
(1) أي على مقتضى صيغ الاشتقاق فى اللغة.
(2) فى ص (استجلاء) والصواب أن تكون بالحاء.
(3) «أعبد الله كأنك تراه ... » رواه الطبراني عن أبى الدرداء، وحسّن السيوطي سنده، وضعفه المنذرى. قال الحافظ العراقي: رجاله ثقات وفيه انقطاع «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واحسب نفسك فى الموتى، واتق دعوة المظلوم» وفى الحلية عن زيد بن أرقم.(1/297)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
ومن أمارات اليقين استقلال القلوب بالله عند انقطاع المني من الخلق فى توهم الإنجاد والإعانة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 174]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
كذا سنّة الحق- سبحانه- مع من صدق فى التجائه إليه أن يمهد مقيله فى ظل كفايته فلا البلاء يمسه، ولا العناء يصيبه، ولا النّصب «1» يظلّه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 175]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
«2» الإشارة فى تسليط دواعى الشيطان على قلوب الأولياء صدق فرارهم إلى الله كالصبىّ الذي يخوّف بشىء يفزع الصبيان، فإذا خاف لم يهتد إلى غير أمه، فإذا أتى إليها آوته إلى نفسها، وضمّته إلى نحرها، وألصقت بخدّه خدّها.
كذلك العبد إذا صدق فى ابتهاله إلى الله، ورجوعه إليه عن مخالفته، آواه إلى كنف قربته، وتداركه بحسن لطفه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)
زاد فى قوة قلبه بما جدّد له من تأكيد العهد، بأنه لا يشمت به عدوّا، ولا ى وصّل إليه من قبلهم سوءا.
__________
(1) فى ص (النصيب) والصواب (النصب) فالمعنى يتطلب ذلك.
(2) هنا أضاف الناسخ- سهوا- لفظة (الله) فحذفناها.(1/298)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 177]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
إن أضرّوا فما أضروا إلا بأنفسهم، وإن أصرّوا فما أصرّوا إلا على خسرانهم:
فما نحن عذّبنا ببعد ديارهم ... ولا نحن ساقتنا إليهم نوازع
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
من تمام المكر بهم، والمبالغة فى عقوبتهم أنّا نعذّبهم وهم لا يشعرون، نستدرجهم من حيث لا يعلمون نملى لهم فيظنون ذلك إنعاما، ولا يحسبونه انتقاما، فإذا برزت لهم كوامن التقدير عند مغاراتها علموا أنهم لفى خسران، وقد اتّضح لكلّ ذى بصيرة أن ما يكون سبب العصيان وموجب النسيان غير معدود من جملة الإنعام.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
جمعهم اليوم من حيث الأشخاص والمبانى، ولكنه فرّقهم فى الحقائق والمعاني فمن طيّبة سجيته، ومن خبيئة طينته. وهم وإن كانوا مشائب «1» ففى بصيرة الخواص هم ممتازون «2» .
__________
(1) مشائب أخلاط.
(2) ممتازون هنا مرتبطة بالفعل (يميز) الذي فى الآية الكريمة أي إنهم معلومون عندنا نميز طيبهم مهما كانوا أخلاطا.(1/299)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» : فإنّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلّ وقلّ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره:
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
من آثر شيئا على الله لم يبارك له فيه فلا يدوم له- فى الدنيا- بذلك استمتاع، ولا للعقوبة عليه- فى الآخرة- عنه دفاع.
والبخل- على لسان العلماء- منع الواجب، وعلى مقتضى الإشارة إبقاء شىء ولو ذرة من المال أو نفسا من الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
هذا الخطاب لو كان بين المخلوقين لكان شكوى. والشكوى إلى الأولياء من الأعداء سنّة الأحباب.
ويقال علم أن فى المؤمنين من يغتاب الناس، وذلك قبيح من قالتهم، فأظهر قبحا فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار، فكأنه قال: لئن قبحت قالتهم فى الاغتياب فأقبح من قولهم قول الكفار حيث قالوا فى وصفنا ما لا يليق بنعمتنا.(1/300)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
وفيه أيضا إشارة إلى الدعاء إلى الخلق، والتجاوز عن الخصم، فإن الله- سبحانه- لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير فى حقوقه.
قوله: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» : هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة يعنى أنهم وإن نسوا أحوالهم وأقوالهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم:
صحائف عندى للعتاب طويتها ... ستنشر يوما والعتاب يطول
سأصبر حتى يجمع الله بيننا ... فإن نلتق يوما فسوف أقول
قوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ هذا لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به، فكأنه- سبحانه- يقول: «عبدى: هذا الذي تلقاه- اليوم- من العقوبة لأن الذنب لك، ولو لم تفعله لما عذّبنك» .
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 183]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
تقوّلوا على الله- سبحانه- فيما تعللوا به من ترك الإيمان، فقالوا: لقد أمرنا ألا نصدّق أحدا إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء، وتنزل نار من السماء، فتأخذ القربان عيانا ببصر، فقال تعالى: قل لهم إن من تقدّمنى من الأنبياء عليهم السّلام أتوكم بما اقترحتم على من القربان، ثم لم تؤمنوا، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضا فإن من أقصته السوابق- فلو خاطبته الشمس بلسان فصيح، أو سجدت له الجبال فرآها بلحظ صحيح- لم يلج العرفان فى قلبه، وما ازداد إلا شكا على شك.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)(1/301)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
أي عادة الكفار تكذيب الرسل: وعلى هذا النحو درج سلفهم، ويهديهم اقتدى خلفهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
أي كأس الموت توضع على كفّ كلّ حىّ فمن تحلّاها طيّبة نفسه أورثته سكر الوجد، ومن تجرّعها على وجه التعبس، وقع فى وهدة الرّدّ، ووسم بكىّ الصّدّ، ثم يوم القيامة:
فمن أجير من النار وصل إلى الراحة الكبرى، ومن صلّى بالسعير وقع فى المحنة الكبرى.
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» : لأن ما هو آت فقريب.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم، وعرّفهم أن خير الأمرين لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجارى الأقدار.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)(1/302)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
أخبر أنهم أبرموا عهودهم أن لا يزولوا «1» عن وفائه، ولكنهم نقضوا أسباب الذّمام بما صاروا إليه من الكفران، ثم تبيّن أنّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يبارك لهم فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
إن من باشر رؤية الخلق قلبه، ولاحظهم بسرّه فلا تظننّ أنّ عقوبتهم مؤخرة إلى يوم القيامة، بل ليسوا من العذاب- فى الحال- بمفازة، وأىّ عذاب أشدّ من الردّ إلى الخلق والحجاب عن الحق؟
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 189]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
الإشارة من هذه الآية هاهنا إلى غناه- سبحانه- عمّا فى الكون، وكيف يحتاج إليهم؟! ولكنهم لا يجدون عنه خلفا، ولا عليه بدلا.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 191]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
الآيات التي تعرّف الحق سبحانه وتعالى بها إلى العوام هى التي فى الأقطار من العبر والآثار، والآيات التي تعرّف بها إلى الخواص فالتى فى أنفسهم. قال سبحانه:
__________
(1) وردت (ان لا يزالوا) ونرجح انها فى الأصل (ان لا يزولوا) لأن هذه مناسبة للمراد من الآية، ومن سياق المعنى، ولو كان حرف الجر (على) بعدها لقبلنا (لا يزالوا) .(1/303)
«سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» فالآيات الظاهرة توجب علم اليقين، والآيات الباطنة توجب عين اليقين.
والإشارة من اختلاف الليل والنهار إلى اختلاف ليالى العباد فليالى أهل الوصلة قصيرة، وليالى أهل الفراق طويلة فهذا يقول:
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
ويقول:
صباحك سكر والمساء خمار ... فنمت وأيام السرور قصار
والثاني يقول:
ليالى أقر الظاعنين (....) ... شكوت وليل العاشقين طويل
وثالث ليس له خبر عن طول الليل ولا عن قصره فهو لما غلب عليه يقول:
لست أدرى أطال ليلى أم لا؟ ... كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟!
لو تفرّغت لاستطالة ليلى ... ورعيت النجوم كنت محلّا
قوله تعالى: «لِأُولِي الْأَلْبابِ» : أولو الألباب هم الذين صحت عقولهم عن سكر الغفلة.
وأمارة من كان كذلك أن يكون نظره بالحق فإذا نظر من الحقّ إلى الحقّ استقام نظره، وإذا نظر من الخلق إلى الحق انتكست نعمته، وانقلبت أفكاره مورّثة للشبهة.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً ... الآية:
استغرق الذكر جميع أوقاتهم فإن قاموا فبذكره، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة فى حقائق الذكر، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها «1» .
ويذكرون الله قياما على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة.
ومن لم يسلم فى بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعود فى نهايته بوصف الحضور.
__________
(1) القشيري هنا مستفيد من رآى استاذه الإمام ابن فورك فى «قِياماً وَقُعُوداً» فى الآية الكريمة (الرسالة ص 111) .(1/304)
والذكر طريق الحق- سبحانه- فما سلك المريدون طريقا أصحّ وأوضح من طريق الذكر، وإن لم يكن فيه سوى قوله: «أنا جليس من ذكرنى» لكان ذلك كافيا.
والذاكرون على أقسام، وذلك لتباين أحوالهم: فذكر يوجب قبض الذاكر لما يذكره من نقص سلف له، أو قبح حصل منه، فيمنعه خجله عن ذكره، فذلك ذكر قبض.
وذكر يوجب بسط الذاكر لما يجد من لذائذ الذكر ثم من تقريب الحقّ إيّاه بجميل إقباله عليه.
وذاكر هو محو فى شهود مذكوره فالذكر يجرى على لسانه عادة، وقلبه مصطلم فيما بدا له.
وذاكر هو محل الإجلال يأنف من ذكره ويستقذر وصفه «1» ، فكأنه لتصاغره عنه لا يريد أن يكون له فى الدنيا والآخرة (ثناء) «2» ولا بقاء، ولا كون ولا بهاء، قال قائلهم:
ما إن ذكرتك إلا همّ يلعننى ... قلبى وروحى وسرى عند ذاكراكا
حتى كأنّ رقيبا منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا
والذكر عنوان الولاية، وبيان الوصلة، وتحقيق الإرادة، وعلامة صحة البداية، ودلالة صفاء النهاية، فليس وراء الذكر شىء، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر، ومنشأة عن الذكر.
قوله جل ذكره: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا.
التفكر نعمة كل طالب، وثمرته الوصال بشرط العلم، فإذا سلم الذكر عن الشوائب
__________
(1) هذا النوع من الذكر يلتقى بتعاليم أهل الملامة النيسابورية الذين لا ينظرون لأى عمل إلا من حيث رؤية التقصير فيه.
(2) ربما كانت (فناء) وإن كان المعنى يتقبل كليهما. [.....](1/305)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
ورد صاحبه على مناهل التحقيق، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر، فالذكر سرمد «1» .
ثم فكر الزاهدين فى فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابّها فيزدادون بالفكرة زهدا فيها.
وفكر العابدين فى جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه.
وفكر العارفين فى الآلاء والنعم فيزدادون محبة للحق سبحانه.
قوله جل ذكره: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
التسبيح يشير إلى سبح الأسرار فى بحار التعظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 192]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)
من ابتليته فى الآجل بالحرقة فقد أخزيته، ومن ابتليته بالفرقة فى العاجل فقد أشقيته، ومن أوليته بيمن الوصلة فقد آويته وأدنيته.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 193]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)
يعنى أجبنا الداعي ولكن أنت الهادي، فلا تكلنا إلينا، ولا ترفع ظلّ عنايتك عنّا.
والإيمان الدخول فى موجبات الأمان، وإنما يؤمن بالحق من أمّنه الحق، فأمان الحق للعبد- الذي هو إجارته- يوجب إيمان العبد بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.
__________
(1) [سأل أبو عبد الرحمن السلمى الشيخ الدقاق. آلذكر أتم أم الفكر؟
فقال الدقاق: ما الذي يقع لك منه؟
فأجاب السلمى: عندى الذكر أتم من الفكر لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق فاستحسنه الدقاق] الرسالة ص 111.
وقد ذكرنا هذه الرواية هنا: اولا لتوضح الفرق بين الذكر والفكر وثانيا لتبرز قول القشيري:
(الذكر سرمد) أي مستدام.(1/306)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
«وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» : وهم المختصون بحقائق التوحيد، القائمون لله بشرائط التفريد، الواقفون مع الله بخصائص التجريد.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 194]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
حقّق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط «1» من إكمال النّعمى (.....) «2» وغفران كل ما سبق منا من متابعات الهوى.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
كيف لا يستجيب لهم وهو الذي لقّنهم الدعاء، وهو الذي ضمن لهم الإجابة، ووعده جميل الثواب على الدعاء زائد على ما يدعون لأجل الحوائج.
«فَالَّذِينَ هاجَرُوا» : يعنى الديار والمزار، وجميع المخالفين والموافقين من الأغيار.
«وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» : إلى مفارقة معاهدهم من مألوفاتهم.
«وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» : عيّروا بالفقر والملام، وفتنوا بفنون المحن والآلام.
__________
(1) يقصد الرسل عليهم السّلام.
(2) مشتبهة.(1/307)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
«وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا» : ذاقوا من اختلاف الأطوار الحلو والمر.
«لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» : يعنى لنعطينّهم فوق آمالهم وأكثر، مما استوجبوه بأعمالهم وأحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
لا تتداخلنك تهمة بأنّ لهم عندنا قدرا وقيمة إنما هى أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
الذين وسمناهم بذلّ الفرقة بئست حالتهم، والذين رفعوا قدما لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة وصلوا إلى الثواب المقيم، وبقوا فى الوصلة والنعيم، وما عند الله مما ادّخرنا لهم خير مما أمّلوه باختيارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يريد من ساعدتهم القسمة بالحسنى فهم مع أولياء الله نعمة كما كانوا معهم قسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(1/308)
الصبر فيما تفرد به العبد، والمصابرة مع العدو.
والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.
ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية «1» .
ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا فى ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة فى الصحبة فى عموم الأوقات والحالات.
ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم، ورابطوا بأسراركم.
ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب، وصابروا على ابتغاء القربة، ورابطوا فى محل الدنوّ والزلفة- على شهود الجمال والعزّة.
والصبر مرّ مذاقه إذا كان العبد يتحسّاه على الغيبة، وهو لذيذ طعمه إذا شربه على الشهود والرؤية.
«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» : الفلاح الظّفر بالبغية، وهمّتهم اليوم الظفر بنفوسهم، فعند ذلك يتم خلاصهم، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة، وصلبوها على عيدان المكابدة، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاؤهم بالله.
__________
(1) يمكن أن يجد القارئ فى صنيع القشيري حول مادة (ص ب ر) انه- وهذا شأنه دائما- يحاول أن يؤسس المصطلح الصوفي على دعائم لغوية تعتمد على الفروق الدقيقة بين صيغ الاشتقاق المختلفة من المادة الواحدة فصيغة المفاعلة فيها المشاركة، وصيغة التفعل فيها تكلف يلائم البداية ... وهكذا.(1/309)
السورة التي يذكر فيها النساء
بسم الله الرحمن الرحيم اختلفوا فى الاسم عن ماذا اشتقّ فمنهم من قال إنه مشتق من السموّ وهو العلوّ. ومنهم من قال إنه مشتق من السّمة وهى الكيّة.
وكلاهما فى الإشارة: فمن قال إنه مشتق من السمو فهو اسم من ذكره سمت رتبته، ومن عرفه سمت حالته، ومن صحبه سمت همّته فسمو الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبارّ، وسمو الحالة يوجب ظهور الأنوار فى الأسرار، وسمو الهمة يوجب التحرز عن رقّ الأغبار.
ومن قال أصله من السّمة فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة «1» ، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة، ومن أحبّه وسم بسمة الخواص، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص. فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمى صاحبها بشررها، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع فى استرقاق صاحبها- مع شرف خطرها، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة «2» ، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.
ويقال اسم من واصله سما عنده (عن) الأوهام قدره (سبحانه) «3» . ومن فاصله وسم بكىّ الفرقة قلبه.
__________
(1) هنا حدث اضطراب من الناسخ فاخطأ فى النقل وقد رتبنا الكلام فى النصف الأول من الفقرة حسب الترتيب الوارد فى النصف الثاني منها والذي يبدأ «قسمة العبادة توجب.... إلخ» .
ذلك الترتيب الذي يتمشى مع المذهب العام للقشيرى فى كل مصنفاته.
(2) يقصد تشريف الإنسان على جملة المخلوقات، فالانسان وحده- دون سائر الكائنات- هو الذي خوطب بتبادل الذكر والمحبة مع الحق جل شأنه.
(3) وضعنا (عن) و (سبحانه) ليمتنع اللبس، وهما غير موجودين فى النص (يقول القشيري فى رسالته:
ما يصوره وهمك فالله بخلاف ذلك) .(1/310)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
وعلى هذه الجملة يدل اسمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
الناس اسم جنس، والاشتقاق فيه غير قوى. وقيل سمى الإنس إنسا لظهوره «1» فعلى هذه الإشارة: يا من ظهرتم عن كتم العدم بحكم تكليفى، ثم خصصت من شئت منكم بتشريفى، وحرمت من شئت منكم هدايتى وتعريفى. ونقلتكم إلى ما شئت بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفى.
ويقال لم أظهر من العدم أمثالكم، ولم أظهر على أحد ما أظهرت عليكم من أحوالكم.
ويقال سمّيت إنسانا لنسيانك، فإن نسيتنى فلا شىء أخسّ «2» منك، وإن نسيت ذكرى فلا أحد أحطّ «3» منك.
ويقال من نسى الحق فلا غاية لمحنته، ومن نسى الخلق فلا نهاية لعلوّ حالته.
ويقال يقول للمذنبين: يا من أنسيت عهدى، ورفضت ودى، وتجاوزت حدّى حان لك أن ترجع إلى بابى، لتستحقّ لطفى وإيجابى. ويقول للعارفين، يا من نسيت فينا حظّك، وصت عن غيرنا لحظك ولفظك- لقد عظم علينا حقّك، ووجب لدينا نصرك «4» ، وجلّ عندنا قدرك..
__________
(1) حتى يقابل (الجن) لاختفائه. ربما كان قصد القشيري إلى ذلك.
(2) وردت (أخص) بالصاد، وربما نقبلها على أساس أن الله يعاتب عبده: إن نسيتنى فأنت رغم ذلك (أخص الكائنات بمحبتى) .
(3) وردت (أحض) بالضاد وربما كانت أحصن.
(4) وجب واستوجب والإيجاب عند القشيري ترد بمعنى الاستحقاق، وعلينا أن نتأمل الدقة فى استعمال (لدينا) ولم يقل (علينا) فلا وجوب على الله- بخلاف المعتزلة.(1/311)
ويقال يا من أنست «1» بنسيم قربى، واستروحت إلى شهود وجهى، واعتززت بجلال قدرى- فأنت أجلّ عبادى عندى.
قوله: «اتَّقُوا رَبَّكُمُ» : التقوى جماع الطاعات، وأوله ترك الشّرك وآخره اتقاء كل غير، وأول الأغيار لك نفسك، ومن اتّقى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال، و (وقف) لله ... لا لشهود حظّ فى الدنيا والعقبى.
قوله: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» : وهو آدم عليه السّلام، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضا كذلك، لمّا ظهرت مزية آدم عليه السّلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفنا، قال تعالى: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» .
ولفظ «النفس» للعموم والعموم يوجب الاستغراق.
قوله: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» : حكم الحقّ- سبحانه- بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل، ولردّ المثل إلى المثل فربط الشكل بالشكل.
قوله: «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» : تعرّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكل وجه فى الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.
ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» تكرير الأمر بالتقوى يدلّ على تأكيد حكمه.
وقوله: «تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فمن قطع الرحم قطع، ومن وصلها وصل.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» : مطلعا شهيدا، يعد عليك أنفاسك، ويرى حواسك، وهو متوّل خطراتك، ومنشىء حركاتك وسكناتك. ومن علم أنه رقيب عليه فبالحرى أن يستحيى منه.
__________
(1) لاحظ كيف يربط القشيري بين الناس (والأنس) بعد أن ربطها (بالإنس) فمدار الكلام كله على لفظة (الناس) التي وردت فى الآية الكريمة.(1/312)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
من أقيم بمحلّ الرعاية فجاء على رعيّته فخصمه ربّه فإنه- سبحانه- ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فولىّ اليتيم إن أنصف وأحسن فحقّه على الله، وإن أساء وتعدّى فخصمه الله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع فى حالة واحدة، وأوجب العدل بينهن، فيجب على العبد أن يراعى الواجب فإن علم أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المباح، وإن علم أنه يقصّر فى الواجب فلا يتعرّض لهذا المباح، فإنّ الواجب مسئول عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
دلّ هذا على أن طعام الفتيان «1» والأسخياء مرىء لأنهم لا يطعمون إلا عن طيب نفس، وطعام البخلاء ردىء «2» لأنهم يرون أنفسهم، وإنما يطعمون عن تكلّف لا عن طيب نفس.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «طعام السخىّ دواء وطعام البخيل داء» .
__________
(1) الفتيان جمع فتى. والفتوة أصل من أصول الصوفية عماده الإيثار والبذل والصفح والعفو، والأنفة عما فى الكونين إلى غير ذلك من محاسن السلوك التي ينبغى للنفس أن ترتاضها، وأن تتحلى بها حتى يتهيأ العبد لما هو أجل وأعظم، وأن يكون إيثاره لله وبذله لله وروحه لله، لأن من يؤمر بالتزام ذلك بالنسية للمخلوق لا يضن بأضعافه بالنسبة إلى الحق.
(2) مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (ردىء) وقد وضعناها مع التحفظ، والمعنى بتقبلها. [.....](1/313)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
السّفيه من يمنعك عن الحقّ، ويشغلك عن الربّ.
والسّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظهم على حقوق الله تعالى.
قوله: «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» : حفظ التجمل فى الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيرا من الإمساك عند تحرّر القلب والثقة بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كلّا على الناس فحفظك ما جعله الله كفاية لنفسك أولى، ثم الجود بفاضل كفايتك.
قوله: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» : إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويفضل «1» فلا تدّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشية فقر فى الغد، فإن ضاقت يدك عن الإنفاق فلا يتّسعنّ «2» لسانك بالقبيح من المقال.
ويقال إذا دعتك نفسك إلى الإنفاق فى الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تطع نفسك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) .
__________
(1) يفضل وفاضل هنا بمعنى يزيد وزيادة.
(2) لاحظ المقابلة الجميلة فى تعبير القشيري بين (ضاقت يدك) و (يتسع لسانك)(1/314)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
إيناس الرشد العفة والديانة، والسخاء والصيانة، وصحبة الشيوخ، والحرص على مشاهدة الخير، وأداء العبادات على قضية الأمر.
ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربّه، وعند ما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتّكل على حوله وقوّته، وتدبيره واختياره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 7]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب فلو مات رجل وخلف ابنين تساويا فى الاستحقاق وإن كان أحدهما برا تقيا والآخر فاجرا عصيّا، فلا للتقى زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّة من قبل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطية للمسلمين:
قال الله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» ، ثم قال: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ ... » الآية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 8]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان «1» والمستحقون، وحضر من لا نصيب لهم فى الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحق مولّى عليه، فعدوهم وعدا جميلا وقولوا: «إذا بلغ الصبى قلنا له حتى يعطيك شيئا» وهذا معنى قوله: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» . وفى هذا إشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غدا، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران
__________
(1) السهمان ج سهم.(1/315)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
إن شاء الله بعد ما كانوا من أهل الإيمان، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضرا، ولا لك استحقاق سابق فبفضله ما أهّلك لمعرفته مع علمه بما يحصل منك فى مستأنف أحوالك من زلتك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 9]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
بيّن فى هذه الآية أن الذي ينبغى للمسلم أن يدخره لعياله «1» التقوى والصلاح لا المال لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» فانه يتولى الصالحين.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
إنما تولّى الحق سبحانه خصمية اليتيم، لأنه لا أحد لليتيم غيره، وكلّ من وكل أمره إليه فتبرّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) .
__________
(1) وردت (العبارة) وهى خطأ فى النسخ.
(2) هذه إشارة موجهة إلى الأولياء، فهم لا سند لهم من جاء أو سلطان أو مخلوق فإذا تعرضوا للأذى تولى الله عنهم خصومة المؤذى.(1/316)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
الوصية هاهنا بمعنى الأمر، فانه سبحانه جعل الميراث بين الورثة مستحقا بوجهين:
1- الفرض 2- التعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأن العصبة قد تستغرق جميع المال أما أكثر الفروض فلا يزيد على الثلثين، ثم إن القسمة تبدأ بأصحاب الفروض وهم أضعف استحقاقا، ثم العصبة وهم أقوى استحقاقا. قال صلّى الله عليه وسلّم:
«ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر» «1» كذلك أبدا سنته، كما فى قوله تعالى:
«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أعطاهم الكتاب بلفظ الميراث ثم قدّم الظالم على السابق، وهو أضعف استحقاقا إظهارا للكرم مع الظالم لأنه منكسر القلب ولا يحتمل وقته طول المدافعة.
وقوله «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» . لو كان الأمر بالقياس لكانت الأنثى بالتفضيل أولى لضعفها، ولعجزها عن الحراك، ولكنّ حكمه- سبحانه- غير معلّل «2» .
قوله جل ذكره: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
الأبناء ينفعونكم بالخدمة، والآباء بالرحمة الآباء فى حال ضعفك فى بداية عمرك، والأبناء فى حال ضعفك فى نهاية عمرك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
__________
(1) صحيح البخاري ج 8 ص 269 «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»
(2) تحتاج هذه العبارة إلى بعض توضيح. وربما كان أفضل تحديد لها ما يذكره ذو النون المصري:
«علة كل شىء صنعه، ولا علة لصنعه» ثم ما يوضحه أبو نصر السراج فى اللمع حيث يقول: «معنى هذا القول- والله أعلم- أن وجود النقصان فى كل شىء مصنوع كائن، لأنه لم يكن فكان، وليس فى صنع الصانع لمصنوعاته علة، وقال بعضهم:
يا شقامى من السّقا ... م وإن كنت علّتى (اللمع ص 440)(1/317)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
الإشارة فى ثبوت الميراث للأقربين من الورثة بالنّسب والسبب أنّ الميت إذا مات تحمّل القريب أحزانه فعوّض الله الوارث على ما يقاسيه ويخامر قلبه من التوجّع مال الموروث..
وكذا سنّته- سبحانه- التعويض على مقاساة الأذى- جودا منه لا وجوبا عليه «1» - كما توهّم قوم. وكلّ من كان أقرب نسبا أو أقوى سببا من الميت كان أكثر استحقاقا لميراثه، وفى معناه أنشدوا:
وما بات مطويا على أريحية (.... ... ...) عقب النوى موت الفتى ظل مغرما «2»
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 13]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
__________
(1) يلح القشيري دائما فى نفى كل وجوب على الله، كما لاحظنا ذلك فى مواضع شتى بينما لا يمنع المعتزلة من وجوب المثوبة للمطيع- عليه، ووجوب العقوبة للعاصى- عليه.
(2) توجد فى البيت كلمات فارسية (آنگه شاد شود در عطاء ادن) أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء. ومعنى البيت غير واضح.(1/318)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
حدوده: أوامره ونواهيه، وما تعبّد به عباده.
وأصل العبودية حفظ الحدود، وصون العهود، ومن حفظ حدّه لم يصبه مكروه ولا آفة، وأصل كلّ بلاء مجاوزة الحدود.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 14]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
وإنما هما عقوبتان: معجلة ومؤجلة، ويقترن بهما جميعا الذّلّ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا «1» عليها: لذلك قال قائلهم:
من بات «2» مسلما «3» بذنب أصبح وعليه مذلته، فقلت ومن أصبح مبرّا ببر ظلّ وعليه مهابته.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 15]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
إنما اعتبر فى ثبوت الفاحشة- التي هى الزنا- زيادة الشهود إسبالا لستر الكرم
__________
(1) وردت (لم يقدروا) والملائم للمعنى أن تكون (لم يقدموا) مما يرجح أن الناسخ قد أخطا.
(2) وردت (من مات) والسياق يقتضى (بات) ، (وأصبح) ، وظلّ..
(3) وردت (مسلما) وهى خطأ من الناسخ.(1/319)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
على إجرام العباد، فإنّ إقامة الشهود- على الوجه الذي فى الشرع لإثبات تلك الحالة- كالمتعذّر «1» .
وفى قوله- صلّى الله عليه وسلّم- لما عز لما قال له: يا رسول الله- صلوات الله عليك- إنّى زنيت فطهّرنى. فقال: لعلّك قبّلت.. ثم قال فى بعض المرات: «استنكهوه» «2» .
ففى هذا أقوى دليل لما ذكرت من إسباله الستر على الأعمال القبيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 16]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
الأمر بفنون العقوبات لهم على فعل ذلك أبلغ «3» شىء فى الردع والمنع منه بالرفع، لعلّ العبد يحذر ذلك فلا يستحق التعذيب الأعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 17]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)
. «4»
لا استغفار مع الإصرار «5» فإن التوبة مع غير إقلاع سمه الكذّابين.
وقوله: «السُّوءَ بِجَهالَةٍ» : يعنى عمل عمل الجهّال.
__________
(1) يدل هذا الرأى- فى نظرنا- أولا على فهم صائب لما وراء الحدود الشرعية من مرام بعيدة، ويدل ثانيا على سعة صدر الصوفية فى الصفح عن أرباب الخطايا، وستر معايب الخلائق، ولقد أحسن الحسن البصري حين قال: النصيحة على الملأ فضيحة.
(2) وفى صحيح البخاري ج 8 ص 298 عن ابن عباس: لما أنى ماعز بن مالك النبي (ص) قال له لعلك قبلت او غمزت أو نظرت ... إلخ قال نعم فعند ذلك أمر يرجمه (ومعنى استنكهوه: أي ابحثوا فى فمه عن نكهة الخمر فربما يكون ثملا) . [.....]
(3) وردت (بلغ) وهى خطأ فى النسخ.
(4) أخطأ الناسخ فى كتابة الآية فجاءت (من قريبة) ، (السوء بحجالة) .
(5) أخطأ الناسخ فكتبها (الاسرار) بالسين والمعني يرفضها.(1/320)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وذنب كل أحد يليق بحاله، فالخواص ذنوبهم حسبانهم أنهم بطاعاتهم يستوجبون محلا وكرامة، وهذا وهن فى المكانة إذ لا وسيلة إليه إلا به.
قوله «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» : على لسان أهل العلم: قبل الموت، وعلى لسان المعاملة:
قبل أن تتعود النفس ذلك فيصير لها عادة، قال قائلهم:
قلت للنّفس إن أردت رجوعا ... فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 18]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
يعنى إذا كشف الغطاء وصارت المعارف ضروريه «1» أغلق باب التوبة فإن من شرط التكليف أن يكون الإيمان غيبيا. ثم إن فى هذه الطريقة إذا عرف بالخيانة لا يشم بعده حقيقة الصدق. قال داوود- عليه السّلام- فى آخر بكائه لما قال الله تعالى لم تبكى يا داوود، وقد غفرت لك وأرضيت خصمك «2» وقبلت توبتك؟
فقال: إلهى، الوقت الذي كان بي ردّه إلىّ فقال: هيهات يا داوود، ذاك ودّ قد مصى!! وفى معناه أنشدوا:
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوع
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
__________
(1) المعرفة الضرورية- عند القشيري- هى التي تنال فى الانتهاء أما فى الابتداء فهى معرفة كسبية والأولى تشبه الشمس والثانية تشبه السراج، فإذا طلعت الشمس انبسط شعاعها على السراج (الرسالة ص 149) .
(2) وردت (حضك) ولكن الإرضاء حسبما نعلم من قصة داود كان لخصمه، لذلك رجحنا أن تكون (خصمك) فإرضاء الخصم ملائم لقبول التوبة والغفران.(1/321)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
التلبيس على المستضعفين، والتدليس على أهل السلامة والوداعة من المسلمين- غير محمودين عند الله. فمن تعاط ذلك انتقم الله منه، ولم يبارك له فيما يختزل من أموال الناس بالباطل والاحتيال. ومن استصغر خصمه فى الله فأهون ما يعاقبه الله به أن يحرمه الوصول إلى ما يأمل من محبوبه.
وقوله: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» : أي بتعاليم الدين والتأدب بأخلاق المسلمين وحسن الصحبة على كراهة النفس، وأن تحتمل أذاهن ولا تحملهن كلف خدمتك، وتتعامى عن مواضع خجلتهن.
قوله: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ... » كل ما كان على نفسك أشقّ كانت عاقبته أهنأ وأمرأ.
واعلم أن الحقّ سبحانه لم يطلع أحدا على غيبه، فأكثر ما يعافه الإنسان قد تكون الخيرة فيه أتم. وقد حكم الله- سبحانه- بأن مخالفة النفس توصل صاحبها إلى أعلى المنازل، وبعكس ذلك موافقتها، كما أن مخالفة القلوب توجب عمى البصيرة، وبعكس ذلك موافقتها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)(1/322)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
يعلمهم حسن العهد ونعت الكرم فى العشرة، فيقول لا تجمع الفرقة واسترداد المال عليها، فإن ذلك ترك الكرم فإن خوّلت واحدة مالا كثيرا ثم جفوتها بالفراق فما آتيتها يسير فى جنب ما أذقتها من الفراق.
قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ... : يعنى أن للصحبة السالفة حرمة أكيدة، فقفوا عند مراعاة الذمام، وأوفوا بموجب الميثاق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
تشير الآية إلى حفظ الذمام، والوقوف على حد الاحترام، فإن السّجيّة تتداخلها الأنفة من أن ينكح فراشه غيره، فنهى الأبناء عن تخطى حقوق الآباء فى استفراش منكوحة الأب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)(1/323)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
تكلّف انتزاع المعاني التي لأجلها حصل هذا التحريم محال من الأمر لأن الشرع غير معلّل «1» ، بل الحق تعالى حرّم ما شاء على من شاء، وكذلك الإباحة، ولا علّة للشرائع بحال، ولو كانت المحرّمات من هؤلاء محلّلات [محرمات] «2» لكان ذلك سائغا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
إذا حافظت الحدود، وراعيت العهود، وحصل التراضي بين النساء بحكم الشرع فما لا يكون فيه للخلق خصيمة، ولا من الحق سبحانه منه تبعة، فذلك مباح طلق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
__________
(1) نظن أن هذه النظرة التي يأخذ بها القشيري أمور التشريع قابلة للمناقشة.
(2) هذه كلمة زائدة ولم ينبه الناسخ إلى زيادتها، وربما كانت فى الأصل: «والمحللات محرمات» وحدث سقوط.(1/324)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
الرخص جعلت للمستضعفين، فأما الأقوياء فأمرهم الجدّ، والأخذ بالاحتياط والتضييق إذ لا شغل لهم سوى القيام بحق الحق، فإن كان أمر الظاهر يشغلهم عن مراعاة القلوب فالآخذ فى الأمور الظاهرة بالسهولة والأخف أولى من الاستقصاء فيما يمنع من مراعاة السر، لأنه ترك بعض الأمور لما هو الأهم والأجلّ، فمن نزلت درجته عن الأخذ بالأوثق والأحوط فمباح له الانحدار إلى وصف الترخص «1» .
ثم قال فى آخر الآية: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» : يعنى على مقاساة ما فيه الشدة، وفى هذا نوع استمالة للعبيد حيث لم يقل اصبروا بل قال: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 26]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
لما عرّف النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأمّته أخبار من مضى من الأمم، وما عملوا، وما عاملهم به انتظروا ما الذي يفعل بهم فإن فيهم أيضا من ارتكب ما لا يجوز، فقالوا: ليت شعرنا بأيّ نوع يعاملنا ... أبا لخسف أو بالمسخ أو بالعذاب أو بماذا؟
فقال تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» نعرّفكم ما الذي عملنا بهم.
__________
(1) القاعدة «أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه» ولكن القشيري يرى بالنسبة لأرباب الأحوال أن (الرخصة فى الشريعة للمستضعفين واصحاب الحوائج والأشغال، وهؤلاء الطائفة (الصوفية) ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، ولهذا قيل إذا انحطّ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله تعالى، ونقض عهده فيما بينه وبينه سبحانه) الرسالة ص 199.(1/325)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
«وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أمّا أنتم فأتوب عليكم، أمّا من تقدّم فلقد دمّرت عليهم.
ويقال «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» : أي يكاشفكم بأسراره فيظهر لكم ما خفى على غيركم.
ويقال يريد الله ليبيّن لكم انفراده- سبحانه- بالإيجاد والإبداع، وأنه ليس لأحد شىء.
«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» طريقة الأنبياء والأولياء وهو التفويض والرضاء، والاستسلام للحكم والقضاء.
وقيل «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أي يتقبّل توبتكم بعد ما خلق توبتكم، ثم يثيبكم على ما خلق لكم من توبتكم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 27 الى 28]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
عزل بهذا الحديث حديث الأولين والآخرين.
ومن أراد الله توبته فلا يشمت به عدوّا، ولا يناله فى الدارين سوء.
«وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ... » : إرادتهم منكوسة، وهى عند إرادة الحق- سبحانه- ضائعة مردودة.
ويُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ: يعنى ثقل الأوزار بمواترة الأوراد إلى قلوبكم، ويقال يريد الله أن يخفف عنكم مقاساة المجاهدات بما يلج لقلوبكم من أنوار المشاهدات.
ويقال يريد الله أن يخفف عنكم أتعاب الخدمة بحلاوة الطاعات.
ويقال يخفف عنكم كلف الأمانة بحملها عنكم.
__________
(1) واضح من هذا الكلام أن الفضل كله لله هو الذي يخلق توبة العبد وهو الذي يثيبه على توبته، وقد ربطنا بين هذا وبين ما ذكره القشيري عند (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) التي جاء ذكرها فيما سبق (من هذا الكتاب ص 216)(1/326)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
ويقال يخفف عنكم أتعاب الطلب بروح الوصول.
«وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» : وصف بهذا فقرهم وضرّهم، و ( ... ) «1» بها عذرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
كل نفقة كانت لغير الله فهى أكل مال بالباطل.
ويقال القبض إذا كان على غفلة، والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة «2» ، فكل ذلك باطل، «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» : يعنى بارتكاب الذنوب، ويقال تعريضها لمساخطته سبحانه.
ويقال بنظركم إليها وملاحظتكم إياها.
ويقال باستحسانكم شيئا منها بإيثارها دون رضاء الحق.
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فإنّا لا نخليه من عقوبة شديدة، وهو أن نكلها إلى صاحبها، ونلقى حبلها على غاربها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
الكبائر- على لسان العلم- هاهنا الشّرك بالله، وعلى بيان الإشارة أيضا الشّرك
__________
(1) مشتبهة.
(2) والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة، أي لو كان ما تبذله وأنت تشهد نفسك دون أن تشهد الحق، فهو عمل ضائع، لأنك حينئذ ستحسب قدرا لنفسك.(1/327)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
الخفىّ. ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق، واستحلاء قبولهم، والتودد إليهم، والإغماض على حق الله بسببهم «1» .
ويقال إذا سلم العهد فما حصل من مجاوزة «2» الحد فهو بعيد عن التكفير.
ويقال أكبر الكبائر إثباتك نفسك فإذا شاهدت نفيها «3» تخلّصت «4» من أسر المحن. «وَنُدْخِلْكُمْ» فى أموركم «مُدْخَلًا كَرِيماً» إدخالا حسنا لا ترون منكم دخولكم ولا خروجكم وإنما ترون المصرّف لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
لسان المعاملة أن الأمر بالتعنى لا بالتمني، ولسان التوحيد أن الأمر بالحكم والقضاء لا بالإرادة والمنى. ويقال اسلكوا سبيل من تقدّمكم فى قيامكم بحق الله، ولا تتعرضوا لنيل ما خصّوا به من فضل الله. قوموا بحقّ مولاكم ولا تقوموا بمتابعة هواكم واختيار مناكم.
ويقال لا تتمنوا «5» مقام السادة دون أن تسلكوا سبلهم، وتلازموا سيرهم، وتعملوا عملهم.. فإن ذلك جور من الظن.
ويقال كن طالب حقوقه لا طالب نصيبك على أي وجه شئت: دنيا وآخرة (وإلّا) «6» أشركت فى توحيدك من حيث لم تشعر.
__________
(1) ربما يشترك كثير من الباحثين فى هذا الرأي مع القشيري ولكنه عند أهل الملامة عنصر أساسى وخطير فى تعاليمهم، حيث يزيد إلى درجة استجلاب سخط الناس ولو مهم للعبد.
(2) وردت (بالراء) وهى خطأ فى النسخ، ويكون المعنى إن الله يغفر مجاوزة الحد على شرط سلامة العهد وعدم الشرك.
(3) وردت (ففيها) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(4) وردت بالتاء المربوطة لا المفتوحة وهى خطأ فى النسخ.
(5) وردت بالهاء لا بالميم والصحيح أنها بالميم ويتأيد ذلك بقوله بعد قليل (لا تتمنّ مقامات الرجال) .
(6) إضافة منا ليستقيم المعنى، إذ واضح أنها سقطت من الناسخ.(1/328)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
ويقال لا تتمنّ مقامات الرجال فإنّ لكل مقام أهلا عند الله، وهم معدودون فما لم يمت واحد منهم لا يورث مكانه غيره، قال تعالى: «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» والخليفة من يخلف من تقدّمه، فإذا تمنّيت مقام ولىّ من الأولياء فكأنّك استعجلت وفاته على الجملة تمنيت أو على التفصيل، وذلك غير مسلّم.
ويقال خمودك تحت جريان حكمه- على ما سبق به اختياره- أحظى لك من تعرضك لوجود مناك، إذ قد يكون حتفك فى منيتك.
ويقال من لم يؤدّب ظاهره بفنون المعاملات، ولم يهذّب باطنه بوجوه «1» المنازلات فلا ينبغى أن يتصدّى لنيل المواصلات، وهيهات هيهات متى يكون ذلك! «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» : الفرق «2» بين التمني وبين السؤال من فضله من وجوه:
يكون التمني للشىء مع غفلتك عن ربك فتتمنى بقلبك وجود ذلك الشيء من غير توقعه من الله، فإذا سألت الله فلا محالة تذكره، والآخر أن السائل لا يرى استحقاق نفسه فيحمله صدق الإرادة على التملّق والتضرع، والمتمنى يخلو عن هذه الجملة.
والآخر أن الله نهى عن تمنى ما فضل الله به غيرك إذ معناه أن يسلب صاحبك ما أعطاه ويعطيك إياه، وأباح السؤال من فضله بأن يعطيك مثل ما أعطى صاحبك.
ويقال لا تتمنّ العطاء وسل الله أن يعطيك من فضله الرضا بفقد العطاء وذلك أتمّ من العطاء، فإنّ التّحرّر من رقّ الأشياء أتمّ من تملّكها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
جعل المعاقدة فى ابتداء الإسلام نظيرة النّسب فى ثبوت الميراث بها فنسخ حكم الميراث
__________
(1) وردت (بوجوده) والصواب أن الدال زائدة ليتلاءم المعنى مع (فنون) كذلك فإن (بوجوده المنازلات) غير مستقيمة.
(2) لاحظ كيف تثرى بحوث القشيري التي من هذا القبيل علوم اللغة والبلاغة.(1/329)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
وبقي حكم الاحترام، فإذا كانت المعاقدة بين الناس بهذه المثابة فما ظنّك بالمعاهدة مع الله؟.
قال الله تعالى: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» وأنشدوا:
إنّ الألى ماتوا على دين الهوى ... وجدوا المنيّة منهلا معسولا
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
خصّ «1» الرجال بالقوة فزيد بالحمل عليهم فالحمل على حسب القوة. والعبرة بالقلوب والهمم لا بالنفوس والجثث.
قوله: «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» : أي ارتقوا فى تهذيبهن بالتدريج والرفق، وإن صلح الأمر بالوعظ فلا تستعمل العصا بالضرب، فالآية تتضمن آداب العشرة.
ثم قال: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» : يعنى إن وقفت فى الحال عن سوء العشرة (........) «2» ورجعت إلى الطاعة فلا تنتقم منها عمّا سلف، ولا تمتنع من قبول عذرها والتأبّى عليها.
يقال: «فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» بمجاوزتك عن مقدار ما تستوجب «3» من نقمتك.
__________
(1) جاءت (حضّ) أي أخطأ الناسخ فنقل نقطة الخاء إلى الضاد.
(2) هنا ثلاث كلمات زائدة وضع الناسخ علامة مميزة للتنبيه على ضرورة حذفها لتكرارها بدون داع.
(3) أي تستحق المرأة.(1/330)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
يقال لك عليها الطاعة بالبدن، فأمّا المحبة والميل إليك بالقلب فذلك إلى الله، فلا تكلّفها مالا يرزقك الله منها فإن القلوب بقدرة الله، يحبّب إليها من يشاء، ويبغّض إليها من يشاء.
ويقال «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» أي لا تنس وفاءها فى الماضي بنادر «1» جفاء يبدو فى الحال فربما يعود الأمر إلى الجميل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
قوله
[سورة النساء (4) : آية 37]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)
: العبودية معانقة الأمر ومفارقة الزجر «2» .
«وَلا تُشْرِكُوا» الشّرك مجليّه اعتقاد معبود سواه، وخفيّه: ملاحظة موجود سواه،
__________
(1) لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (ببادر) والمعنى يتقبل (نادر) و (بادر) فكلاهما يدل على قدر من الحفاء لا يستحق الاهتمام ويستوجب العفو.
(2) أي طاعة ما أمرك به وترك ما نهاك عنه.(1/331)
والتوحيد أن تعرف أنّ الحادثات كلّها حاصلة بالله، قائمة به فهو مجريها ومنشيها ومبقيها، وليس لأحد ذرة ولا شظية ولا سينة ولا شمة من الإيجاد والإبداع.
ودقائق الرياء وخفايا المصانعات وكوامن الإعجاب والعمل على رؤية الخلق، واستحلاء مدحهم والذبول تحت ردّهم وذمّهم- كلّ ذلك من الشّرك الخفىّ.
قوله: «وَبِالْوالِدَيْنِ» الإحسان إلى الوالدين على وجه التدريج إلى صحبة فإنك أمرت أولا بحقوقهما لأنهما من جنسك ومنهما تربيتك، ومنهما تصل إلى استحقاق زيادتك وتتحقق بمعرفتك. وإذا صلحت للصحبة والعشرة مع ذوى القربى والفقراء والمساكين واليتامى ومن فى طبقتهم- رقّيت عن ذلك إلى استيجاب صحبته- سبحانه.
قوله: «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ... » الآية من جيرانك (....) «1» فلا تؤذهما بعصيانك، وراع حقهما بما تولى عليهما من إحسانك.
فإذا كان جار دارك مستوجبا للإحسان إليه ومراعاة حقه فجار نفسك- وهو قلبك- أولى بألا تضيّعه ولا تغفل عنه، ولا تمكّن حلول الخواطر الرديئة به.
وإذا كان جار نفسك هذا حكمه فجار قلبك- وهو روحك- أولى أن تحامى على حقّها، ولا تمكّن لما يخالفها من مساكنتها ومجاورتها. وجار روحك- وهو سرّك- أولى أن ترعى حقّه، فلا تمكنه من الغيبة عن أوطان الشهود على دوام الساعات.
قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الإشارة منه غير ملتبسة على قلوب ذوى التحقيق.
قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... الآية: البخل على لسان العلم منع الواجب، وعلى بيان الإشارة ترك الإيثار فى زمان الاضطرار. وأمر الناس بالبخل معناه منعهم عن مطالبات الحقائق فى معرض الشفقة عليهم بموجب الشرع، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ عن العلائق وحذف فضولات الحالة فمن نصحه بأن يقول: «ربما لا تقوى على هذا، ولأن تكون مع معلومك الحلال أولى بأن تصير مكديا، وربما تخرج إلى سؤال الناس وأن تكون كلّا على
__________
(1) مشتبهة.(1/332)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
المسلمين- ويروى له فى هذا الباب الأخبار والآثار أمثال هذا....» فلولا بخله «1» المستكن فى قلبه لأعانه بهمته فيما يسنح لقلبه «2» بدل أن يمنع عنه ما (يجب ان) يقول فى معرض النصح. ومن كانت هذه صفته أدركه عاجل المقت حيث أطفأ شرر إرادة ذلك المستضعف بما هو عند نفسه أنه نصيحة وشفقة فى الشرع.
وقوله: «وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» : إن كان الله أغناهم عن طلب الفضيلة بما خوّلهم وآتاهم كتموا ذلك طمعا فى الزيادة على غير وجه الإذن.
ويقال يكتمون ما آتاهم الله من فضله إذا سألهم مريد شيئا عندهم فيه نجاته، وضنوا عليه بإرشاده.
ويقال بخل الأغنياء بمنع النعمة، وبخل الفقراء بمنع الهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 38]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)
أدخل هؤلاء أيضا تحت قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» فعقوبتهم فى العاجل أنهم ليسوا من جملة محبّيه، وكفى بذلك محنة.
والمختال الذي ينظر إلى نفسه والمرائى الذي ينظر إلى أبناء جنسه، وكلاهما مسوّمان بالشرك الخفىّ والله لا يحب المشركين. والفخور من الإبل كالمصراة من الغنم وهو الذي سدّت أخلافه ليجتمع فيها الدّرّ «3» فيتوهم المشترى أن جميع ذلك معتاد لها وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا ورتبة وهو فى ذلك مدع وهو الفخور، والله لا يحبه، وكذلك المرائى الذي ينفق ماله رئاء الناس.
__________
(1) حاول بعضهم أن يصححها فى الهامش فطن أن صوابها (تجعله) والصحيح أنها (بخله) .
(2) يستعمل القشيري الفعل (يسنح) للدلالة على ما يرد القلب من خواطر قد تصبح هواجس فنشده نحو العلائق والخلائق، وقد تكون إلهاما من قبل الحق سبحانه فتهديه السبيل.
(3) الدّر- اللبن الغزير. [.....](1/333)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 39]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
ليس فى إيمانهم بالله عليهم مشقة، بل لو آمنوا لوصلوا إلى عزّ الدنيا والآخرة، ولا يحملهم على الإعراض عنه إلا قلة الوفاء والحرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
لا ينقص من ثوابهم شيئا بل يبتدئهم- من غير استحقاقهم- بفضله، ويضاعف أجورهم على أعمالهم فأمّا الظلم فمحال تقديره فى وصفه لأن الخلق خلقه، والملك ملكه.
والظالم من يعتدى حدا رسم له- وهو فى وصفه محال لعزّه فى جلال قدره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
إذا كان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- الشهيد على أمته، وهو الشفيع لهم، فإنما يشهد بما يبقى للشفاعة موضعها.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: يحصلون على ندم ثم لا ينفعهم، ويعضون على أناملهم ثم لا يسكن عنهم جزعهم، فيتقنعون بخمار الذّل، وينقلبون إلى أوطان المحن «1» والضر.
__________
(1) وردت (المحسن) والسين زيادة من الناسخ والصواب (المحن) .(1/334)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
النّهى عن موجب السكر من الشراب لا من الصلاة، أي لا تصادفنكم الصلاة وأنتم بصفة السّكر، أي امتنعوا عن شرب ما يسكر فإنكم إن شربتم سكرتم، ثم إذا صادفكم الصلاة على تلك الحالة لا تقبل منكم صلاتكم.
والسّكر ذهاب العقل والاستشعار، ولا تصحّ معه المناجاة مع الحق.
المصلّى يناجى ربّه فكلّ ما أوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملحق بهذا من حيث الإشارة ولأجل هذه الجملة حصل، والسكر على أقسام:
فسكر من الخمر وسكر من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا.
وأصعب السكر سكرك من نفسك فهو الذي يلقيك فى الفرقة عنه، فإنّ من سكر من الخمر فقصاراه الحرقة- إن لم يغفر له. ومن سكر من نفسه فحاله الفرقة- فى الوقت- عن الحقيقة.
فأمّا السكر الذي يشير إليه القوم «1» فصاحبه محفوظ عليه وقته حتى يصلى والأمر مخفف عليه: (فإذا خرج عن الصلاة هجم عليه غالبه فاختطفه عنه ومن لم يكن محفوظا) «2» عليه أحكام الشرع (فمشوب بحظّ) «3» .
__________
(1) أي السكر عند الصوفية.
(2) هذا الذي بين قوسين مستدرك فى هامش الصفحة وضعناه فى موضعه من النص.
(3) (فمشوب بحظ) وضعنا هاتين اللفظتين هنا مستفيدين من أقوال القشيري فى مواضع مناظرة(1/335)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
وقوله تعالى: «وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ... » الآية: أذن للمضطر أن يترخّص فى عبور المسجد وهو على وصف الجنابة، فإذا عرج زائدا على قدر الضرورة فمعاتب غير معذور، وكذلك فيما يحصل من معاذير الوقت فى القيام بشرائط الوقت فمرفوعة عن صاحبه المطالبة به.
ثم إنه- سبحانه- بفضله جعل التيمم بدلا من الطهارة بالماء عند عوز الماء كذلك النزول إلى ساحات الفرق عن ارتقاء ذرة «1» الجمع- بقدر ما يحصل من الضعف- بدل لأهل الحقائق.
ثم إن التيمم- الذي هو بدل الماء- أعمّ وجودا من الماء، وأقلّ استعمالا من الأصل، فإن كل من كان أقرب كانت المطالبات عليه أصعب.
ثم فى الظاهر أمرنا باستعمال التراب وفى الباطن باستشعار الخضوع واستدامة الذبول «2» .
وردّ التيمم إلى التقليل، وراعى فيه صيانة لرأسك عن التّراب ولقدمك فإنّ العزّ بالمؤمن- ومولاه باستحقاق الجلال- أولى من الذل لما هو مفلس فيه من الحال، ولئن كان إفلاسه عن أعماله يوجب له التذلّل فعرفانه بجلال سيّده يوجب كل تعزّز وتجمّل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
__________
فى مصنفاته الأخرى، وذلك نظرا لانبهام الكلمتين هنا لرداءة خط الناسخ (انظر حديث القشيري عن السكر فى الرسالة ص 41) .
(1) نرجح أنها في الأصل (ذروة الجمع) وأن الواو قد سقطت من الناسخ.
(2) لأن فيه تذكيرا للانسان بأصله.(1/336)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
ومكروا مكرا ولم يشعروا وجهة مكرهم أن أعطوا الكتاب ثم حرموا بركات الفهم حتى حرّفوا وأصرّوا.
قوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... الآية: تركوا حشمة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ورفضوا حرمته، فعوقبوا بالشك فى أمره، ولذلك لم يترك أحد حشمته (محتشم) «1» إلا حيل بينه وبين نيل بركات صحبته وزوائد خدمته. ولو أنهم عاجلوا فى نفى ما داخلهم من الحسد وقابلوا حاله بالتبجيل والإعظام لوجدوا بركات متابعته، فأسعدوا به فى الدارين، وكيف لم يكونوا كذلك وقد أقصتهم السوابق فأقعدتهم القسمة عن بساط الخدمة؟ وإنّ من قعدت به الأقدار لم ينهض به الاحتيال.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
صرف القلوب عن الإرادة إلى أحوال أهل العادة حتى كانت دواعيه يتوفر فى رفض الدنيا فعاد لا يصبر عن جمعها «2» ومنعها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
__________
(1) نرجح أن هذه الكلمة زائدة من الناسخ، أو ربما كان الأصل (حشمة محتشم) .
(2) وردت (جميعها) وهى خطأ فى النسخ.(1/337)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
العوام طولبوا بترك الشرك الجلىّ، والخواص طولبوا بترك الشرك الخفىّ، فمن توسّل إليه بعمله ويظنه منه، أو توهّم أن أحكامه- سبحانه- معلولة بحركاته وسكناته، أو راعى خلقا أو لاحظ نفسا فوطنه الشرك عند أهل الحقائق «1» .
والله لا يغفر أن يشرك به وكذلك من توّهم أن مخالفته حصلت من غير تقديره فهو ملتحق بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
من ركن إلى تزكية الناس له، واستحلى قبول الخواص له- فضلا عن العوام- فهو من زكّى نفسه، ورؤية النّفس أعظم حجاب، ومن توّهم أنه بتكلّفه يزكّى نفسه: بأوراده أو اجتهاده، بحركاته أو سكناته- فهو فى غطاء جهله.
قوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ ... الآية: الإشارة إلى من أطلق لسان الدعوى من غير تحقيق، والمفترى- فى قالته فى هذا الأمر- لا ينطق بشىء إلا أجبّته الآذان وانزجرت له القلوب، فإذا سكت عاد إلى قلب خراب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
__________
(1) يقول زكريا الأنصاري شارح الرسالة: (من كانت أفعاله لله تعالى وشاهدها طاعة له تعالى فهو فى التفرقة ومن شاهدها جارية عليه فضلا من الله فقد شاهدها بالله فهو فى الجمع (هامش 39) .(1/338)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
طاغوت كلّ أحد نفسه وهواه وجبته و (.....) «1» مقصوده من الأغيار، فمن لاحظ شخصا أو طالع سببا أو عرّج على علّة أو أطاع هوى، فذلك جبته وطاغوته. وأصحاب الجبت والطاغوت يستوجبون اللعن وهو الطرد عن بساط العبودية، والحجاب عن شهود الربوبية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 54]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)
من جبل على الشّحّ لا يزداد بسعة يده إلا تأسفا على راحة ينالها الخلق، كأنّ من شرب قطرة ماء قد تحسّى بل رشف من ماء حياته! قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ... : بل ينكرون تخصيص الحق سبحانه لأوليائه بما يشاء حسدا من عند أنفسهم فلا يقابلونهم بالإجلال، وسنّة الله سبحانه مع أوليائه مضت بالتعزيز والتوقير لهم. ودأب الكافرين جرى بالارتياب فى القدرة فمنهم من آمن بهم، ومنهم من ردّ ذلك وجحد، وكفى بعقوبة الله منتقما عنهم.
قوله: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» : الملك العظيم معرفة الملك، ويقال هو الملك على النّفس.
__________
(1) مشتبهة.(1/339)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
ويقال الإشراف على أسرار المملكة حتى لا يخفى عليه شىء.
ويقال الاطلاع على أسرار الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)
الإشارة منه إلى الجاحدين لآيات الأولياء يقيمهم بوصف الصغار ويبقيهم فى وحشة الإنكار «1» كلّما لاح لقلوبهم شىء من هذه القصة «2» جرّهم إنكارهم إلى ترك الإيمان بها والإزراء بأهلها على وجه الاستبعاد، فهم مؤبدة عقوبتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 57]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
هم اليوم فى ظل الرعاية، وغدا فى ظل الحماية والكفاية، بل هم فى الدنيا والعقبى فى ظل العناية.
والناس فى هذه الدنيا متفاوتون: فمنهم من هو فى ظل رحمته، ومنهم من هو فى ظل رعايته، ومنهم من هو فى ظل كرامته، ومنهم من هو فى ظل عنايته، ومنهم من هو فى ظل قربته.
__________
(1) وردت (الأفكار) بالفاء والصواب- حسب المعنى والسياق- وكما جاء بعد قليل فى (وجرهم إنكارهم) أن تكون (الإنكار) .
(2) يقصد من (القصة) : التصوف وأهله.(1/340)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال «1» الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم.
ويقال لله- سبحانه وتعالى- أمانات وضعها عندك فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله- سبحانه- سالمة من خيانتك فيها فالخيانة فى أمانة القلب ادعاؤك فيها، والخيانة فى أمانة السّرّ ملاحظتك إياها.
والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب والبعيد فى العطاء والبذل، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
قرن طاعته بطاعة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- تفخيما لشأنه ورفعا لقدره.
وأمّا أولوا الأمر- فعلى لسان العلم- السلطان، وعلى بيان المعرفة العارف ذو الأمر على المستأنف، والشيخ أولو الأمر على المريد، وإمام كل طائفة ذو الأمر عليهم.
__________
(1) وردت (أحوال) والصواب أنها (أموال) لأن الأحوال لا تكون ودائع للناس عندك بل أموالهم [.....](1/341)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
ويقال الولي أولى بالمريد (من المريد) «1» للمريد.
قوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ» على لسان العلم- إلى الكتاب والسّنّة، وعلى بيان التوحيد فوّض ذلك ووكل علمه إلى الله سبحانه، وإذا اختلف الخاطران فى قلب المؤمن فإن كان له اجتهاد العلماء تأمل ما يسنح لخاطره بإشارة فهمه، ومن كان صاحب قلب وكل ذلك إلى الحق- سبحانه- وراعى ما خوطب به فى سرائره، وألقى- بلا واسطة «2» - فى قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 60]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)
أظهروا الإخلاص، ونافقوا فى السّر، ففضحهم- سبحانه- على لسان جبريل عليه السّلام بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» أي يرفضوه.
فمن حاد عن طريقه ورجع إلى غير أستاذه استوجب الحرمان والذم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 61]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
كل شىء سوى كلمة الحق فهو خفيف على المنافقين، فأمّا التوحيد فلا يسمع كلمته إلا مخلص، وأهل الفترة فى الله وأصحاب النفرة لا يسمعون ما هو الحق لأن خلاف الهوى يشقّ على غير الصديقين. وكما أن ناظر الخلق «3» لا يقوى على مقابلة الشمس فكذلك
__________
(1) هذا استدراك موجود فى هامش الصفحة أثبتناه فى موضعه من النص.
(2) تأمل جيدا (بلا واسطة) فهذا وصف هام للمعرفة عند الصوفية، يميزها ويكشف جوهرها.
(3) أي العين.(1/342)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
المنافقون لم يطيقوا الثبات له- صلّى الله عليه وسلّم- فلذلك كان صدودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 62]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
تضرّع غير المخلص عند هجوم الضّر «1» لا أصل له، فلا ينبغى أن يكون به اعتبار لأن بقاءه إلى زوال المحنة، والمصيبة العظمى ترك المبالاة (بما يحصل من التقصير) «2» .
ويقال من المصيبة أن يمحقك وقتك فيما لا يجدى عليك «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 63]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
أبسط لهم لسان الوعظ بمقتضى الشفقة عليهم، ولكن انقبض بقلبك عن المبالاة بهم والسكون إليهم، واعلم «4» أن من لا نكون نحن له لا يغنى عنه أن تعينه «5» شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 64]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
ما أمرنا الرسل إلّا بدعوة الخلق إلينا.
__________
(1) وردت (الضرورة) والصواب (الضر) فالمعنى يقتضى ذلك ويؤيد أن الخطأ في النسخ.
(2) ما بين قوسين تكملة وجدناها ضرورية لتوضيح المعنى فاستفدنا مما جاء فى موقف مشابه فى الرسالة ص 34 حيث يقول (وترك المبالاة بما يحصل منك من التقصير خروج عن الدين) .
(3) من أقوالهم فى الوقت: الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك، والوقت سيف فكما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.
(4) وردت (ما علم) وهى خطأ فى النسخ، وربما كانت (فاعلم) فى الأصل واشتبهت على الناسخ.
(5) (أن تعينه) المصدر المؤول من ان والفعل (أي عونك له) يقع فاعلا للفعل (يغنى) .(1/343)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
وقوله: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ» . لو جعلوك ذريعتهم لوصلوا إلينا، ويقال لو لازموا التذلل والافتقار وركبوا مطية الاستغفار لأناخوا بعقوة المبار.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 65]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
سدّ الطريق- إلى نفسه- على الكافة إلا بعد الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لم يمش تحت رايته فليس له من الله نفس.
ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضات بالكلية بقلبك.
قوله: «ثُمَّ لا يَجِدُوا ... » : فلا بدّ لك من ( ... ) «1» تلك المهالك بوجه ضاحك، كما قال بعضهم:
وحبيب إن لم يكن منصفا كنت منصفا ... أتحسّى له الأمرّ وأسقيه ماصفا
إن يقل لى انشقّ ... اخترت رضا لا تكلّفا
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
أخبر عن سقم إخلاصهم وقوة إفلاسهم، ثم أخبر الله بعلمه بتقصيرهم.
خلاهم عن كثير من الامتحانات ثم قال ولو أنهم جنحوا إلى الخدمة، وشدّوا نطاق الطاعة
__________
(1) هنا كلمة ناقصة ربما كانت (مواجهة) أو (مقابلة) تلك المهالك بوجه ضاحك.(1/344)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
لكان ذلك خيرا لهم من إصرارهم على كفرهم واستكبارهم. ولو أنهم فعلوا ذلك لآتيناهم من عندنا ثوابا عظيما، ولأرشدناهم صراطا مستقيما ولأوليناهم عطاء مقيما.
والأمر- على بيان الإشارة- يرجع إلى مخالفة الهوى وذبح النفوس بمنعها عن المألوفات، والخروج من ديار (تقبّل النّفس) «1» ، ومفارقة أوطان (إرادة) «2» الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
جعل طاعة المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- مفتاح الوصول إلى مقامات النبيين والصديقين والشهداء على الوجه الذي يصحّ للأمة وكفى له عليه السّلام بذلك شرفا.
ثم قال: «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ» : جرّد عليهم محلّهم عن كل علة واستحقاق وسبب فإن ما لاح لهم وأصابهم صرف فضله وابتداء كرمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) .
__________
(1) وضع الناسخ (تقبل النفس) فى مكان خاطئ يبهم المعنى إذ وضعها قبل (على بيان الإشارة) والصواب أن تكون في مكانها الذي اخترناه حتى يستقيم السياق.
(2) وردت (أراد) بدون همز للألف وبدون تاء مربوطة فاخترنا (إرادة) لملاءمتها للسياق.(1/345)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
الفرار إلى الله من صفات القاصدين، والفرار مع الله من صفات الواصلين فلا يجد القرار مع الله إلا من صدق فى الفرار إلى الله. والفرار من كل غير شأن كل موحّد.
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... الآية: أي لم تستقر عقائدهم على وصف واحد، فكانوا مرتبطين بالحظوظ فإذا رأوا مكروها يظلّ المسلمين شكروا وقالوا: الحمد الله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم، وتمنوا أن لو كانوا معكم، خسروا فى الدنيا والآخرة: فهم لا كافر قبيح ولا مؤمن مخلص.
قوله: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» : يعنى طرحوا حشمة الحياة فلم يراعوا حرمتكم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
من لم يقتل نفسه فى نفسه لا يصحّ جهاده بنفسه فأولا (إخراج خطر الروح) «1» من القلب ثم تسليم النفس للقتل.
وقوله «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» يعنى بقاؤنا بعده خير له من حياته بنفسه لنفسه، قال قائلهم:
ألست لى عوضا منى؟ كفى شرفا ... فما وراءك لى قصد ومطلوب
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 75]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) .
__________
(1) هكذا فى النسخة (ص) وربما كان المقصود أنك لا تستطيع أن تبذل نفسك إلا إذا قويت على قهرها والتهوين من خطرها.(1/346)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
أي شىء يمنعكم عن القتال فى سبيل الله؟ وما الذي لا يرغّبكم فى بذل المهجة «1» لله؟
وماذا عليكم لو بذلتم أرواحكم فى الله ولله؟ أتخافون أن تخسروا على الله؟ أم لا تعلمون أنكم تحشرون إلى الله؟ فلم لا تكتفون ببقائه بعد فنائكم فى الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
المخلصون لله لا يؤثرون شيئا على الله، ولا يضنون بشىء عن الله، فهم أبدا على نفوسهم لأجل الله، والذين كفروا على العكس من أحوال المؤمنين. ثم قوّاهم وشجّعهم بقوله:
«فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» أي لا تضمروا لهم مخافة، فإنى متوليكم وكافيكم على أعدائكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
أخرجوا أيديكم عن أموركم، وكلوها إلى معبودكم.
ويقال اقصروها عن أخذ الحرام والتصرف فيه.
ويقال امتنعوا عن الشهوات.
ويقال «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» إلا عن رفعها إلى الله فى السؤال بوصف الابتهال.
__________
(1) وردت (المحجة) بالحاء وهذا خطا فى النسخ وصوابها (المهجة) لملاءمتها للسياق.(1/347)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
فلمّا كتب عليهم القتال استثقلوا أمره، واستعجلوا لطفه. والعبودية فى ترك الاستثقال، ونفى الاستعجال، والتباعد عن التبرم والاستثقال.
قوله جل ذكره: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا.
مكنّك من الدنيا ثم قال: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ» ، فلم يعدّها شيئا لك ثم لو تصدّقت منها بشقّ تمرة لتخلّصت من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم.
واستقلال الكثير من نفسك- لأجل حبيبك- أقوى أمارات صحبتك.
ويقال لما زهّدهم فى الدنيا قلّلها فى أعينهم ليهون (عليها «1» ) تركها.
ويقال قل متاع الدنيا بجملتها قليل، والذي هو نصيبك منها أقلّ من القليل، فمتى يناقشك لأجلها (بالتخليل) «2» ، لو سلم عهدك من التبديل؟
وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخسّ من الخسيس من رضى بالخسيس بدلا عن النفيس.
وقد اختلع المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ» (فأحفظهم) «3» عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) .
__________
(1) الضمير فى (عليها) يعود على أعينهم، وربما كانت فى الأصل (عليهم) فيعود الضمير على الزهاد. [.....]
(2) نرجح أنها فى الأصل (التحليل) إشارة إلى قوله (ص) حلالها حساب وحرامها عقاب.
(3) نرجح أنها فى الأصل (فاختطفهم) عن الدنيا بالعقبى ثم سلبهم ... فهذا أقرب إلى مراحل تدرج الفناء الصوفي.(1/348)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
الموت فرح للمؤمن، فالخبر عن قربه بشارة له، لأنه سبب يوصله إلى الحق، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.
ويقال إذا كان الموت لا بد منه فالاستسلام لحكمه طوعا خير من أن يحمل كرها.
ثم أخبر أنهم- لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم- إذا أصابتهم حسنة فرحوا بها، وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرق المجوسىّ «1» فأضافوه «2» إلى المخلوق، فردّ عليهم وقال: قل لهم يا محمد كلّ من عند الله خلقا وإبداعا، وإنشاء واختراعا، وتقديرا وتيسيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 79]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا «3» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 80]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
هذه الآية تشير إلى الجمع لحال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم، فقال سبحانه طاعته طاعتنا، فمن تقرّب منه تقرّب منا، ومقبوله مقبولنا، ومردوده مردودنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 81]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
__________
(1) لعل القشيري يقصد بذلك إلى أنهم بنسبتهم شيئا لغير الله يشركون، وينأون عن التوحيد.
(2) أخطأ الناسخ فنقلها (فاذاقوه) فصوبناها بما يلائم السياق.
(3) هذا تلخيص دقيق لرأى القشيري فيما يصيب العباد.(1/349)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
يعنى إذا حضروك «1» استسلموا فى مشاهدتك، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك، فعادوا إلى ظلمات، كما قالوا:
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضنى عاد إلى نكسة
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
تدبر إشارة المعاني بغوص الأفكار، واستخراج جواهر المعاني بدقائق الاستنباط.
قوله: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ ... : لمّا كانوا غافلين عن الحق لم يكن لهم من ينقل إليه أسرارهم فأظهروا السرّ بعضهم لبعض. فأمّا المؤمنون فعالم أسرارهم مولاهم، وما يسنح لهم خاطبوه فيه فلم يحتاجوا إلى إذاعة السّر لمخلوق فسامع نجواهم الله، وعالم خطابهم الله.
قوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ... » أي لو بثّوا «2»
__________
(1) أخطأ الناسخ فنقلها (حقروك) فصوبناها بما يلائم السياق.
(2) كتبها الناسخ (ثبوا) فصوبناها بما يلائم السياق: (بثوا أسرارهم) .(1/350)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
أسرارهم عند من هو (....) «1» ومن هو من أهل القصد لأزالوا عنهم الإشكال، وأمدوهم بنور الهداية والإرشاد «2» .
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ» مع أوليائه لهاموا فى كل واد من التفرقة كأشكالهم فى الوقت.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
استقم معنا بتسليم الكلّ منك إلى أمرنا فإنّك- كما لا يقارنك أحد فى رتبتك لعلوّك على الكل- فنحن لا نكلّف غيرك بمثل ما تكلفت، ولا نحمّل غيرك ما تحملت لانفرادك عن أشكالك فى القدوة «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
الشفيع يخلّص للمشفوع له حاله. ويستوجب الشفيع- من الله سبحانه على شفاعته- عظيم الرتبة، ومن سعى فى أمرنا بالفساد تحمّل الوزر واحتقب الإثم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 86]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
__________
(1) مشتبهة، وما بعدها قد يكفى عنها.
(2) فى هذا الخصوص بحث القشيري فى إحدى وصاياه على ألا يقضى المريد بذات نفسه إلا لأوباب الطريقة من الشيوخ إذ يقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب غير هذه الطريقة. فحجج أهلها- فى مسائلهم- أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب، والذي للناس غيب فهو لهم ظهور فهم من أهل الوصال، والناس أهل استدلال الرسالة ص 197، 198.
(3) لا نستبعد أيضا أنها فى الأصل (القدرة) لتلائم التكليف والتحمل والمعنى يتقبل (القدوة) و (القدرة) .(1/351)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة. وإن من حمّلك فضلا صار ذلك- فى ذمتك- له قرضا، فإمّا زدت على فعله وإلّا فلا تنقص عن مثله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
هذا الخطاب يتضمن نفيا وإثباتا فالنفى يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
(....) «1» العهد فيهم أنهم أعدائى، لا ينالون منّى فى الدنيا والعقبى رضائى، وإنكم لا تنقذون بهممكم من أقمته بقسمتي «2» فإن المدار على القسم دون (....) «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 90]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
__________
(1) مشتبهة.
(2) أي ما قسمته له فى سابق الآزال لا قدرة لمخلوق على تغييره.
(3) سقطت كلمة من الناسخ ربما كانت (الاحتيال) وربما كانت (الهمم) فكلاهما يفيد أنه لا منجاة لإنسان بعمله وحده بل المدار على القسمة.(1/352)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الإشارة إلى أرباب التخليط والأحوال السقيمة يتمنون أن يكون الصديقون منهم، وهيهات أن يكون لمناهم تحقيق! ومادام المخالفون لكم غير موافقين فبائنوهم وخالفوهم ولا تطابقوهم بحال، ولا تعاشروهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا وموافق لك فى قصدك خير لك من مخالف على الكره تعاشره.
قوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ... الإشارة من هذه الآية أن عند الاعذار أذن فى معاشرة فى الظاهر «1» رفقا بالمستضعفين.
«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ... » الإشارة منه أنه إذا عاشركم من ليس من أهل القصة معرجين فى أوطان نصيبهم فلا تدعوهم إلى طريقتكم وسلّموا لهم أحوالهم. فإن أمكنكم أن تلاحظوهم بعين الرحمة بحيث تؤثر فيهم همتكم «2» وإلا فسلّموا لهم أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
__________
(1) أي أن الصحبة والمعاشرة ينبغى ألا يصل أمرهما الى حد المساكنة، لأن صحبة الحق أولى من كل غير ... وهذا مبدأ نادى به القشيري وطبقه على نفسه إبان محنته الأليمة. [.....]
(2) وردت (همتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن المعنى يتطلب (همتكم) .(1/353)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيه، ولم يرتفع عزمه، فكما لا يكون شخص واحد منافقا ومسلما لا يكون شخص واحد مريدا للحق ومقيما على أحكام أهل العادة. فإن الإرادة والعادة ضدان «1» ، والواجب مباينة الأضداد، ومجانبة الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
خفف أمر الخطأ على فاعله حتى حمّل موجب قتل الخطأ على العاقلة فالخواص عاقلة المستضعفين من الأمة، وأهل المعرفة عاقلة المريدين، والشيوخ عاقلة الفقراء فسبيلهم أن يحملوا أثقال المستضعفين فيما ينوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
كما يحرّم قتل غيرك عليك يحرّم قتل نفسك عليك، ومن اتّبع هواه سعى فى دم نفسه، ومن لم ينصح مريدا بحسن وعظه ولم يعنه بهمته فقد سعى فى دمه، وهو مأخوذ بحاله
__________
(1) الناس- عند القشيري- إما أهل العادة أو أهل الإرادة.(1/354)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وخليق «1» بأن تكون له عقوبة الأذية بألا يتمتع بما ضنّ به على المريدين من أحواله: ولقد قال- سبحانه-: يا داود إذا رأيت لى طالبا فكن له (خادما) «2» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
«3» عاشروا الناس على ما يظهرون من أحوالهم، ولا تتفرّسوا فيهم بالبطلان فإنّ متولّى الأسرار الله «4» . هذا إذا كان غرض فاسد يحملكم عليه من أحكام النّفس، فأمّا من كان نظره بالله ولم ينستر عليه شىء فليحفظ سرّ الله فيما كوشف به، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
__________
(1) وردت (وحقيقة بأن) وصوابها وحقيق بان ولكننا آثرنا (وخليق بأن) حتى يمتنع اللبس.
(2) مشتبهة هنا ولكنها واضحة فى موضع سبق (انظر تفسير آية وأنبتها نباتا حسنا ص 237
(3) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها.
(4) تدل هذه النظرة على سماحة الصوفية واتساع صدورهم، فالأصل عندهم أن كل الناس طيبون، ويجب أن تحسن الظن بهم جميعا، ونتقبل ظواهرهم تاركين أسرارهم للمولى سبحانه.(1/355)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
الحقّ سبحانه جمع جميع أوليائه فى أفضاله لكنه غابر بينهم فى الدرجات، فمن غنيّ ومن عبد هو أغنى منه «1» ، ومن كبير ومن هو أكبر منه، هذه الكواكب درّية ولكن القمر فوقها، وإذا طلعت الشمس بهرت الجميع بنورها! قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 97]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97)
الإشارة منه إلى من أدركه الأجل وهو فى أسر نفسه وفى رقّ شهواته- ليس له عذر حيث لم يهاجر إلى ظلّ قربته ليتخلّص من هوى نفسه «2» إذ لا حجاب بينك وبين هذا الحديث إلا هواك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 98 الى 99]
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
الإشارة منه إلى الذين ملكتهم المعاني فأفنتهم عنهم، فبقوا مصرّفين له، لا لهم حول ولا قوة، يبدو عليهم ما يجريه- سبحانه- عليهم، فهم بعد عود نفوسهم بحق الحقّ محو عنهم، فلا يهتدون إلى غيره سبيلا، ولا يتنفّسون لغيره نفسا.
__________
(1) واضح أن القشيري يقصد الغنى فى الأحوال لا الغنى فى الأموال فليس لهذه كبير قيمة.
(2) وردت هكذا (هوى نفسه) فصوبناها.(1/356)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
ويقال على موجب ظاهر الآية إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بالعفو.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
من هاجر فى الله عما سوى الله، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة فى عفوة الكرم، ومقيلا فى ذرى القبول، وحياة وسعة فى كنف القرب.
والمهاجر- فى الحقيقة- من هجر نفسه وهواه، ولا يصحّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته، ومن قصده ثم أدركه الأجل قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محطّ روحه إلا أوطان قربه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
القصر فى الصلاة سنّة فى السفر، وكان فى ابتداء الشرع عند الخوف «1» ، فأقرّ ذلك مع زوال الخوف رفقا بالعباد، فلما دخل الفرض القصر لأجل السفر عوضوا بإباحة النّفل فى السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي ليعلم أنّ الإذن
__________
(1) لأن فى مبدا الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو فى سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ... ويرى ابن عمر أن هناك فرقا بين صلاة السفر وصلاة الخوف، وهو يحتج على قصر الصلاة فى السفر ويراه فى صلاة الخوف.
(تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 546) لابن كثير.(1/357)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
فى المناجاة مستديم فى كل وقت فإن أردت الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصا فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سنّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد مادام فيه نفس من الاختيار لا فى الخوف ولا فى الأمن، ولا عند غلبات أحكام الشرع إذا كنت بوصف التفرقة، ولا عند استيلاء سلطان الحقيقة إذا كنت بعين الجمع:
قوله جلّ ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
الوظائف الظاهرة موقته «1» ، وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع أمّا بالرسوم
__________
(1) أي حسب ميقات.(1/358)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
فوقتا دون وقت، وأمّا بالقلوب فإياكم والغيبة عن الحقيقة لحظة كيفما اختلفت بكم الأحوال..
الذكر كيفما كنتم وكما كنتم، وأما الصلاة فإذا اطمأننتم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
: قوموا بالله وليكن «1» استنادكم فى جهادكم إلى الله.
«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ» : القوم شاركوكم فى إحساس الألم، ولكن خالفوكم فى شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم فى الجد والجهد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
«2» لم يأمرك «3» بالحكم بينهم على عمّى ولكن بما أراك الله «4» أي كاشفك به من أنوار البصيرة حتى وقفت عليه بتعريفنا إياك وتسديدنا لك، وكذلك من يحكم بالحق من أمتك.
قوله: «وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» : أي لا تناضل عن أرباب الحظوظ ولكن مع
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (ولا يكن) .
(2) أخطأ الناسخ إذ كتبها واستغفروا.
(3) وردت (لم يأمركم) والصواب (لم يأمرك) لأن الخطاب كله موجه إلى الرسول (ص) .
(4) يحتج من ذهب من علماء الأصول بهذه الآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له أن يحكم بالاجتهاد، وفيما رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد عن رجلين من الأنصار اختصما إلى الرسول (ص) فى مواريث بينهما قد درست وليس عندهما بينة.. ينتهى الحديث على النحو التالي.
«إنى إنما أقضى بينكما يرأى فيما لم ينزل علىّ فيه» . [.....](1/359)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
أبناء الحقوق، ومن جنح إلى الهوى خان فيما أودع نفسه من التقوى، ومن ركن إلى أنواع نوزاع المنى خان فيما طولب به من الحياء لاطلاع المولى «1» .
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لأمتك فإنا قد كفيناك حديثك بقولنا: ليغفر لك الله نما تقدم من ذنبك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
هم المؤثرون حظوظهم على حقوقه، والراضون بالتعريج فى أوطان هواهم دون النقلة إلى منازل الرضا، إن الله لا يحب أهل الخيانة فيذلهم- لا جرم- ولا يكرمهم.
قوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنّ الحق مطّلع على قلوبهم أولئك الذين وسم الله قلوبهم بوسم الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 109]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
أي ندفع عنهم- بحرمتك- لأنك فيهم، فكيف حالهم يوم القيامة إذ زالت عنهم بركاتكم أيها المؤمنون؟!
__________
(1) (يقال إن سبب نزول هذه الآية أن رجلا شكا أن طعمة بن أبيرق سرق درعه، فلما رأى السارق ذلك ألقى الدرع فى بيت رجل برىء، وقال لنفر من عشيرته إنى غيبت الدرع فى بيت فلان، فانطلقوا إلى النبي (ص) ليلا فقالوا: يا نبىّ الله إن صاحبنا برىء. وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله (ص) فبراه وعذره على رءوس الناس، فأنزل الله هذه الآية) وقد حرصنا على إثبات سبب نزولها لأن ما بعدها من الآي مرتبط بهذه الواقعة.(1/360)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
«ثُمَّ»
: حرف يدل على التراخي أي يزجون «1» عمرهم فى البطالات والمخالفات ثم فى آخر أعمارهم يستغفرون الله.
وقوله «يَجِدِ اللَّهَ»
: الوجود غاية الحديث «2» ، والعاصي لا يطلب غير الغفران، ولكن الله- سبحانه يوصله إلى النهاية بفضله- إذا شاء، فسنّته تحقيق ما فوق المأمول لمن رجاه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 111]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
الحقّ غنيّ عن طاعة المطيعين، وزلة «3» العاصين، فمن أطاع فحظّه حصّل، ومن عصى فحظه أخذ.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
من نسب إلى برىء ما هو صفته من المخازي عكس الله عليه الحال، وألبس ذلك البريء ثواب محاسن راميه، وسحب ذيل العفو على مساويه، وقلب الحال على المتعدّى بما يفضحه بين أشكاله، فى عامة أحواله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
__________
(1) وردت (يرجون) بالراء والصواب بالزاي.
(2) (التواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة، وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول:
التواجد يوجد استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد فهو كمن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق فى البحر) الرسالة ص 37.
(3) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون بالزاي لأن المناسب للسياق لفظ ضد الطاعة.(1/361)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
الفضل إحسان غير مستحق «1» ، والإشارة هاهنا- من الفضل- إلى عصمته إياه، فالحقّ- سبحانه- عصمه تخصيصا له بتلك العصمة، وكما عصمه عن ترك حقه- سبحانه- عصمه بأن كفّ عنه كيد خلقه فقال: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ..»
الآية.
كلّا، لن يكون لأحد سبيل إلى إضلالك فأنت فى قبضة العزة، وما يضلّون إلا أنفسهم، وما يضرونك بشىء، إذ المحفوظ منا محروس عن كل غير، وإنّ الله سبحانه قد اختصك بإنزال الكتاب، واستخلصك بوجوه الاختصاص والإيجاب، وعلّمك ما لم تكن تعلم، ولم يمن عليك بشىء بمثل ما منّ به على من خصّه به من العلم. ويحتمل أنه أراد به علمه- صلّى الله عليه- بالله بجلاله، وعلمه بعبودية نفسه، ومقدار حاله فى استحقاق عزّه وجماله.
ويقال علّمك ما لم تكن تعلم من آداب الخدمة إذ لم تكن ملتبسا عليك معرفة الحقيقة.
ويقال أغناك عن تعليم الأغيار حتى لا يكون لأحد نور إلا مقتبسا من نورك، ومن لم يمش تحت رايتك لا يصل إلى جميع برّنا، ولا يحظى بقربنا ووصلنا.
«وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
: فى الآباد أنّك كنت- لنا بشرف العز وكرم الربوبية فى الآزال- معلوما. ويقال وعلّمك ما لم تكن تعلم من علوّ رتبتك على الكافة.
ويقال «عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
أنّ أحدا لا يقدّر قدرنا إلا بمقدار موافقته لأمرنا قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
__________
(1) لأن الفضل معناه الزيادة، فربما يرمى القشيري إلى أنه غير مستحق بسبب ذلك لأنه يفوق المستحق(1/362)
أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبه إلى غيره ففضيلة الصدقة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفتوة أن يكون سعيك لغيرك، ففى الخبر: «شرّ الناس من أكل وحده» وكلّ أصناف الإحسان ينطبق عليها لفظ الصدقة.
قال صلّى الله عليه وسلّم فى قصر الصلاة فى السفر: «هذه صدقة تصدّقها الله عليكم فاقبلوا صدقته» «1» والصدقة على أقسام: صدقتك على نفسك، وصدقتك على غيرك فأمّا صدقتك (على نفسك فحملها على أداء حقوقه تعالى، ومنعها عن مخالفة أمره، وقصر يدها عن أذية الخلق، وصون خواطرها وعقائدها عن السوء. وأمّا صدقتك) «2» على الغير فصدقة بالمال وصدقة بالقلب وصدقة بالبدن.
فصدقة بالمال بإنفاق النعمة، وصدقة بالبدن بالقيام بالخدمة، وصدقة بالقلب بحسن النية وتوكيد الهمة.
والصدقة على الفقراء ظاهرة لا إشكال فيها، أمّا الصدقة على الأغنياء فتكون بأن تجود عليهم بهم، فتقطع رجاءك عنهم فلا تطمع فيهم.
وأمّا المعروف: فكلّ حسن فى الشرع فهو معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله، وزلفى عنده، وإعلاء النواصي بالطاعة.
__________
(1) هكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى عمار.
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال على بن المديني هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر بن الخطاب، ولا يحفظ الا من هذا الوجه ورجاله معروفون.
(2) ما بين القوسين استدراك فى الهامش وضعناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.(1/363)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
ومن تصدّق بنفسه على طاعة ربه، وتصدّق بقلبه على الرضا بحكمه، ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحثّ الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربه، وأصلح بين الناس بصدقه فى حاله- فإنّ لسان فعله أبلغ فى الوعظ من لسان نطقه، فهو الصّديق فى وقته. ومن لم يؤدّب نفسه لم يتأدب به غيره، وكذلك من لم يهذّب حاله لم يتهذّب به غيره.
«وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» غير سائل به مالا أو حائز لنفسه به حالا فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة فى طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود فى هذه الآية «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 115]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
خواطر الحق سفراؤه تعالى إلى العبد، فمن خالف إشارات ما طولب به من طريق الباطن استوجب عقوبات القلوب، ومنها أن يعمى عن إبصار رشده. وكما أن مخالف الإجماع عن الدين خارج فمخالف ما عرف من الحقيقة بعد ما تبين له الطريق- ساقط.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 116]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
__________
(1) نلاحظ فى هذه الفقرة أن القشيري يوجه- بطريق غير مباشر- لومه إلى بعض الوعاظ المحترقين الذين ظهروا فى عصره وقبل عصره.(1/364)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
قوله
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 120]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
: إثبات الغير فى توهم ذرة من الإبداع عين الشرك، فلا للعفو فيه مساغ. وما دون الشرك فللعفو فيه مساغ، ومن توسّل إليه سبحانه بما توهّم من نفسه فقد أشرك من حيث لم يعلم. كلّا، بل هو الله الواحد.
قوله: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ: أوقعوا على الجمادات تسميات «1» ، وانخرطوا فى سلك التوهم، وركنوا إلى مغاليط الحسبان، فضلّوا عن الحقيقة.
«وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ» ، أي ما يدعون إلا إبليس الذي أبعده الحقّ عن رحمته، وأسحقه «2» ببعده، وما إبليس إلا مقلّب فى القبضة على ما يريده المنشئ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان به شريكا فى الإلهية. كلّا، إنما يجرى الحقّ- سبحانه- على الخلق أحوالا، ويخلق «3» عقيب وساوسه للخلق ضلالا، فهو الهادي والمضل، وهو- سبحانه- المصرّف للكل، فيخلق (....) «4» فى قلوبهم عقيب وساوسه إليهم طول الآمال، ويحسّن فى أعينهم قبيح الأعمال، ثم لا يجعل لأمانيّهم تحقيقا، ولا يعقب لما أمّلوه تصديقا، فهو تعالى موجد تلك الآثار جملة، ويضيفها إلى الشيطان مرة، وإلى الكافر مرة، وهذا معنى قوله: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ» ... الآية ومعنى قوله تعالى «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 121]
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) .
__________
(1) واضح من كلام القشيري أنه يفهم الإناث على أنها الأوثان، وهكذا عن عائشة. وروى عن بعض الصحابة أنها الملائكة إشارة إلى قوله تعالى فى موضع آخر (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) . وعن الحسن: الإناث كل شىء ميت ليس فيه روح.
(2) فى النسخة ص (استحقه) وهى خطأ فى النسخ.
(3) يؤكد القشيري نسبة خلق كل شىء لله، وتجريد الشيطان من كل سلطان.
(4) مشتبهة.(1/365)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
الذين قسم لهم الضلالة فى الحال حكم عليهم بالعقوبة فى المآل «1» ، ولولا أنه أظهر ما أظهر بقدرته وإلا متى كانت شظية من الضلالة والهداية لأربابها؟! والوقوف على صدق التوحيد عزيز، وأرباب التوحيد قليل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 122]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
الذين أسعدناهم حكما وقولا، أنجدناهم حين أوجدناهم كرما وطولا، ثم إنّا نحقّق لهم الموعود من الثواب، بما نكرمهم به من حسن المآب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 124]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
من زرع الحنظل لم يجتن الورد والعبهر «2» ، ومن شرب السّمّ الزّعاف لم يجد طعم العسل، كذلك من ضيّع حقّ الخدمة لم يستمكن على بساط القربة، ومن وسم بالشّقوة لم يرزق الصفوة، ومن نفته القضية «3» فلا ناصر له من البريّة.
قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ.... الآية. من تعنّي فى خدمتنا لم يبق عن نيل
__________
(1) وردت (المال) وصوابها (المآل) .
(2) العبهر- الياسمين وقيل النرجس (لسان العرب ج 20 ص 536) ط بيروت. [.....]
(3) القضية مقصود بها القضاء، قضاء الله.(1/366)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
نعمتنا، بل من أغنيناه «1» فى طلبنا أكرمناه بوجودنا، بل من جرّعناه كأس اشتياقنا أنلناه أنس لقائنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 125]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله يعنى أفرد قصده إلى الله، وأخلص عقده لله عما سوى الله، ثم استسلم فى عموم أحواله لله بالله، ولم يدّخر شيئا عن الله لا من ماله ولا من جسده، ولا من روحه ولا من جلده، ولا من أهله ولا من ولده، وكذلك كان حال إبراهيم عليه السّلام.
وقوله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» : الإحسان- بشهادة الشرع- أن تعبد الله كأنّك تراه، ولا بد للعبد من بقية «2» من عين الفرق حتى يصحّ قيامه بحقوقه- سبحانه- لأنه إذا حصل (مستوفى) «3» بالحقيقة لم يصح إسلامه ولا إحسانه، وهذا اتّباع إبراهيم عليه السّلام الحنيف الذي لم يبق منه شىء على وصف الدوام.
وقوله «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» : جرّد الحديث عن كل سعى وكد وطلب وجهد حيث قال: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» فعلم أنّ الخلّة لبسة يلبسها الحقّ لا صفة يكتسبها العبد.
__________
(1) ربما كانت (عنيناه) بالعين أي من احتمل العناء فى سبيلنا لتلائم (جرعناه كأس) أما (أغنيناه) بالغين فيكون معناها أوجدنا فيه الغناء عما سوانا.
(2) أي لا بد أن يرد إلى القرق الثاني حتى يستطيع أن يقوم بالفرائض الواجبة عليه فى أوقاتها.
(3) هكذا جاءت فى النسخة ص وربما كانت فى الأصل (مساس) بالحقيقة، فنحن نعرف عن مذهب القشيري فى هذا الخصوص أن العبد ينبغى أن يحافظ على الشريعة مهما كانت الظروف، وأي مساس بالشريعة بدعوى الاصطلام أو الفناء- فمردود، وهو آية تقص فى صدق صاحبه.(1/367)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
ويقال الخليل المحتاج «1» بالكلية إلى الحق فى كل نفس ليس له شىء منه بل هو بالله لله فى جميع أنفاسه وأحواله، اشتقاقا من الخلّة (التي هى الخصاصة وهى الحاجة) «2» .
ويقال إنه من الخلة التي هى المحبة، والخلة أن تباشر المحبة جميع أجزائه، وتتخلل سرّه حتى لا يكون فيه مساغ للغير.
فلمّا صفّاه الله- سبحانه- (عليه السّلام) عنه، وأخلاه منه نصبه للقيام بحقه بعد امتحائه «3» عن كل شىء ليس الله سبحانه.
ثم قال: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا....» «4» : لا يلبى الحاج إلا لله، وهذه إشارة إلى جمع الجمع «5» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
نهاهم عن الطمع الذي يحملهم على الحيف والظلم على المستضعفين من النّسوان واليتامى، وبيّن أنّ المنتقم به لهم الله، فمن راقب الله فيهم لم يخسر على الله بل يجد جميل الجزاء، ومن تجاسر عليهم قاسى لذلك أليم البلاء.
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى محاولة فريق من المعتزلة صرف الخلة عن كل ما يتطرق إليها من دلالة حسبة، والتماسهم ذلك فى الشعر القديم وقد نبهنا إلى ذلك فى هامش سبق.
(2) هذه العبارة مكررة خطأ من الناسخ.
(3) وردت (بعد امتحانه) بالنون وقد صوبناها إلى (امتحائه) أي بعد وصوله إلى المحو.
(4) آية 27 سورة الحج
(5) وردت (جميع الجمع) والصواب (جمع الجمع)(1/368)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
صحبة الخلق بعضهم مع بعض إن تجردت عن حديث الحق فإنها تتعرض للوحشة والملامة، وممازجة النفرة والسآمة. فمن أعرض عن الله بقلبه أعرض الخلق عن مراعاة حقه، وخرج الكافة عليه باستصغار أمره واستحقار قدره. ومن رجع إلى الله بقلبه، استوى له- فى الجملة والتفصيل- أمره، واتسع «1» لاحتمال ما يستقبل من سوء خلق الخلق صدره فهو يسحب «2» ذيل العفو على هنات جميعهم، ويؤثر الصلح بترك نصيبه وتسليم نصيبهم قال الله تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» .
واتضاعك فى نفسك عن منافرة من يخاصمك أجدى عليك، وأخرى لك من تطاولك على خصمك باغيا الانتقام، وشهود مالك فى مزية المقام. وأكثر المنافقين فى أسر هذه المحنة.
قوله تعالى: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ... » : وشحّ النفس قيام العبد بحظّه.
فلا محالة من حجب عن شهود الحق ردّ إلى شهود النّفس.
قوله تعالى: «وَإِنْ تُحْسِنُوا» : يعنى يكن ذلك خيرا لكم. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
«وَتَتَّقُوا» : يعنى عن رؤيتكم مقام أنفسكم، وشهود قدركم، يعنى وأن تروا ربّكم، وتفنوا برؤيته عن رؤية قدركم.
__________
(1) وردت (والتسع) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (ويستحب) وهى خطأ النسخ.(1/369)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
«فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» : يعنى إذا فنيتم عنكم وعن عملكم، فكفى بالله عليما بعد فنائكم، وكفى به موجدا عقب امتحائكم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
«2» يعنى أنّكم إذا (....) «3» فى أموركم انعكس الحال عليكم، وانعكس صلاح ذات بينكم فسادا لكم، فإذا قمتم بالله فى أموركم استوى العيش لكم، وصفا عن الكدر وقتكم.
ويقال من حكم الله بنقصان عقله فى حاله «4» فلا تقتدرون أن تجبروا نقصانهم بكفايتكم.
قوله تعالى «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» : يعنى لا تزيغوا عن نهج الأمر. قفوا حيثما وقفتم، وأنفذوا فيما أمرتم.
وقوله: «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» يعنى أنكم إذا منعتموهن عن صحبة أغياركم ثم قطعتم عنهن ما هو حظوظهن منكم أضررتم بهن من الوجهين لا منكم نصيب، ولا إلى غيركم سبيل، وإن هذا الحيف عظيم. والإشارة «5» من هذا أنه إذا انسد عليك طريق حظوظك فتح- سبحانه- عليك شهود حقه، ووجود لطفه فإنّ من كان فى الله تلفه فالحق- سبحانه- خلفه، وإن تصلحوا ما بينكم وبين الخلق، وتثقوا فيما بينكم وبين الحق فإن الله غفور لعيوبكم، رحيم بالعفو عن ذنوبكم.
__________
(1) وردت (امتحانكم) وهى خطأ فى النسخ فالامتحاء يرادف الفناء.
(2) وردت (وان) وهى خطأ في النسخ.
(3) مشتبهة، ونرجح أنها كلمة تساوى فى المعنى (قمتم بأنفسكم) لتقابل ما جاء بعد (فإذا قمتم بالله) . [.....]
(4) يشير القشيري بذلك الى النساء.
(5) أسلوب القشيري في هذه الإشارة فى حاجة منا الى وعى وتيقظ، فالحظوظ للعبد، والحقوق للحق، والشهود للحق والوجود يكون للطف. والمغفرة- بمعنى التغطية- تكون للعيب، والعفو- الإزالة- يكون للذنب والعيب قد يبقى مغطى ولكن الذنب يزول.(1/370)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 130]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
الصحبة التي لا بدّ منها صحبة القلب مع دوام افتقار إلى الله إذ الحقّ لا بدّ منه. فأمّا الأغيار فلا حاجة لبعضهم إلى بعض إلا من حيث الظاهر، وذلك فى ظنون أصحاب التفرقة، فأمّا أهل التحقيق فلا تجرية لهم أن حاجة الخلق بجملتها إلى الله سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 131]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)
كلّف الكافة بالرجوع إليه، ومجانبة من سواه، والوقوف على أمره، ولكن فريقا وفّق وفريقا خذل. ثم عرّف أهل التحقيق أنه غنىّ عن طاعة كلّ ولىّ، وبرىء عن «1» زلة «2» كل غوىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 132]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
قطع الأسرار عن التّعلّق بالأغيار بأن عرّفهم انفراده بملك ما فى السموات والأرض، ثم أطمعهم فى حسن تولّيه، وقيامه بما يحتاجون إليه بجميل اللطف وحسن الكفاية بقوله:
«وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» يصلح يملك حالك ولا يختزل مالك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 133]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) .
__________
(1) قبل (عن) واو زائدة فحذفناها
(2) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون هنا بالزاي.(1/371)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
من استغنى عنه فى آزاله فلا حاجة له إليه فى آباده. ويقال لا يحتاج إلى أحد والعبد لا يستغنى عنه فى نفس.
ويقال لا نهاية للمقدورات فإن لم يكن عمرو فزيد، وإن لم يكن عبد فعبيد، والذي لا بدل عنه ولا خلف فهو الواحد الأحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
لمّا علّقوا قلوبهم بالعاجل من الدنيا ذكّرهم حديث الآخرة، فقال «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» تعريفا لهم أنّ فوق هممهم من هذه الخسيسة «1» ما هو أعلى منها من نعيم الآخرة، فلمّا سمت إلى الآخرة قصودهم قطعهم عن كل مرسوم «2» ومخلوق بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) .
__________
(1) يقصد الدنيا بهذا الوصف.
(2) الرسم- كما يقول أبو نصر السراج فى لمعه- هو ما رسم به ظاهر الخلق برسم العلم ورسم الخلق فيمتحى بإظهار سلطان الحق عليه.
سئل الجنيد عن رجل غاب اسمه وذهب وصفه وامتحى رسمه فقال: نعم عند مشاهدته قيام الحق له بنفسه لنفسه فى ملكه، فيكون ذلك معنى قوله امتحى رسومه يعنى علمه وفعله المضاف إليه بنظره إلى قيام الله له فى قيامه (اللمع ص 427) .
(3) آية 73 سورة طه(1/372)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
القسط العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه من كلّ من هو لك عليه أمر، وإلى تحصيل ذلك الحق سبيل إمّا أمر بمعروف أو زجر عن مكروه أو وعظ بنصح أو إرشاد إلى شرع أو هداية إلى حق.
ومن بقي لله عليه حق لم يباشر خلاصة التحقيق سره لله.
وأصل الدّين «1» إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله- سبحانه أحدا إمّا والدا أو أمّا أو ولدا أو قريبا أو نسيبا، أو ادّخر عنه نصيبا فهو بمعزل عن القيام بالقسط.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
يا أيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث الكشف والعيان.
ويقال يا أيها الذين آمنوا تصديقا آمنوا تحقيقا بأن نجاتكم بفضله لا بإيمانكم.
ويقال يا أيها الذين آمنوا فى الحال آمنوا باستدامة الإيمان إلى المآل «2» ويقال يا أيها الذين آمنوا آمنوا وراء كل وصل وفصل «3» ووجد وفقد.
__________
(1) بهذا نستطيع أن نجد صلة رحم بين لفظتى (الدّين) و (الدّين) إذ يكون لكل منهما ارتباط- على نحو ما- بالحق وصاحب الحق.
(2) وردت (المال) وهى خطأ فى النسخ، فالمقصود بالحال: الدنيا، والمآل: العقبى
(3) الوصل معناه لحوق الغائب. وقال يحيى بن معاذ: «من لم يعمّ عينيه عن النظر إلى ما تحت العرش لم يصل إلى ما فوق العرش» . يعنى لم يلحق ما فاته من مراقبة الذي خلق العرش. وقال الشبلي:
من زعم أنه واصل فليس له حاصل.
والفصل فوت الشيء المرجو من المحبوب.
قال بعضهم فرح الاتصال ممزوج بترح الانفصال (اللمع ص 433)(1/373)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
ويقال يا أيها الذين آمنوا باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا أنختم بعقوة الوصول، واستمكنت منكم حيره البديهة «1» وغلبات الذهول «2» ثم أفقتم عن تلك الغيبة فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات «3» فإن الصمدية منزهة متقدسة عن كل قرب وبعد، ووصل وفصل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 138]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
الذين تبدّلت بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم انتعشوا ثم ختم بالسوء أحوالهم، أولئك الذين قصمتهم «4» سطوة العزة حكما، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالا- فالحقّ سبحانه لا يهديهم لقصد، ولا يدلهم على رشد، فبشّرهم بالفرقة الأبدية، وأخبرهم بالعقوبة السرمدية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 139 الى 140]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
__________
(1) الحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم تحجبهم عن التأمل والفكرة، وقال الواسطي: حيرة البديهة أجل من سكون التولي عن الحيرة (اللمع ص 421) .
(2) الغلبات عند قوة الرغبة والانفلات من دواعى الهوى والنفوس، عند قوة رغبة الطالب إذا لاح له أعلام المزيد فى حال طلبه المطلوب، فلو ظن أن مطلوبه وراء بحر سبحه أو فى تيه سلكه بالهجوم عند غلبات الإرادة وقوة سلطان المطالبة عليه (اللمع ص 417) .
(3) هذا تنبيه هام وخطير يدحض به المضللين والأدعياء، أولئك الذين شن عليهم القشيري هجومه العنيف فى مستهل «رسالته» والذين أساءوا إلى التصوف وأهله.
(4) القصم: الكسر. حكى عن الزقاق أنه قال: لو أن المعاصي كانت شيئا اخترته لنفسى ما أجزتنى ذلك لأن ذلك يشيهنى، وإنما قصم ظهرى حين سبق لى منه ذلك. (اللمع ص 434) . [.....](1/374)
من اعتصم بمخلوق فقد التجأ إلى غير مجير، واستند إلى غير كهف، وسقط فى مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها. أيبتغون العزّ عند الذي أصابه ذل التكوين؟! متى يكون له عزّ على التحقيق؟ ومن لا عزّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدّى إلى غيره؟
ويقال لا ندرى أي حالتهم أقبح: طلب العز وهم فى ذل القهر وأسر القبضة أم حسبان ذلك وتوهمه من غير الله؟
ويقال من طلب الشيء من غير وجهه فالإخفاق «1» غاية جهده، ومن رام الغنى «2» فى مواطن الفاقة فالإملاق قصارى كدّه.
ويقال لو هدوا بوجدان العزّ لما صرفت قصودهم إلى من ليس بيده شىء من الأمر.
قوله: «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» العزّ على قسمين: عزّ قديم فهو لله وصفا، وعزّ حادث يختص به سبحانه من يشاء فهو له- تعالى- ملكا ومنه لطفا «3» .
قوله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.... الآية: لا تجاوروا أرباب الوحشة فإن ظلمات أنفسهم تتعدى إلى قلوبكم عند استنشاقكم ما يردّون من أنفاسهم، فمن كان بوصف ما متحققا شاركه حاضروه فيه فجليس من هو فى أنس مستأنس «4» ، وجليس من هو فى ظلمة مستوحش.
ويقال هجران أعداء الحقّ فرض، ومخالفة الأضداد ومفارقتهم دين، والركون إلى أصحاب الغفلة قرع باب الفرقة.
__________
(1) وردت (الأحقاف) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود الخيبة والإخفاق.
(2) أخطأ الناسخ فكتبها بالألف هكذا: (الغنا) .
(3) يتساءل القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» تحت اسم «العزيز» : فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» وقوله تعالى «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» ثم يجيب: لا تنافى بينهما فان العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالى ملكا وخلقا، وعزه- سبحانه وتعالى- له وصفا، فاذا العز كله لله تعالى.
(4) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مستأنف) ولا معنى لها هنا والصواب (مستأنس) لتقابل (مستوحش)(1/375)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قوله: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» : أوضح برهان على سريرة (....) «1» صحبة من يقارنه «2» وعشرة من يخادنه فالشكل مقيد بشكله، والفرع منتشر عن أصله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
لمّا عدموا الإخلاص فى الحقيقة، وما ذقوا فيما استشعروا من العقيدة، امتازوا «3» عن المسلمين فى الحكم، وباينوا الكافرين فى الاسم، وواجب على أهل الحقّ التحرّز عنهم والتحفّظ منهم، ثم ضمن لهم- سبحانه- جميل الكفاية بقوله: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «4» وهذا على العموم فإن وبال كيدهم إليهم مصروف، وجزاء مكرهم عليهم موقوف، والحقّ- من قبل الحقّ سبحانه- منصور أهله، والباطل- بنصر الحقّ سبحانه- مجتث أصله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
__________
(1) مشتبهة ولا بد أنها كلمة بمعنى (المرء) أو (الشخص) ... ونحوهما.
(2) يقارنه هنا معناها أن يكون له قرين.
(3) امتازوا هنا معناها افترقوا بعلامات مخصوصة.
(4) قال على رضى الله عنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يوم القيامة حين يحكم الله بينهم، فلا يكون للكافرين سبيل إلى حجة. ويرى غيره أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا فى الدنيا فلن يستطيعوا عليهم نصرا بالكلية، ولكن قد يحصل لهم ظفر فى بعض الأحيان على بعض الناس ولكن العاقبة للمتقين فى الدنيا والآخرة. (ابن كثير ص 567)(1/376)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
خداع المنافقين: إظهار الوفاق فى الطريقة واستشعار الشرك فى العقيدة.
وخداع الحق إياهم: ما توهموه من الخلاص، وحكموا به لأنفسهم من استحقاق الاختصاص، فإذا كشف الغطاء أيقنوا أن الذي ظنّوه شرابا كان سرابا، قال تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «1» وقوله: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا....»
الآية: علامة النفاق وجود النشاط عند شهود الخلق، وفتور العزم عند فوات رؤية الخلق.
وقوله: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ... » الآية: أخسّ الخلق من يدع «2» صدار العبودية، ولم يجد سبيلا إلى حقيقة الحرية «3» ، فلا له من العز شظية، ولا فى الغفلة عيشة هنية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) .
__________
(1) آية: 47 سورة الزمر.
(2) وردت (تدع) والصواب (يدع) لأن الكلام ليس خطابا، ومعناها ترك.
(3) حقيقة الحرية إشارة إلى نهاية التحقق بالعبودية لله تعالى، وهو ألا يملكك شىء من المكونات وغيرها، فتكون حرا إذا كنت لله عبدا، كما قال بشر الحافى لسرى السقطي رحمهما الله فيما حكى عنه أنه قال:
إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك، لا تراء أهلك فى الحضر، ولا وفقتك فى السفر، اعمل لله، ودع الناس عنك.
وقال الجنيد: آخر مقام العارف الحرية.
وقال بعضهم: لا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى الله مسترقا (اللمع ص 450)(1/377)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
كرّر «1» عليهم الوعظ، وأكّد بمباينة الأعداء عليهم الأمر، إبلاغا فى الإنذار، وتغليظا فى الزجر، وإلزاما للحجة (....) «2» موضع العذر.
قوله: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» : توعّدهم على موالاتهم للكفار بما لم يتوعّد على غيره من المخالفات، لما فيه من إيثار الغير على المعبود وإيثار الغير على المحبوب من أعظم الكبائر فى أحكام الوداد. فإذا شغل من قلبه محلا- كان للمؤمنين- بالأغيار استوجب ذلك العقوبة فكيف إذا شغل محلا من قلبه- هو للحق- بالغير؟! والعقوبة التي توعّدهم بها أن يكلهم وما اختاروه من موالاة الكفار، وبئس البدل! كذلك من بقي (عن) «3» الحق تركه مع الخلق فيتضاعف عليه البلاء للبقاء عن الحق والبقاء مع الخلق، وكلاهما شديد من العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 145]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
دلّت الآية على أنّ المنافق ليس بمستأمن لأنّ الإيمان ما يوجب الأمان، فالمؤمن يتخلّص بإيمانه من النار، فما يكون سبب وقوعه فى الدرك الأسفل من النار لا يكون إيمانا، ويقال هذا تحقيق قوله: «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكره فوق كل مكر. لمّا أظهر المنافق ما هو مكر مع المؤمنين كانت عقوبتهم أشد من عقوبة من جاهر «4» بكفره.
ويقال نقلهم «5» فى آجلهم «6» إلى أشد ما هم عليه فى عاجلهم، لما فى الخبر: «من كان
__________
(1) نعرف من مذهب القشيري أنه لا يميل إلى القول بالتكرار في القرآن الكريم، ولعل أبسط نتائج هذا المذهب أنه لا يرى فى البسملة التي تأنى فى مستهل كل سورة بلفظها- أي شىء من التكرار، بل هى عنده متجددة بما يتلاءم والسورة، لأجل هذا تستوقفنا هنا كلمة: «كرر» ونتدبر الأسباب القوية التي أرجع إليها التكرار.
(2) مشتبهة.
(3) وردت (من) ولكن المعنى يرفضها قطعا ويؤيد (عن) خصوصا وقد جاءت (عن) فى العبارة التالية التي هى بمثابة نتيجه للجزء الأول من الكلام. [.....]
(4) وردت (جاهد) بالدال والصواب ان تكون (جاهر) بالراء فالمعنى يقتضى ذلك.
(5) وردت هكذا (نقلهم) بنقطة محذوفة فوق الحرف الأول ثم ثلاث نقط فوق القاف وربما أراد الناسخ أن يحذف النقطة الثالثة فأخطا وحذف النقطة التي فوق النون.
(6) وردت (أجلهم) والصواب (آجلهم) .(1/378)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
بحالة لقى الله بها» فالمنافق- اليوم- فى الدرك الأسفل من الحجر «1» فكذلك ينقلون إلى الدرك الأسفل من النار. والدرك الأسفل من الحجر- اليوم- لهم ما عليهم من اسم الإيمان وليس لهم من الله شظية وهذا هو البلاء الأكبر.
ويقال استوجبوا الدرك الأسفل من النار لأنهم صحبوا اليوم اسم الله الأعظم لا على طريقة الحرمة. ويقال استوجبوا ذلك لأنهم أساءوا الأدب فى حال حضورهم بألسنتهم، وسوء الأدب يوجب الطرد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 146]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
لم يشترط كل هذه الشرائط فى رجوع أحد عن جرمه ما اشترط فى رجوع المنافقين عن نفاقهم لصعوبة حالهم فى كفرهم. وبعد تحصيلهم هذه الشروط قال لهم: «فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» ولم يقل من المؤمنين، وفى هذا إشارة أيضا إلى نقصان رتبتهم وإن تداركوا بإخلاصهم ما سبق من آفتهم، وفى معناه أنشدوا:
والعذر مبسوط ولكنما ... شتان بين العذر والشكر
ويقال إن حرف (مع) للمصاحبة، فإذا كانوا مع المؤمنين استوجبوا ما يستوجب جماعة المؤمنين، فالتوبة هاهنا أي رجعوا عن نفاقهم، وأصلحوا- بصدقهم فى إيمانهم، واعتصموا بالله بالتبرؤ من حولهم وقوتهم، وشاهدوا المنّة لله عليهم حيث هداهم، وعن نفاقهم نجّاهم.
قوله: «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» : ونجاتهم بفضل ربهم لا بإيمانهم فى الحال، ورجوعهم عن نفاقهم فيما مضى عليهم من الأحوال.
ويقال أخلصوا دينهم لله وهو دوام الاستعانة بالله فى أن يثبتهم على الإيمان، ويعصمهم عن الرجوع إلى ما كانوا عليه من النفاق.
__________
(1) نرجح أنها (الهجر) بالهاء ويتأيد ذلك بقوله فيما بعد (ليس لهم من الله شظية) .(1/379)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ويقال تابوا عن النفاق، وأصلحوا بالإخلاص فى الاعتقاد، واعتصموا بالله باستدعاء التوفيق وأخلصوا دينهم لله فى أن نجاتهم بفضل الله ولطفه لا بإتيانهم بهذه الأشياء- فى التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 147]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
هذه الآية من الآيات التي توجب حسن الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوّن السبيل على العبد حين «1» رضى منه بقالته وحالته. والشكر لا يصح إلا من المؤمنين فأمّا الكافر فلا يصح منه الشكر لأن الشكر طاعة والطاعة لا تصح من غير المؤمن.
وقوله: «وَآمَنْتُمْ» يعنى فى المآل فكأنه بيّن أن النجاة إنما تكون لمن كانت عاقبته على الإيمان، فمعنى الآية لا يعذبكم الله عذاب التخليد «2» إن شكرتم فى الحال وآمنتم فى المآل.
ويقال إن شكرتم وآمنتم صدقتم بأن نجاتكم بالله لا بشكركم وبإيمانكم.
ويقال الشكر شهود النعمة من الله والإيمان رؤية الله فى النعمة، فكأنه قال: إن شاهدتم النعمة من الله فلا يقطعنّكم شهودها عن شهود المنعم.
وقوله: «وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» أي والله شاكر عليم، ومعنى كونه شاكرا أنه مادح للعبد ومشهد عليه فيما يفعله لأن حقيقة الشكر وحدّه الثناء على المحسن بذكر إحسانه فالعبد بشكر الله أي يثنى عليه بذكر إحسانه إليه الذي هو نعمته عليه، والربّ يشكر للعبد أن يثنى عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له، فإن الله يثنى عليه بما يفعله من الطاعة مع علمه بأن له ذنوبا كثيرة.
ويقال يشكره- وإن علم أنه سيرجع فى المستأنف إلى قبيح أعماله.
__________
(1) وردت (من) ونرجح أنها فى الأصل (حين) .
(2) وردت (التخليل) ونرجح أنها (التخليد) فهو وصف عذاب جهنم.(1/380)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
ويقال يشكره لأنه يعلم ضعفه، ويقال يشكره لأنه يعلم أنه لا يعصى وقصده مخالفة ربّه ولكنه يذنب لاستيلاء أحوال البشرية عليه من شهوات غالبة.
ويقال يشكره لأن العبد يعلم فى حالة ذنوبه أن له ربّا يغفر له.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 148]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
قول المظلوم فى ظالمه- على وجه الإذن له- ليس بسوء فى الحقيقة، لكنه يصح وقوع لفظة السوء عليه كقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «1» والجزاء ليس بسيئة.
ويقال من علم أن مولاه يسمع استحيا من النطق بكثير مما تدعو نفسه إليه.
ويقال الجهر بالسوء هو ما تسمعه نفسك منك فيما تحدّث فى نفسك من مساءة الخلق فإن الخواص يحاسبون على ما يتحدثون فى أنفسهم «2» بما (يعد) «3» لا يطالب به كثير من العوام فيما يسمع منهم الناس.
قوله: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» : قيل ولا من ظلم. وقيل معناه ولكن من ظلم فله أن يذكر ظالمه بالسوء «4» .
ويقال من لم يؤثر مدح الحقّ على القنح فى الخلق فهو المغبون فى الحال.
ويقال من طالع الخلق بعين الإضافة إلى الحق بأنهم عبيد الله لم ينبسط فيهم لسان اللوم
__________
(1) الآية 40 سورة الشورى.
(2) من ذلك ما يحكيه القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» عن الشبلي حيث يقول: «قال بعضهم كنت مع الشبلي- رحمه الله- ففتح له بمنديل حسن فمر بكلب ميت فقال لى: كفن هذا الكلب بهذا المنديل. وعدت إليه فقال لى فعلت ما أمرتك به؟ فقلت: لا. فلم يقل لى شيئا فقلت له: ما سبب ذلك الذي أمرتنى به؟ فقال: عند ما مررت به استقذرته واستقبحته، فنوديت في سرى: ألسنا نحن خلقناه؟ فأمرتك بذلك كفارة لما خطر لى» .
(3) ربما كانت هذه اللفظة (يعد) زائدة، أو سقطت (لا) قبلها فيكون معنى (لا يعد) لا يحسب ولا يعتبر.
(4) عن ابن عباس: إن الله لا يحب أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له.
وعن الحسن البصري يكفى أن يقول المظلوم «اللهم أعنى عليه واستخرج حقى منه» وفى رواية عنه أنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدى عليه.(1/381)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
يقول الرجل لصاحبه: «أنا أحتمل من (....) «1» خدمتك حرمة لك ما لا أحتمله من ولدي» ، فإذا كان مثل هذا معهودا بين الخلق فالعبد بمراعاة هذا الأدب- بينه وبين مولاه- أولى.
ويقال لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من العوام، ولا يحب ذلك بخطوره «2» من الخواص.
ويقال الجهر بالسوء من القول من العوام أن يقول فى صفة الله ما لم يرد به الإذن والتوفيق.
والجهر بالسوء من القول فى صفة الخلق أن تقول ما ورد الشرع بالمنع منه، وتقول فى صفة الحق ما لا يتصف به فإنك تكون فيه كاذبا، وفى صفة الخلق عن الخواص ما اتصفوا به من النقصان- وإن كنت فيه صادقا.
قوله «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» : سميعا لأقوالكم، عليما بعيوبكم، يعنى لا تقولوا للأغيار ما تعلمون أنكم بمثابتهم.
ويقال سميعا لأقوالكم عليما ببراءة ساحة من تقوّلتم عليه، فيكون فيه تهديد للقائل- لبرىء الساحة- بما يتقوّل عليه.
ويقال سميعا: أيها الظالم، عليما: أيها المظلوم تهديد لهؤلاء وتبشير لهؤلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 149]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
«إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» تخلقا بآداب الشريعة، وتخفوه تحققا بأحكام الحقيقة.
«أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» أخذا من الله ما ندبكم إليه من محاسن الخلق.
«فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لعيوبكم «قَدِيراً» على تحصيل محبوبكم وتحقيق مطلوبكم.
ويقال إن تبدوا خيرا لتكونوا للناس قدوة فيما تسنّون وما تعينون غيركم على ما يهدون به من سلوك سنّتكم، وإن تخفوه اكتفاء بعلمه، وصيانة لنفوسكم عن آفات التصنّع، وثقة
__________
(1) مشتبهة.
(2) أي (بأن يخطر عليهم خاطر) فعقوبة العوام على النطق والقول وعقوبة الخواص على (الخاطر)(1/382)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
بأن «1» من تعملون «2» له يرى ذلك ويعلمه منكم، وإن تعفوا عن سوء أي تتركوا ما تدعوكم إليه نفوسكم «3» فالله يجازيكم بعفوه على ما تفعلون، وهو قادر على أن يبتليكم بما ابتلى به الظالم، فيكون تحذيرا لهم من أن يغفلوا عن شهود المنّة، وتنبيها على أن يستعيذوا أن يسلبوا العصمة، وأن يخذلوا حتى يقعوا فى الفتنة والمحنة.
ويقال إن تبدوا خيرا فتحسنوا إلى الناس، أو تخفوه بأن تدعوا لهم فى السرّ، أو تعفوا عن سوء إن ظلمتم.
ويقال من أحسن إليك فأبد معه خيرا جهرا، ومن كفاك شرّه فأخلص بالولاء والدعاء له سرّا، ومن أساء إليك فاعف عنه كرما وفضلا تجد من الله عفوه عنك عما ارتكبت، فإن ذنوبك أكثر، وهو قادر على أن يعطيك من الفضل والإنعام ما لا تصل إليه بالانتصاف من خصمك، وما تجده بالانتقام «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عدّ من ذميم فعلهم، ثم بيّن أنه
__________
(1) أخطا الناسخ فكتبها (باب) .
(2) مستدركة في الهامش (تعلمون) لأنها فى المتن (تعلمون) والصواب ما جاء فى الهامش. [.....]
(3) إشارة القشيري هنا فى حاجة منا إلى تدبر، فهو يبدأ أولا بالنفس، ثم ينتقل إلى الناس، ذلك لأنه حسب ما نعرف عنه يعتبر صراعك مع نفسك هو الميدان الأول الذي ينبغى أن تحارب فيه أهواءك وأطماعك ودعواك هى أعدى أعدائك، ثم تأتى من بعد ذلك علاقاتك خارج نفسك أي مع الناس.
(4) واضح من هذا مقدار ما يتمتع به الصوفية من رحابة الصدر ولين الجانب وسماحة الطبع.(1/383)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
ضاعف «1» من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لتعلم أنه لأهل الفساد بالمرصاد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
لما آمنوا بجميع الرسل، وصدقوا فى جميع ما أمروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء.
وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (....) «2» إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (من) «3» أمر بالإيمان به إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله. فالإشارة فى هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلّى الله عليه وسلّم: «الحجّ عرفة» «4» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يدرك الحج.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» «5» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 153]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
__________
(1) وردت (أضعف) وهى خطأ من الناسخ، ولا بد أن تكون (ضاعف) العذاب لأن جزاء الكافرين عذاب مهين وهو الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروى.
(2) مشتبهة.
(3) نرجح أنها في الأصل (ما) أمر بالإيمان به منعا للبس، ويمكن أن تقبل (من) على أنها مرتبطة بالرسل.
(4) «الحج عرفه من جاء قبل طلوع الفجر من ليلة فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه (الامام أحمد فى مسنده وأبو عدى فى الكامل والحاكم فى مستدركه والبيهقي فى السنن) 358/ 2 منتخب كنز العمال.
(5) «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شىء» .
مفتاح كنوز السنة (مادة العتق) للدكتور ا. فنسنك ط لجنة ترجمة دائرة المعارف الاسلامية، ومراجعه سنن أبى داود كتاب 28 باب 1 وسنن ابن ماجه كتاب 19 باب 3 وموطأ مالك كتاب 39 ومسند أحمد ج 2 ص 178، 184.(1/384)
اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه: أحدهما سؤالهم الرؤية والثاني عبادة العجل بعد ما ظهرت لهم الآيات الباهرة.
فأمّا سؤالهم الرؤية فذمّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، وكل ذلك سوء أدب.
الإشارة فيه أيضا أن من يكتفى بأن يكون العجل معبوده- متى- يسلم له أن يكون الحقّ مشهوده؟
ويقال القوم لم يباشر العرفان أسرارهم فلذلك عكفوا بعقولهم «1» على ما يليق بهم من محدود جوّزوا أن يكون معبودهم.
قوله جل ذكره: وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً.
حجة ظاهرة، بل تفردا صانه من التمثيل والتعطيل.
والسلطان المبين التحصيل والتنزيه المانع من التعطيل والتشبيه.
ويقال السلطان المبين القوة بسماع الخطاب من غير واسطة.
__________
(1) هذا كلام له أهمية قصوى فى تحديد مدى تقدير القشيري لقيمة العقل.
فنحن نعرف من مذهبه فى المعرفة أن العقل يعول عليه فقط فى البداية، يقول في رسالته ص 197 (تجب البداءة بتصحيح اعتقاد بين العبد وبين الله تعالى صاف عن الظنون والشبه خال من الضلال والبدع صادر عن البراهين والحجج) ولكن العقل بعدئذ غير جدير بمواصلة الصعود إلى ما هو أعلى من ذلك لأنه يصاب بآفات (التجويز والتحير والتوهم والتحدد) ويناط بغير العقل من الملكات الأخرى وهى القلب والروح والسر وعين السر أو سر السر أن تواصل القصود نحو الذرى العليا. فما أشبه الذين يريدون تطبيق الوسائل العقلية على الربوبية بمن عبدوا العجل! وعكفوا بعقولهم على المحدود!(1/385)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
ويقال السلطان المبين لهذه الأمة غدا، وهو بقاؤهم فى حال لقائهم- قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضامون فى رؤيته» «1» - فى خبر الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 154]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
ما زادهم فى الظاهر آية إلا زادوا فى قلوبهم جحدا ونكرا، فلم تنفعهم زيادة نصيب الإعلام لمّا لم تنفتح لشهودها بصائر قلوبهم، قال تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 155]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)
معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولا تصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان.
ويقال لحقهم شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي فبنقضهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذلوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السّلام- بغير حق، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادّعوا شدة التفهّم، وقالوا: قلوبنا أوعية العلوم، فردّ الله عليهم وقال: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» فحجبهم عن محلّ العرفان، فعمهوا فى ضلالتهم.
__________
(1) « ... إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر» البخاري كتاب 9 باب 15 و 26 وكتاب 65 سورة 4 مفتاح كنوز السنة ص 57.
(2) آية 101 سورة يونس(1/386)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 156 الى 158]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
مجاوزة الحدّ ضلال، كما أن النقصان والتقاصر عن الحقّ ضلال، فقوم «1» تقوّلوا على مريم ورموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحدّ فى تعظيمها فقالوا: ابنها ابن الله، وكلا الطائفتين وقعوا فى الضلال.
ويقال مريم- رضى الله عنها- كانت وليّة الله، فشقى بها فرقتان: أهل الإفراط وأهل التفريط. وكذلك كان أولياؤه- سبحانه- فمنكرهم يشقى بترك احترامهم، والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبونه يشقون بالزيادة فى إعظامهم، وعلى هذه الجملة درج الأكثرون من الأكابر.
قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ ... يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ.
قوله تعالى: «وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.... عَزِيزاً حَكِيماً» قيل أوقع الله شبهه «2» على الساعي به فقتل وصلب مكانه، وقد قيل: من حفر بئرا لأخيه وقع فيها «3»
__________
(1) أخطأ الناسخ فكتبها (فقوموا) .
(2) وردت (شبهة) بالتاء المربوطة والصواب (شبهه) .
(3) اختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقى على جميع أصحابه، وكانوا اثنى عشر رجلا (ذكر أسماءهم) ومنهم ليودس زكريا يوطا. ويقول ابن اسحق (نقلا عن رواية نصرانية) أن ليودس مقابل ثلاثين درهما هو الذي دل الأعداء على عيسى بأن قبّله ساعة دخولهم فأخذوه فصلبوه. انتهت الرواية.
تعليق: هذه الرواية التي اعتمد عليها ابن اسحق تتفق مع ما جاء فى الأناجيل الأربعة وليودس هذا هو يهوذا الاسخريوطى.(1/387)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
وقيل إن عيسى عليه السّلام قال: من رضى بأن يلقى عليه شبهى فيقتل دونى فله الجنة، فرضى به بعض أصحابه «1» ، فيقال لمّا صبر على مقاساة التلف لم يعدم من الله الخلف «2» ، قال الله تعالى: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» «3» .
ويقال لمّا صحّت صحبة الرجل مع عيسى- عليه السّلام- بنفسه صحبه بروحه، فلمّا رفع عيسى- عليه السّلام- إلى محل الزلفة، رفع روح هذا الذي فداه بنفسه إلى محل القربة «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
لما حكم بأن لا أمان لهم فى وقت اليأس لم ينفعهم الإيمان فى تلك الحالة، فعلم أنّ العبرة بأمان الحقّ لا بإيمان العبد.
قال جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) .
__________
(1) عن ابن اسحق عن رجل كان نصرانيا وأسلم أنه ذكر له أن عيسى حين جاءه من الله إنى رافعك قال يا معشر الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقى في الجنة حتى يشبه للقوم فى صورتى فيقتلوه فى مكانى فقال أحدهم واسمه سرجس: أنا يا روح الله. قال: فاجلس فى مجلسى فجلس فيه، ورفع عيسى (عم) فدخلوا على سرجس وصلبوه.
وفى رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس اتفاق كبير مع ذلك دون ذكر اسم (سرجس) . [.....]
(2) أخطأ الناسخ إذ نقلها (الخلق) بالقاف.
(3) آية 30 سورة الكهف.
(4) فى تعبير القشيري ذكاء، ففى حالة عيسى قال (رفع) دون أن يحدد كيفية الرفع، أبا الجسد أم بالروح أم بهما معا، وفى حالة الثاني قال (رفع روحه) ، ونفهم- من حيث المصطلح- أن الزلفة أقوى من القربة.(1/388)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
يقال ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات.
فمن ركب محظورا بظاهره حرم «1» ما كان يجده من الأحوال المباحة، والألطاف الحاصلة فى سرائره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
الراسخ فى العلم هو ألا يكون فى الدليل مقلّدا، كما لا يكون فى الحكم مقلدا، بل يضع النظر موضعه إلى أن ينتهى إلى حد لا يكون للشكّ فى عقله مساغ.
ويقال الراسخ فى العلم من يرتقى عن حد تأمل البرهان «2» ويصل إلى حقائق البيان.
ويقال الراسخ فى العلم أن يكون بعلمه عاملا حتى يفيد عمله علم ما خفى على غيره، ففى الخبر:
«من عمل بما علمه ورّثه الله علم ما لم يعلم» «3» .
وخصّ «الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» فى الإعراب فنصب اللفظ بإضمار أعنى على المدح لما للصلاة من التخصيص من بين العبادات لأنها تالية الإيمان فى أكثر المواضع فى القرآن، ولأن الله
__________
(1) أخطأ الناسخ حين كتبها (جرم) بالجيم والصواب أن تكون بالحاء لارتباطها بتحريم المباحات فيما سبق.
(2) أي ينبغى ألا يعكف الإنسان على العقل وحده بل عليه أن يرتقى عن هذا الحد.
(راجع الهامش الذي يتناول هذه القضية من هذا الكتاب)
(3) أورده أبو نعيم فى حلية الأولياء عن أنس بن مالك.
ويرى أبو نصر السراج أن هذا العلم الموروث هو علم الاشارة، فيكشف الله سبحانه لقلوب أصفيائه المعاني المذخورة، واللطائف والأسرار المخزونة وغرائب العلوم وطرائف الحكم فى معانى القرآن ... اللمع ص 147 (كتاب المستنبطات) .(1/389)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
- سبحانه- أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم (بها) «1» ليلة المعراج بغير واسطة جبريل عليه السّلام ... وغير هذا من الوجوه.
قوله تعالى «أَجْراً عَظِيماً» : الأجر العظيم هو الذي يزيد على قدر الاستحقاق بالعمل.
قال جلّ ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)
إفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء بالإيمان لإفرادهم بالتخصيص والفضيلة فأفرد نوحا على ما استحقه من المقام وأفرد رسولنا عليه السّلام على ما استحقه هو، فاشتركا فى الإفراد لكنهما تباينا فى الفضيلة على حسب المقام، فتفرّد واحد من بين أشكاله بغير فضائل، وتفرّد آخر من بين أضرابه «2» بألف فضيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 164]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
سنّة الله فى أوليائه ستر قوم، وشهر قوم، وبذلك جرت سنّته أيضا فى الأنبياء- عليهم السّلام- أظهر أسماء قوم وأجمل تفصيل آخرين. والإيمان واجب بجميع الأنبياء جملة وتفصيلا، كما أن الاحترام واجب لجميع الأولياء جملة وتفصيلا، وكذلك أحوال العباد ستر عليهم بعضا وأظهر لهم بعضها، فما أظهرها لهم- طالبهم بالإخلاص فيها، وما سترها
__________
(1) إضافة وضعناها ليتماسك المعنى.
(2) وردت (أخرابه) بالخاء وهى خطأ فى النسخ والصواب (أضرابه) أي (أشكاله) التي سبقت، والفقرة كلها غير واضحة، وقد أثبتناها كما هى.(1/390)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
عليهم- فلأنه غار «1» على قلوبهم من ملاحظة أحوالهم تأهيلا لهم للاختصاص بحقائق أفردهم بمعانيها.
«وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» : إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
وقف الخلق عند مقاديرهم وبيّن أنه أرسل إليهم الرسل فتفردوا عليهم إلى اجتباء ثوابهم، واجتناب ما فيه استحقاق عذابهم، وأنه ليس للخلق سبيل إلى راحة يطلبونها ولا إلى آفة يجتنبونها إما فى الحال أو فى المآل.
قوله جل ذكره: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
أنّى يكون لمن له إلى الله حاجة على الله حجّة؟! ولكنّ الله خاطبهم على حسب عقولهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
سلّاه الله عن تكذيب الخلق إياه بما ذكره من علم الله بصدقه، ولذلك قال: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) .
__________
(1) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) : إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي العبد المؤمن ما حرّم الله تعالى عليه، الرسالة ص 126 وقال القشيري: إذا وصف الحق سبحانه بالغيرة فمعناه أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده. (الرسالة نفس الصفحة) .(1/391)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
جعل صدّهم المؤمنين (من) «1» اتباع الحقّ نظير كفرهم بالله، والله تعالى عظّم حقوق أوليائه كتعظيم حقّ نفسه، ثم قال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» جعل ظلمهم سبيل كفرهم، فعلّق استحقاق العقوبة المؤبّدة عليها جميعا. والظلم- وإن لم يكن كالكفر فى استحقاق وعيد الأبد- فلشؤم الظلم لا يبعد أن يخذله الله حتى يوافى ربّه على الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
«يا أَهْلَ الْكِتابِ» : أخبر أنه سبحانه غنى عنهم، فإن آمنوا فحظوظ أنفسهم اكتسبوها وإن كفروا «2» فبلاياهم لأنفسهم اجتلبوها. والحقّ- تعالى- منزّه الوصف عن (الجهل) «3» لوفاق أحد، والنقص لخلاف أحد.
قوله: «وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى إن خرجوا عن استعمال العبودية- فعلا، لم يخرجوا عن حقيقة كونهم عبيده- خلقا، قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «4» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
__________
(1) ربما كانت (عن) فهكذا فى الآية الكريمة.
(2) فى النسخة (وإن لم تكفروا) ولكنها مصححة باستدراك فى الهامش (وإن كفروا) وهو الأصوب.
(3) نظن أن الناسخ قد أخطأ فى نقل هذه الكلمة فان من عادة القشيري فى مثل هذا السياق أن يذكر أن طاعة المطيع ليست زينا للحق ومعصية العاصي ليست شينا له، لأجل هذا نرجح أن العبارة هنا تستقيم لو كانت (والحق تعالى منزه الوصف عن الكمال لوفاق أحد وعن النقص لخلاف أحد) .
(4) آية 93 سورة مريم.(1/392)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
غلوّهم فى دينهم جريهم على مقتضى حسبانهم حيث وصفوا- بمشابهة الخلق- معبودهم، ثم مناقضتهم حيث قالوا الواحد ثلاثة والثلاثة واحد «1» ، والتمادي فى الباطل لا يزيد غير الباطل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)
كيف يستنكف عن عبوديته وبالعبودية شرفه، وكيف يستكبر عن التذلّل وفى استكباره تلفه، ولهذا الشأن نطق المسيح أول ما نطق بقوله: إنى عبد الله، وتجمّل العبيد فى التذلل للسّادة، هذا معلوم لا تدخله ريبة» .
وقوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
لا يدل على أنهم أفضل من المسيح، لأنه إنما خاطبهم على حسب عقائدهم، والقوم اعتقدوا تفضيل الملائكة على بنى آدم.
__________
(1) الثلاثة إما أن يكون مقصودا منها: الله والمسيح ومريم، وإما- كما ورد فى الأناجيل- الأب والابن والروح القدس، وسواء انصرفت إلى هؤلاء أم إلى أولئك فانه شرك محض تولى القرآن الكريم تفنيده فى مواضع شتى. [.....]
(2) وردت (رتبة) ولا نحسب أن لها معنى هنا، ونرجح أنها فى الأصل (ريبة) أي هذا معلوم لا شك فيه.(1/393)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 173]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
العذاب الأليم ألا يصلوا إليه «1» أبدا بعد ما عرفوا جلاله، فإذا صارت معارفهم ضرورية «2» فإنهم يعرفون أنهم عنه بقوا «3» ، فحسراتهم حينئذ على ما فاتهم أشدّ عقوبة لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 174]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
البرهان مالاح فى سرائرهم من شواهد الحق.
قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.
وهو خطابه الذي فى تأملهم معانيه حصول استبصارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
«4» «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» : والسين للاستقبال أي يحفظ عليهم إيمانهم فى المآل «5» عند التوفى، كما أكرمهم بالعرفان والإيمان فى الحال.
قوله جل ذكره: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
__________
(1) أي يقطع بينهم وبين رؤيته سبحانه، وفى هذا يقول ذو النون (خوف النار إذا قيس إلى خوف القطع عن المحبوب كقطرة الماء تقذف فى أعظم المحيطات.
ويقول بعضهم: إلهى إذا شئت أن تعذبنى فألق بي إلى النار ولا تعذبنى بذل الحجاب.
(2) قلنا من قبل فى هامش سابق- نقلا عن مذهب القشيري: إن المعرفة فى البداية كسبية وفى الانتهاء ضرورية، ومعنى الكلام هنا أنهم يحرمون من أعظم الأشياء متعة بعد ما لاحت لهم بعض المعارف ... وذلك غاية فى التعذيب.
(3) (عنه بقوا) البقاء عن الله سبحانه أشد أنواع العقاب.
(4) سقطت (بالله) من الناسخ فأثبتناها فى موضعها.
(5) وردت (المال) ويلزم وضع المد على الألف لتكون (المآل) وقد تكرر هذا فى مواضع كثيرة فيما سبق.(1/394)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
هذه الهداية هى إكرامهم بأن عرفوا أن هذه الهداية من الله لهم فضل لا لأنهم استوجبوها بطلبهم وجهدهم، ولا بتعبهم وكدّهم «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قطع الخصومة بينهم فى قسمة «2» الميراث فيما أظهر لهم من النصّ على الحكم، فإن المال محبّب إلى الإنسان، وجبلت النفوس على الشحّ فلو لم ينص على مقادير الاستحقاق (لقابلة الأشباه) «3» فى الاجتهاد، فكان يؤدى ذلك إلى التجاذب والتواثب فحسم تلك الجملة بما نصّ على المقادير فى الميراث قطعا للخصام. ولتوريثه للنسوان- وإن لم يوجد منهن الذبّ عن العشيرة- دلالة على النظر لضعفهن. وفى تفضيل الذكور عليهن لما عليهم من حمل «4» المؤن وكذا السعى فى تحصيل المال، والقيام عليهن.
__________
(1) يهدف القشيري دائما إلى أن يعود بكل شىء إلى فضل الله، وأن يشعر العبد دائما بأن عمله ليس وحده كافيا للنجاة، فاذا طالع العبد نفسه فى شىء ما ففى ذلك وبال عليه.
(2) وردت (بالصاد) والصواب أن تكون بالسين، وربما كانت (قضية) فى الأصل.
(3) هكذا فى النسخة (ص) ونرجح أنها فى الأصل (لقابله الاشتباه) فى الاجتهاد اى ان النص على المواريث أزال كل اشتباه ينجم عن الاجتهاد.
(4) وردت (يحمل) ونرجح أنها فى الأصل: (حمل) فقبلها جار.
(حاشية) لم يتعرض القشيري لمعنى (الكلالة) ولقد كنا نود لو أوضح الرأى فيها، خصوصا وأن موضوعها منبهم، وتسمى هذه الآية الأخيرة من سورة النساء بآية الصيف، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك يعنى ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب قال:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكلالة فقال: «يكفيك آية الصيف» فقال لأن أكون سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها أحب إلى من ان يكون لى حمر النعم.(1/395)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
السورة التي تذكر فيها المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم سماع اسم الله يوجب الهيبة، (والهيبة) «1» تتضمن الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم يوجب الحضور والأوبة، والحضور يتضمن البقاء والقربة.
فمن أسمعه «بِسْمِ اللَّهِ» أدهشه فى كشف جلاله، ومن أسمعه «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» عيّشه بلطف أفضاله.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
«يا» حرف نداء، و «أي» اسم منادى، «ها» تنبيه، و «الَّذِينَ آمَنُوا» صلة المنادى. ناداهم قبل أن بداهم، وسمّاهم قبل أن براهم، وأهّلهم فى آزاله لما أوصلهم إليه فى آباده.
شرّفهم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ، وكلّفهم بقوله «أَوْفُوا» ، ولما علم أن التكليف يوجب المشقة قدّم التشريف بالثناء على التكليف الموجب للعناء.
ويقال الإيمان صنفان: أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود.
فبذل المجهود خدمتك، وعين الجود قسمته فبخدمتك عناء الأشباح، وبقسمته ضياء الأرواح.
وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب.
ويقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : يا من دخلوا فى إيمانى، ما وصلتم إلى أمانى إلا بسابق إحسانى.
ويقال يا من فتحت بصيرتهم لشهود حقى حتى لا يكونوا كمن أعرضت عنهم من خلقى.
__________
- وذكر الإمام أحمد بإسناد آخر أكثر صحة مما سبق.
ومن الأقوال التي ذكرت عن الكلالة انها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها اكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد، ومن الناس من يقول الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه الآية (إن امرؤ هلك ليس له ولد) .
(1) أضفناها لأن السياق يستدعيها، إذ نرجح أنها سقطت فى النسخ.(1/396)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله جل ذكره: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
كلّ مكلّف مطالب بالوفاء بعقده، والعقد ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفّقك- بعد ما أظهرك عند خطابه- بجوابه «1» ، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب.
ويدخل فى ذلك- بل يلتحق به- ما عقد القلب معه سرّا بسرّ من خلوص له أضمره، أو شىء تبيّنه، أو معنى كوشف به أو طولب به فقبله.
ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرّى من المنّة، والتحقق بتولي الحق- سبحانه- بلطائف المنّة «2» .
قوله جل ذكره: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جرم سبق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها- دليل على ألّا علّة لصنعه.
وحرّم الصيد على المحرم خصوصا لأن المحرم متجرّد عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كفّ الأذى عن كل حيوان.
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ.
لا حجر عليه فى أفعاله، فيخصّ من يشاء بالنّعماء، ويفرد من يشاء باليلوى فهو يمضى الأمور فى آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى فى آزاله.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
الشعائر معالم الدّين وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر (يكون) بالإخلال بالأوامر.
قوله جل ذكره: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ.
__________
(1) يشير القشيري إلى قوله تعالى يوم الذر: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى» .
(2) يفرّق القشيري بين المنة للعبد والمنة للحق. [.....](1/397)
تعظيم المكان الذي عظّمه الله، وإكرام الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله- هو المطلوب من العبيد أمرا، والمحبوب منه حالا.
قوله جل ذكره: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً.
وبالحرىّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربّ البيت.
والابتغاء للفضل والرضوان بتوقّى موجبات السخط، ومجانبة العصيان.
قوله جل ذكره: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا.
قوله «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ... » أي لا يحملكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدّ الإذن فى الانتقام، أي كونوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحظّ لكم.
قوله جل ذكره: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى.
البرّ فعل ما أمرت به، والتقوى ترك ما زجرت عنه.
ويقال البرّ إيثار حقه- سبحانه، والتقوى ترك حظّك.
ويقال البرّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفة النّفس.
ويقال المعاونة على البرّ بحسن النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدى الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ، وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم.
والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئا مما يقتدى بك لا يرضاه الدّين، فيكون قولك الذي تفعله ويقتدى بك (فيه) سنّة تظهرها و (عليك) نبوّ وزرها. وكذلك المعاونة(1/398)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخصال على الوجه الذي يقتدى بك فيه.
قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
العقوبة ما تعقب الجرم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المعاقب عن شهود المعاقب فإنّ تجرّع كاسات البلاء بشهود المبلى أحلى من العسل والشهد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
وأكل الميتة أن تتناول من عرض أخيك على وجه الغيبة «1» ، وليس ذلك مما فيه رخصة بحال لا بالاضطرار ولا بالاختيار، وغير هذا من الميتة مباح فى حال الضرورة.
ويقال كما أنّ فى الحيوان ما يكون المزكى منه مباحا والميتة منه حراما فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطهّر نفسه- مباح قربه، حلال صحبته. ومن ماتت نفسه فى ظلمة غفلته حتى لا إحساس له بالأمور الدينية فخبيثة نفسه، محظور قربه، حرام معاشرته، غير مباركة صحبته.
وإنّ السلف سموا الدنيا خنزيرة، ورأوا أنّ ما يلهى قربه، وينسى المعبود ركونه، ويحمل على العصيان جنوحه- فهو محرّم على القلوب ففى طريقة القوم حبّ الدنيا حرام على القلوب، وإن كان إمساك بعضها حلالا على الأبدان والنفوس.
قوله جل ذكره: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ.
كما أنّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيّب فمن بذل روحه فيه وجد روحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأسرته مطالب الأغراض والأعراض- فحرام ماله على أهل الحقائق فى مذهب التعزز، فللشريعة الظرف والتقدير.
وأمّا المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك فى حبال المنى والرغائب، وأخذه خناق
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى قوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ... » .(1/399)
الطمع، وخنقته سلاسل (الحرص) «1» فحرام على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم.
وأمّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جبلت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهى التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرام على أهل هذه القصة.
والإشارة من المتردية إلى من هلك فى أودية التفرقة، وعمى عن استبصار رشد الحقيقة فهو يهيم فى مفاوز الظنون، وينهك فى متاهات المنى.
والإشارة من النطيحة إلى من صارع الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من:
قوله جلّ ذكره: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ.
وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأكلة الجيف الكلاب ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله لأن زاد المؤمن من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنّفس فهو مذموم.
قوله جل ذكره: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.
فهو ما أرصد لغير الله، ومقصود كلّ حريص- بموجب شرعه- معبوده من حيث هواه قال الله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» يعنى اتخذ هواه إلهه.
«وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» ، الإشارة منه إلى كل معاملة ومصاحبة بنيت على استجلاب الحظوظ الدنيوية- لا على وجه الإذن- إذ القمار ذلك معناه. وقلّت المعاملات المجرّدة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.
قوله جل ذكره: ذلِكُمْ فِسْقٌ.
أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدّين.
__________
(1) وردت (الحرس) وهى خطأ فى النسخ.(1/400)
قوله جل ذكره: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
أي بعد ما أزحتم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن، فلا تلاحظوا سواى، ولا يظلّلن قلوبكم إشفاق من غيرى.
ويقال إذا كانت البصائر متحققة بأن النّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شظية منها إلا بقدرة الحق- سبحانه، فمن المحال أن تنطوى- من مخلوق- على رغب أو رهب.
قوله جل ذكره: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
إكماله الدين- وقد أضافه إلى نفسه- صونه العقيدة عن النقصان وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.
ويقال إكمال الدّين تحقيق القبول فى المآل، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول فى الحال فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول.
ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شىء يعلمه الحق- سبحانه- من أوصافه وقد علّمك.
ويقال إكمال الدين أن ما تقاصر عنه عقلك من تعيين صفاته- على التفصيل- أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار.
وإنما أراد بذكر «الْيَوْمَ» وقت نزول الآية. وتقييد الوقت فى الخطاب بقوله «الْيَوْمَ» لا يعود إلى عين إكمال الدّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.
والدّين موهوب ومطلوب فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوب ما سبق منه حصوله.
قوله جل ذكره: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه، والنعمة المذكورة(1/401)
هاهنا نعمة الدّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك فى مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعترى فى الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟
قوله جل ذكره: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
وذلك لما قسم للخلق أديانهم فخصّ قوما باليهودية، وقوما بالنصرانية، إلى غير ذلك من النّحل والملل، وأفرد المسلمين بالتوحيد والغفران.
وقدّم قوم الإكمال على الإتمام، فقالوا: الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وصف به النعمة لقبول النّعم للزيادة، ولا رتبة بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.
ويقال لا فرق بين الدّين والنعمة المذكورة هاهنا، وإنما ذكر بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال: «نِعْمَتِي» وإلى العبد فقال: «دِينِكُمْ» . فوجه إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخلق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء «1» ، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاع فى السّرّ.
قوله جل ذكره: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالك فترة، أو لمريد فى السلوك وقفة، ثم تنبّه لعظيم واقعه فبادر إلى جميع الرّجعة باستشعار التحسّر على ما جرى تداركته الرحمة، ونظر الله- سبحانه- إليه بقبول الرجعة.
والإشارة من قوله «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير معرّج على الفترة، ولا مستديم لعقدة الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده فى الحال فربما تجرى معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.
__________
(1) هذه العبارة تساوى فى المعنى ما سبق ذكره ان «الدين موهوب ومطلوب» والمقصود بالعناء أن الدين معاناة وممارسة من جانب العبد.(1/402)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
لما علموا أن الحسن من أفعالهم ما ورد به الأمر وحصل فيه الإذن تعرّفوا ذلك من تفصيل الشرع، فقال: «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» ثم قال:
«قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» وهو الحلال الذي تحصل من تناوله طيبة القلوب فإنّ أكل الحرام يوجب قسوة القلب، والوحشة مقرونة بقسوة القلب، وضياء القلوب وطيب الأوقات متصل بصون الخلق عن تناول الحرام والشبهات.
وقوله: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» : ولمّا كان الكلب المعلّم ترك حظّه، وأمسك ما اصطاده على صاحبه حلت فريسته، وجاز اقتناؤه، واستغرق فى ذلك حكم خساسته فكذلك من كانت أعماله وأحواله لله- سبحانه- مختصة، ولا يشوبها حظّ تجلّ رتبته وتعلو حالته.
ويقال حسن الأدب يلحق الأخسّة برتبة الأكابر، وسوء الأدب يردّ الأعزّة إلى حالة الأصاغر.
ثم قال: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» : بيّن أنّ الأكل- على الغفلة- غير مرضىّ عنه (فى القيمة) «1» «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» بحيث لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب- اليوم- مع الأحباب والأولياء، فهم لا يسامحون فى (الخطوة) «2» ولا فى اللحظة، معجّل حسابهم، مضاعف- فى الوقت- ثوابهم وعقابهم.
__________
(1) وضعت (فى القيمة خطأ) بعد سريع الحساب وقد أثبتناها فى موضعها الصحيح.
(2) ربما كانت فى الأصل (الخطرة) بالراء فالأكابر يحاسبون على أدق خاطر يخطر على قلوبهم.(1/403)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
ليس الطّيّب ما تستطيبه النفوس، ولكن الطيب ما يوجد فيه رضاء الحق- سبحانه- فتوجد عند ذلك راحة القلوب.
«وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» : القدر الذي بيننا وبينهم من الوفاق فى إثبات الربوبية لم يعر من أثر فى القربة فقال الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» «1» وكذلك الأمر فى المحصنات من نسائهم. وأحل الطعام والذبيحة بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يعلى.
ثم قال «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» يعنى إنهم وإن كانوا كفارا فلا تجب صحبتهن بغير نكاح تعظيما «2» لأمر السّفاح، وتنبيها على وجوب مراعاة الأمر من الحق. وكذلك «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» لأنه إذا لم يجز تعلق قلبك بالمؤمنين على وجه المخادنة فمتى يسلم ذلك مع الكفار الذين هم الأعداء؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
__________
(1) آية 82 سورة المائدة.
(2) تعظيما هنا معناها تهويلا واستبشاعا.(1/404)
كما أنّ فى الشريعة لا تصحّ الصلاة بغير الطهور فلا تصحّ- فى الحقيقة- بغير طهور.
وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر أيضا طهارة، وطهارة الأبدان بماء السماء أي المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل.
وكما يجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة يجب- فى بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذّل للأشكال عن طلب خسائس الأعراض.
وكما يجب غسل اليدين فى اليدين فى الطهارة يجب قصرهما عن الحرام والشبهة.
وكما يجب مسح الرأس يجب صونه عن التواضع والخفض لكل أحد.
وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة يجب صونهما فى الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.
كما يقتضى غسل جميع البدن فى الطهارة، كذلك فى الطهارة الباطنة ما يوجب الاستقصاء وذلك عند ما تقع للمريد فترة فيقوم بتجديد عقد، وتأكيد عهد، والتزام عزامة، وتسليم وقت، واستدامة ندامة، واستشعار خجل.
وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التّيمم فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته، ويغسله ببركات إشارته، ويعينه بما يئوب به من زيادة حالته- اشتغل بما تيسّر له من اقتفاء آثارهم، والاستراحة إلى ما يجد من سالف سيرهم، وما ورد من حكاياتهم(1/405)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
وكما أن فرض التيمم على الشطر والنقصان فكذلك المطالبات على إصفاء هذه الحالة تكون أخف لأنه وقت الفترة وزمان الضعف.
قوله جل ذكره: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.
وتلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة، فإذا عدم اللطائف فى سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق بآداب الشريعة، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة.
قوله جل ذكره: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.
أي يطهر ظواهركم عن الزلة بعصمته، ويطهر قلوبكم عن الغفلة برحمته.
ويقال يطهر سرائركم عن ملاحظة الأشكال، ويطهر ظواهركم عن الوقوع فى شباك الأشغال.
ويقال يطهر عقائدكم عن أن تتوهموا تدنّس المقادير بالأعلال.
قوله جل ذكره: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
إتمام النعمة على قوم بنجاة نفوسهم، وعلى آخرين بنجاتهم عن نفوسهم، وشتّان بين قوم وقوم!.
ويقال إتمام النعمة فى وفاء العاقبة فإذا خرج من الدنيا على وصف العرفان والإيمان فقد تمّت سعادته، وصفت نعمته.
ويقال إتمام النعمة فى شهود المنعم فإنّ وجود النعمة لكل أحد ولكنّ إتمامها فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمت أنه من هو.
ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القسم وهم فى كتم العدم، فلا للأغيار عنهم خبر،(1/406)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
ولا لهم عين ولا أثر، ولا وقع عليهم بصيرة، وقد (سماهم) «1» بالإيمان، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرّفهم التوحيد قبل أن كلّفهم الحدود، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة، فقابلوا قوله بالتصديق، ووعدوا من أنفسهم الوفاء بشرط التحقيق، فأمدّهم بحسن التوفيق، وثبّتهم على الطريق، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره: «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» .
ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» : يعنى فى نقض ما أبرمتم من العقود، والرجوع عمّا قدمتم من العهود، «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
لا يعوّقنّكم حصول نصيب لكم فى شىء عن الوفاء لنا، والقيام بما يتوجّب عليكم من حقنا.
ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه، ولم يمح عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يف لواجباته بشرط.
قوله جل ذكره: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنّ مرتع الظلم وبيء، ومواضع الزيغ مهلكة.
ثم صرّح بالأمر بالعدل فقال: «اعْدِلُوا» ولا تكون حقيقة العدل إلا (بالعدول) «2» عن كل حظ ونصيب.
__________
(1) نرجح أنها فى الأصل (وسمهم) فالوسم فى الاصطلاح تتعلق بالأزل وهذا يتفق مع السياق.
(2) وردت (بالعدوان) والصواب أن تكون (بالعدول) كما هو واضح.(1/407)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
والعدل أقرب إلى التقوى، والجور أقرب من الرّدى، ويوقع عن قريب فى عظيم البلوى.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 9]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
والمغفرة لا تكون إلا للذنب، فوصفهم بالأعمال الصالحات، ثم وعدهم المغفرة ليعلم أن العبد تكون له أعمال صالحة وإن كانت له ذنوب تحتاج إلى غفرانها، بخلاف ما توهّم من قال إن المعاصي تحبط الطاعات.
ويقال بيّن أن العبد وإن كانت له أعمال صالحة فإنه يحتاج إلى عفوه وغفرانه، ولولا ذلك لهلك، خلافا لمن قال إنه لا يجوز أن يعذّب البريء ويجب أن يثيب المحسنين «1» .
ويقال لو كان ثواب المحسنين واجبا، وعقوبة البريء غير حسنة لكان التجاوز عنه واجبا عليه، ولم يكن حينئذ فضل يمن به عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 10]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
لهم عقوبتان: معجلة وهى الفراق، ومؤجلة وهى الاحتراق.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يذكّرهم ما سلف لهم من نعم الدفع «2» وهو ما قصر عنهم أيدى الأعداء، وذلك من أمارات
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى أقوال المعتزلة بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي- على الله، فلا وجوب- فى نظره- على الله، وإنما كل شىء منه فضل، ولا قيمة لعمل العبد بجانب هذا الفضل.
(2) يميز القشيري بين نعمتين: نعمة دفع ونعمة نفع.(1/408)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
العناية. ولقد بالغ فى الإحسان إليك من كان يظهر لك الغيب من غير التماس أو سبق شفاعة فيك، أو رجاء نفع من المستأنف «1» منك، أو حصول ربح فى الحال عليك، أو وجود حق فى المستأنف لك.
ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» يعنى كما أحسنت إليكم فى السالف من غير استحقاق فانتظروا جميل إحسانى فى (الغابر) «2» من غير (استيجاب) «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
يذكرهم حسن أفضاله معهم، وقبح (فعلهم) «4» فى مقابلة إحسانه بنقضهم عهدهم.
وعرف المؤمنين- تحذيرا لهم- ألا ينزلوا منزلتهم فيستوجبوا مثل ما استوجبوه من عقوبتهم.
قوله جل ذكره: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.
أي لئن قمتم بحقي لأوصلن إليكم حظوظكم، ولئن أجللتم أمرى فى العاجل لأجلّن قدركم فى الآجل.
وإقامة الصلاة أن تشهد من تعبده، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اعبد الله كأنّك تراه» .
ويقال إقامة الصلاة شرطها أن تقبل على من تناجيه بأن تستقبل القطر الذي الكعبة فيه.
وأمّا إيتاء الزكاة فحقّه أن تكسب المال من وجهه، وتصرفه فى حقه، ولا تمنع الحق
__________
(1) أي ما يمكن أن نقدمه من طاعات فى المستقبل، فالله غنى عنه.
(2) نرجح أنها (الحاضر) حتى ينسجم السياق فإن (الغابر) و (السالف) بمعنى (الماضي) .
(3) يعنى استحقاق. [.....]
(4) وردت (فعلهم) بميم زائدة من الناسخ.(1/409)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
الواجب فيه عن أهله، ولا تؤخر الإيتاء عن وقته، ولا تحوج الفقير إلى طلبه فإنّ الواجب عليك أن توصل ذلك إلى مستحقه.
وتعزير «1» الرسل الإيمان بهم على وجه الإجلال، واعتناق أمرهم بتمام الجد والاستقلال، وإيثارهم عليك فى جميع الأحوال.
قوله جل ذكره: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.
الأغنياء ينفقون أموالهم فى سبيل الله، والفقراء يبدلون مهجتهم وأرواحهم فى طلب الله، (فأولئك) «2» عن مائتى درهم يخرجون خمسة، وهؤلاء لا يدخرون عن أمره نفسا ولا ذرّة.
قوله جل ذكره: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
التكفير هو الستر والتغطية، وإنه يستر الذنوب حتى عن (العاصي) «3» فيمحو من ديوانه، وينسى الحفظة سوالف عصيانه. وينفى عن قلبه تذكر ما أسلفه، ولا يوقفه فى العرصة على ما قدّم من ذنبه، ثم بعد ذلك يدخله الجنة بفضله كما قال: «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ، كما قيل:
ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة ... حتى أنالوا كفّه وازدادوا
قوله جل ذكره: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
فمن جحد هذه الأيادى بعد اتضاحها فقد عدل عن نهج أهل الوفاء، وحاد عن سنن أصحاب الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة فى العصيان.
__________
(1) وردت (وتعزم) والصحيح (وتعزير) والعزر في اللغة الرد ومعناها هنا رددتم عنهم أعداءهم ونصرتموهم.
(2) وردت (فهؤلاء) وقد جعلناها أولئك إشارة إلى البعيد ليتميز كل فريق.
(3) وردت (المعاصي) بالميم والصواب بدونها فهكذا يتطلب السياق.(1/410)
قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.
وتحريفهم الكلم عن مواضعه نوع عصيان منهم، وإنما حرّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم من قبل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظم وزر يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يعاقب بها العبد، وقسوة القلب عدم التوجع مما يمتحن به من الصدّ، وعن قريب يمتحن بمحنة الرد بعد الصدّ «1» ، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد.
ويقال قسوة القلب أولها فقد الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع عن هذه الجملة فهو تمام الشقوة.
ومن تحريف الكلم- على بيان الإشارة- حمل الكلم على وجوه من التأويل مما تسوّل لصاحبه نفسه، ولا تشهد له دلائل العلم ولا أصله «2» .
قوله جل ذكره: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أوّل آفاتهم نسيانهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيان حاصل من الخذلان.
قوله جل ذكره: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
الخيانة أمرها شديد وهى من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوّد اتباع الشهوات، وأشرب فى قلبه حبّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخلق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجود الحقّ- سبحانه- عليه بجميل اللطف.
قوله جل ذكره: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحد أهلا للعقاب. وللصفح
__________
(1) من هذا نفهم أن (الرد) عند القشيري أقرب وأشد وقعا من (الصد) .
(2) هذا أصل من أصول التأويل المقبول فى نظر القشيري، وهو في الوقت نفسه يوضح صفة في التفسير الإشارى.(1/411)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
على العفو مزية وهى أن فى العفو رفع الجناح، وفى الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه- بعد التجاوز- بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح.
والإحسان تعميم- للجمهور- بإسداء الفضل.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
الإشارة فى هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال: «قالُوا إِنَّا نَصارى» .
وسموا نصارى لتناصرهم، وبدعواهم حرّفوا وبدّلوا، وأما المسلمون فقال: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» «1» .
كما قال: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «2» فلا جرم ألا يسموا بالتناصر. ولمّا سمّاهم الحقّ بالإسلام ورضى لهم به صانهم عن التبديل فعصموا.
ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال صلّى الله عليه وسلّم:
«المؤمنون كنفس واحدة» «3» ، وقال تعالى فى صفة أهل الجنة: «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» «4» .
__________
(1) آية 78 سورة الحج.
(2) آية 2 سورة المائدة.
(3) فى رواية الإمام مسلم عن النعمان بن بشير.
المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله ... » صحيح مسلم ج 4 ص 271.
(4) آية 44 سورة الصافات.(1/412)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
وصف الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بإظهار بعض ما أخفوه، وذلك علامة على صدقه إذ لولا صدقه لما عرف ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم، وذلك من أمارات خلقه إذ لولا خلقه لما فعل ذلك فإظهار ما أبداه دليل علمه، والعفو عما أخفى برهان حلمه.
قوله جل ذكره: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغنى عند فقد البصيرة، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
من اشتملت عليه أرحام الطوامث متى يفارقه نقص الخلقة؟
ومن لاحت عليه شواهد التغيّر أنّى يليق به نعت الربوبية؟(1/413)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد فأى نقص يعود إلى الصمد؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
البنوة «1» تقتضى المجانسة، والحقّ عنها منزّه، والمحبة بين المتجانسين تقتضى الاحتظاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مقدّس.
فردّ الله- سبحانه- عليهم فقال تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» .
والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضا للقديم فالقديم لا بعض له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز- على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة.
ويقال فى الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» .
ويقال بيّن فى هذه الآية أن قصارى الخلق إمّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شىء وراء ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) .
__________
(1) وردت (النبوة) وهى خطا فى النسخ لأن الإشارة عائدة إلى ما جاء فى الآية:
«نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ»(1/414)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
يقال فى: كل زمان تقع فترة فى سبيل الله ثم تتجدد الحال، ويعمّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العدم، ولقد كان زمان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أكثر الأزمنة بركة، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك منّ عليهم، وذكّرهم عظيم نعمته فيهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
كان الأمر لبنى إسرائيل- على لسان نبيّهم- بأن يتذكروا نعمة الله عليهم، وكان الأمر لهذه الأمة «1» - بخطاب الله لا على لسان مخلوق- بأن يذكروه فقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «2» وشتان بين من أمره بذكره- سبحانه- وبين من أمره بذكر نعمته! ثم جعل جزاءهم ثوابه الذي هو فضله، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى:
«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» .
قوله جل ذكره: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً.
الملك من المخلوقين من عبد الملك الحقيقي.
ويقال الملك من ملك هواه، والعبد من هو فى رقّ شهواته.
ويقال «جَعَلَكُمْ مُلُوكاً» : لم يخرجكم إلى أمثالكم، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالكم، وسهّل إليه سبيلكم فى عموم أحوالكم.
قوله جل ذكره: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
لئن آتى بنى إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده، والاستقلال بوجوده أتمّ من الاستغناء بمقتضى جوده.
__________
(1) يقصد أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
(2) آية 152 سورة البقرة.(1/415)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 21]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
من الفرق بين هذه الأمة وبين بنى إسرائيل أنه أباح لهم دخول الأرض المقدسة على الخصوص فقال: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال فى شأن هذه الأمة «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «1» فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابة تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا.
وقال: «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.....» وقال لهذه الأمة: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» «2» فهؤلاء ذلّل لهم وسهّل عليهم، وأولئك صعّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
قوله جل ذكره: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
الارتداد على قسمين: عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل، وعن الإرادة وذلك يوجب الشّقوة- التي هى الفراق- على القلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 22]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
لاحظوا الأغيار بعين الحسبان فتوهموا أن شيئا من الحدثان، وداخلتهم هواجم الرعب فأصروا على ترك الأمر. ومن طالع الأغيار بأنوار البصائر شاهدهم فى أسر التقدير قوالب متعرية عن إمكان الإيجاد، ولم يقع على قلبه ظلّ التّوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
__________
(1) آية 105 سورة الأنبياء. [.....]
(2) آية 15 سورة الملك.(1/416)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
أنعم الله (عليهما) «1» بأنوار العرفان فلم يحتشما من المخلوقين، وعلما أن من رجع إليه بنعت الاستكفاء تداركته عواجل الكفاية ثم قال:
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغى للمؤمن أن يتوكل.
ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومن الله ولله، فإنّ من فقد ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 24]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
من أقصته سوابق التقدير لم يزده تواتر (العظة) «2» إلا نفورا وجحودا.
قوله جل ذكره: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
تركوا آداب الخطاب فصرّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 25]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
لما ادّعى أنّه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه حيث أخذ برأس أخيه يجرّه إليه.
ويقال لا أملك إلا نفسى أي لا أدخرها عن البذل فى أمرك. لا أملك إلا أخى فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه من قبلك.
__________
(1) (عليهما) زيادة أضفناها ليتضح المعنى.
(2) وردت (العظمة) والمعنى يرفضها ويتطلب (العظة) التي وردت فى الآيات السابقة.(1/417)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
مجاهرة الرد تعجّل العقوبة فإن من ماكر الحقيقة أبدت الحقيقة له من مكامن التقدير ما يلجئه إلى التطوّح فى أوطان الذّلّ.
ويقال حيّرهم فى مفاوزهم حتى عموا عن القصد فصاروا يبيتون حيث يصبحون، بعد طول التعب وإدامة السير، وكذلك من حيّره الله فى مفاوز القلب يتقلب ليلا ونهارا فى مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة، فيحطون بحيث يرحلون عنها، فلا وجه للرأى الصائب يلوح لهم، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره، ووقع فى روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
كانت الدنيا بحذافيرها فى أيديهما فحسد أحدهما صاحبه، فلم يصبر حتى أسرع فى شىء بإتلافه، وحين لم يقبل قربانه اشتد حسده على صاحبه، ورأى ذلك منه فهدّده بالقتل.
فأجابه بنطق التوحيد.
قوله جل ذكره: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
يعنى إنما يتقبّل القربان ممّن «1» طالع فى القربان مساعدة القدرة، وألقى توهّم كونه باستحقاقه واستيجابه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 28]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) .
__________
(1) وردت (من) وهى خطأ فى النسخ.(1/418)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
لئن بدأتنى بالإثارة «1» لم أقابلك كأوصاف أهل الجهل بل أكل أمرى إلى من بيده مقاليد الأمور.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 29]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
تحقّق بأنّ العقوبة لاحقة به على ما يسلفه من الذّنب فرضى بانتقام الله دون انتقامه لنفسه.
وقوله: «أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي تستوجبه بسبب قتلك إياى، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
لا تستولى هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق، فإذا توالت العزائم الرديئة، واستحكمت القصود الفاسدة من العبد صارت دواعى الحق خفية مغمورة.
والنّفس لا تدعو إلا (إلى) «2» اتباع الشهوات ومتابعة المعصية «3» ، وهى مجبولة على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) .
__________
(1) وردت (الإشارة) والملائم أن تكون (الإثارة) .
(2) سقطت (إلى) من الناسخ والمعنى يستلزمها.
(3) وردت (العصيبه) ولا معنى لها هنا وإنما الملائم (المعصية) .(1/419)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
إرادة الحق- سبحانه- وصول الخلق إلى لطف الاحتياط فى أسباب التعيش، فإذا أشكل عليهم وجه من لطائف الحيلة سبّب الله شيئا يعرّفهم ذلك به.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
هذا قريب مما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة «1» » .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
السعى فى الفساد على ضربين: بالظاهر وعقوبته معلومة فى مسائل الفقه بلسان العلم، وفى الباطن وعقوبته واردة على الأسرار، وذلك بقطع ما كان متصلا من واردات الحق، وكسوف شمس العرفان، والستر بعد الكشف، والحجاب بعد البسط. والحجاب استشعار
__________
(1) فى رواية مسلم عن جرير بن عبد الله: (.. من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا) ج 4 ص 2059 ط ع الحلبي.(1/420)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوحشة بعد الأنس، وتبديل توالى التوفيق بصنوف الخذلان، والنفي على بساط العبادة «1» .
والإخراج إلى متابعة النفوس، وذلك- والله- خزى عظيم وعذاب أليم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
من أقلع عن معاصيه، وارتدع عن ارتكاب مساويه، قبل أن يهتك عنه ستر السداد لا تقام عليه- في الظاهر- حدود الشريعة لاشتباهها على الإمام، ولا يؤاخذه الحق سبحانه بقضايا إجرامه أخذا بظاهر ما يثبت من حاله ماله فى استيجاب السداد، فإذا بدا للإمام «2» جرمه أقيم عليه الحدّ وإن تقنّع بنقاب التقوى.
وكذلك إذا سقط العبد عن عين الله لم يصل بعده إلى ما كان عليه من معاودة تقريب الحق- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
ابتغاء الوسيلة التبري عن الحول والقوة، والتحقق بشهود الطول والمنّة.
ويقال ابتغاء الوسيلة هو التقريب إليه بما سبق لك من إحسانه.
ويقال الوسيلة ما سبق لك من العناية القديمة.
ويقال الوسيلة اختياره لك بالجميل.
ويقال الوسيلة خلوص (العقد) «3» عن الشك.
ويقال ابتغاء الوسيلة استدامة الصدق فى الولاء إلى آخر العمر.
ويقال ابتغاء الوسيلة تجريد الأعمال عن الرياء، وتجريد الأحوال عن الإعجاب، وتخليص النّفس عن الحظوظ.
__________
(1) أي الإخراج من نطاق الارادة إلى نطاق العبادة.
(2) وردت (للايمان) وهى خطأ فى النسخ إذ الامام هو الذي يقيم الحد.
(3) وردت (العقد) وربما كانت (العقل) فهو الذي يصاب بآفة الشك، وكلاهما مقبول فى المعنى(1/421)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 36]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)
اليوم- يقبل من الأحباب مثقال ذرة، وغدا- لا يقبل من الأعداء ملء الأرض ذهبا، كذا يكون الأمر.
ويقال إفراط العدو فى التقرب موجب للمقت، وتستر الولي «1» فى التودد إحكام لأسباب الحب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 37]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
كما أن الأعداء لا محيص لهم من النار كذلك المبعدون عن التوفيق كلما أرادوا إقلاعا عن التهتك أدركهم- من فجأة الخذلان- ما يركسهم فى وهدة العناء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
لو أنّ وليا من الأولياء سرق نصابا من جرد، ووجد فيه استحقاق القطع، أقيم عليه الحدّ كما يقام على المتهتك، ولا يسقط الحدّ لصلاحه. والإشارة فيه أن أمر الملك مقابل بالتعظيم، بل كل من كان أعلى رتبة فخطره أتمّ وأخفى، والمطالبة عليه أشدّ «2» . فلا يستخفنّ أحد الإلمام بزلة «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 39]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
__________
(1) وردت (المولى والصواب أن تكون (الولي) ضد (العدو) حسبما نعرف من أسلوب القشيري
(2) لأن أصحاب الرتبة الكبيرة بهم اقتداء فعليهم وزرهم ووزر من تبعهم.(1/422)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
من استوفى أحكام التوبة فتدارك ما ضيّعه، وندم على ما صنعه، وأصلح من أمره ما أفسده- أقبل الله عليه بفضله فغفره «1» ، وعاد إليه باللطف فجبره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 40]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
بيّن أنه لا يعذّب من يعذّب بعلّة، ولا يرحم من يرحم بعلة، وإنما يتصرف فى عبده بحق ملكه، وأنّ الحكم حكمه، والأمر أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
من أقصاه الحقّ عن محلّ التقريب، وأرخى له عنان الإمهال وكله إلى مكره، ولبّس عليه حاله وسرّه، فهو ينهمك فى أودية حسبانه، وإنما يسعى فى أمر نفسه فيعمل بما يعود إليه وباله، فأمر نبيّه- صلّى الله عليه وسلّم- بترك المبالاة بأمثالهم، وقلة الاهتمام بأحوالهم، وعرّفه أنهم بمعزل عن رحمته وإنّ من ردّته القسمة الأزلية لا تنفعه الأعلال
__________
(1) غفره أي غطاه وستر خطاياه. [.....](1/423)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
فى الاستقبال، فقال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يعنى إن أهّله الله للحرمان، وقيّده بشباك الخذلان فشفاعة الأغيار فيه غير مقبولة، ولطائف القبول إليه غير موصولة.
قوله جل ذكره: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
أولئك الذين لم تعجن طينتهم بماء السعادة فجبلوا على نجاسة الشرك فإن عدم الطهارة الأصلية لا يتنقّى بفنون المعاملات.
ويقال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» : من أرسل عليه غاغة الهوى، وسلّط عليه نوازع المنى، وأذلّه ( ... ) «1» القضاء، فليس يلقى عليه غير الشقاء.
قوله جل ذكره: لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وردوا من الهوان إلى الهوان، ووعدوا بالفراق، وردّوا إلى الاحتراق، فلا تدرى أي حاليهم أقرب من استيجاب الذل؟ بدايتهم فى الرد أم نهايتهم فى الشرك والجحد؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
يعنى إنهم طرحوا حشمة الدّين، وقنعوا بالحظوظ الخسيسة واكتفوا (بالأعواض) «2» (النذرة) «3» ، فإذا تحاكموا إليك فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من (الآزال) «4» ،
__________
(1) مشتبهة.
(2) الأعواض جمع عوض وربما كانت في الأصل (الأعراض) جمع عرض، وكلاهما مقبول.
(3) (النذرة) أي القليلة الهينة ولا نستبعد أنها (العذلة) أي الخسيسة وعند ذلك تكون الكلمة التالية رقم
(4) الأنذال جمع نذل، وليس بمستبعد أن تكون الانزال أي الاحلال فيكون السياق (فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من الاحلال الانزال. من قولهم خللت بالمكان أي نزلت به) .
وربما كان المقصود بالآزال ما سبق لهم من القسمة.(1/424)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
وأنت مخير فيما تريد فسواء أقبلت عليهم فحكمت أو أعرضت فرددت فالاختيار لك.
قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» : الإقساط الوقوف على حدّ الأمر من غير (حنف) «1» إلى الحظ.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
يعنى أنهم قارفوا الجحد، وأصرّوا على الغى، وتعودوا الإعراض عن الإيمان، فمتى تؤثّر فيهم دعوتك، وقد سدّت مسامعهم عن القبول، وطبع على قلوبهم سابق الحكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
يخبر أنه استحفظ بنى إسرائيل التوراة فحرّفوها، فلما وكل إليهم حفظها ضيّعوها.
وأمّا هذه الأمة فخصّهم بالقرآن، وتولّى- سبحانه- حفظه عليهم فقال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «2» فلا جرم لو غيّر واحد حركة أو سكونا من القرآن لنادى الصبيان بتخطيئه.
قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
إنّ الخلق تجرى عليهم أحكام القدرة وأقسام التصريف فالخشية منهم فرع من المحال، فإنّ من ليس له شظية من الإيجاد فأنّى تصحّ منه الخشية؟!
__________
(1) حنف- ميل وليس بمستبعد أن تكون فى الأصل (حيف) إلى الحظ وكلاهما مقبول.
(2) آية 9 سورة الحجر.(1/425)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قوله جل ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
لا تأخذوا على جحد «1» أوليائى والركون إلى ما فيه رضاء أعدائى عوضا يسيرا فتبقوا بذلك عنّى، ولا يبارك لكم فيما تأخذون من العوض.
«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ... » فمن اتخذ بغيره حكما، ولم يجد- تحت جريان حكمه- رضى واستسلاما»
ففى شرك خامر قلبه، وكفر قارن سرّه. وهيهات أن يكون على سواء! قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
بيّن أن اعتبار العدالة كان حتما فى شرعهم، ولمّا جنحوا إلى التضييع استوجبوا الملام.
«فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» ، يعنى فمن آثر ترك ماله باعتناق العفو لم يخسر علينا باستيجاب الشكر، ومن أبى إلا تماديا فى إجابة دواعى الهوى فهم الذين وضعوا الشيء فى غير موضعه أي استبدلوا بلزوم الحقائق متابعة الحظوظ، وبإيثار الفتوة موافقة البشرية «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 46]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
__________
(1) وردت (جهد) بالهاء والملائم أن تكون (جحد) فهكذا تشير الآية الكريمة، وكذلك السياق إن رضاء الأعداء يقابله جحد الأولياء.
(2) وردت (واستلاما) والصواب (استسلاما) أي أي انقيادا وطاعة.
(3) لأن من عناصر الفتوة- عند الصوفية- البذل والإيثار والتضحية.(1/426)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
يعنى أتبعناهم بعيسى ابن مريم، وخصصناه بالإنجيل، وفى الإنجيل تصديق لما تقدّمه، وتحقيق لما أوجب الله وألزمه، فلا الدّين قضوا حقه، ولا الإنجيل عرفوا فرضه، ولا الرسول حفظوا أمره ففسقوا وضلوا، وظلموا وزلّوا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 47]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قال الله تعالى فى هذه السورة «1» : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» .
وقال فى موضع آخر « ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» وقال فى هذه الآية « ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أمّا فى الأول فقال: «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ... فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر.
وفى الثاني قال: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» لأن من جاوز حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظلم بعضهم على بعض.
وأمّا هاهنا فقال: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أراد به معصية دون الكفر والجحد «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) .
__________
(1) وردت فى هذه (الآية) والصواب أن تكون (السورة) لأن القشيري ألقى نظرة شاملة على آية واحدة ذات نهايات شتى فى السورة كلها.
(2) وهذه هى المنزلة بين الكفر والإيمان- كما يسميها بعض علماء الكلام.(1/427)
قدّم تعريفه- صلّى الله عليه وسلّم- قصص الأولين على تكليفه باتباع ما أنزل الله عليه لئلا يسلك سبيل من تقدّمه فيستوجب ما استوجبوه.
قوله جل ذكره: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ.
لا تتملكك مودة قريب أو حميم، واعتنق ملازمة أمر الله- تبارك وتعالى- بترك كل نصيب لك.
ثم قال: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» يعنى طريقة وسنّة أي أفردنا كلّ واحد منكم- معاشر الأنبياء- بطريقة، (وأمّا «1» ) أنت فلا يدانيك فى طريقتك أحد، وأنت المقدّم على الكافة، والمفضّل على الجملة، ولو شاء الله لسوّى مراتبكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفضّل بعضكم على بعض امتحانا.
قوله جل ذكره: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
مسارعة كل أحد على ما يليق بوقته فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد «2» .
ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقطع الهوى، واستباق العارفين بنفي المنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعقبى.
__________
(1) وردت (ولما) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وقع الناسخ فى تكرار عبارة (والعارفون..) فحذفناها(1/428)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
قم بالله فيما تحكم بينهم، وأقم حقوقه فيما تؤخر وتقدم، ولا تلاحظ الأغيار فيما (تؤثر) «1» أو تذر، فإن الكلّ محو فى التحقيق.
قوله جل ذكره: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ.
يعنى (عظهم) «2» بلسان العلم فإن أبوا قبولا فشاهدهم بعين الحكم. ويقال: أشدد عليهم باعتناق لوازم التكليف، فإن أعرضوا فعاينهم بعين التصريف فانّ الحقّ- سبحانه- بشرط التكليف يلزمهم وبحكم التصريف يؤخرهم ويقدمهم، فالتكليف فيما أوجب، والتصريف فيما أوجد، والعبرة بالإيجاد والإيجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أيعودون فى ظلمة الحجاب ووحشة الالتباس بعد ما سطع فجر العرفان، وطلعت شموس التحقيق، وانهتكت أستار الريب؟
ويقال أيطلبون منك أن تحيد عن المحبة المثلى، وقد اتضحت لك البراهين وتجلّى اليقين؟
ويقال أيطمعون فى استتار الحقائق فى السرائر وقد تجلت شموس اليقين؟
__________
(1) وردت (تؤشر) بالشين وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(2) وردت (عظمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ.(1/429)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
ويقال أتحسبون أن (....) «1» ظلمة الشك لها سلطان، وقد متتع نهار الحقائق «2» ... كلّا، فإن ذلك محال.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه- سبحانه- إيثارا للسكون إلى الحظ، أو احتشاما من القيام للحق، أو ركونا إلى قرابة نسب، أو استحقاقا لمودة حميم، أو تهيبا من استيحاش صديق. بل صمموا عقودكم على التبرّى منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين «3» . «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» التحق بهم، وانخرط فى سلكهم، وعدّ فى جملتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 52 الى 53]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) .
__________
(1) مشتبهة
(2) متوع النهار اصطلاح صوفى تحدث القشيري عنه فى مواضع أخرى من هذا الكتاب ضمن اللوائح واللوامع والطوالع.
(3) قائمة إلى الدين اى راجعة إلى اختلاف دينهم عنكم، وربما سقطت من الناسخ كلمة يوم قبل (الدين) فيكون المعنى: إن العداوة بينكم وبينهم قائمة دائمة إلى يوم الدين.(1/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
يعنى إن الذين سقمت ضمائرهم، وضعفت فى التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة «1» الأعداء خوفا من معاداتهم، وطمعا فى المأمول من صحبتهم، ولو استيقنوا أنهم فى أسر العجز وذل الإعراض ونفى الطرد لأمّلوا الموعود من كفاية الحق، والمعهود من جميل رعايته، ولكنهم حجبوا عن محل التوحيد فتفرّقوا فى أودية الحسبان والظنون، وعن قريب يأتيكم الفرج- أيها المؤمنون، وترزقون الفتح بحسن الإقبال، والظفر بالمسئول لسابق الاختيار، فيشعرون الندم، ويقاسون الألم، وأنتم (تعلون) «2» رءوسكم بعد الإطراق، وتصفو لكم مشارب الإكرام، وتضىء بزواهر القرب مشارق القلوب. حينئذ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب فى أسرارهم، ويصلون من موعودهم إلى ما يوفى ويربو على مقصودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
جعل صفة من لا يرتدّ عن الدين أن الله يحبه ويحبّ الله، وفى ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يعلم أن من كان غير مرتد فإنّ الله يحبه. وفيه إشارة دقيقة فإن من كان مؤمنا يجب أن يكون لله محبا، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه. وفى الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد.
ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه: إمّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه.
أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله.
وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعام مخصوص، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبة أخصّ من الرحمة،
__________
(1) وردت (هرارة) ، وبالرجوع إلى كتب التفسير ساعدتنا على اختيار (مداراة) (انظر تفسير وجدي) .
(2) وردت (تعلمون) والملائم أن تكون (تعلون) رءوسكم بعد الإطراق.(1/431)
واللفظان يعودان إلى معنى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق.
وأمّا محبة العبد لله- سبحانه- فهى حالة لطيفة يجدها فى قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثار «1» موافقة أمره، وترك حظوظ نفسه، وإيثار حقوقه- سبحانه- بكل وجه.
وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد فى الوقت الذي يعبّر عنه فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المحبّ بالكلية فى ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى.
ويقال المحبة سكر لا صحو فيه ودهش فى لقاء المحبوب يوجب التعطّل عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يرجى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه. ويقال المحبة غريم يلازمك لا يبرح، ورقيب من المحبوب يستوفى له منك دقائق الحقوق فى دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة فمحبة الحق أوجبت محبة العبد «2» .
قوله جل ذكره: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
لولا أنه يحبهم لما أحبوه، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنّى تكون للطينة ذكر المحبة؟
ثم بيّن الله تعالى صفة المحبين فقال «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» . يبذلون المهج فى المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح فى الذبّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور.
__________
(1) وردت خطأ (إيسار) بالسين
(2) كلام القشيري فى المحبة هنا لا يكاد يختلف كثيرا عن كلامه عنها فى (الرسالة)(1/432)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
ثم قال تعالى فى صفتهم: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود فى دوام الأوقات.
ثم قال: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» أي لا يلاحظون نصح حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سنن الوفاء بحال.
ثم بيّن- سبحانه- أن جميع ذلك إليه لا منهم فقال: و «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» متفضّل عليم بمن يخصّ بذلك من عبيده.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)
الولي أي الناصر، ولا موالاة بين المؤمنين وبين أعداء الحق- سبحانه- فأعداء الحقّ هم أعداء الدّين.
و «إِنَّما» حرف يقتضى أن ما عداه بخلافه، وأعدى عدوّك نفسك- كما فى الخبر- ومن عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 56]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
الفائزون على حظوظهم الذين هم خصم للحقّ على أنفسهم لا خصم لأنفسهم على مولاهم، والغلبة بالحجّة والبرهان دون اليد.
ويقال من قام لله بصدق انخنس دونه كلّ مبطل. ويقال إذا طلعت أنوار الحق أدبر ليل أهل الباطل.
__________
(1) أي إن من خاصم نفسه لم تقم بينه وبين الناس ولا بينه وبين الحق خصومة من أجل نفسه فقد، انتفت حظوظها بالكلية وأسلمها لربه بلا معارضة.(1/433)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
نبّههم على وجوب التحيز عنهم والتميز منهم، فإن المخالف فى العقيدة لا يكون موافقا فى الحقيقة.
ويقال أمرهم بأن يلاحظوهم بعين الاستصغار كما لاحظوا دين المسلمين بعين الاستحقار.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
الأذان دعاء إلى محلّ النجوى، فمن تحقّق بعلوّ المحلّ فسماع الأذان يوجب له روح القلب واسترواح الروح، ومن كان محجوبا عن حقيقة الحال لاحظ ذلك بعين اللعب وأدركه بسمع الاستهزاء، وذلك حكم الله: غاير بين عباده على ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
ما لنا عندكم عيب إلا أننا تحققنا أننا محو فى الله، (وأنّ الكائنات حاصلة بالله ولا نتقفى أثرا سوى لله فى الله) «1» ، وهذا- والله- عيب زائل، ونقص ليس له- فى التحقيق- حاصل.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
__________
(1) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.(1/434)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
يعنى أخسّ من المذكورين قدرا، وأقل منهم خطرا من سقط عن عين الله فأذلّه، وأبعده عن نعت التخصيص فأضلّه، ومنعه عن وصف التقريب وأبعده، وحجبه عن شهود الحقيقة وطرده.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 61]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
أظهروا الصدق، وفى التحقيق نافقوا، وافتضحوا من حيث أوهموا ولبّسوا فلا حالهم بقيت مستورة، ولا أسرارهم كانت عند الله مكبوتة «1» ، وهذا نعت كل مبطل. وعند أرباب الحقائق أحوالهم ظاهرة فى أنوار فراستهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 62]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62)
تملكتهم الأطماع فاستهوتهم فى متاهات العناء، وذلك نعت كل (طالع) «2» فى غير مطمع ذلّ حاضر، وصغار مستول.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 63]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) .
__________
(1) وردت (مكتوبة) والصواب أن تكون مكبوتة لتلائم مستورة التي سبقت.
(2) ربما كانت (طامع) فى غير مطمع وربما كانت (ضالع)(1/435)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
الربّانىّ من كان لله وبالله لم تبق منه بقية لغير الله.
ويقال الرّبانىّ الذي ارتقى عن الحدود.
والربانىّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات، فخلا عن نفسه، وصفا عن وصفه، وقام لربّه وبربّه.
وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمئون إليه، وتحقق ما علقوا هممهم به.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
صغّر سوء قالة الموحّدين- فى اغتياب بعضهم لبعض بعد ما كانوا بالتوحيد قائلين وبالشهادة ناطقين- بالإضافة إلى ما قاله الكفار من سوء القول فى الله يعنى أنهم وإن أساءوا قولا فلقد كان أسوأ قولا منهم من نسبنا إلى ما نحن عنه منزّه، وأطلق فى وصفنا ما نحن عنه مقدّس.
ثم إن الحق- سبحانه قال: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا» فلا ريح الصدق يشمون، ولا نفسا من الحقّ يجدون.(1/436)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
ثم أثنى على نفسه فقال: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» «1» أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية.
ويقال «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحد عن نعم النفع وإن خلا عن نعم الدفع.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 65]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
إنما وعدهم الغفران بشرط التقوى ودليل الخطاب يقتضى أنه لا يغفر لمن لم يتق منهم.
وقال لظالمى هذه الأمة: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» «2» ثم قال فى آخر الآية: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» أي أهل التقوى لأنه هو أهل المغفرة، فإن تركتم التقوى فهو أهل لأن يغفر ويقال لو أنهم راعوا أمرنا أصلحنا لهم أمرهم، ولكنهم وقفوا فوقفوا.
قوله جلّ ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 66]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
أي لو سلكوا سبيل الطاعة لوسّعنا عليهم أسباب المعيشة وسهّلنا لهم الحال حتى إن ضربوا بيمين ما لقوا غير اليمن، وإن ذهبوا يسرة ما وجدوا إلا اليسر.
قوله جل ذكره: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
المقتصد الواقف على حدّ الأمر لا يقصّر فينقص، ولا يجاوز فيزيد.
__________
(1) لاحظ كيف يؤول القشيري (اليد) ليبعد عنها كل دلالة حسية ويجعلها من الأوصاف الالهية.
(2) آية 32 سورة فاطر. [.....](1/437)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
ويقال المقتصد الذي تساوى فى همّته الفقد والوجود فى الحادثات.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
لا تكتم شيئا مما أوحينا إليك ملاحظة لغير، إذ لا غير- فى التحقيق- إلا رسوم موضعة، وأحكام القدرة عليها جارية.
ويقال بيّن للكافة أنك سيّد ولد آدم، وأنّ آدم دون لوائك.
ويقال بلّغ ما أنزل إليك أنّى أغفر للعصاة ولا أبالى، وأردّ من المطيعين من شئت ولا أبالى. «1»
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
يحفظ ظاهرك من أن يمسّك أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوّ، أو يصون سرّك عنهم حتى لا يقع عليه احتشام منهم.
ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق فى بحر التوهم بل تشاهدهم كما هم وجودا بين طرفى العدم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) .
__________
(1) يتضح من هذه الإشارة شيئان: أولهما مدى اتساع صدور الصوفية للتسامح وفطرتهم المتفائلة إلى سعة الرحمة الإلهية مما يطمئن العصاة ويحمس على التوبة، وثانيهما مدى مخالفة القشيري للمعتزلة فى مسألة وجوب المثوبة أو العقوبة على الله سبحانه، فلا وجوب- عنده- على الله بخلافهم.(1/438)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
أي ليس انتعاشكم ولا نظام معاشكم، ولا قدركم فى الدنيا والعقبى، ولا مقداركم ولا منزلكم فى حال من حالاتكم إلا بمراعاة الأمر والنهى، والمحافظة على أحكام الشرع.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
بيّن أنهم- وإن نجنّست أحوالهم- فبعدما تجمعهم أصول التوحيد فلهم الأمان من الوعيد، والفوز بالمزيد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
داروا مع الهوى فوقعوا فى البلاء. ومن أمارات الشقاء الإصرار على متابعة الهوى، وحسبوا ألا تكون فتنة، فعموا وصموا. واغتروا بطول الإمهال فأصروا على قبيح الأعمال، فلما أخذتهم فجاءة الانتقام لم ينفعهم الندم، وبرّح بهم الألم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)(1/439)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
سقمت بصائرهم والتبست عليهم أمارات الحدوث، فخلطوا فى عقائدهم استحقاق أوصاف القدم بنعوت الحدوث! قوله جلّ ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
بلغ الخذلان بهم حدا أن كابروا الضرورة فحكموا للواحد بأنه ثلاثة، ولا يخفى فساد هذا على مجنون.. فكيف على عاقل؟! قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لم يغلق باب التوبة عليهم- مع قبيح أقوالهم، وفساد عقائدهم- تضعيفا «1» لآمال المؤمنين بخصائص رحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
من اشتملت عليه الأرحام، وتناوبته الآثار المتعاقبة أنّى يليق بوصف الإلهية؟
ثم من مسّته الحاجة حتى اتصف بالأكل وأصابته الضرورة إلى أن يخلص من بقايا الطعام فأنّى يليق به استيجاب العبادة والتسمية بالإلهية؟
انظر- يا محمد- كيف نزيد فى إيضاح الحجة وكيف تلبّس عليهم سلوك المحجة؟
__________
(1) تضعيفا أي جعلها مضاعفة.(1/440)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
تعليق القلوب- بدون الرب- فى استدفاع الشر واستجلاب الخير بمحيق للوقت فيما لا يجدى، وإذهاب للعمر فيما لا يغنى إذ المتفرد بالإيجاد برىء عن الأنداد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
التعمق فى الباطل قطع لآمال الرجوع فكلما كان بعد المسافة من الحقّ أتمّ كان اليأس من الرجعة أوجب، ومتّبع الضلالة شرّ من مبتدعها لأن المبتدع يبنى والمتّبع يتمّ البناء، ومن به كمال الشرّ شرّ ممن منه ابتداء الشر.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)
أمر الأنبياء- عليهم السلام- حتى ذكروا الكفار بالسوء، وأمّا الأولياء فخصّهم بذكر نفسه فقال: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ» «1» فلعنة الكفار بلسان الأنبياء، وذكر المؤمنين بالجميل بلسان الحقّ- سبحانه، ولو كان ذلك ذكرا بالسوء لكان فيه استحقاق فضيلة، فكيف وهو ذكر بالجميل!؟ ولقد قال قائلهم:
لئن ساءنى أن تلقني بمساءة ... فقد سرّنى أني خطرت ببالكا
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 79]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
__________
(1) آية 43 سورة الأحزاب.(1/441)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
«1» الرضاء بمخالفة أمر الحبيب موافقة للمخالف، ولا أنفة بعد تميز الخلاف. والسكوت عن جفاء تعامل به كرم، والإغضاء عما يقال فى محبوبك دناءة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 80]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
شرّ خصال اللئام مطابقة من يضاد الصديق، فإذا كان سخط الله فى موالاة أعدائه، فرحمته- سبحانه فى معاداة أعدائه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 81]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
صرّح بأنّ موافق من ناوءك «2» آثر التباعد عنك إذ لو كانت بينكما شهرة غير منقطعة لأخلصت «3» فى موالاته، وأخلص فى مصافاتك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
بيّن أنّ صفة العداوة وإن كانت تجمعهم فمعاداة بعضهم تزيد على بعض، وبقدر
__________
(1) سقطت (فعلوه) من الناسخ فاثبتناها.
(2) وردت (ناولك) وربما كانت فى الأصل (ناواك) والتبست على الناسخ فظنها لاما.
(3) أخطأ الناسخ فكتبها (لأخصلت) .
.(1/442)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
ما للنصارى من التّرهّب أثر فيهم (بالمقاربة) «1» من أهل الحق فإنهم وإن لم ينتفعوا بهم من حيث الخلاص فقد ذكرهم الله سبحانه- بمقاربة أهل الاختصاص.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 83]
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قرعت سمعهم دعوة الحقّ ابتسمت البصيرة فى قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 84]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
وأي عذر لنا فى التعريج فى أوطان الارتياب، وقد تجلّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حسن العاقبة. متى بدونه يمكن أن نطلبه؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 85]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
لمّا صدقت آمالهم قابلها بالتحقيق، سنّة منه- سبحانه- ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه «2» ، وإنما علّق الثواب على قول القلب الذي هو شهادة عن شهوده، فأمّا النظر المنفرد عن البصيرة فلا ثواب عليه ولا إيجاب «3» .
__________
(1) وردت (بالمقارنة) والصواب أن تكون (المقاربة) فقد وردت كذلك فيما بعد إشارة إلى ما فى الآية (أقربهم مودة ... ) . وربما قبلنا (المقارنة) على أساس مقارنة النصارى باليهود.
(2) وردت (مؤلميه) وهى خطأ فى النسخ.
(3) لاحظ هنا قيمة الإيمان النظري بالقياس إلى الإيمان القلبي ومغزى ذلك فى التسامح الديني.(1/443)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 86]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
(هذا) أثر الإعراض عن الأعداء فى مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجّلا ومؤجلا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 87]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
من أمارات السعادة الوقوف على حد الأمر إن أباح الحقّ شيئا قبله، وقابله بالخشوع، وإن حظر شيئا وقف ولم يتعرض للجحود.
ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب فى أوطان الخلوة، وتحريم ذلك: إن استبدل تلك الحالة بالخلطة دون العزلة والعشرة دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 88]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الحلال الصّافى بأن يأكل العبد ما يأكل على شهوده- سبحانه- فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره- سبحانه- فإنّ الأكل على الغفلة حرام فى شريعة الإرادة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)(1/444)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
الإشارة منه إلى وقت يغلب على قلبك التعطش إلى شىء من إقباله أو وصاله، فتقسم عليه بجماله أو جلاله أن يرزقك شظية من إقباله، فكذلك فى شريعة الرضا نوع من اليمين، فيعفو عنك رحمة عليك لضعف حالك. والأولى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت ما يجرى عليك من أحكامه فى الردّ والصد، وأن تؤثر استقامتك فى أداء حقوقه على إكرامك بحسن تقريبه وإقباله، كما قال قائلهم:
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد
ومن اللغو فى اليمين- عندهم- ما يجرى على لسانهم فى حال غلبات الوجد من تجريد العهد وتأكيد العقد، فيقول:
وحقّك ما نظرت إلى سواكا، ولا قلت بغيرك.. ولا حلت عن عهدك، وأمثال هذا ...
وكلّه فى حكم التوحيد لغو، وعن شهود عهد الأحدية سهو ... ومن أنت فى الرّفعة حتى تعدم نفسك؟ وأين فى الدار ديّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره؟ كلا ... بل هو الله الواحد القهار «1» .
وكما أن الكفّارة الشرعية إمّا عتق أو إطعام وإما كسوة فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام: فكفّارتهم- على موجب الإشارة- إمّا بذل الروح بحكم الوجد، أو بذل القلب بصحة القصد، أو بذل النفس بدوام الجهد، فإن عجزت فإمساك وصيام عن المناهي والزواجر.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 90]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
__________
(1) وشبيه بذلك قول الشبلي حين سئل عن التوحيد (من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوى، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ... وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم» الرسالة ص 149.(1/445)
الخمر ما خامر العقول، والخمر حرام.
والإشارة فيه أنه يزيد نفاد العقل بما يوجب عليه من الالتباس.
ومن شرب من خمر الغفلة فسكره أصعب فشراب الغفلة يوجب البعد عن الحقيقة.
وكما أن من سكر من خمر الدنيا ممنوع عن الصلاة فمن سكر من خمر الغفلة فهو محجوب عن المواصلات.
وكما أنّ من شرب من خمر الدنيا وجب عليه الحدّ فكذلك من شرب شراب الغفلة فعليه الحدّ إذ يضرب بسياط الخوف.
وكما أنّ السكران لا يقام عليه الحدّ ما لم يفق فالغافل لا ينجح فيه الوعظ ما لم ينته.
وكما أن مفتاح الكبائر شرب الخمر (فالغفلة) «1» أصل كلّ زلّة، وسبب كلّ ذلّة وبدء كل بعد وحجبة عن الله تعالى.
ويقال لم يحرم عليه الشراب فى الدنيا إلا وأباح له شراب القلوب فشراب الكبائر محظور (وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب) »
، وحيثما كان الشراب كان السكر، وفى معناه أنشدوا:
فما ملّ ساقيها وما ملّ شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللّبّا
فصحوك من لفظى هو الوصل كله ... وسكرك من لحظى يبيح لك الشربا
وحرّم الميسر فى الشرع، وفى شريعة الحب القوم مقهورون فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة فى شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القرعة من ( ... ) «3» الحكم، قال تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
«4» .
__________
(1) أضفنا (الغفلة) وليست موجودة فى النص ليتضح المعنى.
(2) ما بين القوسين مثبت فى الهامش نقلناه إلى موضعه حسب العلامات.
(3) مشتبهة.
(4) آية 141 سورة الصافات. [.....](1/446)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 91]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
طال بعدهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان فى مطارح الغربة، وصاروا سخرة للشيطان فبقوا الصلاة التي هى محل النجوى وكمال الراحة، وفسدت ذات بينهم بما تولد من الشحناء والبغضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 92]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
كلما كان العبد أعرف بربه كان أخوف من ربه، وإنما ينتفى الحذر عن العبد عند تحقيق الموعد بقوله: «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ» «1» وذلك عند دخول الجنة. وحقيقة الحذر نهوض القلب بدوام الاستغاثة مع مجارى الأنفاس.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
من حافظ على الأمر والنهى فليس للقمة يتناولها من الخطر ما يضايق فيها، وإنما المقصود من العبد التأدب بصحبة طريقه سبحانه، فإذا اتّقى الشرك تعرّف، ثم اتقى الحرام فما تصرّف، ثم اتقى الشحّ فآثر وما أسرف.
__________
(1) آية 82 سورة الأنعام.(1/447)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
وقوله «ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا ... » يعنى اتقوا المنع «1» وأحسنوا للخلق- وهذا للعموم. ثم اتقوا شهود الخلق فأحسن الشهود الحقّ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه- وهذا للخواص.
والله يحب المحسنين أعمالا والمحسنين (آمالا) «2» والمحسنين أحوالا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
أباح الصيد لمن كان حلّالا «3» ، وحرّم الصيد على المحرم الذي قصده زيارة البيت.
والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغى أن يكون الصيد منه فى الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا: البرّ من لا يؤذى الذر ولا يضمر الشر.
ويقال الإشارة فى هذا أن من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة، ولا ينبغى أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال.
__________
(1) أي منع الإحسان.
(2) نرجح أنها فى الأصل (أموالا) .
(3) الحلال- الخارج من الإحرام (المنجد: مادة حل) .(1/448)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
وكما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار- على الواجد- حرام ما دام محرما بقلبه.
ويقال العارف صيد الحق، ولا يكون للصيد صيد.
وإذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة، وإذا لاحظ العارف الأغيار، أو طمع أو رغب فى شىء أو اختار لزمته الكفّارة، ولكن لا يكتفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع، ولكن كفّارته تجرده- على الحقيقة- عن كل غير، قليل أو كثير، صغير أو كبير.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
حكم البحر خلاف حكم البر. وإذا غرق العبد فى بحار الحقائق سقط حكمه، فصيد البحر مباح له لأنه إذا غرق صار محوا، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محو، والله غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
حكم الله سبحانه- بأن يكون بيته- اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل، ويستقيم ببركات زيارته كلّ مائل عن نهج الاستقامة، ويستنجح بابتهاله هنا لك كلّ ذى أرب.
والبيت حجر والعبد مدر، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليعلم أنه الذي لم يزل لا سبيل إليه للحدثان والغير.(1/449)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 98]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
شديد العقاب للأعداء، غفور رحيم للأولياء.
ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إن زاغوا عن الشهود لحظة، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 100]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
المتفرّد بالإلهية الله. والرسول- وإن جلّ قدره- فليس عليه إلا البلاغ وهو أيضا (بتسييره) «1» .
قوله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى فى حالة اكتسابه، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق.
ويقال الخبيث ما لم يخرج منه حقّ الله تعالى، والطيب ما أخرج منه حقه- سبحانه.
ويقال الخبيث ما ادخرته لنفسك، والطيب ما قدّمته لأمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) .
__________
(1) لا نستبعد ايضا انها ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) ، وكلاهما مقبول فى السياق.(1/450)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أخفى عنكم، فيتنغص (بالتج ... ) «1»
- عليكم- عيشكم.
ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر- حيث لا تستوجبون ذلك- فيسوءكم تقاصر رتبتكم.
ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجها من (التفال) «2» ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روح المنى فى استدفاع ما (ظلكم) «3» ولا تبحثوا عن سر ذلك، وراعوا الأمر مجملا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 102]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
يعنى توهّم قوم أنهم محررون عن التأثر فيما يصادفهم من فجاءة التقدير، وذلك منهم ظنّ، كما يقول بعضهم:
تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
هذه أحكام ابتدعوها، فردّهم الحقّ- سبحانه- عن الابتداع، وأمرهم بحسن الاتّباع، وأخبر أنّ ما صدر من عاداتهم لا يعدّ من جملة عباداتهم.
قوله جل ذكره
[سورة المائدة (5) : آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
:
__________
(1) بقية الكلمة مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (التجسس) وهى مقبولة هكذا فى السياق أي لا تجعلوا التجسس ومحاولة معرفة الأسرار ينغص عليكم عيشكم.
(2) هكذا فى النسخ ونرجح أنها فى الأصل (التأويل) وإن كانت بعيدة فى الرسم.
(3) أي ما غشيكم من سحب الإعراض.(1/451)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
إذا هتفت بهم دواعى الحقّ بالجنوح إلى وصف الصدق صدّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة (التقليد) «1» ، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلّا فى ضلال.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يكفى للفقير أن يمشى وقد جبر بعض (كسره) «2» ، فأمّا إذا ادّعى التقدم أو الطمع فى إنجاد من سواه فمحال من (الحدث) «3» والظن.
ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرّغ إلى غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
__________
(1) وردت (التقليل) والصواب (تقليد) ابائهم وأسلافهم كما فى الآية.
(2) وردت (كثره) بالثاء والصواب: جبر (كسره) بالسين.
(3) ربما كانت فى الأصل (الحدس) لتتمشى مع الظن.(1/452)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع ونسخ، وفى بيان التفسير تفصيله.
والنسخ هو الإزالة، وذلك جائز فى العبادات.
ومعنى النسخ يوجد فى سلوك المريدين فهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات. فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر، فهو كالنسخ من حيث الصورة.
قال تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» «1» . واتصافهم بمراعاة الثلوب أتمّ بتأديبهم بأحكام المعاملات «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
يكاشفهم بنعت الجلال فتنخنس فهومهم وعلومهم حتى ينطقوا بالبراءة عن التحقيق
__________
(1) آية 106 سورة البقرة.
(2) أي أن مراعاة الحقيقة تتم بمراعاة الشريعة.(1/453)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
ويقولون: «لا عِلْمَ لَنا» ، وهكذا تكون الحالة غدا: من قال لشىء، أو مال لشىء مما يكون نعتا بمخلوق فعند ظهور وابل التعزّز تتلاشى الجملة، فالملائكة يقولون: «ما عبدناك حق عبادتك» والأنبياء يقولون: «لا عِلْمَ لَنا» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
التذكير بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحب والهيمان فى المذكور «1» ، وكلّ وقت للأحباب يمضى يصير لهم حديثا يتلى من بعدهم: إما عليهم وإمّا عنهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 111]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) .
__________
(1) أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور وفيها ينتقل العبد من مرتبة ذكر النعم إلى ذكر المنعم. فكأن القشيري يقصد بإشارته إلى ان تذكير عيسى وامه بالنعم التي وردت فى الآية حث لهما على الارتقاء من مرحلة النظر إلى النعم إلى مرحلة النظر إلى صاحبها سبحانه وتعالى، وحبه والهيمان فيه. [.....](1/454)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
وإنما خصّهم بالوحى إليهم إلهاما وإكراما لانبساط ضياء عيسى عليهم «1» ، وفى الأثر:
«هم القوم لا يشقى بهم جليس» .
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 113]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
طلبوا المائدة لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة، فعذروا وأجيبوا إليها إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة.
ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه فى مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه فى (فائدة) «2» من الموارد يردها، وعزيز منهم من يجد الفناء «3» عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 114]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
شتّان بين أمة طلب لهم نبيّهم سكونا بإنزال المائدة عليهم، وبين إمة بدأهم- سبحانه-
__________
(1) وهذا يطابق فكرة القشيري فى الولاية وكيف انها ملحقة بالمعجزة، فما يظهر على الولي من كرامة هو بركة النبي الذي الولي من أمته وعصره.
(2) ربما كانت (مائدة) ليتم التقابل بين المائدتين الحسية والمعنوية.
(3) ربما كانت (الغناء) اى يجد الاستغناء عن كل برهان ودليل، وتصح (الفناء) بالفاء على معنى أن فناءه فى الله لا يحوجه إلى برهان أو دليل..(1/455)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» «1» وقال فى صفتهم «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» «2» وفرق بين من زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
أجابه إلى سؤاله لهم، ولكن توعدهم «3» بأليم العقاب لو خالفوا بعده ليعلم السالكون أنّ المراد إذا حصل، وأن الكرامة إذا تحققت- فالخطر أشدّ والحال من الآفة أقرب، وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلّت جلّت.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف.
__________
(1) آية 4 سورة الفتح.
(2) آية 2 سورة الأنفال.
(3) وردت (يوعدهم) .(1/456)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
ثم إن عيسى- عليه السّلام- حفظ أدب الخطاب فلم يزكّ نفسه، بل بدأ بالثناء على الحق- سبحانه- فقال: تنزيها لك! إننى أنزهك عما لا يليق بوصفك.
ثم قال: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أي إنى إن كنت مخصوصا من قبلك بالرسالة- وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لى؟.
ثم إنى «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» . كان واثقا بأن الحقّ- سبحانه- عليم بنزاهته من تلك القالة.
«تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي» : أي علمك محيط بكل معلوم.
«وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تعرّفني بإعلامك. «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 117]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
ما دعوتهم إلا لعبادتك، وما أمرتهم إلا بتوحيدك وتقديسك، وما دمت حيا فيهم كنت (....) «1» على هذه الجملة، فلما فارقتهم كان تصرفهم فى قبضتك على مقتضى مشيئتك، فأنت أعلم بما كانوا عليه من وصفي وفاقهم وخلافهم، ونعمتى اقتصادهم «2» وإسرافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 118]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) .
__________
(1) مشتبهة.
(2) الاقتصاد هنا معناها الاعتدال.(1/457)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
بيّن أن حكم المولى فى عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم.
ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم.
ويقال «الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو (عند) «1» القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ.
ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن (تتجمل) «2» بطاعة مطيع أو تنتقص «3» بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 119]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
من تعجّل ميراث صدقه فى دنياه من قبول حصل له من الناس، أو رياسة عقدت له، أو نفع وصل إليه من جاه «4» أو مال. فلا شىء له فى آجله من صواب صدقه، لأن الحقّ- سبحانه- نصّ بأنّ يوم القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم.
قوله جل ذكره: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
ورضاء الحق- سبحانه- إثبات محلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق- سبحانه- فى الآخرة وصولهم إلى مناهم فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.
__________
(1) وردت (عن) وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (تتحمل) وهى خطأ فى النسخ.
(3) وردت (تنتقض) بالضاد وهى خطأ فى النسخ.
(4) وردت (جاره) وهى خطأ فى النسخ.(1/458)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (5) : آية 120]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
تمدّح الحقّ- سبحانه- بقدرته القديمة الشاملة لجميع المقدورات، الصالحة لإيجاد المصنوعات، ولم يتجمل بإضافة غير إلى نفسه من اسم أو أثر، أو عين أو طلل.
قوله جل ذكره: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
من الإبعاد والإسعاد، والصد والرد، والدفع والنفع، والقمع والمنع.
السورة التي تذكر فيها الأنعام
«بسم الله الرحمن الرحيم» باسمه استنارت القلوب واستقلّت، وباسمه زالت الكروب واضمحلت، وبرحمته عرفت الأرواح وارتاحت، وبا ( ... ) «1» انخنست العقول فطاحت.
ويقال باسم الله نال كلّ مؤمّل مأموله، وبرحمة الله وجد كل واجد وصوله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
بدأ الله- سبحانه- بالثناء على نفسه، فحمد نفسه بثنائه الأزلىّ وأخبر عن سنائه الصمدى، وعلائه الأحدى فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
وقوله عز وجل: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» : ف «الَّذِي» إشارة و «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» عبارة. استقلت الأسرار بسماع «الَّذِي» لتحققها بوجوده، ودوامها لشهوده، واحتاجت القلوب عند سماع «الَّذِي» إلى سماع الصلة لأن «الَّذِي» من الأسماء الموصولة بكون القلوب تحت ستر الغيب فقال: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .
__________
(1) مشتبهة.(1/459)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قوله جل ذكره وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
خلق ظلمة الليل وضياء النهار، ووحشة الكفر والشرك، ونور العرفان والاستبصار.
ويقال جعل الظلمات نصيب قوم لا لجرم سلف، والنور نصيب قوم لا لاستحقاق سبق، ولكنه حكم به جرى قضاؤه.
ويقال جعل ظلمات العصيان محنة قوم، ونور العرفان نزهة قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
أثبت الأصل من الطين وأودعها عجائب (السير) «1» ، وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعبرة بالوصل لا بالأصل فالوصل قربة والأصل تربة، الأصل من حيث النّطفة والقطرة، والوصل من حيث القربة والنّصرة.
قوله «ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» : جعل للامتحان أجلا، ثم جعل للامتنان أجلا، فأجل الامتحان فى الدنيا، وأجل الامتنان فى العقبى.
ويقال ضرب للطلب أجلا وهو وقت المهلة، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة فالمهلة لها مدى ومنتهى، والوصلة بلا مدى ولا منتهى فوقت الوجود له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد «2» فلا غروب لها بعد الطلوع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) .
__________
(1) إما ان تكون (السير) جمع سيرة او تكون (السير) مصدر سار يسير، ولا نستبعد.
انها فى الأصل (السر) فالسر- كما يقول صاحب اللمع- هو خفاء بين العدم والوجود (اللمع ص 430) [.....]
(2) وفى ذلك يقول الشبلي:
تسرمد وقتى فيك وهو مسرمد ... وأفنيتني عنى فصرت مجردا
(اللمع ص 442)(1/460)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
وهو الذي هو معبود من فى السماء، مقصود من فى الأرض، وهو الموجود قبل كل سماء وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغير وغبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 4]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4)
أي لا يزيدهم كشفا ولطفا إلا قابلوه جحدا وكفرا، ولا يوليهم إقبالا إلا قابلوه بإعراض، ولا يلقاهم بسطا إلّا (....) «1» بانقباض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 5]
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
إنهم أصرّوا على الخلاف مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبال أمرهم، ويذوقون غبّ جحدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
يعنى من تقدّمهم كانوا أشدّ تمكنا فى إمهالنا، وأكثر نصيبا- فى الظاهر- من أقوالنا سهّلنا لهم أسباب المعاش، ووسّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وطّنوا على كواذب المنى قلوبهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النّدم، وذاقوا دونه طعم الألم. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمّا انخرطوا- في الغىّ- عن
__________
(1) مشتبهة.(1/461)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
سلكهم، ألحقناهم فى الإهلاك بهم، سنّة منا فى الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادة فى الإكرام أجريناها لأوليائنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
يخبر عن كمال قدرته فى إبداء ما يريده بعد ما قضى لهم الضلال، فلو أشهدهم كلّ دليل، وأوضح لهم كل سبيل ما ازدادوا إلا تماديا فى الضلال والنفرة، وانهماكا فى الجهل والغىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 8]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)
بيّن أنّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغنى السراج عند من فقد البصر؟
كذلك ما تغنى الحجج عند من عدم عناية الأزل؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 9]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
من لم يقدّس سرّه لبّس عليه أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 10]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
أي سبقك- يا محمد- من كذّب به كما كذّبت، فحقّ لهم نصرنا، فانتقمنا ممن ناوءهم، فعاد إليهم وبال كيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 11]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)(1/462)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قل دوخوا فى الأرض، وسيحوا فى سيركم فيها من الطول والعرض، ثم انظروا هل أفلت من حكمنا أحد، وهل وجد من دون أمرنا ملتحدا «1» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 12]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
سلهم هل فى الدار ديار؟ وهل للكون- فى التحقيق- عند الحق مقدار؟ فإن بقوا عن جواب يشفى، فقل: الله فى الربوبية يكفى.
قوله: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» : أخبر وحكم وأراد على حسب ما علم، فمن تعلّق بنجاته علمه سبق بدرجاته حكمه، ومن علمه فى آزاله أنه يشقى فبقدر شقائه فى البلاء يبقى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 13]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
الحادثات لله ملكا، وبالله ظهورا، ومن الله بدءا، وإلى الله رجوعا. وهو «السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين الواجدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 14]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
أبعد ما أكرمنى بجميل ولايته أتولى غيره؟ وبعد ما وقع علىّ ضيا عنايته أنظر فى الدارين إلى أحد؟ إنّ هذا محال فى الظنّ والتقدير.
قوله جل ذكره: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
له نعت الكرم فلذلك يطعم، وله حقّ القدم فلذلك لا يطعم.
__________
(1) الملتحد- الملجأ لأن اللاجئ يلجأ إليه (المنجد) .(1/463)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 15]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
أي إنّى بعجزي متحقق، ومن عذاب ربى مشفق، وبمتابعة أمره متخلّق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 16]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
من أدركه سابق عنايته صرف عنه لاحق عقوبته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
إنّه من ينجيك من البلاء، ومن يلقيك فى العناء. وإذ المتفرّد بالإبلاغ واحد فالأغيار كلّهم أفعاله وإن الإيجاد لا يصلح من الأفعال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 18]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
علت رتبة الأحدية صفة البشرية، فهذا لم يزل وهذا لم يكن فحصل «1» . ومتى يكون بقاء للحدثان مع وضوح سلطان التوحيد؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) .
__________
(1) وبتعبير آخر هذا واجب الوجود وهذا ممكن الوجود- كما يقول أهل الفلسفة.(1/464)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
غلبت شهادة الحقّ- سبحانه- كلّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائق الشيء علومهم، والحقّ- سبحانه- هو الذي لا يخفى عليه شىء، ثم أخبره- صلّى الله عليه وسلّم أنه مبعوث إلى الكافة ومن سيوجد إلى يوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
أحاط علمهم بصدق المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- فى نبوّته، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به فجحدوه جهرا، وعلموا صدقه سرّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 21]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
شؤم الخذلان بلغ بالنكاية فيهم ما جرّهم إلى الإصرار على الكذب على الله تعالى، ثم لم يستحيوا من اطلاعه، ولم يخشوا من عذابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 22]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
يجمعهم ليوم الحشر والنشر، لكنه يفرقهم فى الحكم والأمر، فالبعث يجمعهم ولكن الحكم يفرقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 23]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
«1» هذا الذي أخبر عنهم غاية التمرد حيث جحدوا ما كذبوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله علم لتحققوا بأنه يعلم سرّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شىء من أولاهم وعقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم.
__________
(1) أخطأ الناسخ فكتبها (مشرقين) بالقاف.(1/465)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 24]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
هذه كلمة تعجب يعنى إنّ قصتهم منها ما هو محلّ التعجب لأمثالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 25]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
بيّن أن السمع- فى الحقيقة- سمع القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سمع الظاهر فلا عبرة به.
ويقال من ابتلاه الحقّ بقلب مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاء التلبيس لم يزده ذلك إلا نفرة على نفرة.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
يعنى من أقصته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 26]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
«2» فى هذه الآية إشارة صعبة (لمن) «3» يدعو إلى الحق جهرا ثم لا يأتى بذلك سرا.
ويقال خالفت أحوالهم قضايا أقوالهم، وجرى إجرامهم مجرى من ألقوا حبالهم على غاربهم، وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله.
__________
(1) تساوى هذه العبارة فى المعنى ما يأتى بعد قليل (وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله) .
(2) سقطت الواو من الناسخ فأثبتناها.
(3) وردت (لم) وهى خطأ فى النسخ.(1/466)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 27]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
يعنى حين ينجز للعبد ما وعده له من القربة يشغل من شاء بنوع من العلة حتى لا يطلع أحد على محل الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 28]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
غدا يوم تنهتك الأستار، وتظهر الأسرار- فكم من مجلّل بثوب تقواه، ويحكم له معارفه بانه زاهد فى دنياه، راغب فى عقباه، محب لمولاه، مفارق لهواه، فيكشف الأمر عن خلاف ما فهموه، ويفتضح عندهم بغير ما ظنوه.
وكم من متهتك ستر بما أظهر عليه! ظنّ الكلّ أنه خليع العذار هيّن الأعلال، مشوش الأسرار، فظهر لذوى البصائر جوهره، وبدت عن خفايا الستر حقيقته «1» .
ثم قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أخبر عما علم أنه لا يكون أنه لو كان كيف كان يكون فقال لو ردّ أهل العقوبة إلى دنياهم لعادوا إلى جحدهم وإنكارهم، وكذلك لو ردّ أهل الصفاء والوفاء إلى دنياهم لعادوا إلى أحسن أعمالهم:
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
__________
(1) لاحظ كيف ان القشيري متاثر إلى حد كبير بتعاليم الملامتية، فأهل الملامة يقومون بأعمال تستوجب ملامة الناس سترا لأسرارهم وصونا لأحوالهم قصدا إلى محاربة دعوى النفس، والاكتفاء بعلم الحق بأحوالهم وحقائقهم.(1/467)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
يا حسرة عليهم من موقف الخجل، ومحل مقاساة الوجل، وتذكر تقصير العمل! فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان الندم حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تسمع منهم، ولا رحمة تنزل عليهم.
وحين يقول لهم: أليس هذا بالحق؟ يقرّون كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غير قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 الى 33]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
خسران وأي خسران! لم يخسروا مالا، ولا مقاما ولا حالا، ولكن كما قيل:
لعمرى لئن أنزفت دمعى فإنه ... لفرقة من أفنيت فى ذكره عمرى
المصيبة لهم والحسرة على غيرهم، ومن لم يعرف جلال قدره متى تأسّف على ما يفوته من حديثه وأمره؟! وقوله: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : ما كان للنفس فيه حظ ونصيب اليوم فهو من الدنيا، وما كان من الدنيا فإنه- لا محالة- يلهيك عن مولاك، وما يشغلك عن الحق ركونه فغير مبارك قربه.
قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ: هذه تعزية للرسول- صلّى الله عليه وسلّم(1/468)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
وتسلية. أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسببنا ولأجلنا. ولقد كنت عظيم الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليك هذا الرقم وكانوا يسمونك محمدا الأمين، فإن أصابك ما يصيبك فلأجل حديثنا، وغير ضائع لك هذا عندنا، وحالك فينا كما قيل:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة ... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
يعنى إنّ من سلك سبيلنا صبر على ما أصابه من حديثنا، فلا خسرت فينا صفقته، ولا خفيت علينا حالته، وما قابل حكمنا من عرفنا إلا بالمهج، وما حملوا مالقوا فينا إلا على الحدق:
إنّ الألى ماتوا على دين الهوى ... وجدوا المنية منهلا معسولا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
لفرط شفقته- صلّى الله عليه وسلّم- استقصى فى التماس الرحمة من الله لهم، وحمل على قلبه العزيز بسبب ما علم من سوء أحوالهم ما أثّر فيه من فنون الأحزان. فعرّفه أنهم مبعدون عن التقريب، منكوبون بسالف القسمة.
ولو أراد الحقّ- سبحانه- لخفّف عنهم، ولو شاء أن يهديهم لكان لهم مقيل فى الصدور، ومثوى على النشاط، ولكن من كبسته العزّة لم تنعشه الحيلة.(1/469)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 36]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
من فقد الاستماع فى سرائره عدم توفيق الاتّباع بظاهره، والاختيار السابق فى معلومه- سبحانه- غالب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 37]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
استزادوا من المعجزات وقد حصل من ذلك ما يذبح العذر، ولم يعلموا أن الله المانع لهم فلولا ما ( ... ) «1» من بصائرهم لما تواهموا من عدم دلائلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
يعنى تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات فى الحاجة إلى المنشئ: فى حال الإبداع ثم فى حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شىء من عين وأثر، ورسم وطلل.. إلا وهو على وحدانيته شاهد، وعلى كون أنه مخلوق.. دليل ظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
الذين فاتتهم العناية الأزلية سدّ الحرمان أسماعهم، وغشّى الخذلان أبصارهم.
__________
(1) مشتبهة وربما كانت (سد) فهى فى الخط إلى ذلك أقرب.(1/470)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
والإرادة لا تعارض، والمشيئة لا تزاحم «1» ، والحقّ- سبحانه- فى جميع الأحوال غالب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
إذا مسّكم الضرّ، ونابكم أمر فممّن ترومون كشفه؟ ومن الذي تؤملون لطفه؟
أمخلوقا شرقيا أم شخصا غربيا؟ أم ملكا سماويا أم عبدا أرضيا؟
ثم قال: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» : أي إنكم- إن تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلا بقلوبكم- لن تجدوا من دونه أحدا، ولا عن حكمه ملتحدا، فتعودون إليه فى استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرّ، كما قيل:
ويرجعنى إليك- وإن تناءت ... ديارى عنك- معرفة الرجال
وقد تركناك للذى تريد ... فعسى إن خبرته أن تعودا
فإذا جرّبت الكل، وذقت الحلو والمرّ، أفضى بك الضرّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد: إن شاء أتاح اليسر وأزال العسر، وإن شاء ضاعف الضر وعوّض الأجر، وإن شاء ترك الحال على ما (قبل) «2» السؤال والابتهال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 42]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) .
__________
(1) وردت (تزاهم) بالهاء وهى خطأ فى النسخ.
(2) وردت (قيل) وهى خطأ فى النسخ.(1/471)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
يخبر عن سالف سنته فى أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلّ بمن خالفه من الألم وفنون النّقم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 43 الى 44]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
يعنى أنهم لما أظلّهم البلاء، فلو رجعوا بجميل التضرع وحسن الابتهال والتملق لكشفنا عنهم المحن، ولأتحنا لهم المنن، ولكن صدّهم الخذلان عن العقبى فأصروا على تمردهم، فقست قلوبهم وتضاعفت أسباب شقوتهم.
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يخبر عن خفىّ مكره بهم، وكيف أنه استدرجهم، ثم أذاقهم وبال أمرهم فقال: لما طالت عن الحضرة غيبتهم، ولم تنجح مواعظنا فيهم سهّلنا لهم أسباب العوافي وصببنا عليهم عزالى «1» النّعم، وفتحنا لهم أبواب الرفاهية، فلما استمكن الرجاء من قلوبهم أخذناهم بغتة وعذبناهم فجأة، وأذقناهم حسرة فإذا هم من الرحمة قانطون، ولما خامر قلوبهم- من أسباب الوحشة عن الاستراحة بدوام المناجاة- آيسون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 45]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى لم يبق منهم عين ولا أثر، ولم يرد حديث منهم أو خبر،
__________
(1) العزالي: يقال أنزلت السماء عزاليها إشارة إلى شدة وقع المطر(1/472)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
والله- سبحانه وتعالى- بنعت العزّ واستحقاق الجلال لا عن فقدهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أو استبشار «1» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 46]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
عرّفهم محلّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم.
وحذّرهم فقال: إن لم يدم عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجب لهم ما ألبسهم من العوافي- بكل وجه فى كل لحظة- فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يردّ ما أبداه؟ كلا ... بل هو الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 47 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
«2» يقول إن عجّل موعوده لكم من العقاب أفترون أن غير المستوجب يبتلى؟ أو أن المستحقّ له يجد من دونه مهربا ومنجى؟ إنّ هذا محال من الظن.
قوله جل ذكره: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
__________
(1) فالحق- سبحانه- لا يلحقه زين بطاعة المطيع ولا شين بمعصية العاصي. [.....]
(2) أخطأ الناسخ فكتبها (الظالمين)(1/473)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
يعنى ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه تجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة فى الآجل ما يحصل من خلافهم.
فمن آمن وصدّق أنجزنا له الوعد، ومن كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضّر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
يعنى قل لهم إنى لا أتخطى خطى، ولا أتعدّى حدّى، ولا أثبت من ذات نفسى شيئا، وإنما يقال لى أبلّغت؟ وأقول: أجل، أوصلت.
ثم قال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» : هل يتشاكل الضوء والظلام؟ وهل يتماثل الجحد والتوحيد؟ كلا ... لا يكون ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
الإنذار إعلام بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» لأن الانتفاع والاتّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم.
ويقال: الخوف هاهنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمّا القلوب التي هى تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارق الخوف.
قوله: «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» يعنى كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمد لهم من أفعالهم، ولا مستند من أحوالهم، ولا (يؤمنون) «1» شيئا سوى صرف العناية وخصائص الرحمة.
__________
(1) الصواب أن تكون (يأمنون) لأن ما بعدها منصوب، ولو كانت يؤمنون لكان ما بعدها مجرورا، والسياق يقوى اختيار (يأمنون) .(1/474)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
هذه وصية له- صلّى الله عليه وسلّم- فى باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قصروا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدى الله أراد أن يبيّن له أثر حسن الابتهال فتولّى- سبحانه- خصيمتهم.
وقال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : لا تنظر يا محمد إلى خرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم فى سرائرهم «1» ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه- سبحانه- قال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصا مخلوقا يريد الحق سبحانه؟
ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق- فى التحقيق- إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها «2» .
فيقال تكلم الناس فى الإرادة: وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل فى القلوب يسلب
__________
(1) واضح من كلام القشيري اتصاف هذا النفر بصفات كثيرة تدنو بهم من أهل التصوف، وهكذا نجد أن السهروردي فى مقدمة «عوارفه» يوضح أن سبب نزول هذه الآية فى أهل الصّفة الذين كانوا يلازمون صفة مسجد المدينة وليس لهم شغل سوى العبادة وتلاوة القرآن وكان أحدهم إذا ركع قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته لتمزق ثوبه ... إلخ (عوارف المعارف ص 47) .
(2) يقول القشيري فى هذا المعنى فى «رسالته» : المريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم، لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد- في عرف هذه الطائفة من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا (الرسالة ص 101)(1/475)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
القرار من العبد حتى يصل إلى الله فصاحب الإرادة لا يهدأ «1» ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون وصوله إليه- سبحانه- سكونا ولا قرارا، كما قال قائلهم:
ثم قطعت الليل فى مهمه ... لا أسدا أخشى ولا ذيبا
يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
ويقال تقيّدت دعوتهم بالغداة والعشىّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمال الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» ثم قال: «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» أي مريدين وجهه فهى فى موضع الحال «2» .
ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، ولا مطالبة من عقباهم، ولا همّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولّى حديثهم وقال: ولا تطردهم- يا محمد- ثم قال: ما عليك من حسابهم من شىء فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مئونة قال تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» .
لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلّ يتولى الحقّ- سبحانه- حسابه فإن كان أمره خيرا فهو ملاقيه، وإن كان شرا فهو مقاسيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
أمّا الفاضل فليشكر، وأمّا المفضول فليصبر.
ويقال سبيل المفضول على لسان المحبة الشكر، ولا يتقاصر شكره عن شكر الفاضل، قال قائلهم فى معناه:
أتانى منك سبّك لى فسبّي ... أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبي
__________
(1) وردت (ولا يهدى) والصواب أن تكتب (ولا يهدأ) منعا للبس.
(2) أي إن الجملة الفعلية (يريدون وجهه) تعرب حالا(1/476)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وقال آخر:
وإنّ فؤادا بعته- لك شاكر ... وإنّ دما أجريته- لك حامد
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
أحلّه محل الأكابر والسّادة، فإن السلام من شأن الجائى إلا فى صفة الأكابر فإن الجائى أو الآتي يسكت لهيبة المأتى حتى يبتدئ ذلك المقصود بالسؤال فعند ذلك يجيب الآتي.
ويقال إذا قاسوا تعب المجيء فأزل عنهم المشقة بأن قل: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» .
ويقال السلام هو السلامة أي فقل لهم سلام عليكم سلمتم فى الحال عن الفرقة وفى المآل عن الحرقة «1» .
قوله جل ذكره: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
إن وكل بك من كتب عليك الزلة فقد تولّى بنفسه لك كتابة الرحمة.
ويقال كتب بمعنى حكم، وإنه ما حكم إلا بما علم.
ويقال كتابته لك أزلية، وكتابته عليك وقتية، والوقتية لا تبطل الأزلية.
قوله جل ذكره: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
يعنى من تعاطى شيئا من أعمال الجهّال ثم سوّف فى الرجوع والأوبة قابلناه، يعنى من تعاطى شيئا بحسن الإمهال وجميل الأفضال، فإذا عاد بتوبة وحسرة أقبلنا عليه بكلّ لطف وقبول.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) .
__________
(1) اى سلمتم فى الدنيا من عذاب نأبه وهجره، وسلمتم فى الآخرة من عذاب جهنم ذات الحريق.(1/477)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
نزيل الإشكال، ونفصح «1» طريق الاستدلال، ونطلع شموس التوحيد، ونمد أهله بحسن التأييد، ونسم قلوب الأعداء بوسم الخذلان، ونذيقهم شؤم الحرمان لئلا يبقى لأحد عذر، ولا فى الطريق إشكال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
يعنى صرّح بالاعتراف بجميل ما خصصناك به من وجوه العصمة والنعمة، وأخبرهم أنك فى كنف الإيواء متقلّب، وفى قبضة (الصون) مصرّف فلا للهوى عليك سلطان، ولا لك من محل التحقيق تباعد أو عن الحضور غيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 57]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
قل إنّ الله- سبحانه- لم يغادرنى فى قطر الطلب والتباس التحيّر، وأغنانى عن (كدّ) «2» الاستدلال، وروّحنى بشموس الحقيقة. ولئن بقيتم فى ظلمة الالتباس فليس لى قدرة على إزالة ما مننيتم به من التحير، ونفى ما امتحنتم به من الجهالة والتردد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 58 الى 59]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
__________
(1) من الإفصاح وهو الإبانة والإيضاح.
(2) وردت (قد) والقصود عناء الاستدلال وكده- حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى مثل هذا الموضع.(1/478)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
لو قدرت على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم علىّ- شفقة عليكم، لكن المتفرّد بالحكم لا يعارض فيما يريد.
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ: المفتاح ما به يرتفع الغلق، والذي يحصل مقصود كلّ أحد، وهو قدرة الحق- سبحانه فإنّ التأثير لها فى الإيجاد، والموصوف بقدرة الإيجاد هو الله:
ويقال أراد بهذا شمول علمه، أي هو المتفرّد بالإحاطة بكل معلوم، وقطعا لا يسأل عن شىء، ولا يخفى عليه شىء.
ويقال عندك مفاتح «1» الغيب وعنده مفاتح الغيب فان آمنت بغيبه مدّ الشمس على غيبك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
إنه يتوفّى الأنفس فى حال النوم وفى حال الوفاة، وكما أنه لا يعاقبك بالليل فإنه لا يعذبك- إذا توفّاك- على ما جرحت بالنهار مع علمه بأفعالك، فبالحرىّ ألا يعذّبك غدا- إذا توفّاك- على ما علمه من قبيح أحوالك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 61]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)
__________
(1) نسبة المفاتح إلى الإنسان- إن صحّ أن القشيري قالها- يمكن تأويلها على انها جمع مفتح مصدر ميمى بمعنى الفتح والفتوح وهما من فضل الله، ولكنهما بالنسبة إلى المفاتح الالهية كنسبة ضوء المصباح إلى ضوء الشمس، إذا ظهر شعاع الشمس غمر ضوء المصباح ... هكذا نفهم من السياق- والله أعلم.(1/479)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
فوق عباده بالقهر والرفعة، وفوقهم بالقدرة على أن يعذّبهم من فوقهم بإنزال العقوبة عليهم والسخطة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 62]
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
ردّهم إلى نفسه. وما غابوا عن القبضة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 63]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
تذكير النعمة يوجب الزيادة فى المحبة، فإنه إذا عرف جميلا أسداه تمكّن من قلبه الحبّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 64]
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
المتفرّد بالقدرة على إيجادكم الله، والذي هو (الخلف) «1» عما يفوتكم الله، والذي حكم بنجاتكم الله، والذي يأخذ بأيديكم كلما عثرتم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
إذا أراد الله هلاك قوم أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غدا إذا
__________
(1) وردت (الخلق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.(1/480)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.
قوله جل ذكره: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
لا طعم أردأ للإنسان من طعم الإنسان: إن شئت من الولاية والمحبة، وإن شئت فى العداوة والبغضة فمن مني بالبغضة مع أشكاله تنغّص عليه عيشه فى الدنيا، ومن منى بمحبة أمثاله تكدّر عليه حاله مع المولى، ومن صانه عن الخلق فهو المحفوظ (المعاني) «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
يعنى قل لهم إنما على تبليغ الرسالة، فأمّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فمن خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
لا توافقهم فى الحالة، ولا ترد عليهم ببسط القالة. ذرهم ووحشتهم بحسن الإعراض عنهم، والبعد عن الإصغاء إلى تهاويشهم بحسن الانقباض.
قوله جل ذكره: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
__________
(1) المحفوظ (المعاني) اى محفوظة معانيه، وربما كانت فى الأصل (المعاني) بالفاء المفتوحة أي المصون عن كل أذى وعلة.(1/481)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
أي إن بدر منك تغافل فتداركته بحسن التذكر وجميل التّنبّه، فاجتهد ألا (تزل «1» ) فى تلك الغلطة قدمك ثانية لئلا تقاسى أليم العقوبة منّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
أي من كان نقىّ (الثوب) «2» عن ارتكاب الإجرام يعزل يوم نشره عن ملاقاة تلك الآلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أي كلهم وما اختاروه فإنّا أعتدنا لهم (من خفىّ المكر ما إذا أحللناه بهم كسرنا عليهم) «3» خمار الوهم والغلظة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 71]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)
__________
(1) وردت (تذل) بالذال والصواب أن تكون بالزاي (تزل) اى تقع فهذا هو الملائم للسياق.
(2) وردت (الثواب) والصواب أن تكون (الثوب) فهو الذي يوصف بالنقاء. [.....]
(3) ما بين القوسين موجود فى هامش الورقة أثبتناه فى موضعه حسب العلامة المميزة.(1/482)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
أي كان الكفار يدعون المسلمين إلى الرجوع عن الدين والعود إلى الشرك، فقال لهم الله: قل لهم- يا محمد-: أنؤثر الضلال على الهدى بعد طلوع شمس البرهان؟
وندع الطريقة المثلى بعد ظهور البيان؟ ونترك عقوة الجنّة وقد نزلناها؟ ونطلب الجحيم مثوى بعد ما كفيناها؟ إنّ هذا بعيد من المعقول، محال من الظنون.
وكيف يساعد أتباع الشيطان من وجد الخلاص من صحبتهم، وأبصر الغىّ من صفتهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 72]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
أي أمرنا بملازمة محل المناجاة لأن اللسان إن تعوّد نجوى السلطان متى ينطق (بمكالمة) «1» الأخسّ؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 73]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
يعنى أنه لا يعترض على قدرته- سبحانه- حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود.
__________
(1) وردت (مكاملة) والأوفق بالنسبة للسان أن تكون (مكالمة) .(1/483)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
الأصل متّهم فى الجحود، والنّسل متصّف بالتوحيد، والحقّ- سبحانه- يفعل ما يريد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 75]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
لاطفه بسابق العناية، ثم كاشفه بلاحق الهداية فأراه من دلالات توحيده ما لم يبق فى (قضاء) «1» سرّه شظية من غبار العيب، فلمّا صحا من غيم التجوز «2» سما سرّه فقال بنفي الأغيار جملة، وتبرأ عن الجميع ولم يغادر منها تهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 78]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .
__________
(1) ربما كانت (فضاء) بالفاء فالغبار والغيم يعلقان بالفضاء.
(2) المقصود من ذلك ما أصاب إبراهيم من اضطراب، وهنا لفتة ذكية من القشيري حيث أراد وصم العقل بالتجويز لانحصار دائرته فى نطاق الحسّ، وعدم استطاعته تجاوز هذا النطاق لأنه معتمد عليه.(1/484)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
يعنى أحاطت به (سجوف) «1» الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال: هذا ربى ثم يزيد فى ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، «قالَ هذا رَبِّي» .
ثم (أسفر) «2» الصبح ومتع النهار فطلعت شموس (العرفان) «3» من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان، ولا للتجويز حكم، ولا للتهمة قرار فقال: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» إذ ليس بعد العيان ريب، ولا عقب الظهور ستر.
ويقال قوله- عند شهود الكواكب والشمس والقمر- «هذا رَبِّي» إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار بالله، ثم كان يرى الأشياء لله ومن الله، ثم طالع الأغيار محوا فى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 79]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
أفردت قصدى لله، (وطهّرت) «4» عقدى عن غير الله، وحفظت عهدى فى الله لله، وخلصت وجدي بالله، فإنى لله بالله، بل (محو) «5» فى الله والله الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 80]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
يعنى قال لهم أترومون ستر الشموس بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تسدلوا سجوفكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانه وتوالى بيانه؟
__________
(1) سجوف جمع سجف وسجف وهو الستر، وأرخى الليل سجوفه أي ظلمته.
(2) وردت (أصفر) والصواب أن تكون (أسفر) الصبح.
(3) لاحظ كيف طبق القشيري نظريته فى المعرفة على ندرج ابراهيم (عم) فى الوصول إلى حقيقة الألوهية من عقلية ونورها البرهان إلى قلبية ونورها البيان إلى كشفية ونورها العرفان،
(4) وردت (ظهرت) بالظاء والصواب أن تكون بالطاء
(5) وردت (مهو) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء.(1/485)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 81]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
«1» يعنى وأي خوف يقع على قلبى ظله ولم ألم بشرك ولم أجنح قطّ إلى جحد؟ وأنتم ما شممتم رائحة التوحيد فى طول عمركم، ولا ذقتم طعم الإيمان فى سالف دهركم! ثم بسوء ظنّكم تجاسرتم وما ارعويتم، وخسرتم وما باليتم. فأيّنا أولى أن يعلن بسرّه ما هو بصدده من سوء مكره وعاقبة أمره؟
قوله جلت قدرته:
[سورة الأنعام (6) : آية 82]
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
أي الذين أشاروا إلى الله ثم لم يرجعوا إلى غير الله فإن من قال «الله» ثم رجع بالتفضيل- عند حاجاته أو مطالباته أو شىء من حالاته إلى غير الله فخصمه- فى الدنيا والعقبى- الله.
والظلم- فى التحقيق- وضع الشيء في غير موضعه، وأصعبه حسبان أن من الحدثان ما لم يكن وكان فإنّ المنشئ الله، والمجرى الله، ولا إله إلا الله، وسقط ما سوى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
أشار إلى ترقّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيب أهل السلوك فى وصولهم إلى الله، فالتحقق بالآيات التي هى أفعاله ومراعاة ذلك وهى الأولى ثم إثبات صفاته وهى الثانية، ثم التحقق بوجوده وذاته وهو غاية الوصول، فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته «2» .
__________
(1) أخطأ الناسخ إذ كتبها (فكيف)
(2) للقشيرى كتابان (ترتيب السلوك) و (المقامات الثلاث) لم تصل بعد أيدينا إليها، أولهما توجد منه مخطوطة بالفاتيكان والثاني استعاره بعضهم من مكتبة جامعة القاهرة ولم يرده، فهل يمكن أن نحدس أن هذه الفقرة خلاصة مقتضية لوجهة نظره فى ترتيب مقامات السلوك وعددها.(1/486)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 88]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
ذكر عظيم المنّة على كافّتهم- صلوات الله عليهم، وبيّن أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
ثم قال: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ....... يَعْمَلُونَ» يعنى لولا حظوا غيرا، أو شاهدوا- من دوننا- شيئا، أو نسبوا شظية من الحدثان- إلى غير قدرتنا- فى الظهور لتلاشى ما أسلفوه من عرفانهم وإحسانهم، فإن الله- سبحانه- لا يغفر الشرك بحال، وإن كان (يغفر) «1» ما دونه لمن أراد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 89]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) .
__________
(1) وردت (يفقر) والصواب (يغفر) طبقا للآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به ... إلخ) .(1/487)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
يعنى إن أعرض قومك- يا محمد- فليس كلّ من (.....) «1» على الجحود أظهرناهم، بل كثير من عبادنا نزّهنا- عن الجحود- قلوبهم، وعجنّا بماء السعادة طينتهم وهم لا يحيدون عن التوحيد لحظة، ولا يزيغون عن التحصيل شمّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
أولئك الذين طهّر الله عن الجحد أسرارهم، ورفع على الكافة أقدارهم، فاقتف- يا محمد- هداهم، فإنّ من سلك الجادّة أمن من العناء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
من توهّم أن العلوم «2» تحيط بجلاله فالإحاطة غير سائغة فى نعته، كما أنّ الإدراك غير جائز فى وصفه، وكما أن الإشراف محال على ذاته.
ثم قال: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً» أي سلهم عن الأحوال، وخاطبهم فى معانى أحكام الرسوم والأطلال، فإن بقوا فى ظلمة (الحيرة) «3» فقل: الله تعالى، ثم ذرهم. يعنى صرّح بالإخبار عن التوحيد، ولا يهولنّك نماديهم فى الباطل، فإنّ تمويهات الباطل لا تأثير لها فى الحقائق.
__________
(1) مشتبهة.
(2) يقصد بها علوم العقل. [.....]
(3) وردت (الجبرة) والخطأ فى النقط.(1/488)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
كتاب الأحباب عزيز الخطر جليل الأثر، فيه سلوة «1» عند غلبات الوجد، ومن بقي عن الوصول تذلّل للرسول، وقيل:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى أنا كاتم
كأنى ملحوظ من الجنّ نظرة ... ومن حوالىّ الرّقى والتمائم
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
يعنى إن الذين ينزلون منزلة المحدّثين، ولم تلق إلى أسرارهم خصائص الخطاب- فالحقّ- سبحانه عنهم برىء. والمتّبع بما لم ينل كلابس ثوبى زور، وفى معناه أنشدوا.
إذا اشتبكت دموع فى خدود ... تبيّن من بكى ممن تباكى
__________
(1) وردت (صلوة) بالصاد وهى خطأ فى النسخ.(1/489)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
دخلت الدنيا بخرقة، وخرجت منها بخرقة، ألا وتلك الخرقة أيضا (.....) «1» ،
وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجت إلا بحكم التفرد. ثم الأثقال والأوزار، والأحمال والأوضار لا يأتى عليها حصر ولا مقدار فلا مالكم أغنى عنكم ولا حالكم يرفع منكم، ولا لكم شفيع يخاطبنا فيكم فقد تقطّع بينكم، وتفرّق وصلكم، وتبدّد شملكم، وتلاشى ظنكم، وخانكم- فى التحقيق- وسعكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
موجد ما فى العالم من الأعيان والآثار والرسوم والأطلال يسلّط العدم على ما يريد من مصنوعاته، ويحكم بالبقاء لما يريد من مخلوقاته، فلا لحكمه ردّ، ولا لحقّه جحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
وكما فلق صبح الكون فأشرقت الأنوار كذلك فلق صبح القلوب فاستنارت به الأسرار، وكما جعل الليل سكنا لتسكن فيه النفوس من كدّ التصرف عن أسباب المعاش
__________
(1) مشتبهة.(1/490)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
كذلك جعل الليل سكنا للأحباب يسكنون فيه إلى روح المناجاة إذا هدأت العيون من الأغيار.
وجعل الشمس والقمر يجريان بحسبان «1» معلوم على حد معلوم، فالشمس بوصفها مذ خلقت لم تنقص ولم تزد، والقمر لا يبقى ليلة واحدة على حالة واحدة فأبدا فى الزيادة والنقصان، ولا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم يتناقص حتى لا يرى، ثم يأخذ فى الظهور، وكذلك دأبه دائما إلى أن تنقض عليه العادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
كما أن نجوم السماء يهتدى بها فى الفلوات فكذلك نجوم القلوب يهتدى بها فى معرفة ربّ الأرضين والسموات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
ذكّرهم وصفهم حين خلقهم من آدم عليه السّلام. وكما أن للنفوس والأبشار مستقرا ومستودعا فللأسرار والضمائر مستقر ومستودع، فمن عبد مستقرّ قلبه أوطان الشهوات والمنى، ومن عبد مستقره موقع الزهد والتّقى، ومن عبد مستقره- حيث لا مسكن ولا مأوى- وراء الورى «2» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
__________
(1) وردت (بحسمان) بالميم والصواب أن تكون (بحسبان)
(2) أي فى حال الفناء يتلاشى فى الوجود الذي لا تحده حدود.(1/491)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
تجانست أجزاء الأرض وتوافقت أقطار الكون، وتباين النبات فى اللون والطّعم واختلفت الأشياء، ودلّ كلّ مخلوق بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مستقل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
«1» سدّت بصائرهم فاكتفوا بكل منقوص أن يعبدوه، وتلك عقوبة لأرباب الغفلة عن الله تعالى عجّلت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 101]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
البديع الذي لا مثل له، أو هو المنشئ لا على مثال، وكلاهما فى وصفه مستحق.
والواحد يستحيل له الولد لاقتضائه البعضية، والتوحيد ينافيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 102]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
__________
(1) خرق الإفك اختلقه، أو من خرق الثوب إذا شقه فيكون المعنى: (اشتقوا له) وإشارة القشيري تعتمد على المعنيين.(1/492)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
تعرّف إليهم بآياته، ثم تعرّف إليهم بصفاته، ثم كاشفهم بحقائق ذاته.
فقوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تعريف للسادات والأكابر، وقوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» تعريف للعوام والأصاغر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قدّس الصمدية عن كل لحوق ودرك، فأنّى بالإدراك ولا حدّ له ولا طرف؟! «وَهُوَ اللَّطِيفُ» الذي لا يخفى عليه شىء، «الْخَبِيرُ» الذي أحاط علمه بكل معلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
أوضح البيان وألاح الدليل، وأزاح العلل وأنار السبيل، ولكن قيل:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
أوقع الفتنة فى قلوبهم فخنست عليهم الأحوال: فمن شبهة داخلتهم ومن حيرة ملكتهم.
ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريف توقف على آخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 107]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
العجب ممن أقرّ بقصور حاله عن استحقاق المدح ببقائه عن مراده، وكيف يصف معبوده بجواز ألا يرتفع فى ملكه مراده؟!(1/493)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
يعنى خاطبهم بلسان الحجة والتزام الدلائل ونفى الشبهة، ولا تكلّمهم على موجب نوازع النّفس والعادة، فيحملهم ذلك على ترك الإجلال لذكر الله.
ويقال لا تطابقهم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة فى غيّهم، فسيكون فعلك سببا وعلّة لزيادة كفرهم وفسقهم.
قوله جل ذكره: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لبّسنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيح جميلا، ولم يروا لسوء حالتهم تبديلا، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 109]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يغنى وضوح الأدلة لمن لا تساعده سوابق الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
العجب ممن تبقى على قلبه شبهة فى مسألة القدر «1» ، والحقّ- سبحانه- يقول:
__________
(1) يشير القشيري بذلك إلى القدرية الذين يقولون بخلق الأفعال، فسموا قدرية من قبيل تسمية الشيء بضده، بينما سمى خصومهم بالجبرية.
ويوصف القدرية بانهم مجوس هذه الأمة، لأنه كما أن أتباع زرادشت يعارضون خالق الخير بمبدإ ثان هو علة الشر كذلك هم- أي القدرية- يخرجون أعمال الإنسان السيئة من دائرة خلق الله، فالله ليس هو الذي يخلق المعصية بل إرادة الإنسان المستقلة.(1/494)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
«وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ» ، لا بل من حقائق التقليب بقاء إشكال هذا الأمر- مع وضوحه- على قلوب من هو من جملة العقلاء، فسبحان من يخفى هذا الأمر مع وضوحه! هذا هو قهر القادر وحكم الواحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
لأن الآيات وإن توالت، وشموس البرهان وإن تعالت فمن قصمته العزّة وكبسته القسمة لم يزده ذلك إلا حيرة وضلالا، ولم يستنجز إلا للشقوة حالا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
كلّما كان المحلّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمّا كانت رتب الأنبياء- عليهم السلام- أشرف كانت العداوة معهم أشد وأصعب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فرضوا لأنفسهم أخسّ الأنصباء «1» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
__________
(1) الأنصباء جمع نصيب وهو الحصة من الشيء (المنجد) .(1/495)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قل لهم أترون أنى- بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أذر اليقين، وأوتر التخمين وأفارق الحقّ، وأقارن «1» الحظ؟ إن هذا محال من الظن.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
تقدّست عن التغيير ذاته، وتنزهت عن التبديل صفاته. والتمام ينفى النقصان. وكلّ نقصان فمن الحدث أصله، وأنّى بالنقص- والقدم وصفه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
أهل الله قليلون عددا وإن كانوا كثيرين وزنا وخطرا، وأمّا الأعداء ففيهم كثرة.
فإن لاحظتهم- يا محمد- فتنوك، وإن صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 117]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
تقاصرت علوم الخلق عن إدراك غيبه إلا بقدر ما عرّفهم من أمره، والذي لا يخفى عليه شىء فهو الواحد- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 118]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
هذا فى حكم التفسير مختص بالذبيحة، وفى معنى الإشارة منع الأكل على الغفلة، فإن من
__________
(1) ربما كانت فى الأصل (أقارف) بالفاء، وكلاهما صحيح فى السياق.(1/496)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
أكل على الغفلة فما دامت تلك القوة باقية فيه فخواطره إما هواجس النّفس أو وساوس الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 119]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
يعنى أي شىء عليكم لو تركتم الغفلة؟ وما الذي يضركم لو استدمتم الذكر؟
وقد تبيّن لكم الفرق بين أنس الذكر ووحشة الغفلة فى الحال والوقت، (ألا) «1» تعرفوا حكم الثواب والعقاب فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
ظاهر الإثم ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو سر بينك وبين الله، لا وقوف لمخلوق عليه.
ويقال باطن الإثم خفىّ العقائد و (....) «2» الألحاظ.
ويقال باطن الإثم ما تمليه عليك نفسك بنوع تأويل.
ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المعرفة- الإغماض عمّا لك فيه حظ، ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المحبة- دوام التغاضي عن مطالبات الحب وإنّ بناء مطالبات الحب على التجني والقهر «3» ، قال قائلهم:
__________
(1) وردت (إلى) وهى خطأ فى النسخ.
(2) مشتبهة.
(3) وفى هذا المعنى أنشدوا
بنى الحب على القهر فلو ... عدل المحبوب يوما لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق بطلب تأليف الحجج(1/497)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
إذا قلت: ما أذنبت؟ قالت مجيبة:
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب ويقال أسبغت عليكم النّعم ظاهرا وباطنا، فذروا الإثم ظاهرا وباطنا، فإنّ من شرط الشكر ترك استعمال النعمة فيما يكون إثما ومخالفة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
ما كانت (....) «1» من الأحوال عاصيا ولربّه ناسيا فتوقّيه شرط عند أصحاب ( ... ) «2» .
ثم قال: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» فهذا يدل على أنّ من توقّى ذلك اتحدت لله خواطره، وانقطعت عنه خواطر الشيطان. وأصل كل قسوة متابعة الشهوات، ومن تعوّد متابعتها فليودّع صفوة القلب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
الإيمان عند هؤلاء القوم حياة القلب بالله. وأهل الغفلة إذ لهم الذكر فقد صاروا أحياء بعد ما كانوا أمواتا، وأرباب الذكر لو اعتراهم نسيان فقد ماتوا بعد الحياة. والذي هو فى أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفى روح الاستبصار لا يدانيه من هو فى (أسر) «3» الظلمات، ولا يساويه من هو رهين الآفات.
__________
(1) مشتبهة.
(2) مشتبهة. [.....]
(3) وردت (أصر) بالصاد وقد آثرنا (أسر) لتلائم (رهين) الآفات.(1/498)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
لبّسنا عليهم حقائق التوحيد، وسوّلت لهم ظنونهم أن بهم شظية من المحو والإثبات فانهمكوا ظانين أنهم يمكرون، وهم فى التحقيق مخادعون، وسيعلمون حين لا ينفعهم علم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة (فالتعلّل) «1» باستزادة البصيرة (إعلام) «2» عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي لمساواة من جاء بالاستحقاق بمن جاء بنوع من تسويلات النّفس يوجب مقاساة الهوان. وملازمة الحدود، وترك التعدي على الحقّ قضية التوفيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 125]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
المسلم لا يتحرك فى باطنه عرق للمنازعة مع التقدير، فإن الإسلام يقتضى تسليم الكل بلا استئثار، ومن استثقل شيئا من التكليف أو بقي منه نفس لكراهية شىء فيعدّ غير مستسلم لحكمه.
ويقال نور فى البداية هو نور العقل، ونور فى الوسائط هو نور العلم ونور فى النهاية هو
__________
(1) وردت (فالتعليل) والسياق يتطلب (التعلل) فيها يقوى ويتضح.
(2) وردت (إقلام) ولا معنى لها، ونرجح أنها فى الأصل (إعلام) أي علامة.(1/499)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
نور العرفان فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة فى حكم العيان.
ويقال من وجد أنوار الغيب ظهرت له خفايا الأمور فلا يشكل عليه شىء من ذوات الصدور عند ظهور النور، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» .
ويقال أول أثر لأنوار الغيب فى العبد ينبّهه إلى نقائص قدره ومساوئ غيّه، ثم يشغله عن شهود نفسه مما يلوح لقلبه من شهود ربه، ثم غلبات الأنوار على سرّه حتى لا يشهد السرّ بعد ما كان يشهد كالنّاظر فى قرص الشمس تستهلك أنوار بصره فى شعاع الشمس كذلك تستهلك أنوار البصيرة فى حقائق الشهود، فيكون العبد صاحب الوجود دون الشهود ثم بعده خمود العبد بالكلية، وبقاء الأحدية بنعت السرمدية.
قوله جل ذكره: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
وذلك حتى لا يسعى فى غير مراد الحق سبحانه «1» ، وحدّ البشرية ضيق القلب، وصاحبه فى أسر الحدثان والأعلال، ولا عقوبة أشدّ من عقوبة الغفلة عن الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 126]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
الصراط المستقيم إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيّد بجمع، وجمع مقيد بشرع، وإثبات للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنّ المجرى
__________
(1) تبدو فى هذه العبارة رائحة الحبرية ... نعم، ولكنها جبرية الحب، فالإرادة والمريد والمراد كلها تدور فى فلك الحب، وهذا فرق بين النزعتين الكلامية البحتة والصوفية، عند تصديهما لهذا الموضوع.(1/500)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
واحد لا شريك له، ثم ترك الاعتماد ونفى الاستناد، لا على (حركاته) «1» يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، (بل) «2» ينتظر ما يفتح به التقدير، فإن زاغ صاحب الاستقامة لحظة، والتفت يمنة أو يسرة سقط سقوطا لا ينتعش.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
دار السلام أي دار السلامة، ومن كان في رقّ شىء من (الأغراض) «3» والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة من تحرر عن رقّ المكوّنات، والآية تشير إلى أنّ القوم فى الجنة لكنهم ليسوا فى أسر الجنة، بل تحرروا من رقّ كل مكوّن.
ويقال من لم يسلّم- اليوم- على نفسه وروحه وكلّ ماله من كل كريمة وعظيمة تسليم وداع لا يجد- غدا- ذلك الفضل، فمن أراد أن يسلّم عليه ربّه- غدا- فليسلّم على (الكون) «4» بجملته، وأولا على نفسه وروحه.
ويقال دار السلام غدا لمن سلم- اليوم- لسانه عن الغيبة، وجنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزّلّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب.
ويقال شرف قدر تلك الدار لكونها فى محل الكرامة، واختصاصها بعندية الزّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار، قال قائلهم:
إنّى لأحسد دارا فى جواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارك يعطينى من داره شبرا ... إذا لأعطيه بشبر دارا»
ويقال: وإن كانت الدار منزهة عن قبول الجار، وليس القرب منه بتدانى الأقطار، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنس بل لو جاز القرب فى وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا
__________
(1) وردت (حرقاته) والصواب أن تكون (حركاته) لتتلاءم مع (سكتاته) .
(2) أضفنا (بل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى النص.
(3) (الأغراض) جمع غرض، وليس بمستبعدان تكون (الأعراض) بالعين جمع عرض، وكلاهما مقول.
(4) وردت (السكون) وهى خطأ من الناسخ.
(5) البيت الثاني مكسور ولكننا حرصنا على إثباته كما جاء فى النسخة.(1/501)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
كبير أثر، وإنما حياة القلوب بهذا، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات فهو لأجل قلوب الأحباب يطلق هذا ويقع العلماء فى كد التأويل، وهذا هو أمارة الحب، قال قائلهم:
أنا من أجلك حمّلت الأ ... ذى الذي لا أستطيع
قوله جل ذكره: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» .
هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال: «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» لأنه إذا كان- سبحانه- هو وليّهم فإنّ المنازل بأسرها طابت كيفما كانت، قال قائلهم:
أهوى هواها لمن قد كان ساكنها ... وليس فى الدار لى همّ ولا وطر
هو وليّهم فى دنياهم، ووليّهم فى عقباهم، هو وليهم فى أولاهم وفى أخراهم وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يدع فيها لغيره نصيبا ولا سوى وليهم الذي هو أولى بهم منهم وليّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه فى جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم (يكلهم) «2» إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم.
وليهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم.
وليّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب، فحرّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب، وليّهم الذي هو مؤنس أسرارهم.
مشاهده معتكف أبصارهم، وحضرته مرتع أرواحهم.
وليّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا فى بدايتهم يقصدون غيره، ولا فى نهايتهم يجدون غيره، ولا فى وسائلهم يشهدون غيره «3» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
__________
(1) وقع الناسخ فى ثلاثة أخطاء كتابية ونقلية فى هذه الآية إذ كتبها (فهو وليهم اليوم بما كانوا يكسبون) إذ التبست عليه مع آية اخرى.
(2) وردت (يكلمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ.
(3) لاحظ هنا هذا الترتيب: قصود تم شهود تم وجود.(1/502)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلّ منه قبل منهم، لكن سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 129]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
يعنى نجمع بين الأشكال، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض، والأعداء مجموعون يفرّ بعضهم من بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
عرّفهم أنه أزاح لهم العلل من حيث التزام الحجة، لكنه حكم لهم بالشقوة فى الأزل، (فلبّس) «1» عليهم المحجة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 131]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)
متى يصحّ فى وصفه توهم الظلم والملك ملكه والخلق خلقه؟
ومتى يقبح منه تصرّف فى شخص بما أراد، والعبد عبده والحكم حكمه؟
__________
(1) وردت (فليس) وهى خطأ من الناسخ.(1/503)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 132]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
المحسن فى روح الثواب متنعّم، والمذنب فى نوح العذاب متألم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 133]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
«الْغَنِيُّ» يشير إلى كشفه، و «ذُو الرَّحْمَةِ» يشير إلى لطفه.
أخبرهم بقوله «الْغَنِيُّ» عن جلاله، وبقوله: «ذُو الرَّحْمَةِ» عن أفضاله فبجلاله يكاشفهم فيفتيهم، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.
ويقال سماع غناه يوجب محوهم، وسماع رحمته يوجب صحوهم، فهم فى سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناء، وبين إكرام وبين اصطلام، وبين تقريب وبين تذويب، وبين اجتياح وبين ارتياح.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 134]
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
الإشارة من هذه الآية إلى قصر الأمل، ومن قصر أمله حسن عمله، وكل ما هو آت فقريب أجله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان فى صيغة الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)(1/504)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
لما بنوا قاعدة أمرهم على موجب الهوى صارت فروعهم لائقة بأصولهم فهو كما قيل.
إذا كان القضاء إلى ابن آوى ... فتعويل الشهود إلى القرود
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
وسوست إليهم شياطينهم بالباطل فقبلت نفوسهم ذلك إذ الأشكال يتناصرون، فالنّفس لا تدعو إلا إلى الأجنبية، لأنها مدّعية تتوهم أن منها شيئا، وأصل كلّ شرك الدعوى، والشيطان لا يوسوس إلا بالباطل والكفر، فهم أعوان يتناصرون.
ثم قال: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» صرّح بأن المراد على المشيئة، والاعتبار (بسابق) «1» القضية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 139]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) .
__________
(1) وردت (بسائق) وهى خطأ من الناسخ إذ المقصود بما سبق من القضاء. [.....](1/505)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا، وأمور شرعوها على الوجه الذي اعتادوا، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل، وشرعوها بلا حجة من إذن رسول، والاشارة فيه أن من (نحانحوهم) «1» فى زيادة شىء فى الدين، أو نقصان شىء من شرع المسلمين فمضاه لهم فى البطلان، ينخرط فى سلكهم فى الطغيان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد، ولذلك قال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
يعنى كما أنشأ فى الظاهر جنات وبساتين كذلك أنشأ فى السّر جنات وبساتين، ونزهة القلوب أثم من جنات الظاهر فأزهار القلوب مونقة، وشموس الأسرار مشرقة، وأنهار المعارف زاخرة.
ويقال كما تتشابه الثمار كذلك تتماثل الأحوال، وكما تختلف طعومها وروائحها مع تشاكلها من وجه، فكذلك الأحوال مختلفة القضايا، وإن اشتركت فى كونها أحوالا.
قوله جل ذكره: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ.
__________
(1) وردت (تجاتجوهم) وهى خطأ من الناسخ.(1/506)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
حقّ الواجب يوم الحصاد إقامة الشكر، فأمّا إخراج البعض فبيانه على لسان العلم «1» ، وشهود المنعم فى عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.
قوله جل ذكره: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
الإسراف- على لسان العلم- مجاوزة الحد.
وعلى بيان الإشارة فالإسراف كلّ ما أنفقته فى حظّ نفسك- ولو كانت سمسمة، وما أنفقته فى سبيله- سبحانه- فليس بإسراف، ولو أربى على الآلاف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
يعنى تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية فى الفضيلة على المخلوقات. وكما سخّر الأعيان للإنسان كذلك سخّر الأزمان فى تصريف الحدثان لخواصّ الإنسان «2» .
قوله جل ذكره: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ......
إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائع فى جميع ما يحصل به الانتفاع.
وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكرم بل الخمود فى وجود القدم.
وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان، وللسّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.
__________
(1) أي إخراج مقدر على حسب المعروف فى الزكاة.
(2) يشير بذلك إلى ما يحدث على أيدى الأولياء من كرامات(1/507)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قوله ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الإشارة من ذكر الضأن أن يتأدّب العبد باستدامة السكون والتزام حسن الخلق، فإنّ الضانية مستسلمة لمن يلى عليها، فلا بصياحها تؤذى «1» ولا (ب ... وها) «2» ، يعنى كذلك سبيل من وطئ هذا البساط.
وكذلك «فى الإبل آيات» منها انقيادها لمن جرّ زمامها، واستناختها حيثما تناخ بلا نزاع ولا اختيار. ومنها ركوبها عند الحمل، ومنها صبرها على مقاساة العطش، وذوبانها فى السير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
بيّن أنّ الشارع الله، والمانع عن الخلق هو الله، وما كان من غير الله فضائع باطل عند الله. بيّن أنه إذا جاء الاضطرار زال حكم الاختيار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) .
__________
(1) فى هذه الإشارة الدقيقة نلمح أن القشيري يدعو إلى إيثار الكتمان وعدم البوح بالأسرار، وعلى ذلك كبار الشيوخ. يقول الشبلي. على أثر محنة الحلاج «كنت وابن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت» .
(2) مشتبهة، وربما كانت (بعدوّها) ، وعندئذ قد تكون العبارة فلا بصاحبها تؤذى ولا بعدوها.(1/508)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
بيّن أن ما حرّم عليهم ضيّعوه إذ لما لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مكره العظيم فيما ابتدعوه من قبل نفوسهم- فأهملوه ولم يحافظوا عليه، فاستوجبوا عظيم الوزر وأليم الهجر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 147]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
الإشارة منه بيان تخصيص الأولياء بالرحمة، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة. والصورة الإنسانية جامعة (لهم) «1» ولكن القسمة الأزلية فاصلة بينهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 148]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)
كذبت قالتهم لأنها لم تصدر عن تصديق، فذمّوا على جهالتهم وإن كانت (....) «2»
فى التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 149]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
صرّح بأن إرادته- سبحانه- لا تتقاصر عن مراد، وليس عليه اعتراض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 150]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
__________
(1) وردت (له) والصواب أن تكون (لهم) لتشمل الأولياء والأعداء.
(2) مشتبهة.(1/509)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
أشار إلى أنّ من تجرّد عن برهان يصرّحه وبيان (يوضّحه) «1» فغير مقبول من فاعله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) .
__________
(1) وردت (يوضعه) والصواب أن تكون بالحاء ليقوى المعنى والموسيقى اللفظية ونرجح أن الناسخ اشتبه عليه شكل الحاء فظنها عينا.(1/510)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشرك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شىء من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شرك جلىّ وشرك خفىّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ ملاحظة الأنام، بعين استحقاق الإعظام.
والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.
ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل فى ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.
ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف فى المعاملات والتوقي من جميع التبعات «1» ثم الصدق فى القول والعدل فى الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فمن قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد فى داريه وحظى بعظائم منزلته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
يهوّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنّ الذين كانوا قبلنا كانوا فى الضعف والعجز مثلنا، ثم صبروا فظفروا، وأخلصوا فخلصوا.
__________
(1) أي الاحتراز عما فيه تبعة.(1/511)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 155]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
إنزال الكتاب عليهم تحقيق للإيجاب، وإذا بقي العبد عن سماع الخطاب تسلى بقراءة الكتاب، ومن لم يجد فى قراءة القرآن كمال العيش والأنس فلأنّه يقرأ ترسما لا تحققا «1» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 156 الى 157]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
أزاح كلّ علّة، وأبدى كل وصلة، فلم يبق لك تعللا، ولا فى آثار الالتجاء إلى العذر موضعا.
قوله جل ذكره: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ.
عقوبة كلّ جرم مؤجلة، وعقوبة التكذيب معجلة، وهى ما يوجب بقاءهم فى أسر الشك حتى لا يستقر قلبهم على شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
__________
(1) يمكن ان يصلح هذا الرأى لتحديد موقف القشيري من قضية «السماع» ومدى تأثير القرآن والشعر فى الوجدان الصوفي. أنظر قصة يوسف بن الحسين الرازي (الرسالة ص 171) .(1/512)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
أخبر أنه بعد ما (أزاح) «1» لهم العلل اقترحوا ما ليس لهم، و (اغتروا) «2» بطول السلامة لهم، ثم بيّن أنه إذا أمضى عقوبة عبد حكما فلا معارض لتقديره، ولا مناقض لتدبيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم، (فكانوا) «3» مجتمعين جهرا بجهر متفرقين- فى التحقيق- سرّا بسرّ.
قوله: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» . لا نجمعك وإياهم، يعنى شقّك شقّ الحقائق، وشقّهم شقّ الباطل، و (لا اجتماع) «4» للضدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
هذه الحسنات للظاهر وأمّا حسنات القلوب فللواحد مائة إلى أضعاف مضاعفة.
ويقال الحسنة من فضله تعالى تصدر، وبلطفه تحصل، فهو يجرى، ثم يقبل ويثنى، ثم يجازى ويعطى.
ويقال إحسانه- الذي هو التوفيق- يوجب إحسانك الذي هو الوفاق، وإحسانه- الذي هو خلق الطاعة- يوجب لك نعت الإحسان الذي هو الطاعة فالعناء منك فعله والجزاء لك فضله «5» .
__________
(1) وردت (ذبح) وذبج العلة وإزاحتها كلاهما مقبول ولكننا آثرنا أزاح لأنه استعملها فى هذا السياق قبل قليل.
(2) وردت (اعتروا) بالعين والصواب (اغتروا) بالغين.
(3) وردت (فكا ... ) فأكملناها.
(4) وردت و (الاجتماع) والمعنى يرفضها ويقبل و (لا اجتماع) . [.....]
(5) تعبر هذه الفقرة عن موقف القشيري بالنسبة لقضية وجوب المثوبة والعقوبة على الله بالنسبة للمطيع والعاصي، فبينما يقول المعتزلة بهذا الوجوب، يرفض القشيري كل وجوب على الله، ويعود بالأمر كله إلى الفضل الإلهى.(1/513)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
ويقال إحسان النفوس توفية الخدمة، وإحسان القلوب حفظ الحرمة، وإحسان الأرواح مراعاة آداب الحشمة.
ويقال إحسان الظاهر يوجب إحسانه فى السرائر، فالذى منك مجاهدتك، والذي إليك مشاهدتك.
ويقال إحسان الزاهدين ترك الدنيا، وإحسان المريدين رفض الهوى، وإحسان العارفين قطع المنى، وإحسان الموحدين التخلّي عن الدنيا والعقبى، والاكتفاء بوجود المولى.
ويقال إحسان المبتدئين الصدق فى الطلب، وإحسان أصحاب النهاية حفظ الأدب، فشرط الطلب ألا يبقى ميسور إلّا بذلته، وشرط الأدب ألا تسمو لك همّة إلى شىء إلا قطعته وتركته.
ويقال للزهاد والعبّاد، وأصحاب الأوراد وأرباب الاجتهاد جزاء محصور معدود، ولأهل المواجيد لقاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قوله جل ذكره: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
يعنى (يكال) «1» عليه بالكيل الذي يكيل، ويوقف حيث يرضى لنفسه بأن يكون له موقفا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى ما سواه.
ومن وجد سبيلا إلى مخلوق عرج في أوطان الحسبان لأن الأغيار ليس لها من الإبداع شظية، ومن سلك إلى مخلوق سبيلا وأبرم فيهم تأميلا أو قدّم عليهم تعويلا، فقد استشعر تسويلا، وجرّع تضليلا.
__________
(1) وردت (يقال) وهى خطأ فى النسخ.(1/514)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
و «الصراط المستقيم» ألّا ترى من دونه مثبتا لذرة ولا سنة.
و «الدين القيم» ما لا تمثيل فيه ولا تعطيل، ولا نفى للفرق الذي يشير إلى العبودية، ولا رد للجمع الذي هو شهود الربوبية «1» .
والحنيف المائل إلى الحق، الزائغ عن الباطل، الحائل عن ضد الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
من كوشف بحقائق التوحيد شهد أن القائم عليه والمجرى عليه والممسك له والمنقّل إياه من وصف إلى وصف، و (....) «2» عليه فنون الحدثان- واحد لا يشاركه قسيم، وماجد لا يضارعه نديم.
ويقال من علم أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم أنه لله لم يبق فيه نصيب لغير الله فهو مستسلم لحكم الله، لا معترض على تقدير الله، ولا معارض لاختيار الله، ولا معرض عن اعتناق أمر الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) .
__________
(1) من اقوال القشيري التي توضح مقصوده هنا: ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع، فمن أشهده الحق- سبحانه- أفعاله من طاعاته ومخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق- سبحانه- ما يوليه من أفعال نفسه- سبحانه- فهو عبد يشاهد الجمع فإثبات الخلق من باب التفرقة، واثبات الحق من نعت الجمع، ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له (الرسالة ص 38) .
(2) مشتبهة وهى قريبة من (المجرى) .(1/515)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
كيف أوثر عليه بدلا وإنى لا أجد عن حكمه حولا، وكيف أقول بغير أو ضد أو شريك؟ أو أقول يدونه معبود أو مقصود؟ وإن لاحظت يمنة ما شاهدت إلا ملكه، وإن طالعت يسرة ما عاينت إلا ملكه! بل إنى إن نظرت يمنة شهدت يمنه، وإن نظرت يسرة وجدت نحوى يسره «1» ! قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
صير التوبة إليكم، وقصر حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافا، وخلقكم أخيافا «2» فمن مسخّر له، مرفّه، مروّح، يتعب لأجله كثير. ومن معنّي، وذى مشقة أدير عليه رأسه. وجاء البلاء ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنّ حسابه لكم لاحق، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم.
السورة التي يذكر فيها الأعراف
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الباء مكسورة فى نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهى صغيرة القامة فى الخط، ونقطها الذي تتميز به عن غيرها واحد وهو نهاية القلّة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهى تشير إلى التواضع والخضوع بكل وجه.
والسين «من بسم الله» حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- فى الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن منّ القبول بفضله
__________
(1) وردت (يمنه ويسره) بتاء مربوطة والصواب أن تكونا (اليمن واليسر) مضافتين لله- سبحانه.
(2) يقال هم إخوة أخياف: أي أنّ أمهم واحدة والآباء شتى فهم مختلفون (المنجد)(1/516)
المص (1)
فذلك المأمول، وإن ردّ بحكم فله الحكم، فتوافق تقديره بالموافقة فى الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمنّ.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (....) «1» فيه من وجوه المراعاة! وصنوف لطائف المناجاة، فهم فى جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هى الموجبة لمحابّهم، إذ عنها صدر كلّ حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين فى الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حلّ تلك الساحة رتع فى حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة «بِسْمِ اللَّهِ» ربيع الأحباب أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1)
هذه الحروف من المتشابه فى القرآن على طريقة قوم من السلف، والحق- سبحانه- مستأثر بعلمها دون خلقه. وعلى طريقة قوم فلها معان تعرف، وفيها إشارات إلى أشياء توصف: فالألف تشير إلى ألفة الأرواح العطرة أصابت الشكلية مع بعض الأرواح العطرة، فهى- فى التحقيق- فى ذلك المعنى كالمتحدة فمنه تقع الألفة بين المتشاكلين، ولأجل اتحاد المقصود يتفق القاصدون.
ويقال ألف القلب حديثه فلم يحتشم من بذل روحه.
__________
(1) مشتبهة.(1/517)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
ويقال الألف تجرّد من قصده عن كل غير فلم يتصل بشىء، وحين استغنى عن كل شىء اتصل به كل شىء على جهة الاحتياج إليه.
ويقال صورة اللام كصورة الألف ولكن لما اتصلت بالحروف تعاقبتها الحركات كسائر الحروف فمرة أصبحت مفتوحة، ومرة (مسكونة) «1» ، ومرة مرفوعة، وأمّا الألف التي هى بعيدة عن الاتصال بالعلاقات (فباقية على وصف التجرد عن تعاقب الحركات عليها فهى على سكونها الأصلى) «2» .
وأمّا الصاد فتشير إلى صدق أحوال المشتاقين فى القصد، وصدق أحوال العارفين فى الوجد، وتشير إلى صدق قلوب المريدين وأرباب الطلب، إذ العطش نعت كلّ قاصد، كما أن الدهشة وصف كل واجد.
ويقال الصاد تبدى محبة للصدور وهو بلاء الأحباب.
ويقال الصاد تطالبك بالصدق فى الود، وأمارة الصدق فى الود بلوغ النهاية والكمال، حتى لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالمنع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 2]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
كتاب الأحباب تحفة الوقت، وشفاء لمقاساة ألم البعد، وهو لداء الضنى مزيل، ولشفاء الشكّ مقيل، وقال تعالى: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ولم يقل: فى قلبك فإن قلبه- عليه السّلام- فى محل الشهود، ولذلك قال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» «3» وكذلك قال موسى عليه السّلام: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» «4» . وقال للمصطفى صلوات الله
__________
(1) وردت (مسكوه) بسقوط النون وهى خطأ فى النسخ.
(2) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن حسب العلامة المميزة.
(3) آية 97 سورة الحجر.
(4) آية 25 سورة طه.(1/518)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
عليه: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «1» . فإن القلب فى محل الشهود، وهو أبدا بدوام أنس القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم: «تنام عينى ولا ينام قلبى» »
وقال: «أسألك لذة النظر» «3» وصاحب اللذة لا يكون له حرج.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 3]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
استسلموا لمطالبات التقدير، قفوا حيثما وقفتم، وتحققوا بما عرفتم، وطالعوا بما كوشفتم، ولا تلاحظوا غيرا، ولا تركنوا إلى علّة، ولا تظنوا أن لكم من دونه وسيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
يعنى كم من قرية ركنوا إلى الغفلة، واغتروا بطول المهلة باتوا فى (خفض) «4» الدعة وأصبحوا وقد صادفتهم البلايا بغتة، وأدركتهم القضية فجأة، فلا بلاء كشف عنهم، ولا دعاء سمع لهم، ولا فرار نفعهم، ولا صريخ أنقذهم. فما زالوا يفزعون إلى الابتهال، ويصيحون:
الويل! ويدعون إلى كشف الضر، ويبكون من مسّ السوء؟! بادوا وكأنه لا عين ولا أثر، ولا لأحد منهم (خبر) «5» . تلك سنّة الله فى الذين خلوا من الكافرين، وعادته فى الماضين من الماردين.
__________
(1) آية 1 سورة الشرح.
(2) فى رواية سعيد بن منصور فى سننه عن ابن سعد بن الحسن مرسلا: (تنام عيناى ولا ينام قلبى) ص 120 الجامع الصغير.
(3) وردت ضمن وعاء طويل رواه النسائي فى سننه والحاكم فى مستدركه عن عمار بن ياسر- هكذا ( ... وأسألك لذة النظر الى وجهك) . [.....]
(4) وردت (حفض) بالحاء والصواب أن تكون (خفض العيش) بالخاء.
(5) وردت (خير) بالياء والصواب أن تكون (خبر) بالباء.(1/519)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 6]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» : سؤال تعنيف وتعذيب.
«وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» : سؤال تشريف وتقريب.
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» عن القبول فيتقنّعون بذل الخجل.
«وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» عن البلاغ فيتكلمون ببيان الهيبة، فالكلّ بسمة العبودية والتوقير، والحقّ بنعت الكبرياء والتقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 7]
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
فلنخبرنهم يوم الفصل ما هم عليه اليوم، ونوقفهم على ما أسلفوه، ونقيمنهم فى مقام الصّغار ومحل الخزي، وسيعلمون أنه لم يغب عن علمنا صغير ولا كبير.
ويقال أجرى الحقّ- سبحانه- سنّته بتخويف العباد بعلمه مرة كما خوّفهم بعقوبته تارة فقال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «1» يعنى العذاب الواقع فى ذلك اليوم، وقال فى موضع آخر:
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» «2» وهذا أبلغ فى التخويف، وقال «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» «3» .
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
يزن أعمالهم بميزان الإخلاص، وأحوالهم بميزان الصدق. فمن كانت أعمالهم بالرياء
__________
(1) آية 48 سورة البقرة.
(2) آية 28 سورة آل عمران.
(3) آية 14 سورة العلق.(1/520)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
مصحوبة لم يقبل أعمالهم، ومن كانت أحوالهم بالاعجاب مشوبة لم يرفع أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
سهّلنا عليكم أسباب المعيشة، ويسّرنا لكم أحوال التصرف، ثم أراد منكم أن تتخذوا إليه سبيلا، ولم يعتص عليه مراد.
«قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» لاستعمالكم- فى الخلاف- أبدانكم، ولإنفاقكم- بالإسراف- أحوالكم، ولاستغراقكم- فى الحظوظ- أوقاتكم. فلا نعمة الفراغ شكرتم، ولا من مسّ العقوبة شكوتم ... خسرتم وما شعرتم! قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 11]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
ثبّتناكم على النعت الذي أردناكم، وأقمناكم فى الشواهد التي اخترنا لكم فمن قبيح صورته خلقا ومن مليح، ومن سقيم حالته خلقا «1» ، ومن صحيح. ثم إنا نعرفكم سابق أيادينا إلى أبيكم، ثم لاحق خلافه بما بقي عرق منه فيكم، ثم ما علمنا به (من مكان يحسدكم) «2» ويعاديكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 12]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
أي لولا قهر الربوبية جرى عليك وإلا فما موجب امتناعك عن السجود لآدم لو كنت تعظّم أمرى؟ فيتحقق الموحّدون أن موجب امتناعه عن السجود الخذلان الحاصل، ولو ساعده التوفيق لم يبرح بعد من السجود.
__________
(1) ضبطنا خلقا وخلقا حسبما يتطلبه السياق
(2) هكذا فى ص ونرجح أن الناسخ قد اخطأ فى النقل فما بين قوسين لا معنى له، وربما كانت فى الأصل (ثم ما علمنا بمن كان يحسدكم ويعاديكم) والمقصود إبليس كما فى الآية(1/521)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» ادّعى الخيرية، وكان الواجب عليه- لولا الشقوة- أن يؤثر التذلّل على التكبّر، لا سيما والخطاب الوارد عليه من الحقّ.
ثم إنه وإن سلك طريق القياس فلا وجه له مع النّفس لأنه بحظ، فلم يزده قياسه إلا فى استحقاق نفيه إذ ادّعى الخيرية بجوهره «1» ، ولم يعلم أن الخيرية بحكمه- سبحانه- وقسمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 13]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
فارق بساط القربة فإنّ التكبّر والترفّع على البساط ترك للأدب، وترك الأدب يوجب الطرد.
ويقال من رأى لنفسه محلا أو قيمة فهو متكبّر، والمتكبّر بعيد عن الحق سبحانه، ورؤية المقام قدح فى الربوبية إذ لا قدر لغيره تعالى، فمن ادّعى لنفسه محلا فقد نازع الربوبية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
أجاب دعاءه فى الحال ولكن كان ذلك مكرا به لأنه مكّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يزده بذلك التمكين إلا شقوة. ليعلم الكافة أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمة ولطفا بل قد تكون بلاء ومكرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 16]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
جاهر الحقيقة بالخلاف بعد ما أظهر من نفسه غاية الخلوص فى العبودية، فعلم أن جميع ما كان منه فى (سالف) «2» حاله لم يصدر عن الإخلاص والصدق.
__________
(1) حيث اعتبر النار خيرا من الطين.
(2) وردت (سالك) والصواب أن تكون (سالف) اى سابق عهده قبل عصيانه.(1/522)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 17]
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
أخبر أنه يأخذ عليهم جوانبهم، ويتسلط عليهم من جميع جهاتهم، ولم يعلم أن الحقّ سبحانه قادر على حفظهم عنه، فإنّ ما يكيد بهم من القدرة حصل، وبالمشيئة يوجد، ولو كان الأمر به أو إليه لكان أولى الخلق بأن يؤثّر فيه كدحه نفسه، وحيث لم ينفعه جهده فى سالف أحواله لم يضرهم كيده بما توعدهم به من سوء أفعاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 18]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
أخرجه من درجته، ومن حالته ورتبته، ونقله إلى ما استوجبه من طرده ولعنته، ثم تخليده أبدا فى عقوبته، ولا يذيقه ذرة من برد رحمته، فأصبح وهو مقدّم على الجملة، وأمسى وهو أبعد الزّمرة، وهذه آثار قهر العزّة. فأىّ كبد يسمع هذه القصة ثم لا يتفتت؟!.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 19]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
لما أسكن آدم الجنة خلق معه سبب الفتنة، وهو ما أكرمه به من الزوجة. وأي نقص يكون فى الجنة لو لم يخلق فيها تلك الشجرة التي هى شجرة المحنة لولا ما أخفى من سرّ القسمة؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (7) : آية 20]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)
نسبته ما حصل منهما إلى الشيطان من أمارات العناية، كانت الخطيئة منهما لكنّه تعالى قال: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ» .(1/523)
ويقال التقى آدم بإبليس بعد ذلك فقال له: يا شقىّ! وسوست إلىّ وفعلت!، فقال إبليس لآدم. يا آدم! هب أنّى كنت إبليسك فمن كان إبليسى!؟.
قوله جل ذكره: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما.
وفى ذلك دلالة على عناية زائدة حيث قال: «لِيُبْدِيَ لَهُما» فلم يطلع على سوأتهما غيرهما.
قوله جل ذكره: وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ.
تاقت أنفسهما إلى أن يكونا ملكين- لا لأن رتبة الملائكة كانت أعلى من رتبة آدم عليه السّلام- ولكن لانقطاع الشهوات والمنى عنهما.
ويقال لمّا طمعا فى الخلود وقعا فى الخمود، ووقعا فى البلاء والخوف وأصل كلّ محنة الطمع.
ويقال إذا كان الطمع فى الجنة- وهى دار الخلود- أوجب كلّ تلك المحن فالطمع فى الدنيا- التي هى دار الفناء- متى يسلم صاحبه من ذلك؟ ويقال إن يكونا إنما ركنا إلى الخلود فلا لنصيب أنفسهما، ولكن لأجل البقاء مع الله تعالى، وهذا أولى لأنه يوجب تنزيه محلّ النبوة. وقيل ساعات الوصال قصيرة وأيام الفراق طويلة، فما لبثا فى دار الوصلة إلّا بعضا من النهار دخلا ضحوة النهار وخرجا نصف النهار! ويقال إن الفراق عين تصيب أهل الوصلة، وفى معناه قال قائلهم:
إن تكن عين أصابتك فما ... إلا لأنّ العين تصيب الحسنا
ويقال حين تمّت لهما أسباب الوصلة، ووطّنا نفوسهما على دوام القربة بدا الفراق من مكامنه فأباد من شملهما (ما) «1» انتظم، كما قيل:
__________
(1) وردت (فانتظم) والصواب (ما انتظم)(1/524)