فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
من الزبد ليس له عجم وروي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب وقيل إن نخل أهل الجنة نضيد وثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعا، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي في الجنان الأربع خَيْراتٌ حِسانٌ روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن وشرفهن روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» وقيل قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا فِي الْخِيامِ قيل هي البيوت. قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام ويقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل وخيم بها إذا قام بها وتظلل فيها وقيل كل خيامها من در ولؤلؤ وزبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة. (ق) عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ تقدم تفسيره، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة ويروى هذا عن ابن عباس وقيل إن الرفرف البسط، وعن ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط منه وقيل هي مجالس خضر فوق الفرش وقيل هي المرافق وقيل الزرابي وقيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قيل هي الزرابي والطنافس الثخان وقيل هي الطنافس الرقاق وقيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري وقال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» وأصل هذا فيما قيل إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب وذلك أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن نسبوا إليها كل شيء عجيب بديع.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 77 الى 78]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» وفيه إشارة إلى أن الباقي هو الله تعالى وأن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية وهو إشارة إلى تمجيده وتحميده (م) عن ثوبان قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول والله أعلم بمراده.(4/233)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
سورة الواقعة
(مكية وهي سبع وتسعون آية وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة وألف وسبعمائة وثلاثة أحرف) روى البغوي بسنده عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» .
وكان أبو ظبية لا يدعها أبدا، وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول لم يعزه، والله تعالى أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
قوله عز وجل: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعني إذا قامت القيامة وقيل إذا نزلت صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة وقيل الواقعة اسم للقيامة كالآزفة، لَيْسَ لِوَقْعَتِها يعني لمجيئها كاذِبَةٌ
يعني ليس لها كذب والمعنى أنها تقع حقا وصدقا وقيل معناه ليس لوقعتها قصة كاذبة أي كل ما أخبر الله عنها وقص من خبرها قصة صادقة غير كاذبة وقيل معناه ليس لوقعتها نفس كاذبة أي إن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها، خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة وقال ابن عباس تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع أقواما كانوا في الدنيا مستضعفين وقيل تخفض أقواما بالمعصية وترفع أقواما بالطاعة، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا حركت وزلزلت زلزالا وذلك أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا وخوفا قال المفسرون ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما فيها من جبال وغيرها وهو قوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول وقيل صارت كثيبا مهبلا بعد أن كانت شامخة وقيل معناه قلعت من أصلها وسيرت على وجه الأرض حتى ذهب بها فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً ثم فسر الأزواج فقال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يعني أصحاب اليمين.
والميمنة ناحية اليمين وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وقال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وقال الله تعالى: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم وكانت أعمالهم صالحة في طاعة الله وهم التابعون بإحسان ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعجيب من حالهم في السعادة. والمعنى أي شيء هم.(4/234)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 9 الى 16]
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ يعني أصحاب الشمال وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقال ابن عباس هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية وقال الله تعالى لهم: «هؤلاء إلى النار ولا أبالي» وقيل هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم وقيل هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمالهم في المعاصي لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنة وقيل هم السابقون إلى الإسلام وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار وقيل هم السابقون إلى الصلوات الخمس وقيل إلى الجهاد وقيل هم المسارعون إلى التوبة وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البر والخير وقيل هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.
فإن قلت لم أخر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم عن أصحاب اليمين.
قلت فيه لطيفة وذلك أن الله تعالى ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفا لعباده فإما محسن فيزداد رغبة في الثواب وإما مسيء فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب فلذلك قدم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من جهنم ثم أثنى على السابقين فقال تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يعني من الله في جواره وفي ظل عرشه ودار كرامته وهو قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ قوله تعالى: ثُلَّةٌ أي جماعة غير محصورة العدد، مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من الأمم الماضية من لدن آدم إلى زمن نبينا وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني من هذه الأمة وذلك لأن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به وقيل إن الأولين هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل من الآخرين أي ممن جاء بعدهم من الصحابة، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي منسوجة من الذهب والجوهر وقيل موضونة يعني مصفوفة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها أي على السرر مُتَقابِلِينَ يعني لا ينظر بعضهم في قفا بعض وصفوا بحسن العشرة في المجالسة وقيل لأنهم صاروا أرواحا نورانية صافية ليس لهم أدبار وظهور.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 17 الى 23]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ أي غلمان مُخَلَّدُونَ لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة وقيل مخلدون مفرطون والخلد القرط وهو الحلقة تعلق في الأذن واختلفوا في هؤلاء الولدان فقيل هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالا وفيه ضعف لأن الله أخبر أنه يلحقهم بآبائهم ولأن من المؤمنين من لا ولد له فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم وقيل هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف وهذا القول أقرب من الأول لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب فقال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم وتوقف فيهم طائفة والمذهب الثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ولكل مذهب دليل ليس هذا موضعه، وقيل هم أطفال ماتوا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ومن قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة والقول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله إنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليدا ما لم يحتلم والأمة وليدة وإن أسنت، بِأَكْوابٍ جمع كوب وهي الأقداح المستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرا وَأَبارِيقَ جمع إبريق وهي ذوات الخراطيم والعرا سميت أباريق(4/235)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لبريق لونها من الصفاء وقيل لأنها يرى باطنها كما يرى ظاهرها، وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي من خمرة جارية لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا تصدع رؤوسهم من شربها وعنها كناية عن الكأس وقيل لا يتفرقون عنها وَلا يُنْزِفُونَ أي لا يغلب على عقولهم ولا يسكرون منها وقرئ بكسر الزاي ومعناه لا ينفد شرابهم، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيارها وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى وقيل إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير.
فإن قلت هل في تخصيص الفاكهة بالتخير واللحم بالاشتهاء بلاغة؟.
قلت نعم وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة والذي يظهر فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة فالجائع مشته والشبعان غير مشته بل هو مختار وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم إلى الفاكهة أكثر فيتخيرنها ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل ولهذا قدم الفاكهة على اللحم والله أعلم، وَحُورٌ عِينٌ أي ويطوف عليهم حور عين وقيل لهم حور عين وجاء في تفسير حور أي بيض عين أي ضخام العيون كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء فيكون في نهاية الصفاء روي «أنه سطع نور في الجنة فقيل ما هذا؟ قيل ضوء ثغر حوراء ضحكت» وروي «أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ يصران بالتسبيح» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 24 الى 31]
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فعلنا ذلك بهم جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعتنا لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة، لَغْواً قيل اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى وقيل هو القبيح من القول والمعنى ليس فيها لغو فيسمع وَلا تَأْثِيماً قيل معناه أن بعضهم لا يقول لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم كما يتكلم به أهل الدنيا وقيل معناه لا يأتون تأثيما أي ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح إِلَّا قِيلًا معناه لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا سَلاماً سَلاماً يعني يسلم بعضهم على بعض وقيل تسلم الملائكة عليهم أو يرسل الرب بالسلام إليهم وقيل معناه أن قولهم يسلم في اللغو.
ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ لما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع منه وهذا قول ابن عباس وقيل هو الموقر حملا قيل ثمرها أعظم من القلال وهو النبق قيل لما نظر المسلمون إلى وج وهو واد مخصب بالطائف فأعجبهم سدره فقالوا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية وَطَلْحٍ قيل هو الموز عند أكثر المفسرين وقيل هو شجر له ظل بارد طيب وقيل هو شجر أم غيلان له شوك ونور طيب الرائحة فخوطبوا ووعدوا بمثل ما يحبون ويعرفون إلا أن فضله على شجر الدنيا كفضل الجنة على الدنيا مَنْضُودٍ أي متراكم قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة بل من عروقه إلى أغصانه ثمر وليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلاء والجوز ونحوهما بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي دائم لا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا وذلك لأن الجنة ظل كلها لا(4/236)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)
شمس فيها. (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرءوا إن شئتم وظل ممدود» وعن ابن عباس في قوله وظل ممدود قال شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها فيشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عز وجل ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب يجري دائما في غير أخدود ولا ينقطع.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 36]
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت ولا تمتنع من أحد إذا أراد أخذها وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء ولا يوصل إليها إلا بالثمن وقيل لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وجاء في الحديث «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله عز وجل مكانها ضعفين» وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال علي مرفوعة على الأسرة وقيل بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله: وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاعها كما بين السماء والأرض يقول ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات والدرجات ما بين كل درجتين بين السماء والأرض وقيل أراد بالفرش النساء والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة فعلى هذا القول يكون معنى مرفوعة أي رفعن بالفضل والجمال على نساء الدنيا ويدل على هذا التأويل قوله في عقبه، إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي خلقناهن خلقا جديدا قال ابن عباس يعني الآدميات العجائز الشمط يقول خلقناهن بعد الكبر والهرم خلقا آخر، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً يعني عذارى. عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أنشأناهن إنشاء قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وضعف بعض رواته وروى البغوي بسنده عن الحسن قال «أتت عجوز النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى قال إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً هذا حديث مرسل وروي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً وقال المسيب بن شريك هن عجائز الدنيا أنشأهن الله بقدرته خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا وقيل إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا وقيل هن الحور العين أنشأهن الله لم تقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكارا عذارى وليس هناك وجع.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 37 الى 40]
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
عُرُباً جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها قاله ابن عباس في رواية عنه وعنه أنها الملقة وقيل الغنجة وعن أسامة بن زيد عن أبيه عربا قال حسان الكلام أَتْراباً يعني أمثالا في الخلق وقيل مستويات في السن على سن واحد بنات ثلاث وثلاثين، عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين سنة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لِأَصْحابِ الْيَمِينِ يعني أنشأهن لأصحاب اليمين وقيل هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من المؤمنين الذين هم قبل هذه الأمة وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني من مؤمني هذه الأمة يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم قال «لما أنزل الله عز وجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل فأنزل الله عز وجل وثلة من الأولين وثلة من الآخرين فدعا(4/237)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر فقال قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله» ، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع إلى سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» الرهيط تصغير رهط وهم دون العشرة وقيل إلى الأربعين. (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبة نحوا من أربعين فقال أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم قال والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» وعن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وذهب جماعة إلى أن الثلثين جميعا من هذه الأمة وهو قول أبي العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك قالوا ثلة من الأولين من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة أيضا في آخر الزمان يدل على ذلك ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في هذه الآية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هما جميعا من أمتي» وهذا القول هو اختيار الزجاج قال معناه جماعة ممن تبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به وعاينه وجماعة ممن آمن به وكان بعده ولم يعاينه.
فإن قلت كيف قال في الآية الأولى وقليل من الآخرين وقال في هذه الآية وثلة من الآخرين؟.
قلت: الآية الأولى في السابقين الأولين وقليل ممن يلحق بهم من الآخرين وهذه الآية في أصحاب اليمين وهم كثيرون من الأولين والآخرين وحكي عن بعضهم أن هذه ناسخة للأولى واستدل بحديث عروة بن رويم ونحوه والقول بالنسخ لا يصح لأن الكلام في الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ. قوله تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد تقدم أنه بمعنى التعجب من حالتهم وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ثم بين منقلبهم وما أعد لهم من العذاب فقال تعالى: فِي سَمُومٍ أي في حر النار وقيل في ريح شديد الحرارة وَحَمِيمٍ أي ماء حار يغلي، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ يعني في ظل من دخان شديد السواد قيل إن النار(4/238)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
سواد وأهلها سود وكل شيء فيها أسود وقيل اليحموم اسم من أسماء النار لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ يعني لا بارد المنزل ولا كريم المنظر وذلك لأن فائدة الظل ترجع إلى أمرين أحدهما دفع الحر والثاني حسن المنظر وكون الإنسان فيه مكرما وظل أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار، ثم بين بما استحقوا ذلك فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ يعني في الدنيا، مُتْرَفِينَ يعني منعمين وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ يعني على الذنب الكبير وهو الشرك وقيل الحنث العظيم اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك يدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يعني الآباء والأبناء، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني أنهم يجمعون ويحشرون ليوم الحساب ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ يعني عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ أي بالبعث والخطاب لكفار مكة وقيل إنه عام مع كل ضال مكذب، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ تقدم تفسيره فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ يعني الإبل العطاش قيل إن الهيام داء يصيب الإبل فلا تروى معه ولا تزال تشرب حتى تهلك وقيل الهيم الأرض ذات الرمل التي لا تروى بالماء قيل يلقى على أهل النار العطش فيشربون من الحميم شرب الهيم فلا يروون هذا نُزُلُهُمْ يعني ما ذكر من الزقوم والحميم أي رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم يَوْمَ الدِّينِ يعني يوم يجازون بأعمالهم ثم احتج عليهم في البعث بقوله تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 65]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ يعني ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك فَلَوْلا أي فهلا تُصَدِّقُونَ يعني بالبعث بعد الموت.
قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ يعني ما تصبون في الأرحام من النطف أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي أنتم تخلقون ما تمنون بشرا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي إنه خلق النطفة وصورها وأحياها فلم لا تصدقون بأنه واحد قادر على أن يعيدكم كما أنشأكم احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ يعني الآجال فمنكم من يبلغ الكبر والهرم ومنكم من يموت صبيا وشابا وغير ذلك من الآجال القريبة والبعيدة وقيل معناه إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم فعلى هذا القول يكون معنى قدرنا قضينا، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ يعني لا يفوتني شيء أريده ولا يمتنع مني أحد وقيل معناه وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم وهو قوله تعالى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم في أسرع حين وَنُنْشِئَكُمْ
أي نخلقكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ
أي من الصور والمعنى نغير حليتكم إلى ما هو أسمح منها من أي خلق شئنا وقيل نبدل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم أي إن أردنا أن نفعل ذلك بكم ما فاتنا، وقال سعيد بن المسيب فيما لا تعلمون في حواصل طيور سود كأنها الخطاطيف تكون ببرهوت وهو واد باليمن وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم قدر، وقال بعض أهل المعاني هذا يدل على النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل ويكون التقدير على هذا وما نحن(4/239)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه يعني وقت البعث والقيامة، وفيه فائدة وهو التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء هو الموت والبعث وإذا كان ذلك واقعا في الأزمان ولا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئا وفيه تقرير للنشأة الثانية يوم القيامة فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي بأني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم أول مرة.
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ لما ذكر الله تعالى ابتداء الخلق وما فيه من دلائل الوحدانية ذكر بعده الرزق لأن به البقاء وذكر أمورا ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول والمشروب ورتبه ترتيبا حسنا فذكر المأكول أولا لأنه هو الغذاء وأتبعه المشروب لأن به الاستمراء ثم النار التي بها الإصلاح وذكر من أنواع المأكول الحب لأنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه أيضا هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية، فقوله أفرأيتم ما تحرثون أي ما تثيرون من الأرض وتلقون فيه البذر أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي تنبتونه وتنشئونه حتى يشتد ويقوم على سوقه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ معناه أأنتم فعلتم ذلك أم الله ولا شك في أن إيجاد أحب في السنبل ليس بفعل أحد غير الله تعالى وإن كان إلقاء البذر من فعل الناس، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ يعني ما تحرثونه وتلقون فيه من البذر، حُطاماً أي تبنا لا قمح فيه وقيل هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غيره وقيل هو جواب لمعاند يقول نحن نحرثه وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا فرد الله عليّ هذا المعاند بقوله لو نشاء لجعلناه حطاما فهل تقدرون أنتم على حفظه أو هو يدفع عن نفسه بنفسه تلك الآفات التي تصيبه ولا يشك أحد في أن دفع الآفات ليس إلا بإذن الله وحفظه، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل تندمون على نفقاتكم وقيل تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة وقيل تتلاومون وقيل تحزنون وقيل هو تلهف على ما فات.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 66 الى 73]
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي وتقولون فحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض وقيل معناه لموقع بنا وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمعذبون يعني أنهم عذبوا بذهاب أموالهم بغير فائدة والمعنى إنا غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي ممنوعون والمعنى حرمنا الذي كنا نطلبه من الريع في الزرع، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ذكرهم الله تعالى نعمه عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال ابن عباس شديد الملوحة وقيل مرا لا يمكن شربه فَلَوْلا أي فلا تَشْكُرُونَ يعني نعمة الله عليكم أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ يعني تقدحون من الزند أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها يعني التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار وهما شجرتان تقدح منهما النار وهما رطبتان وقيل أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها يعني نار الدنيا تَذْكِرَةً أي للنار الكبرى إذا رأى الرائي هذه النار ذكر بها نار جهنم فيخشى الله ويخاف عقابه وقيل موعظة يتعظ بها المؤمن. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها» وَمَتاعاً أي بلغة ومنفعة لِلْمُقْوِينَ يعني للمسافرين والمقوي النازل في الأرض القواء وهي القفر(4/240)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
الخالية البعيدة من العمران والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسفار فإن منفعتهم أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب الشماع ويهتدي بها الضال إلى غير ذلك من المنافع هذا قول أكثر المفسرين وقيل المقوين الذين يستمتعون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع وقيل المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريد والمعنى أن فيها متاعا ومنفعة للفقراء والأغنياء جميعا لا غنى لأحد عنها.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 74 الى 79]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)
لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لما ذكر الله ما يدل على وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويجوز أن يكون خطابا لكل فرد من الناس فقال تعالى فسبح باسم ربك أي برّأ الله ونزهه عما يقول المشركون في صفته والاسم يكون بمعنى الذات والمعنى فسبح بذات ربك العظيم.
قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ قال أكثر المفسرين معناه فأقسم ولا صلة مؤكدة وقيل لا على أصلها وفي معناها وجهان أحدهما أنها ترجع إلى ما تقدم ومعناها النهي وتقديره فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج.
الوجه الثاني: أن لا رد لما قاله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة والمعنى ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم فقال أقسم والمعنى لا والله لا صحة لقول الكفار وقيل إن لا هنا معناها النفي فهو كقول القائل لا تسأل عما جرى وهو يريد تعظيم الأمر لا النهي عن السؤال، بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال ابن عباس أراد نجوم القرآن فإنه كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متفرقا وقيل أراد مغارب النجوم ومساقطها وقيل أراد منازلها وقيل انكدارها وانتثارها يوم القيامة وقيل مواقعها في اتباع الشياطين عند الرجم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ قيل هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن والمعنى إن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لانتفعتم بذلك وقيل معنى لو تعلمون أي فاعلموا عظمته وقيل إنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى فأقسم بمواقع النجوم، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي إن الكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لقرآن كريم أي عزيز مكرم لأنه كلام الله تعالى ووحيه إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقيل الكريم الذي من شأنه أن يعطي الكثير وسمي القرآن كريما لأنه يفيد الدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين وقيل الكريم اسم جامع لما يحمد والقرآن الكريم لما يحمد فيه من الهدى والنور والبيان والعلم والحكم فالفقيه يستدل به ويأخذ منه والحكيم يستمد منه ويحتج به والأديب يستفيد منه ويتقوى به فكل عالم يطلب أصل علمه منه وقيل سمي كريما لأن كل أحد يناله ويحفظه من كبير وصغير وذكي وبليد بخلاف غيره من الكتب، وقيل إن الكلام إذا كرر مرارا يسأمه السامعون ويهون في الأعين وتمله الآذان والقرآن عزيز كريم لا يهون بكثرة التلاوة ولا يخلق بكثرة الترداد ولا يمله السامعون ولا يثقل على الألسنة بل هو غض طري يبقى أبد الدهر كذلك فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي مصون مستور عند الله تعالى في اللوح المحفوظ من الشياطين من أن يناله بسوء وقيل المراد بالكتاب المصحف ومعنى مكنون مصون محفوظ من التبديل والتحريف والقول الأول أصح، لا يَمَسُّهُ أي ذلك الكتاب المكنون إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث يروى هذا القول عن ابن عباس وأنس وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية وقتادة وابن زيد وقيل هم السفرة الكرام البررة وعلى القول الثاني من أن المراد بالكتاب المصحف فقيل معنى لا يمسه إلا المطهرون أي من الشرك وكان ابن عباس ينهى أن تمكن اليهود والنصارى من(4/241)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
قراءة القرآن قال الفراء لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به وقيل معناه لا يقرأه إلا الموحدون وقال قوم معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والجنابات وظاهر الآية نفي ومعناها نهي قالوا لا يجوز للجنب ولا للحائض ولا للمحدث حمل المصحف ولا مسه وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء يدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم «أن لا تمس القرآن إلا طاهرا» أخرجه مالك مرسلا وقد جاء موصولا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن بهذا والصحيح فيه الإرسال وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يمس القرآن إلا طاهر» والمراد بالقرآن المصحف سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع، كما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» وأراد به المصحف وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة يجوز للمحدث والجنب حمل المصحف ومسه بغلافه.
فإن قلت: إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب هو اللوح المحفوظ وأن المراد من «لا يمسه إلا المطهرون» هم الملائكة ولو كان المراد نفي الحدث لقال لا يمسه إلا المتطهرون من التطهر فكيف يصح قول الشافعي لا يصح للمحدث مس المصحف.
قلت من قال إن الشافعي أخذه من صريح الآية حمله على التفسير الثاني وهو القول بأن المراد من الكتاب هو المصحف ومن قال إنه أخذه من طريق الاستنباط قال المس بطهر صفة دالة على التعظيم والمس بغير طهر نوع استهانة وهذا لا يليق بمباشرة المصحف الكريم والصحيح أنه أخذه من السنة ودليله ما تقدم من الأحاديث والله أعلم. قوله تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 80 الى 84]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة للقرآن أي القرآن منزل من عند رب العالمين سمي المنزل تنزيلا على اتساع اللغة يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق وفيه رد على من قال إن القرآن شعر أو سحر أو كهانة فقال الله تعالى بل القرآن تنزيل من رب العالمين.
قوله عز وجل: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَنْتُمْ أي يا أهل مكة مُدْهِنُونَ قال ابن عباس مكذبون وقيل كافرون والمدهن والمداهن الكذاب والمنافق والإدهان الجري في الباطل على خلاف الظاهر هذا أصله ثم قيل للمكذب والكافر مدهن وإن صرح بالتكذيب والكفر، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي حظكم ونصيبكم من القرآن أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال الحسن في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب وقال جماعة من المفسرين معناه وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أي بنعمة الله عليكم وهذا في الاستسقاء بالأنواء وذلك أنهم كانوا إذا مطروا يقولون مطرنا بنوء كذا ولا يرون ذلك المطر من فضل الله عليهم فقيل لهم أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقكم التكذيب فمن نسب الإنزال إلى النجم فقد كذب برزق الله تعالى ونعمه وكذب بما جاء به القرآن والمعنى أتجعلون بدل الشكر التكذيب، (ق) عن يزيد بن خالد الجهني قال «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» رواه مسلم وفيه عن ابن عباس(4/242)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعناه وزاد فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقولون الكوكب كذا وكذا وفي رواية بكوكب كذا وكذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا» وفي رواية بكوكب كذا وكذا أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
قوله في أثر سماء أي أثر مطر والنوء الكوكب يقال ناء النجم ينوء إذا سقط وغاب وقيل ناء إذا نهض وطلع واختلف العلماء في معنى الحديث وكفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين أحدهما أنه كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام وذلك فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض الجاهلية يزعم فمن اعتقد هذا فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء منهم الشافعي وهو ظاهر الحديث وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا وكذا وهو معتقد أن إيجاد المطر من الله ورحمته وأن النوء ميقات له ومراده إنا مطرنا في وقت طلوع نجم كذا ولم يقصد إلى فعل النجم كما جاء عن عمر أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس كم بقي من نوء الثريا؟ فقال إن العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد وقوعها فو الله ما مضت تلك السبع حتى غيث الناس وإنما أراد عمركم بقي من الوقت الذي جرت العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر فهذا جائز لا كفر فيه واختلفوا في كراهية هذا والأظهر أنها كراهية تنزيه لا إثم فيها ولا تحريم وسبب هذه الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم، والقول الثاني في تأويل أصل الحديث أن المراد بالكفر كفر النعمة لله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكواكب وهذا جار فيمن لا يعتقد تدبير الكواكب ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين» فقوله بها يدل على أنه كفر بالنعمة والله أعلم.
قوله تعالى: فَلَوْلا أي فهلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي النفس أو الروح إلى الحلقوم عند الموت وَأَنْتُمْ يعني يا أهل الميت حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ يعني إلى الميت متى تخرج نفسه وقيل تنظرون إلى أمري وسلطاني لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئا.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 85 الى 92]
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي بالعلم والقدرة والرؤية وقيل ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إلى الميت منكم وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي الذين حضروه من الملائكة لقبض روحه وقيل لا تبصرون أي لا تعلمون ذلك فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي مملوكين وقيل محاسبين ومجزيين تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم فأجاب عن قوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وعن قوله فلولا إن كنتم غير مدينين بجواب واحد وهو قوله ترجعونها والمعنى إن كان الأمر كما تقولون إنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني السابقين. فَرَوْحٌ أي فله روح وهو الراحة وقيل فله فرح وقيل رحمة وَرَيْحانٌ أي وله استراحة وقيل رزق وقيل هو الريحان الذي يشم قال أبو العالية لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن(4/243)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
من ريحان الجنة فيشمه فتقبض روحه وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي وله جنة النعيم يفضي إليها في الآخرة قال أبو بكر الوراق الروح النجاة من النار والريحان رضوان دار القرار وَأَمَّا إِنْ كانَ يعني المتوفى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي فسلامة لك يا محمد منهم والمعنى فلا تهتم لهم فإنهم سلموا من عذاب الله أو إنك ترى فيهم ما تحب من السلامة وقيل هو أن الله يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم وقيل معناه مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين أو يقال لصاحب اليمين مسلم لك أنك من أصحاب اليمين وقيل فسلام عليك من أصحاب اليمين، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي بالبعث الضَّالِّينَ أي عن الهدى وهم أصحاب الشمال.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 93 الى 95]
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أي الذي يعد لهم حميم جهنم وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي وإدخال نار عظيمة إِنَّ هذا يعني ما ذكر من قصة المحتضرين لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي لا شك فيه وقيل إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه من النعم وما أعد لأعدائه من العذاب الأليم وما ذكر مما يدل على وحدانيته يقين لا شك فيه، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فنزه ربك العظيم عن كل سوء وقيل معناه فصل بذكر ربك العظيم وبأمره.
عن عقبة بن عامر الجهني قال «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود عن حذيفة أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه «سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وله عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» . (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى قال سبحان الله وبحمده» . (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري والله أعلم.(4/244)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحديد
مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني كل ذي روح وغيره يسبح الله تعالى فتسبيح العقلاء تنزيه الله عز وجل عن كل سوء وعما لا يليق بجلاله وتسبيح غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه فقيل تسبيحه دلالته على صانعه فكأنه ناطق بتسبيحه وقيل تسبيحه بالقول يدل عليه قوله «ولكن لا تفقهون تسبيحهم» أي قولهم والحق أن التسبيح هو القول الذي لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان أحدهما أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني أن جميع الموجودات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء فإن حملنا التسبيح المذكور في الآية على القول كان المراد بقوله ما في السموات والأرض من في السموات وهم الملائكة ومسبحي الأرض وهم المؤمنون العارفون بالله وإن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبال وبحار وشجر ودواب وغيره ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء.
فإن قلت قد جاء في بعض فواتح السور سبح بلفظ الماضي وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع فما معناه.
قلت فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحا لله أبدا غير مختص بوقت دون وقت بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الكامل القدرة الذي لا ينازعه شيء، الْحَكِيمُ أي الذي جميع أفعاله على وفق الحكمة والصواب لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه الغني عن جميع خلقه وكلهم محتاجون إليه، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قوله عز وجل: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان هو ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل أحد بلا انتهاء يفني الأشياء ويبقى هو والظاهر الغالب العالي على كل شيء والباطن العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس وقيل هو الأول بوجوده ليس قبله شيء(4/245)
والآخر ليس بعده شيء وقيل هو الأول بوجوده في الأزل وقيل الابتداء والآخر بوجوده في الأبد وبعد الانتهاء والظاهر بالدلائل الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن العقول أن تكيفه، وقيل هو الأول الذي سبق وجوده كل موجود والآخر الذي يبقى بعد كل مفقود وقال الإمام أبو بكر بن الباقلاني معناه أنه تعالى الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل، ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم قال وتعلقت المعتزلة بهذا الاسم فاحتجوا لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا معناه أنه الباقي بعد فناء خلقه ومذهب أهل الحق يعني أهل السنة بخلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم كما يقال آخر من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاه وذهابها بالكلية هذا آخر كلام ابن الباقلاني، وقيل هو الأول السابق للأشياء والآخر الباقي بعد فناء الأحياء والظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة الزاهرة وشواهده الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن أبصار الخلق فلا تستوي عليه الكيفية وقيل هو الأول القديم والآخر الرّحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم، وقيل هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك طريق التوبة عما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيت يستر عليك، وقال الجنيد هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه الظاهر كعلمه بالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (م) عن سهيل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول «اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرك كل شيء أنت آخذ بناصيته» وفي رواية «من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي هريرة أيضا قال «بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتدرون ما هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال بينكم وبينها خمسمائة سنة ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال
فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث إنما أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه.
العنان اسم للسحاب ومعنى روايا الأرض الحوامل والرقيع اسم للسماء وقيل هو اسم لسماء الدنيا قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها تقدم تفسيره وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بالعلم والقدرة فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته أينما كان من أرض أو سماء برا وبحرا وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة.(4/246)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يدل على صحة القول الأول، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
[سورة الحديد (57) : الآيات 6 الى 10]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تقدم تفسيره.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما ذكر أنواعا من الدلائل الدالة على التوحيد والعلم والقدرة شرع يخاطب كفار قريش ويأمرهم بالإيمان بالله ورسوله ويأمرهم بترك الدنيا والإعراض عنها والنفقة في جميع وجوه البر وهو قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني المال الذي كان بيد غيركم فأهلكهم وأعطاكم إياه فكنتم في ذلك المال خلفاء عمن مضى فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ يعني وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه وقيل أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يوما ما فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن لِيُخْرِجَكُمْ يعني الله بالقرآن وقيل الرسول بالدعوة مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقول أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقربكم من الله تعالى وأنتم ميتون تاركون أموالكم لغيركم فالأولى أن تنفقوها أنتم فيما يقربكم إلى الله تعالى وتستحقون به الثواب ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين وقيل هو صلح الحديبية، والمعنى لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة مع من أنفق ماله وقاتل بعد الفتح أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا قال الكلبي إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله وذهب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال عبد الله بن مسعود أول من أظهر إسلامه سبع منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بكر إن الله يقرئك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض» وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة قال عطاء درجات الجنة(4/247)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
تتفاضل فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
[سورة الحديد (57) : الآيات 11 الى 13]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا محتسبا بالصدقة طيبة بها نفسه وسمي هذا الإنفاق قرضا من حيث إنه وعد به الجنة تشبيها بالقرض قال بعض العلماء القرض لا يكون حسنا حتى تجمع فيه أوصاف عشرة وهي أن يكون المال من الحلال وأن يكون من أجود المال وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها وأن تكتم الصدقة ما أمكنك وأن لا تتبعها بالمن والأذى وأن تقصد بها وجه الله ولا ترائي بها الناس وأن تستحقر ما تعطي وتتصدق به وإن كان كثيرا وأن يكون من أحب أموالك إليك وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة أوصاف إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضا حسنا، فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعني يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعني وذلك الأجر كريم في نفسه.
قوله عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني على الصراط يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي عن أيمانهم وقيل أراد جميع الجوانب فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» وقال عبد الله بن مسعود يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد مرة وقيل في معنى الآية يسعى نورهم بين أيديهم أي يعطون كتبهم بأيمانهم وتقول لهم الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء من نوركم قيل تغشى الناس ظلمة شديدة يوم القيامة فيعطي الله المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحا وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين وقيل بل يستضيئون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون بقوا في الظلمة وقالوا للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقيل يقول لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم وقيل ارجعوا إلى الدنيا فاعملوا فيها أعمالا يجعلها الله لكم نورا وقيل معناه لا نور لكم عندنا فارجعوا وراءكم فَالْتَمِسُوا أي اطلبوا لأنفسكم هناك نُوراً أي لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين فذلك قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ وهو حائط بين الجنة والنار لَهُ أي لذلك السور بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي من قبل ذلك الظاهر العذاب وهو النار وروي عن عبد الله بن عمر قال إن السور الذي ذكر في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح كان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الآية.(4/248)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
[سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
يُنادُونَهُمْ يعني ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم وبقوا في الظلمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي في الدنيا نصلي ونصوم قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة وَتَرَبَّصْتُمْ أي بالإيمان والتوبة وقيل تربصتم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وذلك ما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت وقيل هو إلقاؤهم في النار وهو قوله تعالى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الشيطان قال قتادة ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أي عوض وبدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب وقيل معناه لا يقبل منكم إيمان ولا توبة وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين وإنما عطف الكفار على المنافقين وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق مَأْواكُمُ النَّارُ أي مصيركم، هِيَ مَوْلاكُمْ أي وليكم وقيل هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعنى هي التي تلي عليكم لأنها ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء وقيل معنى الآية لا مولى لكم ولا ناصر لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 18]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي ذات يوم حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فأخبرهم أن القرآن أحسن من غيره فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوه مثل ذلك فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فنزلت هذه الآية فعلى هذا القول يكون تأويل قوله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني في العلانية باللسان ولم يؤمنوا بالقلب، وقيل نزلت في المؤمنين وذلك أنهم لما قدموا المدينة أصابوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزل في ذلك ألم يأن للذين آمنوا الآية قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين أخرجه مسلم وقال ابن عباس إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال ألم يأن يعني أما حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم أي ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله أي لمواعظ الله وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني اليهود والنصارى، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن والمعنى أن الله نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر روي عن أبي موسى الأشعري أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا(4/249)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم قاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم قوله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي بالمطر بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها فكذلك يقدر على إحياء الموتى وقال ابن عباس يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتة منيبة وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة وإلا فقد علم إحياء الأرض بالمطر مشاهدة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بالنفقة والصدقة في سبيل الله يُضاعَفُ لَهُمْ أي ذلك القرض وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي ثواب حسن وهو الجنة.
[سورة الحديد (57) : الآيات 19 الى 20]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ أي الكثير والصدق قال مجاهد كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية فعلى هذا الآية عامة في كل من آمن بالله ورسوله وقيل إن الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قيل أراد بالشهداء المؤمنين المخلصين قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد وتلا هذه الآية وقيل هم التسعة الذين تقدم ذكرهم وقيل تم الكلام عند قوله هم الصديقون ثم ابتدأ والشهداء عند ربهم وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس وقيل هم الذين استشهدوا في سبيل الله، لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي بما عملوا من العمل الصالح وَنُورُهُمْ يعني على الصراط وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بحال الكافرين.
قوله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي مدة الحياة في هذه الدار الدنيا وإنما أراد من صرف حياته في غير طاعة الله فحياته مذمومة ومن صرف حياته في طاعة الله فحياته خير كلها ثم وصفها بقوله لَعِبٌ أي باطل لا حاصل له كلعب الصبيان وَلَهْوٌ أي فرح ساعة ثم ينقضي عن قريب وَزِينَةٌ أي منظر يتزينون به وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يعني إنكم تشتغلون في حياتكم بما يفتخر به بعضكم على بعض وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد وقيل بجمع ما لا يحل له فيتطاول بماله وخدمه وولده على أولياء الله تعالى وأهل طاعته ثم ضرب لهذه الحياة مثلا فقال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع إنما سمي الزراع كفارا لسترهم الأرض بالبذر نَباتُهُ أي ما نبت بذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي بعد خضرته ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة قال أهل المعاني زهد الله بهذه الآية في العمل للدنيا وهذه صفة حياة الكافرين وحياة من يشتغل باللعب واللهو ورغب في العمل للآخرة بقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي لأوليائه وأهل طاعته وقيل عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه لأن الآخرة إما عذاب وإما جنة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة فمن اشتغل في الدنيا بطلب الآخرة فهي له بلاغ إلى ما هو خير منه وقيل متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة.(4/250)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
[سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 25]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله عز وجل: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معناه لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة والمعنى سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة أي إلى ما يوجب المغفرة وهي التوبة من الذنوب وقيل سابقوا إلى ما كلفتم به من الأعمال فتدخل فيه التوبة وغيرها، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قيل إن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعا وقال ابن عباس إن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة وقيل إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات والأرضين ولا شك أن الطول يكون أزيد من العرض فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بعرض السموات والأرض على ما يعرفه الناس، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر يدل عليه قوله في سياق الآية ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله تعالى لا بعمله، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته» وقد تقدم الكلام على معنى هذا الحديث والجمع بينه وبين قوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون في تفسير سورة النحل.
قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني عدم المطر وقلة النبات ونقص الثمار، وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي من قبل أن نخلق الأرض والأنفس وقال ابن عباس من قبل أن نبرأ المصيبة إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل: لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا أي لا تبطروا بِما آتاكُمْ أي أعطاكم قال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال صاحب الكشاف: إن قلت ما من أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح قلت المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين والفرح المطغي الملهي عن الشكر فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما والله أعلم وقال جعفر بن محمد الصادق يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متكبر بما أوتي من الدنيا فَخُورٍ أي بذلك الذي أوتي على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قيل هذه الآية متعلقة بما قبلها والمعنى والله لا يحب الذين يبخلون يريد إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم(4/251)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
يبخلون به ولا ينفقونه في سبيل الله ووجوه الخير ولا يكفيهم أنهم بخلوا به حتى يأمروا الناس بالبخل وقيل إن الآية كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وإنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبخلوا ببيان نعته وَمَنْ يَتَوَلَّ قال ابن عباس عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن عباده الْحَمِيدُ أي إلى أوليائه.
قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات والآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي المتضمن للأحكام وشرائع الدين وَالْمِيزانَ يعني العدل أي وأمرنا بالعدل وقيل المراد بالميزان هو الآلة التي يوزن بها وهو يرجع إلى العدل أيضا وهو قوله لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قيل إن الله تعالى أنزل مع آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط إلى الأرض السندان والمطرقة والكلبتين وروي عن ابن عمر يرفعه «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح» وقيل أنزلنا هنا بمعنى أنشأنا وأحدثنا الحديد وذلك أن الله تعالى أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه وإلهامه، فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهي آلة الضرب وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي ومنه ما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحو ذلك، إذ الحديد آلة لكل صنعة فلا غنى لأحد عنه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي وأرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليرى الله مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي الذين لم يروا الله ولا الآخرة وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب وقال ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ في أمره عَزِيزٌ في ملكه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ معناه أنه تعالى شرف نوحا وإبراهيم بالرسالة وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فلا يوجد نبي إلا من نسلهما فَمِنْهُمْ أي من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا أي اتبعنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا والمعنى بعثنا رسولا بعد رسول إلى أن انتهت الرسالة إلى عيسى ابن مريم وهو قوله تعالى: وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي على دينه، رَأْفَةً وَرَحْمَةً يعني أنهم كانوا متوادين بعضهم لبعض، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا عطفا على ما قبله والمعنى أنهم جاءوا بها من قبل أنفسهم وهي ترهبهم في الجبال والكهوف والغيران والديرة فروا من الفتنة وحملوا أنفسهم المشاق في العبادة الزائدة وترك النكاح واستعمال الخشن في المطعم والمشرب والملبس مع التقلل من ذلك ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي ما فرضناها نحن عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها يعني أنهم يرعوا تلك الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وضموا إليها التثليث والاتحاد وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملوكهم وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا به فذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين ثبتوا على الدين الصحيح، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى صلّى الله عليه وسلّم وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا ابن مسعود «اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرهن: فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» قال صلّى الله عليه وسلّم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها(4/252)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» . وعنه قال كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمار فقال لي «يا ابن أم عبد هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء فتنونا ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى فتعالوا لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى به- يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها إلى فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أي من الذين ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي؟ قلت الله ورسوله أعلم قال الهجرة والصلاة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع» ، وروي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» وعن ابن عباس قال «كانت ملوك بعد عيسى عليه الصلاة والسلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم جماعة مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة منهم ابنوا لنا اسطوانا ثم ارفعونا فيه ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وطائفة قالت دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة منهم ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول ولا نرد عليكم ولا نمر عليكم وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم قال ففعلوا ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن غيروا الكتاب فجعل
الرجل يقول نكون في مكان فلان نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قول الله عز وجل: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها يعني ابتدعها الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني الذين ابتدعوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين جاءوا من بعدهم فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله تعالى:
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقهم له وقال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ القرآن واتباعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الذين يتشبهون بكم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الآية أخرجه النسائي موقوفا على ابن عباس وقال قوم انقطع الكلام عند قوله ورحمة ثم قال ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان، «فما رعوها» يعني الملة والطاعة حق رعايتها كناية عن غير مذكور فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم أهل الرأفة والرحمة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين غيروا وبدلوا وابتدعوا الرهبانية ويكون معنى قوله: ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ على هذا التأويل: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ولكن ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به دون الترهب لأنه لم يأمر به.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى يعني يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد وآمنوا به وهو قوله تعالى: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ(4/253)
كِفْلَيْنِ أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران» ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني على الصراط وقال ابن عباس: النور هو القرآن وقيل هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ قيل لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، قالوا للمسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وكتابنا ومن لم يؤمن فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزل لِئَلَّا يَعْلَمَ أي ليعلم ولا صلة أهل الكتاب يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وحسدوا المؤمنين أَلَّا يَقْدِرُونَ يعني أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليعلم الذين لم يؤمنوا به أنهم لا أجر لهم ولا نصيب من فضل الله وقيل لما نزل في مسلمي أهل الكتاب أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر فشق ذلك على المسلمين فنزل لئلا يعلم أهل الكتاب يعني المؤمنين منهم أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني الذي خصكم به فإنه فضلكم على جميع الخلائق وقيل يحتمل أن يكون الأجر الواحد أكثر من الأجرين وقيل قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل هذه الآية فعلى هذا يكون فضل الله النبوة يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي في ملكه وتصرفه يؤتيه من يشاء لأنه قادر مختار، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (خ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم على المنبر يقول «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قراطين قيراطين فقال أهل الكتابين أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا ونحن أكثر عملا قال الله تعالى هل ظلمتكم من أجركم شيئا قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى غروب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله عز وجل وهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أصيب به من شئت» أي أعطيه من شئت (خ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال
لهم لا تفعلوا اعملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/254)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
مدنية وهي اثنان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «نزلت في خولة بنت ثعلبة وقيل اسمها جميلة وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وكان به لمم وكانت هي حسنة الجسم فأرادها فأبت عليه فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية فقال ما أظنك إلا قد حرمت عليّ فقالت والله ما ذاك طلاق فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعائشة تغسل شق رأسه فقالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه وتنعشني به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلما قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي وهذا كان أول ظهار في الإسلام، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله فقالت عائشة أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي لي زوجك فتلا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية (ق) عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول فأنزل الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الآية وأما تفسير الآية فقوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك أي تحاورك وتخاصمك وتراجعك في زوجها أي في أمر زوجها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي شدة حالها وفاقتها ووحدتها، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي مراجعتكما الكلام إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لمن يناجيه ويتضرع إليه بَصِيرٌ أي بمن يشكو إليه ثم ذم الظهار فقال تعالى:
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ يعني يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي ما اللواتي(4/255)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
يجعلونهن من زوجاتهن كالأمهات بأمهات والمعنى ليس هن بأمهاتهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ يعني المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ يعني لا يعرف في الشرع وَزُوراً يعني كذبا وقيل إنما وصفه بكونه منكرا من القول وزورا لأن الأم محرمة تحريما مؤبدا والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا فلا جرم صار ذلك منكرا من القول وزورا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ عفا الله عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم.
(فصل في أحكام الظهار: وفيه مسائل) المسألة الأولى: في معناه لغة قيل إن مشتق من الظهر وهو العلو وليس هو من ظهر الإنسان إذ ليس الظهر بأولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع التلذذ والمباضعة فثبت بهذا أنه مأخوذ من الظهر الذي هو العلو لأن امرأة الرجل مركب له وظهر يدل عليه قول العرب في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت علي كظهر أمي حذف وإضمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كعلوي أمي وعلوه عليها حرام.
المسألة الثانية: كان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية لأنه في التحريم آكد ما يمكن فإن كان ذلك الحكم صار مقررا بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخا لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في أحكام الجاهلية وعادتهم.
المسألة الثالثة: في الألفاظ المستعملة لهذا المعنى في الشريعة وعرف الفقهاء الأصل في هذا قوله أنت عليّ كظهر أمي وأنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي وكذا لو قال أنت عليّ كبطن أمي لو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك عليّ كظهر أمي أو شبه عضوا منها بعضو من أعضاء أمه يكون ذلك ظهارا وقال أبو حنيفة إن شبهها ببطن أمه أو بفرجها أو بفخذها يكون ظهارا وإن بشبهها بعضو غير هذه الأعضاء لا يكون ظهارا ولو قال أنت عليّ كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والإكرام لا يكون ظهارا حتى ينويه ويريده ولو شبهها بجدته فقال أنت عليّ كظهر جدتي يكون ظهارا وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارا على الأصح.
المسألة الرابعة: فيمن يصح ظهاره قال الشافعي الضابط في هذا أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا يصح ظهار الذمي وقال أبو حنيفة لا يصح احتج الشافعي بعموم قوله وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ واحتج أبو حنيفة بأن هذا خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين وأجيب عنه بأن هذا خطاب يتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين.
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يعني يمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اختلف العلماء في معنى العود في قوله «ثم يعودون لما قالوا» ولا بد أولا من بيان أقوال أهل العربية ثم بيان أقوال الفقهاء فنقول قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وفيما قالوا وقال أبو علي الفارسي كلمة إلى اللام تتعاقبان كقوله وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ وبِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها وأما لفظة «ما» في قوله لما فهي بمعنى الذي والمعنى يعودون إلى الذي قالوا وفي الذي قالوا. وفيه وجهان:(4/256)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
أحدهما: إنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ.
الوجه الثاني: أن المراد لما قالوا أي القول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه وعلى هذا المعنى قوله ثم يعودون لما قالوا أي يعودون إلى شيء وذلك الشيء هو الذي قالوا فيه ذلك القول ثم إذا فسر هذا اللفظ بالوجه الأول يجوز أن يكون المعنى عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى وعلى الوجه الثاني يجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وذلك أن من فعل شيئا ثم أراد أن يفعله ثانيا فقد عاد إليه وكذا من فعل شيئا ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه بالتصرف فيه فقد ظهر بما تقدم أن قوله ثم يعودون لما قالوا يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بأن يفعلوا مثله مرة أخرى ويحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين ثم اختلفوا فيه على وجوه:
الأول: وهو قول الشافعي إن معنى العود لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصله بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذلك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة وفسر ابن عباس العود بالندم فقال يندمون فيرجعون إلى الألفة.
الوجه الثاني: في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة إنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة ذلك كان مناقضا لقوله أنت علي كظهر أمي.
الوجه الثالث: وهو قول مالك إن العود إليها عبارة عن العزم على وطئها وهو قريب من قول أبي حنيفة.
الوجه الرابع: وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري إن العود إليها عبارة عن جماعها وقالوا لا كفارة عليه ما لم يطأها قال العلماء والعود المذكور هنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم عليه أو لاستباحته إلا أن الذي قاله الشافعي هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليه وأما الاحتمال الأول في قوله ثم يعودون أي يفعلون مثل ما فعلوه فعلى هذا الاحتمال في الآية وجوه أيضا الأول قال مجاهد والثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتجب الكفارة به والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام على خلاف حكمه عندهم فمعنى ثم يعودون لما قالوا أي في الإسلام فيقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولون في الجاهلية فكفارته كذا وكذا على الوجه الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد وإلا لم يكن عود وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثم يعودون لما قالوا يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه.
وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا المراد بالتماس المجامعة فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ يعني أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أي من التكفير وتركه خَبِيرٌ ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة فقال تعالى:
[سورة المجادلة (58) : آية 4]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فكفارته وقيل فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ(4/257)
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصيام (ف) - كفارته فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ أي الفرض الذي وصفناه، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به عن الله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما وصف من الكفارة في الظهار وَلِلْكافِرِينَ أي لمن جحد هذا وكذب به عَذابٌ أَلِيمٌ أي في نار جهنم يوم القيامة.
(فصل: في أحكام الكفارة، وما يتعلق بالظهار) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان: أحدهما أنه يحرم الجماع فقط. والقول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاع وهو قول أبي حنيفة.
المسألة الثانية: اختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد فإن عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة.
المسألة الثالثة: الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسّة سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس ولم يقل في الإطعام «من قبل أن يتماسا» فدل على ذلك. وعند الآخرين الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وقال بعضهم وإن واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرّحمن بن مهدي.
المسألة الرابعة: كفارة الظهار مرتبة فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة وقال أبو حنيفة هذه الرقبة تجزي سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب.
دليلنا أنا أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا هنا وحمل المطلق على المقيد أولى.
المسألة الخامسة: الصوم فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر يوما متعمدا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ولو شرع في الصوم ثم جامع في خلال الشهرين بالليل عصى الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة لكن لا يجب عليه استئناف الشهرين وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين.
المسألة السادسة: إن عجز عن الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة بحيث لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينا كل مسكين مد من الطعام الذي يقتات به أهل البلد من حنطة أو شعير أو أرز أو ذرة أو تمر أو نحو ذلك وقال أبو حنيفة يعطي لكل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ولو أطعم مسكينا واحدا ستين جزءا لا يجزيه عند الشافعي وقال أبو حنيفة يجزيه.
حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى أوجب إطعام ستين مسكينا فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل.
وأجيب عنه بأن إدخال السرور على قلب ستين مسكينا أولى من إدخال السرور على قلب مسكين واحد.
المسألة السابعة: إذا كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى الخدمة أو له ثمن الرقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم وقال مالك والأوزاعي يلزمه الإعتاق إذا كان واجدا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجا(4/258)
إليه وقال أبو حنيفة إن كان واجدا لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجا إليه، وإن كان واجدا لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم.
المسألة الثامنة: قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام والدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذا انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر قال فقلت امشوا معي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا لا والله فانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به. قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم وبنو بياضة بطن من بني زريق» أخرجه أبو داود.
قوله نزوت عليها أي وثبت عليها وأراد به الجماع وقوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر واللجاج فيه والوسق ستون صاعا، وقوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام وأوحش الرجل إذا جاع.
وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت «ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشكو إليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجادلني فيه ويقول اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى الفرض قال يعتق رقبة قلت لا يجد قال فليصم شهرين متتابعين قلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قلت ما عنده شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا ارجعي إلى ابن عمك» أخرجه أبو داود وفي رواية «قلت إن أوسا ظاهر مني وذكرت أن به لمما وقالت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع وذكرت نحوه» العرق بفتح العين والراء المهملتين زنبيل يسع ثلاثين صاعا وقيل خمسة عشر صاعا وقولها إن به لمما اللمم طرف من الجنون وقال الخطابي لبس المراد من اللمم هنا الجنون والخبل إن لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يلزمه شيء بل معنى اللمم هاهنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والشبق والله أعلم.(4/259)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما، كُبِتُوا أي ذلوا وأخزوا وأهلكوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك، وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني فرائض وأحكاما. وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لم يعملوا بها وجحدوها عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ أي حفظ الله أعمالهم وَنَسُوهُ أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ
أي من أسرار ثلاثة وهي المسارة والمشاورة والمعني ما من شيء يناجي به الرجل صاحبه وقيل ما يكون من متناجين ثلاثة يسارر بعضهم بعضا إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي بالعلم يعني يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم ومشاهدهم كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ فإن قلت لما خص الثلاثة والخمسة.
قلت: أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون اثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد تلك المشاورة ويتم ذلك الغرض وهكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بد من واحد يكون حكما بينهم مقبول القول وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خص الله تعالى الثلاثة والخمسة ثم قال تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ يعني ولا أقل من ثلاثة وخمسة ولا أكثر من ذلك العدد إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي بالعلم والقدرة، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوءهم فيحزن المؤمنين لذلك ويقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم فلما طال على المؤمنين وكثر شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فأنزل الله ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى أي المناجاة فيما بينهم، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني ذلك السر الذي كان بينهم لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أي شيء يسوءهم وكلاهما إثم وعدوان، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها وقيل معناه يوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول وَإِذا جاؤُكَ يعني اليهود حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون السام عليك والسام الموت وهم يوهمونه بأنهم يسلمون عليه وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرد فيقول عليكم وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يعني إذا خرجوا من عنده قالوا لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يريدون لو كان نبيا لعذبنا الله بما نقول من الاستخفاف به قال الله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المعنى أن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة وإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة قالت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قلت عليكم» وللبخاري «إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك فقال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش قالت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» السام الموت قال الخطابي عامة المحدثين يروون إذا سلم عليكم أهل الكتاب فإنما يقولون السام عليكم فقولوا وعليكم الحديث فيثبتون الواو في وعليكم وكان سفيان بن عيينة يرويه بغير واو قال وهو(4/260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه مردودا عليهم بعينه وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم لأن الواو تجمع بين الشيئين، والعنف ضد الرفق واللين، والفحش الرديء من القول.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في المخاطبين بهذه الآية قولان أحدهما أنه خطاب للمؤمنين وذلك أنه لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم وهو ما يقبح من القول والعدوان وهو ما يؤدي إلى الظلم ومعصية الرسول وهو ما يكون خلافا عليه.
والقول الثاني: وهو الأصح أنه خطاب للمنافقين والمعنى. يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وقيل آمنوا بزعمهم كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أي بالطاعة وترك المعصية وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي من تزيين الشيطان وهو ما يأمرهم به. من الإثم والعدوان ومعصية الرسول لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» زاد ابن مسعود في رواية «فإن ذلك يحزنه» وهذه الزيادة لأبي داود وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً يعني ذلك التناجي وقيل الشيطان ليس بضارهم شيئا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا ما أراد الله تعالى وقيل إلا بإذن الله في الضر وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى الله تعالى ويستعيذوا به من الشيطان فإن من توكل على الله لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية قيل في سبب نزولها «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلّى الله عليه وسلّم فسلموا عليه فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا وشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية» وقيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تقدمت القصة في سورة الحجرات، وقيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا تضاموا في مجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض وقيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة والمكان ضيق والأقرب أن المراد مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحرصا على استماع كلامه فأمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه وقرئ في المجلس لأن لكل واحد مجلسا ومعناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم، يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع الله لكم في الجنة والمجالس فيها (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم(4/261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم» ، (م) عن جابر بن عبد الله قال «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا» ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفا على جابر ورفعه غير الحميدي وقيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم وهم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول والحاجة داعية إلى تقدمه فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم والقرآن والحديث والذكر ونحو ذلك لأن كل من وسع على عباد الله أنواع الخير والراحة وسع الله عليه خيري الدنيا والآخرة. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقيل كان رجال يتثاقلون عن الصلاة في الجماعة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى إذا نودي إلى الصلاة فانهضوا إليها وقيل إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى كل خير فانهضوا إليه ولا تقصروا عنه، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم دَرَجاتٍ أي على من سواهم في الجنة قيل يقال للمؤمن الذي ليس بعالم إذا انتهى إلى باب الجنة أدخل ويقال للعالم قف فاشفع في الناس أخبر الله عز وجل أن رسوله صلّى الله عليه وسلّم مصيب فيما أمروا أن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا به من الإكرام وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنكم في العلم فإن الله تعالى يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات وقيل إن العالم يحصل له بعلمه من المنزلة والرفعة ما لا يحصل لغيره لأنه يقتدي بالعالم في أقواله وفي أفعاله كلها عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي قال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت
في تجارة؟ قال لا قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر» أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه، (ق) عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من يريد الله به خيرا يفقهه في الدين» وعن ابن عباس مثله أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون إلى الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه» .
أما هؤلاء فيدعون إلى الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم» قوله تعالى:
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يعني إذا أردتم مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقدموا أمام ذلك صدقة وفائدة ذلك إعظام مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه(4/262)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
وإن وجده بسهولة استحقره ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكثروا حتى شق عليه فأراد الله تعالى أن يخفف على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويثبطهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طول جلوسهم ومناجاتهم فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته فأما الفقراء وأهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما الأغنياء وأهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الرخصة وقال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي يقول آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ترى دينارا قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال فنزلت.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 13 الى 16]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية قال فبي خفف الله عن هذه الأمة أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قوله قلت شعيرة أي وزن شعيرة من ذهب وقوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك.
فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره.
قلت هو كما قلت وليس فيها طعن على غيره من الصحابة ووجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية ولو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها وعلى تقدير اتساع الوقت ولم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة فيكون ذلك سببا لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته ووجه آخر وهو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات ولا من الواجبات ولا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها وليس فيها طعن على أحد منهم، وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله وَأَطْهَرُ أي لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك أَأَشْفَقْتُمْ قال ابن عباس أبخلتم والمعنى أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم وهو قوله أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به، وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تجاوز عنكم ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمر ونهى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إنه محيط بأعمالكم ونيتكم.
قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين وذلك أنهم تولوا اليهود ونصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم فأراد بقوله قوما غضب الله عليهم اليهود ما هُمْ يعني المنافقين مِنْكُمْ أي من المؤمنين في الدين والولاء وَلا مِنْهُمْ يعني ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ(4/263)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
يَعْلَمُونَ أي أنهم كذبة «نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وكان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآية» أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني الكاذبة جُنَّةً أي يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم بسبب أيمانهم، وقيل معناه صدوا الناس عن دين الله الذي هو الإسلام فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يعني في الآخرة.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 17 الى 22]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ يوم القيامة مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي في الدنيا وقيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يعني من أيمانهم الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ يعني في أقوالهم وأيمانهم، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب واستولى عليهم وملكهم فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني.
ولما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي قضى ذلك قضاء ثابتا قيل غلبة الرسل على نوعين فمنهم من يؤمر بالحرب فهو غالب بالحرب ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ أي على نصر رسله وأوليائه عَزِيزٌ أي غالب على أعدائه.
قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أخبر الله تعالى أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب عدوه فإن قلت قد أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالفتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحظورة قلت المودة المحظورة هي مناصحتهم وإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في الذكر عن مودتهم بقوله وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعني أن الميل إلى هؤلاء من أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء والمودة لهم بسبب مخالفة الدين قيل نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وستأتي قصته في سورة الممتحنة وروي عن عبد الله بن مسعود في(4/264)
هذه الآية قال ولو كانوا آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم أحد أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «متعنا بنفسك يا أبا بكر» أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبد الله بن عمير أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبا عبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبت التصديق في قلوبهم فهي مؤمنة موقنة مخلصة وقيل حكم لهم بالإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي قواهم بنصر منه وإنما سمى نصره إياهم روحا لأن به حيي أمرهم.
وقيل بالإيمان وقيل بالقرآن وقيل بجبريل وقيل برحمته وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ إنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأن أعظم النعم وأجل المراتب ثم لما ذكر هذه النعم أتبعه بما يوجب ترك المودة لأعداء الله سبحانه وتعالى فقال أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والله أعلم بمراده.(4/265)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحشر
قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة الحشر فقال قل سورة النضير وهي مدنية أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحشر (59) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وهم طائفة من اليهود وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا وظهر على المشركين قال بنو النضير والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلّى الله عليه وسلّم ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة» وقد تقدمت القصة في سورة آل عمران وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الحصن فعصمه الله منهم وأخبره بذلك وقد تقدمت القصة في سورة المائدة.
فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية قال نعم فقالوا ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم اخرجوا من المدينة فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ثم تنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى كانوا في براز من الأرض فقال بعض اليهود لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب الموت قبله ولكن أرسلوا إليه كيف(4/266)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن آمنوا بك آمنا بك وصدقناك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما كان من الغد صبحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
وقال ابن عباس: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ما بقي، وقيل أعطى كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاء ففعلوا ذلك وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة، فذلك قوله عز وجل:
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ يعني التي كانت بالمدينة.
قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان لِأَوَّلِ الْحَشْرِ قال الزهري كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام وقيل إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل كان هذا: أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام في أيام عمر، وقيل كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ما ظَنَنْتُمْ يعني أيها المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا أي من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخل كثير وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أتاهم أمر الله وعذابه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وهو أن الله أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قال الزهري وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقيل كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغضا وقيل كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها وقال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَاعْتَبِرُوا يعني فاتعظوا وانظروا ما نزل بهم يا أُولِي الْأَبْصارِ يعني يا ذوي العقول والبصائر.(4/267)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
[سورة الحشر (59) : الآيات 3 الى 5]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ يعني الخروج من الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا يعني بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ أي الذي لحقهم ونزل بهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي خالفوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ الآية وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وأحرقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا.
واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأن ذلك كان بإذن الله تعالى (ق) عن ابن عمر قال: حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزل ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ البويرة اسم موضع لبني النضير وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير
قال ابن عباس النخل كلها لينة ما خلا العجوة وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان وقيل النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنية وقيل اللينة النخل كلها من غير استئناف وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه هي لون من النخل وقيل كرام النخل وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهو شديد الصفرة ويرى نواه من خارج يغيب فيه الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبه إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم ذلك وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائما هو لمن غلب عليه فأخبر الله أن قطعها كان بإذنه، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود والمعنى ولأجل إخزاء اليهود أذن الله في قطعها احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق وكذلك قطع أشجارهم ونحوها.
[سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قوله عز وجل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي ما رد الله على رسوله مِنْهُمْ أي من يهود بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يعني أوضعتم وهو سرعة السير مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على جمل، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من أعدائه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم(4/268)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة (ق) عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرّحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلا ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره فقال «وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب» الآية قال فقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينكم أموال بني النضير فو الله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا نعم قال ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟
قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قلتم ادفعها إلينا فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهدا لله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت وإلا فلا تكلماني فقلتما ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنه فادفعاه إليّ فإني أكفيكماه.
[سورة الحشر (59) : آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعني بني هاشم وبني المطلب وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم من المصالح.
واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن(4/269)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
الخطاب «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين إلى قوله والذين جاءوا من بعدهم» ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم كَيْ لا يَكُونَ الفيء دُولَةً والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسمه فيما أمره به وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ أي من مال الفيء والغنيمة وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي من الغلول وغيره فَانْتَهُوا وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره (ق) عن عبد الله بن مسعود أنه قال «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به ونهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» أخرجه أبو داود والترمذي.
وقال هذا حديث حسن الأريكة كل ما أتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أمر الفيء إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي على ترك ما أمركم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو نهاكم عنه ثم بين من له الحق في الفيء فقال عز وجل:
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي رزقا وقيل ثوابا من الله وَرِضْواناً أي أخرجوا من ديارهم طلبا لرضا الله عز وجل:
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا» وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.(4/270)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكنا مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي حزازة وغيظا وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية «فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» . (ق) عن أبي هريرة قال «قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا» (خ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» وفي رواية «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة فقالت الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عز وجل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» والشح في كلام العرب البخل مع الحرص وقد فرق بعض العلماء بين البخل والشح فقال البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع.
ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بما أرادوا وروي أن رجلا قال لابن مسعود إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال إني أسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل وقال ابن عمر ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمع عين الرجل فيما ليس له وقيل الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقاه شح نفسه (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع» أخرجه أبو داود الهلع(4/271)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
أشد الجزع والمراد منه أن الشحيح يجزع جزعا شديدا ويحزن على شيء يفوته أو يخرج من يده والخالع الذي خلع فؤاده لشدة خوفه وفزعه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» أخرجه النسائي.
[سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم إلى يوم القيامة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أخبر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي غشا وحسدا وبغضا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فكل من كان في قلبه غل أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين وليس له في المسلمين نصيب وقال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرون والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه الثلاث منازل (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (م) عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة «يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسبوهم» عن عبد الله بن مغفل قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال مالك بن أنس: من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا هذه الآية ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - إلى- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ- إلى- رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال مالك بن مغول قال الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟
قالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قال حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.
وروي عن جابر قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر.
وروي أن ابن عباس سمع رجلا ينال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: من أمن المهاجرين الأولين أنت؟
قال لا قال أفمن الأنصار أنت؟ قال لا قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان. قوله عز وجل:
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 12]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني أظهروا خلاف ما أضمروا وهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه(4/272)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود من بني قريظة وبني النضير وإنما جعل المنافقين إخوانهم لأنهم كفار مثلهم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ أي منها وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً يعني إن سألنا أحد خلافكم وخذلانكم فلا نطيعه فيكم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعيننكم ولنقاتلن معكم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ يعني المنافقين لَكاذِبُونَ أي فيما قالوا ووعدوا ثم أخبر الله عن حال المنافقين فقال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا ولم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يعني لو قدروا نصرهم أو لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم.
[سورة الحشر (59) : الآيات 13 الى 16]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16)
لَأَنْتُمْ يعني يا معشر المسلمين أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله ذلِكَ أي الخوف منكم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يعني عظمة الله تعالى: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرئ جدر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضا شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ثم ضرب لليهود مثلا فقال تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً يعني مشركي مكة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس «كمثل الذين من قبلهم» يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة ثم ضرب مثلا آخر للمنافقين واليهود جميعا في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله(4/273)
سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما فلما انفتل بعدها رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب
عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها؟ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو؟ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف(4/274)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبدا ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قال الله تعالى:
[سورة الحشر (59) : آية 17]
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان وذلك الإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلا صالحا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم، فقالت إن شئتم لافتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث،(4/275)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها» أخرجه مسلم بتمامه وهذا لفظه وأخرجه البخاري مفرقا حديث جريج تعليقا وحديث المرأة وابنها خاصة.
المومسات الزواني جمع مومسة وهي المرأة الفاجرة والبغيّ الزانية أيضا وقوله يتمثل بحسنها أي يتعجب منه ويضرب به المثل وقوله ذو شارة حسنة أي صاحب جمال ظاهر في الهيئة والملبس والمركب ونحو ذلك والجبار العاتي المتكبر القاهر للناس.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غدا وكل ما هو آت فهو قريب، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيدا وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر الله فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا ينفعها وعنده أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله «ولتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزا عظيما.
قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزا وعقلا كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها.
وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزا وعقلا يدل على أنه تمثيل.
قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم.(4/276)
ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحمة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرّحمن أشد مبالغة من الرّحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته الْقُدُّوسُ أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته السَّلامُ أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق.
فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن.
قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليما، وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، الْمُؤْمِنُ قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه:
ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرب والنكر
أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم في أبيات منها:
حتى احتوى بينك المهيمن من ... خندف عليا زانها النطق
وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه:
جل المهيمن عن صفات عبيده ... ولقد تعالى عن عقول أولي النهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم ... والوصف يعجز عن مليك لا يرى
الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر الْجَبَّارُ قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد: وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس صفة ذم وكذلك الْمُتَكَبِّرُ في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله فكان مذموما في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك(4/277)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم.
[سورة الحشر (59) : آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه وتعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة، وقيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره الْبارِئُ أي المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود الْمُصَوِّرُ أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده وقيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض وقيل الخالق المبدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارئ المنشئ لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه وأنشأه على صور مختلفة وأشكال متباينة وقيل معنى التصوير التخطيط والتشكيل فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا وإنما قدم الخالق على البارئ لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارئ على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان كذلك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب والله أعلم.(4/278)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
سورة الممتحنة
(مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الآية (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إلى قوله سَواءَ السَّبِيلِ روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة وقيل إنه موضع قريب من مكة والأول أصح والظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج والعقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمسلمة جئت؟ قالت لا قال أمهاجرة جئت؟ قالت لا قال فما جاء بك؟ قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها وأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي(4/279)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
صلّى الله عليه وسلّم بما فعل فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانا فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب فبحثوا وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع، فقال علي والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسل السيف وقال أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت؟ فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا منهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يدا وقد علمت أن الله تعالى
ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يدريك يا عمل لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يعني أصدقاء وأنصارا تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بأسباب المحبة وقيل معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم وَقَدْ كَفَرُوا أي وحالهم أنهم كفروا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأن آمنتم، كأنه قال يفعلون ذلك لإيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط جوابه متقدم والمعنى إن كنتم خرجتم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وقوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ أي من المودة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي أظهرتم بألسنتكم منها وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي الإسرار وإلقاء المودة إليهم فقال: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ طريق الهدى ثم أخبر عن عداوة الكفار فقال تعالى:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 5]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي يظفروا بكم ويروكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بالضرب والقتل والشم والسب وَوَدُّوا أي تمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله ولا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم ولا توادوهم لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ أي لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وترك مناصحتهم ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين عصيتم الله لأجلهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ يخاطب حاطبا(4/280)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
والمؤمنين ويأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وَالَّذِينَ مَعَهُ أي من أهل الإيمان إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ يعني المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بريء وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي جحدناكم وأنكرنا دينكم وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ والمعنى أن إبراهيم عليه السلام وأصحابه تبرؤوا من قومهم وعادوهم لكفرهم فأمر حاطبا والمؤمنين أن يتأسوا بهم إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به وإنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه وكان من دعاء إبراهيم ومن معه من المؤمنين رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، وقيل معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 6 الى 8]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني في إبراهيم ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي اقتداء حسن لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي إن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن خلقه الْحَمِيدُ أي إلى أهل طاعته وأوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة وعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل الله تعالى ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولان لهم أبو سفيان وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي علي جعل المودة بينكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب منهم وأسلم ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين قال ابن عباس نزلت في خزاعة وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخص الله في برهم وقال عبد الله بن الزبير نزلت في أمه وهي أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضبابا وأقطا وسمنا وهي مشركة فقالت أسماء لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليّ بيتا حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها منزلها وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها» ، (ق) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قالت «قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدتهم فاستفتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها قال نعم صليها» ، زاد في رواية قال ابن عيينة فأنزل الله فيها لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ثم ذكر الله الذي نهى عن صلتهم وبرهم فقال تعالى:(4/281)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ وهم مشركو مكة أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الآية (خ) عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ- إلى- وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمتحن بهذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ- إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن؟ قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بايعتك كلاما يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال.
واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظا صريحا فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظا صريحا وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ
إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن ما أَنْفَقُوا أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن(4/282)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد: والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما.
قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما.
وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقام أبو العاص بمكة مشركا ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَسْئَلُوا أي أيها المؤمنون ما أَنْفَقْتُمْ يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم وَلْيَسْئَلُوا يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ما أَنْفَقُوا من المهر ممن تزوجها منكم ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الزهري ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله عز وجل:
[سورة الممتحنة (60) : آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
وَإِنْ فاتَكُمْ أيها المؤمنون شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي فلحقن بهم مرتدات فَعاقَبْتُمْ معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ أي إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة «1» بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجبا أو مندوبا وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد
__________
(1) قوله فاطمة، تقدم أن اسمها قريبة فلعل في اسمها خلافا، وذكر الخطيب أولا أن اسمها قريبة وثانيا فاطمة كما هنا والله أعلم اهـ.(4/283)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
النساء منسوخا بقوله تعالى فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فعلى هذا كان رد المهر واجبا. والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوبا.
واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية قال المفسرون لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وفرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا أتته النساء يبلغنه وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبايعهن عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا وما رأيناك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَسْرِقْنَ فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري يحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال وَلا يَزْنِينَ فقالت هند أو تزني الحرة؟ فقال وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت هند ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فقالت هند والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة قال ابن الجوزي وجملة من أحصى من المبايعات أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام، (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئا وما مست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد امرأة لا يملكها» وأما تفسير الآية فقوله تعالى: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أراد به وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا تلحق المرأة بزوجها غير ولده وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فهذا هو البهتان المفتري وليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عنه قد تقدم ذكره ومعنى بين أيديهن وأرجلهن أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن به أو تنهاهن عنه وقيل في كل أمر وافق طاعة الله وكل أمر فيه رشد وقيل هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه وأن لا تحدث المرأة الرجال الأجانب ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر مع غير ذي محرم، قال ابن عباس في قوله(4/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ إنما هو شرط شرطه الله على النساء أخرجه البخاري (ق) عن أم عطية قالت «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا فانطلقت ثم رجعت فبايعها» ، (ق) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت «كان فيما أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» أخرجه أبو داود عن أنس رضي الله عنه «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية فنسعدهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا إسعاد في الإسلام» أخرجه النسائي، (م) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
«النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النائحة والمستمعة» أخرجه أبو داود، وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ يعني إذا بايعنك على هذه الشروط فبايعهن وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عن أميمة بنت رقية قالت «بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسوة فقال لنا فيما استطعتن وأطقتن قلنا الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا قلت يا رسول الله بايعنا قال سفيان يعني صافحنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني من اليهود وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك» قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني اليهود وذلك أنهم عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبوا به فيئسوا من أن يكون لهم ثواب أو خير في الآخرة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يعني كما يئس الذين ماتوا على الكفر وصاروا في القبور من أن يكون لهم ثواب في الآخرة وذلك أن الكفار إذا دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله تعالى وقيل معناه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم والمعنى: أن اليهود الذين عاينوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يؤمنوا به قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/285)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الصف
وفيها قولان: أحدهما أنها مدنية وهو قول ابن عباس والجمهور.
والثاني أنها مكية وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)
قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا وأنزل الله هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون.
[سورة الصف (61) : الآيات 3 الى 6]
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي عظم بغضا عند الله أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئا ولم يفوا به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه(4/286)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
الحديث «تراصوا في الصف» ومعنى الآية إن الله يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص.
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي قيل: إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ يعني تؤذونني وأنتم عالمون علما قطعيا أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي فَلَمَّا زاغُوا أي عدلوا ومالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي أمالها عن الحق إلى غيره وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعا ممن قد تقدم وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال اسْمُهُ أَحْمَدُ عن أبي موسى قال «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن يأتوا النجاشي» وذكر الحديث، وفيه قال سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه» أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلّى الله عليه وسلّم يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم «1» يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل (ق) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي يوم القيامة وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وقد سماه الله تعالى رؤوفا رحيما» وأحمد يحتمل معنيين أحدهما أنه مبالغة من الفاعل ومعناه أن الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل وهو أكثر حمدا لله من غيره والثاني أنه مبالغة من المفعول ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها من غيره، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قيل هو عيسى صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر.
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 14]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
__________
(1) قوله قال نعم إلخ كذلك في نسخة وفي أخرى قال نعم أمة أحمد حكماء اهـ من هامش.(4/287)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي ومن أقبح ظلما ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ معنى الآية أي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم، وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وكانوا اثني عشر رجلا أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «حواري» الزبير فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/288)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
سورة الجمعة
(مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثلاثون كلمة وسبعمائة وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله عز وجل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه رَسُولًا مِنْهُمْ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أميا مثلهم وإنما كان أميا لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من دنس الشرك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي القرآن وقيل الفرائض وَالْحِكْمَةَ قيل هي السنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يدركوهم ولكنهم جاءوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي قهر الجبابرة الْحَكِيمُ أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته.(4/289)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 4 الى 8]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمدا صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفرا لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرءون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ يعني بئس مثلا مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالما وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه قُلْ أي قل يا محمد يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي من دون محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ادعوا على أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ أي لا ينفعكم الفرار منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد.
[سورة الجمعة (62) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي الوقت الصلاة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نداء سواه «كان إذا جلس صلّى الله عليه وسلّم على المنبر أذن بلال» (خ) عن السائب بن يزيد قال «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء» زاد في رواية «فثبت الأمر على ذلك» ، ولأبي داود قال «كان يؤذن بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد وذكر نحوه» الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعا كالمنارة.
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها(4/290)
يوم العروبة، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرّحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون» أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أصحاب السير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجدا فجمع فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطب.
وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ بقوله فلما مشى معه (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» وفي رواية «فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة» وذكره زاد مسلم «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة» والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام وَذَرُوا الْبَيْعَ يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعا وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ذلِكُمْ أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء خَيْرٌ لَكُمْ أي من المبايعة في ذلك الوقت إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم.
(فصل: في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) : في فضلها (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها» ، زاد في رواية «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (ق) عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ، وفي رواية «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلا كغسل الجنابة (م) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(4/291)
قال «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا» قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو (خ) عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذاك في كل سنة يوما فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي (خ) عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة» الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده.
(المسألة الثانية) : في إثم تاركها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على منبره «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من «ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه» أخرجه أبو داود والنسائي وللترمذي نحوه (م) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» .
(المسألة الثالثة) : في تأكيد وجوبها قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» ، أخرجه أبو داود وقال طارق «رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعضا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع منه شيئا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة على من سمع النداء» أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» ، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم(4/292)
نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال «إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين» ولأبي داود نحوه فيه بجؤاثى قرية من قرى البحرين.
(المسألة الرابعة) : في تركها لعذر كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس «أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم» زاد في رواية «فتمشون في الطين والدحض والزلق» ، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلّى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد.
(المسألة الخامسة) : في العدد الذي تنعقد به الجمعة اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلا وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحرارا بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب: لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلا ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع.
(المسألة السادسة) : لا يجوز أن يسافر الرجل يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت أما إذا سافر قبل الزوال وبعد طلوع الفجر فإنه يجوز غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة كحج أو غزو، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيما فلا يسافر حتى يصلي الجمعة يدل على جوازه ما روي عن ابن عباس قال «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ألحقهم فلما صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه فقال ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم» أخرجه الترمذي وروى أن عمر رأى رجلا عليه أهبة السفر وسمعه يقول لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت فقال له عمر اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر.
وللجمعة شرائط وسنن وآداب مذكورة في كتب الفقه وفي هذا القدر كفاية والله أعلم.(4/293)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 10 الى 11]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله عز وجل: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيرا قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيرا حتى تذكره قائما وقاعدا ومضطجعا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً (ق) عن جابر قال «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبلت عير تحمل طعاما فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا إثنا عشر رجلا فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما» وفي رواية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب قائما فجاءت عير من الشام وذكر نحوه» وفيه «إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر» ولمسلم «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم» وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلا.
وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» وقال مقاتل «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم كم بقي في المسجد؟ فقالوا اثني عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية» وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق، وقوله تعالى انفضوا أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائما اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة «سئل ابن مسعود أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال أما تقرؤون وتركوك قائما» قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائما خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافا لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافا لأبي حنيفة ومالك.(4/294)
(ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام) (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب خطبتين يقعد بينهما» وفي رواية أخرى «كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن» (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي صلّى الله عليه وسلّم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» زاد في رواية «فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب» ، (م) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً، (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا» زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كل
كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا» وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه «ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله» أخرجه أبو داود (م) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كانت خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت» عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام «فأما صفة صلاة الجمعة» فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهرا ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهرا، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلّى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعا وإن انفض من العدد واحدا، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعا (خ) عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (م) عن عبيد الله بن أبي رافع قال «استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد الحمد سورة الجمعة في الأولى وإذا جاءك المنافقون في الثانية قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك(4/295)
قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بهما يوم الجمعة» ، (م) عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين» عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل
أتاك حديث الغاشية» أخرجه أبو داود والنسائي.
وقوله تعالى: قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ أي ما عند الله من الثواب والأجر على الصلاة والثبات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ الذي جاء بهما دحية وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعني أنه تعالى موجد الأرزاق وأصلها منه فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا، والله تعالى أعلم.(4/296)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
سورة المنافقين
مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثمانون كلمة وتسعمائة وستة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
قوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان ثُمَّ كَفَرُوا أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله والله يشهد إنهم لكاذبون فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي بالكفر فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني أن لهم أجساما ومناظر حسنة وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا(4/297)
أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يعني أنهم لا يسمعون صوتا في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله عليهم ثم ابتدأ فقال تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي يعرضون عما دعوا إليه وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أي يا محمد أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) .
(ذكر القصة: في سبب نزول هذه الآية) قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاها رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلّى الله عليه وسلّم في عز من الرّحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلّى الله عليه وسلّم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما استقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ما بلغك ما قال صاحبك(4/298)
عبد الله بن أبي فقال أسيد وما قال؟ قال يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني
وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا قالوا وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك بالليل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة فقيل من هو؟ قال رفاعة بن زيد بن التابوت فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وقال ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين فلما وافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإذن زيد وقال يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك (ق) عن زيد بن أرقم قال «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم قال فلووا رؤوسهم وقوله كأنهم خشب مسندة قال كانوا رجالا أجمل شيء» (ق) عن جابر قال «غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بات معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبر بسكعة المهاجري الأنصاري فقال دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر ألا أقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه» ولمسلم رواية «وفيها فقال لا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره» وزاد الترمذي فيه «فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله لا تنقلب حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم العزيز ففعل» قال أصحاب السير وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فلما جاء عبد الله بن أبي قال له ابنه وراءك قال ويلك ما لك قال لا والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولتعلمن اليوم من الأعز ومن الأذل فشكا عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما
صنع ابنه عبد الله فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن خل عنه يدخل فقال عبد الله أما إذا جاء أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنعم فدخل قالوا فلما نزلت هذه السورة وتبين كذب المنافقين قيل يا أبا حباب إنه(4/299)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستغفر لك فلوى رأسه وقال أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ الآية ونزل.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 9]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا عنه وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يعني أن أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فرد الله عليهم بقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلّى الله عليه وسلّم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 10 الى 11]
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ قال ابن عباس يريد زكاة الأموال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ أي فأزكي مالي وَأَكُنْ وقرئ وأكون مِنَ الصَّالِحِينَ أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي أحج وأزكي وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملا من خير أو شر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/300)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة التغابن
وهي مدنية في قول الأكثر وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ إلى آخر ثلاث آيات وهي ثماني عشرة آية ومائتان وإحدى وأربعون كلمة وألف وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
قوله عز وجل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يعني أنه تعالى متصرف في ملكه كيف يشاء تصرف اختصاص لا شريك له فيه وله الحمد لأن أصول النعم كلها منه وهو الذي يحمد على كل حال فلا محمود في جميع الأحوال إلا هو وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء كما يشاء بلا مانع ولا مدافع هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال ابن عباس: إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا (م) عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لهم وهم في أصلاب آبائهم» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الزرق فما الأجل فيكتب ذلك وهو في بطن أمه» وقال جماعة في معنى الآية إن الله تعالى خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم فقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم اختلفوا في تأويلها فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة وقال عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب وقيل فمنكم كافر أي بأن الله خلقه وهم الدهرية وأصحاب الطبائع ومنكم مؤمن أي بأن الله خلقه وجملة القول فيه أن الله تعالى خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله وبمشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه هذا طريق أهل السنة فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه عالم بكفر الكافر وإيمان المؤمن.(4/301)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
[سورة التغابن (64) : الآيات 3 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي إنه أتقن وأحكم صوركم على وجه لا يوجد مثله في الحسن والمنظر من حسن القامة والمناسبة في الأعضاء وقد علم بهذا أن صورة الإنسان أحسن صورة وأكملها وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في القيامة يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ معناه أنه لا تخفى عليه خافية فاستوى في علمه الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ يخاطب كفار مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني خبر الأمم الخالية فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي جزاء أعمالهم وهو ما لحقهم من العذاب في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة ذلِكَ أي الذي نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا معناه أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَكَفَرُوا أي جحدوا وأنكروا وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي عن إيمانهم وعبادتهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ أي عن خلقه حَمِيدٌ أي في أفعاله ثم أخبر الله تعالى عن إنكارهم البعث فقال تعالى:
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 13]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ أي قل لهم يا محمد بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أي يوم القيامة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ أي لتخبرن بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أمر البعث والحساب يوم القيامة فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما ذكر حال الأمم الماضية المكذبة وما نزل بهم من العذاب قال فآمنوا أنتم بالله ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن سماه نورا لأنه يهتدى به في ظلمات الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه مطلع عليكم عالم بأحوالكم جميعا فراقبوه وخافوه.
قوله عز وجل: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ من الغبن وهو فوت الحظ والمراد في المجازاة والتجارة وذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غبن والمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة وذلك لأن كل كافر له أهل ومنزل في الجنة لو أسلم فيظهر يومئذ غبن كل كافر يتركه الإيمان ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وقيل إن قوما في النار يعذبون وقوما في الجنة ينعمون فلا غبن أعظم من هذا وقل هو غبن المظلوم للظالم لأن المظلوم مغبون في الدنيا فصار في الآخرة غابنا لظالمه وأصل الغبن في البيع والشراء وقد ذكر الله في حق الكافرين «انهم خسروا وغبنوا في شرائهم فقال تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ وقال في حق المؤمنين(4/302)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ وقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فخسرت صفقة الكافرين وربحت صفقة المؤمنين وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ على ما جاءت به الرسل من الإيمان بالبعث والجنة والنار وَيَعْمَلْ صالِحاً أي في إيمانه إلى أن يموت على ذلك يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي بوحدانية الله وقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي الدالة على البعث أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء الله وقدره وإرادته وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق أنه لا يصيبه مصيبة من موت أو مرض أو ذهاب مال ونحو ذلك إلا بقضاء الله وقدره وإذنه يَهْدِ قَلْبَهُ أي يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم لقضاء الله تعالى وقدره وقيل يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُوا اللَّهَ أي فيما أمر وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي فيما جاء به عن الله وما أمركم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود ولا مقصود إلا هو وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 16]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ عن ابن عباس قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعنه قالوا لهم صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة فقال تعالى فاحذروهم أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ثم هاجر فرأى الذين قد سبقوه بالهجرة فقد فقهوا في الدين فهم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه ومنعوه عن الهجرة لما لحقوا به ولا ينفق عليهم ولا يصيبهم بخير فأمره الله بالعفو والصفح عنهم وقال عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرق عليهم فيقيم فأنزل الله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم بحملهم إياكم على ترك طاعة الله فاحذروهم أي أن تقبلوا منهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي فلا تعاقبوهم على خلافكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة وقد يقع الإنسان بسببهم في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام وغصب مال الغير ونحو ذلك اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
يعني الجنة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب أولادكم ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم قال بعضهم لما ذكر الله العداوة أدخل من للتبعيض فقال إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهم لم يخلوا من الفتنة واشتغال القلب بهم وكان عبد الله بن مسعود يقول لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى أهل ومال وولد إلا يشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.(4/303)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ما أطقتم وهذه الآية ناسخة لقوله «اتقوا الله حق تقاته» وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أي لله ولرسوله فيما يأمركم به وينهاكم عنه وَأَنْفِقُوا أي من أموالكم حق الله الذي أمركم به خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي ما أنفقتم في طاعة الله وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم تفسيره.
[سورة التغابن (64) : الآيات 17 الى 18]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً القرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيبة نفس يعني إن تقرضوا أي تنفقوا في طاعة الله متقربين إليه بالإنفاق يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يجزكم بالضعف إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الزيادة وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ يعني يحب المتقربين إليه حَلِيمٌ أي لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والله أعلم.(4/304)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سورة الطلاق
مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نادى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم خاطب أمته لأنه المقدم عليهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب وقيل معناه يا أيها النبي قل لأمتك فأضمر القول إذا طلقتم النساء أي إذا أردتم تطليقهن فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لزمان عدتهن وهو الطهر لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتغيظ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» زاد في رواية «كان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وفي رواية لمسلم «إنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ولمسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل عمر وأبو الزبير يسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن» «1» .
(فصل) اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن شاء طلق قبل أن يمس، والطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق
__________
(1) قوله في قبل عدتهن. قال في شرح مسلم هي قراءة ابن عباس وابن عمر وهي شاذة لا تثبت قرآنا بالإجماع ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا اهـ.(4/305)
الحامل بعد ما جامعها أو طلق التي لم تر الدم لا يكون بدعيا ولا سنة، ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعيا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قبل أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأمره أن يتعرف الحال ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدا عصى الله تعالى ووقع الطلاق لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لم يأمره بالمراجعة، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في حال الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر وما رواه نافع عن ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فأمر استحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق كما أنه يكره النكاح للطلاق، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم فلو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثا لا يكون بدعيا وهو قول الشافعي وأحمد وذهب بعضهم إلى أنه بدعة وهو قول مالك وأصحاب الرأي.
قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي عدة أقرائها فاحفظوها قيل أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا، وقيل للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي واخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني إذا كان المسكن الذي طلقها فيه الزوج له بملك أو إكراء وإن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكري لها منزلا غيره ولا يجوز للزوج أن يخرج المرأة من المسكن الذي طلقها فيه وَلا يَخْرُجْنَ يعني ولا يجوز للمرأة أن تخرج ما لم تنقض عدتها لحق الله تعالى فإن خرجت لغير ضرورة أثمت فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدما أو غرقا جاز لها أن تخرج إلى منزل آخر وكذلك إذا كان لها حاجة ضرورية من بيع غزل أو شراء قطن جاز لها الخروج نهارا ولا يجوز ليلا، يدل على ذلك أن رجالا استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالة جابر وقد كان طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها فإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وراجعة والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس: الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود وقيل معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة النشوز وقيل خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعده من الأحكام وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي فيطلق لغير السنة أو تجاوز هذه الأحكام فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة.
عن محارب بن دثار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» وأخرجه أبو داود مرسلا وله في رواية عنه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به حرام عليها رائحة الجنة» وأخرجه أبو داود والترمذي.(4/306)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
[سورة الطلاق (65) : آية 2]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)
قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي إذا قربن من انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهن بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي على الرجعة وعلى الفراق أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق.
عن عمران بن حصين أنه سئل عن رجل يطلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. أخرجه أبو داود وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وأشهدوا إذا تبايعتم وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وفائدة هذا الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وأن لا يموت أحد الزوجين فيدعي الآخر ثبوت الزوجية ليرث وقيل أمر بالإشهاد للاحتياط مخافة أن تنكر الزوجة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجا غيره وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ يعني أيها الشهود لِلَّهِ أي طلبا لمرضاة الله وقياما بوصيته والمعنى اشهدوا بالحق وأدوها على الصحة ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قيل معناه ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك أسر ابن له يسمى مالكا فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أسر العدو ابني وشكا إليه أيضا فاقة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب منهم إبلا وجاء بها إلى أبيه.
وعن ابن عباس قال: غفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً أي في ابنه.
[سورة الطلاق (65) : آية 3]
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني ما ساق من الغنم وقيل أصاب غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم نعم ونزلت الآية وقال ابن مسعود ومن يتق الله يجعل له مخرجا من كل شيء ويرزقه من حيث لا يحتسب هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه وقال الربيع بن خثيم يجعل له محرجا من كل شيء ضاق على الناس وقيل محرجا من كل شدة وقيل مخرجا عما نهاه الله عنه وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يعني من يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي منفذ أمره وممض في خلقه ما قضاه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي جعل لكل شيء من شدة أو رخاء أجلا ينتهى إليه وقال مسروق في هذه الآية إن الله بالغ أمره توكل عليه أم لم يتوكل عليه غير أن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
قوله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ قيل لما نزلت وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ(4/307)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري يا رسول الله فما عدة من تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض فلا يرجى أن يحضن وهن العجائز الآيسات من الحيض إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في حكمهن ولم تدروا ما عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني الصغائر اللاتي لم يحضن بعد فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغ سن الآيسات فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء وتبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن عمر أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك وقال الحسن تتربص سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهذا كله في عدة الطلاق وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها وهو قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (ق) «عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح وأنت والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي» لفظ البخاري ولمسلم نحوه وزاد قال ابن شهاب ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنها لا يقربها زوجها حتى تطهر وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة ذلِكَ أي ذلك الذي ذكر من الأحكام أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي لتعلموا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ يعني مطلقات نسائكم مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ أي من سعتكم وطاقتكم فإن كان موسرا يوسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيرا فعلى قدر الطاقة وَلا تُضآرُّوهُنَّ أي لا تؤذوهن لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ يعني في مساكنهن فيخرجن وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي فيخرجن من عدتهن.
(فصل: في حكم الآية) اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة ونعني بالسكنى مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها الزوج فيها ملك الزوج يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها وأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلاق الثلاث أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو غير حامل عند أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أنه قال لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن والشعبي.(4/308)
واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، يروى ذلك، عن ابن عباس وهو قول الحسن والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد ومنهم من أوجبها بكل حال يروى ذلك عن ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق النفقة إلا أن تكون حاملا لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وأما الدليل على ذلك من السنة فما روي عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لها ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده فإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به» أخرجه مسلم واحتج بهذا الحديث من لم يجعل لها سكنى وقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة له فيه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان في لسانها ذرابة: وأما المعتدة عن وطء الشهبة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا وأما المعتدة عن وفاة الزوج فلا نفقة لها عند أكثر أهل العلم وروي عن علي أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري.
واختلفوا في سكناها وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: أنه لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء وهو قول علي وابن عباس وعائشة وبه قال عطاء والحسن وهو قول أبي حنيفة.
والثاني: أن لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق.
واحتج من أوجب لها السكنى بما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري «أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألته أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو أمر بي فنوديت فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» أخرجه أبو داود والترمذي، فمن قال بهذا القول قال إذنه لفريعة أولا بالرجوع صار منسوخا بقوله آخرا «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» ومن لم يوجب السكنى قال أمرها بالمكث في بيتها آخرا استحبابا لا وجوبا.
قوله عز وجل: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ يعني أولادكم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني على إرضاعهن، وفيه دليل على أن اللبن وإن كان قد خلق لمكان الولد فهو ملك للأم وإلا لم يكن لها أن تأخذ عليه أجرا وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف وقيل يتراضى الأب والأم على أجر مسمى والخطاب للزوجين جميعا أمرهم أن يأتوا بالمعروف وما هو الأحسن ولا يقصدوا الضرار، وقيل المعروف هاهنا لا أن يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا المرأة في حق(4/309)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
الولد ورضاعه وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي في حق الولد وأجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر للصبي مرضعا غير أمه وذلك قوله: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي على قدر غناه وَمَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فكان بمقدار القوت فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي على قدر ما آتاه الله من المال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً أي في النفقة إِلَّا ما آتاها يعني من المال والمعنى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني في النفقة سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة. قوله تعالى:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ أي عصت وطغت والمراد أهل القرية عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي وأمر رسله فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي بالمناقشة والاستقصاء وقيل حاسبها بعملها في الكفر فجزاها النار وهو قوله وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وقيل في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر أنواع البلاء وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي شدة أمرها وجزاء كفرها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسرانا في الدنيا والآخرة أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يخوف كفار مكة أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول ثم نعتهم فقال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني القرآن رَسُولًا أي وأرسل إليكم رسولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ قرئ مبينات بالخفض أي تبين الحلال من الحرام والأمر والنهي وقرئ بالنصب ومعناه أنها واضحات لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل يرزقون طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ يعني بعضها فوق بعض وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي في العدد يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي الوحي إلى خلقه من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره ينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار وبالصيف والشتاء ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاته وينقله من حال إلى حال فيحكم بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك هذا، وقيل في كل سماء من سماواته وأرض من أرضيه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية وأنه قادر على الإنشاء بعد الإفناء وكل الكائنات جارية تحت قدرته داخلة في علمه والله تعالى أعلم.(4/310)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
سورة التحريم
(مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وسبع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التحريم (66) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذكر سبب نزولها، (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلّى الله عليه وسلّم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقا منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال سقتني حفصة شربة عسل قال جرست نحله العرفط فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي» (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فتواطيت أنا وحفصة أنا أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قوله إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ لعائشة وحفصة وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً لقوله «بل شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا» زاد في رواية «يبتغي بذلك مرضاة أزواجه» .
(شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما) قولها كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل الحلواء بالمد وهو كل شيء حلو وذكر العسل بعدها وإن كان داخلا في جملة الحلواء تنبيها على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام قولها في الحديث الثاني فتواطيت أنا وحفصة هكذا ذكر في الرواية وأصله فتواطأت أي اتفقت أنا وحفصة قولها إني لأجد منك ريح مغافير هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة وبالفاء يكون بالحجاز وقيل العرفط نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة(4/311)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
وثمره خبيث الرائحة، وقال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك، وقيل رائحته كرائحة النبيذ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يوجد منه رائحة كريهة قولها جرست نحله العرفط هو بالجيم والراء وبالسين المهملتين ومعناه أكلت نحله العرفط فصار منه العسل قولها في الحديث الثاني فقال شربت عسلا عند زينب بنت جحش وفي الحديث الأول أن الشرب كان عند حفصة بنت عمر بن الخطاب وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه قال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح حيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله وأكمل فائدة يريد قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة وحفصة كما اعترف به عمر في حديث ابن عباس وسيأتي الحديث قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى يعني الحديث الأول الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم وكذا ذكره القرطبي أيضا وقال المفسرون في سبب النزول «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة وخلا بها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي بها صلّى الله عليه وسلّم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلّى الله عليه وسلّم حتى حلف أن لا يقربها عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت له أمة يطؤها بها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية أخرجه النسائي قال العلماء الصحيح في سبب نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح قال النسائي إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية.
وأما التفسير فقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي من العسل أو ملك اليمين على اختلاف الرواية فيه وهذا التحريم تحريم امتناع عن الانتفاع بها أو بالعسل لا تحريم اعتقاد بكونه حراما بعد ما أحله الله فالنبي «صلّى الله عليه وسلّم امتنع عن الانتفاع بذلك مع اعتقاده أن ذلك حلال تبتغي مرضاة أزواجك أي تطلب رضاهن بترك ما أحل الله لك والله غفور رحيم أي غفر لك ذلك التحريم.
[سورة التحريم (66) : الآيات 2 الى 3]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي بين وأوجب لكم تحليل أيمانكم بالكفارة وهو ما ذكر في سورة المائدة فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته فأعتق رقبة وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم وَهُوَ الْعَلِيمُ أي بخلقه الْحَكِيمُ أي فيما فرض من حكمه.
(فصل) اختلف العلماء في لفظ التحريم فقيل ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو قال حرمتك فإن(4/312)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى ظهارا فظهار وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقا عتقت وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين وإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه وهذا قول أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين وإليه ذهب الشافعي وإن لم ينو شيئا ففيه قولان للشافعي أحدهما أنه يلزمه كفارة اليمين، والثاني لا شيء عليه وأنه لغو فلا يترتب عليه شيء من الأحكام وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطؤها وإن حرم طعاما فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» وفي رواية «إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» لفظ الحميدي.
قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحدا وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت بذلك حفصة عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على قول حفصة لعائشة عَرَّفَ بَعْضَهُ قرئ بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرئ عرف بالتشديد، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلّى الله عليه وسلّم كره أن ينتشر ذلك في الناس فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه قالَتْ يعني حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ أي بما تكنه الضمائر الْخَبِيرُ أي بخفيات الأمور.
[سورة التحريم (66) : آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ يخاطب عائشة وحفصة أي من التعاون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والإيذاء له فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما أن تتوبا وذلك بأن سرهما ما كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتناب مارية، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتين قال الله عز وجل إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر وحججت معه فلما كان عمر ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز ثم أتاني فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما قال عمر وا عجبا لك يا ابن العباس قال الزهري كره منه ما سأله عنه ولم يكتمه قال هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني(4/313)
فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك يريد عائشة وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينزل يوما ويأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم قلت ماذا أجاءت غسان؟ قال لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذ راجعتني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله قد دخلت علي حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم قال فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا
أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى» قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت «لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في ليلة تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر يكون تسعا وعشرين زاد في رواية وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة ثم قال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها حتى بلغ إلى قوله عظيما قالت عائشة قد علم رسول الله والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» ، زاد في رواية «أن عائشة قالت لا تخبر نساءك أني اخترتك فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا» ولمسلم عن ابن عباس عن عمر نحوه وفيه قال «دخلت عليه فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول فنزلت هذه الآية عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير» ، وفيه أنه استأذن رسول(4/314)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له وأنه قام على باب المسجد فنادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه.
(شرح بعض ألفاظه) قوله فعدلت معه بالإداوة أي فملت معه بالركوة فتبرز أي أتى البراز وهو الفضاء من الأرض لقضاء الحاجة.
العوالي جمع عالية وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة قوله ولا يغرنك أن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة أوسم منك أي أكثر حسنا وجمالا منك قوله فكنا نتناوب النزول التناوب هو أن يفعله الإنسان مرة ويفعله الآخر بعده المشربة بضم الراء وفتحها الغرفة قوله فإذا هو متكئ على رمال حصير يقال رملت الحصير إذا ضفرته ونسجته والمراد به أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير قوله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة الأهبة والأهب جمع إهاب وهو الجلد قوله من شدة موجدته الموجدة الغضب.
قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تعاونا على إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي وليه وناصره وَجِبْرِيلُ يعني وجبريل وليه وناصره أيضا وإنما أفرده وإن كان داخلا في جملة الملائكة تعظيما له وتنبيها على علو منزلته ومكانته وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب صالح المؤمنين أبو بكر وعمر وقيل هم المخلصون من المؤمنين الذين ليسوا بمنافقين وقيل هم الأنبياء وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين ظَهِيرٌ أي أعوان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينصرونه.
[سورة التحريم (66) : آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
عَسى رَبُّهُ أي واجب من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ثم وصف الأزواج اللواتي كان يزوجه بهن فقال مُسْلِماتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ أي مصدقات بتوحيد الله تعالى: قانِتاتٍ أي طائعات وقيل داعيات وقيل مصليات بالليل تائِباتٍ أي تاركات للذنوب، لقبحها أو كثيرات التوبة عابِداتٍ وكثيرات العبادة سائِحاتٍ أي صائمات وقيل مهاجرات وقيل يسحن معه حيث ساح ثَيِّباتٍ جمع ثيب وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه وَأَبْكاراً أي عذارى جمع بكر وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن فأخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله أزواجا خيرا منهن تخويفا لهن.(4/315)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس بالانتهاء عما نهاكم الله عنه والعمل بطاعته وَأَهْلِيكُمْ يعني مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك، ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ يعني الكبريت، لأنه أشد الأشياء حرا وأسرع إيقادا عَلَيْها مَلائِكَةٌ يعني خزنة النار وهم الزبانية غِلاظٌ أي فظاظ على أهل النار شِدادٌ يعني أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار لم يخلق الله الرحمة فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي لا يخالفون الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامره والانتقام من أعدائه يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان.
(فصل) وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحا وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالا ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة (م) عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» ، (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة الحديث (م) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
وقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ هذا إطماع من الله تعالى لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلا وتكرما لا وجوبا عليه وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
أي لا يعذبهم بدخول النار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يعني على الصراط يَقُولُونَ رَبَّنا يعني إذا انطفأ نورا المنافقين أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تقدم تفسيره.(4/316)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي بين شبها وحالا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها واعلة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها واهلة وقيل اسمها والعة ووالهة كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وقوله من عبادنا إضافة تشريف وتعظيم فَخانَتاهُما قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما وكانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن أحد أخبرت به الجبابرة من قومها وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومها على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار وإذا نزل به ضيف بالنهار دخنت لتعلم قومها بذلك وقيل أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لم يدفعا عن امرأتيهما مع نبوتهما عذاب الله وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وهذا مثل ضربه الله تعالى للصالحين والصالحات من النساء وأنه لا ينفع العاصي طاعة غيره ولا يضر المطيع معصية غيره وإن كانت القرابة متصلة بينهم وأن القريب كالأجانب بل أبعد وإن كان القريب الذي يتصل به الكافر نبيا كامرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان عن امرأتيهما شيئا فقطع بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية ويتكل على صلاح غيره وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ثم ضرب مثلا آخر يتضمن أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعا وأن وصلة المسلم بالكافر لا تضر المؤمن فقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ يعني آسية بنت مزاحم قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت به امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس فكانت تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة وقيل إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة، من درة بيضاء وانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألما وقيل رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب فيها وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني وشركه وقال ابن عباس عمله يعني جماعه وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي عن الفواحش والمحصنة العفيفة فَنَفَخْنا فِيهِ أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية مِنْ رُوحِنا إضافة تمليك وتشريف كبيت الله وناقة الله وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده بكلماته المنزلة على أنبيائه وَكُتُبِهِ يعني الكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ يعني كانت من القوم القانتين أي المطيعين وهم رهطها وعشيرتها لأنهم كانوا أهل بيت صلاح وطاعة الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. والله أعلم بمراده.(4/317)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة الملك
مكية وهي ثلاثون آية وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ولأبي داود نحوه، وفيه «تشفع لصاحبها» عن ابن عباس قال «ضرب بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر إنسان وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
قوله عز وجل: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي له الأمر والنهي والسلطان فيعز من يشاء ويذل من يشاء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من الممكنات الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قيل أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا جعل الله الدنيا دار حياة وفناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء وإنما قدم الموت لأنه أقرب إلى قهر الإنسان، وقيل قدمه لأنه أقدم وذلك لأن الأشياء كانت في الابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والعلقة ونحو ذلك ثم طرأ عليها الحياة وقال ابن عباس خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلقت الحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقاها في العجل فخار وحيي وقيل إن الموت صفة وجودية مضادة للحياة، وقيل الموت عبارة عن زوال القوة الحيوانية وإبانة الروح عن الجسد وضده الحياة وهي القوة الحساسة مع وجود الروح في الجسد وبه سمي الحيوان حيوانا وقيل إن الموت نعمة لأن الفاصل بين حال التكليف في هذه الدار وحال المجازاة في دار القرار والحياة أيضا نعمة إذ لو لاها لم يتنعم أحد في الدنيا ولم يصل إليه الثواب في الآخرة لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم فيما بين الحياة إلى الموت أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا روي عن ابن عمر مرفوعا أحسن عملا أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته وقال الفضيل بن عياض أحسن عملا أخلصه وأصوبه، وقال أيضا العمل لا يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة وقيل أيكم أزهد في الدنيا وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب المنتقم ممن عصاه الْغَفُورُ أي لمن تاب إليه ورجع عن إساءته.(4/318)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
[سورة الملك (67) : الآيات 3 الى 8]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً يعني طبقا على طبق بعضها فوق بعض كل سماء مقبية على الأخرى وسماء الدنيا كالقبة على الأرض قال كعب الأحبار سماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو قال نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء وما بين السماء إلى الحجب السبعة صحار من نور، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي ما ترى يا ابن آدم في شيء مما خلق الرّحمن اعوجاجا ولا اختلافا ولا تناقضا بل خلقهن مستقيمة مستوية فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي كرر النظر هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي من شقوق وصدوع ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ قال ابن عباس مرة بعد مرة يَنْقَلِبْ أي ينصرف إِلَيْكَ فيرجع الْبَصَرُ خاسِئاً أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوي وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى من الأرض وهي التي يراها الناس بِمَصابِيحَ أي بكواكب كالمصابيح في الإضاءة وهي أعلام الكواكب، وقال ابن عباس بنجوم لها نور وقيل خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ورجوما للشياطين وهو قوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ قال ابن عباس: يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع.
فإن قلت جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها وجعلها رجوما للشياطين يقتضي زوالها فكيف الجمع بين هاتين الحالتين.
قلت قالوا إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وترمي الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب ومثلها كمثل قبس يؤخذ من النار وهي على حالها وَأَعْتَدْنا لَهُمْ أي وأعتدنا للشياطين بعد الاحتراق في الدنيا عَذابَ السَّعِيرِ أي في الآخرة وهي النار الموقدة وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي ليس العذاب مختصا بالشياطين بل لكل من كفر بالله من إنس وجن عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثم وصف جهنم فقال تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً هو أول صوت نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات وَهِيَ تَفُورُ أي تغلي بهم كغلي المرجل وقيل تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل، تَكادُ تَمَيَّزُ أي تتقطع مِنَ الْغَيْظِ من تغيظها عليهم كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي جماعة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها يعني سؤال توبيخ وتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذركم.
[سورة الملك (67) : الآيات 9 الى 16]
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا يعني للرسول ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وهذا اعتراف منهم بأنه أزاح(4/319)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا وقالوا ما نزل الله من شيء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فيه وجهان أحدهما وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار للرسل والثاني يحتمل أن يكون من كلام الخزنة للكفار والمعنى لقد كنتم في الدنيا في ضلال كبير وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أي من الرسل ما جاءوا به أَوْ نَعْقِلُ أي نفهم منهم، قال ابن عباس لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ وقيل معناه لو كنا نسمع سمع من يعي ونعقل عقل من يميز وننظر ونتفكر ما كنا في أصحاب السعير فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ هو في معنى الجمع أي بتكذيبهم الرسل وقولهم «ما نزل الله من شيء» فَسُحْقاً أي بعدا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون ربهم ولم يروه فيؤمنوا به خوفا من عذابه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يعني جزاء أعمالهم الصالحة وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عباس نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل بما قالوا فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد فأخبره الله أنه لا يخفى عليه خافية فقال تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ثم أكد ذلك بقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ يعني ألا يعلم من خلق مخلوقه، وقيل ألا يعلم الله من خلق والمعنى ألا يعلم الله ما في صدور من خلق وَهُوَ اللَّطِيفُ أي باستخراج ما في الصدور الْخَبِيرُ بما فيها من السر والوسوسة.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا الذلول المنقاد من كل شيء والمعنى جعلها لكم سهلة لا يمتنع المشي فيها لحزونتها وغلظها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أمر إباحة وكذا قوله وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ومناكبها جوانبها وأطرافها ونواحيها وقيل طرقها وفجاجها وقال ابن عباس جبالها والمعنى هو الذي سهل لكم السلوك في جبالها وهو أبلغ التذلل وكلوا من رزقه أي مما خلقه الله لكم في الأرض وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي وإليه تبعثون من قبوركم ثم خوف كفار مكة فقال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ قال ابن عباس يعني عقاب من في السماء إن عصيتموه أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي تتحرك بأهلها وقيل تهوي بهم والمعنى أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تجيء وتذهب.
[سورة الملك (67) : الآيات 17 الى 27]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً يعني ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ أي عند الموت في الآخرة كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري إذا عاينتم العذاب وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقا.
قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ أي يضممن أجنحتهن إذا ضربن بهن جنوبهن بعد البسط ما يُمْسِكُهُنَّ أي حال القبض والبسط(4/320)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
إِلَّا الرَّحْمنُ والمعنى: أن الطير مع ثقلها وضخامة جسمها لم يكن بقاؤها وثبوتها في الجو إلا بإمساك الله عز وجل إياها وحفظه لها إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ استفهام إنكار أي لا جند لكم يَنْصُرُكُمْ أي يمنعكم مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي من عذاب الله قال ابن عباس أي من ينصركم مني إن أردت عذابكم إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ يعني من ذا الذي يرزقكم المطر إن أمسكه الله عنكم بَلْ لَجُّوا أي تمادوا فِي عُتُوٍّ أي نبو وتكبر وَنُفُورٍ أي تباعد عن الحق ثم ضرب مثلا للكافر والمؤمن فقال تعالى:
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أي كابا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا وهو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة أَهْدى أي هو أهدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أي قائما معتدلا لا يبصر الطريق عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني المؤمن يمشي يوم القيامة سويا قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني أنه تعالى ركب فيكم هذه القوى لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم فاستعملتموها في غير ما خلقت له فلهذا قال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعم الله صرفها في وجه مرضاته فلما صرفتموها في غير مرضاته فكأنكم ما شكرتم رب هذه النعم الواهب لها قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي يوم القيامة والمعنى أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هذا سؤال يحتمل وجهين: أحدهما أنه سؤال عن نزول العذاب بهم والثاني أنه سؤال عن يوم القيامة فأجاب الله عن ذلك بقوله قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أمره بإضافة العلم إلى الله تعالى وتبليغ ما أوحي إليه فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني العذاب في الآخرة على قول أكثر المفسرين، وقيل يعني العذاب ببدر زُلْفَةً أي قريبا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اسودت وعلتها الكآبة والمعنى قبحت وجوههم بالسواد وَقِيلَ لهم أي وقالت لهم الخزنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ من الدعاء أي تتمنون وتطلبون أن يعجله لكم وقيل من الدعوى أي تدعون أنه باطل.
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قُلْ يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي فأبقانا وأخر في آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي إنه واقع بهم لا محالة وقيل في معنى الآية قل أرأيتم إن أهلكني الله أي فعذبني ومن معي أو رحمنا أي فغفر لنا فنحن مع إيماننا خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم أو يمنعكم من عذاب أليم وأنتم كافرون وهذا قول ابن عباس، قُلْ أي قل لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا
أي نحن آمنا به وعبدناه وأنتم كفرتم به فَسَتَعْلَمُونَ أي عند معاينة العذاب مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي نحن أم أنتم وهذا تهديد لهم ثم ذكرهم ببعض نعمه عليهم على طريق الاحتجاج فقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ قيل يريد ماء زمزم وقيل غيرها من المياه غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر تراه العيون وتناله الأيدي والدلاء، وقال ابن عباس معين أي جار والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والمعنى أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد أن يقولوا هو الله تعالى فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون معه من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية فهذا محال، والله أعلم.(4/321)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
سورة ن
مكية وهي اثنان وخمسون آية وثلاثمائة كلمة وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القلم (68) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1)
قوله عز وجل: ن قال ابن عباس هو الحوت الذي على ظهره الأرض وعنه «إن أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال فإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ن والقلم وما يسطرون» قيل اسم النون بهموت وقيل لوثيا وعن علي بلهوث.
قال أصحاب السير والأخبار: لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخلت تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله تعالى من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدمه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة سنة وفوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقر عليها قدما الملك وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فتكن في صخرة فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة قيل فكل الدنيا بما عليها حرفان قال لها الجبار سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهر الأرض فوسوس إليه فقال له أتدري ما على ظهرك يا ليوثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم على ظهرك فهم ليوثا أن يفعل ذلك فبعث له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن لها فخرجت قال كعب الأحبار فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت وعن ابن عباس أيضا أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجام
أراد بالنون الدواة وعن ابن عباس أيضا أن نونا حرف من حروف الرّحمن إذا جمعت الرّحمن وقيل هو(4/322)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
مفتاح اسمه ناصر ونصير وقيل اسم للسورة وَالْقَلَمِ هو القلم الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ويقال أول ما خلق الله القلم فنظر إليه فانشق نصفين ثم قال اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه وَما يَسْطُرُونَ أي وما يكتب الحفظة من أعمال بني آدم وقيل إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين فيحتمل أن يكون المراد وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ويكون الجمع في وما يسطرون للتعظيم لا للجمع.
[سورة القلم (68) : الآيات 2 الى 4]
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
ما أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هذا جواب القسم أقسم الله بنون والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو رد لقولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والمعنى إنك لا تكون مجنونا قد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة فنفى عنه الجنون وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة لله وهو كما يقال ما أنت بمجنون والحمد لله وقيل إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والأخلاق الحميدة والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينفي حصول الجنون فنبه الله تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم إنك لمجنون وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقوص ولا مقطوع ومنه قول لبيد:
عبس كواسب ما يمن طعامها أي ما يقطع يصف بذلك كلابا ضارية، وقيل في معنى الآية إنه غير مكدر عليك بسبب المنة والقول هو الأول ومعناه إن لك على احتمالك الطعن وصبرك على هذا القول القبيح وافترائهم عليك أجرا عظيما دائما لا ينقطع، وقيل إن لك على إظهار النبوة وتبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى الله تعالى والصبر على ذلك وبيان الشرائع لهم أجرا عظيما فلا تمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الأمر العظيم الذي قد حملته ثم وصفه بما يخالف حال المجنون فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وهذا كالتفسير لقوله ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه ولما كانت أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاملة حميدة وأفعاله المرضية الجميلة وافرة وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والتشديد في المعاملات ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل والبذل وحسن الأدب والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى مع طلاقة الوجه وإدامة البشر فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا وصفه الله تعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن هو آداب القرآن سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت كان خلقه القرآن وقال قتادة هو ما كان يأتمر من أوامر الله وينتهي عنه من مناهي الله تعالى والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن وقيل سمى الله خلقه عظيما لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل: في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) من ذلك ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» (م) عن(4/323)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
النواس بن سمعان قال «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» أخرجه أبو داود وعنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا» ، (ق) عن البراء رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن فاحشا ولا متفحشا» وكان يقول «خياركم أحاسنكم أخلاقا» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال «خدمت النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا» زاد الترمذي «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ، (خ) عنه قال «إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت» زاد في رواية «ويجيب إذا دعي» وعنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له» أخرجه الترمذي، (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «ما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم» ، زاد مسلم عنها «وما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى» (ق) عن أنس قال «كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضحك وأمر له بعطاء» ، (ق) عنه رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به» النغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار (م) عن الأسود قال «سألت عائشة ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة» المهنة الخدمة عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي قوله تعالى:
[سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 8]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
فَسَتُبْصِرُ أي يا محمد وَيُبْصِرُونَ يعني أهل مكة إذا نزل بهم العذاب بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال ابن عباس معناه بأيكم المجنون وقيل الباء بمعنى «في» معناه فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أو فريقهم وقيل المفتون هو الشيطان الذي فتن بالجنون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ معناه إنهم رموه بالجنون والضلال ووصفوا أنفسهم بالعقل والهداية فأعلم الله تعالى أنه هو العالم بالفريقين الضال والمهتدي والمجنون والعاقل فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يعني مشركي مكة وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم.(4/324)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
[سورة القلم (68) : الآيات 9 الى 10]
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وقيل أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما أبطن ومعنى الآية أنهم تمنوا أن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك وقيل معناه ودوا لو تكفر فيكفرون وهو أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ أي ضعيف حقير ذليل وقيل هو من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز وقال ابن عباس كذاب وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه قيل هو الوليد بن المغيرة وقيل هو الأسود بن عبد يغوث وقيل هو الأخنس بن شريق.
[سورة القلم (68) : الآيات 11 الى 15]
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
هَمَّازٍ أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب وقيل هو الذي يغمز بأخيه في المجلس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي فتان يسعى بالنميمة ليفسد بين الناس مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل بالمال وقال ابن عباس مناع للخير أي يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، مُعْتَدٍ أي ظلوم يتعدى الحق أَثِيمٍ أي فاجر يتعاطى الإثم عُتُلٍّ أي غليظ جاف وقيل هو الفاحش السيئ الخلق وقيل هو الشديد في الخصومة بالباطل وقيل هو الشديد في كفره وقيل العتل الأكول الشروب القوي الشديد ولا يزن في الميزان شعيرة يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا في النار دفعة واحدة بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي مع ما وصفناه به من الصفات المذمومة زنيم وهو الدعي الملصق في القوم وليس منهم قال ابن عباس يريد مع هذا هو دعي في قريش وليس منهم قيل إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة وقيل الزنيم هو الذي له زنمة كزنمة الشاة وقال ابن عباس في هذه الآية نعت من لا يعرف حتى قيل زنيم فعرف وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها وعنه أيضا قال يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها قال ابن قتيبة لا نعلم أن الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرئ على الخبر ومعناه فلا تطع كل حلاف مهين لأن كان ذا مال وبنين أي لا تطعه لماله وبنيه وقرئ أأن كان ذا مال وبنين بالاستفهام ومعناه ألأن كان ذا مال وبنين إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي جعل مجازاة النعم التي خولها من المال والبنين الكفر بآياتنا وقيل لأن كان ذا مال وبنين تطيعه ثم أوعده فقال تعالى:
[سورة القلم (68) : الآيات 16 الى 20]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف والمعنى نسود وجهه فنجعل له علما يعرف به في الآخرة وهو سواد الوجه فعبر بالأنف عن الوجه وقال ابن عباس سنسمه بالسيف وفعل به ذلك يوم بدر، وقيل معناه سنلحق به شيئا لا يفارقه أي سنسمه ميسم سوء يريد نلحق به عارا لا يفارقه كما أن السمة لا تمحى ولا يعفى أثرها.
وقد ألحق الله به بما ذكر من عيوبه عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم الذي لا يخفى قط وقيل معناه سنكويه على وجهه.
وقوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ روي عن(4/325)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال بستان باليمن يقال له الضروان دون صنعاء بفرسخين يطؤه أهل الطريق وكان غرسه قوم من أهل الصلاة وكان لرجل فمات فورثه ثلاث بنين له وكان يترك للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل إذا طرح من فوق النخل إلى البساط وكل شيء يخرج من المنجل إلى البساط فهو أيضا للمساكين وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه بنوه هؤلاء الإخوة الثلاثة قالوا والله إن المال قليل وإن العيال كثير وإنما كان هذا الأمر يفعل لما كان المال كثيرا والعيال قليلا فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل فتحالفوا بينهم يوما أن يغدوا غدوة قبل خروج الناس فليصر من نخلهم فذلك قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا أي تحالفوا لَيَصْرِمُنَّها أي ليقطعن ثمرها مُصْبِحِينَ أي إذا أصبحوا قبل أن يخرج إليهم المساكين وقبل أن يعلم بها المساكين، وَلا يَسْتَثْنُونَ أي ولم يقولوا إن شاء الله وقيل لا يستثنون شيئا للمساكين من ثمر جنتهم فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي عذاب من ربك ولا يكون الطائف إلا بالليل وهو قوله تعالى: وَهُمْ نائِمُونَ وكان ذلك الطائف نارا أنزلت من السماء فأحرقتها وهو قوله تعالى: فَأَصْبَحَتْ أي الجنة كَالصَّرِيمِ أي كالليل الأسود المظلم وقيل تصرم منها الخير فليس فيها شيء ينتفع به وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بلغة خزيمة.
[سورة القلم (68) : الآيات 21 الى 31]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30)
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
فَتَنادَوْا أي فنادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ يعني لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني الثمار والزرع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي قاطعين ثماركم فَانْطَلَقُوا أي مشوا إليها وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتسارون يقول بعضهم لبعض سرا أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي على قصد ومنع وقيل معناه على جد وجهد وقيل على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم وقيل على حنق وغضب من المساكين وقال ابن عباس على قدرة قادِرِينَ أي عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد فَلَمَّا رَأَوْها أي رأوا الجنة محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي لمخطئون الطريق أضللنا عن مكان جنتنا وليست هذه جنتنا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي قال بعضهم قد حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم ليصرمنها مصبحين سماه تسبيحا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته، وعلى التفسير الثاني أن الاستثناء بمعنى لا يتركون شيئا للمساكين من ثمر جنتهم يكون معنى لولا تسبحون أي تتوبون وتستغفرون الله من ذنوبكم وتفريطكم ومنعكم حق المساكين وقيل كان استثناؤهم سبحان الله وقيل هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم من نعمه قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا معناه أنهم نزهوه عن الظلم فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي بمنعنا المساكين حقوقهم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا قالُوا يا وَيْلَنا دعوا على أنفسهم بالويل إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي في منعنا حق الفقراء والمساكين وقيل معناه طغينا في نعم الله فلم نشكرها ولم نصنع ما كان يصنع آباؤنا من قبل ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا:(4/326)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)
[سورة القلم (68) : الآيات 32 الى 42]
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ قال ابن مسعود بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا قال الله تعالى: كَذلِكَ الْعَذابُ أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ثم أخبر بما أعد الله للمتقين فقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي عند ربهم في الآخرة ولما نزلت هذه الآية قال المشركون إنا نعطي في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تعالى تكذيبا للمشركين أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ يعني أن التسوية بين المسلم والمجرم غير جائزة فكيف يكون أفضل أو يعطى أفضل منه ولما قال تعالى ذلك على سبيل الاستبعاد والإنكار قال لهم على طريق الالتفات ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يعني هذا الحكم المعوج أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أي نزل من عند الله فِيهِ أي في ذلك الكتاب تَدْرُسُونَ أي تقرؤون إِنَّ لَكُمْ فِيهِ أي في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي تختارون وتشتهون أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ معناه ألكم عهود ومواثيق مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة إِنَّ لَكُمْ أي في ذلك العهد لَما تَحْكُمُونَ أي لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله تعالى ثم قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل لهم شركاء يعني ما كانوا يجعلونه لله شريكا وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم جعلوها شركاء لله، وقيل معنى شركاء شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي في دعواهم يَوْمَ يُكْشَفُ أي فليأتوا بشركائهم في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم عَنْ ساقٍ أي عن أمر فظيع شديد قال ابن عباس هو أشد ساعة في القيامة تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم فظيع يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة شمر عن ساقك إذا قام في ذلك الأمر ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب كشفت الحرب عن ساق وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
سن لنا قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال ابن عباس هو يوم كرب وشدة وأنشد أهل اللغة أبياتا في هذا المعنى فمنها ما أنشده أبو عبيدة لقيس بن زهير:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فدنها ربيع ولا تسأم
ومنها قول جرير:
ألا رب ساهي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقد كثر مثل هذا في كلام العرب حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا يا محمد هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة(4/327)
أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيرا ابن الله قال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فماذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيقولون يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية لتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيام لإخوانهم الذين في النار فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا، وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر أو أخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه
ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم أبدا» لفظ مسلم والبخاري نحوه بمعناه.
(فصل: في شرح ألفاظ الحديث وما يتعلق به) أما الرؤية وما يتعلق بها فسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قوله «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك(4/328)
هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله وغيره اعلم أن هذا الحديث من أكبر أحاديث الصفات وأعظمها وللعلماء فيه وفي أمثاله قولان:
أحدهما: وهو قول معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوقين وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم وقال الخطابي هذا الحديث تهيب القول فيه شيوخنا فأجروه على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب.
والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلّى الله عليه وسلّم فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته بالإتيان فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازا وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا وقيل المراد بيأتيهم الله يأتيهم بعض ملائكته قال القاضي عياض وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال ويكون هذا الملك هو الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدوث الظاهرة على الملك والمخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يصور ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم وهذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة أنا ربكم رأوا عليه علامة من علامات المخلوقات مما ينكرونه ويعلمون بذلك أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فالمراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى الله تعالى لهم في الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم على هذه الصفة يرونه شيئا من مخلوقاته وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون بذلك أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وإنما عبر عن الصفة بالصورة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة.
وقوله في حديث أبي سعيد «أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها» معنى رأوه فيها أي علموها وهي صفته المعلومة للمؤمنين وهي أنه لا يشبهه شيء وقولهم «نعوذ بالله منك لا نشرك بالله» إنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا عليه سمات المخلوق.
قوله «فيكشف عن ساق وفي رواية للبخاري يكشف ربنا عن ساقه» ذكر هذه الرواية البيهقي في كتاب الأسماء والصفات، قال أبو سليمان الخطابي فيحتمل أن يكون معنى قوله فيكشف عن ساقه أي عن قدرته التي تكشف عن الشدة وضبط يكشف بفتح الياء وضمها وقد تقدم تفسير كشف الساق وقيل المراد بالساق في هذا الحديث نور عظيم. وورد ذلك في حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله «يوم يكشف عن ساق قال نور عظيم يخرون له سجدا تفرد به روح بن حبان مولى عمر بن عبد العزيز وهو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها وموالي عمر بن عبد العزيز كثيرون ففي إسناده مجهول أيضا وقال ابن فورك ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمن عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف قال القاضي عياض وقيل قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة وقد تكون ساقا مخلوقة جعلها الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة، قيل معناه كشف الحزن وإزالة للرعب عنهم وما كان غلب على عقولهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ويتجلى الله لهم فيخرون سجدا قال(4/329)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
الخطابي وهذه الرؤية في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أولياء الله وإنما هذه الرؤية امتحان الله لعباده وقوله فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة هذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده ومعنى طبقة واحدة أي فقارة واحدة كالصحيفة فلا يقدر على السجود وقوله ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة معناه ثم يرفعون رؤوسهم وقد أزال المانع لهم من رؤيته وتجلى لهم فيقولون أنت ربنا وقوله ثم يضرب الجسر على جهنم الجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان وهو الصراط وتحل للشفاعة بكسر الحاء وقيل بضمها من حل ومعناه وتقع الشفاعة ويؤذن فيها قوله دحض مزلة أي تزلق فيه الأقدام ولا تثبت قوله فيه خطاطيف جمع خطاف وهو الذي يخطف الشيء وكلاليب جمع كلوب وهو الحديدة التي يعلق بها اللحم والحسك الذي يقال له السعدان نبت له شوك عظيم من كل جانب قوله فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم معناه أنهم ثلاثة أقسام قسم يسلم فلا يناله شيء أصلا وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص وقسم يكردس أي يلقى ويسقط في جهنم وفي هذا إثبات الصراط وهو مذهب أهل السنة وأهل الحق وهو جسر يجعل على متن جهنم وهو أرق من الشعر وأحد من السيف فيمر عليه الناس كلهم فالمؤمنون ينجون على حسب منازلهم وأعمالهم والآخرون يسقطون في جهنم أعاذنا الله منها، ومعنى مناشدة المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار شفاعتهم لهم وقوله فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير ومثقال نصف دينار من خير ومثقال ذرة قال القاضي عياض قيل معنى الخير اليقين قال والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ وإنما يكون هذا الخير زائدا عليه من عمل صالح وذكر خفي وعمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى أو نية صادقة ومثقال الذرة مثل لأقل الخير لأن ذلك أقل المقادير وقول المؤمنين لم نذر فيها خيرا أي صاحب خير وقوله تعالى: «شفعت الملائكة هو بفتح الفاء وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» هؤلاء الذين معهم مجرد الإيمان فقط ولم يعملوا خيرا قط وتفرد الله تعالى بعلم ما تكنه القلوب فالرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان فقط ومعنى قبض قبضة أي جمع جماعة.
قوله قد عادوا حمما أي صاروا فحما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة جمع فوهة وهي أول النهر.
قوله فيخرجون كاللؤلؤ أي في الصفاء في رقابهم الخواتم قيل معناه أنه يعلق في رقابهم أشياء من ذهب أو غير ذلك مما يعرفون بها والله أعلم.
قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ السجود يعني الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر أو كصفيحة نحاس فلا يستطيعون السجود.
[سورة القلم (68) : آية 43]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وقد علاها النور والبهاء وتسود وجوه الكفار والمنافقين ويغشاهم ذل وخسران وندامة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني في دار الدنيا كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وذلك أنهم كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ يعني أنهم كانوا يدعون إلى الصلاة وهم أصحاء فلا يأتونها قال كعب الأحبار والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة.(4/330)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 51]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قوله عز وجل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي دعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم ولا تشغل قلبك بهم وكلهم إليّ فإني أكفيك إياهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنأخذهم بالعذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فعذبوا يوم بدر بالقتل والأسر، وقيل في معنى الآية كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار والتوبة.
وهذا هو الاستدراج لأنهم يحسبونه تفضيلا لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب إهلاكهم فعلى العبد المسلم إذا تجددت عنده نعمة أن يقابلها بالشكر وإذا أذنب ذنبا أن يعاجله بالاستغفار والتوبة. وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. وقيل معناه أمهلهم إلى الموت فلا أعاجلهم بالعقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي عذابي شديد وقيل الكيد ضرب من الاحتيال فيكون بمعنى الاستدراج المؤدي إلى العذاب أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ المغرم الغرامة والمعنى أتطلب منهم أجرا فيقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به وهو استفهام على سبيل الإنكار فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم لقضاء ربك قيل إنه منسوخ بآية السيف وَلا تَكُنْ في الضجر والعجلة كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني يونس بن متى إِذْ نادى ربه أي في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غما لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي حين رحمه وتاب عليه، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أي لطرح بالفضاء من بطن الحوت على الأرض وَهُوَ مَذْمُومٌ أي يذم ويلام بالذنب. وقيل في معنى الآية لولا أن تداركته نعمة من ربه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم ينبذ بعراء القيامة أي بأرضها وفضائها فإن قلت هل يدل قوله وهو مذموم على كونه كان فاعلا للذنب.
قلت الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كلمة لولا دلت على أنه لم يحصل منه ما يوجب الذم الثاني لعل المراد منه ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة يدل عليه قوله تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ والفاء للتعقيب أي اصطفاه ورد عليه الوحي وشفعه في قومه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي النبيين.
قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعين فنظرت قريش إليه وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حججه، وقيل كانت العين في بني أسد حتى أن كانت الناقة أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته خذي المكتل والدراهم فائتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقيل كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط ما عناه فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعين ويفعل به مثل ذلك فعصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم وأنزل وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم قال ابن عباس: معناه ينفذونك وقيل يصيبونك بعيونهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وقيل يصرعونك وقيل يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، ومنه قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يهلكني يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة ويحدون النظر إليه بالبغضاء وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن قال تعالى ردا عليهم.(4/331)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
[سورة القلم (68) : آية 52]
وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
وَما هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس موعظة للمؤمنين قال الحسن: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية (ق) ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العين حق» زاد البخاري «ونهى عن الوشم» (م) عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه الترمذي قوله العين حق أخذ بظاهر هذا الحديث جماهير العلماء وقالوا العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد قولهم «أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند قابلة هذا الشخص الذي هو العائن لشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله وقوله ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، فيه إثبات القدر وأنه حق والمعنى أن الأشياء كلها بقدر الله ولا يقع شيء إلا على حسب ما قدر الله وسبق به علمه ولا يقع شرر العين وغيره من الخير والشر إلا بقدرة الله وفيه صحة إثبات العين وأنها قوية الضرر إذا وافقها القدر، والله أعلم.(4/332)
الْحَاقَّةُ (1)
سورة الحاقة
مكية وهي اثنتان وخمسون آية ومائتان وست وخمسون كلمة وألف وأربع وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
قوله عز وجل: الْحَاقَّةُ يعني القيامة سميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها.
وقيل لأن فيها تحقيق الأمور فتعرف على الحقيقة وفيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب. وقيل الحاقة النازلة التي حقت فلا كاذبة لها. وقيل الحاقة هي التي تحق على القوم أي تقع بهم، مَا الْحَاقَّةُ استفهام ومعناه التفخيم لشأنها والتهويل لها والمعنى أي شيء هي الحاقة وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال على أنه من العظم والشدة أمر لا تبلغه دراية أحد ولا فكره وكيف قدرت حالها فهي أعظم من ذلك.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 4 الى 10]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل كذبت بالعذاب أي الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل بهم فقرع قلوبهم فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي طغيانهم وكفرهم. وقيل الطاغية الصيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة. وقيل الطاغية الفرقة التي عقروا الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي شديدة الصوت في الهبوب لها صرصرة. وقيل هي الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها عاتِيَةٍ أي عتت على خزنتها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليهم سبيل وجاوزت الحد والمقدار فلم يعرفوا مقدار ما خرج منها. وقيل عتت على عاد فلم يقدروا على دفعها عنهم بقوة ولا حيلة سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي أرسلها وسلطها عليهم وفيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب فنفى هذا المذهب بقوله سخرها عليهم وبين الله تعالى أن ذلك بقضائه وقدره وبمشيئته لا باتصال الكواكب، سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ذات برد ورياح شديدة. قال وهب هي الأيام التي سماها العرب العجوز لأنها أيام ذات برد ورياح شديدة وسميت عجوزا لأنها تأتي في عجز الشتاء وقيل لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربها فاتبعتها الريح حتى قتلتها حُسُوماً أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور، وذلك أن الريح المهلكة(4/333)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور ولا انقطاع حتى أهلكتهم، وقيل حسوما شؤما وقيل لهذه الأيام حسوما لأنها تحسم الخير عن أهلها والحسم القطع. والمعنى أنها حسمتهم بعذاب الاستئصال فلم تبق منهم أحدا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي في تلك الليالي والأيام صَرْعى أي هلكى جمع صريع قد صرعهم الموت كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي ساقطة وقيل خالية الأجواف شبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رؤوس فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية، قيل إنهم لما أصبحوا موتى في اليوم الثامن كما وصفهم الله تعالى بقوله أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ حملتهم الريح فألقتهم في البحر فلم يبق منهم أحد.
قوله تعالى: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرئ بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وقرئ بفتح القاف وسكون الباء أي ومن قبله من الأمم الكافرة الْمُؤْتَفِكاتُ يعني قرئ قوم لوط يريد أهل المؤتفكات، وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم وهو قوله بِالْخاطِئَةِ أي بالخطيئة والمعصية وهو الشرك فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ، قيل يعني موسى بن عمران وقيل لوطا والأولى أن يقال المراد بالرسول كلاهما لتقدم ذكر الأمتين جميعا فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يعني نامية وقال ابن عباس شديدة وقيل زائدة على عذاب الأمم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 11 الى 17]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15)
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه وذلك في زمن نوح عليه الصلاة والسلام وهو الطوفان حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ يعني حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فصح خطاب الحاضرين في الجارية أي السفينة التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها
أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه، لَكُمْ تَذْكِرَةً
أي عبرة وموعظة وَتَعِيَها
أي تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي حافظة لما جاء من عند الله. وقيل أذن سمعت وعقلت ما سمعت وقيل لتحفظها كل أذن فتكون عظة وعبرة لمن يأتي بعد والمراد صاحب الإذن والمعنى ليعتبر ويعمل بالموعظة.
قوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ يعني النفخة الأولى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي رفعت من أماكنها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي كسرتا وفتتتا حتى صارتا هباء منبثا والضمير عائد إلى الأرض والجبال فعبر عنهما بلفظ الاثنين فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي ضعيفة لتشققها وَالْمَلَكُ يعني الملائكة عَلى أَرْجائِها يعني نواحيها وأقطارها وهو الذي لم ينشق منها قال الضحاك تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم يعني الحملة يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ثَمانِيَةٌ يعني ثمانية أملاك، وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. الأوعال تيوس الجبل وروى السدي عن أبي مالك قال إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسموات والأرض ورؤوسهم تحت العرش، وعن عروة بن الزبير قال حملة العرش منهم من صورته على صورة الإنسان ومنهم من صورته على صورة النسر ومنهم من صورته على صورة الثور ومنهم من صورته على صورة الأسد. وعن ابن عباس قال صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أمية بن أبي الصلت في شيء من الشعر فقال:(4/334)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث يرصد
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام أخرجه أبو داود بإسناد صحيح غريب عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم إذ مرت سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تدرون ما اسم هذه قلنا نعم هذا السحاب قال والمزن قالوا والمزن قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعنان قالوا والعنان ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟
قالوا لا والله ما ندري قال: فإن بعد ما بينهما إما قال واحدة وإما قال اثنتان وإما ثلاث وسبعون سنة وبعد التي فوقها كذلك وكذلك حتى عدهن سبع سموات كذلك ثم فوق السماء السابعة بحرا أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك» أخرجه الترمذي وأبو داود زاد في رواية «وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء» ، عن ابن مسعود قال ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفضاء كل سماء وأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة عام وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم» . أخرجه أبو سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهما موقوفا على ابن مسعود قال ابن خزيمة اختلاف خبر العباس وابن مسعود في قدر المسافة على اختلاف سير الدواب. وعن ابن عباس قال:
«لحملة العرش قرون ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام» .
وعن عبد الله بن عمر قال «الذين يحملون العرش ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام» وعن شهر بن حوشب قال «حملة العرش ثمانية فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» وروي عن ابن عباس في قوله يومئذ ثمانية قال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 24]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أي على الله تعالى للحساب لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي فعلة خافية. والمعنى أنه تعالى عالم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء منها وأن عرضكم يوم القيامة عليه ففيه المبالغة والتهديد، وقيل معناه لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفيا في الدنيا فإنه يظهر أحوال الخلائق فالمحسنون يسرون بإحسانهم والمسيئون يحزنون بإساءتهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» أخرجه الترمذي وقال ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ أي تعالوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ والمعنى أنه(4/335)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له، وقيل يقول ذلك لأهله وأقربائه إِنِّي ظَنَنْتُ أي عملت وأيقنت وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن في الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي في الآخرة والمعنى أني كنت في الدنيا أستيقن أني أحاسب في الآخرة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي في حالة من العيش مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمن من العقاب فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة قُطُوفُها دانِيَةٌ أي ثمارها قريبة لمن يتناولها ينالها قائما وقاعدا ومضطجعا يقطفونها كيف شاؤوا كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية يريد أيام الدنيا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 34]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، قيل تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها. وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وذلك لما نظر في كتابه ورأى قبائح أعماله مثبتة عليه تمنى أنه لم يؤت كتابه لما حصل له من الخجل والافتضاح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أي لم أدر أي شيء حسابي لأنه لا طائل ولا حاصل له وإنما كله عليه لا له يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ تمنى أنه لم يبعث للحساب والمعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها والقاطعة للحياة أي ما أحيا بعدها قال قتادة تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره منه إليه أي من الموت في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من الموت ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي لم يدفع عني يساري ومالي من العذاب شيئا هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وقيل ضلت عنه حجته حين شهدت عليه الجوارح بالشرك وقيل معناه زال عني ملكي وقوتي وتسلطي على الناس وبقيت ذليلا حقيرا فقيرا خُذُوهُ أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه فَغُلُّوهُ أي أجمعوا يديه إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي أدخلوه معظم النار لأنه كان يتعاظم في الدنيا ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة ذَرْعُها أي مقدارها والذرع التقدير بالذراع من اليد أو غيرها سَبْعُونَ ذِراعاً قال ابن عباس بذرع الملك. وقال نوف البكالي سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان كل ذراع سبعون ذراعا، وقال الحسن الله أعلم أي ذراع هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو أن رضاضة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت في رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
الرضاض: الحصباء الصغار، وقوله مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة.
الجمجمة قدح من خشب وجمعه جماجم والجمجمة الرأس وهو أشرف الأعضاء وقال وهب لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ أي أدخلوه فيها قال ابن عباس تدخل في دبره وتخرج من منخره. وقيل تدخل في فيه وتخرج من دبره إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي لا يصدق بوحدانية الله وعظمته، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ولا يحث نفسه على إطعام المسكين ولا يأمر أهله بذلك وفيه دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين لأن الله تعالى عطفه على الكفر وجعله قرينه. قال الحسن في هذه(4/336)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
الآية أدركت أقواما يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلا وعن بعضهم أنه كان يأمر أهله بكثير المرقة لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الثاني بالإطعام.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 35 الى 45]
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي ليس له في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ يعني صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم وقيل هو شجر يأكله أهل النار لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي الكافرون.
قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ قيل إن لا صلة والمعنى أقسم. وقيل لا رد لكلام المشركين كأنه قال ليس الأمر كما يقول المشركون ثم قال تعالى أقسم وقيل لا هنا نافية للقسم على معنى أنه لا يحتاج إليه لوضوح الحق فيه كأنه قال لا أقسم على أن القرآن قول رسول كريم فكأنه لوضوحه استغنى عن القسم.
وقوله بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يعني بما ترون وتشاهدون وبما لا ترون وما لا تشاهدون أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع المكونات والموجودات، وقيل أقسم بالدنيا والآخرة. وقيل بما تبصرون يعني على ظهر الأرض وما لا تبصرون أي ما في بطنها. وقيل بما تبصرون يعني الأجسام وما لا تبصرون يعني الأرواح. وقيل بما تبصرون يعني الإنس وما لا تبصرون يعني الملائكة والجن. وقيل بما تبصرون من النعم الظاهرة وما لا تبصرون من النعم الباطنة. وقيل بما تبصرون هو ما أظهره الله من مكنون غيبه لملائكته واللوح والقلم وجميع خلقه وما لا تبصرون هو ما استأثر الله بنعمه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه، ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى إِنَّهُ يعني للقرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني تلاوة رسول كريم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: الرسول هو جبريل عليه السلام فعلى هذا يكون المعنى إنه لرسالة رسول كريم والقول الأول أصح لأنهم لم يصفوا جبريل بالشعر والكهانة وإنما وصفوا بهما محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قلت قد توجه هنا سؤال وهو أن جمهور الأمة وهم أهل السنة مجمعون على أن القرآن كلام الله فكيف يصح إضافته إلى الرسول.
قلت أما إضافته إلى الله تعالى فلأنه هو المتكلم به وأما إضافته إلى الرسول فلأنه هو المبلغ عن الله تعالى ما أوحى إليه ولهذا أكده بقوله تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ليزول هذا الإشكال. قال ابن قتيبة لم يرد أنه قول الرسول وإنما أراد أنه قول الرسول المبلغ عن الله تعالى. وفي الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به عن أن يقول عن الله تعالى وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ يعني أن هذا القرآن ليس بقول رجل شاعر ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلا. والمعنى أنكم لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي وليس هو بقول رجل كاهن ولا هو من جنس الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ يعني لا تتذكرون البتة تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل يعني القرآن، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وذلك أنه لما قال إنه لقول رسول كريم أتبعه بقوله تنزيل من رب العالمين ليزول هذا الإشكال.
قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي اختلق علينا محمد بَعْضَ الْأَقاوِيلِ يعني أتى بشيء من عند نفسه لم نقله نحن ولم نوجه إليه لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي لأخذناه بالقوة والقدرة وانتقمنا منه باليمين أي بالحق. قال(4/337)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
ابن عباس لأخذناه بالقوة والقدرة قال الشماخ يمدح عرابة ملك اليمن:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة فعبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه. والمعنى لأخذنا منه اليمين أي سلبناه القوة فعلى هذا المعنى الباء زائدة. وقيل معنى الآية ذللناه وأهناه كفعل السلطان بمن يريد أن يهينه، يقول لبعض أعوانه خذ بيده فأقمه. وإنما خص اليمين بالذكر لأنه أشرف العضوين.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 46 الى 52]
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ قال ابن عباس يعني نياط القلب، وقيل هو حبل الظهر. وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه. وقيل هو عرق يتصل من القلب بالرأس، قال ابن قتيبة لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد منه أنه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قطع وتينه والمعنى أنه لو كذب علينا وتقول علينا قولا لم نقله لمنعناه من ذلك إما بواسطة إقامة الحجة عليه بأن نقيض له من يعارضه ويظهر للناس كذبه فيكون ذلك إبطالا لدعواه، وإما أن نسلب عنه قوة التكلم بذلك القول الكذب حتى لا يشتبه الصادق بالكاذب، وإما أن نميته، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي مانعين يحجزوننا عن عقوبته والمعنى أن محمدا لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم مع علمه أنه لو تكلمه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه وإنما قال حاجزين بلفظ الجمع وهو وصف أحد ردا على معناه وَإِنَّهُ يعني القرآن وذلك أنه لما وصفه بأنه تنزيل من رب العالمين بواسطة جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين ما هو فقال تعالى: لَتَذْكِرَةٌ أي لعظة لِلْمُتَّقِينَ أي لمن اتقى عقاب الله وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فيه وعيد لمن كذب بالقرآن وَإِنَّهُ يعني القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ يعني يوم القيامة والمعنى أنهم يندمون على ترك الإيمان به لما يرون من ثواب من آمن به وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ معناه أنه حق معين لا بطلان فيه ويقين لا شك ولا ريب فيه فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزه ربك العظيم واشكره على أن جعلك أهلا لإيحائه إليك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/338)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
سورة سأل سائل
وتسمى المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية ومائتان وأربع وعشرون كلمة وتسعة وعشرون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المعارج (70) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1)
قوله عز وجل: سَأَلَ سائِلٌ قرئ بغير همزة وفيه وجهان الأول أنه لغة في السؤال والثاني أنه من السيل. ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب وقيل سال واد من أودية جهنم. وقرئ سأل سائل بالهمز من السؤال بِعَذابٍ قيل الباء بمعنى عن أي عذاب واقِعٍ أي نازل وكائن وعلى من ينزل ولمن ينزل ولمن ذلك العذاب فقال الله تعالى مجيبا لذلك السؤال.
[سورة المعارج (70) : الآيات 2 الى 4]
لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
لِلْكافِرينَ وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب قال بعضهم لبعض: من أهل هذا العذاب ولمن هو سلوا عنه محمدا فسألوه فأنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين أي هو للكافرين. والباء صلة ومعنى الآية دعا داع وطلب طالب عذابا واقعا للكافرين. وهذا السائل هو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» الآية فنزل به ما سأل فقتل يوم بدر صبرا وهذا قول ابن عباس، لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي أن العذاب واقع بهم لا محالة سواء طلبوه أو لم يطلبوه إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة، لأن العذاب واقع بهم في الآخرة لا يدفعه دافع مِنَ اللَّهِ أي بعذاب من الله، والمعنى ليس لذلك العذاب الصادر من الله للكافرين دافع يدفعه عنهم ذِي الْمَعارِجِ قال ابن عباس ذي السموات سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها. وقيل ذي الدرجات وهي المصاعد التي تعرج الملائكة فيها. وقيل ذي الفواضل والنعم وذلك لأن أفضاله وأنعامه مراتب وهي تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وإنما أفرده بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفه وفضل منزلته. وقيل إن الله تعالى إذا ذكر الملائكة في معرض التخويف والتهويل أفرد الروح بالذكر وهذا يقتضي أن الروح أعظم الملائكة إِلَيْهِ أي إلى الله عز وجل فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي من سني الدنيا. والمعنى أنه لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة وأقل من ذلك وذكر أن مقدار ما بين الأرض السابعة السفلى إلى منتهى العرش مسافة خمسين ألف سنة. وقيل إن ذلك اليوم هو يوم(4/339)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
القيامة قال الحسن هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس في مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا وليس يعني أن مقدار طول ذلك اليوم خمسون ألف سنة دون غيره من الأيام لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود لا آخر له. ولو كان له آخر لكان منقطعا وهذا الطول في حق الكفار دون المؤمنين.
قال ابن عباس يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال «قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» وقال ابن عباس معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة. وقال عطاء ويفرغ الله تعالى منها في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وقال الكلبي يقول الله تعالى لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من نهار. وقال يمان هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة فعلى هذا يكون المعنى ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل معناه سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفيه تقديم وتأخير.
[سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 14]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
فَاصْبِرْ أي يا محمد على تكذيبهم إياك صَبْراً جَمِيلًا أي لا جزع فيه وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي العذاب بَعِيداً أي غير كائن وَنَراهُ قَرِيباً أي كائنا لا محالة لأن كل ما هو آت قريب، وقيل الضمير في يرونه بعيدا يعود إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة والمعنى أنهم يستبعدونه على جهة الانكسار والإحالة ونحن نراه قريبا في قدرتنا غير بعيد علينا فلا يتعذر علينا إمكانه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي كعكر الزيت وقال الحسن كالفضة المذابة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف المصبوغ. وإنما شبه الجبال بالمصبوغ من الصوف لأنها ذات ألوان أحمر وأبيض وغرابيب سود ونحو ذلك فإذا بست الجبال وسيرت أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح. وقيل العهن الصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنا منفوشا ثم تصير هباء منثورا وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل قريب قريبه لشغله بشأن نفسه والمعنى لا يسأل الحميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لهول ذلك اليوم وشدته. وقيل لا يسأله الشفاعة ولا يسأله الإحسان إليه ولا الرفق به كما كان يسأله في الدنيا وذلك لشدة الأمر وهول يوم القيامة يُبَصَّرُونَهُمْ أي يرونهم وليس في القيامة مخلوق من جن أو إنس إلا وهو نصف عين صاحبه فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسألهم ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه. وقال ابن عباس يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعد ذلك، وقيل يعرف الحميم حميمه ومع ذلك لا يسأله عن حاله لشغله بنفسه. وقيل يبصرونهم أي يعرفونهم أما المؤمن فيعرف ببياض وجهه وأما الكافر فيعرف بسواد وجهه يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى المشرك لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي عذاب يوم القيامة بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته وقيل قبيلته وقيل أقربائه الأقربين الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمه ويأوي إليها وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني أنه يتمنى لو ملك هؤلاء وكانوا تحت يده ثم إنه يفتدي بهم جميعا ثُمَّ يُنْجِيهِ أي ذلك الفداء من عذاب الله.(4/340)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
[سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 23]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
كَلَّا أي لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّها لَظى يعني النار ولظى اسم من أسمائها وقيل: الدركة الثانية من النار سميت لظى لأنها تتلظى أي تلتهب، نَزَّاعَةً لِلشَّوى يعني الأطراف كاليدين والرجلين مما ليس بمقتل. والمعنى أن النار تنزع الأطراف فلا تترك عليها لحما ولا جلدا. وقال ابن عباس: تنزع العصب والعقب وقيل تنزع اللحم دون العظام وقيل تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ثم تأكله فذلك دأبها. وقيل لمكارم خلقه ومحاسن وجهه وأطرافه، تَدْعُوا يعني النار إلى نفسها مَنْ أَدْبَرَ أي عن الإيمان وَتَوَلَّى أي عن الحق فتقول له إليّ يا مشرك إليّ يا منافق إليّ إليّ. قال ابن عباس تدعو الكافر والمنافق بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقيل تدعو أي تعذب قال أعرابي لآخر دعاك الله أي عذبك الله وَجَمَعَ فَأَوْعى يعني وتدعو من جمع المال في الوعاء ولم يؤد حق الله منه، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً
قال ابن عباس الهلوع الحريص على ما لا يحل. وقيل شحيحا بخيلا. وقيل ضجورا وقيل جزوعا، وقيل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر وإذا أصابه المال لم ينفق. وقال ابن كيسان خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. قيل أراد بالإنسان هنا الكافر وقيل هو على عمومه ثم استثنى الله عز وجل فقال تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ وهذا استثناء الجمع من الواحد لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ يعني يقيمونها في أوقاتها وهي الفرائض.
فإن قلت كيف قال على صلاتهم دائمون ثم قال بعده على صلاتهم يحافظون؟
قلت معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها، وأن لا يتركوها في شيء من الأوقات وأن لا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه.
وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة منها ما هو سابق للصلاة كاشتغاله بالوضوء وستر العورة وإرصاد المكان الطاهر للصلاة، وقصد الجماعة وتعلق القلب بدخول وقتها وتفريغه عن الوسواس والالتفات إلى ما سوى الله عز وجل.
وأما الأمور المقارنة للصلاة فهي أن لا يلتفت في الصلاة يمينا ولا شمالا وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع والخوف وإتمام ركوعها وسجودها. وأما الأمور الخارجة عن الصلاة فهو أن يحترز عن الرياء والسمعة خوف أن لا تقبل منه مع الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها وطلب الثواب فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها وهيئاتها. وروى البغوي بسنده عن أبي الخير قال سألنا عقبة بن عامر عن قوله عز وجل الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون أبدا؟ قال لا ولكنه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.(4/341)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
[سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 39]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ يعني الزكاة المفروضة لأنها مقدرة معلومة. وقيل هي صدقة التطوع وذلك بأن يوظف الرجل على نفسه شيئا من الصدقة يخرجه على سبيل الندب في أوقات معلومة لِلسَّائِلِ يعني الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ يعني الفقير المتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي يؤمنون بالبعث بعد الموت والحشر والنشر والجزاء يوم القيامة وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي خائفون ثم أكد ذلك الخوف فقال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ يعني أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ولا اجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين فلا جرم ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ تقدم تفسيره في سورة المؤمنين.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي يقومون فيها عند الحكام ولا يكتمونها ولا يغيرونها وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر وفي تركها تموت وتضيع، وقيل أراد بالشهادة الشهادة له بأن لا إله إلا الله واحد لا شريك له ولهذا عطف عليها وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ثم ذكر ما أعده لهم فقال تعالى: أُولئِكَ يعني من هذه صفته فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ قوله تعالى:
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فما بالهم قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ يعني أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين حلقا وفرقا، والعزون جماعات في تفرقة أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ قال ابن عباس: معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي نعيم كما يدخلها المسلمون ويتنعمون فيها وقد كذبوا نبيي، كَلَّا أي لا يدخلها ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي من الأشياء المستقذرة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة نبه الله على أنهم خلقوا من أصل واحد وشيء واحد وإنما يتفاضلون بالمعرفة ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال «يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة» ، وأخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد. وقيل في معنى الآية إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقيل معناه إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون ولم نخلقهم كالبهائم بلا علم ولا عقل.
[سورة المعارج (70) : الآيات 40 الى 44]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
فَلا أُقْسِمُ يعني وأقسم وقد تقدم بيانه بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ يعني مشرق كل يوم من السنة(4/342)
ومغربه. وقيل يعني مشرق كل نجم ومغربه إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ معناه إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بمن هو خير منكم فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي في أباطيلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ نسختها آية القتال ثم فسر ذلك فقال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور سِراعاً أي إلى إجابة الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يعني إلى شيء منصوب كالعلم والراية ونحوه. وقرئ بضم النون والصاد وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها يُوفِضُونَ أي يسرعون ومعنى الآية أنهم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يغشاهم هوان ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة الذي كانوا يوعدون به في الدنيا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/343)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
سورة نوح
مكية وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وأربعة وعشرون كلمة وتسعمائة وتسعة وتسعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8)
قوله عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي بأن خوف قومك وحذرهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم وأبين لكم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا وَاتَّقُوهُ أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم وَأَطِيعُونِ أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يغفر لكم ذنوبكم. ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان، قالَ يعني نوحا عليه الصلاة والسلام رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي نفارا وإدبارا عن الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك اسْتِكْباراً أي تكبرا عظيما ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي معلنا قال ابن عباس: بأعلى صوتي.(4/344)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
[سورة نوح (71) : الآيات 9 الى 17]
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي كررت لهم الدعاء معلنا وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سببا لاتساع الخير والرزق.
وأن الكفر سبب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا. وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم. وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء.
وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. وقيل أراد بالسماء السحاب، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر
إذا نزل السماء بأرض قوم ... فحلوا حيثما نزل السماء
يعني المطر مدرارا أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالا بعد حال. وقيل مدرارا أي متتابعا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ أي يكثر أموالكم وأولادكم وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي البساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة. وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم. وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشركون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً يعني تارة بعد تارة وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق. وقيل معناه خلقكم أصنافا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضا وهذا مما يدل على وحدانية الله وسعة قدرته أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي بعضها فوق بعض.
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً يعني في سماء الدنيا وقوله فيهن هو كما يقال أتيت بني تميم وإنما أتى رجلا منهم وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يعني مصباحا مضيئة. قال عبد الله بن عمرو إن الشمس والقمر وجوههما إلى السموات وضوء الشمس والقمر فيهن جميعا وأقفيتهما إلى الأرض ويروى هذا عن ابن عباس أيضا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أراد مبدأ خلق آدم وأصل خلقه من الأرض والناس كلهم من ولده وقوله نباتا اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتا. وقيل تقديره أنبتكم فنبتم نباتا وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا ولما قال أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم نباتا عجيبا وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة الله(4/345)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
تعالى وصفة الله تعالى غير محسوسة لنا فلا يعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر بهذا أن العدول عن تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف.
[سورة نوح (71) : الآيات 18 الى 23]
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض بعد الموت وَيُخْرِجُكُمْ أي منها يوم البعث إِخْراجاً يعني إخراجا حقا لا محالة وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أي فرشها لكم مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي طرقا واسعة.
قوله تعالى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي لم يجيبوا دعوتي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً يعني كبيرا عظيما يقال كبيرا وكبارا بالتشديد والتخفيف والتشديد أشد وأعظم في المبالغة والماكرون هم الرؤساء والقادة ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح عليه الصلاة والسلام وتحريش السفلة على أذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه والاستماع منه. وقيل مكرهم هو قولهم لا تذرن آلهتكم وتعبدوا إله نوح، وقال ابن عباس في مكرهم قالوا قولا عظيما. وقيل افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله وَقالُوا يعني القادة للأتباع لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركن عبادتها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً هذه أسماء آلهتهم وإنما أفرد بالذكر وإن كانت داخلة في جملة قوله لا تذرن آلهتكم لأنهم كانت لهم أصنام هذه الخمسة المذكورة هي أعظمها عندهم. قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ذلك ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين من المسلمين، (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس في قوله ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، قال كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت الأوثان، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف والعزى لسليم وغطفان وجشم، ومناة كانت(4/346)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
لخزاعة بقديد وإساف ونائلة وهبل كانت لأهل مكة. ولذلك سمت العرب أنفسهم بعبد ود وعبد يغوث وعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء.
[سورة نوح (71) : الآيات 24 الى 28]
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس. وقيل أضل كبراء قوم نوح كثيرا من الناس وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا يعني ولا تزد المشركين بعبادتهم الأصنام إلا ضلالا وهذا دعاء عليهم وذلك أن نوحا عليه السلام كان قد امتلأ قلبه غضبا وغيظا عليهم فدعا عليهم.
فإن قلت كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بعث ليصرفهم عنه.
قلت إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وقيل إنما أراد بالضلال في أمر الدنيا وما يتعلق بها لا في أمر الآخرة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا أي بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً أي في حالة واحدة وذلك في الدنيا كانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب. واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة عذاب القبر وذلك لأن الفاء تقتضي التعقيب في قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا، وهذا يدل على أنه إنما حصل دخول النار عقيب الإغراق ولا يمكن حمله على عذاب الآخرة لأنه يبطل دلالة الفاء، وقيل معناه أنهم سيدخلون نارا في الآخرة فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصدق الوعد في ذلك والأول أصح فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً يعني تنصرهم وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً يعني أحد يدور في الأرض فيذهب ويجيء من الدوران. وقيل أصله من الدار أي نازل دار إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ قال ابن عباس وغيره كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم بعد ذلك أرحام النساء وأيبس أصلاب الرجال وذلك قبل نزول العذاب بأربعين سنة. وقيل بسبعين سنة وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكم جميعا ولم يكن معهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى أعقمهم قبل العذاب رَبِّ اغْفِرْ لِي وذلك أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل، وقيل يحتمل أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل. وقيل يحتمل أنه حين دعا على الكفار أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم فاستغفر من ذلك لما فيه من طلب حظ النفس أو لأنه ترك الاحتمال. وَلِوالِدَيَّ وكان اسم أبيه ملك بن متوشلخ واسم أمه سمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل لم يكن بين آدم ونوح عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينهما عشرة آباء وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً أي داري وقيل مسجدي وقيل سفينتي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وهذا عام في كل مؤمن آمن بالله وصدق الرسل، وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا ودمارا فاستجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم جميعا والله أعلم.(4/347)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
سورة الجن
وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
قوله عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت وجود الجن فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة، واعترف بوجودهم جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف. وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجود الجن لكن اختلفوا في ماهيتهم، فقيل الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، وقيل إنها جواهر وليست بأجسام ولا أعراض ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور والآفات ولا يعلم عدة أنواعهم إلا الله تعالى، وقيل إنهم أجسام مختلفة الماهية لكن تجمعهم صفة واحدة وهي كونهم حاصلون في الحيز موصوفون بالطول والعرض والعمق، وينقسمون إلى لطيف وكثيف وعلوي وسفلي ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية وأن يكون لها علم مخصوص وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة أو شاقة يعجز البشر عن مثلها. وقد يتشكلون بأشكال مختلفة وذلك بإقدار الله تعالى إياهم على ذلك، وقيل إن الأجسام متساوية في تمام الماهية وليست البنية شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة فأنكروا وجود الجن وقالوا البنية شرط للحياة وإنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة، وهذا قول منكر وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب والسنة.
(فصل) اختلف الرواة هل رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجن فأثبتها ابن مسعود فيما رواه عنه مسلم في صحيحه وقد تقدم حديثه في تفسير سورة الأحقاف عند قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وأنكرها ابن عباس فيما رواه عنه البخاري ومسلم. قال ابن عباس «ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ(4/348)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل الله تعالى على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ زاد في رواية «وإنما أوحي إليه قول الجن» أخرجاه في الصحيحين، قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس هذا معناه أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع، صادف هؤلاء النفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه وعلى هذا فهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحي إليه من قوله قل أوحى إليّ أنه استمع نفر من الجن وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون.
والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول إلى الإنس والجن فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره. وهذا الحديث يقتضي أن الرجم بالنجوم ولم يكن قبل المبعث. وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه وآخرون إلى أنه كان لكن زاد بهذا المبعث وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين هذا آخر كلام القرطبي والله أعلم.
عكاظ سويقة معروفة بقرب مكة كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية وأول الإسلام وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة لتغير هوائها. ومكة من تهامة معدودة ونخلة واد من أودية مكة قريب منها.
وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يظهر لأصحابه واقعة الجن وكما أنه مبعوث إلى الإنس فهو أيضا مبعوث إلى الجن لتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وقوله استمع نفر من الجن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة قيل كانوا تسعة من جن نصيبين. وقيل سبعة سمعوا قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم فَقالُوا أي لما رجعوا إلى قومهم، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً قال ابن عباس رضي الله عنهما بليغا أي ذا عجب يعجب منه لبلاغته وفصاحته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي يدعو إلى الصواب يعني التوحيد والإيمان فَآمَنَّا بِهِ أي بالقرآن وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهودا وقيل كانوا نصارى وقيل كانوا مجوسا ومشركين وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي جلال ربنا وعظمته، ومنه قول أنس «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» أي عظم قدره وقيل الجد الغنى. ومنه الحديث «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس: عظمت قدرة ربنا وقيل أمر ربنا وقيل فعله وقيل آلاؤه ونعماؤه على خلقه وقيل علا ملك ربنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً أي أنه تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس به والله تعالى منزه عن كل نقص وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني جاهلنا قيل هو إبليس عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي كذبا وعدوانا وهو وصفه تعالى بالشريك والولد أي الشطط وهو مجاوزة الحد في كل شيء.
[سورة الجن (72) : الآيات 5 الى 9]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كنا نظن أن الإنس والجن صادقون في قولهم إن لله(4/349)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
صاحبة وولدا وأنهم لا يكذبون على الله في ذلك فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد كذبوا على الله.
قوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمته فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، فَزادُوهُمْ رَهَقاً وذكره ابن الجوزي في تفسيره بغير سند ومعنى الآية زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا، قال ابن عباس إثما. وقيل طغيانا وقيل غيا وقيل شرا وقيل عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا وعظمة ويقولون يعني عظماء الجن سدنا الجن والإنس. والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا يعني الجن كَما ظَنَنْتُمْ أي يا معشر الكفار من الإنس أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يعني يقول الجن وأنا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغ السماء الدنيا واستماع كلام أهلها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً يعني من الملائكة شَدِيداً وَشُهُباً أي من النجوم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أرصد له ليرمى به. وقيل شهابا من الكواكب ورصدا من الملائكة، عن ابن عباس قال «كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زاد فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي بين جبلين أراه قال بمكة فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض» ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلا فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض.
وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية.
[سورة الجن (72) : الآيات 10 الى 16]
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي برمي الشهب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومعنى الآية لا ندري هل المقصود من المنع من الاستراق هو شر أريد بأهل الأرض أم أريد بهم صلاح وخير وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي دون الصالحين مرتبة. قيل المراد بهم غير الكاملين في الصلاح وهم المقتصدون فيدخل فيهم الكافر وغيره كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة والقدة القطعة من الشيء، قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين. وقيل أهواء مختلفة وشيعا متفرقة لكل فرقة هوى كأهواء الناس وذلك أن الجن فيهم القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغير ذلك من أهل الأهواء، فعلى هذا(4/350)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
التفسير يكون معنى طرائق قددا أي سنصير طرائق قددا وهو بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب مختلفة متفرقة، وقيل معناه كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وَأَنَّا ظَنَنَّا الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي علمنا وأيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي لن نفوته إن أراد بنا أمرا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي إن طلبنا فلن نعجزه أينما كنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ أي لما سمعنا القرآن آمنا به وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي نقصانا من عمله وثوابه وَلا رَهَقاً يعني ظلما وقيل مكروها يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون العادلون عن الحق، قال ابن عباس وهم الذين جعلوا لله أندادا فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي قصدوا طريق الله وتوخوه أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعني الذين كفرواكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
يعني وقودا للنار يوم القيامة.
فإن قلت قد يتمسك بظاهر هذه الآية من لا يرى لمؤمني الجن ثوابا وذلك لأن الله تعالى ذكر عقاب الكافرين منهم ولم يذكر ثواب المؤمنين منهم.
قلت ليس فيه تمسك له وكفى بقوله فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب والله أعدل وأكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.
فإن قلت كيف يعذب الجن بالنار وقد خلقوا منها.
قلت وإن خلقوا من النار فقد تغيروا عن تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر والله تعالى قادر أن يعذب النار بالنار قوله عز وجل: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ.
اختلفوا فيمن يرجع الضمير إليه فقيل هو راجع إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم والمعنى لو استقام الجن على الطريقة المثلى الحسنى لأنعمنا عليهم وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وقيل معناه لو ثبت الجن الذين سمعوا القرآن. على الطريقة التي كانوا عليها قبل استماع القرآن ولم يسلموا لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي لوسعنا الرزق عليهم.
[سورة الجن (72) : الآيات 17 الى 19]
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين «لأسقيناهم ماء غدقا» يعني كثيرا وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين.
والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيرا وعيشا رغدا. وإنما ذكر الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله «لنفتنهم فيه» أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه. وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم والقول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه يَسْلُكْهُ أي يدخله عَذاباً صَعَداً، قال ابن عباس شاقا وقيل عذابا لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة.
قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة، وذكر الله تعالى فيدخل فيه(4/351)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها. وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير الله تعالى، قال سعيد بن جبير «قالت الجن للنبي صلّى الله عليه وسلّم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد لله» وروي عنه أيضا أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره، (م) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه» الآراب الأعضاء، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعرا ولا ثوبا: الجبهة واليدين والركبتين والقدمين» وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر» كف شعره عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة وقد نهي عن ذلك.
قوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُوهُ يعني يعبد الله ويقرأ القرآن وذلك حين كان يصلي الفجر ببطن نخلة كادُوا يعني الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني يركب بعضهم بعضا من الازدحام عليه حرصا على استماع القرآن، قاله ابن عباس. وعنه أيضا أنه من قول النفر من الجن الذين رجعوا إلى قومهم فأخبروهم عن طاعة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم له واقتدائهم به في الصلاة. وقيل في معنى الآية لما قدم عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره ويظهر هذا الأمر وينصره على من ناوأه وعاداه. وأصل البلد الجماعة بعضهم فوق بعض.
[سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 27]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
قُلْ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وقرئ على الأمر إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنما أدعو ربي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» أي لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا وإنما الضار والنافع والمرشد والمغوي هو الله تعالى. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي لم يمنعني منه أحد إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه وقيل حرزا أحترز به وقيل مدخلا في الأرض مثل السرب أدخل فيه إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي ففيه الجوار والأمن والنجاة. وقيل معناه ذلك الذي يجبرني من عذاب الله يعني التبليغ وقيل إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه. وقيل معناه لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا عن الله عز وجل فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني ولم يؤمن فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ يعني العذاب يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ أي عند نزول العذاب مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أهم أم المؤمنون قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ يعني العذاب وقيل يوم القيامة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ(4/352)
رَبِّي أَمَداً أي أجلا وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل عالِمُ الْغَيْبِ أي هو عالم ما غاب عن العباد فَلا يُظْهِرُ أي فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به أَحَداً أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته. قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن. فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جريا على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر الله تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع الله على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله.
والذي ينبغي أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات الأولياء خلافا للمعتزلة وأنه يجوز أن يلهم الله بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك. ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» أخرجه البخاري قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون.
ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» ، ففي هذا إثبات كرامات الأولياء ولا يقال لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي عن غيرها ولا نسد الطريق إلى معرفة الرسول من غيره فنقول الفرق بين معجزة النبي وكرامة الولي أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرون بالتحدي، ولا يجوز للولي أن يدعي خرق العادة مع التحدي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة وقد يظهر على يد الولي أمر خارق للعادة من غير دعواه. وهذا أيضا يدل على ثبوت نبوة النبي لأن الكرامة إنما تظهر على يد من هو معتقد للرسول متابع له فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر الخارق على يد متابعه. وأما الكاهن فليس بمتبع للرسول وقد انسد باب الكهانة بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فمن ادعى منهم اطلاعا على غيب فقد كفر بما جاء به القرآن وكذلك حكم المنجم والله تعالى أعلم، وقوله تعالى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بين يدي الرسول ومن خلفه وذكر البعض دال على جميع الجهات رَصَداً أي حفظه من الملائكة يحفظونه من الشيطان أن يسترق السمع من الملائكة ويحفظونه من الجن أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة فيخبروا به قبل الرسول.
وقيل إن الله تعالى كان إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان عنه فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره وإن جاء ملك قالوا له هذا رسول ربك.(4/353)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
[سورة الجن (72) : آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
لِيَعْلَمَ أي ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم أَنْ أي أن جبريل قد بلغ إليه رسالات ربه وقيل معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن الله قد حفظهم ودفع عنهم. وقيل معناه ليعلم الله أن الرسل قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فيعلم الله ذاك ظاهرا موجودا فيوجب فيه الثواب وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي علم الله ما عند الرسل فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف ما خلق لم يفته شيء حتى مثاقيل الذر والخردل، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/354)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
سورة المزمل
مكية قيل غير آيتين منها وهما قوله وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وقيل غير آية وهي إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ الآية وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف.
قال المفسرون كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتزمل في ثيابه أول ما جاءه جبريل فرقا منه فكان يقول زملوني زملوني حتى أنس به. وقيل خرج يوما من البيت وقد لبس ثيابه فناداه جبريل يا أيها المزمل، وقيل معناه متزمل النبوة أي حاملها والمعنى زملت هذا الأمر فقم به واحمله فإنه أمر عظيم وإنما لم يخاطب بالنبي والرسول لأنه كان في أول الأمر ومبدئه، ثم خوطب بالنبي والرسول بعد ذلك، وقيل كان صلّى الله عليه وسلّم قد نام وهو متزمل في ثوبه فنودي يا أيها المزمل قُمِ اللَّيْلَ أي للصلاة والعبادة واهجر هذه الحالة واشتغل بالصلاة والعبودية وكان قيام الليل فريضة في ابتداء الإسلام إِلَّا قَلِيلًا أي صل الليل إلا قليلا تنام فيه وهو الثلث ثم بين قدر القيام فقال تعالى: نِصْفَهُ أي قم نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي إلى الثلث.
[سورة المزمل (73) : آية 4]
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف إلى الثلثين خيره بين هذه المنازل فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يقومون على هذه المقادير وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه، فكان يقوم الليل كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قيل ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه السورة وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة. وقيل ستة عشر شهرا. وكان قيام الليل فرضا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس وثبتت فريضته على النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (م) عن سعد بن هشام قال «انطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان القرآن. قلت فقيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة» .(4/355)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
وقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن عباس بينه بيانا وعنه أيضا «اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا» ، وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفا حرفا أثره في أثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق. وترتيلا تأكيد في الأمر به وأنه لا بد للقارئ منه، وقيل إن الله تعالى لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن حتى يتمكن المصلي من حضور القلب والتأمل والفكر في حقائق الآيات ومعانيها فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور وجلاله وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة، والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة.
(فصل) (خ) عن قتادة قال «سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم يمد بسم الله ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم» عن أم سلمة رضي الله عنها وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته فقالت «ما لكم وصلاته ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا» ، أخرجه النسائي وللترمذي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرّحمن الرّحيم، ثم يقف وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف» وفي رواية أبي داود قالت «قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته آية آية» (ق) عن عبد الله بن مغفل قال «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته» ، (ق) عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال «جاء رجل إلى ابن مسعود قال إني لأقرأ المفصل في ركعة قال عبد الله هذّا كهذّ الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة» وفي رواية «فذكر عشرين سورة من المفصل» الهذ سرعة القطع والمراد به هنا سرعة القراءة والعجلة فيها، وقوله لا يجاوز تراقيهم التراقي جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وعند مخرج الصوت، والنظائر جمع نظير وهو الشبه والمثل. عن عائشة رضي الله عنها قالت «قام النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن» ، أخرجه الترمذي وللنسائي عن أبي ذر نحوه وزاد «والآية إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» عن سهل بن سعد قال «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نقرأ فقال: الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرءوا القرآن قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقال السهل يتعجل لقراءته ولا يتأجله» أخرجه أبو داود وزاد غيره في رواية «لا يجاوز تراقيهم» عن جابر رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال:
اقرءوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقومونه كما يقوم القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» أخرجه أبو داود عن ابن مسعود قال «لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» قوله تعالى:
[سورة المزمل (73) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن عباس شديدا. وقيل ثقيلا يعني كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق، وقيل سماه ثقيلا لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس وقيل ثقيلا لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام. وقيل ثقيلا على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة. وقيل ثقيلا أي ليس(4/356)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان. وقيل سماه ثقيلا لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. وقيل ثقيلا في الوحي وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة» ، (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل إلي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» (م) عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه» وفي رواية «كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه» قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقا أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد، وقوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم. وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ. روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار. وقرئ وطأ بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد على المصلي وأثقل. من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشد وأثقل وقال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وقيل أثبت للخير وأحفظ للقراءة من النهار وقيل هي أوطأ للقيام وأسهل على المصلي من ساعات النهار لأنه خلق لتصرف العباد والليل والخلوة برب العباد ولأن الليل أفرغ للقلب من النهار ولا يعرض له في الليل حوائج وموانع مثل النهار وأمنع من الشيطان وأبعد من الرياء وهو قوله تعالى: وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أصوب قراءة وأصح قولا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات وقيل معناه أبين قولا بالقرآن.
والحاصل أن عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأبعد عن الرياء وأكثر بركة وأبلغ في الثواب وأدخل في القبول.
[سورة المزمل (73) : الآيات 7 الى 10]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك واشتغالك. وقيل فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصا وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعا والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه. وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله. وقيل معناه وتوكل عليه توكلا واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة الله وطاعته.(4/357)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
فإن قلت كيف قال تبتيلا مكان تبتلا ولم يجيء على مصدره؟
قلت جاء تبتيلا على بتل نفسك إليه تبتيلا فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلا فهو كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتا، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلا وتبتلت تبتيلا فتبتيلا محمول على معنى بتل إليه تبتيلا وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله تعالى لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولا التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا لله تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلا بما وعدك من النصر على الأعداء وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي واعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 19]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر. وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى: إِنَّ لَدَيْنا أي عندنا في الآخرة أَنْكالًا يعني قيودا عظاما ثقالا لا تنفك أبدا وقيل أغلالا من حديد وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً أي وجيعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا يعني رملا سائلا وهو الذي إذا أخذت منه شيئا يتبعك ما بعده إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا أهل مكة رَسُولًا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أي فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة، خوّف بذلك كفار مكة ثم خوّفهم يوم القيامة فقال تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يعني شيوخا شمطا من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم، فابعث بعث النار من ذريتك. (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول لبيك وسعديك» زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد(4/358)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
وترى النّاس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود، وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا» أما ما يتعلق بمعنى الحديث فقوله أن تخرج من ذريتك بعث النار فمعناه ميز أهل الجنة من أهل النار، وأما الرقمة بفتح الراء وإسكان القاف فهي الأثرة في باطن عضد الحمار.
وقوله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة وثلث أهل الجنة، وشطر أهل الجنة فيه البشارة العظيمة لهذه الأمة وجعلهم ربع أهل الجنة أولا ثم الثلث ثم الشّطر لفائدة حسنة، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد مرة دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته وفيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر الله وحمده على إنعامه عليهم، وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة، وسرورهم بها، وأما ما. يتعلق بمعنى الآية الكريمة، والحديث في قوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وقوله صلّى الله عليه وسلّم «ويشيب الوليد» ففيه وجهان: الأول عند زلزلة السّاعة قبل خروجهم من الدّنيا، فعلى هذا هو على ظاهره الثاني أنه في القيامة، فعلى هذا يكون ذكر الشّيب مجازا، لأن القيامة ليس فيها شيب، وإنما هو مثل في شدة الأمر، وهوله يقال في اليوم الشّديد يوم تشيب فيه نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تعاقب على الإنسان أسرع فيه الشيب. قال المتنبي:
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
فلما كان الشّيب من لوازم كثرة الهموم والأحزان جعلوه كناية عن الشّدة والهول، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن الطفل لا تمييز له، وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون سن الشّيخوخة والشّيب. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وصف اليوم بالشّدة أيضا وأن السّماء مع عظمها تنفطر به، وتتشقق فما ظنك بغيرها من الخلائق، وقيل تتشقق لنزول الملائكة، وقيل به أي بذلك المكان، وقيل الهاء ترجع إلى الرّب سبحانه وتعالى أي بأمره وهيبته. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي كائنا لا محالة فيه، ولا خلف إِنَّ هذِهِ أي آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي مواعظ يتذكر بها فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالإيمان والطاعة. قوله تعالى:
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي أقل من ثلثي الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي تقوم نصفه وثلثه وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني المؤمنين، وكانوا يقومون معه الليل وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى. لا يفوته علم ما يفعلون، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة. قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل: علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من القيام فقال تعالى: علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة ذلك فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فعاد عليكم بالعفو(4/359)
والتخفيف، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد، وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه، وقيل نسخ ذلك التّهجد، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضا بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ.
القول الثاني: أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من قرأ خمسين آية في يوم أو ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يحاججه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» .
وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال: في رواية «من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين» وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال:
قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» ثم ذكر الله حكمة النّسخ والتّخفيف. فقال تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يعني أن المريض يضعف عن التّهجد باللّيل فخفف الله عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يعني المسافرين للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون من رزق الله وهو الربح في التجارة وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة والمجاهدين، وذلك لأن المجاهد والمسافر مشتغل في النهار بالأعمال الشّاقة، فلو لم ينم بالليل لتوالت عليه أسباب المشقة، فخفف الله عنهم لذلك. روي عن ابن مسعود: قال «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشّهداء ثم قرأ عبد الله: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله» فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن وإنما أعاده للتأكيد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة من صلة الرحم وقرى الضيف، وقيل يريد سائر الصّدقات، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء ومراعاة النيّة والإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى بما يخرج والصرف إلى المستحق. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه وأجره هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه وروى البغوي بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله قال ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا كيف يا رسول الله؟ قال: إنما قال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي لذنوبكم وتقصيركم في قيام الليل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لجميع الذنوب، والله تعالى أعلم.(4/360)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
سورة المدثر
وهي مكية وقيل غير آية من آخرها وهي ست وخمسون آية ومائتان وخمس وخمسون كلمة وألف حرف وعشرة أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (ق) عن يحيى بن كثير قال «سألت أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أبو سلمة سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا.
فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني» وصبوا علي ماء باردا فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وذلك قبل أن تفرض الصلاة وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي- وذكر نحوه- فإذا هو قاعد على عرش في الهواء- يعني جبريل- فأخذتني رجفة شديدة» (ق) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري «عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وفي رواية «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع.
فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضا في بدء الوحي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حتى بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ- فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده» الحديث.
قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كما صرح به في حديث عائشة، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه أيضا قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل(4/361)
عليه أيضا قوله «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر» وأيضا قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع» فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السّماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي، أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه» روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم، ومعناه فرعبت منه وفزعت. وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع» أي كثر نزوله، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم.
وأما التّفسير فقوله عز وجل: يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما سماه مدثرا لقوله صلّى الله عليه وسلّم دثروني، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى، فجعل النّبوة كالدثار واللباس، مجازا قُمْ فَأَنْذِرْ أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه أربعة أوجه: أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز.
أما الوجه الأول: فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلّى الله عليه وسلّم بصون ثيابه من النجاسات، وغيرها خلافا للمشركين.
الوجه الثاني: معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب.
الوجه الثالث: معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة:
وشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيرهم وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه.
الوجه الرابع: وهو حمل الثّياب والتّطهير على المجاز، فقيل معناه وقلبك فطهر عن الصّفات المذمومة، وقيل معناه وخلقك فحسن وسئل ابن عباس عن قوله، وثيابك فطهر فقال: لا تلبسها على معصية ولا غدر أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرّجل بالصّدق والوفاء هو طاهر الثّياب، وتقول لمن غدر إنه لدنس الثّوب، والسّبب في ذلك أن الثوب كالشّيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوه كناية عن الإنسان كما يقال الكرم في ثوبه والعفة في إزاره، وقيل إن من طهر باطنه طهر ظاهره.
وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يعني أترك الأوثان ولا تقربها وقال ابن عباس: اترك المآثم، وقيل الشّرك والمعنى اترك كل ما أجب لك العذاب من الأعمال والأقوال.(4/362)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
[سورة المدثر (74) : الآيات 6 الى 14]
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما نهي عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئا لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع، وقيل معناه لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا أعط لله وأراد به وجه الله. وقيل معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم الله به عليك وأعطاك. وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية، فإن المن يحبط العمل وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله تعالى وقيل معناه فاصبر لله على ما أوذيت فيه، وقيل معناه إنك حملت أمرا عظيما فيه محاربة العرب والعجم، فاصبر على ذلك لله عز وجل، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى، وقيل الثانية وهو الأصح فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ أي شديد عَلَى الْكافِرِينَ يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم غَيْرُ يَسِيرٍ أي غير هين.
فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه.
قلت: فائدة التكرار التّأكيد كقوله: أنا محب لك غير مبغض، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد، والمعنى ذرني وإيّاه، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى الوحيد في قومه. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثير يمد بعضه بعضا دائما غير منقطع، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار: وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وقيل كان له غلة شهر بشهر، وَبَنِينَ شُهُوداً أي حضورا بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب، وقيل معنى شهودا أي رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطا مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش.(4/363)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
[سورة المدثر (74) : الآيات 15 الى 18]
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
ثُمَّ يَطْمَعُ أي يرجو أَنْ أَزِيدَ أي أزيده مالا وولدا وتمهيدا كَلَّا أي لا أفعل ولا أزيده قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله وولده حتى هلك إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا والمعنى أنه كان معاندا في جميع دلائل التوحيد والقدرة والبعث والنبوة منكرا للكل، وقيل كان كفره كفر عناد وهو أنه كان يعرف هذا بقلبه وينكره بلسانه وهو أقبح الكفر وأفحشه سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً يعني سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي فيها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سأرهقه صعودا. قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وقال الكلبي: الصعود صخرة ملساء في النّار يكلف الكافر أن يصعدها لا يترك يتنفس في صعوده يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد فيصعدها في أربعين عاما، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه، ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدا قوله عز وجل إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي فكر في الأمر الذي يريده ونظر فيه وتدبره ورتب في قلبه كلاما، وهيأه لذلك لأمر وهو المراد بقوله وَقَدَّرَ أي وقدر ذلك الكلام في قلبه وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله الْمَصِيرُ قام النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلّى الله عليه وسلّم لاستماعه أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلي ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا فقال له الوليد ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟
فقال وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم. فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا اللهم لا، قال تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب، قالوا اللهم لا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه، فقالت قريش للوليد فما هو فتفكر في نفسه، ثم قال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل، وأهله، وولده، ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عز وجل: إِنَّهُ فَكَّرَ أي في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وقدر في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن.
[سورة المدثر (74) : الآيات 19 الى 29]
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي عذب، وقيل لعن كيف قدر وهو على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ كرره للتأكيد، وقيل معناه لعن على أي حال قدر من الكلام ثُمَّ نَظَرَ أي في طلب ما يدفع به القرآن ويرده ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ أي كلح وقطب وجهه كالمهتم المتفكر في شيء يدبره ثُمَّ أَدْبَرَ أي عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ أي حين دعى إليه فَقالَ إِنْ هذا الذي يقوله محمد ويقرؤه إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى ويحكى عن السحرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما الله قال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ أي سأدخله(4/364)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
سَقَرَ هو اسم من أسماء جهنّم وقيل آخر دركاتها وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ أي وما أعلمك أي شيء هي سقر، وإنما ذكره على سبيل التّهويل والتّعظيم لأمرها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قيل هما بمعنى كما تقول صد عني وأعرض عني وقيل لا بد من الفرق وإلا لزم التكرار فقيل معناه لا تبقى أحدا من المستحقين للعذاب إلا أخذته، ثم لا تذر من لحوم أولئك شيئا إلا أكلته وأهلكته، وقيل لا يموت فيها ولا يحيا أي لا تبقى من فيها حيا ولا تذر من فيها ميتا كلما احترقوا جددوا وأعيدوا، وقيل لا تبقى لهم لحما ولا تذر منهم عظما، وقيل لكل شيء ملال وفترة إلا جهنم ليس لها ملال ولا فترة فهي لا تبقى عليهم ولا تذرهم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ جمع بشرة أي مغيرة للجلد حتى تجعله أسود قال مجاهد: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادا من اللّيل وقال ابن عباس: محرقة للجلد، وقيل تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا.
[سورة المدثر (74) : الآيات 30 الى 32]
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي على النار تسعة عشر من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر جاء في الأثر «إن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة قد نزعت منهم الرّحمة يدفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم» وقال عمرو بن دينار: إن أحدهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية. قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع من ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم يعني الشجعان أفيعجز كل عشر منكم أن تبطش بواحد منهم يعني خزنة جهنم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي أنا أكفيكم منهم سبعة عشر عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني أنتم اثنين ويروى عنه أنه قال أنا أمشي بين أيديكم على الصّراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يعني لا رجالا آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ أي عددهم في القلة إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لم يكونوا عشرين، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد، القليل على تعذيب جميع من في النار.
وأجيب عن قولهم لم لم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر.
وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك، فمن اعترف بكمال قدرة الله، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن العدد كان موجودا في كتابهم وأخبر به النّبي صلّى الله عليه وسلّم(4/365)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي، فازدادوا بذلك إيمانا وتصديقا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلا يَرْتابَ أي ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضا بحال غيرهم كأنه قال: وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر، والنفاق وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وَالْكافِرُونَ أي مشركو مكة.
فإن قلت لم يكن بمكة نفاق فكيف قال، وليقول الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون وهذه السورة مكية.
قلت لأنه كان في علم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبره عما سيكون وهو كسائر الإخبار بالغيوب فعلى هذا تصير الآية معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر، وقيل يحتمل أن يراد بالّذين في قلوبهم مرض أهل مكة لأن فيهم من هو شاك وفيهم من هو قاطع بالكذب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يعني أي شيء أراد الله بهذا المثل العجيب، وإنما سموه مثلا لأنه استعارة من المثل المضروب لأنه مما غرب من الكلام وبدع استغرابا منهم لهذا العقد واستبعادا له، والمعنى أيّ غرض قصد في جعل الملائكة تسعة عشرة لا عشرين ومرادهم بذلك إنكار هذا من أصله وإنه ليس من عند الله فلهذا سموه مثلا كَذلِكَ أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق به كذلك يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لأن الله تعالى بيده الهداية والإضلال وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ هذا جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر، والمعنى أن الخزنة تسعة عشر، ولهم أعوان وجنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خلقوا لتعذيب أهل النار وقيل كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية فكذلك جنوده غير متناهية، وَما هِيَ يعني النار إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي إلا تذكرة وموعظة للناس، وقيل ما هي يعني آيات القرآن ومواعظه إلا تذكرة للناس يتعظون بها كَلَّا أي لا يتعظون ولا يتذكرون، وقيل معناه ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه خزنة النار وقيل كلا هنا بمعنى حقا وَالْقَمَرِ.
[سورة المدثر (74) : الآيات 33 الى 41]
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى ذاهبا، وقيل دبر بمعنى أقبل تقول العرب دبرني فلان أي جاء خلفي فاللّيل يأتي خلف النهار وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وتبين وهذا قسم وجوابه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعني إن سقر لإحدى الأمور العظام، وقيل أراد بالكبر دركات النار وهي سبعة جهنم ولظى والحطمة والسّعير وسقر والجحيم والهاوية نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل يحتمل أن يكون نذيرا صفة للنار، والمعنى أن النّار نذير للبشر قال الحسن: والله ما أنذر بشيء أدهى من النار، وقيل يجوز أن يكون نذيرا صفة لله تعالى، والمعنى أنا لكم منها نذير فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أي يتقدم في الخير والطّاعة أو يتأخر عنهما فيقع في الشر والمعصية، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر، وقد تمسك بهذه الآية من يرى أن العبد غير مجبور على الفعل وأنه متمكن من فعل نفسه.
وأجيب عنه بأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى وقيل إضافة المشيئة إلى المخاطبين على سبيل التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وقيل هذه المشيئة لله تعالى، والمعنى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي مرتهنة في النّار بكسبها ومأخوذة بعملها إِلَّا أَصْحابَ(4/366)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
الْيَمِينِ فإنهم غير مرتهنين بذنوبهم في النار، ولكن الله يغفرها لهم، وقيل معناه فكوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفك الراهن رهنه بأداء الحق الذي عليه.
واختلفوا في أصحاب اليمين من هم فقيل هم المؤمنون المخلصون، وقيل هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم، وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال الله تعالى لهم: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين وهو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثما يرتهنون به وعن ابن عباس قال هم الملائكة فِي جَنَّاتٍ أي هم في بساتين يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يتساءلون المجرمين وعن صلة فيقولون لهم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 51]
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قيل وهذا يقوي قول من قال إن أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لم يعرفوا الذنوب التي توجب النّار، وقيل معناه يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين، فعلى هذا التفسير يكون معنى ما سلككم، أيّ يقول المسؤولون للسّائلين قلنا للمجرمين ما سلككم، أي أدخلكم وقيل ما حبسكم في سقر، وهذا سؤال توبيخ وتقريع قالُوا مجيبين لهم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أي لله في الدّنيا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي لم نتصدق عليه وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي في الباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء على الأعمال وهو يوم القيامة حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت قال الله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قال ابن مسعود: تشفع الملائكة والنّبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الآية، وقال عمران بن حصين: الشّفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون. روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يصف أهل النار فيعذبون قال فيمر بهم الرجل من أهل الجنة، فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا قال فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال، ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا، فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه» فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أيّ عن مواعظ القرآن كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع حمار مُسْتَنْفِرَةٌ قرئ بالكسر أي نافرة وقرئ بالفتح أي منفرة مذعورة محمولة على النفار فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قيل القسورة جماعة الرّماة لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس وعنه أنها القناص وعنه قال: هي حبال الصيادين، وقيل معناه فرت من رجال أقوياء وكل ضخم شديد عند العرب قسورة وقسور وقيل القسورة لغط القوم وأصواتهم وقيل القسورة شدة سواد ظلمة اللّيل وقال أبو هريرة: هي الأسد وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن هربوا منه شبههم بالحمر في البلادة والبله، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء.
[سورة المدثر (74) : الآيات 52 الى 56]
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم(4/367)
ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك، وقيل إن المشركين قالوا يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح، وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك كَلَّا أي لا يؤتون الصحف وهو ردع لهم عن هذه الاقتراحات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي لا يخافون عذاب الآخرة والمعنى أنهم لو خافوا النّار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة، لأنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدّلالة على صحة النّبوة فطلب الزّيادة يكون من باب التعنت كَلَّا أي حقا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يعني إنه عظة عظيمة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو حقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم وقيل هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية: هو أهل التّقوى وأهل المغفرة قال الله تبارك، وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي وليس بالقوي في الحديث وقد تفرد به عن ثابت، والله تعالى أعلم بمراده.(4/368)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
سورة القيامة
مكية وهي أربعون آية ومائة وتسع وتسعون كلمة وستمائة واثنان وخمسون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3)
قوله عز وجل: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اتفقوا على أن المعنى أقسم، واختلفوا في لفظ لا فقيل إدخال لفظة لا على القسم مستفيض في كلام العرب وأشعارهم، قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
قالوا: وفائدتها تأكيد القسم كقولك لا والله ما ذاك كما تقول تريد والله فيجوز حذفها. لكنه أبلغ في الرّد مع إثباتها، وقيل إنها صلة كقول الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وفيه ضعف لأنها لا تزاد إلا في وسط الكلام لا في أوله.
وأجيب عنه بأن القرآن في حكم السّورة الواحدة بعضه متصل ببعض يدل عليه أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة، ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ وجوابه في سورة ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جاريا مجرى الوسط وفيه ضعف أيضا لأن القرآن في حكم السّورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز، وقيل لا رد لكلام المشركين المنكرين للبعث أي ليس الأمر كما زعموا، ثم ابتدأ فقال أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللّوامة، وقيل الوجه فيه أن يقال إن لا هي للنفي، والمعنى في ذلك كأنه قال لا أقسم بذلك اليوم ولا بتلك النّفس إلا إعظاما لهما فيكون الغرض تعظيم المقسم به وتفخيم شأنه، وقيل معناه لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإنه إثباته أظهر من أن يقسم عليه. وروى البغوي في تفسير القيامة عن المغيرة بن شعبة قال: يقولون القيامة وقيامة أحدهم موته وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال أما هذا فقد قامت قيامته وفيه ضعف لاتفاق المفسرين على أن المراد به القيامة الكبرى لسياق الآيات في ذلك. وقوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قيل هي التي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء، وقيل اللوامة هي التي تندم على ما فات فتقول لو فعلت ولو لم تفعل وقيل ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا تقول هلا ازددت وإن عملت شرا تقول يا ليتني لم أفعل وقال الحسن: هي نفس المؤمن إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي، وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه، ولا يعاتبها، وقيل هي النّفس الشّريفة التي تلوم النّفوس العاصية يوم القيامة بسبب ترك التّقوى، وقيل هي النّفس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وقيل هي النّفس الشّقية العاصية يوم القيامة بسبب ترك التقوى، وقيل هي النفس الشقية تلوم نفسها(4/369)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
حين تعاين أهوال يوم القيامة فتقول «يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله» فإن قلت أيّ مناسبة بين يوم القيامة، وبين النّفس اللّوامة حتى جمع بينهما في القسم.
قلت وجه المناسبة أن في يوم القيامة تظهر أحوال النفوس اللّوامة من الشقاوة أو السعادة فلهذا حسن الجمع بينهما في القسم وقيل إنما وقع القسم بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبدا تستحقر فعلها واجتهادها في طاعة الله تعالى وقيل إنه تعالى أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنّفس اللّوامة فكأنه قال أقسم بيوم القيامة تعظيما لها ولا أقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها لأن النّفس الكافرة أو الفاجرة لا يقسم بها، فإن قلت المقسم به هو يوم القيامة، والمقسم عليه هو يوم القيامة، فيصير حاصله أنه أقسم بيوم القيامة على وقوع القيامة وفيه إشكال.
قلت إن المحققين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربها في الحقيقة، فكأنه قال أقسم برب القيامة، وقيل لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن ثم لتحاسبن يدل عليه قوله تعالى:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقيل جواب القسم قوله:
[سورة القيامة (75) : الآيات 4 الى 5]
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5)
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ومعنى أيحسب الإنسان أيظن هذا الكافر أن العظام بعد تفرقها ورجوعها رميما، ورفاتا مختلطة بالتراب وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض أن لن نجمع عظامه، أي لا يمكننا جمعها مرة أخرى وكيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد، وما علم أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة وهو ختن الأخنس بن شريق الثقفي وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول اللهم اكفني جاري السوء يعني عديّا والأخنس وذلك أن عديّا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا محمد حدثني متى تكون القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عدي بن ربيعة لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام فأنزل الله عز وجل. أيحسب الإنسان يعني هذا الكافر أن لن نجمع عظامه يعني بعد التفرق والبلاء فنحييه ما كان أول مرة، وقيل ذكر العظام وأراد بها نفسه جميعها لأن العظام قالب النّفوس، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها، وقيل إنما خرج على وفق قول هذا المنكر، أو يجمع الله العظام بلى قادرين يعني على جمع عظامه، وتأليفها وإعادتها إلى التركيب الأول والحالة، والهيئة الأولى وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو أن نسوي بنانه يعني أنامله فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، فلا يقدر أن يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرهما، وقيل معناه أظن الكافر أن لن نقدر على عظامه بلى نقدر على جمع عظامه حتى نعيد السّلاميات على صغرها إلى أماكنها، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان فمن يقدر على جمع العظام الصغار، فهو على جمع كبارها أقدر وهذا القول أقرب إلى الصواب، وقيل إنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم به الخلق.
قوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ما عاش لا ينزع عن المعاصي ولا يتوب وقال سعيد بن جبير يقدم الذّنب ويؤخر التوبة، ويقول سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت وهو على سوء حاله وشر أعماله، وقيل هو طول الأمل يقول أعيش فأصيب من الدّنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت وقال ابن عباس: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجرا لميله عن الحق.(4/370)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
[سورة القيامة (75) : الآيات 6 الى 13]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أيّ متى يكون يوم القيامة والمعنى أن الكافر يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام السّاعة قال الله تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي شخص البصر عند الموت فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقيل تبرق أبصار الكفار عند رؤية جهنم، وقيل برق إذا فزع وتحير لما يرى من العجائب، وقيل برق أي شق عينه وفتحها من البريق وهو التلألؤ وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي أظلم وذهب ضوءه، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يعني أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران، وقيل يجمع بينهما في ذهاب الضّوء، وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى يَقُولُ الْإِنْسانُ يعني الكافر المكذب يَوْمَئِذٍ أي القيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ أي المهرب وهو موضع الفرار كَلَّا أي لا ملجأ لهم يهربون إليه وهو قوله لا وَزَرَ أي لا حرز ولا ملجأ ولا جبل، وكانوا إذا فزعوا لجئوا إلى الجبل فتحصنوا به، فقيل لهم لا جبل لكم يومئذ تتحصنون به وأصل الوزر الجبل المنيع، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر ومنه قول كعب بن مالك.
الناس آلت علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعصمهم من أمر الله تعالى لا حصن ولا جبل يوم القيامة يستندون إليه من النار إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
يعني مستقر الخلق وقال عبد الله بن مسعود: إليه المصير والمرجع وهو بمعنى الاستقرار، وقيل إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار، وذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة برحمته ومن شاء أدخله النار بعدله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
قال ابن مسعود وابن عباس: بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيئ وما أخر بعد موته من سنة حسنة، أو سيئة يعمل بها، وعن ابن عباس أيضا بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه، وقيل بأول عمله وآخره وهو ما عمله في أول عمره وفي آخره، وقيل بما قدم من ماله لنفسه قبل موته وما أخر من ماله لورثته.
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 21]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
أي بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله وهي سمعه وبصره وجوارحه، وإنما دخلت الهاء في البصيرة لأن المراد من الإنسان جوارحه، وقيل معناه بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وفي رواية عن ابن عباس بل الإنسان على نفسه شاهد فتكون الهاء للمبالغة كعلامة وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
يعني ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه، فإنه لا ينفعه لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه، وقيل معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره، وقيل إن أهل اليمن يسمون السّتر معذارا وجمعه معاذير، فعلى هذا يكون معناه ولو أرخى السّتور وأغلق الأبواب ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه، وهذا في حق الكافر لأنه ينكر يوم القيامة فتشهد عليه جوارحه بما عمل في الدنيا.
قوله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
(ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قال كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التّنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه قال ابن جبير:
قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحركها فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. قال فاستمع وأنصت(4/371)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
ثم إن علينا أن تقرأه، قال فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرأه، وفي رواية كما وعده الله تعالى لفظ الحميدي، ورواه البغوي من طريق البخاري وقال فيه: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، كان مما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله عز وجل الآية، التي في لا أقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، قال إن علينا أن نجمعه في صدرك، وتقرأه فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك. قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى وفي رواية كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه يخشى أن ينفك منه فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، أيّ نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه، ومعنى الآية لا تحرك بالقرآن لسانك، وإنما جاز هذه الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه لتجعل به أي بأخذه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي جمعه في صدرك وحفظك إياه وَقُرْآنَهُ
أي قراءته علينا والمعنى سنقرئك يا محمد بحيث تصير لا تنساه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي لا تكن قراءتك مقارنة لقراءة جبريل عليك بل اسكت حتى يتم جبريل ما يوحى إليك، فإذا فرغ جبريل من القراءة، فخذ أنت فيها، وجعل قراءة جبريل قراءته لأنه بأمره نزل بالوحي ونظيره. «من يطع الرسول فقد أطاع الله» وقيل معناه اعمل به واتبع حلاله، وحرامه، والقول الأول أولى لأن هذا ليس موضع الأمر باتباع حلاله وحرامه وإنما هو موضع الأمر بالاستماع حتى يفرغ جبريل من قراءته فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل بالوحي أصغى إليه فإذا فرغ من قراءته وعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحفظه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي أن نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل وقيل إذا أشكل شيء من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والحلال والحرام، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عن معانيه لغاية حرصه على العلم فقيل له نحن نبينه لك.
قوله تعالى: كَلَّا أي حقا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أي تختارون الدنيا على العقبى وتعملون لها يخاطب كفار مكة.
[سورة القيامة (75) : الآيات 22 الى 29]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26)
وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ناضِرَةٌ من النضارة، وهي الحسن قال ابن عباس: حسنة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل ناعمة، وقيل مسفرة مضيئة، وقيل بيض يعلوها نور وبهاء وقيل مشرقة بالنعيم. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح: تنتظر الثّواب من ربها، قال الأزهري: ومن قال إن معنى قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلانا أي انتظرته ومنه قول الحطيئة:
وقد نظرتكم أعشاء صادرة ... للورد طال بها حوزي وتنساسي
فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم(4/372)
فضلك، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب، ولا الانتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
(فصل: في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة) قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام، وليس هذا موضع ذكرها، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه وخدمه، وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أخرجه التّرمذي وقال: هذا حديث غريب، وقال: وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه (ق) عن جرير بن عبد الله قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس، وقبل الغروب» قوله «لا تضامون» روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضا ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله: «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر» معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تضارون في القمر ليلة البدر، قالوا: لا يا رسول الله قال: هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكم سترونه كذلك» أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي. وليس عنده في أوله أن أناسا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا قوله ليس دونها سحاب. قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى تضارون وتضامون واحد.
عن أبي رزين العقيلي قال: «قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة؟ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال: فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم» أخرجه أبو داود (م) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» والأحاديث في الباب كثيرة وهذا القدر كاف والله أعلم. قوله عز وجل: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي عابسة كالحة(4/373)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
متغيرة مسودة قد أظلمت ألوانها، وعدمت آثار النعمة، والسرور منها لما أدركها من اليأس من رحمة الله تعالى:
وذلك حين يميز بين أهل الجنة والنار تَظُنُّ أي تستيقن والظّن هنا بمعنى اليقين أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أن يفعل بهم أمر عظيم من العذاب والفاقرة الدّاهية العظيمة والأمر الشّديد الذي يكسر فقار الظهر ويقصمه وقيل الفاقرة دخول النار، وقيل هي أن تحجب تلك الوجوه عن رؤية الله تعالى: كَلَّا أي حقا إِذا بَلَغَتِ يعني النفس كناية عن غير مذكور التَّراقِيَ جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت ومنه قول دريد بن الصمة:
ورب عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وَقِيلَ
يعني وقال من حضره مَنْ راقٍ
أي هل من طبيب يرقيه ويداويه مما نزل به ويشفيه ويخلصه من ذلك برقيته ودوائه، وقيل لما نزل به من قضاء الله ما نزل التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقيل هذا من قول الملائكة الذين يحضرونه عند الموت يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه إذا خرجت فيصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وَظَنَّ أي أيقن الذين بلغت روحه التراقي أَنَّهُ الْفِراقُ يعني الخروج من الدنيا وفراق المال والأهل والولد وَالْتَفَّتِ أي اجتمعت السَّاقُ بِالسَّاقِ أي الشدة بالشدة يعني شدة مفارقة الدنيا مع شدة الموت وكربه، وقيل شدة الموت بشدة الآخرة، وقيل تتابعت عليه الشدائد لا يخرج من كرب إلا جاءه ما هو أشد منه، وقال ابن عباس: أمر الدنيا بأمر الآخرة فكان في آخر يوم من أيام الدّنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وقيل الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، وقيل هما ساقا الميت إذا لفتا في الكفن، وقيل هما ساقاه عند الموت ألا تراه كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى عند النزع، وقيل إذا مات يبست ساقاه فالتفت إحداهما بالأخرى.
[سورة القيامة (75) : الآيات 30 الى 40]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39)
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم.
قوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن، ولم يصلّ لله تعالى: وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان والتصديق ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر ويختال في مشيته، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل. وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب. وأحق وأولى به. يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة: ذكر لنا «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة. وكان نبي الله يقول صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً أي ماء قليلا مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصيب في الرحم، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي صار الإنسان علقة بعد النطفة(4/374)
فَخَلَقَ فَسَوَّى أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين ثم فسرهما فقال الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي خلق من مائة أولادا ذكورا وإناثا أَلَيْسَ ذلِكَ أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، فليقل بلى ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ فبلغ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فليقل آمنا بالله» أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال «كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» والله سبحانه وتعالى أعلم:(4/375)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
سورة هل أتى
وتسمى سورة الإنسان أيضا وهي مدنية كذا قال مجاهد، وقتادة والجمهور، وقيل مكية يحكى ذلك عن ابن عباس وعطاء بن يسار ومقاتل، وقيل فيها مكي ومدني، فالمكي منها قوله وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها مدني قاله الحسن وعكرمة وقيل إن المدني من أولها إلى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ومن هذه الآية إلى آخرها مكي حكاه الماوردي وهي إحدى وثلاثون آية ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعة وخمسون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
قوله عز وجل: هَلْ أَتى أي قد أتى عَلَى الْإِنْسانِ يعني آدم عليه الصلاة والسلام حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب.
وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طينا، وبقي أربعين سنة حمأ مسنونا وأربعين سنة صلصالا كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئا ولم يكن شيئا يذكر.
روي عن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: لم يكن شيئا مذكورا فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئا مذكورا يعني أنهم كانوا نطفا في الأصلاب. ثم علقا، ومضغا في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أي مني الرجل ومني المرأة أَمْشاجٍ أي أخلاط قال ابن عباس وغيره: يعني ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب، وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة(4/376)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
صفراء. وكل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج. نَبْتَلِيهِ أي لنختبره بالأمر والنهي فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 3 الى 5]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل، وبعثه الرسل وإنزال الكتب. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً يعني إما موحدا طائعا لله، وإما مشركا بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره، وطاعته عن معصيته، وقيل في معنى الآية إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر، وأوعد الكافر فقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا في جهنم لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ يعني يشدون بها وَأَغْلالًا أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم وَسَعِيراً يعني وقودا لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ يعني فيها شراب كانَ مِزاجُها كافُوراً قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك.
فإن قلت إن الكافور غير لذيذ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به.
قلت قال أهل المعاني: أراد بالكافور بياضه، وطيب ريحه وبرده. لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس:
هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافورا، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم. بذلك الكافور والمسك والزنجبيل.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 6 الى 9]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
عَيْناً بدلا من الكافور وقيل أعني عينا يَشْرَبُ بِها أي يشرب منها عِبادُ اللَّهِ قال ابن عباس أولياء الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم.
قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي(4/377)
يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب. والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج، والعمرة، وغير ذلك من الواجبات، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئا ليس بواجب عليه، وذلك بأن يقول: لله عليّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله. وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليّ كذا، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به (خ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (ق) عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفي بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى.
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي منتشرا فاشيا ممتدا، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض، وفي أولياء الله وأعدائه، وقيل فشا سره في السموات. فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.
قوله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى: بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسون به أهل الحاجة، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام. لأن به قوام الأبدان، وقيل على حب الله عز وجل أي لحب الله مِسْكِيناً يعني فقيرا وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب وَيَتِيماً أي صغيرا وهو الذي لا أب له يكتسب له، وينفق عليه وَأَسِيراً قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين، وقيل هو الأسير من أهل الشرك. أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم وإن أسراهم يومئذ أهل الشرك. فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى، وإن كانوا على غير ديننا، وأنه يرجى ثوابه، ولا يجوز أن يعطوا من الصدقة الواجبة كالزكاة والكفارة، وقيل الأسير المملوك، وقيل الأسير المرأة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان» يعني أسرى، وقيل غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك.
واختلفوا في سبب نزول الآية، فقيل نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الدحداح صام يوما فلما كان وقت الإفطار جاءه مسكين، ويتيم، وأسير فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد. فنزلت هذه الآية فيه، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير فقبض ذلك الشعير فطحن منه ثلثه، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه فلما فرغ أتى مسكين فسأل فأعطوه ذلك ثم عمل الثلث الثاني فلما فرغ أتى يتيم فسأل فأعطوه ذلك، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأعطوه ذلك وطووا يومهم وليلتهم فنزلت هذه الآية. وقيل هذه عامة في كل من أطعم المسكين واليتيم والأسير لله تعالى وآثر على نفسه إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لأجل وجه الله تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم. فأثنى به عليهم، وقيل قالوا ذلك منعا للمحتاجين من المكافأة، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يراد به غيره. فهذا هو الإخلاص، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما، وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى لأن فيهما شركا، ورياء فنفوا ذلك عنهم بقولهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.(4/378)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 10 الى 16]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم عَبُوساً وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازا كما يقال نهاره صائم، والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة. قَمْطَرِيراً يعني شديدا كريها يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه، والقمطرير الشديد، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي الذي يخافونه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي حسنا في وجوههم وَسُرُوراً أي في قلوبهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة الله واجتناب معصيته، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار جَنَّةً وَحَرِيراً أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير مُتَّكِئِينَ فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً يعني لا يؤذيهم حر الشمس، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولا أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ أي سخرت وقربت قُطُوفُها أي ثمارها تَذْلِيلًا أي يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه كانت قواريرا قوارير من فضة قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها، قال الكلبي: إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة، ولكنها أصفى من الزجاج. قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص. والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 17 الى 21]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)
وَيُسْقَوْنَ فِيها أي في الجنة كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة، وقيل هو النبت المعروف، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مشورا
الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس:(4/379)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
فكأن طعم الزنجبيل ... به إذ ذقته سلافة الخمر
فلما كان الزنجبيل مستطابا عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس: كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي سلسلة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليها في طرقهم، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه، وصفائه، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوما، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة.
قوله عز وجل: وَإِذا رَأَيْتَ قيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به ثَمَّ يعني إلى الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً أي لا يوصف عظمه وَمُلْكاً كَبِيراً قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكا لا زوال له ولا انتقال عالِيَهُمْ أي فوقهم ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً يعني طاهرا من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولا، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم كرشح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 22 الى 28]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها. إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت. فهو لكم بأعمالكم، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه، وهو الثواب، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات.
قوله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ أي يا محمد الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا قال ابن عباس: متفرقا آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي لعبادته فهي من(4/380)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
الحكمة المحضة، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال، وقيل هو عام في جميع التكاليف، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفا خاصا كالعبادات والطاعات أو عاما متعلقا بالغير كالتبليغ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل أراد به أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم نهاه أبو جهل عنها، وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء، والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم. الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قيل المراد من الذكر الصلاة، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان، والمقصود أن يكون ذاكرا لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه. قوله عز وجل: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار مكة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني الدار العاجلة، وهي الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا يعني شديدا وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به، ولا يعملون له نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أي قوينا وأحكمنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا. وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي إذا شئنا أهلكناهم، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
إِنَّ هذِهِ أي السورة تَذْكِرَةٌ أي تذكير وعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ أي لنفسه في الدنيا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي وسيلة بالطاعة، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عز وجل في سياق الآية. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوال خلقه وما يكون منهم حَكِيماً أي حيث خلقهم مع علمه بهم يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق وَالظَّالِمِينَ يعني المشركين أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/381)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
سورة المرسلات
(مكية وهي خمسون آية ومائة وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
قوله عز وجل: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً اعلم أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوها:
الأول: أن المراد بأسرها الرّياح ومعنى المرسلات عرفا الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس، وقيل عرفا أي كثيرا فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً يعني الرّياح الشّديدة الهبوب، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً. يعني الرياح اللّينة، وقيل هي الرياح التي أرسلها نشرا بين يدي رحمته، وقيل هي الرّياح التي تنشر السحاب، وتأتي بالمطر فالفارقات فرقا يعني الرياح التي تفرق السحاب، وتبدده فالملقيات ذكرا يعني أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة قلعت الأشجار، وخربت الديار، وغيرت الآثار. فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب، فيلجئون إلى الله تعالى ويذكرونه، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر، والمعرفة في القلوب عند هبوبها.
الوجه الثاني: أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ومعنى والمرسلات عرفا. الملائكة الذين أرسلوا بالمعروف من أمر الله، ونهيه وهذا القول رواية عن ابن مسعود فالعاصفات عصفا يعني الملائكة تعصف في طيرانهم، ونزولهم كعصف الرياح في السرعة، والناشرات نشرا يعني أنهم إذا نزلوا إلى الأرض نشروا أجنحتهم، وقيل هم الذين ينشرون الكتب، ودواوين الأعمال يوم القيامة فالفارقات فرقا. قال ابن عباس: يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، وقيل يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة فعلى هذا يكون الملقى هو جبريل وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم.
الوجه الثالث: أن المراد بأسرها آيات القرآن، ومعنى المرسلات عرفا آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل عرف وخير فالعاصفات عصفا يعني آيات القرآن تعصف القلوب بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف وهو النبت المتكسر، والناشرات نشرا يعني آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين. فالفارقات فرقا يعني آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل فالملقيات ذكرا يعني آيات القرآن هي الذّكر الحكيم الذي يلقى الإيمان والنور في قلوب المؤمنين.(4/382)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
[سورة المرسلات (77) : الآيات 5 الى 23]
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23)
الوجه الرابع: أنه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئا واحدا بعينه فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الرياح ويكون المراد بقوله فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة.
فإن قلت وما المجانسة بين الرياح والملائكة حتى جمع بينهما في القسم قلت الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه فحسن الجمع بينهما في القسم عذرا أو نذرا أي للإعذار والإنذار من الله، وقيل عذرا من الله ونذرا منه إلى خلقه، وهذه كلها أقسام وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ أي من أمر الساعة ومجيئها لَواقِعٌ أي لكائن نازل لا محالة، وقيل معناه إن ما توعدون به من الخير والشر لواقع بكم. ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محي نورها وقيل محقت وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شقت وقيل فتحت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي قلعت من أماكنها وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ وقرئ وقتت بالواو ومعناهما وأحد أي جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي أخرت وضرب الأجل لجميعهم كأنه تعالى يعجب لعباده من تعظيم ذلك اليوم، والمعنى جمعت الرسل في ذلك اليوم لتعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم، ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ قال ابن عباس يوم فصل الرّحمن فيه بين الخلائق ثم أتبع ذلك تعظيما وتهويلا فقال تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي وما أعلمك بيوم الفصل وهو له وشدته وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بالتوحيد والنبوة والمعاد والبعث والحساب.
قوله تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني الأمم الماضية بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعني السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وهم كفار قريش، أي نهلكهم بتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي إنما نفعل بهم ذلك لكونهم مجرمين وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني النطفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعني وقت الولادة وهو معلوم لله تعالى لا يعلم ذلك غيره فَقَدَرْنا قرئ بالتشديد من التقدير، أي قدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي المقدرون له وقرئ بالتخفيف من القدرة، أي قدرنا على خلقه، وتصويره كيف شئنا فنعم القادرون حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 24 الى 32]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي المنكرين للبعث لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً يعني وعاء وأصله الضم والجمع أَحْياءً وَأَمْواتاً يعني تكفتهم أحياء على ظهرها بمعنى تضمهم في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتا في بطنها في قبورهم، ولذلك تسمى الأرض أما لأنها تضم الناس كالأم تضم ولدها وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض رَواسِيَ شامِخاتٍ يعني جبالا عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً يعني عذابا(4/383)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يعني أن هذا كله أعجب عن البعث فالقادر عليه قادر على البعث.
قوله عز وجل: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يعني يقال للمكذبين بيوم القيامة في الدنيا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو العذاب ثم فسره بقوله انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يعني دخان جهنم إذا سطع وارتفع تشعب، وتفرق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم. فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله تعالى في ظل عرشه، وقيل يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب على رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم لا ظَلِيلٍ أي إن ذلك الظل لا يظل من حر وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي لا يرد عنهم لهب جهنم والمعنى أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لا يدفع عنهم حر اللهب إِنَّها يعني جهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ جمع شرارة وهي ما تطاير من النار كَالْقَصْرِ يعني كالبناء العظيم ونحوه قيل هي أصول الشجر، والنخل العظام واحدتها قصرة وسئل ابن عباس عن قوله، تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ فقال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك ودونه وندخرها للشتاء، وكنا نسميها القصر.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 33 الى 48]
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)
كَأَنَّهُ يعني الشرر جِمالَتٌ جمع الجمال، وقال ابن عباس: هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الجمال (صفر) جمع أصفر يعني أن لون ذلك الشرر أصفر وأنشد بعضهم:
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وقيل الصفر هنا معناه الأسود لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة، وقيل هي قطع النحاس، والمعنى أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ يعني بحجة تنفعهم قيل هذا في بعض مواطن القيامة ومواقفها، وذلك لأن في بعضها يتكلمون وفي بعضها يختصمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يؤذن واختير ذلك لأن رؤوس الآي بالنون فلو قال فيتعذروا لم يوافق الآيات، والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع، والمعنى لا يكون إذن واعتذار قال الجنيدي: أي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه.
فإن قلت قد توهم أن لهم عذرا، ولكن قد منعوا من ذكره.
قلت ليس لهم عذر في الحقيقة لأنه قد تقدم الإعذار والإنذار في الدّنيا فلم يبق لهم عذر في الآخرة، ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا أن لهم عذرا فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يعني أنه لما تبين إنه لا عذر لهم، ولا حجة فيما أتوا به من الأعمال السيئة، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عنهم لا جرم قال في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ يعني بين أهل الجنة وأهل النار، وقيل هو الفصل بين العباد(4/384)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
في الحقوق والمحاكمات جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ يعني مكذبي هذه الأمة والذين كذبوا أنبياءهم من الأمم الماضية. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بها لأنفسكم فاحتالوا وهم يعلمون أن الحيل يومئذ منقطعة لا تنفع وهذا في نهاية التوبيخ والتقريع فلهذا عقبة بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الشرك فِي ظِلالٍ جمع ظل وهو ظل الأشجار وَعُيُونٍ أي في ظلهم عيون ماء وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتلذذون بها كُلُوا وَاشْرَبُوا أي ويقال لهم كلوا واشربوا، وهذا القول يحتمل أن يكون من جهة الله تعالى بلا واسطة، وما أعظمها من نعمة أو يكون من جهة الملائكة على سبيل الإكرام هَنِيئاً أي خالص اللّذة لا يشوبه تنغيص بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الطاعات إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قيل المقصود منه تذكير الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل ذلك الخير العظيم. فلما لم يفعلوا ذلك وقعوا في قوله. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا يقول الكفار مكة كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا إلى منتهى آجالكم، وهذا وإن كان ظاهر اللفظ أمرا إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي مشركون بالله مستحقون للعقاب لا جرم أتبعه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي وإذا قيل لهم صلوا مع محمد وأصحابه لا يصلون فعبر عن الصلاة بلفظ الركوع لأنه ركن من أركانها وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 49 الى 50]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بعد نزول القرآن إذا لم يؤمنوا به فبأي شيء يؤمنون والله أعلم.(4/385)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
سورة النبأ
وتسمى سورة عم يتساءلون والتساؤل مكية وهي أربعون آية ومائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)
قوله عز وجل: عَمَّ أصله عن ما يَتَساءَلُونَ عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام، ومعناه التفخيم كقولك، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به، وهم المؤمنون ومن مكذب به، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن كَلَّا هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم، والمعنى ليس الأمر كما قالوا سَيَعْلَمُونَ أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وعيد على أثر وعيد، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب، والثواب، والعقاب فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا وبساطا لتستقر عليها الأقدام وَالْجِبالَ أَوْتاداً يعني للأرض حتى لا تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكورا وإناثا.
[سورة النبإ (78) : الآيات 9 الى 18]
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13)
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله، ومع ذلك تحصل الراحة، وأصل السبت القطع، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في(4/386)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
الأعمال وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون، ولهذا سمي الليل لباسا على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هربا من عدو ونحو ذلك. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي سببا للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني الشمس مضيئة منيرة، وقيل الوهاج الوقاد، وقيل جعل في الشمس حرارة ونورا والوهج يجمع النور والحرارة وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني الرياح التي تعصر السحاب. وهي رواية عن ابن عباس: وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء، أي وأنزلنا بالمعصرات، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث، وقيل المعصرات السّموات، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا مدرارا متتابعا يتلو بعضه بعضا، ومنه الحديث «أفضل الحج العج والثج» ، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها وَنَباتاً أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي الحساب كانَ مِيقاتاً أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتا يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يعني لنفخة الأخيرة فَتَأْتُونَ أَفْواجاً يعني زمرا زمرا من كل مكان للحساب.
[سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 25]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي عن وجه الأرض فَكانَتْ سَراباً أي هباء منبثا كالسراب في عين الناظر إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أي طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس «إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة» ، وقيل كانت مرصادا أي معدة لهم، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم لِلطَّاغِينَ أي الكافرين مَآباً أي مرجعا يرجعون إليها لابِثِينَ فِيها أي في جهنم أَحْقاباً جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة.
فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقابا.
قلت ذكروا فيه وجوها:
أحدها: ما روي عن الحسن قال: إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال لابثين فيها أحقابا، فو الله ما(4/387)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال: «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا» .
الوجه الثاني: أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية، والحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها.
الوجه الثالث: أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل.
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً قال ابن عباس: البرد النوم وقيل بردا أي روحا وراحة، وقيل لا يذوقون بردا ينفعهم.
وَلا شَراباً أي يغنيهم عن عطش إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً أي لكن يشربون حميما قيل هو الصفر المذاب، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقا قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده، وقيل هو صديد أهل النار.
[سورة النبإ (78) : الآيات 26 الى 37]
جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
جَزاءً وِفاقاً أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي التي جاءت بها الأنبياء، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب كِذَّاباً، أي تكذيبا قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير وَكُلَّ شَيْءٍ أي من الأعمال أَحْصَيْناهُ أي بيناه وأثبتناه كِتاباً أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علما لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا فَذُوقُوا أي يقال لهم ذوقوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.
قوله عز وجل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي فوزا أي نجاة من العذاب، وقيل فوزا بما طلبوه من نعيم الجنة، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعا لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم.
ثم فسره فقال حَدائِقَ جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون وَأَعْناباً التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب وَكَواعِبَ جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن أَتْراباً يعني مستويات في السن وَكَأْساً دِهاقاً قال ابن عباس: مملوءة مترعة، وقيل متتابعة، وقيل صافية لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم لَغْواً أي باطلا من الكلام وَلا كِذَّاباً أي تكذيبا والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضا ولا ينطقون به جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حسابا أي كافيا وافيا، وقيل حسابا يعني كثيرا، وقيل جزاء بقدر أعمالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(4/388)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، وقيل لا يملكون منه خطابا أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم.
[سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 40]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل هو جبريل عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس: الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوفا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون من عظم خلقه مثلهم، وقال ابن مسعود: الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا وحده، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفا والملائكة صفا، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة لا يَتَكَلَّمُونَ يعني الخلق كلهم إجلالا لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي في الكلام وَقالَ صَواباً أي حقا في الدنيا وعمل به، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرّحمن في الشفاعة له، وذلك الشخص ممن كان يقول صوابا في الدنيا، وهو لا إله إلا الله ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي سبيلا يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه نَّا أَنْذَرْناكُمْ
أي خوفناكم في الدنياذاباً قَرِيباً
أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
يعني من خير أو شر مثبتا في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة. يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
قال عبد الله بن عمرو «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها. فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا» وقيل يقول الله عز وجل للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا ترابا، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم، وكنت اليوم ترابا وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا ترابا فيعودون ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا، وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير، والرحمة، قال يا ليتني كنت ترابا يعني متواضعا في طاعة الله في الدنيا، ولم أكن جبارا متكبرا، وقيل إن الكافر ها هنا هو إبليس، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/389)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
سورة النازعات
مكية وهي ست وقيل خمس وأربعون آية ومائة وسبع وتسعون كلمة وسبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2)
قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات هل هي صفات لشيء واحد أم لأشياء مختلفة على أوجه واتفقوا على أن المراد بقوله فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً وصف لشيء واحد وهم الملائكة:
الوجه الأول: في قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم.
كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، والغرق من الإغراق أي، والنازعات إغراقا وقال ابن مسعود:
«إن ملك الموت، وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء» وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً الملائكة تنشط نفس المؤمن أي تسلها سلّا رفيقا فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وإنما خص النزع بنفس الكافر والنشط بنفس المؤمن، لأن بينهما فرقا فالنزع جذب بشدة والنشط جذب برفق، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة، وقيل هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه. يقال له سابح فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وقيل هم الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.
الوجه الثاني: في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني النفس حين تنزع من الجسد، فتغرق في الصدر ثم تخرج وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، قال ابن عباس: هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة، وذلك لأنه يعرض عليه مقعده في الجنة قبل أن يموت وقال علي بن أبي طالب: هي أرواح الكفار تنشط بين الجلد، والأظفار حتى تخرج من أفواههم بالكرب والغم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 3 الى 7]
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني أرواح المؤمنين حين تسبح في الملكوت فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني استباقها إلى الحضرة المقدسة.
الوجه الثالث: في قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، يعني النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، يعني النجوم(4/390)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
والشمس والقمر يسبحون في الفلك. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني النجوم يسبق بعضها بعضا في السير.
الوجه الرابع: في قوله تعالى وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. يعني خيل الغزاة تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها وهي الناشطات نشطا لأنها تخرج بسرعة إلى ميدانها، وهي السابحات في جريها، وهي السابقات سبقا لاستباقها إلى الغاية.
الوجه الخامس: في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الغزاة حين تنزع قسيها في الرمي فتبلغ غاية المد وهو قوله غرقا، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، أي السّهام في الرمي وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني الخيل والإبل حين يخرجها أصحابها إلى الغزو.
الوجه السادس: ليس المراد بهذه الكلمات شيئا واحدا، فقوله والنازعات يعني ملك الموت ينزع النفوس غرقا حتى بلغ بها الغاية، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني النفس تنشط من القدمين بمعنى تجذب، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني السفن، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني مسابقة نفوس المؤمنين إلى الخيرات والطاعات.
أما قوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، فأجمعوا على أنهم الملائكة قال ابن عباس: هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله عز وجل: العمل بها وقال عبد الرّحمن بن سابط يدبر الأمر في الدنيا أربعة أملاك جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، واسمه عزرائيل، فأما جبريل فموكل بالرّياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنّبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى أقسم الله بهذه الأشياء لشرفها، ولله أن يقسم بما يشاء من خلقه، أو يكون التقدير، ورب هذه الأشياء، وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن، ولتحاسبن، وقيل جوابه «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وقيل هو قوله:
[سورة النازعات (79) : الآيات 8 الى 14]
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني النفخة الأولى يتزلزل ويتحرك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلق تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، وقال قتادة: هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله عز وجلّ وقيل الرّاجفة التي تزلزل الأرض، والجبال والرادفة التي تشق السماء، وقيل الراجفة القيامة والرّادفة البعث يوم القيامة روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذهب ربع اللّيل قام وقال: أيّها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه.
قوله عز وجل: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي خافقة قلقة مضطربة، وقيل وجله زائلة عن أماكنها أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها خاشعة ذليلة، والمراد بها لكفار بدليل قوله تعالى: يَقُولُونَ يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون بعد الموت. أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يعني أنرد إلى أول الحال، وابتداء الأمر فنصير أحياء بعد الموت كما كنا أول مرة والعرب تقول رجع فلان في حافرته، أي رجع من حيث جاء فالحافرة عنده اسم لابتداء الشيء وأول الشيء ويقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه الذي جاء منه يحفره بمشيئته، فحصل بأثر قدميه حفر فهي محفورة في الحقيقة، وقيل الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم سميت حافرة لأنها يستقر عليها الحافر، والمعنى أإنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها، وقيل الحافرة النار أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي بالية وقرئ ناخرة وهما بمعنى، وقيل الناخرة المجوفة التي يمر فيها الريح(4/391)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
فتنخر أي توصت قالُوا يعني المنكرين للبعث إذا عاينوا أهوال القيامة تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي رجعة غابنة يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت. فَإِنَّما هِيَ يعني النفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة يجمعون بها جميعا فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض سميت ساهرة لأن عليها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل هي التي كثر الوطء عليها كأنها سهرت، والمعنى أنهم كانوا في بطن الأرض. فلما سمعوا الصيحة صاروا على وجهها، وقيل هي أرض الشام وقيل أرض القيامة، وقيل هي أرض جهنم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 27]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27)
قوله عز وجل: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يا محمد وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم شق عليه حين كذبه قومه، فذكر له قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه كان يتحمل المشاق من قومه ليتأسى به إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً هو اسم واد بالشام عند الطور اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي علا وتكبر وكفر بالله فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي تتطهر من الشّرك والكفر، وقيل معناه تسلم وتصلح العمل وقال ابن عباس: تشهد أن لا إله إلا الله وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فَتَخْشى يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه فَأَراهُ أي أرى موسى فرعون الْآيَةَ الْكُبْرى يعني اليد البيضاء والعصا فَكَذَّبَ يعني فرعون بأنها من الله وَعَصى أي تمرد وأظهر التجبر ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الإيمان يَسْعى يعمل الفساد في الأرض فَحَشَرَ أي فجمع قومه وجنوده فَنادى أي لما اجتمعوا فَقالَ يعني فرعون لقومه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي لا رب فوقي، وقيل أراد أن الأصنام أرباب وهو ربها وربهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي عاقبة فجعله عبرة لغيره بأن أغرقه في الدنيا ويدخله النار في الآخرة، وقيل أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون وهما قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى أي يخاف الله عز وجل ثم عاتب منكري البعث فقال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها معناه أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السّماء عندكم في تقديركم.
فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد، لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها وعظم أحوالها كان يسيرا فبين تعالى: أن خلق السماء أعظم، وإذا كان كذلك كان خلقكم بعد الموت أهون على الله تعالى: فكيف تنكرون ذلك مع علمكم بأنه خلق السموات والأرض ولا تنكرون ذلك. ثم إنه تعالى ذكر كيفية خلق السّماء والأرض فقال تعالى:(4/392)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
[سورة النازعات (79) : الآيات 28 الى 44]
رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37)
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
رَفَعَ سَمْكَها يعني علو سمتها، وقيل رفعها بغير عمد فَسَوَّاها أي أتقن بناءها، فليس فيها شقوق، ولا فطور، وَأَغْطَشَ أي أظلم لَيْلَها والغطش الظلمة وَأَخْرَجَ أي وأظهر وأبرز ضُحاها أي نهارها، وإنما عبر عن النهار بالضحى لأنه أكمل أجزاء النهار في النور، والضوء، وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان بسبب غروب الشمس وطلوعها، وهي في السماء ثم وصف كيفية خلق الأرض. فقال تعالى:
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها ومدها قال أمية بن أبي الصلت:
دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر
فإن قلت ظاهر هذه الآية، يقتضي أن الأرض خلقت بعد السّماء بدليل قوله تعالى بَعْدَ ذلِكَ وقد قال تعالى: في حم السّجدة ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فكيف الجمع بين الآيتين وما معناهما.
قلت خلق الله الأرض أولا مجتمعة، ثم سمك السماء ثانيا، ثم دحا الأرض بمعنى مدها وبسطها. ثالثا، فحصل بهذا التفسير الجمع بين الآيتين، وزال الإشكال قال ابن عباس: خلق الله الأرض بأقواتها، من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقيل معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي مع ذلك أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أي فجر من الأرض عيونها، ومرعاها أي رعيها، وهي ما يأكله النّاس، والأنعام واستعير الرعي للإنسان على سبيل التّجوز.
وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي الذي أخرج من الأرض هو بلغة لكم ولأنعامكم.
قوله عز وجل: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يعني النّفخة الثانية، التي فيها البعث، وقيل الطامة القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتعلو عليه، والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمل في الدنيا من خير، أو شر. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى يعني أنه ينكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق فَأَمَّا مَنْ طَغى أي كفر وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي لمن هذه صفته وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي المحارم التي يشتهيها وقيل هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه بين يديه جلّ جلاله للحساب فيتركها لذلك فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي لمن هذه صفته.
قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ أي يا محمد عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى ظهورها وقيامها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي لست في شيء من علمها وذكراها حتى تهتم لها وتذكر وقتها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها لا يعلم متى تقوم الساعة إلا هو، وقيل معناه فيم إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السّؤال، ثم قال أنت يا محمد من ذكراها، أي من علامتها، لأنك آخر الرّسل، وخاتم الأنبياء، فكفاهم ذلك دليلا على دنوها، ووجوب الاستعداد لها.
[سورة النازعات (79) : الآيات 45 الى 46]
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي إنما ينفع إنذارك من يخافها. كَأَنَّهُمْ يعني الكفار يَوْمَ يَرَوْنَها أي يعاينون يوم القيامة. لَمْ يَلْبَثُوا أي في الدنيا، وقيل في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.
فإن قلت العشية ليس لها ضحى فما معنى قوله أَوْ ضُحاها؟
قلت قيل إن الهاء والألف صلة، والمعنى لم يلبثوا إلا عشية، أو ضحى، وقيل إضافة الضّحى إلى العشية، إضافة إلى يومها، كأنه قال: إلا عشية أو ضحى يومها. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/393)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
سورة عبس
مكية وهي إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثون وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
قوله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّى أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى يعني ابن أم مكتوم، واسمه عمرو، وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديما بمكة، وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وأبي بن خلف، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكرر النّداء، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقطعه كلامه، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان، والعبيد، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك يكرمه إذا رآه، ويقول مرحبا بمن عاتبني الله فيه ويقول له هل لك من حاجة، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين، وقيل قتل شهيدا بالقادسية قال أنس: رأيته يوم القادسية، وعليه درع ومعه راية سوداء، عن عائشة رضي الله عنها قالت «أنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يقول يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأسا فيقول لا ففي هذا أنزلت» أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب وَما يُدْرِيكَ أي أي شيء يجعلك داريا لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك.
[سورة عبس (80) : الآيات 4 الى 15]
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي الموعظة أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما له من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتعرض له، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا يؤمن، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم(4/394)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
وَهُوَ يَخْشى أي الله عز وجل فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل وتعرض عنه كَلَّا أي لا تفعل بعدها مثلها إِنَّها يعني الموعظة وقيل آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي موعظة للخلق فَمَنْ شاءَ أي من عباد الله ذَكَرَهُ أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن، ومحله عنده فقال عز وجل فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني القرآن في اللّوح المحفوظ مَرْفُوعَةٍ أي رفيعة القدر عند الله، وقيل مرفوعة في السّماء السابعة مُطَهَّرَةٍ يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس: يعني كتبة، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير، ثم أثنى عليهم. بقوله:
[سورة عبس (80) : الآيات 16 الى 25]
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25)
كِرامٍ أي هم كرام على الله بَرَرَةٍ أي مطيعين له جمع بار.
قوله عز وجل: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر وطرد ما أَكْفَرَهُ أي أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب، وقيل في أمية بن خلف، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر، وقيل الآية عامة في كل كافر، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن الله تعالى: خالقه منه فقال تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ لفظه استفهام ومعناه التّقرير، ثم فسر ذلك فقال تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني خلقه أطوارا نطفة ثم علقة، ثم مضغة، إلى آخر خلقه، وقيل قدره يعني خلق رأسه، وعينيه ويديه، ورجليه على قدر ما أراده ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعل له قبرا يوارى فيه، وقيل جعله مقبورا، ولم يجعله ملقى للسّباع، والوحوش والطّيور، أو أقبره معناه ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. ثم قال تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أحياه بعد موته للبعث، والحساب وإنما قال تعالى ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة الله تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم كَلَّا ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وإنكار البعث والحساب لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره به ربه، ولم يؤد ما فرض عليه، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه، ويسره ودبره له وجعله سببا لحياته، وقيل مدخل طعامه ومخرجه. ثم بين ذلك فقال تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني المطر.
[سورة عبس (80) : الآيات 26 الى 37]
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30)
وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)
وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي بالنبات فَأَنْبَتْنا فِيها أي بذلك الماء حَبًّا يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان وَعِنَباً يعني أنه غذاء من وجه، وفاكهة من وجه، فلهذا أتبعه الحب وَقَضْباً يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب، أي يقطع في كل الأيام، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب.(4/395)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
وَزَيْتُوناً وهو ما يعصر منه الزيت وَنَخْلًا وَحَدائِقَ جمع حديقة غُلْباً يعني غلاظ الأشجار، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض. وقال ابن عباس: طوالا وَفاكِهَةً يعني جميع ألوان الفاكهة وَأَبًّا يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام، وقيل فاكهة ما يأكله الناس، والأب ما يأكله الدّواب. وقال ابن عباس: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس. والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله: وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (خ) عن أنس أن عمر قرأ وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال فما الأب، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه. مَتاعاً لَكُمْ يعني الفواكه والحب، والعشب منفعة لكم وَلِأَنْعامِكُمْ ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه، والمراد من الفرار التّباعد، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحشرون حفاة عراة غرلا، فقالت امرأة أيبصر أحدنا، أو يرى بعضنا عورة بعض قال: يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح ولما ذكر الله تعالى حال القيامة، وأهوالها بين حال المكلفين، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء. فوصف السّعداء بقوله تعالى:
[سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 42]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء، وقيل مسفرة من قيام اللّيل، وقيل من أثر الوضوء، وقيل من الغبار في سبيل الله ضاحِكَةٌ أي عند الفراغ من الحساب مُسْتَبْشِرَةٌ أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة الله، ورضوانه. ثم وصف الأشقياء فقال تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي تعلوها، وتغشاها ظلمة، وكسوف وقال ابن عباس: تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء أُولئِكَ أي الذين صنع بهم هذا هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ جميع كافر وفاجر والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/396)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
سورة التكوير
مكية وهي تسع وعشرون آية ومائة، وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثون حرفا.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» أخرجه الترمذي.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قوله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس: أظلمت، وغورت، وقيل اضمحلت، وقيل لفت كما تلف العمامة، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها، قال ابن عباس: يكور الله الشّمس، والقمر، والنّجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا. (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة» قيل إن الشّمس، والقمر، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سببا لازدياد الحر في جهنم.
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تناثرت من السماء، وسقطت على الأرض. قال الكلبي وعطاء: تمطر السّماء يومئذ نجوما، فلا يبقى نجم إلا وقع وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي عن وجه الأرض، فصارت هباء منثورا. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها، واحدتها عشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت، وتركت هملا بلا راع أهملها أهلها، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة. وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني من دواب البر حُشِرَتْ أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض. وقال ابن عباس:
حشرها موتها قال: وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال ابن عباس: أوقدت فصارت نارا تضطرم، وقيل فجر بعضها في بعض العذاب، والملح حتى صارت البحار كلها بحرا واحدا وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار، وقيل سجرت أي يبست، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة.
قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت، واضطربت، وفزعت الإنس، والجن، واختلطت الدّواب، والطّير، والوحش، وماج بعضهم في بعض. فذلك قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ(4/397)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
فحينئذ تقول الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فينطلقون إلى البحر، فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا، وستة في الآخرة، وهي ما ذكر بعد هذه. وهو قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار، وقيل ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله، وقيل زوّجت النّفوس بأعمالها، وقيل زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين، وقيل معنى زوّجت ردت الأرواح إلى الأجساد.
[سورة التكوير (81) : الآيات 8 الى 13]
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ يعني الجارية التي دفنت، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيئدها، أي يثقلها حين تموت، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. تدفن البنات حية مخافة العار، والحاجة، وروي عن ابن عباس قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإذا ولدت غلاما حبسته، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف، أو شعر وتركها ترعى الإبل، والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر بئرا في الصّحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، فإذا نظرت دفعها من ورائها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الوائدة، والموءودة في النّار» أخرجه أبو داود، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال:
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ معناه تسأل الموءودة، فيقال لها، بأي ذنب قتلت، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها.
لأنها قتلت بغير ذنب. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي نزعت، وطويت، وقيل قلعت كما يقلع السقف، وقيل كشفت، وأزيلت عمن فيها. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت لأعداء الله تعالى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت لأولياء الله.
[سورة التكوير (81) : الآيات 14 الى 22]
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا.
قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ لا زائدة والمعنى أقسم، وقد تقدم ذلك في قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ.
بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ يعني النّجوم تبدو بالليل، فتظهر، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب، وقيل هي النّجوم الخمسة زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد،(4/398)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
تخنس في مجاريها، أي ترجع وراءها في الفلك، وتنكس، أي تستر وقت اختفائها، وقيل إنها تخنس، أي تتأخر عن مطالعها، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار، وقيل هي الظباء، وهي رواية عن ابن عباس، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل بظلامه وقيل أدبر، والعسعسة رقة الظّلام، وذلك يكون في طرف الليل. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر.
وفي تنفسه قولان أحدهما: أن في إقبال الصبح روحا، ونسيما فجعل ذلك نفسا على المجاز الثاني، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون، فإذا تنفس وجد راحة، فكأنه تخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى: إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن الله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود، وحملها على جناحه، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وأنه صاح صيحة بثمود، فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي في المنزلة والجاه مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات تطيعه الملائكة، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله أَمِينٍ يعني على وحي الله تعالى إلى أنبيائه وَما صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يخاطب كفار مكة بِمَجْنُونٍ وهذا أيضا من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى الله عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه.
[سورة التكوير (81) : الآيات 23 الى 29]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
وَلَقَدْ رَآهُ يعني رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال: لن تقوى على ذلك قال، بلى قال، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح، قال لا يسعني ذلك، قال: فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات، قال: لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق، والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل عن صورته، وضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته» وَما هُوَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السّماء، وما اطلع عليه مما كان غائبا عن علمه من القصص والأنباء. بِضَنِينٍ قرأ بالظاء، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة، وقرئ بضنين بالضاد، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب، ولا يبخل به عليكم، ويخبركم به، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وهو أجرة الكاهن، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفى الله عنه تلك التهمة، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب. وَما هُوَ يعني(4/399)
القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ يعني إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة كما قالت قريش، وقيل كانوا يقولون إن شيطانا يلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك عنه، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأين تعدلون عن القرآن، وفيه الشفاء، والهدى، والبيان، وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم. إِنْ هُوَ يعني ما في القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي يتبع الحق، ويقيم عليه، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته فقال تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أعلمهم الله أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله، وتوفيقه، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله تعالى ولا شرا إلا بخذلانه، ومشيئته والله تعالى أعلم.(4/400)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
سورة الانفطار
مكية وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قوله عز وجل: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح، فصارت بحرا واحدا، وقيل معنى فجرت فاضت.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي بحثرت، وقلب ترابها وبعث من فيها منه الموتى أحياء. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يعني علمت في ذلك اليوم ما قدمت من عمل صالح، أو سيئ، وأخرت بعدها من حسنة أو سيئة، وقيل ما قدمت من الصّدقات وأخرت من الزّكوات، وهذه أحوال يوم القيامة. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي ما خدعك، وسول لك الباطل حتى صنعت ما صنعت، وضيعت ما أوجب عليك، والمعنى ماذا أمنك من عقابه، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل في أبي الشّريق، واسمه أسيد بن كلدة، وقيل كلدة بن خلف، وكان كافرا ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يعاقبه الله وأنزل الله هذه الآية، وقيل الآية عامة في كل كافر وعاص، يقول ما الذي غرك، قيل غره حمقه، وجهله وقيل تسويل الشّيطان له، وقيل غره عفو الله عنه حيث لم يعاجله بالعقوبة في أول مرة بربك الكريم، أي المتجاوز عنك، فهو بكرمه لك لم يعاجلك بعقوبته بل بسط لك المدة لرجاء التّوبة. قال ابن مسعود «ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة. فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم! ماذا عملت؟ فيما علمت يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين» ، وقيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة فيقول لك يا ابن آدم ما غرك بربك الكريم ماذا كنت تقول. قال: أقول غرني ستورك المرخاة، وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه، وقال ما غرك بي أقول غرني بربك بي سالفا وآنفا، وقال أبو بكر الوراق لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت غرني كرم الكريم، وقال بعض أهل الإشارة. إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه، وصفاته كأنه لقنه حجته في الإجابة حتى يقول غرني كرم الكريم.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 7 الى 15]
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11)
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15)
الَّذِي خَلَقَكَ أي أوجدك من العدم إلى الوجود فَسَوَّاكَ أي جعلك سويا سالم الأعضاء، تسمع(4/401)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
وتبصر فَعَدَلَكَ أي عدل خلقك في مناسبة الأعضاء فلم يجعل بعضها أطول من بعض، وقيل معناه جعلك قائما معتدلا حسن الصّورة، ولم يجعلك كالبهيمة المنحنية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم، وجاء في الحديث «إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ، وقيل معناه إن شاء ركبك في صورة إنسان، وإن شاء في صورة دابة أو حيوان، وقيل في أي صورة ما شاء ركبك من الصور المختلفة بحسب الطول، والقصر، والحسن، والقبح والذكورة، والأنوثة، وفي هذه دلالة على قدرة الصانع المختار القادر. وذلك أنه لما اختلفت الهيئات، والصفات دل ذلك على كمال القدرة، واتساع الصنعة، وأن المدبر المختار هو الله تعالى.
قوله عز وجل: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي بيوم الحساب والجزاء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يعني رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كِراماً أي على الله كاتِبِينَ أي يكتبون أقوالكم وأعمالكم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعني من خير أو شر. قوله عز وجل إِنَّ الْأَبْرارَ يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء ما افترض الله عليهم، واجتناب معاصيه. لَفِي نَعِيمٍ يعني نعيم الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ روي أن سليمان بن عبد الملك قال: لأبي حازم المزني ليت شعري ما لنا عند الله، فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله، قال: أين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 16 الى 19]
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي عن النّار ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ قيل المخاطب بذلك هو الكافر، وهو على وجه الزّجر له، وقيل هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: والمعنى أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ التكرير لتعظيم ذلك اليوم، وتفخيم شأنه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي لا تملك نفس كافرة لنفس كافرة شيئا من المنفعة وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يعني أنه لم يملك الله في ذلك أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا، والله أعلم.(4/402)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
سورة المطففين
مدنية في قول ومكية في قول: وقيل فيها ثمان آيات مكية وهي من قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخرها، وقيل فيها آية مكية، وهي قوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقيل إنها نزلت بين مكة، والمدينة زمن الهجرة، وهي ست وثلاثون آية ومائة وتسع وستون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
قوله عز وجل: وَيْلٌ أي قبح وهي كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال ويل له وويل عليه، وقيل ويل اسم واد في جهنم لِلْمُطَفِّفِينَ يعني الذين ينقصون المكيال والميزان لأنه لا يكاد المطفف يسرق في الكيل والوزن، إلا الشيء اليسير الطّفيف قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلا.
فأنزل الله عز وجل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل، وقيل لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وبها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية وجعل الويل للمطففين ثم بين من هم. فقال تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ يعني أنهم إذا اكتالوا من النّاس، ومن وعلى يتعاقبان، وقيل معناه إذا اكتالوا من النّاس، أي اشتروا شيئا استوفوا عليهم لأنفسهم الكيل والوزن.
[سورة المطففين (83) : الآيات 3 الى 7]
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يعني وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للناس كما يقال نصحتك ونصحت لك.
يُخْسِرُونَ أي ينقصون الكيل والوزن وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع إلى غيره ناقصا، ويتناول الوعيد القليل والكثير لكن إذا لم يتب منه فإن تاب منه ورد الحقوق إلى أهلها قبلت توبته ومن فعل ذلك، وأصر عليه كان مصرا على كبيرة من الكبائر، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والذرع، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن، قال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، وقال قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك، قال الفضيل: بخس الميزان سواد يوم القيامة. أَلا يَظُنُّ أي ألا يعلم ويستيقن أُولئِكَ أي الذين يفعلون هذا الفعل، وهم المطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ يعني من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمره وجزائه وحسابه (ق) عن نافع «أن ابن عمر تلا أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، قال يقوم أحدهم في(4/403)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
رشحه إلى أنصاف أذنيه» ، وروي مرفوعا عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «تدنو الشّمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل» زاد التّرمذي أو ميلين «قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض، أو الميل ما تكتحل به العين قال فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديه إلى فيه» قوله عز وجل: كَلَّا قيل إنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من بخس الكيل والميزان، فليرتدعوا عنه فعلى هذا تم الكلام هنا، وقيل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ أي الذي كتبت فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال ابن عمر هي الأرض السابعة السفلى، وفيها أرواح الكفار وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين رق، فليتم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وقيل هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها فتقلب، ويجعل كتاب الفجار تحتها، قال وهب: هي آخر سلطان إبليس وجاء في الحديث «الفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب في جهنم مفتوح» ، وقيل معناه لفي سجين لفي خسار وضلال، وقيل إنه مشتق من السجن، ومعناه لفي حبس وضيق شديد.
[سورة المطففين (83) : الآيات 8 الى 14]
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك، وقيل إنما قال ذلك تعظيما لأمر سجين كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس هذا تفسيرا للسجن وإنما هو بيان للكتاب المذكور في قوله إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ والمعنى إن كتاب الفجار مرقوم أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثّوب لا ينسى ولا يمحى حتى يحاسبوا به، ويجازوا عليه، وقيل مرقوم رقم عليه بشر كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر، وقيل مرقوم أي مختوم وهو بلغة حمير وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قيل إنه متصل بقوله يوم يقوم النّاس لرب العالمين ومعنى الآية ويل لمن كذب بهذا اليوم، وقيل معناه مرقوم بالشّقاوة، ثم قال ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم من ذلك الكتاب المرقوم عليهم بالشقاوة الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي بيوم القيامة إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوز عن نهج الحق أَثِيمٍ هو مبالغة في الآثم وهو المرتكب الإثم والمعاصي إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأولين.
قوله عز وجل: كَلَّا أي لا يؤمن ثم استأنف فقال بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن العبد إن أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي قال الله: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح وأصل الرّان الغلبة ومعنى الآية أن الذّنوب والمعاصي غلبت على قلوبهم وأحاطت بها، وقيل هو الذنب على الذّنب حتى يميت القلب وقال ابن عباس: ران على قلوبهم طبع عليها، وقيل الرين أن يسود القلب من الذّنوب، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرّين والإقفال أشد من الطّبع وقيل الرّين التغطية، والمعنى أنه يغشى القلب شيء كالصدى فيغطيه فعند ذلك يموت القلب.(4/404)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
[سورة المطففين (83) : الآيات 15 الى 20]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)
كَلَّا قال ابن عباس يريد لا يصدقون وقيل معناه ليس الأمر كما يقولون إن لهم في الآخرة خيرا ثم استأنف فقال تعالى: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قيل عن كرامته ورحمته ممنوعون، وقيل إن الله لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهذا التّفسير فيه ضعف أما حمله على منع الكرامة والرّحمة فهو عدول عن الظّاهر بغير دليل، وكذا الوجه الثاني فإن من حجب عن الله فإن الله لا ينظر إليه نظر رحمة، ولا يزكيه والذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنهم محجوبون عن رؤية الله، وهذا هو الصّحيح واحتج بهذه الآية من أثبت الرّؤية للمؤمنين قالوا:
لولا ذلك لم يكن للتّخصيص فائدة، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتّهديد للكفار، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمنين، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمنين قال الحسن: لو علم الزّاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدّنيا.
وقيل كما حجبهم في الدّنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وسئل مالك عن هذه الآية، فقال: لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقال الشافعي في قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ دلالة على أن أولياء الله يرون الله جلّ جلاله وعنه كما حجب قوما بالسّخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبون عن الله يدخلون النّار. فقال عز من قائل ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي لداخلو النّار ثُمَّ يُقالُ أي تقول لهم الخزنة هذَا أي هذا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يعني في الدنيا كَلَّا أي ليس الأمر كما يتوهمه الفجار من إنكار البعث، وقيل كلا أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه، ثم بين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ جمع علي من العلو، وقيل هو موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه وتقدم من حديث البراء المرفوع إن عليين في السّماء السابعة تحت العرش وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه، وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس في رواية عنه في الجنة، وقيل هي سدرة المنتهى، وقيل معناه علو بعد علو وشرف بعد شرف، وقيل هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظّمها الله وأعلاها. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تنبيها له على عظم شأنه كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسير العليين، والمعنى أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين فيه ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة، وقيل مكتوب فيه أعمالهم وعليون محل الملائكة وضده سجين، وهو محل إبليس وجنوده.
[سورة المطففين (83) : الآيات 21 الى 27]
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، أي يحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال: يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة لكرامة المؤمن.
قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المطيعين لله لَفِي نَعِيمٍ يعني نعيم الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي الأسرة في الحجال يَنْظُرُونَ أي إلى ما أعد الله لهم من نعيم الجنة، وقيل ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النّار، وقيل ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يعني أنك إذا رأيتهم تعرف أنهم من أهل النعمة لما ترى على وجوههم من النّور والحسن والبياض، قيل النضرة في الوجه والسرور في(4/405)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
القلب يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ يعني الخمر الصّافية الطّيبة البيضاء مَخْتُومٍ يعني ختم على ذلك الشراب ومنع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختمه الأبرار.
فإن قلت قد قال في سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ والنهر لا يختم عليه فكيف طريق الجمع بين الآيتين، قلت يحتمل أن يكون المذكور في هذه الآية. في أوان مختوم عليها، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار، وإنما ختم عليها لشرفها ونفاستها خِتامُهُ مِسْكٌ أي طينته التي ختم عليه بها مسك بخلاف خمر الدّنيا فإن ختامها طين وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه، وعاقبته مسك، وقيل يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الرّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عز وجل، ليحصل لهم هذا الشّراب المختوم بالمسك وقيل أصله من الشيء النّفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن ويبخل وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أي شراب ينصب عليهم من غرفهم ومنازلهم وقيل يجري في الهواء مسنما فيصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلأت أمسك وأصل هذه الكلمة من العلو ومنه سنام البعير لأنه أعلاه، وقيل هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف شراب أهل الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونه صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة، وسئل ابن عباس عن قوله من تسنيم فقال: هذا مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 28 الى 34]
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي منها وقيل يشربها الْمُقَرَّبُونَ أي صرفا وقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أشركوا يعني كفار قريش أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي أهل مكة كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي من عمار وخباب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين يَضْحَكُونَ أي منهم ويستهزئون بهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
يعني مر المؤمنون الفقراء بالكفار الأغنياء يَتَغامَزُونَ
يعني يتغامز الكفار والغمز الإشارة بالجفن والحاجب أي يشيرون إليها بالأعين استهزاء بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ يعني الكفار انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي معجبين بما هم فيه، وقيل ينقلبون بذكرهم كأنهم يتفكهون بحديثهم وَإِذا رَأَوْهُمْ يعني رأوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي هم في ضلال يأتون محمدا ويرون أنهم على شيء. قال الله عز وجل: وَما أُرْسِلُوا يعني المشركين عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين حافِظِينَ أي لأعمالهم والمعنى أنهم لم يوكلوا بحفظ أعمالهم قوله عز وجل: فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ وسبب هذا الضحك أن الكفار لما كانوا في الدّنيا يضحكون من المؤمنين لما هم فيه من الشدة والبلاء فلما أفضوا إلى الآخرة انعكس ذلك الأمر فصار المؤمنون في السرور والنّعيم وصار الكفار في العذاب والبلاء، فضحك المؤمنون من الكافرين لما رأوا حالهم وقال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النّار وهم فيها ويقال لهم اخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم فيفعل ذلك بهم مرارا والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم وقال كعب بين الجنة والنّار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه في الدّنيا من الكفار اطلع عليه من تلك الكوى وهو يعذب فيضحك منه فذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.(4/406)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
[سورة المطففين (83) : الآيات 35 الى 36]
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهو السرير ويتخذ في الحجلة وهي الكلة يزين بها البيت، وأرائك الجنة من الدر والياقوت يَنْظُرُونَ يعني إليهم وهم في النّار يعذبون قال الله تعالى هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي جوزي الكفار ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي بالمؤمنين من الاستهزاء والضحك وهذا الاستفهام بمعنى التقرير، وثوب، وأثيب بمعنى، قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/407)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
سورة الانشقاق
(مكية وهي خمس وعشرون آية ومائة وسبع كلمات وأربعمائة وثلاثون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
قوله عز وجل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ يعني عند قيام السّاعة وهي من علاماتها وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي سمعت أمر ربها بالانشقاق، وأطاعته من الأذن وهو الاستماع وَحُقَّتْ أي حق لها أن تطيع أمر ربها وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ يعني مد الأديم العكاظي وزيد في سعتها، وقيل سويت فلا يبقى فيها بناء ولا جبل وَأَلْقَتْ ما فِيها أي أخرجت ما في بطنها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ أي من ذلك الذي كان في بطنها من الموتى والكنوز وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ واختلفوا في جواب إذا فقيل جوابه محذوف تقديره إذا كان هذه الأشياء يرى الإنسان الثواب أو العقاب، وقيل جوابه يا أيّها الإنسان إنك كادح والمعنى إذا انشقت السّماء لقي كل كادح ما عمله وقيل جوابه وأذنت وحينئذ تكون الواو زائدة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي ساع إليه في عملك سعيا والكدح عمل الإنسان وجهده في الأمرين الخير والشّر، وقيل معناه عامل لربك عملا وقيل معناه إنك كادح في لقاء ربك وهو الموت، والمعنى أن هذا الكدح يستمر بك إلى الموت، وقيل معناه إنك تكدح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك. فَمُلاقِيهِ أي فملاق جزاء عملك.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 8 الى 17]
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12)
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17)
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سوف من الله واجب والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله، فيعرف بالطاعة، والمعصية ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز له عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة فيه على صاحبه، ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه، ولا الحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذرا، ولا حجة فيفتضح (ق) عن ابن أبي مليكة أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من حوسب عذب قال: فقلت، أو ليس يقول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا(4/408)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
يسيرا قالت فقال إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني في الجنة من الحور العين والآدميات مَسْرُوراً أي بما أوتي من الخير والكرامة وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ يعني أنه تغل يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره، فيعطي كتابه بشماله من وراء ظهره، وقيل تخلع يده الشّمال فتخرج من وراء ظهره فيعطي بها كتابه فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يعني عند إعطائه كتابه بشماله من وراء ظهره يعلم أنه من أهل النّار فيدعو بالويل والهلاك، فيقول يا ويلاه يا ثبوراه وَيَصْلى سَعِيراً أي ويقاسي التهاب النّار وحرها إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً يعني باتباع هواه وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلينا ولن يبعث والحور الرجوع بَلى ليس الأمر كما ظن بل يحور إلينا، ويبعث ويحاسب إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي من يوم خلقه إلى أن يبعث قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ تقدم الكلام فَلا أُقْسِمُ في سورة القيامة.
وأما الشّفق فقال مجاهد: هو النهار كله وحجته في ذلك أنه عطف عليه فيجب أن يكون المذكور أولا هو النهار فعلى هذا الوجه يكون القسم باللّيل والنهار اللذين فيهما معاش العالم وسكونه، وقيل هو ما بقي من النّهار وقال ابن عباس، وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشّمس، وهو مذهب عامة العلماء، وقيل هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة وهو مذهب أبي حنيفة وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضم ما كان منتشرا بالنهار من الخلق والدواب والهوام وذلك أن اللّيل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه، وقيل وما عمل فيه ويحتمل أن يكون ذلك تهجد العباد، فيجوز أن يقسم به.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 18 الى 21]
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع وتم نوره وذلك في الأيام البيض، وقيل استدار واستوى، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى لَتَرْكَبُنَّ قرئ بفتح الباء وهو خطاب الواحد والمعنى لتركبن يا محمد طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يعني سماء بعد سماء وقد فعل الله ذلك معه ليلة أسري به، فأصعده سماء بعد سماء، وقيل درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى: وقيل معناه لتركبن حالا بعد حال (خ) عن ابن عباس قال:
لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال هذا لنبيكم صلّى الله عليه وسلّم ومعنى هذا يكون لك الظفر والغلبة على المشركين حتى يختم لك بجميل العاقبة فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وقرئ لتركبن بضم الباء، وهو الأشبه ويكون خطاب الجمع والمعنى لتركبن أيّها النّاس حالا بعد حال وأمرا بعد أمر، وذلك في موقف القيامة تتقلب بهم الأحوال فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وقال ابن عباس يعني الشّدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، وقيل حال الإنسان حالا بعد حال رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم كهل ثم شيخ، وقيل معناه لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم. (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لتتبعن سنن من كان قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى قال فمن» ، وقيل في معنى الآية إنه أراد به السّماء تتغير لونا بعد لون فتصير تارة وردة كالدّهان وتارة كالمهل وتنشق مرة وتطوي أخرى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بالبعث والحساب وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ يعني لا يصلون فعبر بالسّجود عن الصّلاة لأنه جزء منها، وقيل أراد به سجود التلاوة وهذه السّجدة أحد سجدات القرآن عند الشّافعي ومن وافقه (ق) عن رافع قال «صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد، فقلت ما هذا قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم فلا أزال(4/409)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
أسجد فيها حتى ألقاه ولمسلم عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ يعني بالقرآن والبعث وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ يعني يجمعون في صدورهم من التكذيب فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني على عنادهم وكفرهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير مقطوع ولا منقوص في الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/410)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
سورة البروج
مكية وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلمات وأربعمائة وخمسة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
قوله عز وجل: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ يعني البروج الاثني عشر وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب حكمة الباري جلّ جلاله، وهو سير الشّمس والقمر الكواكب فيها على قدر معلوم لا يختلف وقيل البروج والكواكب العظام سميت بروجا لظهورها وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يعني يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليوم الموعود يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشّاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه» أخرجه الترمذي وضعف أحد رواته من قبل حفظه وهذا قول ابن عباس والأكثرين أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد يوم التّروية، والمشهود يوم عرفة وإنما حسن القسم بهذه الأيام لعظمها وشرفها، واجتماع المسلمين فيها، وقيل الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة، وقيل الشّاهد هم الأنبياء والمشهود أي عليهم هم الأمم وقيل الشاهد هو الملك والمشهود أي عليه هو آدم وذريته، وقيل الشّاهد هذه الأمة ونبيها صلّى الله عليه وسلّم والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة، وقيل الشّاهد الأنبياء والمشهود له هو محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الأنبياء قبله شهدوا له بالنبوة وقوله، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها، وعظمها. وجواب القسم قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي لعن وقتل وقيل جوابه إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ والأخدود الشق المستطيل في الأرض.
واختلفوا فيهم فروي عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى السّاحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى السّاحر ضربه، وإذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال اليوم أعلم الرّاهب أفضل أم الساحر فأخذ حجرا ثم قال اللهم إن كان أمر الرّاهب أحب إليك من أمر السّاحر، فاقتل هذه الدّابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها فمضى الناس، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني أنت أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك مبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ(4/411)
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي النّاس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك فآمن به فشفاه الله عز وجل فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك فقال ربي: فقال أو لك رب غيري قال ربي، وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام فجيء بالغلام، فقال له الملك أي بني إنه قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الرّاهب فجيء له بالرّاهب، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك، فقيل له ارجع عن دينك فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فقال: وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام ثلاثا، فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري ولا تقاعسي فإنك على الحق» . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين، وفيه إنقاذ النفس من الهلاك والأكمه هو الذي خلق أعمى، والميشار بالياء وتخفيف الهمزة وروي بالنون وذروة الجبل بالضم والكسر أعلاه، ورجف تحرك واضطرب والقرقور بضم القاف الأولى السفينة الصغيرة وانكفأت انقلبت، والصّعيد هنا الأرض البارزة والسّكك الطّرق والأخدود الشّق العظيم في الأرض، وأقحموه أي ارموه وتقاعست أي تأخرت وكرهت الدخول في النار. وقال ابن عباس: «كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه يسلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك» . وذكر نحو حديث صهيب وقال وهب بن منبه: إن رجلا كان قد بقي على دين عيسى، فوقع إلى نجران فأحبوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النّار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخدود وحرق اثني عشر ألفا ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق.
وقال: محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر إن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها انبعثت دما، وإذا تركت ارتدت مكانها وفي(4/412)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
يده خاتم حديد فيه مكتوب ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وقال: سعيد بن جبير وابن أبزى لما انهزم أهل اسفندهار، قال: عمر بن الخطاب أيّ شيء يجري على المجوس من الأحكام، فإنهم ليسوا بأهل كتاب، فقال علي بن أبي طالب بلى قد كان لهم كتاب، وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم، فغلبت على عقله فوقع على أخته فلما ذهب عنه السكر ندم، وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت: المخرج منه أنّك تخطب الناس وتقول إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته. فقام خطيبا بذلك فقال إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات فقال الناس بأجمعهم معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به، ما جاءنا به من نبي، ولا أنزل علينا في كتاب، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا به فجرد لهم الأخدود، وأوقدوا فيها النيران وعرضهم عليها فمن أبى قذفه في النار ومن أجاب أطلقه. وروي عن علي قال كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي بعث من الحبشة إلى قومه ثم قرأ عليّ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ الآية، فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم الكفار، فقتل أصحابه وأخذ من انفلت منهم فأوثقوه ثم خدوا له أخدودا فملؤوها نارا، فمن تبع ذلك النبي رمي به في النار ومن تابعهم تركوه فجاؤوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت، فقال الصبي يا أماه قعي ولا تقاعسي وقيل كانت الأخدود ثلاثة واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس حرقوا بالنار فأما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي وأما التي بفارس فبختنصر ويزعمون أنهم أصحاب دانيال وأما التي باليمن فذو نواس يوسف فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهم قرآنا وأنزل في التي بنجران اليمن وذلك أن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة، فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحملهم بذلك على الصبر، وتحمل المكاره في الدين.
[سورة البروج (85) : الآيات 5 الى 10]
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
وقوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، هو تعظيم لأمر تلك النار قال الربيع بن أنس نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بقبض أرواحهم، قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، أي جلوس عند الأخدود وَهُمْ يعني الملك الذي خد الأخدود وأصحابه عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم شُهُودٌ أي حضور وقيل يشهدون أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الصنم، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ قال ابن عباس ما كرهوا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، وقيل ما عابوا ولا علموا فيهم عيبا إلا إيمانهم بالله الْعَزِيزِ، يعني إن الذي يستحق العبادة هو الله العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يدافع، الْحَمِيدِ يعني الذي يستحق أن يحمد ويثنى عليه، وهو أهل لذلك وهو الله جل جلاله، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فهو المستحق للعبادة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي من أفعالهم بالمؤمنين. شَهِيدٌ وفيه وعد عظيم للمؤمنين ووعيد عظيم للكافرين.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا أي عذّبوا وأحرقوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بالنار ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر وفيه دليل على أنهم إذا تابوا وآمنوا يقبل منهم، ويخرجون من هذا الوعيد، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة، وأن توبة القاتل مقبولة، وأنهم إن لم يتوبوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ يعني لهم عذاب جهنم بكفرهم، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين، وقيل لهم عذاب الحريق في(4/413)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
الدنيا وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ارتفعت إليهم من الأخدود فأحرقتهم، ولهم عذاب جهنم في الآخرة ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال تعالى:
[سورة البروج (85) : الآيات 11 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يخلقهم أولا في الدنيا، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت ليجازيهم بأعمالهم في القيامة وَهُوَ الْغَفُورُ يعني لذنوب جميع المؤمنين. الْوَدُودُ أي المحب لهم، وقيل المحبوب أي يوده أولياؤه ويحبونه، وقيل يغفر ويود أن يغفر، وقيل هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة. ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه. الْمَجِيدُ قرئ بالرفع على أنه صفة لله تعالى لأن المجد من صفات التعالي والجلال، وذلك لا يليق إلا بالله تعالى. وقرئ المجيد بالكسر على أنه صفة للعرش أي للسرير العظيم إذ لا يعلم صفة العرش وعظمته إلا الله تعالى وقيل أراد حسنه فوصفه بالمجيد فقد قيل إن العرش أحسن الأجسام، ثم قال تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ يعني أنه لا يعجزه شيء ولا يمنع منه شيء طلبه، وقيل فعال لما يريد لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب، فهو يدخل أولياءه الجنة برحمته، لا يمنعه من ذلك مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر. هَلْ أَتاكَ أي قد أتاك حَدِيثُ الْجُنُودِ أي خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا على الأنبياء ثم بين من هم فقال تعالى: فِرْعَوْنَ يعني وقومه وَثَمُودَ وكانت قصتهم عند أهل مكة مشهورة بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قومك يا محمد. فِي تَكْذِيبٍ يعني لك وللقرآن كما كذب من كان قبلهم من الأمم، ولم يعتبروا بمن أهلكنا منهم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.
[سورة البروج (85) : الآيات 21 الى 22]
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي كريم شريف كثير النفع والخير ليس هو كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قرئ بالرفع على أنه نعت للقرآن، محفوظ يعني أن القرآن من التبديل والتغيير والتحريف، وقرئ محفوظ بالكسر على أنه نعت للوح لأنه يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب وسمي محفوظا لأنه حفظ من الشياطين من الزيادة والنقص، وهو عن يمين العرش، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عزّ وجلّ وصدق بوعده واتبع رسله، أدخله الجنة» وقال: واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه من نور، وكلامه سر معقود بالعرش وأصله في حجر ملك والله تعالى أعلم بمراده.(4/414)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
سورة الطارق
مكية وهي سبع عشرة آية، وإحدى وستون كلمة، ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
قوله عز وجل: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قيل نزلت في أبي طالب وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم نارا ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله، فعجب أبو طالب فأنزل الله والسماء والطارق يعني النجم يظهر بالليل، وكل ما أتاك بالليل فهو طارق، ولا يسمى ذلك بالنهار، وسمي النجم طارقا لأنه يطرق بالليل قالت هند:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد أن أباها نجم في علوه وشرفه. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قيل لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يعرفه، حتى بينه الله له بقوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ، أي المضيء المنير، وقيل المتوهج، وقيل المرتفع العالي، وقيل هو الذي يرمى به الشيطان فيثقبه أي ينفذه، وقيل النجم الثاقب هو الثريا لأن العرب تسميها النجم، وقيل هو زحل سمي بذلك لارتفاعه، وقيل هو كل نجم يرمى به الشيطان لأنه يثقبه فينفذه، وهذه أقسام أقسم الله بها، وقيل تقديره ورب هذه الأشياء وجواب القسم قوله تعالى:
[سورة الطارق (86) : الآيات 4 الى 9]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ، يعني أن كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، قال ابن عباس: هم الحفظة من الملائكة، وقيل حافظ من الله تعالى يحفظها، ويحفظ قولها، وفعلها، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير، ثم يحل عنها، وقيل يحفظها من المهالك والمعاطب إلا ما قدر لها.
قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ يعني نظر تفكر واعتبار مِمَّ خُلِقَ أي من أيّ شيء خلقه ربه، ثم بيّن ذلك فقال تعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ يعني من مني دافِقٍ، أي مدفوق مصبوب في الرحم، وأراد به ماء الرجل، وماء المرأة، لأن الولد مخلوق منهما وإنما جعله واحدا لامتزاجهما يَخْرُجُ يعني ذلك الماء وهو المني، مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يعني صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي عظام الصدر والنحر. قال ابن عباس: هي موضع القلادة من الصدر، وعنه أنها بين ثديي المرأة، قيل إن المني، يخرج من جميع أعضاء الإنسان، وأكثر ما(4/415)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
يخرج من الدماغ، فينصب في عرق في ظهر الرجل، وينزل في عروق كثيرة من مقدم بدن المرأة، وهي الترائب، فلهذا السبب خصّ الله تعالى، هذين العضوين بالذكر إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يعني إن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل، وقيل قادر على رد الماء في الصلب الذي خرج منه، وقيل قادر على رد الإنسان ماء كما كان من قبل، وقيل معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا، إلى النطفة وقيل إنّه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، وقيل معناه إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء قادر على إعادته حيا بعد موته، وهو أهون عليه، وهذا القول هو الأصح، والأولى بمعنى الآية لقوله تعالى بعده يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وذلك يوم القيامة. قيل معناه تظهر الخبايا. وقيل معنى تبلى تختبر، وقيل السرائر هي فرائض الأعمال كالصوم، والصلاة، والوضوء، والغسل من الجنابة، فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربّه عزّ وجلّ وذلك لأن العبد قد يقول صليت ولم يصلّ، وصمت ولم يصم، واغتسلت ولم يغتسل، فإذا كان يوم القيامة يختبر حتى يظهر من أداها ومن ضيعها. قال عبد الله بن عمر: يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زينا في وجوه وشينا في وجوه، يعني من أدى الفرائض كما أمر كان وجهه مشرقا، مستنيرا يوم القيامة، ومن ضيعها أو انتقص منها كان وجهه أغبر.
[سورة الطارق (86) : الآيات 10 الى 17]
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
فَما لَهُ أي لهذا الإنسان المنكر البعث. مِنْ قُوَّةٍ أي يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ أي ينصره من الله، ثم ذكر قسما آخر فقال تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي ذات المطر، سمي به لأنه يجيء ويرجع ويتكرر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي تتصدع وتنبثق عن النبات، والشجر، والأنهار، وجواب القسم.
قوله تعالى: إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي إنه لحق وجد يفصل بين الحق والباطل. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي باللعب والباطل. إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة، يَكِيدُونَ كَيْداً يعني يحتالون بالمكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه. وَأَكِيدُ كَيْداً يعني أجازيهم على كيدهم بأن استدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل ولا تدع بهلاكهم. قال ابن عباس: هذا وعيد لهم من الله عز وجل، ثم لمّا أمره بإمهالهم بيّن أن ذلك الإمهال قليل. فقال تعالى: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً يعني قليلا، فأخذهم الله يوم بدر ونسخ الإمهال بآية السيف، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(4/416)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
سورة الأعلى
مكية وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وأحد وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
قوله عزّ وجلّ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي قل سبحان ربي الأعلى، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال سبحان ربي الأعلى» ، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون، فعلى هذا يكون الاسم صلة، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم، ولذكره محترم. وقال ابن عباس: سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى. عن عقبة بن عامر، قال: «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين، وقيل خلق الإنسان مستويا معتدل القامة.
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه، وقيل قدر السعادة لأقوام، والشقاوة لأقوام، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له، وعليه، وقيل قدر الخير والشر، وهدى إليهما، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها، وهو قوله تعالى:
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 5 الى 14]
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
فَجَعَلَهُ يعني المرعى بعد الخضرة غُثاءً أي هشيما يابسا باليا كالغثاء الذي تراه فوق السيل.
أَحْوى أي أسود بعد الخضرة، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود.
قوله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك. فَلا تَنْسى يعني ما يقرأ عليك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا نزل جبريل بالوحي، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها، فأنزل الله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس شيئا بعد ذلك إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن تنساه وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور، وقيل معناه إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم تذكره بعد ذلك، كما(4/417)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
صح من حديث عائشة رضي الله عنها. قال: «سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية «كنت أسقطتهن من سورة كذا» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هذا الاستثناء لم يقع، ولم يشأ الله أن ينسيه شيئا. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعني من القول والفعل.
وَما يَخْفى يعني منهما والمعنى، أنه تعالى يعلم السر والعلانية. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نهون عليك أن تعمل خيرا ونسهله عليك حتى تعمله، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة، وقيل هو متصل بالكلام الأول، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان، ثم وعده فقال: ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه، ولا تنساه. فَذَكِّرْ أي فعظ بالقرآن. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي مدة نفع الموعظة، والتذكير، والمعنى عظ أنت، وذكر أن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، إنما عليك البلاغ. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتعظ من يخشى الله تعالى. يَتَجَنَّبُهَا
أي الذكرى ويتباعد عنها. َْشْقَى
أي في علم الله تعالى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي النار العظيمة الفظيعة، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة، والنار الصغرى هي نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها أي في النار فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة طيبة تنفعه.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس: وقيل قد أفلح من كان عمله زاكيا، وقيل هو صدقة الفطر، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: أعطى صدقة الفطر.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 15 الى 19]
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: خرج إلى العيد فصلّى وكان ابن مسعود يقول: رحم الله امرأ تصدق ثم صلّى. ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع: كان ابن عمر إذا صلّى الغداة يعني يوم العيد قال: يا نافع أخرجت الصدقة، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى، وإن قلت لا قال: فالآن فأخرج، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلّى.
فإن قلت فما وجه هذا التأويل، وهذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر.
قلت يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وهذه السورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، وكذا نزل بمكة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وكان ذلك يوم بدر. قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري أي جمع سيهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر.
ووجه آخر وهو أنه كان في علم الله تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه، وقيل وذكر اسم ربه فصلّى يعني الصلوات الخمس، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد، وبالصلاة صلاة العيد.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج: كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا لا قال: لأن الدنيا حضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل، وقيل إن أريد بذلك الكفار،(4/418)
فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة، وهو خير وأبقى. إِنَّ هذا أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا، وهو أربع آيات. لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى:
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة، بل جميع الشرائع متفقة عليه.
عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال «دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله، قال: ركعتان تركعهما، قلت يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قلت يا رسول الله، فما كان صحف موسى، قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت، كيف يفرح؟! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟! عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب! عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» ! أخرج هذا الحديث رزين في كتابه، وذكره ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. ولم يعلم عليه شيئا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد في ركعة ركعة» . أخرجه الترمذي والنسائي. وعن عبد العزيز بن جريج قال «سألنا عائشة بأي شيء كان يوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد المعوذتين» ، أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي. وقال: حديث حسن غريب، والله أعلم.(4/419)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
سورة الغاشية
مكية وهي ست وعشرون آية واثنتان وتسعون كلمة وثلاثمائة واحد وثمانون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ أي قد أتاك حَدِيثُ الْغاشِيَةِ يعني القيامة، سمّيت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها، وقيل الغاشية النار، سمّيت بذلك لأنها تغشى وجوه الكفار وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة خاشِعَةٌ يعني ذليلة، والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، فعبر به عنه. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وأصحاب الصوامع، لا يقبل الله منهم اجتهادا في ضلال بل يدخلون النار يوم القيامة. ومعنى النصب الدؤوب في العمل بالتعب. (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، أما الرواية فإنها تختص بمن أحدث في دين الإسلام شيئا ابتدعه من عنده فهو مردود عليه لا يقبل منه. وأما الرواية الثانية فإنها تشتمل على كل عامل في دين الإسلام، أو غير دين الإسلام فإنه مردود عليه إذا لم يكن تابعا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم. وقيل في معنى الآية عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار. وقيل عاملة ناصبة في النار، لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية عن ابن عباس قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وقيل يجرون على وجوههم في النار، وقيل يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار وهو قوله تعالى: تَصْلى ناراً حامِيَةً قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله عزّ وجلّ: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فيدفعون إليها ورودا عطاشا، فهذا شرابهم، ثم ذكر طعامهم فقال تعالى:
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قيل هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية عن ابن عباس، فإذا يبس لا تقربه دابة، وقيل الضريع في الدنيا هو الشوك اليابس الذي له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك، أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا من النار، قال أبو الدرداء: إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة،(4/420)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
ولا مريئة، فإذا أدنوه من وجوههم سلخ جلدة وجوههم، وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قال المفسرون فلما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذبوا في ذلك، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا فإذا يبس لا تأكله فأنزل الله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 7 الى 17]
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يعني إن هذا الطعام لا تقدر البهائم على أكله فكيف يقدر الإنسان على أكله، فهو إذا لا يسمن ولا يغني من جوع.
فإن قلت قد ذكر الله تعالى في هذه الآية أنّه لا طعام لهم إلا من ضريع، وذكر في موضع آخر أنه لا طعام لهم إلا من غسلين، فكيف الجمع بينهما؟!.
قلت إن النار دركات فعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طعامه الزقوم لا غير، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين.
ثم وصف أهل الجنة فقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي متنعّمة ذات بهجة وحسن، ونعمة، وكرامة لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي لسعيها في الدنيا راضية في الآخرة حيث أعطيت الجنة بعملها. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قيل هو من العلو الذي هو الشرف، وقيل من العلو في المكان، وذلك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، كل درجة كما بين السماء والأرض. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي ليس فيها لغو ولا باطل. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ على وجه الأرض في غير أخدود، وقيل تجري حيث أرادوا من منازلهم، وقصورهم. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أهلها الجلوس عليها تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، ثم ترتفع إلى مواضعها وَأَكْوابٌ يعني الكيزان التي لا عرى لها.
مَوْضُوعَةٌ يعني عندهم بين أيديهم، وقيل موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب منها وجدوها مملوءة. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ يعني وسائد ومرافق مصفوفة، بعضها جنب بعض أينما أراد أن يجلس وليّ الله جلس على واحدة، واستند إلى الأخرى. وَزَرابِيُّ يعني البسط العريضة قال ابن عباس: هي الطنافس التي لها خمل، واحدتها زربية مَبْثُوثَةٌ أي مبسوطة، وقيل متفرقة في المجالس.
قوله عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أهل التفسير لما نعت الله عزّ وجلّ ما في هذه السورة مما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكرهم الله صنعه، فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإنما بدأ بالإبل لأنها من أنفس أموال العرب، ولهم فيها منافع كثيرة والمعنى إن الذي صنع لهم هذا في الدنيا هو الذي صنع لأهل الجنة ما صنع وتكلمت علماء التفسير في وجه تخصيص الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات، فقال: مقاتل لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا النادر منهم، وقال الكلبي لأنها تنهض بحملها وقد كانت باركة، وقال قتادة: لما ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها قالوا كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال: أما الفيل فإن العرب بعيدة العهد به، ثم هو لا خير فيه لأنه لا يركب على ظهره، ولا يؤكل لحمه، ولا يحلب دره، والإبل أعزّ مال للعرب، وأنفسه(4/421)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
تأكل النوى وألقت وغيره، وتخرج اللبن، ومن منافع الإبل أنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف حتى أن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء، ومنها أنها فضلت على سائر الحيوانات بأشياء، وذلك أن جميع الحيوانات إنما تقتنى إما للزينة أو للركوب، أو للحمل، أو للبن، أو لأجل اللحم، ولا توجد جميع هذه الخصال إلا في الإبل، فإنها زينة، وتركب فيقطع عليها المفازات البعيدة، وتحمل الثقيل، وتحلب الكثير، ويأكل من لحمها الجم الغفير، وتصبر على العطش عدة أيام، ومنها أن يحمل عليها، وهي باركة ثم تنهض بحملها بخلاف سائر الحيوانات، ومنها أنها ترعى في كل نبات في البراري مما لا يرعاه غيرها من الحيوانات، وهي سفن البر يحمل عليها الثقيل، ويقطع عليها المفاوز البعيدة. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.
فإن قلت كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والأرض والجبال، ولا مناسبة بينهما ولم بدأ بذكر الإبل قبل السماء والأرض والجبال؟
قلت لما كان المراد ذكر الدلائل الدالة على توحيده وقدرته، وأنه هو الخالق لهذه الأشياء جميعها، وكانت الإبل من أعظم شيء عند العرب فينظرون إليها ليلا ونهارا، ويصاحبونها ظعنا وأسفارا ذكرهم عظيم نعمته عليهم فيها ولهذا بدأ بها ولأنها من أعجب الحيوانات عندهم.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 18 الى 26]
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ يعني فوق الأرض بغير عمد، ولا ينالها شيء. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي على الأرض نصبا ثابتا راسخا لا يزول. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت، ومهدت بحيث يستقر على ظهرها كل شيء. قال ابن عباس: المعنى هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غير الله القادر على كل شيء. ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي فعظ إنما أنت واعظ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمسلط فتكرههم على الإيمان، وهذه الآية منسوخة نسختها آية القتال. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ استثناء منقطع عما قبله معناه لكن من تولى وكفر بعد التذكير فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله النار، وإنما قال: الأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب مثل الجوع، والقحط والقتل، والأسر، فكانت النار أكبر من هذا كله. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم بعد الموت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يعني جزاءهم بعد الرجوع إلينا، والله أعلم.(4/422)
وَالْفَجْرِ (1)
سورة الفجر
مكية وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية ومائة وتسعون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قوله عزّ وجلّ: وَالْفَجْرِ أقسم الله عزّ وجلّ بالفجر وما بعده لشرفها وما فيها من الفوائد الدينية وهي أنها دلائل باهرة، وبراهين قاطعة، على التوحيد، وفيها من الفوائد الدنيوية أنها تبعث على الشكر.
واختلفوا في معاني هذه الألفاظ، فروي عن ابن عباس، أنه قال: الفجر هو انفجار الصبح في كل يوم، أقسم الله تعالى به لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس، وسائر الحيوانات في طلب الأرزاق، وذلك يشبه نشر الموتى من قبورهم للبعث. وعن ابن عباس أيضا أنه صلاة الفجر، والمعنى أنه أقسم بصلاة الفجر لأنها مفتتح النهار، ولأنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وقيل إنه فجر معين.
واختلفوا فيه، فقيل هو فجر أول يوم من المحرم، لأن منه تنفجر السنة، وقيل هو فجر ذي الحجة، لأنه قرن به الليالي العشر، وقيل هو فجر يوم النحر، لأن فيه أكثر مناسك الحج، وفيه القربات. وَلَيالٍ عَشْرٍ قيل إنما نكرها لما فيها من الفضل، والشرف الذي لا يحصل في غيرها. روي عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج، وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» ، وذكر الحديث، وروي عن ابن عباس قال: هي العشر الأواخر من رمضان، لأن فيها ليلة القدر، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا ليله، وشد مئزره، وأيقظ أهله، يعني للعبادة وقيل هي العشر الأول من المحرم، وهو تنبيه على شرفه، ولأن فيه يوم عاشوراء. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قيل الشفع هو الخلق، والوتر هو الله تعالى يروى ذلك عن أبي سعيد الخدري، وقيل الشفع هو الخلق كالإيمان والكفر، والهدى، والضلالة، والسعادة، والشقاوة، والليل، والنهار، والأرض، والسماء، والشمس، والقمر، والبر، والبحر، والنور، والظلمة، والجن، والإنس. والوتر هو الله تعالى، وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر. وقيل هما الصلوات منها شفع ومنها وتر عن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشفع والوتر قال: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب وعن ابن عباس قال: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب، وعن عبد الله بن الزبير قال: الشفع النفر الأول، والوتر النفر الأخير، وروي أن رجلا سأله عن الشفع، والوتر، والليالي العشر فقال: أما الشفع والوتر فقول الله عزّ وجلّ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهما الشفع والوتر، وأما الليالي العشر فالثمان، وعرفة والنحر، وقيل الشفع الأيام، والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة معه، وهو يوم القيامة،(4/423)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
وقيل الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع، فكأنه أقسم بالجنة، والنار. وقيل الشفع أوصاف المخلوقين المتضادة، مثل العز، والذل، والقدرة، والعجز، والقوة، والضعف، والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، والبصر، والعمى، والموت، والحياة، والوتر، صفات الله تعالى التي تفرد بها عزّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت.
[سورة الفجر (89) : الآيات 4 الى 8]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8)
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي إذا سار وذهب، وقيل إذا جاء، وأقبل، وأراد به كل ليلة، وقيل هي ليلة المزدلفة، وهي ليلة النحر التي يسار فيها من عرفات إلى مزدلفة فعلى هذا يكون المعنى والليل الذي يسار فيه. هَلْ فِي ذلِكَ أي فيما ذكرت قَسَمٌ مقنع ومكتفي في القسم فهو استفهام بمعنى التأكيد. لِذِي حِجْرٍ أي لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل له، ولا ينبغي كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، وسمي نهيه لأنه ينهى عما لا يحل، ولا ينبغي وأصل الحجر المنع، ولا يقال ذو حجر إلا لمن هو قاهر لنفسه ضابط لها عما لا يليق، كأنه حجر على نفسه ومنعها ما تريد، والمعنى إن من كان ذا لب، وعقل علم أن ما أقسم الله عزّ وجلّ به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل تدل على توحيده، وربوبيته. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. قيل جواب القسم قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، واعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ورب هذه الأشياء ليعذبن الكافر يدل عليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ
، وقوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ؟ أي ألم تعلم وإنما أطلق لفظ الرؤية على العلم لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت معلومة عندهم.
وقوله: أَلَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنه عام لكل أحد. كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ المقصود من ذلك تخويف أهل مكة وكيف أهلكهم وهم كانوا أطول أعمارا، وأشد قوة، من هؤلاء فأما عاد فهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، ومنهم من يجعل عادا اسما للقبيلة لقوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وإرم هو جد عاد على ما ذكر في نسبه عاد. وقيل إن المتقدمين من قوم عاد كانوا يسمون بإرم اسم جدهم.
وقيل إرم هم قبيلة من عاد، وكان فيهم الملك، وكانوا بمهرة اسم موضع باليمن وكان عاد أباهم فنسبوا إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح وقال الكلبي: إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود أهل السواد، وأهل الجزيرة، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود، وأبقى أهل السواد، وأهل الجزيرة وقال سعيد بن المسيب: إرم ذات العماد دمشق وقيل الإسكندرية، وفيه ضعف لأن منازل عاد كانت من عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف. وقيل إن عادا كانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى، وهي التي قال الله تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وسموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمد سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية ابن عباس. وقيل سموا ذات العماد لطول قامتهم يعني طولهم، مثل العماد في الشبه، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا، وقوله الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ يعني لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة، وهم الذين قالوا «من أشد منا قوة» . وقيل سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيد عمده ورفع بناءه، وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا بعده، وقهرا البلاد والعباد فمات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له(4/424)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
ملوكها وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها فدعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله وتجبرا روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب، والفضة، وأحجار اللؤلؤ والياقوت وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحدا هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة فقال الرجل في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤ ترابها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدّث بما رأى فبلغ ذلك معاوية، فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد بن عاد قال: فحدثني حديثها فقال لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صحراء نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصنا يعني سورا واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له ثم
التفت فأبصر عبد الله بن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
[سورة الفجر (89) : الآيات 9 الى 10]
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
قوله عزّ وجلّ: وَثَمُودَ أي وفعل بثمود مثل ما فعل بعاد الَّذِينَ جابُوا أي قطعوا الصَّخْرَ أي الحجر بِالْوادِ يعني بوادي القرى وكانت ثمود أول من قطّع الصخر ونحته واتخذوا مساكن في الجبال وبيوتا.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ سمي بذلك لكثرة جنوده وكثرة مضاربهم وخيامهم التي كانوا يضربونها، إذا نزلوا، وقيل معناه ذي الملك كما قيل في ظل ملك راسخ الأوتاد.
وقيل سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت عنده امرأة مؤمنة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال لها ما يبكيك قالت الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهنا وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت صدقت فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وقري أني إلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها:(4/425)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قلبها ثم قال اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعا فقالت لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ فأتى بابنتها فلما اضطجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا في المهد صغارا أطفالا وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث الأم أن ماتت فأسكنها الله الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهى إليه الرجلان، وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلون فلما رأوا ذلك انصرفوا فقال، حزقيل: اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤاله وأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون وهل معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال ما رأيت مما يقول شيئا فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه قال: وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وفرعون كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها، فقالت يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثهم، عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فلعل بك الجنون الذي كان بها، قالت: ما بي جنون وإن إلهها وإلهك وإلهي وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فبصق عليها وضربها، وأرسل إلى أبيها وأمها فدعاهما وقال لهما: إن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها، قالت: أعوذ بالله من ذلك، إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال لها أبوها:
يا آسية ألست من خير نساء العماليق، وزوجك إله العماليق قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقا فقولا له أي يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله. فقال لهما فرعون أخرجا عني ثم مدها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون، فعند ذلك «قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجّني من فرعون وعمله» ، فقبض الله روحها وأدخلها الجنة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 11 الى 15]
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني عادا وثمودا وفرعون عملوا بالمعاصي، وتجبروا، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ يعني لونا من العذاب صبّه عليهم، وقيل هو تشبيه بما يكون في الدنيا من العذاب بالسوط، وقيل هو إشارة إلى ما خلط لهم من العذاب، لأن أصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض وقيل هذا على الاستعارة، لأن السوط غاية العذاب فجرى ذلك لكل نوع منه. وقيل جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال ابن عباس يعني بحيث يرى ويسمع، وقيل عليه طريق العباد، لا يفوته أحد وقيل عليه ممر الناس لأن الرصد والمرصاد الطريق. وقيل ترجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم، وقيل إنه يرصد أعمال بني آدم. والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من المرصاد، وقد قيل أرصد النار على طريقهم حتى تهلكهم.(4/426)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ أي امتحنه رَبُّهُ أي بالنعمة فَأَكْرَمَهُ أي بالمال وَنَعَّمَهُ أي بما يوسع عليه فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أي بما أعطاني من المال والنعمة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 16 الى 21]
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ يعني بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ أي فضيق عليه، وقيل قتر. رِزْقَهُ أي وقد أعطاه ما يكفيه. فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي أذلني بالفقر، قيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر، وقيل ليس المراد به واحدا بعينه، بل المراد جنس الكافر، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته فرد الله تعالى على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال تعالى: كَلَّا أي ليس الأمر كذلك، أي لم أبتله بالغنى لكرامته، ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرزق وقلته، ولكن الغنى والفقر بتقدير الله جلّ جلاله وحكمته فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويضيق على المؤمن لا لهوانه، لكن لأمر اقتضته حكمة الله تعالى، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته، وقد يوسع على الإنسان من أصناف المال ليختبره، أيشكر أم يكفر، ويضيق عليه ليختبره، أيصبر أم يضجر، ويقلق. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أي لا يعطونه حقه الثابت له في الميراث قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يطعمون مسكينا، ولا يأمرون بإطعامه، وقرئ ولا يحاضون ومعناه، ولا يحض بعضهم بعضا على ذلك. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث أَكْلًا لَمًّا أي شديدا، والمعنى أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم، وقيل الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا والمعنى يحبون جمع المال، ويولعون به، وبحبه. كَلَّا أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، من الحرص على جمع المال وحبه. وقيل معناه لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وغيره من المسلمين، ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم، وذلك حين لا ينفعهم الندم. فقال تعالى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي دقت وكسرت مرة بعد مرة، وكسر كل شيء عليها من جبل وبناء وغيره، حتى لا يبقى على ظهرها شيء.
[سورة الفجر (89) : الآيات 22 الى 28]
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
وَجاءَ رَبُّكَ اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيها وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها، وتأولها بعض المتأخرين، وغالب المتكلمين فقالوا ثبت بالدليل العقلي، أن الحركة على الله محال، فلا بد من تأويل الآية. فقيل في تأويلها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء. وقيل جاء أمر ربك وقضاؤه. وقيل وجاء دلائل آيات ربك فجعل مجيئها مجيئا له تفخيما لتلك الآيات. وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي تنزل ملائكة كل سماء صفا صفا على حدة، فيصطفون صفا بعد صف، محدقين بالجن والإنس، فيكونون سبع(4/427)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
صفوف. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة بِجَهَنَّمَ قال ابن مسعود: في هذه الآية تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيط وزفير حتى تنصب عن يسار العرش يَوْمَئِذٍ يعني يوم يجاء بجهنم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي يتعظ الكافر ويتوب. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يعني أنه يظهر التوبة، ومن أين له التوبة.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي قدمت الخير، والعمل الصالح لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق هو الأسر في السلاسل، والأغلال، وقرئ لا يعذب، ولا يوثق بفتح الذال والثاء، ومعناه لا يعذب عذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وهو أمية بن خلف، وذلك لشدة كفره وعتوه.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الثابتة على الإيمان، والإيقان، المصدقة بما قال الله تعالى، الموقنة التي قد أيقنت بالله تعالى، وبأن الله ربها، وخضعت لأمره، وطاعته، وقيل المطمئنة المؤمنة، الموقنة، وقيل هي الراضية بقضاء الله، وقيل هي الآمنة من عذاب الله، وقيل هي المطمئنة بذكر الله قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد بأحد، وقيل في حبيب بن عدي الأنصاري، وقيل في عثمان حين اشترى بئر رومة وسبلها وقيل في أبي بكر الصديق والأصح أن الآية عامة في كل نفس مؤمنة مطمئنة، لأن هذه السورة مكية ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ما وعد ربك من الجزاء والثواب، قيل يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا.
قال عبد الله بن عمر: إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان، وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك، إلا صلّى عليها حتى يؤتى بها الرّحمن جل جلاله، فتسجد له ثم يقال لميكائيل اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعا عرضه، وسبعون ذراعا، طوله وينبذ له فيه الروح والريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين، وأرسل قطعة من بجاد أي من كساء أنتن من كل نتن، وأخشن من كل خشن، فيقال أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم، وربك عليك غضبان وقيل في معنى قوله ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى صاحبك وهو الجسد، وإنما يقال لها ذلك عند البعث فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى أجسادها، وهو قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية عن ابن عباس. وقيل ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته راضِيَةً أي عن الله بما أعد لك مَرْضِيَّةً أي رضي الله عنها، وقيل لها في الدنيا ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فإذا كان يوم القيامة قيل لها.
[سورة الفجر (89) : الآيات 29 الى 30]
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي في جملة عبادي، الصالحين المصطفين وَادْخُلِي جَنَّتِي قال سعيد بن جبير:
مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي، وقال: بعض أهل الإشارة في تفسير هذه الآية يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى ربك بتركها، والرجوع إليه هو سلوك سبيل الآخرة والله أعلم.(4/428)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
سورة البلد
(مكية وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي مقيم به، نازل فيه، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلّى الله عليه وسلّم مقيم بها وقيل حل أي حلال، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل، والأسر، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها، أحل الله عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل، وأمر بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم آخرين، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ثم قال بعد ذلك إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها، وشرفها، وحرمتها، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى في الماضي، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة، وخروجه منها، فكان كما وعده، وقيل في معنى قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيدا، ويستحلون قتلك فيه، وإخراجك منه.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ يعني آدم وذريته أقسم الله تعالى بمكة لشرفها، وحرمتها، وبآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به، وجواب القسم قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال ابن عباس: في نصب، وقيل يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وعنه أيضا قال: في شدة من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، وفصاله، ومعاشه، وحياته، وموته وأصل الكبد الشدة، وقيل لم يخلق الله خلقا يكابد، ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن ابن عباس أيضا قال: الكبد الاستواء، والاستقامة، فعلى هذا يكون المعنى، خلقنا الإنسان منتصبا معتدل القامة، وكل شيء من الحيوان يمشي منكبا، وقيل منتصبا، رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه.(4/429)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
[سورة البلد (90) : الآيات 5 الى 11]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
أَيَحْسَبُ أبو الأشد من قوته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني أيظن لشدته في نفسه، أنه لا يقدر عليه الله، وقيل هو الوليد بن المغيرة المخزومي. يَقُولُ يعني هذا الكافر أَهْلَكْتُ أي أنفقت مالًا لُبَداً أي كثيرا من التلبيد الذي يكون بعضه فوق بعض. يعني في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني أيظن أن لله لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وقيل كان كاذبا في قوله، إنه أنفق ولم ينفق جميع ما قال والمعنى أيظن أن الله لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته. ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ يعني أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقروه بها كي يشكره، وجاءه في الحديث «إن الله عزّ وجلّ يقول: ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك فرجك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه» . وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال أكثر المفسرين طريق الخير والشر والحق، والباطل، والهدى، والضلالة، وقال ابن عباس: الثديين فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين يكون ذلك خيرا له من إنفاقه في عداوة من أرسله الله إليه، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدّخول في الأمر الشّديد، وذكر العقبة مثل ضربه الله تعالى: لمجاهدة النّفس، والهوى، والشّيطان في أعمال الخير، والبر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله عزّ وجلّ: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرّقبة، والإطعام، وقيل إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بالعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين. كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها، وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم، وقيل هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله ومجاهدة النفس، وقيل هي الصّراط يضرب على متن جهنم كحد السّيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا، وأن بجنبيه كلاليب وخطاطيف، كأنها شوك السّعدان فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في الناس منكوس، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفارس، ومنهم من يمر كالرّجل يعدو، ومنهم من يمر كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفا ومنهم الزّالون ومنهم من يكردس في النار، وقيل معنى الآية: فهلا سلك طريق النجاة ثم بين ما هي. فقال تعالى:
[سورة البلد (90) : الآيات 12 الى 17]
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ يعني عتق الرقبة وهو إيجاب الحرية لها، وإبطال الرق، والعبودية عنها، وذلك بأن يعتق الرجل الرّقبة التي في ملكه، أو يعطي مكاتبا ما يصرفه في فكاك رقبته ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه» وروى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النّسمة، وفك الرّقبة قال أوليسا واحدا قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظّالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظّمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير» وقيل في معنى الآية وفك رقبة من رق الذّنوب بالتّوبة وبما يتكلفه من العبادات، والطاعات التي يصير بها إلى رضوان الله، والجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي في يوم ذي مجاعة والسغب الجوع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة يريد يتيما بينك وبينه قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ يعني قد لصق بالتراب من(4/430)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
فقره وضره وقال ابن عباس: هو المطروح في التّراب لا يقيه شيء والمتربة الفقر، ثم بين أن هذه القرب لا تنفع إلا مع الإيمان بقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والمعنى أنه كان مؤمنا تنفعه هذه القرب، وكان مقتحما العقبة، وإن لم يكن مؤمنا لا تنفعه هذه القرب ولا يقتحم العقبة وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني وصى بعضهم بعضا على الصبر على أداء الفرائض، وجميع أوامر الله ونواهيه. وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي برحمة الناس وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله.
[سورة البلد (90) : الآيات 18 الى 20]
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
أُولئِكَ يعني أهل هذه الخصال أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم.
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(4/431)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
سورة الشمس
مكية وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمة ومائتان وسبعة وأربعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي إذا بدا ضوءها والضّحى حين ترتفع الشّمس، ويصفو ضوءها، وقيل الضّحى النهار كله لأن الضحى هو نور الشمس، وهو حاصل في النهار كله، وقيل الضحى هو حر الشمس لأن حرها ونورها متلازمان، فإذا اشتد نورها قوى حرها وهذا أضعف الأقوال. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور، وقيل تلاها في الاستدارة وذلك حين يكمل ضوءه، ويستدير وذلك في اللّيالي البيض، وقيل تلاها تبعها في الطلوع، وذلك في أول ليلة من الشّهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال فكأنه تبعها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها يعني جلا ظلمة الليل بضيائه وكشفها بنوره، وهو كناية عن غير مذكور لكونه معروفا وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة. لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر.
[سورة الشمس (91) : الآيات 5 الى 8]
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن بناها، وقيل والذي بناها فعلى هذا كأنه أقسم به وبأعظم مخلوقاته، ومعنى بناها خلقها، وقيل ما بمعنى المصدر أي والسماء وبنائها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها وسطحها على الماء وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي عدل خلقها وسوى أعضاءها هذا إن أريد بالنّفس الجسد وإن أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سواها أعطاها القوى الكثيرة كالقوة الناطقة، والسامعة والباصرة، والمفكرة، والمخيلة وغير ذلك من العلم، والفهم، وقيل إنما نكرها لأنه أراد بها النّفس الشّريفة المكلفة التي تفهم عنه خطابه، وهي نفس جميع من خلق من الإنس والجن فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال ابن عباس: بين لها الخير والشّر وعنه علمها الطّاعة والمعصية، وعنه عرفها ما تأتي وما تتقي، وقيل ألزمها فجورها، وتقواها، وقيل وجعل فيها ذلك بتوفيقه إيّاها للتّقوى، وخذلانه إياها للفجور، وذلك لأن الله تعالى خلق في المؤمن التّقوى، وفي الكافر الفجور (م) عن أبي الأسود الديلي قال: قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وثبتت الحجة عليهم، فقلت بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم، فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأختبر عقلك «إن(4/432)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم، من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها» (م) عن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال: لا بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير قال: ففيم العمل؟ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وهذه أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وما بعدها لشرفها ومصالح العالم بها، وقيل فيه إضمار تقديره ورب الشمس وما بعدها.
وأورد على هذا القول أنه قد دخل في جملة هذا القسم قوله، وَالسَّماءِ وَما بَناها وذلك هو الله تعالى، فيكون التقدير رب السماء، ورب من بناها، وهذا خطأ لا يجوز وأجيب عنه بأن ما إن فسرت بالمصدرية فلا إشكال وإن فسرت بمعنى من فيكون التقدير ورب السّماء الذي بناها وجواب القسم قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 14]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها المعنى لقد أفلح من زكاها أي فازت وسعدت نفس زكاها الله أي أصلحها وطهرها من الذّنوب، ووفقها للطاعة. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى، وأفسدها، وأصله من دس الشّيء إذا أخفاه فكأنه سبحانه وتعالى أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره، وزكاه، وخسارة من خذله، وأضله حتى لا يظن أحد أنه يتولى تطهير نفسه، أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق (م) عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها، ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» .
قوله عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وهم قوم صالح عليه الصّلاة والسّلام بِطَغْواها أي بطغيانها وعدوانها، والمعنى أن الطغيان حملهم على التكذيب حتى كذبوا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحا انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف، وكان رجلا أشقر أزرق العين قصيرا فعقر الناقة (ق) عن عبد الله بن زمعة «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب وذكر الناقة، والذي عقرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في أهله مثل أبي زمعة» لفظ البخاري قوله عارم أي شديد ممتنع.
قوله تعالى: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه الصّلاة والسّلام ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة الله وإنما قال لهم ذلك لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقرها وإنما أضافها إلى الله تعالى لشرفها كبيت الله.
وَسُقْياها أي وشربها ولا تتعرضوا للماء يوم شربها فَكَذَّبُوهُ يعني صالحا فَعَقَرُوها يعني الناقة فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي فدمر عليهم ربهم وأهلكهم والدمدمة هلاك استئصال، وقيل دمدم أي أطبق عليهم العذاب طبقا حتى لم ينفلت منهم أحد بِذَنْبِهِمْ أي فعلنا ذلك بهم بسبب ذنبهم، وهو تكذيبهم صالحا عليه الصّلاة والسّلام وعقرهم الناقة فَسَوَّاها أي فسوى الدّمدمة عليهم جميعا وعمهم بها، وقيل معناه فسوى بين الأمة وأنزل بصغيرهم، وكبيرهم، وغنيهم، وفقيرهم العذاب، وَلا يَخافُ عُقْباها أي لا يخاف الله تبعة من أحد في هلاكهم كذا قال ابن عباس: وقيل هو راجع إلى العاقر والمعنى لا يخاف العاقر عقبى ما قدم عليه من عقر الناقة، وقيل هو راجع إلى صالح عليه الصّلاة والسّلام والمعنى لا يخاف صالح عاقبة ما أنزل الله بهم من العذاب أن يؤذيه أحد بسب ذلك والله أعلم.(4/433)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
سورة والليل
مكية وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5)
قوله عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى النّهار بظلمته فيذهب الله بضوئه. أقسم الله تعالى بالليل لأنه سكن لكافة الخلق يأوى فيه كل حيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب، والحركة، ثم أقسم بالنهار بقوله وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي بان وظهر بعد الظلمة لأن فيه حركة الخلق في طلب الرزق وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي ومن خلق فعلى هذا يكون أقسم بنفسه تعالى، والمعنى والقادر العظيم الذي قدر على خلق الذكر، والأنثى من ماء واحد إن أريد به جنس الذكر والأنثى، وقيل هما آدم وحواء، وإنما أقسم بهما لأنه تعالى ابتدأ خلق آدم من طين وخلق منه حواء من غير أم وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أي إن أعمالكم لمختلفة فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها روى أبو مالك الأشعري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» قوله موبقها أي مهلكها.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي أنفق ماله في سبيل الله عز وجل: وَاتَّقى أي ربه، وفيه إشارة إلى الاحتراز عن كل ما لا ينبغي.
[سورة الليل (92) : الآيات 6 الى 10]
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال ابن عباس صدق بقول لا إله إلا الله وعنه صدق بالخلف به، أي أيقن أن الله سيخلف عليه ما أنفقه في طاعته، وقيل صدق بالجنة، وقيل صدق بموعد الله عز وجل الذي وعده أنه يثيبه فَسَنُيَسِّرُهُ فسنهيئه في الدنيا لِلْيُسْرى أي للخلة والفعلة اليسرى، وهو العمل بما يرضاه الله.
قوله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أي بالنّفقة في الخير والطاعة وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله تعالى فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بلا إله إلا الله أو كذب بما وعده الله عز وجل من الجنة والثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي فسنهيئه للشّر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضى الله تعالى فيستوجب بذلك النار، وقيل نعسر عليه أن يأتي خيرا وفي الآية دليل لأهل السّنة وصحة قولهم في القدر وأن التّوفيق والخذلان والسّعادة والشّقاوة بيد الله تعالى، ووجوب العمل بما سبق له في الأزل (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس، وجعل ينكت(4/434)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» زاد مسلم «1» «وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السّعادة فيصير لعمل أهل السّعادة وأما من كان من أهل الشّقاوة، فيصير لعمل أهل الشّقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى المخصرة بكسر الميم كالسّوط والعصا، ونحو ذلك مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالتاء المثناة فوق ضرب الأرض بذلك أو غيرها مما يؤثر فيه الضرب، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أنه اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه، فأنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني سعي أبي بكر وأمية بن خلف، وقيل كان لرجل من الأنصار نخلة وفرعها في دار رجل فقير وله عيال، فكان صاحب النخلة إذا طلع نخلته ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان ذلك الفقير، فينزل الرجل عن نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه في فيه حتى يخرجها فشكا ذلك الرّجل الفقير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم صاحب النّخلة فقال له: تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة فقال الرجل: إن لي نخلا، وما فيه أعجب إليّ منها ثم ذهب، فسمع بذلك أبو الدحداح رجل من الأنصار، فقال لصاحب النخلة هل لك أن تبيعها بحش يعني حائطا له فيه نخل، فقال هي لك فأتى أبو الدّحداح إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشتريها مني بنخلة في الجنة، فقال نعم فقال هي لك فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك الرجل الفقير جار الأنصاري صاحب النخلة قال خذها لك ولعيالك فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول فيه ضعف لأن هذه السورة مكية، وهذه القصة كانت بالمدينة فإن كانت القصة صحيحة تكون هذه السورة قد نزلت بمكة، وظهر حكمها بالمدينة، والصحيح أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأمية بن خلف لأن سياق الآيات يقتضي ذلك.
[سورة الليل (92) : الآيات 11 الى 18]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
قوله عز وجل: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي الذي بخل به إِذا تَرَدَّى أي إذا مات، وقيل هوى في جهنم إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضّلالة وذلك أنه لما عرفهم ما للمحسن من اليسرى، وما للمسيء من العسرى أخبرهم أن بيده الإرشاد والهداية وعليه تبيين طريقها، وقيل معناه إن علينا للهدى والإضلال فاكتفى بذكر أحدهما، والمعنى أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأصرف أعدائي عن العمل بطاعتي، وقيل معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله سبيله. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا ما في الدّنيا والآخرة فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق فَأَنْذَرْتُكُمْ أي يا أهل مكة ناراً تَلَظَّى أي تتوقد وتتوهج لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني الشّقي الَّذِي كَذَّبَ يعني الرّسل وَتَوَلَّى أي عن الإيمان وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني التّقي الَّذِي يُؤْتِي أي يعطي مالَهُ يَتَزَكَّى أي يطلب عند الله أن يكون زاكيا لا يطلب بما ينفقه رياء ولا سمعة وهو أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين قال ابن الزبير: كان يبتاع الضعفاء فيعتقهم، فقال له أبوه أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال منع ظهري أريد فأنزل الله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السّورة، وذكر محمد ابن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق
__________
(1) (قوله زاد مسلم إلخ) حديث مسلم «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» إلخ.(4/435)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشّمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وأقوى، وهو على دينك أعطيكه قال قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه، وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر بلال سابعهم، وهم عامر بن فهيرة شهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: كذبوا ورب البيت ما تضر اللّات، والعزى، ولا تنفعان فرد الله تعالى: عليها بصرها وأعتق النّهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فرآهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول والله لا أعتقهما أبدا فقال أبو بكر كلا يا أم فلان فقالت كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال فبكم قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان ومر بجارية من بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها وأعتقها فقال عمار بن ياسر: يذكر بلالا وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء وإعتاق أبي بكر إيّاهم وكان اسم أبي بكر عتيقا فقال في ذلك:
جزى الله خيرا عن بلال وصحبه ... عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل
عشية همّا في بلال بسوءة ... ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل
بتوحيد رب الأنام وقوله ... شهدت بأن الله ربي على مهل
فإن تقتلوني فاقتلوني فلم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة القتل
فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم لا تملي
لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير حق كان منه ولا عدل
قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال له أتبيعه قال نعم أبيعه بنسطاس عبد لأبي بكر وكان نسطاس صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر، فلما قال أمية أبيعه بغلامك نسطاس اغتنمه أبو بكر، وباعه به فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده. فأنزل الله عز وجل:
[سورة الليل (92) : الآيات 19 الى 21]
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أي عند أبي بكر مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي من يد يكافئه عليها إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي لم يفعل ذلك مجازاة لأحد ولا ليد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب مرضاته وَلَسَوْفَ يَرْضى أي بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والخير والكرامة جزاء على ما فعل، والله أعلم.(4/436)
وَالضُّحَى (1)
سورة والضّحى
مكية وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة واثنان وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
قوله عز وجل: وَالضُّحى اختلفوا في سبب نزول هذه السّورة على ثلاثة أقوال: القول الأول (ق) «عن جندب بن سفيان البجلي قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» وأخرجه التّرمذي عن جندب قال كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار فدميت إصبعه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
قال: فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودع محمدا ربه فأنزل الله عز وجل:
[سورة الضحى (93) : الآيات 3 الى 5]
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وقيل إن المرأة المذكورة في الحديث المتفق عليه هي أم جميل امرأة أبي لهب.
القول الثاني: قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرّوح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عليه.
القول الثالث: قال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس الوحي، وجبريل عنه أن جروا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إبطائه فقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة.
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقيل اثنا عشر يوما وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما، وقيل أربعون يوما فلما نزل جبريل عليه الصلاة والسلام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك فقال جبريل: إني كنت إليك أشد شوقا، ولكني عبد مأمور. ونزل وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأنزل الله هذه السّورة قوله عز وجل: وَالضُّحى قيل أراد به النهار كله بدليل أنه قابله باللّيل كله في قوله، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، وقيل وقت الضحى وهي السّاعة التي فيها ارتفاع الشّمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء.
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قال ابن عباس أقبل بظلامه وعنه إذا ذهب وقيل معناه غطى كل شيء بظلامه، وقيل معناه سكن فاستقر ظلامه فلا يزاد بعد ذلك، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى وجواب القسم قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وإنما قال قلى ولم يقل(4/437)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
قلاك لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه وما قلى أحدا من أصحابك ومن هو على دينك إلى يوم القيامة.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي الذي أعطاك ربك في الآخرة خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدّنيا، وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتى يرضى (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد، واسأله ما يبكيك، وهو أعلم فأتى جبريل، وسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» عن عوف بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا» أخرجه التّرمذي قال حرب بن شريح سمعت جعفر بن محمد بن علي يقول إنكم يا معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وإنا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقيل في معنى الآية ولسوف يعطيك ربك من الثواب فترضى، وقيل من النّصر والتّمكين وكثرة المؤمنين فترضى وحمل الآية على ظاهرها من خيري الدّنيا والآخرة معا أولى، وذلك أن الله تعالى أعطاه في الدّنيا النصر الظفر على الأعداء وكثرة الأتباع، والفتوح في زمنه، وبعده إلى يوم القيامة وأعلى دينه وإن أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشّفاعة العامة، والخاصة، والمقام المحمود وغير ذلك، مما أعطاه في الدّنيا والآخرة ثم أخبر عن حاله صغيرا وكبيرا قبل الوحي وذكر نعمه عليه وإحسانه إليه. فقال عز وجل:
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً أي صغيرا فَآوى أي ألم يعلمك الله يتيما من الوجود الذي هو بمعنى العلم، والمعنى ألم يجدك يتيما صغيرا حين مات أبوك، ولم يخلف لك مالا، ولا مأوى فجعل لك مأوى تأوي إليه وضمك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة.
وذلك أن عبد الله مات ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل فكفله جده عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب إلى أن قوي، واشتد وتزوج خديجة، وقيل هو من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النّظير فآواك إليه وأيدك وشرفك بنبوته واصطفاك برسالته. وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي عما أنت عليه اليوم فَهَدى أي فهداك إلى توحيده ونبوته، وقيل وجدك ضالا عن معالم النّبوة وأحكام الشّريعة، فهداك إليها وقال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل عليه السّلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القافلة فمنّ الله عليه بذلك، وقيل وجدك ضالًّا نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك، وقيل ووجدك بين أهل الضّلال فعصمك من ذلك وهداك إلى الإيمان وإلى إرشادهم، وقيل الضلال هنا بمعنى الحيرة وذلك لأنه كان صلّى الله عليه وسلّم يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل الله إليك، فهداك لبيانه فهذا ما قيل في هذه الآية ولا يلتفت إلى قول من قال إنه صلّى الله عليه وسلّم كان قبل النّبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام لأن نبينا(4/438)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشئوا على التّوحيد، والإيمان قبل النّبوة وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده ويدل على ذلك أن قريشا لما عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ورموه بكل عيب سوى الشّرك وأمر الجاهلية فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلا إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه ولنقل ذلك فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به. ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الرّاهب حين استحلف النبي صلّى الله عليه وسلّم باللّات والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فرأى بحيرا علامة النّبوة فيه وهو صبي فاختبره بذلك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما، ويؤكد هذا شرح صدره صلّى الله عليه وسلّم في حال الصغر واستخراج العلقة منه وقول جبريل هذا حظ الشيطان منك وملؤه حكمة وإيمانا وقوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وقال الزّمخشري: ومن قال كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه على خلوهم من العلوم السمعية، فنعم وإن أراد أنه كان على دين قومه، فمعاذ الله والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النّبوة وبعدها من الكبائر، والصّغائر الشّائنة، فما بال الكفر والجهل بالصّانع ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ والله أعلم.
قوله عز وجل: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى يعني فقيرا فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم، وقيل أرضاك بما أعطاك من الرّزق، وهذه حقيقة الغني (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» العرض بفتح العين والراء المال (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربي عز وجل مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت: يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا وفلانا كذا قال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟
قلت بلى يا رب» قال: ألم أجدك ضالًّا فهديتك؟ قلت بلى يا رب قال ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت بلى يا رب زاد في رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب» .
فإن قلت كيف يحسن بالجواد الكريم أن يمن بإنعامه على عبده، والمن مذموم في صفة المخلوق، فكيف يحسن بالخالق تبارك وتعالى.
قلت إنما حسن ذلك لأنه سبحانه وتعالى: قصد بذلك أن يقوي قلبه، ويعده بدوام نعمه عليه فظهر الفرق بين امتنان الله تعالى الممدوح وبين امتنان المخلوق المذموم لأن امتنان الله تعالى زيادة إنعامه، كأنه قال ما لك تقطع رجاءك عني ألست الذي ربيتك وآويتك وأنت يتيم صغير أتظنني تاركك ومضيعك كبيرا. بل لا بد وأن أتم نعمتي عليك فقد حصل الفرق بين امتنان الخالق، وامتنان المخلوق، ثم أوصاه باليتامى، والمساكين، والفقراء فقال عز وجل:
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب به لضعفه، وكذا كانت العرب في الجاهلية تفعل في أمر اليتامى يأخذون أموالهم، ويظلمونهم حقوقهم روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ويشير بإصبعيه» (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة، والوسطى، وفرج بينهما» وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يعني السائل على الباب يقول لا تزجره إذا سألك فقد كنت فقيرا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا برفق ولا تكهر بوجهك في وجهه وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النّخعي(4/439)
السّائل: يريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل توجهون إلى أهليكم بشيء وقيل السائل هو طالب العلم فيجب إكرامه وإسعافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه ولا ينهر ولا يلقى بمكروه وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قيل أراد بالنّعمة النّبوة أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاك الله، وقيل النعمة هي القرآن أمره أن يقرأه ويقرئه غيره، وقيل أشكره لما ذكره نعمه عليه في هذه السّورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضّلالة والإغناء بعد العيلة والفقر أمره أن يشكره على إنعامه عليه، والتحدث بنعمة الله تعالى شكرها.
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعطي عطاء فليجزه إن وجد فإن لم يجد فليثن عليه فإن من أثنى عليه فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» أخرجه التّرمذي وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر يقول «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب» والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضّحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن فيقول الله أكبر وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال المشركون: هجره شيطانه، وودعه، فاغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك فلما نزلت والضّحى كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرحا بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/440)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
سورة ألم نشرح
مكية وهي ثمان آيات وسبع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
قوله عز وجل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استفهام بمعنى التّقرير، أي قد فعلنا ذلك ومعنى الشرح الفتح بما يصده عن الإدراك والله تعالى فتح صدر نبيه صلّى الله عليه وسلّم للهدى، والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصده عن إدراك الحق، وقيل معناه ألم نفتح قلبك ونوسعه ونلينه بالإيمان، والموعظة، والعلم، والنبوة، والحكمة، وقيل هو شرح صدره في صغره (م) عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السّلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشّيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمدا قد قتل فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره» وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي حططنا عنك وزرك الذي سلف منك في الجاهلية فهو كقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقيل الخطأ والسّهو وقيل ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها، وقيل المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها لأن الوزر في اللغة الثقل تشبيها بوزر الجبل، وقيل معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلا فسمى العصمة وضعا مجازا.
واعلم أن القول في عصمة الأنبياء قد تقدم مستوفى في سورة طه عند قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وعند قوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.
[سورة الشرح (94) : الآيات 3 الى 6]
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي أثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض وهو الصوت الخفي الذي يسمع من المحمل، أو الرحل فوق البعير، فمن حمل الوزر على ما قبل النّبوة قال هو اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمور كان فعلها قبل نبوته إذ لم يرد عليه شرع بتحريمها، فلما حرمت عليه بعد النبوة عدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها فوضعها الله عنه وغفرها له ومن حمل ذلك على ما بعد النبوة قال: هو ترك الأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقوله عز وجل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه سأل جبريل عن هذه الآية، ورفعنا لك ذكرك قال: قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي» قال ابن عباس:
يريد الأذان، والإقامة، والتّشهد، والخطبة على المنابر، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافرا، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة فليس خطيب ولا(4/441)
متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به، وقال مجاهد يريد التأذين وفيه يقول حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النّبيين، وإلزامهم الإيمان به، والإقرار بفضله، وقيل رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله «محمد رسول الله» وفرض طاعته على الأمة بقوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» ومن يطع الله ورسوله فقد فاز، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء ثم وعده باليسر، والرخاء بعد الشّدة والعناء، وذلك أنه كان في شدة بمكة فقال تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وإنما كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرّجاء قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» وقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخله عليه ويخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين قال المفسرون في معنى قوله لن يغلب عسر يسرين إن الله تعالى كرر لفظ العسر، وذكره بلفظ المعرفة، وكرر اليسر بلفظ النكرة، ومن عادة العرب. إذا ذكرت اسما معرفا ثم أعادته كان الثاني هو الأول وإذا ذكرت اسما نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول كقولك كسبت درهما فأنفقت درهما. فالثاني غير الأول وإذا قلت كسبت درهما، فأنفقت الدرهم فالثاني هو الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسرا واحدا، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين، فكأنه قال فإن مع العسر يسرا إن مع ذلك العسر يسرا آخر وزيف أبو على الحسن بن يحيى الجرجاني صاحب النظم هذا القول، وقال قد تكلم الناس في قوله لن يغلب عسر يسرين فلم يحصل منه غير قولهم إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران وهو قول مدخول فيه إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين فمجاز قوله لن يغلب عسر يسرين أن الله عز وجل بعث نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فاغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره فعدد الله نعمه عليه في هذه السّورة، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم. فقال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي لا يحرنك الذي يقولون فإن مع العسر الذي في الدّنيا يسرا عاجلا، ثم أنجز ما وعده وفتح عليه القرى القريبة، ووسع ذات يده حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السّنية ثم ابتدأ فضلا آخر من أمور الآخرة فقال تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً والدّليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين، والمعنى أن مع العسر الذي في الدّنيا للمؤمن يسرا في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية فقوله لن يغلب عسر يسرين أي إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة، فدائم أبدا غير زائل، أي لا يجتمعان في الغلبة فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص قال القشيري: كنت يوما في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقالت:
أرى الموت لمن أصبح ... مغموما له أروح
فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف في الهواء:(4/442)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
ألا يا أيها المرء ... الذي الهم به برح
وقد أنشد بيتا لم ... يزل في فكره يسنح
إذا اشتد بك العسر ففكر ... في ألم نشرح
فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح
قال فحفظت الأبيات ففرج الله عني وقال إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأس إذا أعسرت يوما ... فقد أيسرت في دهر طويل
ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل
وقال أحمد بن سليمان في المعنى:
توقع لعسر دهاك سرورا ... ترى العسر عنك بيسر تسرى
فما الله يخلف ميعاده ... وقد قال إن مع العسر يسرا
وقال غيره:
وكل الحادثات إذا تناهت ... يكون وراءها فرج قريب
[سورة الشرح (94) : الآيات 7 الى 8]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قوله عز وجل: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ لما عدد الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم نعمه السالفة حثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، والنصب التعب قال ابن عباس: إذا فرغت من الصّلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام اللّيل، وقيل إذا فرغت من التّشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقيل إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك، وقيل إذا فرغت من تبليغ الرّسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين. قال عمر بن الخطاب إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته.
السبهلل الذي لا شيء معه، وقيل السبهلل الباطل وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي تضرع إليه راغبا في الجنة راهبا من النار، وقيل اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه والله أعلم.(4/443)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
سورة والتين
(مكية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)
قوله عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قال ابن عباس: هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قيل إنما خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التّنغيص، وفيه غذاء ويشبه فواكه الجنة لكونه بلا عجم.
ومن خواصه أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يخرج بطريق الرشح ويلين الطبيعة، ويقلل البلغم وأما الزيتون فإنه من شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به وشجرته في أغلب البلاد ولا يحتاج إلى خدمة وتربية وينبت في الجبال التي ليست فيها دهنية ويمكث في الأرض ألوفا من السنين، فلما كان فيهما من المنافع، والمصالح الدّالة على قدرة خالقهما لا جرم أقسم الله بهما، وقيل هما جبلان فالتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، واسمهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما ينبتان التين والزيتون، وقيل هما مسجدان فالتين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وإنما حسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة، وقيل التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء، وقيل التين مسجد نوح الذي بناه على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس وَطُورِ سِينِينَ يعني الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصّلاة والسّلام وسينين اسم للمكان الذي فيه الجبل سمي سينين وسيناء لحسنه ولكونه مباركا وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني الآمن، وهو مكة حرسها الله تعالى لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيده ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد وهذه أقسام أقسم الله بها لما فيها من المنافع والبركة وجواب القسم قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يعني في أعدل قامة، وأحسن صورة، وذلك أنه تعالى خلق كل حيوان منكبا على وجهه يأكل بفيه إلا الإنسان فإنه خلقه مديد القامة حسن الصورة يتناول مأكوله بيده مزينا بالعلم، والفهم، والعقل، والتّمييز، والمنطق. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يعني إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله والسّافلون هم الضّعفاء، والزمنى والأطفال والشّيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا لأنه لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، وقيل ثم رددناه إلى النّار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض ثم استثنى. فقال تعالى:(4/444)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
[سورة التين (95) : الآيات 6 الى 8]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يردون إلى النار أو إلى أسفل سافلين وعلى القول الأول يكون الاستثناء منقطعا، والمعنى ثم رددناه أسفل سافلين فزال عقله وانقطع عمله فلا تكتب له حسنة لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضّعف، فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملون في حالة الشّباب والصّحة وقال ابن عباس: هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم فعلى هذا القول السبب خاص وحكمه عام قال عكرمة ما يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل وروي عن ابن عباس: قال إلا الذين قرءوا القرآن وقال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير مقطوع لأنه يكتب له بصالح ما كان يعمل قال الضّحاك: أجر بغير عمل ثم قال إلزاما للحجة. فَما يُكَذِّبُكَ يعني يا أيها الإنسان وهو خطاب على طريق الالتفات بَعْدُ أي بعد هذه الحجة والبرهان بِالدِّينِ أي بالحساب والجزاء، والمعنى فما الذي يلجئك أيها الناس إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك، ومبدأ خلقك، وهرمك، فتعتبر وتقول أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذبك بالمجازاة، وقيل هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى فمن يكذبك أيها الرّسول بعد ظهور هذه الدّلائل، والبراهين أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي بأقضى القاضين يحكم بينكم وبين أهل التكذيب يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشّاهدين» أخرجه الترمذي وعن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر فصلّى العشاء الأخيرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه صلّى الله عليه وسلّم» والله تعالى أعلم.(4/445)
سورة العلق
(مكية وهي تسع عشرة آية واثنتان وتسعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا) قال أكثر المفسرين هذه السّورة أول سورة نزلت من القرآن وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ (ق) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة» ولمسلم «الصّادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الوحي» وفي رواية حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ثم قال لخديجة أي خديجة ما لي وأخبرها الخبر قال لقد خشيت على نفسي قالت له خديجة كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرّحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: أيّ ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو مخرجيّ هم؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال: حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
(فصل) في هذا الحديث دليل صحيح صريح على أن سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن وفيه رد على من قال إن المدثر أول ما نزل من القرآن، وقد تقدم الكلام على ذلك والجمع بين القولين في أول سورة المدثر وهذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلّى الله عليه وسلّم أو من غيره من الصحابة ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وإنما ابتدئ(4/446)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
صلّى الله عليه وسلّم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك، فيأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأول علامات النبوة توطئه للوحي، وأما التّحنث فقد فسر في الحديث بالتعبد، وهو تفسير صحيح لأن أصل التحنث من الحنث، وهو الإثم، والمعنى أنه فعل فعلا يخرج به من الإثم وقولها فجأة الحق أي جاءه الحق بالوحي بغتة.
قوله: فغطني بالغين المعجمة، والطاء المشالة المهملة، أي عصرني، وضمني ضما شديدا، وهو قوله حتى بلغ مني الجهد قال العلماء: والحكمة في الغط شغله عن الالتفات إلى غيره، والمبالغة في صفاء قلبه ولهذا كرره ثلاثا.
قوله: زملوني زملوني كذا هو في الروايات مكرر مرتين، ومعناه غطوني بالثياب، وقوله حتى ذهب عنه الرّوع أي الفزع قولها كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا يروى بضم الياء وبالخاء المعجمة من الخزي أي لا يفضحك الله، ولا يكسرك، ولا يهينك ولا يذلك وروي بفتح الياء وبالحاء المهملة وبالنون أي لا يحزنك من الحزن الذي هو ضد الفرح وقولها وتحمل الكل أي الثقيل والحوائج المهمة، وتكسب المعدوم أي تعطي المال لمن هو معدوم عنده ومعنى كلام خديجة أنك لا يصيبك مكروه لما جعل فيك من مكارم الأخلاق وحميد الفعال. وخصال الخير وذلك سبب السلامة من مصارع السوء.
قولها: وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية مسلم «وكان يكتب الكتاب العربي يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب» ومعناهما صحيح وحاصله أنه تمكن من دين النصرانية بحيث صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية إن أراد، أو بالعربية إن أراد ذلك، قوله هذا النّاموس الذي أنزل الله على موسى هو بالنون والسين المهملة، يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام ومعنى النّاموس صاحب خبر الخير. إنما سمي جبريل بذلك لأن الله خصه بالوحي إلى الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام قوله يا ليتني فيها، أي في أيام النّبوة وإظهار الرّسالة جذعا أي شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك، وهو قوله وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي قويا بالغا قولها ثم لم يلبث ورقة أن توفي أي فلم يلبث أن مات قبل ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله كي يتردى التّردي الوقوع من علو، وذروة الجبل أعلاه قوله تبدى له أي ظهر له قوله فيسكن لذلك جأشه أي قلبه، وقيل الجأش هو ثبوت القلب عند الأمر العظيم المهول، وقيل الجأش هو ما ثار من فزعه وهاج من حزنه والله أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة العلق (96) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
قوله عزّ وجلّ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبا، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة الَّذِي خَلَقَ يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء.(4/447)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
[سورة العلق (96) : الآيات 2 الى 10]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها، وأحسنها خلقه مِنْ عَلَقٍ جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضا اقْرَأْ كرره تأكيدا وقيل الأول اقرأ في نفسك، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف. فقال تعالى:
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عينا بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين، وقيل الأكرم هو الذي لا الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة:
القلم نعمة من الله عظيمة. لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش، فسأل بعضهم عن الكلام، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قيل يحتمل أن يكون المراد علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فيكون المراد من ذلك معنى واحدا، وقيل علمه من أنواع العلم، والهداية، والبيان، ما لم يكن يعلم، وقيل علم آدم الأسماء كلها، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي حقا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أي يتجاوز الحد، ويستكبر على ربه أَنْ أي لأن رَآهُ اسْتَغْنى أي رأى نفسه غنيا وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالا فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغ متكبر.
[سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 19]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة (م) عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقيل نعم فقال واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» فأنزل الله هذه الآية، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه كلا إن الإنسان ليطغى إلى قوله كلا لا تطعه قال: وأمره بما أمره به زاد في رواية، فليدع ناديه يعني قومه (خ) عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد التّرمذي عيانا ومعنى أرأيت تعجبا للمخاطب وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفائدة التنكير في قوله عبدا تدل على أنه كامل العبودية، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية، وهذا دأبه وعادته، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة، ولا يلزم من ذلك أيضا عدم جواز منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل، وصوم(4/448)
التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني العبد المنهي وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى يعني في الإخلاص والتوحيد أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ يعني أبا جهل وَتَوَلَّى أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبدا إذا صلّى وهو على الهدى آمر بالتّقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا أَلَمْ يَعْلَمْ يعني أبا جهل بِأَنَّ اللَّهَ يَرى يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم كَلَّا أي لا يعلم ذلك أبو جهل لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ يعني عن إيذاء محمد صلّى الله عليه وسلّم وعن تكذيبه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال على البدل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي صاحبها كاذب خاطئ.
قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة انتهره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو جهل: أتنتهرني فو الله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا، ورجالا مردا وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم فزبره فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن غريب صحيح، ومعنى فليدع ناديه أي عشيرته وقومه فلينتصر بهم، وأصل النادي المجلس الذي يجمع الناس، ولا يسمى ناديا ما لم يكن فيه أهله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يعني الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس: يريد زبانية جهنم سموا بذلك لأنهم يدفعون أهل النّار إليها بشدة مأخوذ من الزّبن وهو الدفع كَلَّا أي ليس الأمر على ما هو عليه أبو جهل لا تُطِعْهُ أي في ترك الصّلاة وَاسْجُدْ يعني صل لله وَاقْتَرِبْ أي من الله (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء» وهذه السّجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشّافعي فيسن للقارئ، والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت» أخرجه مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/449)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
سورة القدر
وهي مدنية وقيل إنها مكية والقول الأول أصح، وهو قول الأكثرين، قيل إنها أول ما نزل بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنا عشر حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن كناية عن غير مذكور فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر فوضعه في بيت العزة، ثم نزل به جبريل عليه السّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم نجوما متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحسب الوقائع، والحاجة إليه، وقيل إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور، والأحكام، والأرزاق، والآجال، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض في الأزل، قيل للحسين بن الفضل أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض قال: نعم قيل له فما معنى ليلة القدر قال سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها على اللّيالي من قولهم لفلان قدر عند الأمير، أي منزلة وجاه، وقيل سميت بذلك لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولا، وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها.
(فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها) (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، واختلف العلماء في وقتها فقال بعضهم إنها كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم رفعت لقوله صلّى الله عليه وسلّم حين تلاحى الرجلان «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم» وهذا غلط ممن قال بهذا القول لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلّى الله عليه وسلّم قال في آخره «فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة» ، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن ليلة القدر رفعت قال كذب من قال ذلك قلت هي في كل شهر رمضان استقبله قال نعم.
ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها، فقيل هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في(4/450)
ليلة أخرى هكذا أبدا قالوا: وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة وقال: مالك والثّوري وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل بل تنتقل في رمضان كله، وقيل إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبدا في جميع السنين لا تفارقها، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة، وصاحبيه وروي عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرّحمن. أما إنه علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وقال جمهور العلماء: إنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة فقال أبو رزين العقيلي: في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل هي ليلة سبعة عشر وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر يحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان والله سبحانه وتعالى أعلم.
(ذكر الأحاديث الواردة في ذلك) (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين (ق) عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال «اعتكفنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العشر الأواسط فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا فأتانا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه، وأنا رأيت هذه الليلة، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا فو الذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم، وكان المسجد على عريش، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين» ، وفي رواية نحوه إلا أنه قال «حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» ، وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثا عن عبد الله بن أنيس قال: «كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة القدر وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت فوافيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال كم اللّيلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي اللّيلة، ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثا وعشرين» أخرجه أبو داود.
وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ومال إليه الشّافعي أيضا (خ) عن الصّنابحي، أنه سأل رجلا هل سمعت في ليلة القدر شيئا قال، أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها في أول السبع من العشر الأواخر، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال: «قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين قيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال: كان يدخل المسجد إذا صلّى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلّى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته» أخرجه أبو داود ولمسلم عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين» قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين (خ) عن ابن عباس قال التمسوها في أربع وعشرين، وقيل في ليلة خمس وعشرين دليله قوله صلّى الله عليه وسلّم «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» ، وقيل هي ليلة سبع وعشرين يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وإليه ذهب أحمد (م) عن زر بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر قال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي(4/451)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
رمضان يحلف، ولا يستثني، فو الله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها عن معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في ليلة القدر، قال ليلة سبع وعشرين» أخرجه أبو داود، وقيل هي ليلة تسع وعشرين دليله قوله «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وقيل هي ليلة آخر الشهر، عن ابن عمر قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة القدر وأنا أسمع، فقال هي في كل رمضان» أخرجه أبو داود قال ويروى موقوفا عليه.
(ذكر ليال مشتركة) عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر «اطلبوها ليلة سبع وعشرين من رمضان، وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، ثم سكت» أخرجه أبو داود عن عتبة بن عبد الرّحمن قال: حدثني أبي قال ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول «التمسوها في تسع يبقين أو في خمس يبقين، أو في ثلاث يبقين أواخر الشهر» قال وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد أخرجه التّرمذي (خ) عن عبادة بن الصّامت قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» قوله فتلاحى رجلان أي تخاصم رجلان، وقوله فرفعت لم يرد رفع عينها، وإنما أراد رفع بيان وقتها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هي في العشر في سبع مضين أو سبع يبقين يعني القدر» وفي رواية «في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» قال أبو عيسى: «روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان» قال الشّافعي: كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له نلتمسها في كذا، فقال التمسوها في ليلة كذا قال الشّافعي: وأقوى الروايات عندي في ليلة إحدى وعشرين قال البغوي وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصّلاة الوسطى في الصّلوات الخمس، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه، ورضاه في الطّاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام السّاعة ليجتهدوا في الطاعات حذرا من قيامها، ومن علاماتها. ما روى الحسن رفعه «إنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها» (ق) عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر الأواخر أحيا اللّيل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر» ولمسلم عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره» (ق) عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان» عن عائشة قالت «قلت يا رسول الله إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح أخرجه النسائي وابن ماجة.
[سورة القدر (97) : الآيات 3 الى 5]
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها، وهذا على سبيل(4/452)
التعظيم لها، والتّشويق إلى خيرها ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه:
فقال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ابن عباس: ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بني إسرائيل حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لذلك، وتمنى ذلك لأمته فقال: يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا، وأقلها أعمالا، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر، فقال ليلة القدر خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السّلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة، وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أرى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أي لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر أخرجه مالك في الموطأ قال المفسرون: معناه العمل الصّالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة.
الوجه الثاني: من فضلها قوله عزّ وجلّ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يعني إلى الأرض وسبب هذا أنهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وظهر أن الأمر بخلاف ما قالوه وتبين حال المؤمنين وما هم عليه من الطاعة، والعبادة، والجد، والاجتهاد نزلوا إليهم ليسلموا عليها ويعتذروا مما قالوه، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم وَالرُّوحُ يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله أكثر المفسرين: وفي حديث أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون، ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ» ذكره ابن الجوزي، وقيل إن الرّوح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشّمس إلى طلوع الفجر، وقيل إن الروح ملك عظيم ينزل مع الملائكة، تلك الليلة فِيها أي في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمر ربهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي بكل أمر من الخير والبركة، وقيل بكل ما أمر به وقضاه من كل أمر.
الوجه الثالث: من فضلها قوله تعالى: سَلامٌ أي سلام على أولياء الله وأهل طاعته قال الشّعبي: هو تسليم الملائكة في ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، وقيل الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمنا أو مؤمنة يسلمون عليه من ربه عزّ وجلّ، وقيل تم الكلام عند قوله مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ثم ابتدأ فقال تعالى: سَلامٌ هِيَ يعني القدر سلامة وخير ليس فيها شر، وقيل لا يقدر الله في تلك اللّيلة ولا يقضي إلا السلامة، وقيل إن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يحدث فيها أذى حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي أن ذلك السّلام أو السّلامة تدوم إلى مطلع الفجر، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(4/453)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
سورة لم يكن
وتسمى سورة البينة وهي مدنية قاله الجمهور، وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية هي ثمان آيات، وأربع وتسعون كلمة وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنّصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل كتاب وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله وتشبيههم الله بخلقه، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك، والثاني المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله الجنسين في قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي منتهين عن كفرهم وشركهم وقيل معناه زائلين حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي حتى أتتهم لفظه مضارع ومعناه الماضي الْبَيِّنَةُ أي الحجة الواضحة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم، وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين، قال الواحدي في بسيطة: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما، وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
قال الإمام فخر الدين في تفسيره إنه لم يلخص كيفية الأشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عما ذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني قال والجواب عنه من وجوه:
أولها: وأحسنها الوجه، الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال وَما(4/454)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا، فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخا، وإلزاما قال الإمام فخر الدين: وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوها أخر قال: والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي تلك البينة رسول من الله يَتْلُوا أي يقرأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم صُحُفاً أي كتبا يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب مُطَهَّرَةً أي من الباطل والكذب والزّور، والمعنى أنها مطهرة من القبيح، وقيل معنى مطهرة معظمة، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون فِيها أي في الصحف كُتُبٌ أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام قَيِّمَةٌ أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال تعالى:
[سورة البينة (98) : الآيات 5 الى 8]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وَما أُمِرُوا يعني هؤلاء الكفار إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس: ما أمروا في التوراة، والإنجيل، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة، وتجريدها عن شوائب الرّياء، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة. كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات، قال أصحاب الشّافعي: الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا، فتجب النية في الوضوء، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصا له، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة من النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافا لربه عزّ وجلّ بالرّبوبية، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» حُنَفاءَ(4/455)
أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وقيل حنفاء أي حجاجا وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم فليس بحنيف وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي المفروضة عند محلها وَذلِكَ أي الذي أمروا به دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة ردا إلى الملة، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة، وقيل القيمة جمع القيم، والقيم، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولا وأتبعه بالعمل ثانيا ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين.
قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم.
فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب.
قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أذلهم الله في الدّنيا، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب. فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا: فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين: رضا به ورضا عنه، فالرضا به أن يكون ربا ومدبرا، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك، وقيل: رضي الله أعمالهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة ذلِكَ أي هذا الجزاء والرضا لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال وسماني قال نعم فبكى» وفي رواية البخاري «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال الله سماني لك، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه» :
(شرح غريب الحديث) أما بكاء أبي فإنه بكى سرورا، واستصغارا لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما: كونه منصوصا عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكره هذه النعمة.(4/456)
وأما تخصيص هذه السّورة بالقراءة، فإنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات عظيمة، وكان الحال يقتضي الاختصار، وأما الحكمة في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة على أبي فهي أن يتعلم أبي القراءة من ألفاظه صلّى الله عليه وسلّم، وضبط أسلوب الوزن المشروع وقدره بخلاف ما سواه من النّعم المستعملة في غيره فكانت قراءته على أبي ليتعلم أبي منه لا ليتعلم هو من أبي وقيل إنما قرأ على أبي ليتعلم غيره التواضع والأدب وأن لا يستنكف الشريف وصاحب الرتبة العالية أن يتعلم القرآن ممن هو دونه، وفيه تنبيه على فضيلة أبي والحث عن الأخذ عنه وتقديمه في ذلك فكان كذلك بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسا وإما ما في القراءة وغيرها، وكان أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/457)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
سورة الزلزلة
وهي مكية وقيل مدنية وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسعة وأربعون حرفا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» أخرجه التّرمذي وقال: حديث غريب وله عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له نصف القرآن ومن قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عدلت له ثلث القرآن» وقال حديث غريب.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)
قوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي تحركت حركة شديدة، واضطربت، وذلك عند قيام الساعة، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل، وشجر، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان أحدهما: وهو قول الأكثرين، أنها في الدّنيا، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها، وما في بطنها من الدّفائن، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب، والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع، فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها، لأن الكبد مستور في الجوف، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور، واستعار القيء للإخراج، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتا. وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان. أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فإذا وقعت سأل عنها، وقيل مجاز الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فيقول الإنسان ما لها، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر، فتشكوا العاصي، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له «عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(4/458)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس:
أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة، والعقل، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي عن موقف الحساب بعد العرض أَشْتاتاً أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر وهو قوله تعالى:
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه، وماله، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ وكان أحدهما يأتيه السائل، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود: أحكم آية في القرآن فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وسمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير، فقال ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب، وقالا فيها مثاقيل كثيرة، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم: مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/459)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
سورة العاديات
وهي مكية في قول ابن مسعود وغيره مدنية في قول ابن عباس، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
قوله عزّ وجلّ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فيه قولان أحدهما، أنها الإبل في الحج قال عليّ كرم الله وجهه: هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، وعنه قال كانت أول غزاة في الإسلام بدرا، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزّبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات؟ فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها مد أعناقها في السير وأصله من حركة النار في العود. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يعني أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها فيضرب الحجر حجرا آخر فيوري النّار، وقيل هي النيران بجمع فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الإبل تدفع بركبانها يوم النّحر من جمع إلى منى والسنة أن لا يدفع حتى يصبح والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم أشرق ثبير كيما نغير فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أي هيجن بمكان سيرها غبارا.
[سورة العاديات (100) : الآيات 5 الى 11]
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي وسطن بالنقع جمعا وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للتّرغيب وفيه تقريع لمن لم يحج بعد القدرة عليه، فإن الكنود هو الكفور، ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك القول الثاني في تفسير والعاديات، قال ابن عباس وجماعة هي الخيل العادية في سبيل الله والضبح صوت أجوافها إذا غدت قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس، والكلب، والثعلب، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع أو تعب، وهو من قول العرب ضبحته النّار إذا غيرت لونه، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يعني أنها توري النّار بحوافرها إذا سارت في الحجارة، وقيل هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها وقال ابن عباس: هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي باللّيل فيوري أصحابها نارا، ويصنعون طعامهم، وقيل هو مكر الرّجال في الحرب، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصّباح لأن النّاس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد، فَأَثَرْنَ بِهِ أي بالمكان نَقْعاً أي غبارا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي دخلن به أي بذلك النّقع وهو الغبار، وقيل صرن بعدوهن وسط جمع العدو، وهم الكتيبة وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصّحة، وأشبه بالمعنى، لأن الضبح من صفة(4/460)
الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها، وإثارة الغبار أيضا، وإنما أقسم الله بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية، والدنيوية، والأجر، والغنيمة، وتنبيها على فضلها، وفضل رباطها في سبيل الله عزّ وجلّ، ولما ذكر الله تعالى المقسم به ذكر المقسم عليه. فقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور وهو جواب القسم قال ابن عباس: الكنود الكفور الجحود لنعمة الله تعالى، وقيل الكنود هو العاصي، وقيل هو الذي يعد المصائب، وينسى النّعم، وقيل هو قليل الخير مأخوذ من الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت شيئا، وقال الفضيل بن عياض الكنود:
الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، وضده الشّكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قال أكثر المفسرين: وإن الله على كونه كنود الشّاهد، وقيل الهاء راجعة إلى الإنسان، والمعنى أنه شاهد على نفسه بما صنع وَإِنَّهُ يعني الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال لَشَدِيدٌ أي لبخيل والمعنى أنه من أجل حب المال لبخيل، وقيل معناه وإنه لحب المال وإيثار الدّنيا لقوي شديد أَفَلا يَعْلَمُ يعني هذا الإنسان إِذا بُعْثِرَ أي أثير وأخرج ما فِي الْقُبُورِ يعني من الموتى وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي ميز وأبرز ما فيها من الخير والشر إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ أي جمع الكناية لأن الإنسان اسم جنس يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي عالم والله تعالى خبير بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم على كفرهم وإنما خص أعمال القلوب بالذّكر في قوله، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات التي في القلوب لما حصلت أعمال الجوارح والله أعلم.(4/461)
الْقَارِعَةُ (1)
سورة القارعة
مكية وهي ثمان آيات وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: الْقارِعَةُ أصل القرع الصّوت الشّديد، ومنه قوارع الدّهر أي شدائده، والقارعة من أسماء القيامة. سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع، والشدائد وقيل سميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته، مَا الْقارِعَةُ تهويل وتعظيم، والمعنى أنها فاقت القوارع في الهول والشّدة وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها فهم أحد وكيفما قدرت أمرها فهي أعظم من ذلك يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ الفراش هذه الطير التي تراها تتهافت في النار سميت بذلك لفرشها، وانتشارها، وإنما شبه الخلق عند البعث بالفراش، لأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة. بل كل واحدة تذهب إلى غير جهة الأخرى، فدل بهذا التشبيه على أن الخلق في البعث يتفرقون، فيذهب كل واحد إلى غير جهة الآخر، والمبثوث المتفرق، وشبههم أيضا بالجراد فقال: كأنهم جراد منتشر وإنما شبههم بالجراد لكثرتهم قال الفراء: كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا فشبه الناس عند البعث بالجراد لكثرتهم بموج بعضهم في بعض، ويركب بعضهم بعضا من شدة الهول. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي كالصّوف المندوف، وذلك لأنها تتفرق أجزاؤها في ذلك اليوم حتى تصير كالصّوف المتطاير عند الندف، وإنما ضم بين حال الناس وحال الجبال، كأنه تعالى نبه على تأثير تلك القارعة في الجبال العظيمة الصّلدة الصّلبة حتى تصير كالعهن المنفوش، فكيف حال الإنسان الضّعيف عند سماع صوت القارعة ثم لما ذكر حال القيامة قسم الخلق على قسمين فقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ يعني رجحت موازين حسناته قيل هو جمع موزون، وهو العمل الذي له قدر وخطر عند الله تعالى، وقيل هو جمع ميزان وهو الذي له لسان وكفتان توزن فيه الأعمال فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان، فإن رجحت فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فتخف ميزانه، فيدخل النار، وقيل إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار، فيقتص منه على قدرها ثم يخرج منها، فيدخل الجنة أو يعفو الله عنه بكرمه، فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه، ورحمته، وأما الكافرون فقد قال: في(4/462)
حقهم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً روى عن أبي بكر الصّديق أنه قال: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدّنيا، وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا.
قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية في الجنة، وقيل في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي رجحت سيئاته على حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي مسكنة النّار سمي المسكن أمّا لأن الأصل في السكون الأمهات، وقيل معناه فأم رأسه هاوية في النّار، والهاوية اسم من أسماء النار، وهي المهواة التي لا يدرك قعرها فيهوون فيها على رؤوسهم، وقيل كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال هوت أمه أي هلكت حزنا وثكلا وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ يعني الهاوية ثم فسرها فقال نارٌ حامِيَةٌ أي حارة قد انتهى حرها نعوذ بالله وعظمته منها والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/463)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
سورة التكاثر
مكية وهي ثمان آيات وثمان وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)
قوله عزّ وجلّ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلتكم المفاخرة، والمباهاة، والمكاثرة بكثرة المال، والعدد، والمناقب عن طاعة الله ربكم، وما ينجيكم من سخطه، ومعلوم أن من اشتغل بشيء أعرض عن غيره، فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه وشغله في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه عزّ وجلّ. فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان، والأقرباء تفاخر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السّعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويدل على أن المكاثرة، والمفاخرة بالمال مذمومة، ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ «فقال يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح (خ) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه ماله وأهله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى متم ودفنتم في المقابر يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه، فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك قيل نزلت هذه الآية في اليهود، قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالا، وقيل نزلت في حيين من قريش، وهما بنو عبد مناف، وبنو سهم بن عمرو، وكان بينهم تفاخر فتعادوا القادة، والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عددا، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكاثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا نعد موتانا فعدوا الموتى حتى زار والقبور، فعدوهم فقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددا فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن لأن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ يدل على أمر مضى، فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول مجيبا هب إنكم أكثر عددا، فماذا ينفع ثم رد الله تعالى عليهم فقال:
[سورة التكاثر (102) : الآيات 3 الى 8]
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
كَلَّا أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء بالتّكاثر والتّفاخر، وقيل المعنى حقا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد لهم(4/464)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كرره توكيدا والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت، فهو وعيد بعد وعيد، وقيل معناه كلا سوف تعلمون يعني الكافرين ثم كلا سوف تعلمون يعني المؤمنين وصاحب هذا القول يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينا وجواب لو محذوف والمعنى لو تعلمون علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التّكاثر والتّفاخر، قال قتادة كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد، وإن ما أوعدوا به لا يدخله شك ولا ريب، والمعنى أنكم ترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت ثُمَّ لَتَرَوُنَّها يعني مشاهدة عَيْنَ الْيَقِينِ وإنما كرر الرّؤية لتأكيد الوعيد ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ يعني أن كفار مكة كانوا في الدّنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه لأنهم لم يشكروا رب النّعيم حيث عبدوا غيره ثم يعذبون على ترك الشكر، وذلك لأن الكفار لما ألهاهم التّكاثر بالدّنيا، والتّفاخر بلذاتها عن طاعة الله والاشتغال بشكره سألهم عن ذلك، وقيل إن هذا السّؤال يعم الكافر، والمؤمن، وهو الأولى لكن سؤال الكافر توبيخ، وتقريع لأنه ترك شكر ما أنعم الله به عليه، والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم لأنه شكر ما أنعم الله به عليه، وأطاع ربه فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم الله عليه. يدل على ذلك ما روي «عن الزّبير قال لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التّمر والماء قال أما أنه سيكون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن واختلفوا في النعيم الذي يسأل البعد عنه، فروي عن ابن مسعود رفعه قال لتسألن يومئذ عن النّعيم قال الأمن، والصحة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد» أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال صلّى الله عليه وسلّم ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة، قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين فلان قالت ذهب يستعذب لنا الماء إذا جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب فقال: كلوا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياك والحلوب، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النّعيم» وأخرجه التّرمذي بأطول من هذا «وفيه ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وروي عن ابن عباس قال: النّعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العبيد يوم القيامة فيم استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وقيل يسأل عن الصحة والفراغ والمال (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» ، وقيل الذي يسأل العبد عنه هو القدر الزائد على ما يحتاج إليه فإنه لا بد لكل أحد من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، وقيل يسأل عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن، وقيل عن الإسلام فإنه أكبر النّعم، وقيل يسأل عما أنعم به عليكم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أنقذكم به من الضّلال إلى الهدى، والنّور وامتنّ به عليكم والله أعلم.(4/465)
وَالْعَصْرِ (1)
سورة العصر
مكية قاله ابن عباس والجمهور وقيل هي مدنية وهي ثلاث آيات وأربع عشر كلمة وثمانية وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قوله عزّ وجلّ: وَالْعَصْرِ قال ابن عباس: هو الدّهر قيل أقسم الله به لما فيه من العبر، والعجائب للنّاظر وقد ورد في الحديث «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وذلك لأنهم كانوا يضيفون النّوائب والنّوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيها على شرفه وأن الله هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النّوائب والنّوازل كان بقضاء الله وقدره، وقيل تقديره ورب العصر، وقيل أراد بالعصر اللّيل والنّهار لأنهما يقال لهما العصران، فنبه على شرف الليل والنهار لأنهما خزانتان لأعمال العباد، وقيل أراد بالعصر آخر طرفي النهار أقسم بالعشي كما أقسم بالضّحى، وقيل أراد صلاة العصر أقسم بها لشرفها ولأنها الصّلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى لما قيل هي صلاة العصر والذي في مصحف عائشة رضي الله عنها وحفصة والصّلاة الوسطى صلاة العصر وفي الصحيحين «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» وقال صلّى الله عليه وسلّم «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» ، وقيل أراد بالعصر زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ نبه بذلك على أنه زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي لفي خسران ونقصان قيل أراد بالإنسان جنس الإنسان بدليل قولهم كثر الدرهم في أيدي الناس أي الدرهم وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران، لأن الخسران هو تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك السّاعة في طاعة أو معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر وإن كانت في طاعة، فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعا وخسرانا، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران، وقيل إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة وحبها والإعراض عن الدّنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية، والأسباب الدّاعية إلى حب الدّنيا ظاهرة، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدّنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في خسار وبوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم، وقيل أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني فإنهم ليسوا في خسر، والمعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله تعالى فهو في(4/466)
صلاح وخير وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك. وَتَواصَوْا أي أوصى بعض المؤمنين بعضا بِالْحَقِّ يعني بالقرآن والعمل بما فيه، وقيل بالإيمان والتّوحيد وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي على أداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده، وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدّنيا وهرم لفي نقص وتراجع إلا الذين آمنوا، وعملوا الصّالحات فإنهم تكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم وهي مثل قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/467)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
سورة الهمزة
مكية وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الهمزة (104) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ أي قبح، وقيل اسم واد في جهنم لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن عباس هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب وقيل معناهما واحد وهو العياب المغتاب للناس في بعضهم قال الشاعر:
إذا لقيتك من كره تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزا
وقيل بل يختلف معناهما فقيل الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللّمزة الذي يعيبك في الوجه، وقيل هو على ضده، وقيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللّمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم، وقيل هو الذي يهمز بلسانه ويلمز بعينه، وقيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يرمق بعينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه، وقيل الهمزة المغتاب للناس واللمزة الطعان في أنسابهم وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب وأصل الهمز الكسر والقبض على الشيء بالعنف، والمراد منه هنا الكسر من أعراض الناس والغض منهم، والطعن فيهم، ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم، وأفعالهم، وأصواتهم ليضحكوا منه، وهما نعتان للفاعل على نحو سخرة وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب. كان يقع في الناس ويغتابهم وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ورائه ويطعن عليه في وجهه، وقيل نزلت في العاص بن وائل السّهمي، وقيل هي عامة في كل شخص هذه صفته كائنا من كان، وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ والحكم، ومن قال إنها في أناس معينين قال أن يكون اللّفظ عاما لا ينافي أن يكون المراد منه شخصا معينا وهو تخصيص العام بقرينة العرف والأولى أن تحمل على العموم في كل من هذه صفته ثم وصفه فقال تعالى:
[سورة الهمزة (104) : الآيات 2 الى 9]
الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الَّذِي جَمَعَ مالًا وإنما وصفه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز يعني وهو بإعجابه بما جمع من المال يستصغر الناس ويسخر منهم، وإنما نكر مالا لأنه بالنسبة إلى مال هو أكثر منه(4/468)
كالشّيء الحقير وإن كان عظيما عند صاحبه فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر بالشيء الحقير وَعَدَّدَهُ أي أحصاه من العدد، وقيل هو من العدة أي استعده وجعله ذخيرة وغنى له يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت ليساره وغناه قال الحسن ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ومعناه أن الناس لا يشكون في الموت مع أنهم يعملون عمل من يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت كَلَّا رد عليه أي لا يخلده ماله بل يخلده ذكر العلم، والعمل الصّالح ومنه قول علي: مات خزان المال، وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، وقيل معناه حقا لَيُنْبَذَنَّ واللام في لينبذن جواب القسم فدل ذلك على حصول معنى القسم، ومعنى لينبذن ليطرحن فِي الْحُطَمَةِ أي في النار، وهو اسم من أسمائها مثل سقر ولظى، وقيل هو اسم للدركة الثانية منها وسميت حطمة لأنها تحطم العظام وتكسرها، والمعنى يا أيّها الهمزة اللمزة الذي يأكل لحوم الناس، ويكسر من أعراضهم إن وراءك الحطمة التي تأكل اللحوم وتكسر العظام وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ أي نار لا كسائر النيران نارُ اللَّهِ إنما أضافها إليه على سبيل التفخيم والتعظيم لها الْمُوقَدَةُ أي لا تخمد أبدا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أوقد على النّار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» أخرجه التّرمذي قال ويروى عن أبي هريرة موقوفا وهو أصح الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب، والمعنى أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد، وإنما خص الفؤاد بالذكر لأنه ألطف شيء في بدن الإنسان، وأنه يتألم بأدنى شيء، فكيف إذا اطلعت عليه واستولت عليه، ثم إنه مع لطافته لا يحترق إذ لو احترق لمات صاحبه، وليس في النار موت، وقيل إنما خصه بالذكر لأن القلب موطن الكفر، والعقائد، والنيات الفاسدة. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قال ابن عباس: أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب، وقال قتادة: بلغنا أنهم عمد يعذبون بها في النّار، وقيل هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، والمعنى أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممدودة، وقيل أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا ينفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح، وممددة صفة العمد، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة نعوذ بالله من النار، وحرها والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/469)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سورة الفيل
مكية وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الفيل (105) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ كانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس، وذكره الواقدي أن النجاشي ملك الحبشة كان بعث أرياط إلى اليمن، فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة بن الصّباح بن يكسوم، فساخط أرياط في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين، فكان طائفة مع أرياط، وطائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط، واجتمعت الحبشة لأبرهة، وغلب على اليمن، وأقره النّجاشي على عمله، ثم إن أبرهة رأى النّاس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله عزّ وجلّ، فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب إلى النّجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج لها ليلا، فدخل وتغوط فيها ولطّخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ عليّ، فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلا لم ير مثله عظما، وجسما، وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائرا إلى مكة، وخرج معهم الفيل، فسمعت العرب بذلك، فعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتلوه فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر فقال يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستحياه وأوثقه وكان أبرهة رجلا حليما، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم، خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، وأخذ نفيلا فقال نفيل أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطّاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل بحناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال له إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال، إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال ولا(4/470)
لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه الصّلاة والسّلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبين ذلك فو الله ما لنا به قوة قال فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم على العسكر، وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال فما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك، ومنزلتك عنده قال فأرسل إلى أنيس، فأتاه فقال، له إن هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة يطعم النّاس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له، فيكلمك فقد جاء غير ناصب، ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلا جسيما، وسيما فلما رآه أبرهة عظمه، وأكرمه
، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه، فأجلسه معه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك إلى الملك فقال الترجمان: ذلك له فقال له عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك قال لم قال جئت إلى بيت هو دينك، ودين آبائك، وهو شرفكم، وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال ما كان ليمنعه مني قال فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشا الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشّعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفا عليهم من معرة الحبش، ففعلوا وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ حلقة الباب وجعل يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا
وقال أيضا:
لا هم إن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم و ... كعبتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس، وقد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلا لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال كان معه اثنا عشر فيلا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بإذنه، وقال له أبرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه، ومرافقه، ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله عزّ وجلّ طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال(4/471)
الحمص، والعدس، فلما غشين القوم أرسلناها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل قوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه ويتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وفي ذلك يقول نفيل:
فإنك ما رأيت ولن تراه ... لدى حين المحصب ما رأينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا
وخرج القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون في كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعتها مدة من قيح، ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطّير، فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك قال الواقدي: وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم، والفيل الآخر شجعوا، فحصبوا أي رموا بالحصباء، وقال بعضهم انفلت أبو يكسوم وزير أبرهة، وتبعه طير، فحلّق فوق رأسه حتى بلغ النّجاشي فقص عليه القصة، فلما أنهاها وقع عليه حجر من ذلك الطير، فخر ميتا بين يدي النجاشي قال أمية بن أبي الصّلت:
إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يعوي كأنه معقور
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة يستطعمان الناس، وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل، أن فئة من قريش أججوا نارا حين خرجوا تجارا إلى أرض النّجاشي، فدنوا من ساحل البحر، وثم بيعة للنّصارى تسميها قريش الهيكل، فنزلوا فأججوا النّار واشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح، فاضطرم الهيكل نارا فانطلق الصّريخ إلى النّجاشي فأسف غضبا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة، وكان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلا نبيها نبيلا تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلا لعبد المطلب فقال له عبد المطلب: ماذا عندك فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك؟ فقال أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء، فصعد الجبل فقال أبو مسعود لعبد المطلب اعمد إليّ مائة من الإبل، فاجعلها لله وقلدها نعلا، واجعلها لله ثم أبثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئا، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها، وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت ربا يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه، وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه ونحر له جزورا، فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيرا بيضاء نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين قرارها قال أراها قد دارت على رؤوسنا، قال: هل تعرفها؟ قال والله ما أعرفها ما هي بنجدية، ولا بتهامية، ولا عربية، ولا شامية، قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب في مناقيرها حصى، كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضا أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم، فلما توافت الرجال كلهم أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها رجعت من حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل، فمشيا حتى صعدا ربوة، فلم يؤنسا أحدا ثم دنوا فلم يسمعا حسا فقال بات القوم سامرين، فأصبحوا نياما فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم(4/472)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
فيخرقها حتى تقع في دماغه، وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب، فأخذ فأسا من فؤوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض، فملأه من الذهب الأحمر، والجواهر، وحفر لصاحبه مثله فملأه ثم قال لأبي مسعود اختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معا فقال أبو مسعود فاختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب إني أرى أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا، وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به، وساد عبد المطلب بذلك قريشا، وأعطته القادة فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عزّ وجلّ عن كعبته، واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقيل كان قبل مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة، والأصح الذي عليه الأكثرون من علماء السير، والتواريخ، وأهل التفسير أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم يقولون ولد عام الفيل، وجعلوه تاريخا لمولده صلّى الله عليه وسلّم وأما التّفسير فقوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم، وذلك لأن هذه الواقعة كانت قبل مبعثه بزمان طويل إلا أن العلم بها كان حاصلا عنده لأن الخبر بها كان مستفيضا معروفا بمكة وإذا كان كذلك فكأنه صلّى الله عليه وسلّم علمه وشاهده يقينا، فلهذا قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، قيل كان معهم فيل واحد، وقيل كانوا فيلة ثمانية، وقيل اثني عشر وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود، وقيل وإنما وحده لو فاق الآي، وفي قصة أصحاب الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله تعالى وعلمه، وحكمته إذ يستحيل في العقل أن طيرا تأتي من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها
ناسا مخصوصين، وفيها دلالة عظيمة على شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعجزة ظاهرة له وذلك أن الله تعالى إنما فعل ذلك لنصر من ارتضاه، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الدّاعي إلى توحيده، وإهلاك من سخط عليه، وليس ذلك لنصرة قريش، فإنهم كانوا كفارا لا كتاب لهم، والحبشة لهم كتاب فلا يخفى على عاقل، أن المراد بذلك نصر محمد صلّى الله عليه وسلّم فكأنه تعالى قال أنا الذي فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل تعظيما لك، وتشريفا لقدومك، وإذ قد نصرتك قبل قدومك فكيف أتركك قبل ظهورك.
[سورة الفيل (105) : الآيات 2 الى 5]
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ يعني مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي تضييع وخسار، وإبطال ما أرادوا أضل كيدهم، فلم يصلوا إلى ما أرادوا من تخريب البيت، بل رجع كيدهم عليهم، فخربت كنيستهم، واحترقت، وهلكوا وهو قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يعني طيرا كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضا، وقيل أبابيل أقاطيع كالإبل المؤبلة، وقيل أبابيل جماعات في تفرقة قيل لا واحد لها من لفظها، وقيل واحدها أبالة، وقيل أبيل، وقيل أبول مثل عجول قال ابن عباس: كانت طيرا لها خراطيم، كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وقيل رؤوس كرؤوس السباع، وقيل لها أنياب كأنياب السباع، وقيل طير خضر لها مناقير صفر، وقيل طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا تصيب شيئا إلا هشمته، ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها فبعضها على ما حكاه ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كل واحد بما بلغه من صفاتها، والله أعلم.
قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ قال ابن مسعود: صاحت الطّير، ورمتهم بالحجارة، وبعث الله ريحا، فضربت بالحجارة، فزادتها شدة، فما وقع حجر منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه(4/473)
خرج من دبره مِنْ سِجِّيلٍ قيل السّجيل اسم علم للدّيوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال، والمعنى ترميهم بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون بما كتب الله في ذلك الكتاب، وقيل معناه من طين مطبوخ كما يطبخ الأجر، وقيل سجيل حجر، وطين مختلط، وأصله سنك، وكل فارسي معرب، وقيل سجيل الشّديد. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يعني كزرع وتبن أكلته الدّواب، ثم راثته، فيبس، وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم، وتفرقها بتفرق أجزاء الرّوث، وقيل العصف ورق الحنطة، وهو التبن، وقيل كالحب إذا أكل، فصار أجوف وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف، والله تعالى أعلم.(4/474)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
سورة قريش
مكية وقيل مدنية والأول أصح وأكثر وهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة قريش (106) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)
قوله عزّ وجلّ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ اختلفوا في هذه اللام، فقيل هي متعلقة بما قبلها وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم بما صنع بالحبشة، فقال فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي هلك أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف، ولهذا جعل أبي بن كعب هذه السّورة وسورة الفيل واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه ببسم الله الرّحمن الرّحيم والذي عليه الجمهور من الصحابة وغيرهم، وهو المشهور أن هذه السّورة منفصلة عن سورة الفيل وأنه لا تعلق بينهما وأجيب عن مذهب أبي بن كعب في جعل هذه السّورة، والسورة التي قبلها سورة واحدة بأن القرآن كالسورة الواحدة يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه معنى بعض وهو معارض أيضا بإطباق الصّحابة، وغيرهم على الفصل بينهما، وأنهما سورتان فعلى هذا القول اختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله لِإِيلافِ، فقيل هي لام التعجب، أي اعجبوا الإيلاف قريش رحلة الشّتاء والصّيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بعبادته، فهو كقوله على وجه التعجب اعجبوا لذلك، وقيل هي متعلقة بما بعدها تقديره، فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة والإيلاف من ألفت الشيء إلفا وهو بمعنى الائتلاف فيكون المعنى لإيلاف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تتقطعا، وقيل هو من ألفت كذا، أي لزمته وألفنيه الله ألزمنيه الله، وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر، فهو من قريش، ومن لم يلده النضر، فليس بقرشي (م) عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الناس تبع لقريش في الخير والشر» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الناس تبع لقريش في هذا الشّأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم» عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أراد هوان قريش أهانه الله» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن غريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم أذقت أول قريش نكالا، فأذق آخرهم نوالا» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح غريب.
النكال: العذاب، والمشقة، والشّدة، والنّوال: العطاء، والخير، وسموا قريشا من القرش، والتقريش وهو الجمع، والتكسب، يقال فلان يقرش لعياله، ويقترش لهم، أي يكتسب وذلك لأن قريشا كانوا قوما تجارا وعلى جمع المال، والأفضال حراصا، وقال أبو ريحانة سأل معاوية عبد الله بن عباس لم سميت قريش قريشا قال لدابة تكون في البحر هي من أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا(4/475)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
تؤكل، وتعلو ولا تعلى، قال وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم وأنشده شعر الجمحي.
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البحر ... وعلى سائر البحور جيوشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك ... فيه لذي الجناحين ريشا
هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا
ولهم في آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
يملأ الأرض خيلة ورجالا ... يحشرون المطي حشرا كميشا
وقيل إن قريشا كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب، وأنزلهم الحرم فاتخذوه مسكنا فسموا قريشا لتجمعهم، والتقرش التجمع يقال تقرش القوم إذا تجمعوا، وسمي قصي مجمعا لذلك قال الشاعر:
أبو كم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
[سورة قريش (106) : الآيات 2 الى 4]
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وقوله تعالى: إِيلافِهِمْ هو بدل من الأول تفخيما لأمر الإيلاف، وتذكيرا لعظم المنة فيه. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال ابن عباس كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم، ويعبدوا رب هذا البيت، وقال الأكثرون كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة: رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، ورحلة في الصيف إلى الشام، وكان الحرم واديا مجدبا لا زرع فيه، ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم، وكانوا لا يتعرض لهم أحد بسوء، وكانوا يقولون قريش سكان حرم الله وولاة بيته وكانت العرب تكرمهم، وتعزهم، وتعظمهم لذلك، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، فشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام، فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، أهل الساحل حملوا طعامهم في البحر على السفن إلى مكة وأهل البر حملوا على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة وأهل البر بالمحصب وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة وألفوا بالأبطح فامتار أهل مكة من قريب، وكفاهم الله مؤنة الرحلتين جميعا وقال ابن عباس: كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني، والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وقال الكلبي: كان أول من حمل السمراء يعني القمح إلى الشام، ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر:
قل للّذي طلب السّماحة والنّدى ... هلّا مررت بآل عبد مناف
هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن إكفاف
الرّائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي
والقائمين بكل وعد صادق ... والرّاحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشيم الثّريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
يعني الكعبة، وذلك أن الإنعام على قسمين أحدهما: دفع(4/476)
ضر، وهو ما ذكره في سورة الفيل، والثاني جلب نفع، وهو ما ذكره في هذه السّورة، ولما دفع الله عنهم الضّر، وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان أمرهم بالعبودية، وأداء الشكر، وقيل إنه تعالى لما كفاهم أمر الرّحلتين أمرهم أن يشتغلوا بعبادة رب هذا البيت. فإنه هو الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ومعنى الذي أطعمهم من جوع، أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر، وقيل في معنى الآية أنهم لما كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم، فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجوع، والجهد، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخصبت البلاد، وأخصب أهل مكة بعد القحط، والجهد، فذلك قوله تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، أي بالحرم وكونهم من أهل مكة حتى لم يتعرض لهم أحد في رحلتهم، وقيل آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم الجذام، وقيل آمنهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالإسلام والله أعلم.(4/477)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
سورة الماعون
مكية وقيل نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل والنصف الثاني بالمدينة في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق.
وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وخمسة وعشرون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الماعون (107) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قيل نزل في العاص بن وائل السّهمي، وقيل في الوليد بن المغيرة، وقيل في عمرو بن عائذ المخزومي، وفي رواية عن ابن عباس أنها في رجل من المنافقين، ومعنى الآية هل عرفت الذي يكذب بيوم الجزاء، والحساب، فإن لم تعرفه.
[سورة الماعون (107) : الآيات 2 الى 7]
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6)
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ولفظ أرأيت استفهام، والمراد به المبالغة في التّعجب من حال هذا المكذب بالدّين وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل هو خطاب لكل واحد، والمعنى أرأيت يا أيها الإنسان أو يا أيّها العاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله، ووضوح بيانه، فكيف يليق به ذلك الذي يدع اليتيم، أي يقهره، ويدفعه عن حقه، والدع الدفع بعنف، وجفوة، والمعنى أنه يدفعه عن حقه، وماله بالظلم، وقيل يترك المواساة له وإن لم تكن المواساة واجبة، وقيل يزجره، ويضربه، ويستخف به، وقرئ يدعو بالتخفيف، أي يدعوه ليستخدمه قهرا واستطالة. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه لأنه يكذب بالجزاء، وهذا غاية البخل، لأنه يبخل بماله وبمال غيره بالإطعام.
قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ يعني المنافقين، ثم نعتهم فقال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ روى البغوي بسنده عن سعد قال «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال إضاعة الوقت» وقال ابن عباس: هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. ويصلون في العلانية إذا حضروا معهم لقوله تعالى الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وقال تعالى في وصف المنافقين وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ
، وقيل ساه عنها لا يبالي صلّى أو لم يصل، وقيل لا يرجون لها ثوابا إن صلوا ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، وقيل غافلون عنها ويتهاونون بها، وقيل هم الذين إن صلوا صلوها رياء وإن فاتتهم لم يندموا عليها وقيل هم الذين لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها، ولا سجودها، وقيل لما قال تعالى عن صلاتهم ساهون بلفظة عن علم(4/478)
أنها في المنافقين، والمؤمن قد يسهو في صلاته والفرق بين السهوين أن سهو المنافق هو أن لا يتذكرها، ويكون فارغا عنها، والمؤمن إذا سها في صلاته تداركه في الحال، وجبره بسجود السهو فظهر الفرق بين السّهوين، وقيل السّهو عن الصّلاة هو أن يبقى ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصّلاة، وهذا لا يصدر إلا من المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصّلاة، فأما المؤمن الذي يعتقد فائدة صلاته، وأنها عليه واجبة، ويرجو الثواب على فعلها، ويخاف العقاب على تركها، فقد يحصل له سهو في الصّلاة يعني أن يصير ساهيا في بعض أجزاء الصّلاة بسبب وارد يرد عليه بوسوسة الشّيطان أو حديث النّفس، وذلك لا يكاد يخلو منه أحد، ثم يذهب ذلك الوارد عنه، فثبت بهذا الفرق أن السّهو عن الصّلاة من أفعال المنافق والسّهو في الصّلاة من أفعال المؤمن. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يعني يتركون الصّلاة في السّر ويصلونها في العلانية، والفرق بين المنافق، والمرائي أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، والمرائي يظهر الأعمال مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدّين والصّلاح أما من يظهر النّوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرّياء، فلا بأس بذلك وليس بمراء ثم وصفهم بالبخل. فقال تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ روي عن علي أنه قال هي الزكاة، وهو قول ابن عمر والحسن، وقتادة، والضحاك ووجه ذلك أن الله تعالى ذكرها بعد الصلاة فذمهم على ترك الصّلاة ومنع الزكاة، وقال ابن مسعود: الماعون الفاس والدلو والقدر، وأشباه ذلك، وهي رواية عن ابن عباس، ويدل عليه ما روي عنه قال كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عارية الدّلو، والقدر، أخرجه أبو داود، وقال مجاهد: الماعون العارية وقال عكرمة: الماعون أعلاه الزكاة المفروضة، وأدناه عارية المتاع، وقال محمد بن كعب القرظي: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم وقيل أصل الماعون من القلة فسمي الزّكاة والصّدقة، والمعروف ماعونا لأنه قليل من كثير، وقيل الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء، والملح، والنار، ويلتحق بذلك البئر، والتنور في البيت فلا يمنع جيرانه من الانتفاع بهما، ومعنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة، فإن البخل بها في نهاية البخل قال العلماء ويستحب أن يستكثر الرجل في بيته مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ويتفضل عليهم ولا يقتصر على الواجب، والله أعلم.(4/479)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر
وهي مكية قاله ابن عباس والجمهور، وقيل إنها مدنية قاله الحسن وعكرمة، وقتادة وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ نهر في الجنة أعطاه الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل الكوثر القرآن العظيم، وقيل هو النّبوة، والكتاب، والحكمة، وقيل هو كثرة أتباعه، وأمته، وقيل الكوثر الخير الكثير كما فسره ابن عباس (خ) عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير أن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وأصل الكوثر فوعل من الكثرة، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثرا، وقيل الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضل بها على جميع الخلق فجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أعطيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطي النبوة، والكتاب، والحكمة، والعلم، والشفاعة، والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الأتباع، والإسلام، وإظهاره على الأديان كلها، والنّصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه وبعده إلى يوم القيامة.
وأولى الأقاويل في الكوثر الذي عليه جمهور العلماء، أنه نهر في الجنة كما جاء مبينا في الحديث (ق) عن أنس قال «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ثم قال أتدرون ما الكوثر، قلنا الله ورسوله أعلم قال، فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجلّ فيه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول رب إنه من أمتي.
فيقول ما تدري ما أحدث بعدك» لفظ مسلم وللبخاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لما عرج بي إلى السّماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر» شك الراوي عن أنس رضي الله عنه قال «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما الكوثر قال ذلك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزور، قال عمر إن هذه لناعمة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكلتها أنعم منها» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر، والياقوت تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح(4/480)
(خ) «عن عامر بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال سألت عائشة عن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فقالت الكوثر نهر أعطيه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم شاطئاه در مجوف آنيته كعدد نجوم السماء» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبدا» زاد في رواية «وزواياه سواء» (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أمامكم حوضي ما بين جنبيه كما بين جربا وأذرح» قال بعض الرواة هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية «فيه أباريق كنجوم السّماء من ورده فشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما بين ناحيتي وفي رواية لابتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة» وفي رواية «مثل ما بين المدينة وعمان» وفي رواية قال «إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» (م) عن أبي ذر رضي الله عنه قال «قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه، مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» (م) عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي، أي حتى يرفض عليهم، فسئل عن عرضه فقال من مقامي إلى عمان وسئل عن شرابه فقال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما: من ذهب، والآخر من الورق» (ق) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول أي ربي أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فليقالن لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي رواية «يردن عليّ ناس من أمتي الحديث» وفي آخره «فأقول سحقا لمن بدل بعدي» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض، فأقول رب أصحابي، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» ولمسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله قالوا أيا نبي الله تعرفنا قال نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون على غرّا محجلين من آثار الوضوء وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون إليّ فأقول يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض» (م) عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن، والذي نفسي بيده لأذودن عنه الرجل كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن إبله قالوا يا رسول الله وتعرفنا؟ قال نعم تردون على غرّا محجلين من آثار الوضوء ليس لأحد غيركم» عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلنا منزلا فقال ما أنتم إلا جزء من مائة
ألف جزء ممن يرد على الحوض، قيل كم كنتم يومئذ قال سبعمائة أو ثمانمائة» أخرجه أبو داود.
(فصل في شرح هذه الأحاديث وذكر ما يتعلق بالحوض) قال الشّيخ محيي الدّين النّووي: قال القاضي عياض أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة، والجماعة لا يتأول، ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه الخلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمر وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب بن(4/481)
عبد الله، وعبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورد وأبي ذر وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة، ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصّديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر الصّديق وخولة بنت قيس وغيرهم، قال الشيخ محيي الدّين، ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمرو وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرة قلت وقد اتفقا على إخراج حديث الحوض وعن جماعة ممن تقدم ذكرهم من الصّحابة على ما سبق ذكره في الأحاديث، وفيه بيان ما اتفقا عليه، وانفرد به كل واحد منهما، وأخرجا أيضا حديث الحوض عن أسماء بنت أبي بكر الصّديق وذكرها القاضي عياض، فيمن خرج له في غير الصحيحين قال القاضي عياض وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا، وأما صفة الحوض ومقداره فقد قال في رواية «حوضي مسيرة شهر وفي رواية ما بين جنبيه كما بين جرباء، وأذرح، وفي رواية كما بين أيلة، وصنعاء اليمن، وفي رواية عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة، وفي رواية إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن» فهذا الاختلاف في هذه الروايات في قدر الحوض ليس موجبا للاضطراب فيها لأنه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعات من الصّحابة سمعوها من النبي صلّى الله عليه وسلّم في مواطن مختلفة ضربها النبي صلّى الله عليه وسلّم مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك على أفهام السامعين لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لأعلى التقدير الموضوع للتحديد بل لإعلام السامعين عظم بعد المسافة وسعة الحوض وليس في ذكر القليل من هذه المسافة منع من الكثير، فإن الكثير ثابت على ظاهره، وصحت الرواية به، والقليل داخل فيه فلا معارضة، ولا منافاة بينهما وكذلك القول في آنية الحوض من أن العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره، وأنها أكثر عددا من نجوم السّماء ولا مانع يمنع من ذلك إذ قد وردت الأحاديث الصّحيحة الثّابتة بذلك وكذلك القول في الواردين إلى الحوض الشّاربين منه، وكثرتهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنتم إلا جزء من مائة ألف جزء ممن يرد الحوض» لم يرد به الحصر بهذا العدد المذكور وإنما ضربه مثلا لأكثر العدد المعروف للسّامعين ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «من ورد شرب منه» فهذا صريح في أن جميع الواردين يشربون، وإنما يمنع منه الذين يزدادون، ويمنعون الورود لارتدادهم، وتبديلهم وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم «فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي، فيقول ما تدري ما أحدث بعدك، وفي رواية وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول أي رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ونحو هذا من الروايات المذكورة في الأحاديث السابقة، وهذا مما اختلف العلماء في معناه، وفي المراد به من هم، فقيل المراد بهم المنافقون، والمرتدون في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحتمل أنهم إذا حشروا عرفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم للسيما التي عليهم فيناديهم، فيقال له ليس هؤلاء ممن وعدت بهم إنهم قد بدلوا بعدك، أي لم يكونوا على ما ظهر من إسلامهم، وقيل المراد بهم من أسلموا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتدوا بعده في زمن أبي بكر الصّديق وهم الذين قاتلهم على الردة، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، فيناديهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان يعرفه من
إيمانهم في حياته فيقال له قد ارتدوا بعدك، وقيل المراد بهم أصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وأصحاب المعاصي، والكبائر الذين ماتوا على التّوحيد، ولم يتوبوا من بدعتهم ومعاصيهم فعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء المطرودين عن الحوض بالنّار بل يجوز أن يزادوا عنه عقوبة لهم ثم يرحمهم الله، فيدخلهم الجنة من غير عذاب، وقال ابن عبد البر كل من أحدث في الدين كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء فهو من المطرودين عن الحوض قال وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، وغمط الحق، والمعلنون بالكبائر فكل هؤلاء يخاف أن يكونوا ممن عنى بهذا الحديث وقوله من شرب منه لم يظمأ أبدا قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب، والنجاة من النار، ويحتمل أن من شرب(4/482)
منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهر الحديث أن جميع الأمة تشرب منه إلا من ارتد، وصار كافرا، وقيل إن جميع المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يعذب الله من شاء من عصاتهم، وقيل إنما يأخذ بيمينه الناجون منهم خاصة، والشرب من الحوض مثله.
(شرح غريب ألفاظ الأحاديث) قوله فيختلج العبد منهم، أي ينتزع ويجذب منهم، قوله ما بين جنبيه كما بين جربا، وأذرح أما جربا فبجيم ثم راء ساكنة ثم باء موحدة ثم ألف مقصورة، ووقع عند بعض رواة البخاري فيها المد والقصر أولى، وهي قرية من الشام، وأما أذرح فبهمزة ثم ذال معجمة ثم راء ثم حاء مهملة، وهي في طرف الشام قريب من الشّوبك، وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم بليدة بالبلقاء من أرض الشّام، وأما أيلياء فبفتح الهمزة وإسكان المثناة تحت وفتح اللام مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين دمشق ومصر بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة وبينها وبين مصر ثمان مراحل وإلى دمشق اثنا عشر مرحلة وهي آخر الحجاز وأول الشّام، وأما صنعاء فهي قاعدة اليمن، وأكبر مدنه، وإنما قيد باليمن في الحديث لأن بدمشق موضعا يعرف بصنعاء دمشق وقد تقدم الكلام على اختلاف هذه المسافات والجمع بين رواتها قوله يشخب فيه ميزابان هو بفتح الياء المثناة تحت وبالشين والخاء المعجمتين، أي يسيل فيه وفي الحديث الآخر يغت بفتح الياء وبالغين المعجمة وكسرها، وتشديد التاء المثناة فوق، أي يدفق منه ميزابان تدفقا شديدا متتابعا قوله إني لبعقر حوضي هو بضم العين المهملة، وإسكان القاف وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردته للشرب، وقيل هو مؤخر الحوض قوله أذود الناس، أي أضرب الناس لأهل اليمن بعصاي حتى يرفض عليهم، معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن، ومعنى يرفض أي يسيل عليهم، وفيه منقبة عظيمة لأهل اليمن قوله أنا فرطكم على الحوض الفرط بفتح الفاء والراء هو الذي يتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض، والدّلاء ونحوها من آلات الاستقاء، والمعنى أنا سابقكم على الحوض كالمهيئ له قوله سحقا، أي بعدا وفيه دليل لمن قال إنهم أهل الردة إذ لا يقال للمؤمن سحقا بل يشفع قلت في حديث أنس الأول دليل لمن يقول أن سورة الكوثر مدنية وهو الأظهر لقوله بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءه يعني نام نومة ثم رفع رأسه متبسما والله أعلم.
قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ معناه أن ناسا كانوا يصلون لغير الله تعالى وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي له وينحر له متقربا إلى ربه بذلك، وقيل معناه فصل لربك صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، وقيل معناه فصل الصّلاة المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنى وقال ابن عباس: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي ضع يدك اليمنى على اليسرى في الصّلاة عند النّحر، وقيل هو رفع اليدين مع التّكبير إلى النّحر حكاه ابن الجوزي، ومعنى الآية قد أعطيتك ما لا نهاية لكثرته من خير الدّارين وخصصتك بما لم أخص به أحدا غيرك، فاعبد ربك الذي أعطاك هذا العطاء الجزيل، والخير الكثير، وأعزك، وشرفك على كافة الخلق، ورفع منزلتك فوقهم فصل له واشكره على إنعامه عليك، وانحر البدن متقربا إليه إِنَّ شانِئَكَ يعني عدوك ومبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ يعني هو الأذل المنقطع دابره نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم خارجا من المسجد وهو داخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص قالوا له من الذي كنت تتحدث معه فقال ذلك الأبتر يعني به النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان قد توفي ابن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خديجة، وقيل إن العاص بن وائل كان إذا ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله تعالى هذه السّورة وقال ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة من قريش، وذلك أنه لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصّنبور المنبتر(4/483)
من قومه، فقال أنتم فنزلت فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ونزلت في الذين قالوا إنه أبتر إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي المنقطع من كل خير قولهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الصّنبور أرادوا أنه فرد ليس له ولد، فإذا مات انقطع ذكره شبهوه بالنخلة المفردة يدق أسفلها، وتسمى الصنبور، وقيل هي النّخلة التي تخرج في أصل أخرى تغرس، وقيل الصّنابر سعفات تنبت من جذع النّخلة تضربها ودواؤها أن تنقطع تلك الصّنابر منها فأراد كفار مكة أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الصّنابر تنبت في جذع نخلة فإذا انقلع استراحت النّخلة فكذا محمد إذا مات انقطع ذكره، وقيل الصّنبور الوحيد الضعيف الذي لا ولد له ولا عشيرة ولا ناصر من قريب ولا غريب فأكذبهم الله تعالى في ذلك ورد عليهم أشنع رد فقال إن شانئك يا محمد هو الأبتر الضعيف الوحيد، الحقير، وأنت الأعز، الأشرف الأعظم، والله أعلم بمراده.(4/484)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
سورة قل يا أيها الكافرون
مكية وهي ست آيات وست وعشرون كلمة وأربعة وتسعون حرفا عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له نصف القرآن ومن قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عدلت له ثلث القرآن» أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب وله عن ابن عباس نحوه، وقال فيه غريب، ووجه كون هذه السّورة تعدل ربع القرآن أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب، وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح، فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السّورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى وهي من الاعتقاد وذلك من أفعال القلوب، فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السّورة نزلت في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السّهمي، والعاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وأمية بن خلف قالوا يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في ديننا كله تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا حظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك، ونعبد إلهك قال حتى أنظر ما يأتي من ربي فأنزل الله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد الحرام وفيه أولئك الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السّورة فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه، وقيل إنهم لقوا العباس، فقالوا يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه فيما يقول، ولآمنّا بإلهه، فأتاه العباس، فأخبره بقولهم، فنزلت هذه السّورة وقيل نزلت في أبي جهل والمستهزئين ومن لم يؤمن منهم.
ومعنى ذلك، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بتبليغ الرّسالة بجميع ما أوحي إليه فلما قال الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أداه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما سمعه من جبريل عليه السّلام فكأنه صلّى الله عليه وسلّم قال أمرت بتبليغ جميع ما أنزل الله عليّ، وكان فيما نزل عليه قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقيل إن النّفوس تأبى سماع الكلام الغليظ الشّنيع من النّظير، ولا أشنع ولا أغلظ من المخاطبة بالكفر فكأنه صلّى الله عليه وسلّم قال ليس هذا من عندي إنما هو من عند الله عزّ وجلّ وقد أنزل الله عليّ قل يا أيها الكافرون والمخاطبون بقوله يا أيّها الكافرون كفرة مخصوصون قد سبق في علم الله أنهم لا(4/485)
يؤمنون لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في معنى الآية قولان: أحدهما أنه لا تكرار فيها، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ثم قال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي ولست في الحال بعباد معبودكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي وقيل يحتمل أن يكون الأول للحال، والثاني للاستقبال، وقيل يصلح كل واحد منهما أن يكون للحال، والاستقبال، ولكن يختص أحدهما بالحال والثاني للاستقبال لأنه أخبر أولا عن الحال ثم أخبر ثانيا عن الاستقبال، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال وما بمعنى من أي من أعبد ويحتمل أن تكون بمعنى الذي أي الذي أعبد.
القول الثاني: حصول التّكرار في الآية، وعلى هذا القول يقال إن التّكرار يفيد التّوكيد، وكلما كانت الحاجة إلى التّوكيد أشد كان التكرار أحسن، ولا موضع أحوج إلى التوكيد من هذا الموضع لأن الكفار راجعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المعنى مرارا فحسن التوكيد، والتكرار في هذا الموضع لأن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم، ومن مذاهبهم التّكرار إرادة التّوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التّخفيف، والإيجاز، وقيل تكرار الكلام لتكرار الوقت، وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن سرك أن ندخل في دينك عاما فأدخل في ديننا عاما، فنزلت هذا السّورة جوابا لهم على قولهم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم كفركم ولي إخلاصي وتوحيدي، والمقصود منه التّهديد فهو كقوله: اعملوا ما شئتم وهذه الآية منسوخة بآية القتال، والله أعلم.(4/486)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
سورة النصر
مدنية وهي ثلاث آيات وسبع عشرة كلمة وسبعة وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق، وأصحاب الأخبار «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صالح قريشا عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة، وقيل عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى الله عليه وسلّم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه. فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان بينهما شر قديم ثم إن بني بكر عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم أسفل مكة يقال له الوتير، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوروا واقتتلوا، وردفت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفيا حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك فقال كلمة عظيمة إنه لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه قال: فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمو ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا(4/487)
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنان من السماء، فقال إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، وهم رهط عمرو بن سالم، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشدد في العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا من الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل وظن أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي قال: وهل أتيت محمدا قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوته عنه فقال: أي بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني فقالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال أنا لا أشفع لك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندها الحسن بن علي غلاما يدب بين يديها فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ويحك يا أبا سفيان لقد أرى عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. فقالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني قال والله لا أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظن ذلك ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا قالوا: وما ذاك قال أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا قالوا ويلك والله ما زاد على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت قال لا والله ما وجدت غير ذلك قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أي بنية أمركم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أن تجهزوه، قالت نعم. قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدا إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين(4/488)
عسفان، وأمج أفطر ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين. ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد فلما نزل بمر الظّهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يدرون ما هو فاعل خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببعض الطريق قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه راض فلما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب. ليلتئذ واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر. قال فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطبا، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة قال العباس: فو الله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط. فقال بديل هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال يا أبا الفضل فقلت نعم قال ما لك فداك أبي وأمي قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال:
وما الحيلة قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك فردفني، ورجع صاحباه فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ، ويقولون عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا فقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد، ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء قال فاقتحمت عن البغلة سريعا، فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد، ولا عهد فدعني أضرب عنقه قال فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذت برأسه، وقلت والله لا ينجيك الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر. فو الله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به قال فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فتشهد شهادة الحق وأسلم قال العباس: فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله قال فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه قال ومرت به القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال من هؤلاء يا عباس، فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم، ثم القبيلة فيقول من هؤلاء، فأقول مزينة فيقول ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل. لا تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته عنها. فيقول ما لي، ولبني فلان حتى مر رسول الله(4/489)
صلّى الله عليه وسلّم في كتيبته الخضراء، وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد، وظهوره فيها وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين، والأنصار. قال ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما قلت ويحك إنها النبوة، قال فنعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال: قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا ويحك، وما تغني عنا دارك قال من دخل المسجد، فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد قال وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما وبايعاه، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام، ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون، وقال لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقه عليه برد حبرة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضع رأسه تواضعا لله عز وجل حين رأى ما أكرمه به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة وضرب قبته بأعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد، فيمن أسلم من قضاعة، وبني سليم أن يدخلوا من أسفل مكة وبها بنو بكر، وقد استنفرتهم قريش، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، وأن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لخالد والزبير حين بعثهما لا تقاتلا إلا من قاتلكما، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى فقال سعد: حين توجه داخلا اليوم يوم الملحمة اليوم يوم تستحل الحرمة فسمعها رجل من المهاجرين قيل: هو عمر بن الخطاب فقال: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب أدركه بهذه الراية. فكن أنت الذي تدخن بها، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال، وأما خالد بن الوليد، فقدم على قريش وبني بكر، والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلوه فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد ورجلان يقال لهما كرز بن جابر، وخنيس بن خالد بن الوليد شذا وسلكا طريقا غير طريقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفرا منهم سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركا ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن اطمأن أهل مكة فاستأمنه له وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقا، وكان له مولى يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان يغنيان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقتلهما معه والحويرث بن نقيد بن وهب، وكان ممن يؤذيه بمكة ومقيس صبابة، وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتدا، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وكانت ممن يؤذيه بمكة، وعكرمة بن أبي جهل فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنه فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن الحارث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنها وأما سارة فتغيبت(4/490)
حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس
فرسا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها، وأما الحويرث ابن نقيد فقتله علي بن أبي طالب قالت أم هانئ: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعلى مكة فر إليّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت: فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة وإن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمان ركعات الضحى، ثم انصرف إليّ فقال مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب فقال: قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا نقتلهما ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط، والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم، قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال: يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة، والسقاية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر، قال واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس. فبايعونه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء قال عروة بن الزبير: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هاربا منك ليقذف بنفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله، فقال هو آمن قال: يا رسول الله أعطني شيئا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جئتك به؟ فقال ويلك أغرب عني لا تكلمني قال: فداك أبي وأمي أفضل الناس، وأبر النّاس وأحلم الناس، وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال إني أخافه على نفسي قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق، قال فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين قال: أنت بالخيار أربعة أشهر «قال ابن هشام وبلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة، ودخلها قام على الصّفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم أترون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فتح الله عليه مكة أرضه، وبلاده يقيم بها فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه.
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم» قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن وثقيف، وقد نزلوا حنينا (ق) عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس فحمد الله، وأثنى عليه وقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد(4/491)
من بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار إلا، وإنها ساعتي هذه فلا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تحل ساقطتها لا لمنشد، ومن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين. إما أن يفتدي وإما أن يقيد فقال العباس: إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الإذخر، فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتبوا لأبي شاه قال الأوزاعي: يعني الخطبة التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
(وأما التفسير) فقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يعني إذا جاءك يا محمد نصر الله، ومعونته على من عاداك وهم قريش.
ومعنى مجيء النصر أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها يستحيل تقدمها عن وقتها أو تأخرها عنه فإذا جاء ذلك الوقت المعين حضر معه ذلك الأمر المقدر، فلهذا المعنى قال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة في قول جمهور المفسرين، وقيل هو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم على الإطلاق، والفرق بين النصر والفتح. أن النصر هو الإعانة والإظهار على الأعداء وهو تحصيل المطلوب، وهو كالسبب للفتح. فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح، وقيل النصر هو إكمال الدين وإظهاره، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يعني زمرا وأرسالا القبيلة بأسرها. والقوم بأجمعهم من غير قتال قال الحسن: لما فتح الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قالت العرب بعضها لبعض إذا ظفر الله محمد بأهل الحرم، وكان قد أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا. بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين. وقيل أراد بالناس أهل اليمن (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الإيمان يمان، والحكمة يمانية ودين الله هو الإسلام» وأضافه إليه تشريفا وتعظيما، كبيت الله وناقة الله قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً يعني فإنك حينئذ لا حق به (ق) عن ابن عباس: قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال: بعضهم لم يدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم.
قال وما رأيت أنه كان دعاني يومئذ إلا ليريهم مني.
قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختم السورة، فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله، ونستغفره إذ نصرنا، وفتح علينا، وسكن بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس، قال: قلت لا قال فما هو قلت هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه، فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم (ق) عن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن أنزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح، إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، وفي رواية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن، وفي رواية قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول من سبحان الله، وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، وقال أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه قد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا» . قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نعيت إليه نفسه.
وقال الحسن: أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم بالزيادة في العمل الصالح قيل عاش(4/492)
النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة سنتين، وقيل في معنى السورة إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فاشتغل أنت بالتسبيح والتحميد، والاستغفار، فالاشتغال بهذه الطاعة يصير سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة.
وفي معنى التسبيح وجهان: أحدهما نزه ربك عما لا يليق بجلاله ثم احمده.
والثاني فصل لربك لأن التسبيح جزء من أجزاء الصلاة، ثم قيل عني به صلاة الشكر، وهو ما صلاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة ثمان ركعات.
وقيل هي صلاة الضحى. وفي الآية دليل على فضيلة التسبيح، والتحميد حيث جعل ذلك كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح.
فإن قلت ما معنى هذا الاستغفار، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قلت إنه تعبد الله بذلك ليقتدي به غيره. إذ لا يأمن كل واحد من نقص يقع في عبادته واجتهاده ففيه تنبيه على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مع عصمته وشدة اجتهاده ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه وقيل هو ترك الأفضل والأولى لا عن ذنب صدر منه صلّى الله عليه وسلّم وعلى قول من جوز الصغائر على الأنبياء يكون المعنى، واستغفره لما عسى أن يكون قد وقع من تلك الأمور منه، وقيل المراد منه الاستغفار لذنوب أمته، وهذا ظاهر لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِناتِ والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/493)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
سورة المسد
مكية وهي خمس آيات وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله عز وجل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (ق) «عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، ونادى يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ، قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وفي رواية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل، فنادى يا صباحاه فاجتمعت عليه قريش» . الحديث وذكر نحوه ومعنى تبت خابت وخسرت، والتباب هو الخسار المفضي إلى الهلاك، والمراد من اليد صاحبها وجملة بدنه، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله، وجميعه، وقيل إنه رمى النبي صلّى الله عليه وسلّم بحجر، فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد، وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه.
فإن قلت لم كناه وفي الكنية تشريف وتكرمة قلت فيه وجوه أحدها أنه كان مشتهرا بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف الثاني أنه كان اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى الكنية لما فيه من الشّرك الثالث. أنه لما كان من أهل النّار ومآله إلى النار، والنار ذات لهب وافقت حاله كنيته، وكان جديرا بأن يذكر بها. وَتَبَّ قيل الأول أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني أخرج مخرج الخبر كما يقال أهلكه الله، وقد هلك وقيل تبت يدا أبي لهب، يعني ماله وملكه، كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وتب يعني نفسه أي وقد أهلكت نفسه ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قال ابن مسعود: لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرباءه إلى الله تعالى قال أبو لهب: إن كان ما تقول يا ابن أخي حقا، فأنا أفتدي نفسي بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ، أي شيء يغني عنه ماله، أي ما يدفع عنه عذاب الله، وما كسب يعني من المال، وكان صاحب مواش، أي ما جمع من المال أو ما كسب من المال، أي الربح بعد رأس ماله، وقيل وما كسب يعني ولده لأن ولده الإنسان من كسبه، كما جاء في الحديث «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» أخرجه التّرمذي ثم أوعده بالنّار فقال تعالى:
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي نارا تلتهب عليه وَامْرَأَتُهُ يعني أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن(4/494)
حرب عمة معاوية بن أبي سفيان، وكانت في نهاية العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قيل كانت تحمل الشّوك، والحسك والعضاه باللّيل، فتطرحه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لتؤذيهم بذلك وهي رواية عن ابن عباس فإن قلت إنها كانت من بيت العز والشرف فكيف يليق بها حمل الحطب؟ قلت يحتمل أنها كانت مع كثرة مالها، وشرفها في نهاية البخل والخسة، فكان يحملها بخلها على حمل الحطب بنفسها، ويحتمل أنها كانت تفعل ذلك لشدّة عداوتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا ترى أنها تستعين في ذلك بأحد بل تفعله هي بنفسها، وقيل كانت تمشي بالنميمة وتنقل الحديث وتلقي العداوة بين النّاس وتوقد نارها، كما توقد النار الحطب يقال فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به، وقيل حمالة الخطايا والآثام التي حملتها في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنها كانت كالحطب في مصيرها إلى النار. فِي جِيدِها أي عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال ابن عباس: سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها. فتلت من حديد فتلا محكما وقيل هو حبل من ليف، وذلك الحبل هو الذي كانت تحتطب به، فبينما هي ذات يوم حاملة الحزمة أعيت، فقعدت على حجر تستريح أتاها ملك، فجذبها من خلفها، فأهلكها، وقيل هو حبل من شجر ينبت باليمن يقال له المسد، وقيل قلادة من ودع، وقيل كانت لها خرزات في عنقها، وقيل كانت لها قلادة فاخرة. قالت لأنفقنها في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والله تعالى أعلم.(4/495)
سورة الإخلاص
(وهي مكية وقيل مدنية وهي أربع آيات، وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفا) (فصل في فضلها) (خ) عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» ، وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم فقالوا: أيّنا يطيق ذلك يا رسول الله فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ثلث القرآن» (م) عن أبي الدّرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قل هو الله أحد جزءا من القرآن» (م) عن أبي هريرة قال:
«خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، حتى ختمها» ، وقد ذكر العلماء رضي الله عنهم في كونه صلّى الله عليه وسلّم جعل سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن أقوال متناسبة متقاربة، فقيل إن القرآن العزيز لا يعدو ثلاثة أقسام، وهي الإرشاد إلى معرفة ذات الله تعالى وتقديسه أو صفاته وأسمائه أو معرفة أفعاله، وسنته مع عباده، ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة، وهو التّقديس وازنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلث القرآن لأن منتهى التقديس في أن يكون واحدا في ثلاثة أمور لا يكون حاصلا منه من هو من نوعه وشبهه ودل عليه. قوله لَمْ يَلِدْ، ولا يكون حاصلا ممن هو نظيره، وشبيهه، ودل عليه قوله وَلَمْ يُولَدْ، ولا يكون أحد في درجته وإن لم يكن أصلا له، ولا فرعا منه، ودل عليه قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، ويجمع ذلك كله قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وجملته وتفصيله، هو قولك لا إله إلا الله فهذا سر من أسرار القرآن المجيد الذي لا تتناهى أسراره، ولا تنقضي عجائبه وقال الإمام فخر الدين الرّازي: لعل الغرض منه أن يكون المقصود الأشرف في جميع الشرائع، والعبادات معرفة ذات الله جلّ جلاله وتعالى علاؤه وثناؤه، ومعرفة أفعاله، وهذه السورة مشتملة على معرفة ذات الله تعالى، فلهذا كانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن، وقال الشّيخ محيي الدين النّووي رحمه الله، قيل معناه إن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص، وأحكام وصفات الله تعالى، وقل هو الله أحد متضمنة للصفات، فهي ثلث القرآن، وجزء من ثلاثة أجزاء، وقيل معناه أن ثواب قراءتها يتضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف. قوله يتقالها يقال استقللت الشيء، وتقللته وتقاللته أي عددته قليلا في بابه، ونظرت إليه بعين القلة قيل سميت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ سورة الإخلاص. إما لأنها خالصة لله تعالى في صفته أو لأن قارئها قد أخلص لله التوحيد، ومن فوائد هذه السّورة أن الاشتغال بقراءتها يفيد الاشتغال بالله، وملازمة الأعراض عما سوى الله تعالى وهي متضمنة تنزيه الله تعالى، وبراءته، عن كل ما لا يليق به لأنها مع قصرها جامعة لصفات الأحدية والصّمدانية، والفردانية، وعدم النّظير عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محيت عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين» ، وفي رواية عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه فقرأ قل هو الله أحد مائة مرة فإذا كان يوم القيامة يقول(4/496)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
الرب جلّ جلاله يا عبدي ادخل عن يمينك الجنة» أخرجه التّرمذي وقال: حديث غريب وعنه «أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قال حبك إيّاها أدخلك الجنة» أخرجه التّرمذي عن أبي هريرة قال «أقبلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبت قلت: وما وجبت قال الجنة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
قوله عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عن أبي بن كعب «أن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم انسب لنا ربك، فأنزل الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ والصّمد الذي لم يلد، ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفوا أحد. قال لم يكن له شبيه، ولا عديل، وليس كمثله شيء» أخرجه التّرمذي وقال: وقد روي عن أبي العالية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر آلهتهم، فقالوا انسب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح وقال ابن عباس أن عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد قال إلى الله قال صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب، فنزلت هذه السّورة، وأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بالطاعون، وقد تقدم ذكرهما في سورة الرّعد، وقيل جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله تعالى أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو، وهل يأكل ويشرب، وممن ورث الربوبية، ولمن يورثها، فأنزل الله هذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني الذي سألتموني عنه هو الله الواحد في الألوهية، والرّبوبية الموصوف بصفات الكمال والعظمة المنفرد عن الشبه، والمثل والنظير، وقيل لا يوصف أحد بالأحدية غير الله تعالى فلا يقال رجل أحد، ودرهم أحد بل أحد صفة من صفات الله تعالى.
استأثر بها فلا يشركه فيها أحد، والفرق بين الواحد، والأحد أن الواحد يدخل في الأحد، ولا ينعكس، وقيل إن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا، وفي النفي ما رأيت أحدا، فتفيد العموم، وقيل الواحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهيه أحد، والأحد هو المنفرد بالمعنى فلا يشاركه فيه أحد اللَّهُ الصَّمَدُ قال ابن عباس: الصمد الذي لا جوف له وبه قال جماعة من المفسرين، ووجه ذلك من حيث اللّغة أن الصّمد الشيء المصمد الصّلب الذي ليس فيه رطوبة، ولا رخاوة، ومنه يقال لسداد القارورة الصماد.
فإن فسر الصمد بهذا كان من صفات الأجسام، ويتعالى الله جلّ وعزّ عن صفات الجسمية، وقيل وجه هذا القول إن الصمد الذي ليس بأجوف، معناه هو الذي لا يأكل، ولا يشرب، وهو الغني عن كل شيء، فعلى هذا الاعتبار هو صفة كمال، والقصد بقوله الله الصّمد التّنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا له الإلهية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ وقيل الصّمد الذي ليس بأجوف شيئان أحدهما دون الإنسان، وهو سائر الجمادات الصّلبة والثاني أشرف من الإنسان وأعلى منه وهو البارئ جل وعز وقال أبي بن كعب الصمد الذي لم يلد، ولم يولد لأن من يولد سيموت، ومن يموت يورث منه. وروى البخاري في أفراده عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: الصّمد هو السّيد الذي انتهى سؤدده، وهي رواية عن ابن عباس، أيضا قال هو السيد الذي كمل فيه جميع أوصاف السؤدد، وقيل هو السيد المقصود(4/497)
في جميع الحوائج المرغوب إليه في الرغائب المستعان به عند المصائب، وتفريج الكرب وقيل هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتلك دالة على أنه المتناهي في السودد والشرف، والعلو والعظمة، والكمال والكرم والإحسان، وقيل الصمد الدائم الباقي بعد فناء خلقه، وقيل الصمد الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي، وقيل هو الذي لا تعتريه الآفات ولا تغيره الأوقات وقيل هو الذي لا عيب فيه وقيل الصمد هو الأول الذي ليس له زوال والآخر الذي ليس لملكه انتقال. والأولى أن يحمل لفظ الصمد على كل ما قيل فيه لأنه محتمل له، فعلى هذا يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله تعالى العظيم القادر على كل شيء وأنه اسم خاص بالله تعالى انفرد به له الأسماء الحسنى والصّفات العليا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
قوله عز وجل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وذلك أن مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النّصارى المسيح ابن الله فكذبهم الله عز وجل، ونفى عن نفسه ما قالوا بقوله لَمْ يَلِدْ يعني كما ولد عيسى، وعزير، وَلَمْ يُولَدْ معناه أن من ولد كان له والد فنفى عنه إحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لم يتقدمه، والد كان عنه وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه، ومن كان كذلك فهو الذي لم يكن له كفوا أحد، أي ليس له من خلقه مثل، ولا نظير ولا شبيه فنفى عنه. بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ العديل والنّظير، والصّاحبة والولد (خ) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/498)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
سورة الفلق
مدنية وقيل مكية والأول أصح وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفا.
(م) عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ألم تر آيات أنزلت هذه اللّيلة لم ير مثلهن قط، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فيه بيان عظيم فضل هاتين السورتين، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه رد على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا، وفيه بيان أن لفظة قل من القرآن أيضا وأنه من أول السورتين بعد البسملة، وقد اجتمعت الأمة على هذا كله بعد خلاف ذكر فيه (خ) عن زر بن حبيش قال: «سألت أبي بن كعب عن المعوذتين قلت يا أبا الوليد إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ، وفي رواية مثلها ولم يذكر ابن مسعود عن عبد الله بن حبيب قال «أصابنا طش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بنا فخرج فقال قلت ما أقول قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح تكفيك كل شيء» وفي رواية «قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق مكة فأصبت خلوة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدنوت منه فقال قل قلت ما أقول قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، حتى تختمها ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، حتى تختمها ثم قال: ما تعوذ بالنّاس بأفضل منهما» أخرجه النسائي عن جابر بمثله، ومعنى الطّش الطشيش المطر الضّعيف، وهو قول أبي الدّرداء.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال ابن عباس وعائشة: «كان غلام من اليهود يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فدبت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت السورتان فيه» . (ق) عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يخيل إليه أن يصنع الشيء ولم يصنعه» وفي رواية «أنه يخيل إليه فعل الشيء، وما فعله حتى إذا كان يوم، وهو عندي دعا الله، ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت:
وما ذاك يا رسول الله قد جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب، قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق قال: فيما ذا قال في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر قال فأين هو قال في بئر ذروان، ومن الرواة من قال في بئر بني زريق فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قلت يا رسول الله فأخرجه. قال أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخفت أن أثير(4/499)
على الناس منه شرا» . وفي رواية للبخاري «أنه كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك» عن زيد بن أرقم قال «سحر رجل من اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى ذلك أياما فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك، وعقد لك عقدا في بئر كذا فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا فاستخرجها، فجاء بها فحلها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط» أخرجه النسائي وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيه مشاطة من رأسه صلّى الله عليه وسلّم وأسنان من مشطه» ، وقيل كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كان مغروزا بالإبر فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال وروي «أنه لبث ستة أشهر، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان» (م) عن أبي سعيد الخدري «أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك» .
(فصل وقبل الشروع في التفسير نذكر معنى الحديث، وما قيل فيه، وما قيل في السحر، وما قيل في الرقى) قولها في الحديث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء، ولم يصنعه.
قال الإمام المازري: مذهب أهل السّنة، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة خلافا لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء، وزوجه وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له وهذا الحديث الصحيح مصرح بإثباته، ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوي لا يعرفها إلا الساحر، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده.
فإن قلت المستعاذ منه هل هو بقضاء الله، وقدره فذلك قدح في القدرة.
قلت كل ما وقع في الوجود هو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتّعوذ، والرّقى من قضاء الله، وقدره يدل على صحة ذلك. ما روى التّرمذي عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا، قال: هي من قدر الله تعالى» قال التّرمذي: هذا حديث حسن وعن عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى.
(فصل) وقد أنكر بعض المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه، وزعم أنه يحط منصب النّبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع.
ورد على هذا المبتدع بأن الذي ادعاه باطل لأن الدّلائل القطعية، والنقلية قد قامت على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل.
وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا، وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له.(4/500)
وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، وليس واطئ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام. فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة، ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد ما تخيله فتكون اعتقاداته على السّداد قال القاضي: وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الزّيغ والضّلالة، وقوله ما وجع الرجل قال مطبوب أي مسحور قوله، وجف طلعة ذكر يروى بالباء ويروى بالفاء، وهو وعاء طلع النخل.
وأما الرّقى والتّعاويذ فقد اتفق الإجماع على جواز ذلك إذا كان بآيات من القرآن، أو إذ كانت وردت في الحديث، ويدل على صحته الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث أبي سعيد المتقدم أن جبريل رقي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين. أفأسترقي لهم قال نعم فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه التّرمذي وقال: حديث صحيح وعن أبي سعيد الخدري «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ ويقول أعوذ بالله من الجان، وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن غريب فهذه الأحاديث تدل على جواز الرّقية، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي لجواز أن يكون فيه كفر والله أعلم.
(وأما التفسير) فقوله عز وجل قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، أراد بالفلق الصبح، وهو قول الأكثرين، ورواية عن ابن عباس لأن الليل ينفلق عن الصبح وسبب تخصيصه في التعوذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه، ويخشاه، وقيل إن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج، كما أن الإنسان ينتظر طلوع الصّباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح، وقيل إن تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين، وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت، الذي يفرج فيه هم المهمومين والمغمومين، وروي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم، وقيل هو واد في جهنم إذ فتح استعاذ أهل النار من حره، ووجهه أن المستعيذ قال: أعوذ برب هذا العذاب، القادر عليه من شر عذابه، وغيره وروي عن ابن عباس أيضا أن الفلق الخلق، ووجه هذا التأويل، أن الله تعالى فلق ظلمات بحر العدم بإيجاد الأنوار، وخلق منه الخلق، فكأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات، ومكون جميع المحدثات مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ قيل يريد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقا هو شر منه، ولأن السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل من شر كل ذي شر، وقيل من شر ما خلق من الجن، والإنس. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح، فعلى هذا الحديث المراد به القمر إذا خسف، واسود ومعنى وقب دخل في الخسوف، أو أخذ في الغيبوبة، وقيل سمي به لأنه إذا خسف اسود، وذهب ضوءه وقيل إذا وقب دخل في المحاق، وهو آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المورث للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه الآية. وقال ابن عباس: الغاسق الليل إذا وقب أي أقبل بظلمته من المشرق، وقيل سمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، والغسق البرد وإنما أمر بالتعوذ من الليل لأن فيه تنشر الآفات، ويقل الغوث وفيه يتم السحر، وقيل الغاسق الثريا إذا سقطت، وغابت، وقيل إن الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها فلهذا أمر بالتعوذ من الثريا عند سقوطها وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها،(4/501)
وقيل المراد بالنفاثات بنات لبيد بن الأعصم اللاتي سحرن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والنفث النفخ مع ريق قليل، وقيل إنه النفخ فقط.
واختلفوا في جواز النّفث في الرّقى، والتّعاويذ الشّرعية المستحبة فجوزه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات» الحديث وأنكر جماعة التّفل، والنّفث في الرقى، وأجازوا النّفخ بلا ريق قال عكرمة: لا ينبغي للرّاقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، وقيل النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون مذموما، ولا مكروها بل هو مندوب إليه. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ الحاسد هو الذي يتمنى زوال نعمة الغير، وربما يكون مع ذلك سعي، فلذلك أمر الله تعالى بالتعوذ منه، وأراد بالحاسد هنا اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلّى الله عليه وسلّم أو لبيد بن الأعصم وحده والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/502)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
سورة الناس
وهي مدنية وقيل مكية والأول أصح وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إنما خصص الناس بالذّكر، وإن كان رب جميع المحدثات لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس، فكأنه قال أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم فإنه هو الذي يعيذهم من شرهم، وقيل إن أشرف المخلوقات هم الناس، فلهذا خصهم بالذكر. مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ إنما وصف نفسه أولا: بأنه رب الناس، لأن الرب قد يكون ملكا، وقد لا يكون ملكا فنبه بذلك على أنه ربهم، وملكهم ثم إن الملك لا يكون إلها، فنبه بقوله إِلهِ النَّاسِ على أن الإلهية خاصة بالله سبحانه، وتعالى لا يشاركه فيها أحد، والسبب في تكرير لفظ الناس يقتضي مزيد شرفهم على غيرهم مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعني الشّيطان ذا الوسواس، والوسوسة الهمز، والصوت الخفي. الْخَنَّاسِ يعني الرجاع من الذي عادته أن يخنس أي يتأخر. قيل إن الشيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا غفل وسها وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس الشيطان عنه، وتأخر وقال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب وقيل كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويجذبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكر الله تعالى رجع، ووضع رأسه على القلب فذلك قوله تعالى:
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ يعني بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع، والمراد بالصدر القلب مِنَ الْجِنَّةِ يعني الجن وَالنَّاسِ وفي معنى الآية وجهان:
أحدهما: أن الناس لفظ مشترك بين الجن والإنس، ويدل عليه قول بعض العرب جاء قوم من الجن، فقيل من أنتم قالوا أناس من الجن، وقد سماهم الله تعالى رجالا في قوله يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فعلى هذا يكون معنى الآية أن الوسواس الخناس يوسوس للجن كما يوسوس للإنس.
الوجه الثاني: أن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة، وهم الجن وقد يكون من الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس للإنسان تارة، ويخنس أخرى، فكذلك شيطان الإنس قد يوسوس للإنسان كالنّاصح له فإن قبل زاد في الوسوسة، وإن كره السامع ذلك انخنس وانقبض فكأنه تعالى أمر أن يستعاذ به من شر الجن والإنس جميعا (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم ينفث(4/503)
فيهما، فيقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما» أخرجه مالك في الموطأ ولهما بمعناه (ق) عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار» عن ابن عباس قال: «قيل يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، قال الحال المرتحل قيل، وما الحال المرتحل قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل» أخرجه التّرمذي، والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه.(4/504)
فهرس المحتويات
تفسير سورة يس الآيات: 1- 11 3 الآيتان: 12، 13 4 الآيات: 14- 27 6 الآيات: 28- 42 7 الآيات: 43- 49 9 الآيات: 50- 60 10 الآيات: 61- 65 11 الآيات: 66- 69 12 الآيات: 70- 78 13 الآيات: 79- 83 14 تفسير سورة الصافات الآيات: 1- 6 15 الآيات: 7- 19 16 الآيات: 20- 37 17 الآيات: 38- 49 18 الآيات: 50- 62 19 الآيات: 63- 91 20 الآيات: 92- 99 21 الآيات: 100- 103 22 الآيات: 104- 116 24 الآيات: 117- 123 25 الآيات: 124- 143 27 الآيات: 144- 147 28 الآيات: 148- 171 29 الآيات: 172- 182 30 تفسير سورة ص الآيات: 1- 8 31 الآيات: 9- 12 32 الآيات: 13- 20 33 الآيات: 21- 22 34 الآية: 23 35 الآيتان: 24، 25 36 الآيات: 26- 28 39 الآيات: 29- 34 40 الآية: 35 43 الآيات: 36- 52 44 الآيات: 53- 60 45 الآيات: 61- 75 46 الآيات: 76- 88 48 تفسير سورة الزمر الآيات: 1- 4 50 الآيات: 5- 7 51 الآيات: 8- 10 52 الآيات: 11- 16 53 الآيات: 17- 23 54 الآيات: 24- 31 56 الآيات: 32- 36 57 الآيات: 37- 42 58 الآيات: 43- 45 59 الآيات: 46- 53 60 الآيات: 54- 58 62(4/505)
الآيات: 59- 68 63 الآيات: 69- 73 64 الآيتان: 74، 75 66 تفسير سورة حم المؤمن الآيات: 1- 3 67 الآيات: 4- 7 68 الآيات: 8- 10 69 الآيات: 11- 19 70 الآيات: 20- 26 71 الآيات: 27- 29 72 الآيات: 30- 34 73 الآيات: 35- 46 74 الآيات: 47- 52 75 الآيات: 53- 57 76 الآيات: 58- 60 78 الآيات: 61- 69 79 الآيات: 70- 78 80 الآيات: 79- 85 81 تفسير سورة فصلت الآيات: 1- 7 82 الآيات: 8- 11 83 الآيات: 12- 14 84 الآيات: 15- 17 85 الآيات: 18- 24 86 الآيات: 25- 33 87 الآيات: 34- 43 89 الآيات: 44- 47 90 الآيات: 48- 53 91 الآية: 54 92 تفسير سورة حم عسق الآيات: 1- 7 93 الآيات: 8- 11 94 الآيات: 12- 15 95 الآيات: 16- 18 96 الآيات: 19- 23 97 الآيتان: 24، 25 99 الآيات: 26- 28 100 الآيات: 29- 39 101 الآيات: 40- 44 102 الآيات: 45- 52 103 الآية: 53 104 تفسير سورة الزخرف الآيات: 1- 5 105 الآيات: 6- 18 106 الآيات: 19- 23 107 الآيات: 24- 35 108 الآيات: 36- 39 109 الآيات: 40- 50 110 الآيات: 51- 57 111 الآيات: 58- 61 112 الآيات: 62- 71 113 الآيات: 72- 88 114 الآية: 89 115 تفسير سورة الدخان الآيات: 1- 11 116 الآيات: 12- 16 117 الآيات: 17- 37 118 الآيات: 38- 56 120 الآيات: 57- 59 121 تفسير سورة الجاثية الآيات: 1- 11 122 الآيات: 12- 17 123 الآيات: 18- 23 124 الآيات: 24- 32 125 الآيات: 33- 37 126 تفسير سورة الأحقاف الآيات: 1- 8 127 الآية: 9 128 الآية: 10 129 الآيات: 11- 15 130(4/506)
الآيات: 16- 20 131 الآيات: 21- 25 132 الآيات: 26- 29 134 الآيات: 30- 33 136 الآيتان: 34، 35 137 تفسير سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم الآيات: 1- 3 139 الآية: 4 140 الآيات: 5- 7 141 الآيات: 8- 14 142 الآيات: 15- 17 143 الآيتان: 18، 19 144 الآيات: 20- 22 146 الآيات: 23- 26 147 الآيات: 27- 32 148 الآيات: 33- 37 150 الآية: 38 151 تفسير سورة الفتح الآيات: 1- 3 152 الآيات: 4- 6 154 الآيات: 7- 10 155 الآيات: 11- 15 157 الآيات: 16- 18 158 الآيتان: 19، 20 161 الآيات: 21- 24 164 الآيات: 25- 27 170 الآيتان: 26، 27 171 الآيتان: 28، 29 172 تفسير سورة الحجرات الآية: 1 175 الآيات: 2- 4 176 الآية: 5 177 الآيات: 6- 9 178 الآية: 10 179 الآية: 11 180 الآية: 12 181 الآية: 13 183 الآية: 14 184 الآيات: 15- 18 185 تفسير سورة ق الآيات: 1- 11 186 الآيات: 12- 18 187 الآيات: 19- 30 188 الآيات: 31- 34 189 الآيات: 35- 39 190 الآيات: 40- 45 191 تفسير سورة الذاريات الآيات: 1- 14 192 الآيات: 15- 18 193 الآيات: 19- 24 194 الآيات: 25- 43 195 الآيات: 44- 51 196 الآيات: 52- 60 197 تفسير سورة الطور الآيات: 1- 10 198 الآيات: 11- 21 199 الآيات: 23- 30 200 الآيات: 31- 45 201 الآيات: 46- 49 202 تفسير سورة النجم الآيات: 1- 11 203 الآيات: 12- 16 205 الآيات: 17- 19 206 الآيات: 20- 30 209 الآيتان: 31، 32 210 الآيات: 33- 36 212 الآيات: 37- 41 213 الآيات: 42- 47 214 الآيات: 48- 62 215(4/507)
تفسير سورة القمر الآيات: 1- 3 217 الآيات: 4- 7 218 الآيات: 8- 24 219 الآيات: 25- 42 220 الآيات: 43- 48 221 الآيات: 49- 51 222 الآيات: 52- 55 224 تفسير سورة الرّحمن الآيات: 1- 11 225 الآيات: 12- 15 226 الآيات: 16- 31 227 الآيات: 32- 35 228 الآيات: 36- 46 229 الآيات: 47- 54 230 الآيات: 55- 58 231 الآيات: 59- 76 232 الآيتان: 77، 78 233 تفسير سورة الواقعة الآيات: 1- 8 234 الآيات: 9- 23 235 الآيات: 24- 31 236 الآيات: 32- 40 237 الآيات: 41- 56 238 الآيات: 57- 65 239 الآيات: 66- 73 240 الآيات: 74- 79 241 الآيات: 80- 84 242 الآيات: 85- 92 243 الآيات: 93- 95 244 تفسير سورة الحديد الآيات: 1- 5 245 الآيات: 6- 10 247 الآيات: 11- 13 248 الآيات: 14- 18 249 الآيتان: 19، 20 250 الآيات: 21- 25 251 الآيتان: 26، 27 252 الآيتان: 28، 29 253 تفسير سورة المجادلة الآية: 1 255 الآيتان: 2، 3 256 الآية: 4 258 الآيات: 5- 8 260 الآيات: 9- 11 261 الآيات: 12- 16 263 الآيات: 17- 22 264 تفسير سورة الحشر الآية: 1 266 الآية: 2 267 الآيات: 3- 6 268 الآية: 7 269 الآية: 8 270 الآية: 9 271 الآية: 10 272 الآيات: 11- 16 273 الآية: 17 275 الآيات: 18- 23 276 الآية: 24 278 تفسير سورة الممتحنة الآية: 1 279 الآيات: 2- 5 280 الآيات: 6- 8 281 الآيتان: 9، 10 282 الآية: 11 283 الآية: 12 284 الآية: 13 285 تفسير سورة الصف الآيتان: 1، 2 286 الآيات: 3- 6 287(4/508)
الآيات: 7- 14 288 تفسير سورة الجمعة الآيات: 1- 3 289 الآيات: 4- 9 290 الآيتان: 10، 11 294 تفسير سورة المنافقين الآيات: 1- 3 297 الآيات: 4- 6 298 الآيات: 7- 11 300 تفسير سورة التغابن الآيتان: 1، 2 301 الآيات: 3- 13 302 الآيات: 14- 16 303 الآيتان: 17، 18 304 تفسير سورة الطلاق الآية: 1 305 الآيتان: 2، 3 307 الآيات: 4- 7 308 الآيات: 8- 12 310 تفسير سورة التحريم الآية: 1 311 الآيتان: 2، 3 312 الآية: 4 313 الآية: 5 315 الآيات: 6- 9 316 الآيات: 10- 12 317 تفسير سورة الملك الآيات: 1- 2 318 الآيات: 3- 8 319 الآيات: 9- 27 320 الآيات: 28- 30 321 تفسير سورة ن الآية: 1 322 الآيات: 2- 4 323 الآيات: 5- 8 324 الآيات: 9- 20 325 الآيات: 21- 31 326 الآيات: 32- 42 327 الآية: 43 330 الآيات: 44- 51 331 الآية: 52 332 تفسير سورة الحاقة الآيات: 1- 10 333 الآيات: 11- 17 334 الآيات: 18- 24 335 الآيات: 25- 34 336 الآيات: 35- 45 337 الآيات: 46- 52 338 تفسير سورة سأل سائل الآيات: 1- 4 339 الآيات: 5- 14 340 الآيات: 15- 23 341 الآيات: 24- 39 342 الآيات: 40- 44 343 تفسير سورة نوح الآيات: 1- 8 344 الآيات: 9- 17 345 الآيات: 18- 23 346 الآيات: 24- 28 347 تفسير سورة الجن الآية: 1- 4 348 الآيات: 5- 16 350 الآيات: 17- 19 351 الآيات: 20- 27 352 الآية: 28 354 تفسير سورة المزمل الآيات: 1- 4 355 الآيتان: 5، 6 356 الآيات: 7- 10 357 الآيات: 11- 19 358(4/509)
الآية: 20 359 تفسير سورة المدثر الآيات: 1- 5 361 الآيات: 6- 14 363 الآيات: 15- 29 364 الآيات: 30- 32 365 الآيات: 33- 41 366 الآيات: 42- 56 367 الآيات: 52- 56 368 تفسير سورة القيامة الآيات: 1- 3 369 الآيتان: 4، 5 370 الآيات: 6- 21 371 الآيات: 22- 29 372 الآيات: 30- 40 374 تفسير سورة هل أتى الآيتان: 1، 2 376 الآيات: 3- 9 377 الآيات: 10- 21 379 الآيات: 22- 28 380 الآيات: 29- 31 381 تفسير سورة المرسلات الآيات: 1- 4 382 الآيات: 5- 32 383 الآيات: 33- 48 384 الآيتان: 49، 50 385 تفسير سورة النبأ الآيات: 1- 8 386 الآيات: 19- 25 387 الآيات: 26- 37 388 الآيات: 38- 40 389 تفسير سورة النازعات الآيات: 1- 7 390 الآيات: 8- 14 391 الآيات: 15- 27 392 الآيات: 28- 46 393 تفسير سورة عبس الآيات: 1- 15 394 الآيات: 16- 37 395 الآيات: 38- 42 396 تفسير سورة التكوير الآيات: 1- 7 397 الآيات: 8- 22 398 الآيات: 23- 29 399 تفسير سورة الانفطار الآيات: 1- 6 401 الآيات: 7- 19 402 تفسير سورة المطففين الآيات: 1- 7 403 الآيات: 8- 14 404 الآيات: 15- 27 405 الآيات: 28- 34 406 الآيتان: 35، 36 407 تفسير سورة الانشقاق الآيات: 1- 17 408 الآيات: 18- 21 409 الآيات: 22- 25 410 تفسير سورة البروج الآيات: 1- 4 411 الآيات: 5- 10 413 الآيات: 11- 22 414 تفسير سورة الطارق الآيات: 1- 9 415 الآيات: 10- 17 416 تفسير سورة الأعلى الآيات: 1- 14 417(4/510)
الآيات: 15- 19 418 تفسير سورة الغاشية الآيات: 1- 6 420 الآيات: 7- 17 421 الآيات: 18- 26 422 تفسير سورة الفجر الآيات: 1- 3 423 الآيات: 4- 8 424 الآيتان: 9، 10 425 الآيات: 11- 15 426 الآيات: 16- 28 427 الآيتان: 29، 30 428 تفسير سورة البلد الآيات: 1- 4 429 الآيات: 5- 17 430 الآيات: 18- 20 431 تفسير سورة الشمس الآيات: 1- 8 432 الآيات: 9- 14 433 تفسير سورة الليل الآيات: 1- 10 434 الآيات: 11- 18 435 الآيات: 19- 21 436 تفسير سورة والضحى الآيات: 1- 5 437 الآيات: 6- 8 438 الآيات: 9- 11 439 تفسير سورة ألم نشرح الآيات: 1- 6 441 الآيتان: 7، 8 443 تفسير سورة والتين الآيات: 1- 5 444 الآيات: 6- 8 445 تفسير سورة العلق الآية: 1 447 الآيات: 2- 19 448 تفسير سورة القدر الآيتان: 1، 2 450 الآيات: 3- 5 453 تفسير سورة لم يكن الآيات: 1- 4 454 الآيات: 5- 8 455 تفسير سورة الزلزلة الآيات: 1- 6 458 الآيتان: 7، 8 459 تفسير سورة العاديات الآيات: 1- 11 460 تفسير سورة القارعة الآيات: 1- 11 462 تفسير سورة التكاثر الآيتان: 1، 2 464 الآيات: 3- 8 465 تفسير سورة العصر الآيات: 1- 3 466 تفسير سورة الهمزة الآيات: 1- 9 468 تفسير سورة الفيل الآيات: 1 470 الآيات: 2- 5 473 تفسير سورة قريش الآيات: 1 475 الآيات: 2- 4 476 تفسير سورة الماعون الآيات: 1- 7 478 تفسير سورة الكوثر الآيات: 1- 3 480(4/511)
سورة الشرح 232 سورة التين 238 سورة العلق 242 سورة القدر 247 سورة البيّنة (المنفكّين) 259 سورة الزلزلة 263 سورة العاديات 268 سورة القارعة 274 سورة التكاثر 276 سورة العصر 283 سورة الهمزة 285 سورة الفيل 288 سورة قريش 299 سورة الماعون 304 سورة الكوثر 307 سورة الكافرون 314 سورة النصر 318 سورة تبت (المسد) 323 سورة الإخلاص 330 سورة الفلق والناس [المعوذتين] 337 سورة الناس 341(4/512)