وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
[سورة لقمان (31) : الآيات 7 الى 15]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي لا يعبأ بها ولا يرفع لها رأسا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي ثقلا ولا وقر فيهما فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا يعني وعدهم الله ذلك وعدا حقا وهو لا يخلف الميعاد وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قيل إن السماء خلقت مبسوطة كصحفة مستوية وهو قول المفسرين وهي في الفضاء والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار وإليه الإشارة بقوله بغير عمد تَرَوْنَها أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى. وفي قوله ترونها وجهان: أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد. الوجه الثاني أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تتحرك بكم وَبَثَّ فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي يسكنون فيها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر وهو من إنعام الله على عبادة وفضله فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي من كل صنف حسن هذا يعني الذي ذكرت مما تعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي آلهتكم التي تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قيل هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارخ وهو آزر. وقيل كان ابن أخت أيوب. وقيل كان ابن خالته. وقيل إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وقيل إنه كان قاضيا في بني إسرائيل. واتفقت العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا وقيل خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وروي أنه كان نائما نصف الليل فنودي يا لقمان هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض فتحكم بين الناس فأجاب الصوت فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعا وطاعة وإني أعلم أن الله إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاها الظلم من كل مكان إن عدل فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده، فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عنه وكان لقمان يوازر داود لحكمته وقيل كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وقيل كان خياطا وقيل كان راعي غنم فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلانا الراعي قال: بلى قال فبم بلغت ما بلغت؟ قال بصدق(3/397)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وقيل كان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وقيل: خير السودان بلال بن رباح ومهجع مولى عمر ولقمان والنجاشي رابعهم أوتي الحكمة والعقل والفهم وقيل العلم والعمل به ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعها وقيل الحكمة المعرفة والإصابة في الأمور وقيل: الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره كما ينور البصر فيدرك المبصر. وقوله أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وذلك لأن المراد من العلم العمل به والشكر عليه وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي عليه يعود نفع ذلك وكذلك كفرانه وَمَنْ كَفَرَ عليه يعود وبال كفره فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ أي غير محتاج إلى شكر الشاكرين حَمِيدٌ أي هو حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.
وقوله تعالى وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ قيل اسمه أنعم وقيل أشكم وَهُوَ يَعِظُهُ وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره فقوله وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ إشارة إلى الكمال وقوله وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه إشارة إلى التكميل لغيره وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه وبدأ في وعظه بالأهم وهو المنع من الشرك وهو قوله يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأن التسوية بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها ظلم عظيم لأنه وضع العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ قال ابن عباس شدة بعد شدة وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والتعب والمشقة وذلك لأن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاعة ضعف وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي فطامه في سنتين أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لما جعل الله بفضله للوالدين صورة التربية الظاهرة وهو الموجد والمربي في الحقيقة جعل الشكر بينهما فقال اشكر لي ولوالديك ثم فرق فقال إلي المصير يعني أن نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي عليك في الدنيا والآخرة وقيل لما أمر بشكره وشكر الوالدين قال الجزاء علي وقت المصير إلي، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما قال النخعي: يعني أن طاعتهما واجبة فان أفضى ذلك إلى الإشراك بي فلا تطعهما في ذلك لأن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقيل من أناب إلي يعني أبا بكر الصديق قال ابن عباس:
وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وقالوا له قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال نعم إنه صادق فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 20]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ قال يا بني إنها أي الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل أي في الصغر فَتَكُنْ أي مع صغرها فِي صَخْرَةٍ قال ابن عباس: صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار وخضرة السماء منها وقيل خلق الله الأرض على حوت وهو النون والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة(3/398)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
والصفاة على ظهر ملك وقيل على ظهر ثور وهو على صخرة وهي التي ذكر لقمان ليست في الأرض ولا في السماء فلذلك قال أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ والصخرة على متن الريح والريح على القدرة يَأْتِ بِهَا اللَّهُ معناه الله عالم بها قادر على استخراجها وهو قوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي باستخراجها خَبِيرٌ أي بمكانها ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة قالها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها وعظمتها فمات يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى من الأمور الواجبة التي أمر الله بها وَلا تُصَعِّرْ وقرئ تصاعر خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه محبة فيلقاك فتعرض عنه وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا وقيل معناه لا تحتقر الفقراء فليكن الفقير والغني عندك سواء وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ في مشيه فَخُورٍ أي على الناس وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي ليكن في مشيتك قصد بين الإسراع والتأني أما الإسراع فهو من الخيلاء وأما التأني فهو أن يرى في نفسه الضعف تزهدا وكلا الطرفين مذموم بل ليكن مشيك بين السكينة والوقار وَاغْضُضْ أي اخفض وقيل وانقص مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ أي أقبح الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير وآخره شهيق وهما صوت أهل النار وعن الثوري في هذه الآية قال صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار وقيل معنى الآية هو العطسة القبيحة المنكرة قال وهب: تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ومن حكمته قيل: إنه كان عبدا حبشيا فدفع إليه مولاه شاة وقال له: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه أخرى وقال له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقال لقمان ليس مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس. وقيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. قوله عز وجل أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ أي أتم وأكمل عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال ابن عباس النعمة الظاهرة الإسلام والقرآن والباطنة ما ستر عليكم من الذنوب ولم يعجل عليكم بالنقمة وقيل الظاهرة تسوية الأعضاء وحسن الصورة والباطنة الاعتقاد بالقلب وقيل الظاهرة الرزق والباطنة حسن الخلق وقيل الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة وقيل الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة وقيل الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله وفي صفاته بغير علم وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 32]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(3/399)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا قال الله تعالى أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ معناه أفيتبعونهم وإن كان الشيطان يدعوهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ قوله عز وجل وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يخلص لله دينه ويفوض إليه أمره وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في عمله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخلف عهده ولا يخاف انقطاعه ويرتقي بسببه إلى أعلى المراتب والغايات وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مصير جميع الأشياء إليه وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم. قوله تعالى نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا إلى انقضاء آجالهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نلجئهم ونردهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ إلي النار في الآخرة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تقدم تفسيره. قوله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ قال المفسرون لما نزلت بمكة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية وهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أتعنينا أم قومك فقال عليه الصلاة والسلام كلا قد عنيت قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله بما إن علمتم به انتفعتم به قالوا كيف تزعم هذا وأنت تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا تكون هذه الآية مدنية وقيل إن اليهود أمروا وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولوا له ذلك وهو بمكة وقيل إن المشركين قالوا إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي بريت أقلاما وقيل بعدد كل شجرة قلم وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ أي يزيده وينصب إليه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي مدادا والخلائق يكتبون به كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ لأنها لا نهاية لها إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
قوله تعالى ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لأقوالكم بَصِيرٌ بأعمالكم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ يعني ذلك الذي هو قادر على هذه الأشياء التي ذكرت هو الحق المستحق للعبادة وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ يعني لا يستحق العبادة وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ يعني في صفاته له الصفات العليا والأسماء الحسنى الْكَبِيرُ في ذاته أنه أكبر من كل كبير. قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ يعني السفن والمراكب تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ يعني ذلك من نعمة الله عليكم لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يعني من عجائب صنائعه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ يعين على ما أمر الله شَكُورٍ لإنعامه وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ يعني كالجبال وقيل كالسحاب شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ معناه أن الإنسان إذا وقع في شدة ابتهل إلى الله بالدعاء وترك كل من عداه ونسي جميع ما سواه فإذا نجا من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة وهو المقتصد وهو قوله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعني عدل موف في البر بما عاهد عليه الله في البحر من التوحيد والثبوت(3/400)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
على الإيمان وقيل نزلت في عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ولأضعن يده في يدي فسكت الريح ورجع عكرمة إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه ومنهم من لم يوف بما عاهد وهو المراد بقوله وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ يعني غدار كَفُورٍ يعني جحود لأنعمنا عليه. قوله تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني خافوا ربكم وَاخْشَوْا يعني وخافوا يَوْماً لا يَجْزِي يعني لا يقضي ولا يغني والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً قيل معنى الآية إن الله ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد فنبه بالأعلى على الأدنى وبالأدنى على الأعلى فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي ولا يهتم بقريب ولا بعيد كما قال ابن عباس كل امرئ تهمه نفسه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ
قيل إنه تحقيق اليوم معناه اخشوا يوما هذا شأنه وهو كائن بوعد الله به ووعده حق وقيل الآية تحقيق بعدم الجزاء يعني لا يجزي والد عن ولده في ذلك اليوم والقول الأول أحسن وأظهر فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني لأنها فانية وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الشيطان. قال سعيد بن جبير يعمل بالمعاصي ويتمنى المغفرة. قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن حفصة من أهل البادية أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد ولقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فأنزل الله هذه الآية (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» ومعنى الآية إن الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو أي شهر أو أي يوم ليلا أو نهارا وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلا أو نهارا إلا الله وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى أحمر أم أسود تام الخلقة أم ناقص وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ يعني ليس أحد من الناس يعلم أين مضجعه من الأرض في بر أو بحر في سهل أو جبل إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعني بهذه الأشياء وبغيرها خَبِيرٌ أي ببواطن الأشياء كلها ليس علمه محيطا بالظاهر فقط بل علمه محيط بالظاهر والباطن قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مصطفى فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فإنه كفر بالقرآن لأنه خالفه والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/401)
الم (1)
سورة السجدة
وهي مكية قال عطاء إلا ثلاث آيات من قوله أفمن كان مؤمنا وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية وثلاثمائة وثمانون كلمة وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
قوله عز وجل الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك في أنه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ يعني بل يقولون يعني المشركين افْتَراهُ يعني اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم من تلقاء نفسه بَلْ هُوَ الْحَقُّ يعني القرآن مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني العرب كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت إذا لم يأتهم رسول لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا من جهة الرسل فلا وأما قيام الحجة بمعرفة الله وتوحيده فنعم لأن معهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني تنذرهم راجيا اهتداءهم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يعني يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر وقيل ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ يعني يصعد إِلَيْهِ جبريل بالأمر فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني مسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة فيكون مقدار نزوله إلى الأرض ثم صعوده إلى السماء في مقدار ألف سنة لو ساره أحد من بني آدم وجبريل ينزل ويصعد في مقدار يوم من أيام الدنيا وأقل من ذلك وكذلك الملائكة كلهم أجمعون وقيل معنى الآية أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج إليه أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الآمر وحكم الحاكم في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة. فإن قلت قد قال في موضع آخر: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فكيف الجمع بينهما. قلت أراد بقوله خمسين ألف سنة مدة المسافة بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام يقول يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقيل كلها في القيامة فيكون على بعضهم مثل ألف سنة وعلى بعضهم خمسين ألف سنة وهذا في حال الكفار وأما على المؤمنين فدون ذلك كما جاء في(3/402)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
الحديث: «إنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» . قال إبراهيم التيمي: لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر والعصر وقيل يحتمل أن يكون هذا إخبارا عن شدته وهوله ومشقته وقال ابن أبي مليكة: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن مقدار خمسين ألف سنة. فقال ابن عباس: رضي الله عنهما أيام سماها الله تعالى لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم.
[سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 14]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة أي ما غاب عن خلقه لا تخفى عليه خافية والشهادة بمعنى ما حضر وظهر الْعَزِيزُ أي الممتنع المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه وأهل طاعته. قوله تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال ابن عباس أتقنه وأحكمه وقيل علم كيف يخلق كل شيء وقيل خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في صورته حسن في شكله وكل عضو من أعضائه مقدر على ما يصلح به معاشه وقيل معناه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه وعلمهم إياه. وقيل معناه أحسن إلى كل خلقه وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعني ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة تنسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ أي سوى خلقه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضاف إليه الروح إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال وَجَعَلَ لَكُمُ أي خلق بعد أن كنتم نطفا مواتا السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قيل قدم السمع لأن الإنسان يسمع أولا كلاما فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ووحد السمع لأن الإنسان يسمع الكلام من أي جهة كان قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعمة فتوحدوه إلا قليلا. قوله تعالى وَقالُوا يعني منكري البعث أَإِذا ضَلَلْنا هلكنا فِي الْأَرْضِ والمعنى صرنا ترابا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهام إنكاري قال الله تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي بالبعث بعد الموت قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ أي يقبض أرواحكم حتى لا يبقى أحد ممن كتب عليه الموت مَلَكُ الْمَوْتِ وهو عزرائيل عليه السلام الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجل أحدكم لا يؤخر ساعة ولا شغل له إلا ذلك. روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة، فهو يقبض أرواح الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها وله أعوان من الملائكة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وقال ابن عباس إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت له الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء، وقيل إن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت. عن معاذ بن جبل قال: إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب،(3/403)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له الآن تنزل بك سكرات الموت. وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تصيرون إلى ربكم أحياء فيجزيكم بأعمالكم. قوله عز وجل وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي يطأطئونها حياء من ربهم وندما على ما فعلوا عند ربهم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا أي ما كنا به مكذبين وَسَمِعْنا يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك وقيل أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فيها فَارْجِعْنا أي فارددنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي في الحال آمنا ولكن لا ينفع ذلك الإيمان وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي رشدها وتوفيقها للإيمان وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي وجب القول مني لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي من كفار الجن والإنس فَذُوقُوا يعني فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة ذوقوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ أي تركتم الإيمان في الدنيا هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ يعني تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل بالناس قطعا لرجائكم وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب. قوله تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً يعني سقطوا على وجوههم ساجدين وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني صلوا بأمر ربهم وقيل قالوا سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني عن الإيمان به والسجود له (ق) عن ابن عمر قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة» . (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» . وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ وللمستمع. قوله تعالى تَتَجافى جُنُوبُهُمْ يعني ترتفع وتنبو عَنِ الْمَضاجِعِ جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل الذي يقيمون الصلاة، وقال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. عن أنس في قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة أخرجه الترمذي وقال الحديث حسن غريب صحيح. وفي رواية أبي داود عنه قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء أي يصلون، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وقيل هي صلاة الأوابين.
روي عن ابن عباس قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين وقال عطاء:
هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الأخيرة والفجر في جماعة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» أخرجه مسلم من حديث عثمان بن عفان. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» . وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة.
فصل: في فضل قيام الليل والحث عليه
عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: «سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ(3/404)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
الْمَضاجِعِ
حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله. قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامة الجهاد، ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا. فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير السيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة الداء عن الجسد» أخرجه الترمذي. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه. فيقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه أخرجه الترمذي بمعناه (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» . (ق) عن عائشة قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوم الليل حتى تورمت قدماه فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا» . عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام» . أخرجه الترمذي. (خ) عن الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه في قصة يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن رواحة قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات ما إذا قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع»
أخرجه البخاري وليس للهيثم بن سنان. عن أبي هريرة في الصحيحين غير هذا الحديث. وقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً قال ابن عباس خوفا من النار وطمعا في الجنة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قيل أراد به الصدقة المفروضة وقيل بل هو عام في الواجب والتطوع. قوله عز وجل:
[سورة السجده (32) : الآيات 17 الى 26]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)(3/405)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الطاعات في دار الدنيا (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» . قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمنا واحدا ولا فاسقا واحدا أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها المؤمنون نُزُلًا هو ما يهيأ للضيف عند نزوله بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الطاعات في دار الدنيا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي سوى العذاب الأكبر، قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها، وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين، وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي ترك الإيمان بها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين مُنْتَقِمُونَ معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من لقاء موسى ليلة المعراج، قاله ابن عباس (ق) عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلا موبوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار، والدجال في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» . فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين. قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر، كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عز وجل وهو على كل شيء قدير. فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل، وكذلك رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا؟ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها: أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل، إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة. الجواب الثاني: أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع، قال الله تعالى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وقال صلّى الله عليه وسلّم «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال الله في حقهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ، غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع والله أعلم، وقيل في قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ(3/406)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
مِنْ لِقائِهِ
أي من تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول وَجَعَلْناهُ أي الكتاب هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل أَئِمَّةً أي قادة للخير يقتدى بهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل وقيل هم أتباع الأنبياء يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يعني يدعون الناس إلى طاعتنا لَمَّا صَبَرُوا يعني على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ يعني أنها من الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي ويحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قيل هم الأنبياء وأممهم وقيل هم المؤمنون والمشركون قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي نبين لهم كَمْ أَهْلَكْنا يعني كثرة من أهلكنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يعني الأمم الخالية يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني أهل مكة يسيرون في بلادهم ومنازلهم إذا سافروا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ يعني آيات الله ومواعظه فيتعظون بها. قوله عز وجل:
[سورة السجده (32) : الآيات 27 الى 30]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها قال ابن عباس هي أرض باليمن وقيل هي أبين فَنُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ يعني العشب والتبن وَأَنْفُسُهُمْ أي من الحبوب والأقوات أَفَلا يُبْصِرُونَ يعني فيعتبروا. قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قيل أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم والقضاء بين العباد، وذلك أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا للكفار إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم فيه بيننا وبينكم. فقال الكفار استهزاء متى هذا الفتح أي القضاء والحكم، وقيل هو فتح مكة وقيل يوم بدر، وذلك أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ يعني يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ يعني لا يقبل منهم الإيمان ومن حمل يوم الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر، قال معناهم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يعني يمهلون ليتوبوا ويعتذروا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال ابن عباس نسختها آية السيف وَانْتَظِرْ يعني موعدي لك بالنصر عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي بك حوادث الزمان وقيل معناه انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل الكتاب وهل أتى على الإنسان» . عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل الكتاب وتبارك الذي بيده الملك» أخرجه الترمذي. وقال طاوس تفضلان عن كل سورة في القرآن بسبعين حسنة أخرجه الترمذي. والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/407)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
سورة الأحزاب
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية وألف ومائتان وثمانون كلمة وخمسون آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال إني أعطيتهم الأمان. فقال عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمر أن يخرجهم من المدينة. فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أي دم على التقوى وقيل معناه اتق الله ولا تنقض العهد بينك وبينهم وقيل الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته ولا تُطِعِ الْكافِرِينَ يعني من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين يعني من أهل المدينة عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بخلقه قبل أن يخلقهم حَكِيماً أي فيما دبره لهم وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني من وفاء العهد وترك طاعة الكافرين والمنافقين إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله وكل أمرك إليه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني حافظا لك وقيل كفيلا برزقك. قوله تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر ما حال الناس. فقال انهزموا فقال له فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك. فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وعن أبي ظبيان قال: قلنا لابن عباس أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ما عنى بذلك؟ قال «قام نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يوما يصلي(3/408)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
فخطر خطرة. فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن قوله خطر خطرة يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاة. قيل في معنى الآية أنه لما قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ فكان ذلك أمرا بالتقوى. فكأنه قال ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله، فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي الله بأحدهما وبالآخر غيره، وقيل إن هذا مثل ضربه الله تعالى للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره، فكما لا يكون لرجل قلبان لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فالآخر فضله عليه محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا ما لا يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها عالما جاهلا موقنا شاكا في حالة واحدة، وهما حالتان متنافيتان فكذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان ولا يكون ولد واحد ابن رجلين.
قوله تعالى وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، يقول الله وما جعل نساءكم التي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكم منكر وزور وفيه كفارة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في سورة المجادلة. قوله تعالى وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ يعني الذين تتبنونهم أَبْناءَكُمْ وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ويرث ميراثه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ونسخ بها التبني ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد وادعاء النسب لا حقيقة له وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعني قوله الحق وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يعني يرشد إلى سبيل الحق.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 5 الى 6]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يعني الذين ولدوهم فقولوا زيد بن حارثة هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعني أعدل عند الله (ق) عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الآية فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ يعني فهم إخوانكم وَمَوالِيكُمْ أي كانوا محررين وليسوا ببنيكم أي فسموهم بأسماء إخوانكم في الدين، وقيل معنى مواليكم أولياؤكم في الدين وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي وقيل فيما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه وهو يظن أنه كذلك وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. (ق) عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» قوله عز وجل النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه، عليهم ووجوب طاعته وقال ابن عباس إذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فنزلت الآية. (ق) عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من(3/409)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، واقرءوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» . عصبة الميت من يرثه سوى من له فرض مقدر وقوله أو ضياعا أي عيالا وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا، وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع.
قوله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين، وقيل إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كن أمهات المؤمنين والمؤمنات الرجال والنساء وقيل كن أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه. فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم. فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعني في الميراث قيل كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وقيل آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس فكان يؤاخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وقيل في معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم وَالْمُهاجِرِينَ يعني أن ذوي القرابات أولى بعضهم ببعض فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت الموارثة بينهم بالقرابة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يعني الوصية للذين يتولونه من المعاقدين، وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالخلف والإخاء والهجرة، أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله، وقيل أراد بالمعروف النصر وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، وقيل معناه إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة كانَ ذلِكَ أي الذي ذكر من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ وقيل في التوراة مَسْطُوراً أي مكتوبا مثبتا. قوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 9]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض، وقيل على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم وَمِنْكَ يعني يا محمد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرسل، وقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذكر تشريفا له وتفضيلا. ولما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» . قال قتادة وذلك قول الله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ فبدأ به صلّى الله عليه وسلّم وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أيام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا(3/410)
عَلَيْهِمْ رِيحاً
يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» . وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه. قوله تعالى وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة، ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث الله عز وجل تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل حي يقول يا بني فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله عليهم من الرعب وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب
قال: البخاري قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع من الهجرة. وروى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاجتمعوا على ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيسا وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخندق سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ حر. فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقا علينا، فعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى أحكموه. وروي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمان منا أهل البيت» .
قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا، حتى إذا كنا تحت أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بخبر هذه الصخرة، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال فرقي سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق(3/411)
أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة، حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه، ثم ضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القوم وقال: أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال: فنزل القرآن:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وأنزل الله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية (ق) عن أنس قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا
عن البراء بن عازب قال «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ينقل معنا التراب وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته. «وفي رواية قد وارى التراب بياض إبطيه» رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال «فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام، وخرج عدو الله حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه وعاهده على ذلك، فلما سمع صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال: ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا فقال: ويحك افتح أكلمك قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا خوفا أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال: له كعب جئتني والله بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمدا وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه(3/412)
من الله عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد العهد وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما انتهى الخبر إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد بني الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف. فقال: انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا عنده حدة، فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلموا وقالوا: عضل والقارة لغدر، عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه. فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
وقال: أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدو، وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام المشركون عليها بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدلنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا. قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال: له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله، قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال: أجل قال له علي: فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك. قال:
إني أدعوك إلى النزال قال: ولم يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك(3/413)
فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة. فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين: كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول:
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت: له أمه الحق يا بني فقد والله أجزت. قالت عائشة: يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. قالت: فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة. قال سعد: عرق الله وجهك في النار، ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قال محمد بن إسحاق: فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت، قالت: فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن. فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية. فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه، قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا فقد بلغني أمر رأيت حقا على أن أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علي.
قالوا نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد(3/414)
ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم. فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني. قالوا: صدقت قال فاكتموا علي. قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان مما صنع الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا. وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم. وخذل الله عز وجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي. قال: كيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد. قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة: يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي. ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته. فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي
فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تحدثن حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟
فأخذت بيد جليسي فقلت: من أنت؟؟ فقال سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم(3/415)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنا مني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه، فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت، قال: قم يا نومان فذلك قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (33) : آية 10]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أي من فوق الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود قريظة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب من قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير من ديارهم وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت وشخصت من الرعب وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع والحنجرة جوف الحلقوم، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف، وقيل معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته وإذا انتفخت رئته رفعت القلب إلى الحنجرة فلهذا يقال:
للجبان انتفخ سحره وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي اختلفت الظنون بالله فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 11 الى 18]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي عند ذلك اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلصون من المنافقين وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حركوا حركة شديدة وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني معتب بن قشير وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً هو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا هو الغرور. قوله تعالى وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين وهم أوس بن قيظي وأصحابه يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعني يا أهل المدينة وقيل يثرب اسم الأرض ومدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ناحية منها سميت يثرب باسم رجل من العماليق كان قد نزلها في قديم الزمان. وفي بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طيبة كأنه كره هذه اللفظة(3/416)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل عن القتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يعني بني حارثة وبني سلمة يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم الله تعالى بقوله وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الشرك لَآتَوْها أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وَما تَلَبَّثُوا بِها أي ما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم، وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا. قوله عز وجل وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي لا ينهزمون، قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي عنده في الآخرة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ أي بعد الفرار إِلَّا قَلِيلًا أي مدة آجالكم وهي قليل قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يمنعكم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أي هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي نصرا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ناصرا يمنعهم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي ارجعوا إلينا ودعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحدا أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا وقوله تعالى وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ يعني الحرب إِلَّا قَلِيلًا أي رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 19 الى 23]
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة وصفهم الله بالبخل والجبن فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ(3/417)
رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي في رؤوسهم من الخوف والجبن كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيه أسبابه فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ أي زال سَلَقُوكُمْ أي آذوكم. ورموكم في حالة الأمن بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي ذربة تفعل كفعل الحديد قال ابن عباس معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، وقيل بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشجع قوم وعند الحرب أجبن قوم أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي يشاحون المؤمنين عند الغنيمة فعلى هذا المعنى يكون المراد بالخير المال أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي لم يؤمنوا حقيقة الإيمان وإن أظهروا الإيمان لفظا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي التي كانوا يأتون بها مع المسلمين قيل هي الجهاد وغيره وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي إحباط أعمالهم مع أن كل شيء على الله يسير.
قوله تعالى يَحْسَبُونَ يعني هؤلاء المنافقين الْأَحْزابَ يعني قريشا وغطفان واليهود لَمْ يَذْهَبُوا أي لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا عنهم وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية مع الأعراب من الجبن والخوف يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي عن أخباركم وما آل إليه أمركم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ يعني هؤلاء المنافقين ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا يعني يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم فيقولون قد قاتلنا معكم وقيل هو الرمي بالحجارة وقيل رياء من غير احتساب.
قوله عز وجل لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة صالحة أي اقتدوا به اقتداء حسنا وهو أن تنصروا دين الله وتؤازروا رسوله ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ قد كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فصبر وواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ يعني أن الأسوة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن كان يرجو الله قال ابن عباس يرجو ثواب الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يعني ويخشى يوم البعث الذي فيه الجزاء وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي في جميع المواطن على السراء والضراء ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال تعالى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي قالوا ذلك تسليما لأمر الله وتصديقا بوعده وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي فيما وعدا وهو في مقابلة قول المنافقين «ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا» وقولهم «وصدق الله ورسوله» ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع، وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس، وقيل إنهم وعدوا أن تلحقهم شدة وبلاء فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً أي تصديقا لله وَتَسْلِيماً أي لأمره. قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي قاموا بما جاهدوا الله عليه ووفوا به فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتّى استشهد، وقيل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد وقيل قضى نحبه استشهد يوم بدر وأحد وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصر على الأعداء وَما بَدَّلُوا يعني عهدهم تَبْدِيلًا (ق) عن أنس قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون قال اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وابرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحا من دون أحد فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه(3/418)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
الآية نزلت فيه وفي أشباهه: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية. (ق) عن خباب بن الأرت قال «هاجرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نلتمس وجه الله. فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة وكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدت رأسه، فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها» النمرة كساء ملون من صوف، وقوله ومنا من أينعت أي أدركت ونضجت له ثمرته، وهذه استعارة لما فتح الله لهم من الدنيا، وقوله يهدبها أي يجتنيها ويقطعها. عن أبي موسى بن طلحة قال «دخلت على معاوية فقال ألا أبشرك سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: طلحة ممن قضى نحبه» . أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث غريب (خ) عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد» . قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 24 الى 26]
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي جزاء صدقهم وصدقهم هو الوفاء بالعهد وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فيهديهم إلى الإيمان ويشرح له صدورهم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ أي لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي ظفرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي بالملائكة والريح وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي في ملكه عَزِيزاً أي في انتقامه. قوله تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين وهم بنو قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم ومعاقلهم واحدها صيصية وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني الرجال يقال كانوا ستمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني النساء والذراري يقال كانوا سبعمائة قيل وخمسين.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 27 الى 29]
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يعني بعد قيل هي خيبر ويقال إنها مكة وقيل فارس والروم وقيل هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
قيل كانت في آخر ذي القعدة سنة خمس. وعلى قول البخاري المتقدم في غزوة الخندق عن موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع. قال العلماء بالسير إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متعمما بعمامة من إستبرق على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها من قطيفة من ديباج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه فقال جبريل يا رسول الله قد وضعت السلاح؟ قال: نعم قال: جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة وما رجعت الآن إلا من(3/419)
طلب القوم. وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مناديا فأذن أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس، وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم قال «يا إخوان القردة قد أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته» .
قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال «هل مر بكم أحد؟» فقالوا: يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها قطيفة ديباج.
فقال صلّى الله عليه وسلّم «ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم» فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رجال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فصلوا العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العلماء: حاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هن؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير.
قال: فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم. فقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد قد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره وأبطأ عليه قال أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه(3/420)
خارجا إلى الصبح أطلقه. قال: ثم إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم من فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وخرج في تلك الليلة عمرو بن السعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا قال: عمرو بن السعدي وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لا أغدر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أبدا فقال محمد بن مسلمة اللهم لا تحرمني من عثرات الكرام، فخلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله فذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنه فقال ذاك رجل نجاه الله بوفائه وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصبحت برمته ملقاة ولا يدري أين ذهب. فقال: فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك المقالة فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتواثب الأوس وقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه. فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له. فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكان سعد جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجده في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، فلما حكمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له وسادة من أدم وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه. قال: قد آن لسعد أن تأخذه في الله لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولاك مواليك فتحكم فيهم. فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت. قالوا: نعم قال وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم. قال سعد: فاني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم أرسالا وفيهم عدو الله ورسوله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة إلى التسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه وروي عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل رجالهم(3/421)
بالسيف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم قالت حدثا أحدثته قالت فانطلق بها فضرب عنقها وكانت عائشة تقول ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل قال الواقدي وكان اسم المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد قال وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ويكنى أبا عبد الرحمن كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجلية يوم بعاث أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك قال إني أريد أن أجزيك بيدك عندي قال إن الكريم يجزي الكريم قال ثم أتى ثابت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليّ منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هولك» فأتاه فقال له إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وهب لي دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أهله وأولاده فقال «هم لك» فأتاه فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما له يا رسول الله قال هو لك فأتاه فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطاني مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيه عذارى الحي كعب بن أسد قال قتل قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن شموال قال قتل قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال قتلوا قال فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضربت عنقه فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله حتى يلقى الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنّم خالدا مخلدا أبدا قال وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم على المسلمين وأغنم في ذلك اليوم سهمين للخيل وسهما للرجال فكان للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول يوم وقع فيه السهمان ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى توفي عنها وهي في ملكه وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرص على أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب. فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجد في نفسه بذلك من أمرها. فبينما هو بين أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك فلما قضي شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال اللهم إنك علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني له وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. قالت: عائشة فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي. قالت: وكانوا كما قال الله تعالى فيهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
(خ) عن سلمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين أجلى الأحزاب «الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم» . (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول «لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده» .
قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ أي متعة(3/422)
الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي من غير ضرر وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم سألنه من عرض الدنيا شيئا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه. فقال عمر: لأعلمن لكم شأنه قال فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أطلقتهن قال: «لا» قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن. قال: «نعم إن شئت» فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه ونزلت هذه الآية وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فكنت أنا استنبطت هذا الأمر. وأنزل الله آية التخيير وكان تحت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمسة من قريش وهن: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، وأربع من غير قرشيات وهن زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتابعتها على ذلك فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (م) عن جابر بن عبد الله قال «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا وحوله نساؤه واجما ساكتا. فقال: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله لقد رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده قلن والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين حتى نزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ حتى بلغ: لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت: وما هو يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت: قال: «لا تسألني امرأة منهن طلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا» قوله واجما أي مهتما، والواجم الذي أسكته الهم وعلته الكآبة وقيل الوجوم الحزن. قولهم فوجأت عنقها أي دققته وقوله لم يبعثني معنتا العنت المشقة والصعوبة (م) عن الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدأ بي فقلت: يا رسول الله، أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن قال: إن الشهر تسع وعشرون.
فصل في حكم الآية
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن، حتى يقع بنفس الاختيار أم لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما خيرهن على أنهن إذ اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة: «لا تعجلي حتى تستشيري أبويك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا. التفريع على حكم الآية اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر(3/423)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وابن مسعود، وابن عباس: إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها وعند الآخرين رجعية وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن وبه قال مالك. وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة، وإذا اختارت نفسها فطلقة بائنة وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء (ق) عن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة رضي الله عنها، فقالت خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما كان طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا. قوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بمعصية ظاهرة قيل: هو كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي لأن منهن من أتت بفاحشة، فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء عن الفاحشة وقال ابن عباس المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلين وسبب تضعيف العقوبة، لهن لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وذلك لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى غيره من الرجال كنسبة الحرة إلى الأمة وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي عذابها وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي تطع الله ورسوله وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي أجر غيرها قيل: الحسنة بعشرين حسنة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي الجنة. قوله تعالى يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وشهوة وقيل نفاق والمعنى لا تقلن قولا يجد المنافق والفاجر به سبيلا إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي يوجبه الدين والإسلام عند الحاجة إليه، ببيان من غير خضوع وقيل القول المعروف ذكر الله تعالى. قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 33 الى 35]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي الزمن بيوتكن وقيل هو أمر من الوقار أي كن أهل وقار وسكون وَلا تَبَرَّجْنَ(3/424)
تَبَرُّجَ
قيل: هو التكسر والتغنّج والتبختر وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قيل الجاهلية الأولى هو ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هو زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط الجانبين، فيرى خلفها منه وقيل كان في زمن نمرود الجبار كانت المرأة، تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي به وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال وقال ابن عباس:
الجاهلية الأولى ما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة وقيل: إن بطنين من ولد آدم عليه السلام كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكانت رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل وأجره نفسه وكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاة فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل، هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» وقيل الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى، قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أي الواجبة وَآتِينَ الزَّكاةَ أي المفروضة وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمر وفيما نهى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أي الإثم الذي نهى الله النساء عنه.
وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس الله فيه رضا، وقيل: الرجس الشك وقيل السوء أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً هم نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ وهو قول عكرمة ومقاتل وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، يدل عليه ما روي من عائشة أم المؤمنين قالت «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن فأدخله فيه، ثم جاء الحسن فأدخله فيه ثم قال:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أخرجه مسلم. المرط الكساء والمرحل بالحاء المنقوش عليه صور الرجال، وبالجيم المنقوش عليه صور الرجال، عن أم سلمة قالت: إن هذه الآية نزلت في بيتها، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قالت وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال: إنك إلى خير أنت من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: وفي البيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلي وفاطمة وحسن وحسين فجللهم بكساء وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنه الرجس وطهرهم تطهيرا» أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح غريب عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر، إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب وقال زيد بن أرقم أهل البيت من حرم الصدقة بعده آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.
قوله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ قيل هي السنة وقيل هي أحكام القرآن ومواعظه إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً يعني بأوليائه وأهل طاعته خَبِيراً أي بجميع خلقه. قوله عز وجل إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وذلك أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله هذه الآية. عن أم عمارة الأنصارية قالت: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت مالي أرى كل شيء إلى الرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وقيل إن أم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية(3/425)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قالتا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما بال ربنا يذكر الرجال، ولا يذكر النساء في شيء في كتابه ونخشى أن لا يكون فيهن خير فنزلت هذه الآية وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت هل نزل فينا شيء من القرآن قلن لا فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله: إن النساء لفي خيبة وخسار قال «ومم ذلك» قالت: لأنهن لم يذكرن بخير كما ذكر الرجال فأنزل الله إن المسلمين والمسلمات فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحهن بها معهم الأولى الإسلام وهو الانقياد لأمر الله تعالى وهو قوله: إن المسلمين والمسلمات، الثانية الإيمان بما يراد به أمر الله تعالى وهو تصحيح الاعتقاد وموافقة الظاهر للباطن، وهو قوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الثالثة الطاعة وهو قوله وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ الرابعة الصدق في الأقوال والأفعال وهو قوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ الخامسة الصبر على ما أمر الله وفيما ساء وسر وهو قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ السادسة الخشوع في الصلاة وهو أن لا يلتفت وقيل: هو التواضع وهو قوله وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ السابعة الصدقة مما رزق الله وهو قوله وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ الثامنة المحافظة على الصوم وهو قوله وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ التاسعة العفة وهو قوله وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ يعني عما لا يحل وَالْحافِظاتِ العاشرة كثرة الذكر وهو قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وقيل لا يكون العبد منهم حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «سبق المفردون قالوا: يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» وقال عطاء بن أبي رباح من فوّض أمره إلى الله، فهو داخل في قوله إن المسلمين والمسلمات ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله والمؤمنين والمؤمنات ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنة، فهو داخل في قوله والقانتين والقانتات، ومن صان قوله عن الكذب، فهو داخل في قوله والصادقين والصادقات ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية، فهو داخل في قوله والصابرين والصابرات ومن صلى، فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله والخاشعين والخاشعات ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم، فهو داخل في قوله والمتصدقين والمتصدقات ومن صام في كل شهر أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله والصائمين والصائمات، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله والحافظين فروجهم والحافظات ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً أي بمحو ذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. قوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 37]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش، وأمهما أمية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب زينب لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ وأعتقه، وتبناه فلما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة وفيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعني عبد الله بن جحش وَلا مُؤْمِنَةٍ يعني أخته زينب إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ(3/426)
أَمْراً
يعني نكاح زيد لزينب أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي الاختيار على ما قضى، والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي أخطأ خطأ ظاهرا فلما سمعت بذلك زينب وأخوها رضيا وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنكحها زيدا ودخل بها وساق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهما عشرة دنانير وستين درهما وخمارا، ودرعا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. قوله عز وجل وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ الآية نزلت في زينب، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما زوجها من زيد مكثت عنده حينا، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى زيدا ذات يوم لحاجة فأبصر زينب في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة، ذات خلق من أتم نساء قريش وقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال «سبحان الله مقلب القلوب» وانصرف فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد وألقى في نفسه كراهيتها في الوقت وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي فقال له «ما لك أرابك منها شيء» قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتعظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله في أمرها» ثم إن زيدا طلقها فذلك قوله عز وجل وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالإعتاق وهو زيد بن حارثة مولاه أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ أي فيها ولا تفارقها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ أي تسر وتضمر في نفسك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي مظهره قيل كان في قلبه لو فارقها تزوجها قال ابن عباس: حبها وقيل ود أنه طلقها وَتَخْشَى النَّاسَ قال ابن عباس تستحييهم وقيل تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية هي أشد من هذه الآية، وعن عائشة قالت: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب.
فصل
فإن قلت: ما ذكروه في تفسير هذه الآية، وسبب نزولها من وقوع محبتها في قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما رآها وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج، وما لا يليق بمنصبه صلّى الله عليه وسلّم من مد عينيه لما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا.
قلت: هذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه صلّى الله عليه وسلّم وهو زوجها لزيد، فلا يشك في تنزيه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أن يأمر زيدا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها ذكر عن جماعة من المفسرين. وأصح ما في هذا الباب ما روي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني زين العابدين بن علي بن الحسين قال ما يقول الحسن في قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت: يقول لما جاء زيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني أريد أن أطلق زينب أعجبه ذلك، وقال أمسك عليك زوجك واتق الله فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله عز وجل، قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال: إني أريد أن أطلقها قال له: أمسك عليك زوجك فعاتبه الله تعالى وقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى «زوجناكها» فلو كان الذي أضمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه، ولا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته وإنما أخفى ذلك استحياء أن يخبر زيدا أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي وهذا قول حسن مرضي، وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس(3/427)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
عليه وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين وهو إنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال الله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقال لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ فإن قلت فما الفائدة في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا بإمساكها. قلت: هو أن الله تعالى أعلم نبيه أنها زوجته فنهاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن طلاقها وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس يتزوج امرأة ابنه فأمره الله تعالى بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته، وقيل: كان في أمره بإمساكها قمعا للشهوة وردا للنفس عن هواها وهذا إذا جوزنا القول المتقدم الذي ذكره المفسرون وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد، ومثل ذلك لا يقدح في حال الأنبياء، مع أن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء، وأنه رآها فجأة فاستحسنها ومثل هذه لا نكرة فيه لما طبع عليه البشر من استحسان الحسن، ونظرة الفجأة معفو عنها ما لم يقصد مأثما لأن الود وميل النفس من طبع البشر والله أعلم.
وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ أمر بالمعروف، وهو حسن لا إثم فيه وقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام، قد قال أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولكنه لما ذكر الخشية من الناس، ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال في جميع الأشياء. قوله عز وجل فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجته منها، ولم يبق له فيها أرب وتقاصرت همته عنها وطابت عنها نفسه وطلقها، وانقضت عدتها وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها زَوَّجْناكَها قال أنس:
كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وقال الشعبي: «كانت زينب تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم إني لأدل عليك بثلاث ما من امرأة من نسائك تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير جبريل عليه السلام» (م) عن أنس قال لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لزيد: اذهب فاذكرها على قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت يا زينب أرسل رسول الله يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليها بغير إذن قال: فلقد رأيتنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس، وبقي أناس يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أم غيري قال فانطلق حتى دخل البيت، وذهبت لأدخل معه فألقى الستر بيني وبينهم ونزل الحجاب (ق) عن أنس قال ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من نسائه، ما أولم على زينب أولم بشاة وفي رواية أكثر وأفضل، ما أولم على زينب قال ثابت: بم أولم قال أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه. قوله عز وجل لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي إثم فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ جمع الدعي وهو المتبني إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يقول: يقول زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي كنت تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبني بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 44]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)(3/428)
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي فيما أحل الله له من النكاح، وغيره سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ معناه سن الله سنة في الأنبياء، وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح، وغيره فإنه كان لهم الحرائر والسراري فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكذلك سن لمحمد صلّى الله عليه وسلّم في التوسعة عليه كما سن لهم ووسع عليهم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً يعني قضاء مقضيا أن لا حرج على أحد فيما أحل له ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ يعني فرائض الله وسننه وأوامره ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم وَيَخْشَوْنَهُ يعني يخافونه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ يعني لا يخافون قالت: الناس ولائمتهم فيما أحل لهم وفرض عليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم. قوله عز وجل ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما تزوج زينب قال: الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعني زيد بن حارثة والمعنى أنه لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح. فإن قلت: قد كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وقال للحسن: إن ابني هذا سيد. قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال وقيل: أراد بالرجال الذي لم يلدهم وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي إن كل رسول هو أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده أي ولا معه قال ابن عباس:
يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا ويكون بعده نبيا وعنه قال: إن الله لما حكم أن لا نبي بعده، لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي دخل في علمه أنه لا نبي بعده. فإن قلت: قد صح أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان بعده وهو نبي قلت إن عيسى عليه السلام ممن نبيء قبله وحين ينزل في آخر الزمان ينزل عاملا بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» وعن جابر نحوه وفيه جئت فختمت الأنبياء (ق) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» وقد سماه الله رؤوفا رحيما (م) عن أبي موسى قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمي، لنا نفسه أسماء فقال «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفي وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة» المقفي هو المولى الذاهب، يعني آخر الأنبياء المتبع لهم فإذا قفي فلا نبي بعده.
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال ابن عباس: لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها فقال تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وقال تعالى اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يعني بالليل والنهار في البر والبحر وفي الصحة والسقم وفي السر والعلانية، وقيل الذكر الكثير أن لا ينساه أبدا وَسَبِّحُوهُ معناه إذا ذكرتموه ينبغي لكم أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء بُكْرَةً وَأَصِيلًا فيه إشارة إلى المداومة لأن ذكر الطرفين يفهم منه(3/429)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
الوسط أيضا وقيل: معناه صلوا له بكرة صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة العصر وقيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقيل: معنى سبحوه قولوا سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله زاد في نسخة العلي العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته والمراد بقوله: كثيرا هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والحائض والمحدث هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده والثناء عليه قال أنس: لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر: ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله هذه الآية لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني أنه برحمته وهدايته، ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فيه بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يصلي عليكم غير مختص بالسامعين، وقت الوحي بل هو عام لجميع المسلمين تَحِيَّتُهُمْ يعني تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرون الله يوم القيامة سَلامٌ أي يسلم الرب تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات وروي عن البراء بن عازب قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يعني يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه عن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرئك السلام وقيل: تسلم عليهم الملائكة حين يخرجون من قبورهم تبشرهم وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يعني الجنة. قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي للرسل بالتبليغ وقيل شاهدا على الخلق كلهم يوم القيامة وَمُبَشِّراً أي لمن آمن بالجنة وَنَذِيراً أي لمن كذب بالنار وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى توحيده وطاعته بِإِذْنِهِ أي بأمره وَسِراجاً مُنِيراً سماه سراجا منيرا لأنه جلا به ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، وقيل معناه أمد الله بنور نبوته نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء. فإن قلت لم سماه سراجا، ولم يسمه شمسا والشمس أشد إضاءة من السرج وأنور.
قلت: نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء بخلاف نور السراج فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي ما تفضل به عليهم زيادة على الثواب وقيل: الفضل هو الثواب وقيل هو تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ قال ابن عباس: اصبر على أذاهم لا تجازهم عليه وهذا منسوخ بآية القتال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي حافظا. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن، ففي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا نكحتك فأنت طالق، أو قال:(3/430)
كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق، وهذا قول علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاوس، الحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار، ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي وقال ربيعة ومالك والأوزاعي: إن عين امرأة وقع وإن عمم فلا يقع وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: كذبوا على ابن مسعود، وإن كان قالها فزلة من عالم الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق والله يقول إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك» أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه (خ) عن ابن عباس قال: جعل الله الطلاق بعد النكاح أخرجه البخاري في ترجمة باب بغير إسناد عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا طلاق قبل النكاح» فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تحصونها بالأقراء والأشهر، أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة، فلا عدة وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا فلها المتعة وإن كان قد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق، ولا متعة لها وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله «فنصف ما فرضتم» وقيل: هذا أمر ندب فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر وقيل: إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير إضرار بهن.
قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي من السبي فتملكها مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعني نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني نساء بني زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إلى المدينة فمن لم تهاجر، منهن لم يجز له نكاحها عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت:
خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي أحللنا لك امرأة مؤمنة، وهبت نفسها لك بغير صداق فأما غير المؤمنة، فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه وهل تحل الكتابية بالمهر، فذهب جماعة إلى أنها لا تحل له لقوله وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر لقوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والزيادة على أربع ووجوب تخيير النساء واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي: وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة، ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة، لقوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، كما في حق سائر الأمة لقوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وكان اختصاصه في ترك المهر لا في لفظ النكاح واختلفوا في التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهل كانت عنده امرأة منهن فقال ابن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد النكاح، أو بملك يمين وقوله إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها على سبيل الفرض والتقدير، وقال آخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها فقال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الأنصارية الهلالية أم المساكين، وقال قتادة هي ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل هي(3/431)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
أم شريك بنت جابر: من بني أسد وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سليم. وقوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي أوجبنا على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ أي من الأحكام وهو أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وهذا يرجع إلى أول الآية معناه أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكي لا يكون عليك ضيق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي للواقع في الحرج رَحِيماً أي بالتوسعة على عبادة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 51 الى 52]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
قوله تعالى تُرْجِي يعني تؤخر مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ أي تضم إليك مَنْ تَشاءُ قيل هذا للقسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه الوجوب وصار الاختيار إليه فيهن، وقيل نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهرا حتى نزلت آية التخيير فأمره الله تعالى أن يخيرهن فمن اختارت الدنيا فارقها، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين، لا ينكحن أبدا وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعضهن، دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والكسوة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط. واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهن من القسم فقال بعضهم: لم يخرج أحدا بل كان صلّى الله عليه وسلّم مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة وقيل: أخرج بعضهن. روي عن أبي رزين، قال: لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا فأرجى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضهن، وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمسا أم حبيبة وميمونة وسودة وجويرة وصفية، فكان يقسم لهن ما يشاء وقال ابن عباس تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من النساء قال وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها (ق) عن عروة قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي، وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي طلبت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسمة فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي لا إثم عليك فأباح الله له ترك القسم، لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزل منهن، تفضيلا له على سائر الرجال ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله تعالى وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ أي أعطيتهن كُلُّهُنَّ من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي من أمر النساء والميل إلى بعضهن وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي مما في ضمائركم حَلِيماً أي عنكم.
قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما(3/432)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ذلك وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، قاله ابن عباس: واختلفوا هل أبيح له النساء بعد ذلك فروي عن عائشة أنها قالت «ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل له النساء» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح، وللنسائي عنها «حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما يشاء» وقال أنس «مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التحريم» وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أكان يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قيل له قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: إنما أحل له ضربا من النساء فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية ثم قال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وقيل معنى الآية لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي بالمسلمات غيرهن من الكتابيات، لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أي من الكتابيات فتسري بهن وقيل في قوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم، يقول الرجل للرجل انزل لي عن امرأتك وأنزل عن امرأتي فأنزل الله تعالى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي تبادل بهن من أزواج أي تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته فحرم ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحرائر فلا وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعني ليس لك أن تطلق أحد من نسائك، وتنكح بدلها أخرى، ولو أعجبك جمالها، قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخطبها فنهي عن ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ قال ابن عباس:
ملك بعد هؤلاء مارية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي حافظا وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روى عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» أخرجه أبو داود. (م) عن أبي هريرة «أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» قال الحميدي: يعني هو الصغر عن المغيرة بن شعبة قال: «خطبت امرأة فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم هل نظرت إليها قلت: لا قال فانظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما» أخرجه الترمذي: وقال حديث حسن. قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية قال أكثر المفسرين نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ق) عن أنس بن مالك: أنه كان ابن عشر سنين مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قال فكانت أم هانئ تواظبني على خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخدمته عشر سنين وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن عشرين سنة، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش حين أصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأطالوا المكث فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا فرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجعت، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا فرجع(3/433)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب زاد في رواية قال دخل يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم البيت وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة وهو يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (ق) عن عائشة «أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كن يخرجن بالليل، إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم، احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب» المناصع المواضع الخالية، لقضاء الحاجة من البول أو الغائط والصعيد وجه الأرض والأفيح الواسع (ق) ، عن أنس وابن عمر أن عمر قال «وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت الآية الحجاب واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك. وقال ابن عباس: إنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون عليه قبل الطعام قبل أن يدرك ثم يأكلون، ولا يخرجون وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأذى بهم، فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ يعني إلا أن تدعوا إِلى طَعامٍ فيؤذن لكم فتأكلون غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ يعنى منتظرين نضجه ووقت إدراكه وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا أي فاخرجوا من منزله وتفرقوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون فنهوا عن ذلك إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي فيستحيي من إخراجكم وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قال لا يستحيي من الحق بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم وهذا أدب أدب الله به الثقلاء، وقيل:
بحسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أي وإذا سألتم نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم حاجة فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي من وراء ستر فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متنقبة كانت أو غير متنقبة ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي من الريب وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال إذا: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلأنكحن عائشة. قيل هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله أن ذلك محرم، وقال إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي ذنبا عظيما وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله الله صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب حرمته حيا وميتا وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمه حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 56]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي من أمر نكاحهن على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ أي في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي يعلم سركم وعلانيتكم، نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزلت هذه الآية، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء(3/434)
والأبناء والأقارب لرسول الله، ونحن أيضا يا رسول الله نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله عز وجل لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أي لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب وَلا نِسائِهِنَّ قيل أراد به النساء المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ اختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرما لها أم لا فقال قوم بل يكون محرما لقوله تعالى ولا ما ملكت أيمانهن، وقال قوم العبد كالأجانب والمراد من الآية الإماء دون العبيد وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي أن يراكن أحد غير هؤلاء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي من أعمال العباد شَهِيداً قوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس: أراد أن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له وعنه أيضا يصلون يتبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فصلاة الله ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي ادعوا له بالرحمة وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي حيوه بتحية الإسلام.
فصل في صفة الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفضلها
اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم اختلفوا فقيل تجب في العمر مرة وهو الأكثر، وقيل:
تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل: تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية والواجب اللهم صل على محمد وما زاد سنة (ق) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (ق) عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» (م) عن أبي مسعود البدري قال أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولوا «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا» عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات» أخرجه الترمذي وله عن أبي طلحة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقلت إنا لنرى البشر في وجهك قال: أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا» وله عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام» عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وله عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي» أخرجه الترمذي: وقال حديث حسن غريب صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلي على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» أخرجه أبو داود. قوله عز وجل:(3/435)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 67]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله ويد الله مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله عز وجل كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي، فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله عز وجل «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار» معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر ويسبوه عند النوازل، لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال الله تعالى أنا الدهر أي أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم، وقيل معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل: هم أصحاب التصاوير (ق) عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم. يقول «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة» وقيل: يؤذون الله أي يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «قال الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب» وقال تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس هو أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي من غير أن عملوا ما أوجب أذاهم وقيل يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً قيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه، ويشتمونه وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة الذين يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء، إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيتبعون المرأة فإن سكتت تبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدا تخرج الحرة والأمة في درع وخمار فشكوا ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء، فقال تعالى، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ أي يرخين ويغطين عَلَيْهِنَّ مِنْ(3/436)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
جَلَابِيبِهِنَ
جمع جلباب وهو الملاءة التي تشمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل هو الملحفة وكل ما يستتر به من كساء، وغيره.
قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر وهو قوله تعالى ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي لا يتعرض لهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لما سلف منهن قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة، وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألق القناع. لكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد والأمة والخامل والقليل العقل مثل قولك يا خسيس. قوله تعالى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي فجور وهم الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أي بالكذب وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون: قد أتاكم العدو ونحو هذا من الأراجيف، وقيل: كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتفشوا الأخبار لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ يعني لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا أي حتى يخرجوا منها وقيل لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة مَلْعُونِينَ أي مطرودين أَيْنَما ثُقِفُوا أي وجدوا وأدركوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي الحكم فيهم هذا على الأمر به سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي في المنافقين والذين فعلوا مثل ما فعل هؤلاء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا قوله عز وجل يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء وكان اليهود يسألونه عن الساعة امتحانا، لأن الله تعالى عمى عليهم علم وقتها في التوراة فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبهم بقوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني إن الله تعالى قد استأثر به ولم يطلع عليه نبيا ولا ملكا وَما يُدْرِيكَ أي أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي إنها قريبة الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين، وإسكات للممتحنين إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي تتقلب ظهر البطن حين يسحبون عليها يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي في الدنيا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا يعني رؤوس الكفر الذين لقنوهم الكفر، وزينوه لهم فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا يعني عن سبيل الهدى.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 68 الى 72]
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
رَبَّنا آتِهِمْ يعنون السادة والكبراء ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ يعني ضعفي عذاب غيرهم وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يعني لعنا متتابعا.
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا يعني فطهره الله مما قالوه فيه وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً يعني كريما ذا جاه وقد قال ابن عباس كان حظيا عند الله لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، وقيل كان مستجاب الدعوة وقيل كان محببا مقبولا واختلفوا فيما أوذي به موسى، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل،(3/437)
وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمع موسى، بأثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا» قال أبو هريرة والله إن بالحجر ندبا ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر أخرجه البخاري ومسلم وللبخاري، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى شيء من جسده استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة وأن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى العصا وطلب الحجر وجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، ورأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر الضرب ثلاثا أو أربعا أو خمسا» فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً الأدرة عظم الخصية لنفخة فيها، وقوله فجمح أي أسرع وقوله ثوبي حجر أي دع ثوبي يا حجر قوله وطفق أي جعل يضرب الحجر، وقوله ندبا هو بفتح النون والدال وهو الأصح وأصله أثر الجرح، إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب، بالحجر، والمحدثون يقولون ندبا بسكون الدال وقيل في معنى الآية أن أذاهم إياه، أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله فأمر الله تعالى الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا: وقيل إن قارون استأجر بغيا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله، وبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فأتيته فأخبرته بما قال:
فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» الصرف بكسر الصاد صبغ أحمر يصبغ به الأديم. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً.
قال ابن عباس صوابا وقيل: عدلا وقيل صدقا وقيل قول هو لا إله إلا الله يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي ظفر بالخير العظيم.
قوله عز وجل إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ الآية قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إذا أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان وأشد من هذا كله الودائع وقيل: جميع ما أمروا به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال: هذه الأمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، وفي رواية عن ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء لا في قليل ولا كثير فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها قال:
إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن قلن يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله تعالى: أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهم تخييرا لا إلزاما، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره ساجدة له قال(3/438)
بعض أهل العلم ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقيل المراد من العرض على السموات والأرض، هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، والقول الأول أصح وهو قول العلماء فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعني آدم قال الله عز وجل لآدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها قال يا رب، وما فيها قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي قال الله أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن لا تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلاقا فإذا خشيت فأغلقه، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن تحملها، وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه، وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الإجرام، وأقواه وأشده أن يحتمله ويستقل به فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.
قال ابن عباس: إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بأمر ربه وما تحمل من الأمانة وقيل ظلوما حين عصى ربه جهولا أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقيل ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها وضمنها ولم يف بضمانها وقيل في تفسير الآية أقوال أخر، وهو أن الله تعالى ائتمن السموات والأرض والجبال على كل شيء، وائتمن آدم وأولاده على شيء فالأمانة في حق الأجرام العظام هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له، وقوله فأبين أن يحملنها أي أدين الأمانة ولم يخن فيها وأما الأمانة في حق بني آدم، فهي ما ذكر من الطاعة والقيام بالفرائض وقوله وحملها الإنسان أي خان فيها، وعلى هذا القول حكي عن الحسن أنه قال الإنسان هو الكافر والمنافق حملا الأمانة وخانا فيها، والقول الأول هو قول السلف وهو الأولى.
فصل
في الأمانة (ق) عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر حدثنا «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة» ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا، وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال: للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا» قوله: نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال جذر الشيء أصله والوكت الأثر اليسير، كالنقطة في الشيء من غير لونه، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل وقيل إنما هو النفطات في الجلد، وقد فسره الحديث والمنتبر المنتفخ وليس فيه شيء (خ) عن أبي هريرة قال «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة قال: ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها يا رسول الله قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» وعنه قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب. قوله تعالى:(3/439)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
[سورة الأحزاب (33) : آية 73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي بما خانوا الأمانة ونقضوا العهد وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. وقيل: عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/440)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
سورة سبأ
مكية وهي أربع وخمسون آية وثمانمائة، وثلاثة وثلاثون كلمة وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله عز وجل الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ معناه أن كل نعمة من الله، فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجلها، ولما قال: الحمد لله وصف ملكه فقال: الذي له ما في السموات وما في الأرض أي ملكا وخلقا وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي كما هو له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه، فكما أنه المحمود على نعم الدنيا فهو المحمود على نعم الآخرة وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما ورد يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي أحكم أمور الدارين الْخَبِيرُ أي بكل ما كان وما يكون يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من المطر والكنوز والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي من النبات والشجر والعيون والمعادن والأموات إذا بعثوا وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من المطر والثلج والبرد، وأنواع البركات والملائكة وَما يَعْرُجُ فِيها أي في السماء من الملائكة وأعمال العباد وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي للمفرطين في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ معناه أنهم أنكروا البعث وقيل: استبطئوا ما وعدوه من قيام الساعة على سبيل اللهو والسخرية قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ يعني الساعة عالِمِ الْغَيْبِ أي لا يفوت علمه شيء من الخفيات وإذا كان كذلك اندرج في علمه، وقت قيام الساعة وأنها آتية لا يَعْزُبُ عَنْهُ أي لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ يعني وزن ذرة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي من الذرة وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة.
[سورة سبإ (34) : الآيات 5 الى 12]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)(3/441)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني في ابطال أدلتنا معجزين يعني يحسبون أنهم يفوتوننا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قيل الرجز سوء العذاب وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ يعني أنه من عند الله وَيَهْدِي أي القرآن إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي إلى دين الإسلام وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي المنكرين للبعث المتعجبين منه هَلْ نَدُلُّكُمْ أي قال بعضهم لبعض هل ندلكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معناه يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب وهي أنكم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق، وصرتم ترابا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي يقول إنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه قال الله تعالى: ردا عليهم ليس بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء والجنون شيء وهو مبرأ منهما بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني منكري البعث فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي عن الحق في الدنيا أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي فيعلموا أنهم حيث كانوا في أرضي وتحت سمائي، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا قادر عليهم إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أي كما خسفنا بقارون أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي كما فعلنا بأصحاب الأيكة إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ترون في السماء والأرض لَآيَةً أي تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي تائب راجع إلى الله تعالى بقلبه. قوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يعني النبوة والكتاب. وقيل الملك وقيل هو جميع ما أوتي من حسن الصوت، وغير ذلك مما خص به يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي وقلنا يا جبال سبحي معه إذا سبح وقيل: رجعي معه إذا رجع ونوحي معه إذا ناح وَالطَّيْرَ أي وأمرنا الطير أن تسبح معه فكان داود إذا نادى بالتسبيح أو بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا لحقه ملل أو فتور أسمعه الله تعالى تسبيح الجبال فينشط له وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ يعني كان الحديد في يده كالشمع أو كالعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قيل سبب ذلك أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج إلى الناس متنكرا فإذا رأى إنسانا لا يعرفه تقدم إليه، وسأله عن داود فيقول له ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود عليه الصلاة والسلام، ذلك، وقال ما هي يا عبد الله قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع وأنه أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح وقيل إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف فيأكل منها، ويطعم عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين وقد صح في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده» أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض قيل: كان يعمل كل يوم درعا وَقَدِّرْ فِي(3/442)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
السَّرْدِ
أي ضيق في نسخ الدرع وقيل قدر المسامير في حلق الدرع ولا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا تثبت، ولا غلاظا فتكسر الحلق وقيل قدر في السرد أي اجعله على القصد وقدر الحاجة وَاعْمَلُوا صالِحاً يريد داود وآله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
قوله تعالى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ معناه أن مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ومسير رواحها مسيرة شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، قيل كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقندى وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي أذبنا له عين النحاس قال أهل التفسير: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن وقيل أذاب الله لسليمان النحاس كما ألان لداود الحديد وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمر ربه قال ابن عباس سخر الله الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به وَمَنْ يَزِغْ أي يعدل مِنْهُمْ من الجن عَنْ أَمْرِنا أي الذي أمرناه به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قيل هذا في الآخرة وقيل: في الدنيا وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته.
[سورة سبإ (34) : الآيات 13 الى 14]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي مساجد وقيل: هي الأبنية المرتفعة والقصور والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، وكان مما عملوا له بيت المقدس وذلك أن داود عليه الصلاة والسلام ابتدأه ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يديه فلما توفي داود عليه السلام واستخلف سليمان عليه الصلاة والسلام أحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال، وخص كل طائفة بعمل فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل ربض منها سبطا من الأسباط، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما، ومنهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي من أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك والعنبر والطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللئالئ فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين البلور الصافي وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن على وجه تلك الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد فكان يضيء في الظلمة، كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، وأعلمهم أنه بناه لله تعالى وأن كل شيء فيه خالص له واتخذ ذلك اليوم عيدا. روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل، حكما يوافق حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» أخرجه النسائي ولغير النسائي، «سأل ربه ثلاثا(3/443)
فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة» وذكر نحوه قوله لا ينهزه أي لا ينهضه أي لا ينهضه إلا الصلاة قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه الصلاة والسلام حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة، وهدم المسجد وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى دار ملكه بالعراق وبنى الشياطين لسليمان باليمن قصورا وحصونا عجيبة من الصخر.
وقوله عز وجل وَتَماثِيلَ أي ويعملون له تماثيل أي صورا من نحاس ورخام وزجاج قيل كانوا يصورون السباع والطيور وغيرها، وقيل كانوا يصورون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل: يحتمل أن اتخاذ الصور كان مباحا في شريعتهم وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من الأمور القبيحة في العقل كالقتل والظلم والكذب، ونحوها مما يقبح في كل الشرائع قيل: عملوا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما وقيل: عملوا له الطواويس والعقبان والنسور على درجات سريره وفوق كرسيه لكي يهابه من أراد الدنو منه وَجِفانٍ أي قصاع كَالْجَوابِ أي كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجتمع قيل كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على أثافيها لا تحرك، ولا تنزل عن أماكنها لعظمهن وكان يصعد إليها بالسلالم وكان باليمن اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي وقلنا يا آل داود اعملوا بطاعة الله تعالى شكرا على نعمه قيل: المراد من آل داود نفسه وقيل داود وسليمان وأهل بيته قال ثابت البناني كان داود نبي الله عليه الصلاة والسلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي قليل العامل بطاعتي شكرا لنعمتي. قوله تعالى فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي على سليمان قال: العلماء: كان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابهم فدخله المرة التي مات فيها وكان سبب ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا وقد نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا فيقول لأي شيء خلقت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع. فإن كانت لغرس أمر بها فغرست وإن كانت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها: ما أنت قالت أنا الخروبة قال ولأي شيء نبت قالت لخراب مسجدك، قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، ثم نزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب شيئا، ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب وقام يصلي على عادته متكئا على عصاه فمات قائما، وكان للمحراب كوى من بين يديه، ومن خلقه فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياة سليمان، وينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته، وانقطاعه قبل ذلك فمكثوا يدأبون بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتا فعلموا بموته قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ يعني الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قال البخاري يعني عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ معناه علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في التعب والشقاء مسخرين لسليمان، وهو ميت ويظنونه حيا أراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون ذلك لجهلهم وقيل في معنى الآية أنه ظهر أمر الجن وانكشف للانس أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين. وقوله عز وجل:(3/444)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 16]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ عن فروة بن مسيك المرادي قال: «لما أنزل في سبأ ما أنزل قال رجل يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة» أخرجه الترمذي مع زيادة. وقال حديث حسن غريب وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم أي بمأرب من أرض اليمن، آية أي دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ثم فسر الآية فقال تعالى جَنَّتانِ أي بستانان عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ يعني عن يمين الوادي وشماله وقيل عن يمين من أتاهما وشماله وقيل كان لهم واد قد أحاطت به الجنتان كُلُوا أي قيل لهم كلوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي من ثمار الجنتين قيل كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا وَاشْكُرُوا لَهُ أي على ما رزقكم من النعمة واعملوا بطاعته بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي أرض مأرب، وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة، ليست بسبخة وقيل: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حية، ولا عقرب وكان الرجل يمر ببلدتهم، وفي ثيابه القمل فيموت القمل من طيب الهواء وَرَبٌّ غَفُورٌ قال وهب أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم رب غفور لمن شكره. قوله عز وجل: فَأَعْرَضُوا قال وهب: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ العرم الذي لا يطاق قيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء وقيل: العرم السكر الذي يحبس الماء وقيل: العرم الوادي.
قال ابن عباس ووهب وغيرهما، كان لهم سد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالصخر والقار بين الجبلين وجعلت لهم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وبنت دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا عنه سدوها فإذا جاءهم المطر اجتمع إليهم ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا بعدها مدة، فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جنانهم وأخرب أرضهم وقال وهب رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فارة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار فساورتها، حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل وهم لا يعلمون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل ممزق، حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيادي سبا فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم سيل العرم وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قيل هو شجر الأراك وثمرة البربر وقيل: كل نبت أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، فهو خمط وقيل هو ثمر شجر يقال له فسوة الضبع على صور الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به وَأَثْلٍ قيل هو الطرفاء وقيل شجر يشبه الطرفاء إلا أنه(3/445)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
أعظم منه وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ هو شجر معروف ينتفع بورقة في الغسل وثمره النبق ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به بل كان سدرا بريا لا يصلح لشيء قيل: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم وهو قوله تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 17 الى 22]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي ذلك فعلنا بهم جزاء كفرهم وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي هل يكافأ بعمله إلا الكفور لله في نعمه، قيل المؤمن يجزي ولا يجزى يجازى بحسناته، ولا يكافأ بسيئاته وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالماء والشجر، وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها قيل: كان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام، وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى القرية ذات مياه وأشجار، فكان ما بين اليمن والشام كذلك سِيرُوا أي وقلنا لهم سيروا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي في أي وقت شئتم آمِنِينَ أي لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا فبطروا النعمة، وسئموا الراحة وطغوا ولم يصبروا على العافية فقالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيها وطلبوا الكد والتعب في الأسفار فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وقرئ باعد بين أسفارنا أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد فلما تمنوا ذلك عجل الله لهم الإجابة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بالبطر والطغيان فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق قيل: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد فأما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر الأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج ولحق آل خزيمة بالعراق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لعبرا ودلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ أي عن المعاصي شَكُورٍ أي لله على نعمه قيل، المؤمن صابر على البلاء شاكر للنعماء وقيل: المؤمن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. قوله عز وجل وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قيل على أهل سبأ وقيل على الناس كلهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المؤمنين كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين، وقيل هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه، قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله قال لأغوينهم ولأضلنهم ولم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم وقال الحسن إنه لم يسل عليهم سيفا، ولا ضربهم بسوط إنما وعدهم ومناهم فاغتروا وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني ما كان تسليطنا إياه عليهم إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ يعني لنرى ونميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع، والظهور إذ كان معلوما(3/446)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
عنده لأنه عالم الغيب وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يعني رقيب وقيل حفيظ بمعنى حافظ. قوله تعالى قُلِ يعني قل يا محمد لكفار مكة ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ يعني أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ثم وصف عجز الآلهة فقال تعالى لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ يعني من خير وشر ونفع وضر وَما لَهُمْ يعني للآلهة فِيهِما يعني في السموات، الأرض مِنْ شِرْكٍ يعني من شركة وَما لَهُ يعني لله مِنْهُمْ يعني من الآلهة مِنْ ظَهِيرٍ عون.
[سورة سبإ (34) : الآيات 23 الى 31]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يعني أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيبا للكفار حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقيل: يجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ معناه كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم قيل هم الملائكة وسبب ذلك من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله تعالى (خ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها» فإذا فزع عن قلوبهم قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الذي قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وللترمذي «إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير» قال الترمذي حديث حسن صحيح قوله: خضعا جمع خاضع وهو المنقاد المطمئن والصفوان الحجر الأملس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول الحق فيقولون الحق» أخرجه أبو داود. الصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض، وقيل: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة، قيل كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة أو ستمائة، لم تسمع الملائكة فيها صوت وحي فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم كلم جبريل بالرسالة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة، لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء، فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم: قالوا قال الحق يعني الوحي وهو العلي الكبير وقيل: الموصوفون بذلك هم المشركون وقيل إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت قالت الملائكة لهم ماذا قال ربكم في الدنيا لإقامة الحجة عليهم؟ قالوا: الحق فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء.(3/447)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
قوله عز وجل قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني المطر والنبات قُلِ اللَّهُ يعني إن لم يقولوا إن رزاقنا هو الله فقل: أنت إن رازقكم هو الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ معناه ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال، وهذا ليس على طريق الشك بل جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اتبعه على الهدى ومن خالفه في ضلال فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب ومنه بيت حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
وقيل أو بمعنى الواو، ومعنى الآية إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي لا تؤاخذون به وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب وقيل أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن وبالعمل الكفر والمعاصي العظام قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أي يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ يعني يقضي ويحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ يعني القاضي الْعَلِيمُ يعني بما يقضي قُلْ أَرُونِيَ أعلموني الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ يعني بالله شُرَكاءَ يعني الأصنام التي أشركوها معه في العبادة هل يخلقون أو يرزقون وأراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله كَلَّا كلمة ردع لهم عن مذهبهم والمعنى ارتدعوا فإنهم لا يخلقون ولا يرزقون بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره الْحَكِيمُ أي في تدبير خلقه فأنى يكون له شريك في ملكه. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ يعني للناس كلهم عامة أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وقيل الرسالة عامة لهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد (ق) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهور، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . في الحديث بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم دون سائر الأنبياء، وأن هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء، وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وكان النبي قبله يبعث إلى قومه أو إلى أهل بلده فعمت رسالة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، جميع الخلق وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وقيل في معنى كافة أي كافا تكفهم عما هم عليه من الكفر فتكون الهاء للمبالغة بَشِيراً أي لمن آمن بالجنة وَنَذِيراً أي لمن كفر بالنار وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني يوم القيامة قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ معناه لا تتقدمون على يوم القيامة وقيل: عن يوم الموت ولا تتأخرون عنه بأن يزاد في آجالهم أو ينقص منها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني التوراة والإنجيل وَلَوْ تَرى أي يا محمد إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ معناه ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهو القادة والأشراف لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ يعني أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله.
[سورة سبإ (34) : الآيات 32 الى 39]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(3/448)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي أجاب المتبوعون في الكفر لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ أي منعناكم عَنِ الْهُدى أي عن الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي بترك الإيمان وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم بنا في الليل والنهار وقيل مكر الليل والنهار هو طول السلامة في الدنيا وطول الأمل فيها إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي هو قول القادة للأتباع إن ديننا الحق وإن محمد كذاب ساحر وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أظهروها وقيل: أخفوها وهو من الأضداد لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في النار الأتباع والمتبوعين جميعا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الكفر والمعاصي في الدنيا.
قوله عز وجل وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي رؤساؤها وأغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا يعني المترفين والأغنياء للفقراء الذين آمنوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً يعني لو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل الصالح لم يخولنا أموالا ولا أولادا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي إن الله قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يعني أنه تعالى يبسط الرزق ابتلاء وامتحانا ولا يدل البسط على رضا الله تعالى ولا التضييق على سخطه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إنها كذلك وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي بالتي تقربكم عندنا تقريبا إِلَّا أي لكن مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً قال ابن عباس يريد إيمانه وعلمه يقربه مني فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا أي يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يعملون في إبطال حججنا مُعاجِزِينَ أي معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتنا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ. قوله عز وجل قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ويعوضه لا معوض سواه إما عاجلا بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما بالثواب في الآخرة الذي كل خلف دونه، وقيل ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم من خير فهو يخلفه على المنفق. قال مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقره، ولا يتأولن وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية ما كان من خلف فهو منه (ق) عن ابن هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنفق ينفق عليك» ولمسلم «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» (م) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي خير من يعطي ويرزق لأن كل ما رزق غيره من سلطان يرزق جنده أو سيد يرزق مملوكه أو رجل يرزق عياله فهو من رزق الله أجراه الله على أيدي هؤلاء وهو الرزاق الحقيقي الذي لا رازق سواه. قوله تعالى:(3/449)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 49]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني هؤلاء الكفار ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أي في الدنيا وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار فتتبرأ الملائكة منهم من ذلك وهو قوله تعالى قالُوا سُبْحانَكَ أي تنزيها لك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي نحن نتولاك ولا نتولاهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يعني الشياطين. فان قلت قد عبدوا الملائكة فكيف وجه قوله بل كانوا يعبدون الجن. قلت أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فأطاعوهم في ذلك فكانت طاعتهم للشياطين عبادة لهم وقيل صوروا لهم صورا وقالوا لهم هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها وقيل كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يعني مصدقون للشياطين قال الله تعالى فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً أي شفاعة وَلا ضَرًّا أي بالعذاب يريد أنهم عاجزون ولا نفع عندهم ولا ضر وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يعنون القرآن وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَما آتَيْناهُمْ يعني هؤلاء المشركين مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا أنزل إليهم كتاب وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم السالفة رسلنا وَما بَلَغُوا يعني هؤلاء المشركين مِعْشارَ أي عشر ما آتَيْناهُمْ أي أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول الأعمار فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم يحذر بذلك كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. قوله عز وجل قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أي آمركم وأوصيكم بِواحِدَةٍ أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال تعالى أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي لأجل الله مَثْنى أي اثنين وَفُرادى أي واحدا واحدا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أي تجتمعوا جميعا فتنظروا وتتحاوروا وتتفكروا في حال محمد صلّى الله عليه وسلّم فتعلموا أن ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ومعنى الآية إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا لله وليس المراد به القيام على القدمين ولكن هو الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة فتقوموا لوجه الله خالصا ثم تتفكروا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به أما الاثنان فيتفكران، ويعرض كل منهما محصول فكره على صاحبه لينظرا فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل بهما اتباع الهوى وأما الفرد فيفكر في نفسه أيضا بعدل ونصفة هل رأينا في هذا الرجل جنونا قط أو جربنا عليه كذبا قط وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنة بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلا وأوزنهم حلما وأحدهم ذهنا وأرصنهم رأيا وأصدقهم قولا وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحونه به وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين صادق فيما جاء(3/450)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
به وقيل: تم الكلام عند قوله: ثم تتفكروا أي في السموات والأرض فتعلموا أنه خالقها واحد لا شريك له ثم ابتدأ فقال ما بصاحبكم من جنة إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
أي على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ أي جعل فَهُوَ لَكُمْ أي لم أسألكم شيئا إِنْ أَجْرِيَ أي ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يأتي بالوحي من السماء فيقذفه إلى الأنبياء عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي خفيات الأمور قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي القرآن والإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي ذهب الباطل وزهق فلم تبق منه بقية تبدئ شيئا أو تعيده وقيل الباطل هو إبليس والمعنى لا يخلق إبليس أحدا ابتداء ولا يبعثه إذا مات وقيل الباطل الأصنام.
[سورة سبإ (34) : الآيات 50 الى 54]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك فقال الله تعالى قل إن ضللت فيما تزعمون أنتم فإنما أضل على نفسي أي إثم ضلالتي على نفسي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي في القرآن والحكمة إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قوله عز وجل وَلَوْ تَرى أي يا محمد إِذْ فَزِعُوا أي عند البعث أي حين يخرجون من قبورهم وقيل عند الموت فَلا فَوْتَ أي لا يفوتوننا ولا نجاة لهم وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل من تحت أقدامهم، وقيل أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها وحيثما كانوا فإنهم من الله قريب لا يفوتونه، ولا يعجزونه وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وقيل: هو خسف بالبيداء ومعنى الآية ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمرا تعتبر به وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي حين عاينوا العذاب قيل هو عند اليأس وقيل هو عند البعث وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي التناول والمعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبا منهم في الدنيا فضيعوه وقال ابن عباس يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي من الآخرة إلى الدنيا وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي القرآن وقيل بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قيل هو الظن لأن علمه غاب عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى يرمون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون وهو قولهم إنه شاعر ساحر كاهن لا علم له بذلك وقيل يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا ونعيمها وزهرتها كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار مِنْ قَبْلُ أي لم تقبل منهم التوبة في وقت اليأس إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ أي من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ أي موقع الريبة والتهمة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/451)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة مكية وهي خمس وأربعون آية وتسعمائة وسبعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قوله عز وجل الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي إلى الأنبياء أُولِي أَجْنِحَةٍ أي ذوي أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء. قال عبد الله بن مسعود في قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح، وقيل في قوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ هو حسن الصوت وقيل حسن الخلق وتمامه وقيل هو الملاحة في العينين وقيل هو العقل والتمييز إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مما يريد أن يخلقه. قوله تعالى ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ قيل المطر وقيل من خير ورزق فَلا مُمْسِكَ لَها أي لا يستطيع أحد حبسها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي لا يقدر أحد على فتح ما أمسك وَهُوَ الْعَزِيزُ يعني فيما أمسك الْحَكِيمُ أي فيما أرسل (م) عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» والجد الغنى والبخت أي لا ينفع المبخوت والغني حظه وغناه لأنهما منك إنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك. قوله عز وجل:
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 10]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)(3/452)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قيل الخطاب لأهل مكة ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي لا خالق إلا الله وهو استفهام تقرير وتوبيخ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ أي المطر وَالْأَرْضِ أي النبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خالقكم ورازقكم وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعزي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي فيجزي المكذب من الكفار بتكذيبه. قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعد القيامة فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي لاتخد عنكم بلذاتها وما فيها عن عمل الآخرة وطلب ما عند الله وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا يقل لكم اعملوا ما شئتم فان الله يغفر كل ذنب وخطيئة ثم بين الغرور من هو فقال تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أشياعه وأولياءه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ثم بين حال موافقيه ومخالفته فقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
قوله عز وجل أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقيل نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم لا يستحلونها ويعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها ومعنى زين له شبه له وموه عليه قبيح عمله فَرَآهُ حَسَناً وفي الآية حذف مجازه أفمن زين له سوء عمله فرأي الباطل حقا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقيل مجاز الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء والحسرة شدة الحزن على ما فات والمعنى لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيه وعيد بالعقاب على سوء صنيعهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي تزعجه من مكانه وقيل تجمعه وتجيء به فَسُقْناهُ أي فنسوقه إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات روى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه» قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً قيل معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا وقيل معناه من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله وهو دعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز، فبين الله أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين إِلَيْهِ يعني إلى الله يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قيل هو قول لا إله إلا الله وقيل هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر روى البغوي باسناده عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، إلا أخذهن ملك تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين، ومصداقه من كتاب الله قوله: إليه يصعد الكلم الطيب» هذا حديث موقوف على ابن مسعود وفي إسناده الحجاج بن نصير ضعيف، وقيل الكلم الطيب ذكر الله تعالى وقيل معنى إليه يصعد أي يقبل الله الكلم(3/453)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
الطيب وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال ابن عباس أي يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، وقيل الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفرائض فمن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني وليس بالتحلي ولكن ما وقرفي القلوب وصدقته الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وجاء في الحديث «لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية» وقيل الهاء في يرفعه راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عملا إلا أن يكون صادرا عن توحيد وقيل معناه العمل الصالح يرفعه الله وقيل العمل الصالح هو الخالص، وذلك أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يعملون السيئات أي الشرك وقيل يعني الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة وقيل هم أصحاب الرياء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يبطل ويهلك في الآخرة. قوله عز وجل:
[سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 19]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذريته ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا وإناثا وقيل زوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ يعني لا يطول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ يعني عمر آخر، وقيل ينصرف إلى الأول قال سعيد بن جبير، مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان، ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره، وقيل معناه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب قال كعب الأحبار حين حضرت عمر الوفاة والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر، فقيل له إن الله تعالى يقول فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ذلك وقرأ هذه الآية إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين. قوله تعالى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمالح ثم وصفهما فقال هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي طيب يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي سهل في الحلق هنيء مريء وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة يحرق الحلق بملوحته وقيل هو المر وَمِنْ كُلٍّ يعني من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ يعني من الملح دون العذب حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ والمرجان وقيل نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر المالح عيون عذبة فتمتزج بالملح فيكون(3/454)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
اللؤلؤ منهما وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ يعني جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني بالتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون الله على نعمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة إِنْ تَدْعُوهُمْ يعني الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ يعني أنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا أي على سبيل الفرض والتمثيل مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم وقيل ما نفعوكم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى فضله وإحسانه والفقير المحتاج إلى من سواه والخلق كلهم محتاجون إلى الله فهم الفقراء وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه لا يحتاج إليهم الْحَمِيدُ يعني المحمود في إحسانه إليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لاتخاذكم أندادا وكفركم بآياته وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني يخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئا وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي يمتنع وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ بذنب غيرها فان قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم. قلت هذه الآية في الضالين وتلك في المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها معناه وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها إلى حمل ذنوب غيرها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني ولو كان المدعو ذا قرابة كالأب والأم والابن والأخ قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعني يخافون ربهم بِالْغَيْبِ يعني لم يروه والمعنى وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى يعني أصلح وعمل خيرا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ يعني لها ثوابه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني الجاهل والعالم وقيل الأعمى عن الهدى وهو الشرك والبصير بالهدى وهو المؤمن.
[سورة فاطر (35) : الآيات 20 الى 32]
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)(3/455)
وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ يعني الكفر والإيمان وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني الجنة والنار وقال ابن عباس: الحرور الريح الحارة بالليل والسموم بالنهار وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني المؤمنين والكفار وقيل العلماء والجهال إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ يعني حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور لأنهم لا يجيبون إذا دعوا إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيرا بالثواب لمن آمن ونذيرا بالعقاب لمن كفر وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة كثيرة فيما مضى إِلَّا خَلا أي سلف فِيها نَذِيرٌ أي نبي منذر. فان قلت كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم لم يخل فيها نذير. قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس، وحين اندرست آثار رسالة عيسى عليه السلام بعث الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وآثار نذارته باقية إلى يوم للقيامة لأنه لا نبي بعده وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الدالة على نبوتهم وَبِالزُّبُرِ أي الصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح قيل أراد بالكتاب التوراة والإنجيل والزبور وقيل ذكر الكتاب بعد الزبر تأكيدا ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها يعني أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب والرطب ونحوها وقيل يعني ألوانها في الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك مما لا يحصر ولا يعد وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ يعني الخطط والطرق في الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها يعني منها ما هو أبيض ومنها ما هو أحمر ومنها ما هو أصفر وَغَرابِيبُ سُودٌ يعني شديدة السواد كما يقال أسود غربيب تشبيها بلون الغراب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعني خلق مختلف ألوانه كَذلِكَ يعني كاختلاف الثمرات والجبال وتم الكلام ها هنا، ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني وقيل: عظموه وقدروا قدره وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علما ازداد به خشية (ق) عن عائشة قالت صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فخطب فحمد الله ثم قال «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» قولها فرخص فيه أي لم يشدد فيه قولها فتنزه عن أقوام أي تباعد عنه وكرهه قوم (ق) عن أنس قال خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» فغطى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجوههم لهم خنين الخنين بالخاء المعجمة، هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف وقال مسروق كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا وقال رجل للشعبي أفتني أيها العالم فقال الشعبي إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال مقاتل أشد الناس خشية لله أعلمهم به، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي من ملكه غَفُورٌ يعني لذنوب عباده وهو تعليل لوجوب الخشية لأنه المثيب المعاقب وإذا كان كذلك فهو أحق أن يخشى ويتقى. قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءته ويعلمون ما فيه ويعملون به وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي ويقيمون الصلاة في أوقاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني في سبيل الله سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ يعني لن تفسد ولن تهلك والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس سوى الثواب يعني مما لم تر عين ولم تسمع أذن إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ قال ابن عباس: يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.
قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ يعني أوحينا إليك الكتاب وهو القرآن ثم أورثناه يعني حكمنا بتوريثه وقيل أورثناه بمعنى نورثه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قال ابن عباس يريد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم واختصهم بكرامته بأن جعلهم أتباع سيد الرسل وخصهم بحمل أفضل الكتب ثم قسمهم ورتبهم فقال تعالى(3/456)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ روي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلهم من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر ثم أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فقال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» قال أبو قلابة أحد رواته فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه أخرجه البغوي بسنده وروى بسنده عن ثابت «أن رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليسا صالحا فقال أبو الدرداء لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ قال أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما ظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله عز وجل ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية. فقالت: يا بني كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا» وقال ابن عباس السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر، نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال «جنات عدن يدخلونها» وقيل الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق هم السابقون المقربون من الناس كلهم وقيل: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت سيئاته وحسناته والظالم من رجحت سيئاته على حسناته وقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به والمقتصد التالي له العامل به والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه وقيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة وقيل الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم والسابق العالم. فان قلت لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق. قلت: قال جعفر الصادق بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين، لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة وقيل رتبهم الترتيب على مقامات الناس، لأن أحوال العباد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة، ثم قربة فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين، فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين، وقيل قدم الظالم لكثرة الظلم وغلبته ثم المقتصد قليل بالإضافة إلى الظالمين، والسابق أقل من القليل فلهذا أخرهم ومعنى سابق بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة، أو إلى رحمة الله بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله وإرادته ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إيراثهم الكتاب، واصطفاءهم ثم أخبر بثوابهم فقال تعالى:
[سورة فاطر (35) : الآيات 33 الى 35]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يعني الأصناف الثلاثة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها(3/457)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
حَرِيرٌ
تقدم تفسيره وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال ابن عباس حزن النار وقيل حزن الموت وقيل حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم وقيل حزن زوال النعم وتقليب القلوب وخوف العاقبة وقيل حزن أهوال يوم القيامة وهموم الحصر والمعيشة في الدنيا وقيل ذهب عن أهل الجنة كل حزن كان لمعاش أو معاد. روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ يعني غفر العظيم من الذنوب وشكر القليل من الأعمال الَّذِي أَحَلَّنا يعني أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ أي لا بأعمالنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي لا يصيبنا فيها عناء ولا مشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي إعياء من التعب. قوله تعالى:
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 43]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي فيستريحوا مما هم فيه وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي من عذاب النار كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ أي يستغيثون ويصيحون فِيها يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا أي من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والسيئات فيقول الله تعالى توبيخا لهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قيل: هو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أعذر الله إلى كل امرئ آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» عنه بإسناد الثعلبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن قاله ابن عباس: وقيل هو الشيب والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال الشيب: نذير الموت وفي الأثر «ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت» فَذُوقُوا أي يقال لهم ذوقوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي لهم من مانع يمنعهم من عذابه إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
يعني إنه إذا علم ذلك وهو أخفى ما يكون، فقد علم غيب كل شيء في العالم. قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا وقيل جعلكم أمة خلفت من قبلها من الأمم ورأت ما ينبغي أن يعتبر به، وقيل جعلكم خلفاء في أرضه وملككم منافعها ومقاليد التصرف فيها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فَمَنْ(3/458)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
كَفَرَ
أي جحد هذه النعمة وغطمها فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً يعني غضبا وقيل المقت أشد البغض وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً يعني في الآخرة قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام جعلتموها شركاء بزعمكم أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ يعني أي جزء استبدوا بخلقه من الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي خلق في السموات والأرض أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي على حجة وبرهان من ذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ يعني الرؤساء بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً يعني قولهم هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله. قوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا يعني لكي لا تزولا فيمنعهما من الزوال والوقوع وكانتا جديرتين بأن تزولا وتهدهد العظم كلمة الشرك وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعني ليس يمسكهما أحد سواه إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً يعني غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما وكانتا قد همتا بعقوبة الكفار لولا حلمه وغفرانه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة وذلك لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله لو جاءنا نذير لنكونن أهدى دينا منهم وذلك قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله هذه الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني اليهود والنصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً يعني تباعدا عن الهدى اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ يعني عتوا وتكبرا عن الإيمان به وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعني عمل القبيح وهو اجتماعهم على الشرك وقيل هو مكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعني لا يحل ولا يحيط إلا بأهله فقتلوا يوم بدر قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي ينظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني أن ينزل العذاب بهم كما نزل بمن مضى من الكفار فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ معناه أنهم يعتبرون بمن مضى وبآثارهم وعلامات هلاكهم وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليفوت عنه مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا أي من الجرائم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من نسمة تدب عليها يريد بني آدم وغيرهم كما أهلك من كان في زمن نوح بالطوفان إلا من كان في السفينة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد أهل طاعته وأهل معصيته وقيل بصيرا بمن يستحق العقوبة وبمن يستحق الكرامة والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الثالث من تفسير الخازن ويليه الجزء الرابع، وأوله سورة يس عليه الصلاة والسلام(3/459)
فهرس المحتويات
تفسير سورة الرعد الآيتان: 1، 2: 3 الآيات: 3- 7: 4 الآيات: 8- 11: 6 الآيتان: 12، 13: 8 الآيات: 14- 17: 10 الآيات: 18- 21: 14 الآيات: 22- 28: 15 الآيات: 29- 31: 18 الآيات: 32- 36: 20 الآيات: 37- 39: 22 الآيات: 40- 43: 24 تفسير سورة مريم الآيتان: 1، 2: 27 الآيات: 3- 14: 28 الآيات: 15- 22: 31 الآيات: 23- 27: 34 الآيات: 28- 31: 37 الآيات: 32- 37: 38 الآيات: 38- 43: 42 الآية: 44: 43 الآيات: 45- 48: 44 الآيات: 49- 52: 46 تفسير سورة الحجر الآيات: 1- 3: 47 الآيات: 4- 17: 248 الآيات: 18- 22: 51 الآيات: 23- 30: 53 الآيات: 31- 41: 55 الآيات: 42- 45: 56 الآيات: 46- 60: 57 الآيات: 61- 70: 59 الآيات: 71- 80: 60 الآيات: 81- 88: 61 الآيات: 89- 95: 62 الآيات: 96- 99: 65 تفسير سورة النحل الآيتان: 1، 2: 66 الآيات: 3- 12: 67 الآيات: 13- 23: 70 الآيات: 24- 32: 72 الآيات: 33- 38: 76 الآيات: 39- 50: 77 الآيات: 51- 60: 81 الآيات: 61- 67: 83 الآيات: 68- 71 85 الآيات: 72- 77: 89 الآيات: 78- 80: 91 الآيات: 81- 88: 92 الآيات: 89- 97: 94 الآيات: 98- 102: 97 الآيات: 103- 105: 98 الآيات: 106- 117: 100(3/460)
الآيات: 118- 123: 104 الآيات: 124- 128: 105 تفسير سورة الإسراء الآية: 1: 109 الآيات: 2- 4: 117 الآيات: 5- 7: 121 الآيات: 8- 19: 124 الآيات: 20- 25: 126 الآيات: 26- 38: 128 الآيات: 39- 46: 130 الآيات: 47- 57: 132 الآيات: 58- 64: 134 الآيات: 65- 69: 136 الآيتان: 70، 71: 137 الآيات: 72- 76: 138 الآيات: 77- 79: 139 الآيات: 80- 84: 143 الآيات: 85- 88: 144 الآيات: 89- 93: 146 الآيات: 94- 97: 147 الآيات: 98- 101: 148 الآيات: 102- 109: 149 الآيتان: 110، 111: 150 تفسير سورة الكهف الآيات: 1- 10: 152 الآيات: 11- 17: 159 الآيات: 18- 20: 160 الآيات: 21- 25: 161 الآيات: 26- 29: 162 الآيات: 30- 33: 163 الآيات: 34- 44: 164 الآيات: 45- 48: 165 الآيات: 49- 51: 167 الآيات: 52- 60: 168 الآيتان: 61، 62: 170 الآيات: 63- 71: 171 الآيات: 72- 77: 172 الآيات: 78- 82: 173 الآيات: 83- 91: 175 الآيات: 92- 94: 177 الآيات: 95- 98: 178 الآيات: 99- 105: 179 الآيات: 106- 110: 180 تفسير سورة مريم الآيات: 1- 10: 182 الآيات: 11- 22: 183 الآيات: 23- 28: 185 الآيات: 29- 37: 186 الآيات: 38- 46: 188 الآيات: 47- 57: 189 الآيات: 58- 62: 191 الآيات: 63- 71: 193 الآية: 72: 195 الآيات: 73- 77: 196 الآيات: 78- 91: 197 الآيات: 92- 98: 198 تفسير سورة طه الآيات: 1- 5: 200 الآيات: 7- 14: 201 الآيات: 15- 23 202 الآيات: 24- 40: 203 الآيات: 41- 48: 205 الآيات: 49- 61: 206 الآيات: 62- 75: 207 الآيات: 76- 86: 209 الآيات: 87- 96: 210 الآيات: 97- 108: 212 الآيات: 109- 119: 213 الآيات: 120- 129: 215 الآيات: 130- 135: 218(3/461)
تفسير سورة الأنبياء الآيات: 1- 10: 220 الآيات: 11- 23: 221 الآيات: 24- 33: 223 الآيات: 34- 43: 225 الآيات: 44- 57: 226 الآيات: 58- 68: 228 الآيات: 69- 71: 230 الآيات: 72- 79: 231 الآيتان: 80، 81: 233 الآيتان: 82، 83: 234 الآية: 84: 239 الآيات: 85- 87: 240 الآيات: 88- 92: 242 الآيات: 93- 100: 243 الآيات: 101- 107: 245 الآيات: 108- 112: 246 تفسير سورة الحج الآيتان: 1، 2: 247 الآيات: 3- 5: 248 الآيات: 6- 13: 249 الآيات: 14- 18: 250 الآيات: 19- 24: 252 الآيات: 25- 28: 253 الآيتان: 29، 30 255 الآيات: 31- 34: 256 الآيات: 35- 40: 258 الآيات: 41- 47: 259 الآيات: 48- 52: 260 الآيات: 54- 58: 262 الآيات: 59- 71: 263 الآيات: 72- 77: 264 الآية: 78: 266 تفسير سورة المؤمنين الآيتان: 1، 2: 267 الآيات: 3- 18: 268 الآيات: 19- 29: 270 الآيات: 30- 44: 271 الآيات: 45- 60: 272 الآيات: 61- 71: 273 الآيات: 72- 88: 275 الآيات: 89- 101: 276 الآيات: 102- 114: 277 الآيات: 115- 118: 278 تفسير سورة النور الآيات: 1- 3: 279 الآيات: 5- 7: 280 الآيتان: 8، 9: 283 الآيتان: 10، 11: 284 الآيات: 12- 21: 288 الآيات: 22- 26: 289 الآيات: 27- 30: 290 الآية: 31: 292 الآية: 32: 294 الآية: 33: 295 الآيتان: 34، 35: 296 الآية: 36: 298 الآيات: 37- 40: 299 الآيات: 41- 45: 300 الآيات: 46- 55: 302 الآيات: 56- 58: 304 الآيات: 59- 61: 305 الآيتان: 62، 63: 306 الآية: 64: 307 تفسير سورة الفرقان الآيات: 1- 8: 308 الآيات: 9- 17: 309 الآيات: 18- 23: 311 الآيات: 24- 29: 312 الآيات: 30- 40: 313(3/462)
الآيات: 41- 48: 314 الآيات: 49- 57: 316 الآيات: 58- 64: 317 الآيات: 65- 70: 318 الآيات: 71- 77: 319 تفسير سورة الشعراء الآيات: 1- 8: 321 الآيات: 9- 22: 322 الآيات: 23- 41: 323 الآيات: 42- 61: 325 الآيات: 62- 81: 326 الآيات: 82- 102: 327 الآيات: 103- 129: 328 الآيات: 130- 155: 328 الآيات: 156- 188: 230 الآيات: 189- 214: 331 الآيات: 215- 227: 333 تفسير سورة النمل الآيات: 1- 10: 337 الآيات: 11- 16: 338 الآيات: 17- 20: 340 الآيتان: 21، 22: 342 الآيات: 23- 28: 343 الآيات: 29- 35: 345 الآيات: 36- 39: 346 الآيات: 40- 44: 347 الآيات: 45- 49: 349 الآيات: 50- 63: 349 الآيات: 64- 78: 351 الآيات: 79- 82: 352 الآيات: 83- 87: 354 الآيات: 88- 93: 355 تفسير سورة القصص الآيات: 1- 7: 356 الآيات: 8- 12: 358 الآيات: 13- 18: 359 الآيات: 19- 24: 361 الآيات: 25- 28: 362 الآيات: 29- 35: 363 الآيات: 36- 45: 365 الآيات: 46- 53: 366 الآيات: 54- 61: 367 الآيات: 62- 75: 369 الآيات: 76- 79: 370 الآيات: 80- 82: 371 الآيات: 83- 88: 373 تفسير سورة العنكبوت الآيات: 1- 8: 375 الآيات: 9- 18: 376 الآيات: 19- 29: 378 الآيات: 30- 40: 380 الآيات: 41- 45: 381 الآيات: 46- 53: 382 الآيات: 54- 60: 383 الآيات: 61- 69: 384 تفسير سورة الروم الآيات: 1- 3: 386 الآيات: 4- 7: 387 الآيات: 8- 18: 388 الآيات: 19- 27 389 الآيات: 28- 33: 391 الآيات: 34- 42: 392 الآيات: 43- 54: 393 الآيات: 55- 60: 394 تفسير سورة لقمان الآيات: 1- 6: 396 الآيات: 7- 15: 397 الآيات: 16- 20: 398 الآيات: 21- 32: 400 الآيتان: 33، 34: 401(3/463)
تفسير سورة السجدة الآيات: 1- 5: 402 الآيات: 6- 14: 403 الآيتان: 15، 16: 404 الآيات: 17- 26: 406 الآيات: 27- 30: 407 تفسير سورة الأحزاب الآيات: 1- 4: 408 الآيتان: 5، 6: 409 الآيات: 7- 9: 410 الآيات: 10- 18: 416 الآيات: 19- 23: 417 الآيات: 24- 29: 419 الآيات: 27- 29: 420 الآيات: 30- 35: 324 الآيات: 33- 35: 425 الآيتان: 36، 37: 426 الآيات: 38- 44: 429 الآيات: 45- 50: 430 الآيتان: 51، 52: 432 الآية: 53: 433 الآيات: 54- 56: 434 الآيات: 57- 67: 436 الآيات: 68- 72: 437 الآية: 73: 440 تفسير سورة سبأ الآيات: 1- 4: 441 الآيات: 5- 12: 442 الآيتان: 13، 14: 443 الآيات: 15- 16: 445 الآيات: 17- 22: 446 الآيات: 23- 31: 447 الآيات: 32- 39: 449 الآيات: 40- 49: 450 الآيات: 50- 54: 451 تفسير سورة فاطر الآيتان: 1، 2: 452 الآيات: 3- 10: 453 الآيات: 11- 19: 454 الآيات: 20- 32: 455 الآيات: 33- 35: 457 الآيات: 36- 43: 458 الآيتان: 44، 45: 459(3/464)
يس (1)
الجزء الرابع
سورة يس
مكية وهي ثلاث وثمانون آية وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاثة آلاف حرف. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب وفي إسناده شيخ مجهول. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اقرءوا على موتاكم يس» أخرجه أبو داود وغيره.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
قول عز وجل: يس قال ابن عباس: هو قسم، وعنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل يا سيد البشر وقيل هو اسم للقرآن وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة لأنه دليل ناطق بالحكمة وهو قسم وجوابه إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي أقسم بالقرآن أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لمن المرسلين وهو رد على الكفار حيث قالوا لست مرسلا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ معناه وإنك على صراط مستقيم، وقيل معناه إنك لمن المرسلين الذين هم على طريقة مستقيمة تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ يعني القرآن تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يعني لم تنذر آباؤهم لأن قريشا لم يأتهم نبي قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معناه لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم من العذاب فَهُمْ غافِلُونَ أي عما يراد بهم من الإيمان والرشد.
[سورة يس (36) : الآيات 7 الى 11]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي وجب العذاب. عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فيه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة فيهم فهم لا يؤمنون لما سبق لهم من القدر بذلك.
قوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم يصلي ليرضخن رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر، بيده فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال له رجل من(4/3)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت فقال: ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا قيل هذا على وجه التمثيل، ولم يكن هناك غل، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك، وقيل حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال، وقيل إنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل، وقيل إنها وصف في الحقيقة وهي ما سينزله الله عز وجل بهم في النار فَهِيَ يعني الأيدي إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن وهو أسفل اللحيين لأن الغل بجمع اليد إلى العنق فَهُمْ مُقْمَحُونَ يعني رافعو رؤوسهم مع غض البصر وقيل أراد أن الأغلال رفعت رؤوسهم فهم مرفعو الرؤوس برفع الأغلال لها وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا معناه منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، وقيل حجبناهم بالظلمة عن أذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ يعني فأعميناهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعني سبيل الهدى وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني من يرد الله إضلاله لم ينفعه الإنذار إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يعني إنما ينفع إنذارك من اتبع القرآن فعمل بما فيه وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خافه في السر والعلن فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ يعني لذنوبه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ يعني الجنة.
[سورة يس (36) : الآيات 12 الى 13]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى يعني للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي من الأعمال من خير وشر وَآثارَهُمْ أي ونكتب ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة (م) عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» وقيل نكتب خطاهم إلى المسجد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال «كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (خ) عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة فقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا. قوله تعرى يعني تخلى فتترك عراء وهو الفضاء من الأرض الخالي الذي لا يستره شيء (م) . عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» فقالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال: «بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» . فقالوا ما يسرنا إذا تحولنا. قوله بني سلمة أي يا بني سلمة وقوله: دياركم أي الزموا دياركم (ق) . عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام» .
قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي حفظناه وعددناه وأثبتناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني اللوح المحفوظ.
قوله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يعني صف لهم شبها مثل حالهم من قصة أَصْحابَ الْقَرْيَةِ يعني أنطاكية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ يعني رسل عيسى عليه الصلاة والسلام.
(ذكر القصة في ذلك) قال العلماء بأخبار الأنبياء بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل(4/4)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
إنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ياسين فسلما عليه فقال الشيخ لهما من أنتما فقالا رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال الشيخ لهما أمعكما آية قالا نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله قال الشيخ إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك يعبد الأصنام اسمه انطيخس وكان من ملوك الروم فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما، وقال: من أنتما قالا: رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام، قال: وفيم جئتما قالا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر فقال ولنا إله دون آلهتنا قالا نعم الذي أوجدك وآلهتك قال لهما: قوما حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما وقال وهب بعث عيسى عليه السلام هذين الرجلين إلى أنطاكية فأتياها فلم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله تعالى فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائتي جلدة فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما ليبصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه ورضي عشرته فقال للملك ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما، فقال: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا، قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون: وما آيتكما؟ قال: ما تتمناه فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذ بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك إن أنت سألت إلهك حتى يصنع لك مثل هذا كان لك الشرف ولإلهك، فقال له الملك ليس لي عنك سر مكتوم فإن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع وكان شمعون يدخل مع الملك على الصنم ويصلي ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك إن هاهنا ميتا قد مات منذ سبعة أيام ابن دهقان وأنا أخّرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا، فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وشمعون يدعو ربه سرا فقام الميت وقال: إني ميت منذ سبعة أيام ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم عليه فآمنوا بالله ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة قال شمعون وهذان وأشار بيده إلى صاحبيه فعجب الملك من ذلك فلما علم شمعون أن قوله قد أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله تعالى:
[سورة يس (36) : الآيات 14 الى 20]
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)(4/5)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما قال وهب اسمهما يوحنا وبولس وقال كعب صادق وصدوق فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ يعني قوينا برسول ثالث وهو شمعون وقيل شلوم وإنما أضاف الله تعالى الإرسال إليه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما بعثهم بإذن الله عز وجل فَقالُوا يعني الرسل جميعا لأهل أنطاكية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ يعني لم يرسل رسولا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ يعني فيما تزعمون قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ يعني وإن كذبتمونا وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي بالآيات الدالة على صدقنا قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا منكم وذلك لأن المطر حبس عنهم فقالوا أصابنا ذلك بشؤمكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي تسكتوا عنا لَنَرْجُمَنَّكُمْ يعني لنقتلنكم وقيل بالحجارة وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ يعني شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم يعني أصابكم الشؤم من قبلكم وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ معناه اطيرتم لأن ذكرتم ووعظتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي في ضلالكم وشرككم متمادون في غيكم.
قوله عز وجل: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب النجار وقيل كان قصارا وقال وهب كان يعمل الحرير وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المسجد وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه فإذا أمسى قسمه نصفين نصف لعياله ويتصدق بنصفه فلما بلغه أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم جاءهم قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وقيل كان في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال لهم أتسألون على هذا أجرا قالوا لا فأقبل على قومه وقال يا قوم اتبعوا المرسلين.
[سورة يس (36) : الآيات 21 الى 27]
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فيحصل لكم خير الدنيا والآخرة فلما قال ذلك قالوا له أو أنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم فقال وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر والرجوع فيه معنى الزجر فكان بهم أليق وقيل معناه وأي شيء بي إذا لم أعبد خالقي وإليه تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي لا أتخذ من دونه آلهة إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ عَنِّي أي لا تدفع عني شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا شفاعة لها فتغني عني وَلا يُنْقِذُونِ أي من ذلك المكروه وقيل من العذاب إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي خطأ ظاهر إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي فاشهدوا لي بذلك قيل هو خطاب للرسل وقيل هو خطاب لقومه فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه. قال ابن مسعود ووطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقيل كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي حتى أهلكوه وقبره بأنطاكية فلما لقي الله تعالى: قِيلَ له ادْخُلِ الْجَنَّةَ فلما أفضى إلى الجنة ورأى نعيمها قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلم قومه أن الله تعالى غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل غضب الله عز وجل له فعجّل لهم العقوبة فأمر جبريل عليه الصلاة والسلام فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى:(4/6)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ يعني الملائكة وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي ما كنا لنفعل هذا بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما تظنون ثم بيّن عقوبتهم فقال تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال المفسرون أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ميتون يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ يعني يا لها حسرة وندامة وكآبة على العباد والحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا، قيل تحسروا على أنفسهم لما عاينوا من العذاب حيث لم يؤمنوا بالرسل الثلاثة فتمنوا الإيمان حيث لم ينفعهم وقيل تتحسر عليهم الملائكة حيث لم يؤمنوا بالرسل وقيل يقول الله تعالى يا حسرة على العباد يوم القيامة حيث لم يؤمنوا بالرسل ثم بين سبب تلك الحسرة فقال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يخبروا خطاب لأهل مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي من الأمم الخالية من أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون بهم وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يعني أن جميع الأمم يحضرون يوم القيامة.
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 42]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَآيَةٌ لَهُمُ يعني تدلهم على كمال قدرتنا على إحياء الموتى الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي بالمطر وَأَخْرَجْنا مِنْها أي من الأرض حَبًّا يعني الحنطة والشعير وما أشبههما فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي من الحب وَجَعَلْنا فِيها يعني في الأرض جَنَّاتٍ يعني بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يعني من الثمر الحاصل بالماء وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يعني من الزرع والغرس الذي تعبوا فيه وقرئ عملت بغير هاء، وقيل ما للنفي والمعنى ولم تعمله أيديهم وليس من صنيعهم بل وجدوها معمولة وقيل أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل النيل والفرات ودجلة أَفَلا يَشْكُرُونَ يعني نعمة الله تعالى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني الأصناف كلها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي من الأشجار والثمار والحبوب وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ يعني مما خلق الله تعالى من الأشياء في البر والبحر من الدواب.
قوله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمُ يعني تدلهم على قدرتنا اللَّيْلُ نَسْلَخُ أي ننزع ونكشط مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ يعني فإذا هم في الظلمة وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يعني إلى مستقر لها قيل إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة وقيل تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها، الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول(4/7)
منازلها وهو أنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها وقيل مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء. وقرأ ابن مسعود والشمس تجري لا مستقر لها أي لا قرار ولا وقوف فهي جارية أبدا إلى يوم القيامة وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو ذر قال «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله والشمس تجري لمستقر لها قال مستقرها تحت العرش» وفي رواية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر حين غربت الشمس «أتدري أين تذهب الشمس» قال الله ورسوله أعلم قال «إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها» فذلك قوله تعالى:
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أخرجاه في الصحيحين، قال الشيخ محيي الدين النووي اختلف المفسرون فيه فقال جماعة بظاهر الحديث. قال الواحدي فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، وقيل تجري إلى وقت لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها والله أعلم ذلِكَ يعني الذي ذكر من جرى الشمس على ذلك التقدير والحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ يعني الغالب بقدرته على كل شيء مقدور الْعَلِيمِ يعني المحيط علما بكل شيء.
قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يعني قدرنا له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كل ليلة في منزل منها لا يتعداه يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص فإذا كان في آخر منازله رقّ وتقوس فذلك قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وهو العود الذي عليه شماريخ العذق إلى منبته من النخلة والقديم الذي أتى عليه الحول فإذا قدم عتق ويبس وتقوس واصفر فشبه القمر به عند انتهائه إلى آخر منازله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ يعني لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يعني هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة. وقيل معناه أن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد ولا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي والشمس والقمر في فلك يسيرون.
قوله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ يعني أولادهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يعني المملوء وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ يعني مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ يعني من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل أراد بالفلك المشحون سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ومعنى الآية أن الله عز وجل حمل آباءهم الأقدمين في أصلاب الذين كانوا في السفينة فكانوا ذرية لهم ومنه قول العباس:
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
وإنما ذكر ذريتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأبلغ في التعجب من قدرته فعلى هذا القول يكون قوله من مثله أي من مثل ذلك الفلك ما يركبون أي من السفن والزوارق في الأنهار الكبار والصغار(4/8)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
[سورة يس (36) : الآيات 43 الى 49]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ يعني لا مغيث لهم وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ يعني ينجون من الغرق قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابي إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني إلا أن يرحمهم الله ويمتعهم إلى انقضاء آجالهم وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ قال ابن عباس ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني الآخرة فاعملوا لها وَما خَلْفَكُمْ يعني الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها.
وقيل ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني وقائع الله تعالى بمن كان قبلكم من الأمم وَما خَلْفَكُمْ يعني الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لتكونوا على رجاء الرحمة وجواب إذا محذوف تقديره وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا ويدل على الحذف قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي دلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ أي مما أعطاكم اللَّهُ نزلت في كفار قريش وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله تعالى من أموالكم وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ أي أنرزق مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أي رزقه قيل كان العاص بن وائل السهمي إذا سأله المسكين قال له اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك، ويقول قد منعه أفأطعمه أنا ومعنى الآية أنهم قالوا لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعم من لم يطعمه وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون لا نعطي من حرمه الله وهذا الذي يزعمون باطل لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأعطى الدنيا الغني لا استحقاقا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من مال الغني ولا اعتراض لأخذ في مشيئة الله وحكمته في خلقه والمؤمن يوافق أمر الله تعالى وقيل قالوا هذا على سبيل الاستهزاء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل هو من قول الكفار للمؤمنين ومعناه ما أنتم إلا في خطأ بيّن باتباعكم محمدا وترك ما نحن عليه. وقيل هو من قول الله تعالى للكفار لما ردوا من جواب المؤمنين وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعني يوم القيامة والبعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد النفخة الأولى تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي في أمر الدنيا من البيع والشراء ويتكلمون في الأسواق والمجالس وفي متصرفاتهم فتأتيهم الساعة أغفل ما كانوا عنها، وقد صح في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» أخرجه البخاري وهو طرف من حديث. ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد من النتاج وقوله وهو يليط حوضه يعني يطينه ويصلحه، وكذلك يلوط حوض إبله وأصله من اللوط. وقوله أصغى ليتا الليت صفحة العنق وأصغى يعني أمال عنقه يسمع.
[سورة يس (36) : الآيات 50 الى 55]
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)
قوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي لا يقدرون على الإيصاء بل أعجلوا عن الوصية فماتوا وَلا إِلى(4/9)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
يعني لا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم لأن الساعة لا تمهلهم بشيء وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هذه النفخة الثانية وهي نفخة البعث وبين النفختين أربعون سنة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعين يوما قال أبيت، قالوا أربعين شهرا قال أبيت، قالوا أربعين سنة قال أبيت ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي يخرجون منها أحياء قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قال ابن عباس إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد الثانية وعاينوا أهوال القيامة دعوا بالويل. وقيل إذا عاين الكفار جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أقروا حين لا ينفعهم الإقرار. وقيل قالت لهم الملائكة ذلك، وقيل يقول الكفار من بعثنا من مرقدنا فيقول المؤمنون هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني النفخة الأخيرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي للحساب فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قال ابن عباس في افتضاض الأبكار وقيل في زيارة بعضهم بعضا وقيل في ضيافة الله تعالى، وقيل في السماع وقيل شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب الأليم فاكِهُونَ قال ابن عباس فرحون وقيل ناعمون وقيل معجبون بما هم فيه.
[سورة يس (36) : الآيات 56 الى 60]
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ يعني أكنان القصور عَلَى الْأَرائِكِ يعني السرر في الحجال مُتَّكِؤُنَ يعني ذوو اتكاء تحت تلك الظلال لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ أي في الجنة وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ يعني ما يتمنون ويشتهون والمعنى أن كل ما يدعون أي أهل الجنة يأتيهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يعني يسلم الله عز وجل عليهم روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله عز وجل سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» وقيل تسلم الملائكة عليهم من ربهم وقيل تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون سلام عليكم من ربكم الرحيم وقيل يعطيهم السلامة يقول اسلموا السلام الأبدية وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ يعني اعتزلوا وانفردوا وتميزوا اليوم من المؤمنين الصالحين وكونوا على حدة، وقيل إن لكل كافر في النار بيتا فيدخل ذلك البيت ويردم بابه فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض.
قوله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أي ألم آمركم وأوصيكم يا بني آدم أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ يعني لا تطيعوه فيما يوسوس ويزين لكم من معصية الله إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة.
[سورة يس (36) : الآيات 61 الى 65]
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)(4/10)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وَأَنِ اعْبُدُونِي أي أطيعوني ووحدوني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي لا صراط أقوم منه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي خلقا كثيرا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ يعني ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس ويقال لهم لما دنوا من النار هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يعني بها في الدنيا اصْلَوْهَا يعني ادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ معنى الآية أن الكفار ينكرون ويجحدون كفرهم وتكذيبهم الرسل، ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتنطق جوارحهم ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت عونا لهم على المعاصي صارت شاهدة عليهم وذلك أن إقرار الجوارح أبلغ من إقرار اللسان.
فإن قلت ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة؟
قلت إن اليد مباشرة والرجل حاضرة وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سأل الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا يا رسول الله قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد ربه فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب، فيقول أفظننت أنك ملاقي، فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول هاهنا إذا قال ثم يقول له الآن نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك الذي يسخط الله عليه» قوله أي فل يعني يا فلان قوله وأسودك أي أجعلك سيدا قوله وأذرك ترأس أي تتقدم على القوم بأن تصير رئيسهم وتربع أي تأخذ المرباع وهو ما يأخذه رئيس الجيش لنفسه من الغنائم وهو ربعها، وروى ترتع بتاءين أي تتنعم وتنبسط من الرتع قوله وذلك ليعذر من نفسه أي ليقيم الحجة عليها بشهادة أعضائه عليه (م) عن أنس بن مالك قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك، قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» قوله لا أجيز أي لا أقبل شاهدا على قوله بعدا لكن وسحقا أي هلاكا، قوله فعنكن كنت أناضل أي أجادل وأخاصم قوله تعالى:
[سورة يس (36) : الآيات 66 الى 69]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق والمعنى ولو(4/11)
نشاء لأعمينا أعينهم الظاهرة كما أعمينا قلوبهم فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي فبادروا إلى الطريق فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم والمعنى ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عميا يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ وقال ابن عباس يعني لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم نفعل ذلك بهم وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ يعني ولو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم وقيل لجعلناهم حجارة لا أرواح فيها فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي لا يقدرون أن يبرحوا وَلا يَرْجِعُونَ أي إلى ما كانوا عليه وقيل لا يقدرون على الذهاب ولا الرجوع وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق وقيل نضعف جوارحه بعد قوتها وننقصها بعد زيادتها وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان في ضعف من جسده وخلو من عقل وعلم في حال صغره ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال إلى أن بلغ أشده واستكمل قوته وعقله وعلم ما له وما عليه فإذا انتهى إلى الغاية واستكمل النهاية رجع ينقص حتى يرد إلى ضعفه الأول فذلك نكسه في الخلق أَفَلا يَعْقِلُونَ أي فيعتبرون ويعلمون أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان قادر على البعث بعد الموت قوله عز وجل: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ قيل إن كفار قريش قالوا إن محمدا شاعر وما يقوله شعر فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يسهل له ذلك وما يصلح منه بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ذلك كما جعلناه أميا لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض قال العلماء ما كان يتزن له بيت شعر وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا كما روي عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا نبي الله إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا: أشهد أنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما علمناه الشعر وما ينبغي له» هذا حديث مرسل وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وقد قيل لها «هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود» .
أخرجه الترمذي وفي رواية لغيره «أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان الشعر أبغض الحديث إليه ولم يتمثل إلا بيت أخي بني قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم يزود
فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» .
فإن قلت قد صح من حديث جندب بن عبد الله قال «بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أصابه حجر فدمت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت»
أخرجاه في الصحيحين ولهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«اللهم إن العيش عيش الآخره ... فأكرم الأنصار والمهاجرة»
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب»
قلت ما هذا إلا من كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف له إلا أن اتفق كذلك من غير قصد إليه وإن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم كلام موزون يدخل في(4/12)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
وزن البحور، ومع ذلك فإن الخليل لم يعدّ المشطور من الرجز شعرا ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ يعني ما هو إلا ذكر من الله تعالى يعظ به الإنس والجن ليس بشعر لأنه ليس على أساليب الشعر ولا يدخل في بحوره وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي إنه كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات وينال بتلاوته الثواب والدرجات، وفيه بيان الحدود والأحكام وبيان الحلال والحرام فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين وأقاويل الشعراء الكاذبين.
[سورة يس (36) : الآيات 70 الى 78]
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
لِيُنْذِرَ أي يا محمد وقرئ بالياء أي القرآن مَنْ كانَ حَيًّا يعني مؤمنا حي القلب لأن الكافر كالميت الذي لا يتدبر ولا يتفكر وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي وتجب حجة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي تولينا خلقه بإبداعنا له من غير إعانة أحد في إنشائه كقول القائل عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد وقيل عملناه بقوتنا وقدرتنا وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة التي لا يقدر عليها إلا هو أَنْعاماً إنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلق الله تعالى وإيجاده لأن النعم أكثر أموال العرب والنفع بها أعم فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك.
وقيل معناه فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
أي لا أضبط رأس البعير والمعنى لم تخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة مسخرة لهم وهو قوله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي الإبل وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي الغنم وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وَمَشارِبُ أي من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ أي رب هذه النعم وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني الأصنام لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لتمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك قط لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ قال ابن عباس لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي الكفار جند الأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تستطيع لهم نصرا وقيل هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه الذين عبدوه في الدنيا كأنهم جند محضرون في النار فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول كفار مكة في تكذيبك يا محمد إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي في ضمائرهم من التكذيب وَما يُعْلِنُونَ أي من عبادة الأصنام وقيل ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أي من نطفة قذرة خسيسة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي جدل بالباطل بين الخصومة والمعنى العجب من جهل هذا المخاصم مع مهانة أصله كيف يتصدى لمخاصمة الجبار ويبرز لمجادلته في إنكاره البعث، وكيف لا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة ويدع الخصومة، نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلّى الله عليه وسلّم في إنكار البعث وأتاه بعظم قد رم وبلي ففتته بيده وقال أترى يحيي الله هذا بعد ما رم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نعم ويبعثك ويدخلك النار فأنزل الله تعالى هذه الآيات وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ(4/13)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
خَلْقَهُ
أي بدأ أمره قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية والمعنى وضرب لنا مثلا في إنكار البعث بالعظم البالي حين فتته بيده وتعجب ممن يقول إن الله تعالى يحييه ونسي أول خلقه وأنه مخلوق من نطفة.
[سورة يس (36) : الآيات 79 الى 83]
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي خلقها أول مرة وابتدأ خلقها وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ أي من الابتداء والإعادة عَلِيمٌ أي يعلم كيف يخلق لا يتعاظمه شيء من خلق المبدأ أو المعاد الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً قال ابن عباس رضي الله عنهما هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ بالراء والخاء المعجمة والأخرى العفار بالعين المهملة فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى، تقول العرب في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا وقال الحكماء في كل شجر نار إلا العناب فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي تقدحون فتوقدون النار من ذلك الشجر ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى:
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى أي هو القادر على ذلك وَهُوَ الْخَلَّاقُ يعني يخلق خلقا بعد خلق الْعَلِيمُ أي بجميع ما خلق إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي إحداث شيء وتكوينه أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أن يكونه من غير توقف فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي هو مالك كل شيء والمتصرف فيه وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون بعد الموت والله أعلم.(4/14)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
سورة الصافات
مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6)
قوله عز وجل: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن عباس هم الملائكة يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة (م) عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم قال يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» لفظ أبي داود، وقيل هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد وقيل أراد بالصافات الطير تصف أجنحتها في الهواء فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبيح فَالتَّالِياتِ ذِكْراً يعني الملائكة يتلون ذكر الله تعالى وقيل هم قرّاء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله عز وجل بهذه الأشياء وقيل فيه إضمار تقديره ورب الصافات والزاجرات والتاليات وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وذلك أن كفار مكة قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها والرد على عبدة الأصنام في قولهم ثم وصف نفسه فقال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني أنه المالك القادر العالم المنزه عن الشريك.
وقوله وَرَبُّ الْمَشارِقِ قيل أراد والمغارب فاكتفى بأحدهما قال السدي المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب فإن الشمس تطلع كل يوم في مشرق وتغرب في مغرب. فإن قلت قد قال في موضع آخر رب المشرق ورب المغربين وقال رب المشرق والمغرب فكيف وجه الجمع بين هذه الآيات.
قلت أراد بالمشرق والمغرب الجهة التي تطلع فيها الشمس وتغرب وأراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبالمغربين مغرب الصيف ومغرب الشتاء وبالمشارق والمغارب ما تقدم من قول السدي وقيل كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب وقيل أراد مشارق الكواكب.
قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني التي تلي الأرض وهي أدنى السموات إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قال ابن عباس بضوء الكواكب لأن الضوء والنور من أحسن الصفات وأكملها ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس، وقيل زينتها أشكالها المتناسبة والمختلفة في الشكل كشكل الجوزاء وبنات نعش وغيرها. وقيل إن الإنسان إذا نظر في الليلة المظلمة إلى السماء ورأى هذه الكواكب الزواهر مشرقة متلألئة على سطح أزرق نظر غاية الزينة.(4/15)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
[سورة الصافات (37) : الآيات 7 الى 11]
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي وحفظنا السماء من كل شيطان متمرد عات يرمون بالشهب لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى يعني إلى الملائكة والكتبة لأنهم سكان السماء وذلك أن شياطين يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة فيخبرون به أولياءهم الإنس ويوهمون بذلك أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله من ذلك بهذه الشهب وهو قوله تعالى: وَيُقْذَفُونَ أي يرمون بها مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي آفاق السماء دُحُوراً أي يبعدونهم عن مجالس الملائكة وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي دائم إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة فَأَتْبَعَهُ أي لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ أي كوكب مضيء قوي لا يخطئه بل يقتله ويحرقه أو يخبله.
وقيل سمي النجم الذي ترمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم.
فإن قلت كيف يمكن أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ثم يعودون إلى مثل ذلك.
قلت إنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ورجاء نيل المقصود كراكب البحر يغلب على ظنه حصول السلامة.
وقوله عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ يعني سل أهل مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من السموات والأرض والجبال وهو استفهام تقرير أي هذه الأشياء أشد خلقا، وقيل أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من الأمم الخالية والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب.
ثم ذكر مم خلقوا فقال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يعني آدم من طين جيد حر لاصق لزج يعلق باليد وقيل من طين نتن.
[سورة الصافات (37) : الآيات 12 الى 19]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
بَلْ عَجِبْتَ قرئ بالضم على إسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين لأن العجب من الناس محمول على إنكار الشيء وتعظيمه والعجب من الله تعالى محمول على تعظيم تلك الحالة فإن كانت قبيحة فيترتب عليها العقاب وإن كانت حسنة فيترتب عليها الثواب، وقيل قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث «عجب ربكم من شاب ليست له صبوة» وفي حديث آخر «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم» ، وقوله من إلكم الإل أشد القنوط وقيل هو رفع الصوت بالبكاء.
وسئل الجنيد رحمه الله تعالى عن هذه الآية فقال إن الله لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ولما عجب رسوله قال «وإن تعجب فعجب قولهم» أي هو كما تقوله وقرئ بفتح التاء على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك وقيل عجب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك(4/16)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الله تعالى بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا لا يتعظون وَإِذا رَأَوْا آيَةً قال ابن عباس يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ أي يستهزئون.
وقيل يستدعي بعضهم بعضا إلى أن يسخر وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي بيّن أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ يعني أحياء.
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ يعني يوم الحساب والجزاء هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي القضاء وقيل بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا احْشُرُوا أي اجمعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا وقيل هو عام في كل ظالم وَأَزْواجَهُمْ أي أشباههم وأمثالهم فكل طائفة مع مثلها فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا وقيل أزواجهم أي قرناءهم من الشياطين يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقيل أزواجهم المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي في الدنيا يعني الأصنام والطواغيت وقيل إبليس وجنوده فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ قال ابن عباس أي دلوهم إلى طريق النار وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط للسؤال قال ابن عباس عن جميع أقوالهم وأفعالهم ويروى عنه عن لا إله إلا الله وروى عن أبي برزة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما «1» أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه» وفي رواية.
«عن شبابه فيما أبلاه» أخرجه الترمذي وله عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم توبيخا لهم ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا وهذا جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر نحن جميع منتصر قال الله تعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قال ابن عباس خاضعون. وقيل منقادون والمعنى هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 37]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني الرؤساء والأتباع يَتَساءَلُونَ يعني يتخاصمون قالُوا يعني الرؤساء للأتباع إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يعني من قبل الدين فتضلوننا وتروننا أن الدين ما تضلوننا به. وقيل كان الرؤساء يحلفون لهم أن الدين الذي يدعونهم إليه هو الحق والمعنى أنكم حلفتم لنا فوثقنا بأيمانكم وقيل عن
__________
(1) قوله فيما أفناه إلخ. كذا في النسخ بإثبات ألف ما الاستفهامية وهو قليل.(4/17)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
اليمين أي عن العزة والقدرة والقول الأول أصح قالُوا يعني الرؤساء للأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني لم تكونوا على حق حتى نضلكم عنه بل كنتم على الكفر وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ يعني ضالين فَحَقَّ عَلَيْنا يعني وجب علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا يعني كلمة العذاب وهي قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إِنَّا لَذائِقُونَ يعني أن الضال والمضل جميعا في النار فَأَغْوَيْناكُمْ فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي ضالين قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني الرؤساء والأتباع إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس الذين جعلوا لله شركاء ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب باستكبارهم عن التوحيد فقال تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى ردا عليهم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ يعني أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله من الدين والتوحد ونفي الشرك.
[سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 49]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الشرك والتكذيب إِلَّا أي لكن وهو استثناء منقطع عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الموحدين أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعني بكرة وعشيا وقيل حين يشتهونه يؤتون به وقيل إنه معلوم الصفة من طيب طعم ولذة ورائحة وحسن منظر ثم وصف ذلك الرزق فقال تعالى: فَواكِهُ جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وكل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت. وقيل إن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسادهم خلقت للأبد فكل ما يأكلونه على سبيل التلذذ ثم إن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم كما قال تعالى: وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي بثواب الله تعالى ثم وصف مساكنهم فقال تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يعني لا يرى بعضهم قفا بعض ثم وصف شرابهم فقال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ كل إناء فيه شراب يسمى كأسا وإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء وقد تسمى الخمر نفسها كأسا قال الشاعر:
وكأسا شربت على لذة ومعنى معين أي من خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون بَيْضاءَ يعني أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ أي لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقيل لا إثم فيها ولا وجع البطن ولا صداع وقيل الغول فساد يلحق في خفاء وخمر الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد ومنها السكر وذهاب العقل ووجع البطن وصداع الرأس والبول والقيء والخمار والعربدة وغير ذلك ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون وقيل معناه لا ينفد شرابهم ثم وصف أزواجهم فقال تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابسات الأعين غاضات العيون قصرن أعينهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم عِينٌ أي حسان الأعين عظامها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي مصون مستور شبههن ببيض النعام لأنها تكنها بالريش من الريح والغبار فيكون لونها أبيض في صفرة ويقال هذا من أحسن ألوان(4/18)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
النساء وهو أن تكون المرأة بيضاء مشوبة بصفرة والعرب تشبه المرأة ببيض النعامة وتسميهن ببيضات الخدور.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 62]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أهل الجنة في الجنة يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي في الدنيا ينكر البعث قيل كان قرينه شيطانا وقيل كان من الإنس قيل كانا أخوين وقيل كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وهما اللذان قص الله عز وجل خبرهما في سورة الكهف في قوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بالبعث أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكاري قالَ الله تعالى لأهل الجنة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي إلى النار وقيل يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة هل أنتم مطلعون أي لننظر كيف منزلة أخي في النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا فَاطَّلَعَ أي المؤمن قال ابن عباس إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فرأى قرينه في وسط النار سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي والله لقد كدت أن تهلكني وقيل تغويني ومن أغوى إنسانا فقد أرداه وأهلكه وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي معك في النار أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى أي في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قيل يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت فتقول الملائكة لهم لا فيقولون إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وإنما يقولونه على جهة التحدث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون ليفرحوا بدوام النعيم لا على طريق الاستفهام لأنهم قد علموا أنهم ليسوا بميتين ولا معذبين ولكن أعادوا الكلام ليزدادوا سرورا بتكراره وقيل يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره قال الله تعالى: لِمِثْلِ هذا أي المنزل والنعيم الذي ذكره في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ هذا ترغيب في ثواب الله تعالى وما عنده بطاعته.
قوله تعالى: أَذلِكَ أي الذي ذكره لأهل الجنة من النعيم. خَيْرٌ نُزُلًا أي رزقا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التي هي نزل أهل النار والزقوم شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهة وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر.
[سورة الصافات (37) : الآيات 63 الى 74]
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي للكافرين وذلك أنهم قالوا كيف تكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش إن محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر، وقيل هو(4/19)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
بلغة أهل اليمن فأدخلهم أبو جهل بيته وقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال أبو جهل تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد فقال الله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها طَلْعُها أي ثمرها سمي طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبهها لقبحهم عند الناس.
فإن قلت قد شبهها بشيء لم يشاهد فكيف وجه التشبيه.
قلت إنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين وإن لم يشاهدوا فكأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيال رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح المنظر والعرب إذا رأت منظرا قبيحا قالت كأنه رأس شيطان قال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
شبّه سنان الرمح بأنياب الغول ولم يرها وقيل إن بين مكة واليمن شجرة قبيحة منتنة تسمى رؤوس الشياطين فشبهها بها وقيل أراد بالشياطين الحيات والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانا فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً أي خلطا ومزاجا مِنْ حَمِيمٍ أي من ماء شديد الحرارة يقال إنهم إذا أكلوا الزقوم وشربوا عليه الحميم شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوبا لهم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ وذلك أنهم يردون إلى الجحيم بعد شراب الحميم إِنَّهُمْ أَلْفَوْا أي وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي يسرعون وقيل يعملون مثل عملهم وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي من الأمم الخالية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي وأرسلنا فيهم رسلا منذرين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي الكافرين وكانت عاقبتهم العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الموحدين نجوا من العذاب والمعنى انظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المخلصين. قوله عز وجل:
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 91]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعا ربه على قومه وقيل دعا ربه أن ينجيه من الغرق فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن أي دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الغم الذي لحق قومه وهو الغرق وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يعني أن الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام قال ابن عباس لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم، عن سمرة بن جندب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله عز وجل وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال «هم سام وحام ويافث» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي رواية أخرى سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم وقيل سام أبو العرب وفارس والروم وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا له حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي سلام عليه منا في العالمين وقيل(4/20)
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
تركنا عليه في الآخرين أن يصلي عليه إلى يوم القيامة إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني الكفار.
قوله عز وجل: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي من شيعة نوح لَإِبْراهِيمَ يعني أنه على دينه وملته ومنهاجه وسنته إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي مخلص من الشرك والشك وقيل من الغل والغش والحقد والحسد يحب للناس ما يحب لنفسه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ استفهام توبيخ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتأفكون إفكا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله تعالى: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يعني إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاطون ويتعاملون به لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويقربون لهم القرابين ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم وزعموا التبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه فقالوا لإبراهيم ألا تخرج معنا إلى عيدنا فنظر في النجوم فقال إني سقيم قال ابن عباس أي مطعون وكانوا يفرون من المطعون فرارا عظيما وقيل مريض وقيل معناه متساقم وهو من معاريض الكلام وقد تقدم الجواب عنه في سورة الأنبياء وقيل إنه خرج معهم إلى عيدهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي إلى عيدهم فدخل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الأصنام فكسرها وهو قوله تعالى: فَراغَ أي مال إِلى آلِهَتِهِمْ ميلة في خفية فَقالَ أي للأصنام استهزاء بها أَلا تَأْكُلُونَ يعني الطعام الذي بين أيديكم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 92 الى 99]
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ أي مال عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي ضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى من الشمال في العمل. وقيل بالقوة والقدرة عليهم وقيل أراد باليمين القسم وهو قوله تعالى وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعني إلى إبراهيم يَزِفُّونَ أي يسرعون وذلك أنهم أخبروا بصنع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه قالَ لهم إبراهيم على وجه الحجاج أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي بأيديكم من الأصنام وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي وعملكم. وقيل وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام وفي الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ قيل إنهم بنوا له حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه من الحطب وأوقدوا عليه النار وطرحوه فيها وهو قوله تعالى:
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أي شرا وهو أن يحرقوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ يعني المقهورين حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر إلى ربي وأهجر دار الكفر قاله بعد خروجه من النار سَيَهْدِينِ أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو أرض الشام فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 100 الى 103]
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)(4/21)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني هب لي ولدا صالحا فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ قيل غلام في صغره حليم في كبره وفيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي في السن حتى يوصف بالحلم.
قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال ابن عباس يعني المشي معه إلى الجبل وعنه أنه لما شبّ حتى بلغ سعيه سعى مع إبراهيم، والمعنى بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله وقيل السعي العمل لله تعالى وهو العبادة قيل كان ابن ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قيل إنه لم ير في منامه أنه ذبحه وإنما أمر بذبحه. وقيل بل رأى أنه يعالج ذبحه ولم ير إراقة دمه ورؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه على قولين مع اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق، قال قوم هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود والعباس ومن التابعين، ومن بعدهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي واختلفت الروايات عن ابن عباس فروى عنه أنه إسحاق وروي أنه إسماعيل، ومن ذهب إلى أنه إسحاق قال كانت هذه القصة بالشأم وروي عن سعيد بن جبير قال رأى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام وهو بالشأم فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر من منى فلما أمره الله بذبح الكبش ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال، والقول الثاني أنه إسماعيل وإليه ذهب عبد الله بن سلام والحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي ورواية عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال المفدي إسماعيل، وكلا القولين يروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واحتج من ذهب إلى أن الذبيح إسحاق بقوله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق كما قال تعالى في سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وقوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ بعد قصة الذبح يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من الشدائد في قصة الذبح فثبت بما ذكرناه أن أول الآية وآخرها يدل على أن إسحاق هو الذبيح وبما ذكر أيضا في كتاب يعقوب إلى ولده يوسف لما كان بمصر من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
واحتج من ذهب إلى أن الذبيح هو إسماعيل بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة الذبيح فقال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فدل على أن المذبوح غيره وأيضا فإن الله تعالى قال في سورة هود فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة وهو يعقوب بعده ووصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد بقوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى له بذلك وقال القرطبي سأل عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود وكان أسلم وحسن إسلامه أي ابني إبراهيم أمره الله تعالى بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكن يحسدونكم يا معشر العرب على أن يكون أباكم هو الذي أمر الله تعالى بذبحه ويدعون أنه إسحاق أبوهم ومن الدليل أيضا أن قرني الكبش كانا معلقين على الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير. قال الشعبي رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة. وقال ابن عباس: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد وحش يعني يبس وقال الأصمعي سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة إنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه والله تعالى أعلم.
(ذكر الإشارة إلى قصة الذبح) قال العلماء بالسير وأخبار الماضين لما دعا إبراهيم ربه فقال: رب هب لي من الصالحين وبشر به قال هو(4/22)
إذا لله ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له أوف بنذرك. هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح فقال لإسحاق انطلق نقرب لله قربانا فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت أين قربانك فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر. وقال محمد بن إسحاق كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يؤمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أمر في المنام بذبحه وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح تروى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي ذلك اليوم يوم عرفة. وقيل رأى ذلك ثلاث ليال متتابعات فلما عزم على نحره سمي ذلك اليوم يوم النحر فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فَانْظُرْ ماذا تَرى أي في الرأي على وجه المشاورة.
فإن قلت: لم شاوره في أمر قد علم أنه حتم من الله تعالى وما الحكمة في ذلك.
قلت لم يشاوره ليرجع إلى رأيه وإنما شاوره ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله تعالى وليعلم صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته ويثبت قدمه ويصبره إن جزع ويراجع نفسه ويوطنها ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله.
فإن قلت لم كان ذلك في المنام دون اليقظة وما الحكمة في ذلك؟ قلت إن هذا الأمر كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح.
فورد في المنام كالتوطئة له ثم تأكد حال النوم بأحوال اليقظة فإذا تظاهرت الحالتان كان أقوى في الدلالة ورؤيا الأنبياء وحي وحق قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يعني قال الغلام لأبيه افعل ما أمرت به قال ابن إسحاق وغيره لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب أخبره بما أمر الله به فقال افعل ما تؤمر سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ إنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك وأنه لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله تعالى ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله فَلَمَّا أَسْلَما يعني انقادا وخضعا لأمر الله وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أسلم ابنه وأسلم الابن نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني صرعه على الأرض قال ابن عباس أضجعه على جبينه على الأرض فلما فعل ذلك قال له ابنه يا أبت أشدد رباطي كيلا أضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون عليّ فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله ففعل إبراهيم ما أمره به ابنه ثم أقبل عليه يقبله وهو يبكي وقد ربطه والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك شيئا. ثم إنه حدها مرتين أو ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئا. قيل ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه والأول أبلغ في القدرة وهو منع الحديد عن اللحم، قالوا فقال الابن عند ذلك: يا أبت كبني لوجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع منها ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. وروي عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا لما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ابنه قال الشيطان لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام فقال لها هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك قالت(4/23)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
ذهب به ليحتطب من هذا الشعب قال لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه قالت كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك قال إنه يزعم أن الله أمره بذلك قالت إن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه. فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على أثر أبيه فقال له يا غلام هل تدري أن يذهب بك أبوك قال نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال لا والله ما يريد إلا أن يذبحك قال، ولم قال إن ربه أمره بذلك قال فليفعل ما أمره به ربه فسمعا وطاعة فلما امتنع الغلام أقبل على إبراهيم فقال له أين تريد أيها الشيخ قال هذا الشعب لحاجة لي فيه قال والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا فعرفه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال إليك عني يا عدو الله فو الله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئا مما أراد وامتنعوا منه بعون الله تعالى وروى عن ابن عباس أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل وهو قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 104 الى 106]
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَنادَيْناهُ أي فنودي من الجبل أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي حصل المقصود من تلك الرؤيا حيث ظهر منه كمال الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى وكذلك الولد.
فإن قلت كيف قيل قد صدقت الرؤيا وكان قد رأى الذبح ولم يذبح وإنما كان تصديقها لو حصل منه الذبح.
قلت جعله مصدقا لأنه بذل وسعه ومجهوده وأتى بما أمكنه وفعل ما يفعله الذابح فقد حصل المطلوب وهو إسلامهما لأمر الله تعالى وانقيادهما لذلك، فلذلك قال له قد صدقت الرؤيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده والمعنى إنا كما عفونا عن ذبح ولده كذلك نجزي المحسنين في طاعتنا إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختبار الظاهر حيث اختبره بذبح ولده.
[سورة الصافات (37) : الآيات 107 الى 116]
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قيل نظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن فقال هذا فداء ابنك فاذبحه دونه فكبر إبراهيم وكبر جبريل وكبر الكبش، فأخذه إبراهيم وأتى به المنحر من منى فذبحه قال أكثر المفسرين كان هذا الذبح كبشا رعى في الجنة أربعين خريفا وقال ابن عباس الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم قيل حق له أن يكون عظيما وقد تقبل مرتين وقيل سمي عظيما لأنه من عند الله تعالى. وقيل لعظمه في الثواب وقيل لعظمه وسمنه وقال الحسن ما فدى إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي تركنا له ثناء حسنا فيمن بعده سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي بوجود إسحاق وهذا على قول من يقول إن الذبيح هو إسماعيل ومعناه أنه بشر بإسحاق بعد هذه القصة جزاء لطاعته وصبره ومن جعل الذبيح هو إسحاق قال معنى الآية(4/24)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
وبشرناه بنبوة إسحاق. وكذا روى عن ابن عباس قال بشر به مرتين حين ولد وحين نبىء وَبارَكْنا عَلَيْهِ يعني على إبراهيم في أولاده وَعَلى إِسْحاقَ أي يكون أكثر الأنبياء من نسله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي كافر مُبِينٌ أي ظاهر الكفر، وفيه تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي أنعمنا عليهما بالنبوة والرسالة وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما يعني بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ يعني الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم وقيل هو إنجاؤهم من الغرق وَنَصَرْناهُمْ يعني موسى وهارون وقومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي على القبط.
[سورة الصافات (37) : الآيات 117 الى 123]
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ يعني التوراة الْمُسْتَبِينَ المستنير وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دللناهما على طريق الجنة وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أي الثناء الحسن سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ روي عن ابن مسعود أنه قال إلياس هو إدريس وكذلك هو في مصحفه وقال أكثر المفسرين هو نبي من أنبياء بني إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
(ذكر الإشارة إلى القصة) قال محمد بن إسحاق وعلماء السير والأخبار لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي عليه الصلاة والسلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيا وكان الأنبياء يبعثون من بعد موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وإن سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم إلياس وعليهم يومئذ ملك اسمه آجب وكان قد أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام وكان له صنم من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة وجوه اسمه بعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب فغصبت من رجل مؤمن جنينة كان يتعيش منها فأخذتها وقتلته فبعث الله سبحانه وتعالى إلياس إلى الملك وزوجته وأمره أن يخبرهما أن الله عز وجل قد غضب لوليه حين قتل ظلما وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويرد الجنينة على ورثة المقتول أهلكهما في جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها ولا يتمتعان فيها إلا قليلا، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة فلما سمع الملك ذلك غضب واشتد غضبه عليه وقال يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلا، وهمّ بتعذيب إلياس وقتله فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هاربا ورجع الملك إلى عبادة بعل ولحق إلياس بشواهق الجبال فكان يأوي إلى الشعاب والكهوف فبقي سبع سنين على ذلك خائفا مستخفيا يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه وقد وضعوا عليه العيون والله يستره منهم: فلما طال(4/25)
الأمر على إلياس وسكنى الكهوف في الجبال وطال عصيان قومه ضاق بذلك ذرعا فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي سلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال يا رب تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني فأوحى الله تعالى إليه يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها وإنما صلاحها وقوامها بك وبأشباهك وإن كنتم قليلا ولكن سلني أعطك فقال إلياس إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل قال الله عز وجل وأي شيء تريد أن أعطيك، قال تملكني خزائن السماء سبع سنين فلا تسير عليهم سحابة إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة إلا بشفاعتي فإنه لا يذلهم إلا ذلك قال الله عز وجل يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، قال فست سنين قال أنا أرحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال أنا أرحم بخلقي ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك قال إلياس فبأي شيء أعيش يا رب قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل لك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط قال إلياس قد رضيت فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا وإلياس على حاله مستخفيا من قومه يوضع له لرزق حيث كان وقد عرف قومه ذلك. قال ابن عباس أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها أعندك طعام قالت نعم شيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا به ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا فلما رأوا ذلك عندها قالوا من أين لك هذا قالت مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته
فعرفوه وقالوا ذلك إلياس فطلبوه فوجوده فهرب منهم ثم إنه آوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل ولها ابن يقال له اليسع بن أخطوب بن ضر فآوته وأخفت أمره فدعا لابنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وذهب معه حيثما ذهب. وكان إلياس قد كبر وأسن واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر، فيزعمون أن إلياس قال: يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم يرجعون عما هم فيه ينزعون عن عبادة غيرك فقيل له نعم. فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال:
إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله تعالى ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، فقالوا أنصفت فخرجوا بأوثانهم ودعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء فقالوا يا إلياس إنا قد أهلكنا فادع الله لنا، فدعا إلياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عز وجل عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار وقيل لونه كالنار حتى وقف بين أيدي إلياس فوثب عليه فانطلق به الفرس فناداه اليسع يا إلياس ما تأمرني فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل وكان ذلك آخر العهد به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وسلط الله عز وجل على آجب الملك وقومه عدوا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل آجب وامرأته أزبيل في الجنينة التي اغتصبتها امرأة الملك من ذلك المؤمن فلم تزل جثتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ونبأ الله سبحانه وتعالى اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم الله تعالى فيهم قائم(4/26)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
إلى أن فارقهم اليسع، روى السدي عن يحيى بن عبد العزيز عن أبي راود قال إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوفيان الموسم في كل عام وقيل إن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 124 الى 128]
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا يعني أتعبدون بعلا وهو صنم كان لهم يعبدونه ولذلك سميت مدينتهم بعلبك قيل البعل الرب بلغة أهل اليمن وَتَذَرُونَ أي وتتركون عبادة أَحْسَنَ الْخالِقِينَ فلا تعبدونه اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في النار إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي من قومه الذين آمنوا به فإنهم نجوا من العذاب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 129 الى 143]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرئ آل ياسين بالقطع قيل أراد آل محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل آل القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن وفيه بعد وقرئ الياسين بالوصل ومعناه إلياس وأتباعه من المؤمنين إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله تعالى: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب ثُمَّ دَمَّرْنَا
أي أهلكنا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ
أي أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
أي على آثارهم ومنازلهم مُصْبِحِينَ
أي في وقت الصباح وَبِاللَّيْلِ
أي وبالليل في أسفاركم أَفَلا تَعْقِلُونَ
أي فتعتبرون بهم.
قوله عز وجل: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أي من جملة رسل الله تعالى إِذْ أَبَقَ
أي هرب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أي المملوء قال ابن عباس ووهب كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمستور منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون ها هنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت على يونس فاقترعوا ثلاثا وهي تقع على يونس فقال أنا الآبق وزجّ نفسه في الماء.
وقيل إنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب وذهب المركب وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر فبقي فريدا فجاء مركب فركبه وقعد ناحية من القوم فلما مرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل وقوف السفينة فيما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فاقترعوا فمن خرج سهمه نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرج سهم يونس فذلك قوله تعالى: فَساهَمَ
أي فقارع فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
يعني من المقرعين المغلوبين في سورة يونس والأنبياء فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله عز وجلّ قبل ذلك(4/27)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وكان كثير الذكر وقال ابن عباس من المصلحين وقيل من العابدين. قال الحسن ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا فشكر الله تعالى له طاعته القديمة قال بعضهم اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك فقال فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 144 الى 147]
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وقيل لولا أنه كان يسبح في بطن الحوت بقوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل: فَنَبَذْناهُ أي طرحناه إنما أضاف النبذ إلى نفسه وإن كان الحوت هو النابذ لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى: بِالْعَراءِ أي بالأرض الخالية عن الشجر والنبات. وقيل بالساحل وَهُوَ سَقِيمٌ أي عليل كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم تبق له قوة قيل إنه لبث في بطن الحوت ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل عشرين يوما وقيل أربعين وقيل التقمه ضحى ولفظه عشية وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يعني القرع قيل إن كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض كالقرع والقثاء والبطيخ ونحوه فهو يقطين، قيل أنبتها الله تعالى له ولم تكن قبل ذلك وكانت معروشة ليحصل له الظل وفي شجر القرع فائدة وهي أن الذباب لا يجتمع عندها فكان يونس يستظل بتلك الشجرة ولو كانت منبسطة على الأرض لم يكن أن يستظل بها قيل وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي فنام نومة ثم استيقظ وقد يبست الشجرة وأصابه حر الشمس فحزن حزنا شديدا وجعل يبكي فأرسل الله تعالى إليه جبريل وقال أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك قد أسلموا وتابوا وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قيل أرسله إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه والمعنى وكنا أرسلناه إلى مائة ألف فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانيا وقيل كان إرساله إليهم بعد خروجه من بطن الحوت وقيل يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين أَوْ يَزِيدُونَ قال ابن عباس معناه ويزيدون وقيل معناه بل يزيدون وقيل أو على أصلها والمعنى أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على ذلك فالشك على تقدير المخلوقين والأصح هو قول ابن عباس الأول.
وأما الزيادة فقال ابن عباس كانوا عشرين ألفا، ويعضده ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال يزيدون عشرين ألفا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقيل يزيدون بضعا وثلاثين ألفا وقيل سبعين ألفا.
[سورة الصافات (37) : الآيات 148 الى 160]
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152)
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)(4/28)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
فَآمَنُوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى انقضاء آجالهم.
قوله عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ أي فسل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله.
والمعنى جعلوا لله البنات ولهم البنين وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف ينسب للخالق أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون خلقنا إياهم أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي من كذبهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي في زعمهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما زعموا أَصْطَفَى الْبَناتِ أي في زعمكم عَلَى الْبَنِينَ وهو استفهام توبيخ وتقريع ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي بالبنات لله ولكم بالبنين أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتعظون أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي برهان بين على أن لله ولدا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
يعني الذي لكم فيه حجة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
أي في قولكم وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قيل أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار.
قال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن.
وقيل معنى النسب أنهم أشركوا في عبادة الله تعالى.
وقيل هو قول الزنادقة الخير من الله والشر من الشيطان وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ يعني قائلي هذا القول لَمُحْضَرُونَ أي في النار سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزه الله تعالى نفسه عما يقولون إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ هذا استثناء من المحضرين والمعنى أنهم لا يحضرون.
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 171]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
فَإِنَّكُمْ يعني يا أهل مكة وَما تَعْبُدُونَ أي من الأصنام ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ أي بمضلين أحدا إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة وأنه سيدخل النار.
قوله تعالى إخبارا عن حال الملائكة وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يعني أن جبريل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه. وقال ابن عباس ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح. وروى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا» أخرجه الترمذي. وهو طرف من حديث قيل الأطيط أصوات الأقتاب وقيل أصوات الإبل وحنينها، ومعنى الحديث ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت وهذا مثل مؤذن بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط وقيل معنى إلا له مقام معلوم أي في القرب والمشاهدة وقيل يعبد الله على مقامات مختلفة كالخوف والرجاء والمحبة والرضا وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ يعني الملائكة صفوا أقدامهم في عبادة الله تعالى كصفوف الناس في الصلاة في الأرض وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المصلون لله تعالى وقيل المنزهون لله تعالى عن كل سوء يخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار قوله عز وجل: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ يعني كفار مكة قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني كتابا مثل كتاب الأولين لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة لله فَكَفَرُوا بِهِ أي فلما(4/29)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
أتاهم الكتاب كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه تهديد لهم قوله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ يعني تقدم وعدنا لعبادنا المرسلين بنصرهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 172 الى 182]
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي بالحجة البالغة إِنَّ جُنْدَنا
أي حزبنا المؤمنين هُمُ الْغالِبُونَ
أي لهم النصرة في العاقبة فَتَوَلَّ أي أعرض عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس يعني الموت وقيل إلى يوم بدر وقيل حتى آمرك بالقتال وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل إلى أن يأتيهم العذاب وَأَبْصِرْهُمْ أي إذا نزل بهم العذاب فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي ذلك فعند ذلك قالوا متى هذا العذاب قال الله عز وجل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب بِساحَتِهِمْ أي بحضرتهم وقيل بفنائهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا العذاب (ق) عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا خيبر فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا أنزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات» ثم كرر ذكر ما تقدم تأكيدا لوعيد العذاب فقال تعالى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وقيل المراد من الآية الأولى ذكر أحوالهم في الدنيا وهذه ذكر أحوالهم في الآخرة فعلى هذا القول يزول التكرار وَأَبْصِرْ أي العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي الغلبة والقدرة وفيه إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث عَمَّا يَصِفُونَ أي عن اتخاذ الشركاء والأولاد وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي الذين بلغوا عن الله عز وجل التوحيد والشرائع لأن أعلى مراتب البشر أن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا جرم يجب على كل أحد الاقتداء بهم والاهتداء بهداهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء وقيل الغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/30)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
سورة ص
ويقال لها سورة داود عليه الصلاة والسلام وهي مكية وهي ست وقيل ثمان وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
قوله عز وجل: ص قيل هو قسم وقيل اسم للسورة وقيل هو مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد والصبور وقيل معناه صدق الله وعن ابن عباس صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس أي ذي البيان وقيل ذي الشرف وهو قسم قيل وجوابه قد تقدم وهو قوله تعالى ص أقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لصادق وقيل جواب القسم محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما تقول الكفار دل على هذا المحذوف، قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقيل بل الذين كفروا موضع القسم وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ والقرآن ذي الذكر وقيل جوابه «إن كل إلا كذب الرسل» وقيل جوابه «إن هذا لرزقنا» وقيل «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وهذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقيل بل لتدارك كلام ونفي آخر ومجاز الآية أن الله تعالى أقسم بص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا من أهل مكة في عزة أي حمية وجاهلية وتكبر عن الحق وشقاق أي خلاف وعداوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني من الأمم الخالية فَنادَوْا أي استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين فرار وتأخر قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل الله عز وجل: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين هذا القول.
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 8]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)
وَعَجِبُوا يعني كفار مكة أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قوله عز وجل: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب وقالوا له أنت شيخنا(4/31)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنما أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وماذا يسألونني» قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل لله أبوك لنعطينكها وعشرة أمثالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قولوا لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسمع الخلق إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجب وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب أَنِ امْشُوا أي يقول بعضهم لبعض امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا وذلك أن عمر رضي الله عنه لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لشيء يراد بنا وقيل يراد بأهل الأرض وقيل يراد بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يملك علينا ما سَمِعْنا بِهذا أي بالذي يقوله محمد من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل وإنهم لا يوحدون الله بل يقولون ثالث ثلاثة وقيل يعنون ملة قريش وهي دينهم الذي هم عليه إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي كذب وافتعال أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا ولا أشرفنا قال الله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي وحيي وما أنزلت بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول.
[سورة ص (38) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا الْعَزِيزِ أي في ملكه الْوَهَّابِ الذي وهب النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ليس لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون. وقيل أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وهذا أمر توبيخ وتعجيز جُنْدٌ ما هُنالِكَ أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك مَهْزُومٌ أي مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني أن قريشا من جملة الأجناد الذين تجمعوا وتحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز وجل معزيا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عباس: ذو البناء المحكم. وقيل ذو الملك الشديد الثابت والعرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد وقال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقيل ذو قوة وأصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد، وقيل ذو القوة والبطش. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما والجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وقيل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها، فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى وتد فيتركه حتى يموت. وقيل يرسل عليه العقارب والحيات. وقيل كانت له أوتاد وأحبال وملاعب يلعب عليها بين يديه.(4/32)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
[سورة ص (38) : الآيات 13 الى 17]
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم الله تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي إن أولئك الطوائف والأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب وفي الآية زجر وتخويف للسامعين وَما يَنْظُرُ أي ينتظر هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي رجوع والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول وقيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالا منه بالعذاب وقال ابن عباس يعني كتابنا والقط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط وقيل القط كتاب الجوائز، قال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار من التكذيب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ قال ابن عباس ذا القوة في العبادة (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» وقيل معناه ذا القوة في الملك إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره وقال ابن عباس مطيع لله عز وجل وقيل مسبح بلغة الحبشة.
[سورة ص (38) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي بتسبيحه إذا سبح بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي غدوة وعشية والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلّى الضحى فقال «يا أم هانئ إن هذه صلاة الإشراق» قلت والذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانئ في صلاة الضحى، قالت أم هانئ: ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام وصلّى ثمان ركعات ملتحفا بثوب قالت أم هانئ وذلك ضحى» ولهما عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال «ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود» .
قوله تعالى: وَالطَّيْرَ أي وسخرنا له الطير مَحْشُورَةً أي مجموعة إليه تسبح معه كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بالحرس والجنود، قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابا كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. وروي عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم، عند داود عليه الصلاة والسلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن(4/33)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن الله عز وجل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس يعني بيان الكلام وقال ابن مسعود علم الحكم والتبصر بالقضاء وقال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به. وقال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود والأيمان وقيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه الصلاة والسلام.
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 22]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)
قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ أي وقد أتاك يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك. وقيل ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة والتشويق إلى استماع كلام الخصماء والخصم يقع على الواحد والجمع إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي صعدوا وعلوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة والعبادة والمعنى أنهم أتوا المحراب من سوره وهو أعلاه، وفي الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة والسلام. واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك وسأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق بمنصبه صلّى الله عليه وسلّم لأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها وأما ما قاله المفسرون «1» إن داود عليه الصلاة والسلام تمنى يوما من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ويوم لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنمرود وذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف. فقال داود عليه الصلاة والسلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضا فأوحى الله عز وجلّ إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس. فلما كان اليوم الذي وعده الله به دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له، فأبصر امرأة في بستان على شاطئ بركة تغتسل وقيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها فقيل هي شايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم
__________
(1) قوله وأما ما قاله المفسرون إلخ لم يذكر جوابه وقد ذكره صاحب الكشاف فقال بعد ذكر القصة فهذا ونحوه ما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء اهـ.(4/34)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليه الصلاة والسلام. وقيل إن داود أحب أن يقتل أوريا فيتزوج امرأته فهذا كان ذنبه. وقال ابن مسعود: كان ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته. وقيل كان ذلك مباحا لهم غير أن الله عز وجل لم يرض لداود ذلك لأنه رغبة في الدنيا وازدياد من النساء وقد أغناه الله تعالى عنها بما أعطاه من غيرها. وقيل في سبب امتحان داود أنه كان جزأ الدهر أجزاء يوما لنسائه ويوما للعبادة ويوما للحكم بين بني إسرائيل ويوما يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا، فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك وقيل إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلى اعتصم فلما كان يوم عبادته أغلق عليه الأبواب وأمر أن لا يدخل عليه أحد وأكبّ على قراءة التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت حمامة وذكر نحو ما تقدم فلما دخل بالمرأة لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجلّ الملكين إليه. وقيل إن داود عليه السلام ما زال يجتهد في العبادة حتى برز له حافظاه من الملائكة فكانوا يصلون معه فلما استأنس منهم قال أخبروني بأي شيء أنتم موكلون، قالوا نكتب صالح أعمالك ونوافقك ونصرف عنك السوء فقال في نفسه: ليت شعري كيف أكون لو خلوني ونفسي وتمنى ذلك ليعلم كيف يكون فأوحى الله تعالى إلى الملكين أن يعتزلاه ليعلم أنه لا غنى له عن الله تعالى فلما فقدهم جد واجتهد في العبادة إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه ضعفه فأرسل طائرا من طيور الجنة وذكر نحو ما تقدم. وقيل إن داود قال لبني إسرائيل لأعدلن بينكم ولم يستثن فابتلى وقيل إنه أعجبه عمله فابتلى فبعث الله إليه ملكين في صورة رجلين وذلك في يوم عبادته فطلبا أن يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فما شعر إلا وهما بين يديه جالسان وهو يصلي يقال كانا جبريل وميكائيل فذلك قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ أي خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه فقال لهما من أدخلكما عليّ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى وخرج عن الحد جئناك لتقضي بيننا.
فإن قلت إذ جعلتهما ملكين فكيف يتصور البغي منهما والملائكة لا يبغي بعضهم على بعض؟.
قلت هذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما والمعنى رأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في حكمك وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ
أي أرشدنا إلى طريق الحق والصواب فقال لهما داود تكلما فقال أحدهما.
[سورة ص (38) : آية 23]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
إِنَّ هذا أَخِي على ديني وطريقتي لا من جهة النسب لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً يعني امرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ أي امرأة واحدة والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وهذا على سبيل التعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فَقالَ أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس أي أعطنيها وقيل معناه انزل عنها وضمها إلي واجعلني كافلها والمعنى طلقها لأتزوجها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ يعني غلبني وقهرني في القول لأنه أفصح مني في الكلام وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه والمعنى أن الغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده وإن كان الحق وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها داود إلى نسائه.(4/35)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
[سورة ص (38) : الآيات 24 الى 25]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي بضمها إلى نعاجه. فإن قلت كيف قال داود لقد ظلمك ولم يكن سمع قول الآخر قلت معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك وقيل إنما قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي يظلم بعضهم بعضا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يظلمون أحدا وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي هم قليل وما صلة.
والمعنى أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل فلما قضى داود بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك وصعد إلى السماء فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه فذلك قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أي أيقن وعلم أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وامتحناه وقال ابن عباس: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم داود أنه إنما عنى به. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن داود النبي صلّى الله عليه وسلّم حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بني إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده. فجاء جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود، فقال جبريل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن قال نعم فعرج جبريل وسجد داود ما شاء الله تعالى ثم نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن الله تعالى يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول:
هو لك يا رب فيقول الله تعالى فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عن دمك فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
(فصل في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه) اعلم أن من خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء ذلك. روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء. وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه الله في قصة داود وظن داود أن ما فتناه وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود. قال الإمام فخر الدين حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه الصلاة والسلام. هذا وقال غيره إن الله تعالى أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقوله من(4/36)
القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.
فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك.
قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم الله تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .
فإن قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية؟
قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل. انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها، فعاتبه الله تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا وقيل إن داود تمنى أن تكون امرأة أوريا له فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله تعالى. وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمّ لذلك أوريا فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها، فعوتب داود بسببين أحدهما: خطبته على خطبة أخيه والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالما بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله أعلم.
وقوله عز وجل: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل ربه الغفران وَخَرَّ راكِعاً أي ساجدا، عبّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء. وقيل معناه وخرّ ساجدا بعد ما كان راكعا والله تعالى أعلم بمراده.
(فصل) اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال: لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة: هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة، وعن أحمد: في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها (خ) . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللنسائي «عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكرا» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم(4/37)
فنزل وسجد وسجدوا» أخرجه أبو داود قوله تشوف الناس يعني تهيئوا وتأهبوا واستعدوا للسجود وعن ابن عباس قال «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول اللهم اكتب لي بها أجرا وحطّ عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام» . قال ابن عباس: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي قال المفسرون سجد داود أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر سبحان خالق النور إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه سبحان خالق النور إلهي كيف تستر الخطاؤون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي سبحان خالق النور إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني سبحان خالق النور إلهي أعوذ بوجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور وقيل مكث داود أربعين يوما لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أظمآن أنت فتسقى أمظلوم أنت فتنصر فأجيب في غير ما طلب ولم يجب في ذكر خطيئته بشيء فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى له التوبة والمغفرة. قال وهب: إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، قال فانطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى يا أوريا فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال
ما جاء بك يا نبي الله قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إليّ قال عرضتك للقتل قال بل عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالغيب ألا أعلمته إنك قد تزوجت امرأته، قال فرجع فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه مرة فلم يجبه وعاوده فلم يجبه فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وضعت الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له رضيت عبدي فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي، فأقول هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله فاستغفر ربه وخرّ راكعا وَأَنابَ أي رجع فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا أي يوم القيامة بعد المغفرة لَزُلْفى أي لقربة ومكانة وَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب.(4/38)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله. وعن الأوزاعي مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن مثل عيني داود عليه الصلاة والسلام كالقربتين ينقطان ماء ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض» .
وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود قال: يا رب أغفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة، قال فوسم الله تعالى خطيئته في يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها وما قام خطيبا في الناس إلا وبسط راحته فاستقبل بها الناس ليروا وسم خطيئته وكان يبدأ إذا دعا واستغفر بالخاطئين قبل نفسه. وعن الحسن قال: كان داود عليه الصلاة والسلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين يقول تعالوا إلى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين قال وكان داود عليه الصلاة والسلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله. وقال ثابت كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشهدها إلا الأسر وإذا ذكر رحمة الله تراجعت وقيل إن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته.
وقيل إنها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك.
[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 28]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
قوله عز وجل: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي لتدبر أمر الناس بأمر نافذ الحكم فيهم فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله وطريقه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بما تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقيل بتركهم العمل بذلك اليوم وقيل بترك العدل في القضاء.
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا قال ابن عباس: لا لثواب ولا لعقاب.(4/39)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
وقيل معناه ما خلقناهما عبثا لا لشيء ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنما خلقناهم لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قيل إن كفار قريش قالوا للمؤمنين إنما نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ يعني الذين اتقوا الشرك وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم كَالْفُجَّارِ يعني الكفار والمعنى لا نجعل الفريقين سواء في الآخرة.
[سورة ص (38) : الآيات 29 الى 32]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32)
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ أي هذا كتاب يعني القرآن أنزلناه إليك مُبارَكٌ أي كثير خيره ونفعه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتدبروا ويتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة وقيل تدبر آياته اتباعه في أوامره ونواهيه وَلِيَتَذَكَّرَ أي وليتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ذوو العقول والبصائر.
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل إن سليمان عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ما أصاب وهو ألف فرس وقيل ورثها من أبيه وقيل إنها كانت خيلا من البحر لها أجنحة فصلى سليمان عليه الصلاة والسلام الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتمّ لذلك وقال ردّوها عليّ فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى الله تعالى وطلبا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحا له وإن كان حراما علينا وبقي منها مائة فرس فالذي في أيدي الناس من الخيل يقال إنه من نسل تلك المائة فلما عقرها الله تعالى أبدله الله تعالى خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، وقوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم مقيمة الرابعة على طرف الحافر من رجل أو يد وقيل الصافن القائم وجاء في الحديث «من سرّه أن يقوم له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي قياما الجياد: أي الخيار السراع في الجري واحده جواد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل سميت به لأنه معقود في نواصيها الخير الأجر والغنيمة وقيل حب الخير يعني المال ومنه الخيل التي عرضت عليه عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني صلاة العصر حَتَّى تَوارَتْ أي استترت الشمس بِالْحِجابِ أي ما يحجبها من الأبصار يقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه.
[سورة ص (38) : الآيات 33 الى 34]
رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
رُدُّوها عَلَيَّ أي ردوا الخيل علي فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق وَالْأَعْناقِ أي جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف، هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحا له لأن نبي الله سليمان لم يكن ليقدم على محرم ولم يكن ليتوب عن ذنب وهو ترك الصلاة بذنب آخر وهو عقر الخيل، وقال محمد بن إسحاق: لم يعنفه الله تعالى على عقره الخيل إذ كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربه عز وجلّ، وقيل إنه ذبحها وتصدق بلحومها. وقيل معناه إنه حبسها في سبيل الله تعالى وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة. وحكي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: معنى ردوها عليّ يقول بأمر الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس ردوها(4/40)
عليّ فردوها عليه فصلى العصر في وقتها قال الإمام فخر الدين بل التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا ثم إن سليمان عليه الصلاة والسلام احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله عن ذكر ربي ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله ردوها عليّ فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور الأول تشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه الثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه، فنقول: لنا هاهنا مقامات المقام الأول أن يدعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهروا الحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه، المقام الثاني: أن يقال هب أن لفظ الآية يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وأن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات.
قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون وبها ملك عظيم الشأن ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان الله تعالى قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشقّ ذلك على سليمان، فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ، قالت: إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك فقال سليمان: فقد أبدلك الله ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك قالت إن ذلك كذلك ولكني إذ ذكرته أصابني ما تراه من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فألبسته ثيابا مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه وتروح في كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا. وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقا له وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرا سليمان أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم. فقال: افعل فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى وأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله تعالى به حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملئ غضبا فلما دخل سليمان داره دعاه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت(4/41)
عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيرا في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟ قال آصف: إنّ غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال سليمان في داري؟ قال: في دارك قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى الله تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك به في ثيابه تذللا إلى الله تعالى وتضرعا إليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد يقال لها أمينة كان إذا دخل الخلاء أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال: خاتمي أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغيرت حالته وهيأته عند كل من رآه فقال: يا أمينة خاتمي قالت من أنت قال سليمان بن داود فقالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان. فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوي الأخرى فيأكلها.
فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان يعبد الوثن في داره ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم قالوا نعم فقال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم فدخل على نسائه فقال: ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشده ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من الجنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الحسن: ما كان الله سبحانه وتعالى ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى الله عليه وسلّم قال وهب: ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أشد مما في العامة فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه فلما أمسى أعطاه سمكتيه فباع سليمان إحداهما بأرغفة وبقر بطن الأخرى ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده ووقع لله ساجدا وعكفت عليه الطير والجن وأقبل الناس عليه وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فطلبوه حتى أخذوه فأتي به فأدخله في جوف صخرة وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذفوه في البحر. وقيل في سبب فتنة سليمان عليه الصلاة والسلام أن جرادة كانت أبرّ نسائه عنده وكان يأتمنها على خاتمه، فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله نعم وذكروا نحو ما تقدم.
وقيل إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده فأعاده في يده فسقط وكان فيه ملكه فأيقن سليمان بالفتنة فأتاه آصف فقال: إنك مفتون بذلك والخاتم لا يتماسك في يدك ففرّ إلى الله تعالى تائبا فإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك. ففر سليمان إلى الله تعالى تائبا وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت في(4/42)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
يده فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته أربعة عشر يوما إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه وتاب عليه فرجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده فثبت فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه. وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله تعالى وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه، قال القاضي عياض وغيره من المحققين: لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه وإن الشياطين لا يسلطون على مثله هذا وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا، والذي ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الله الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسنا أجمعين» وفي رواية لأطوفنّ بمائة امرأة فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسي قال العلماء والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه وقيل إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذا ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشياطين ولم يتوكل عليه في ذلك، فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ
أي رجع إلى ملكه بعد الأربعين يوما وقيل أناب إلى الاستغفار وهو قوله:
[سورة ص (38) : آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي سأل ربه المغفرة وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي لا يكون لأحد من بعدي وقيل لا تسلبنيه في باقي عمري وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فإن قلت قول سليمان لا ينبغي لأحد من بعدي مشعر بالحسد والحرص على الدنيا.
قلت لم يقل ذلك حرصا على طلب الدنيا ولا نفاسة بها ولكن كان قصده في ذلك أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى وهذا على قول من قال إن الشيطان استولى على ملكه.
وقيل سأل ذلك ليكون علما وآية لنبوته ومعجزة دالة على رسالته ودلالة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه وردّ ملكه إليه وزاده فيه وقيل كان سليمان ملكا ولكنه أحب أن يخص بخاصية كما خص داود بإلانة الحديد وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فسأل شيئا يختص به كما روى في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا» قوله تعالى:
[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 42]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)(4/43)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أي لينة ليست بعاصفة حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ أي يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يعني يستخرجون له اللئالئ من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ أي وسخرنا له آخرين وهم مردة الشياطين مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مشدودين في القيود سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد هذا عَطاؤُنا أي قلنا له هذا عطاؤنا فَامْنُنْ أي أحسن إلى من شئت أَوْ أَمْسِكْ أي عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا حرج عليك فيما أعطيت ولا فيما أمسكت قال الحسن: ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم تكن عليه تبعة وقيل هذا في أمر الشياطين يعني هؤلاء الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخل عنه وأمسك أي احبس من شئت منهم في العمل وقيل في الوثاق لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ لما ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه في الدنيا أتبعه بما أنعم به عليه في الآخرة.
قوله عز وجل: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي بمشقة وَعَذابٍ أي ضر وذلك في المال والجسد وقد تقدمت قصة أيوب ارْكُضْ يعني أنه لما انقضت مدة ابتلائه قيل له اركض أي اضرب بِرِجْلِكَ يعني الأرض ففعل فنبعت عين ماء عذب هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أمره الله تعالى أن يغتسل منه ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب أخرى فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه فذلك قوله عز وجل: وَشَرابٌ.
[سورة ص (38) : الآيات 43 الى 52]
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا أي إنما فعلنا ذلك معه على سبيل التفضل والرحمة لا على اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني سلّطنا البلاء عليه فصبر، ثم أزلناه عنه وكشفنا ضره فشكر فهو موعظة لذوي العقول والبصائر وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي ملء كفك من حشيش أو عيدان أو ريحان فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط فشكر الله حسن صبرها معه فأفتاه في ضربها وسهل له الأمر وأمره بأن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة ففعل ولم يحنث في يمينه وهل ذلك لأيوب خاصة أم لا؟ فيه قولان أحدهما أنه عام.
وبه قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والثاني أنه خاص بأيوب.
قال مجاهد واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة.
فقال مالك والليث بن سعيد وأحمد لا يبر.
وقال أبو حنيفة والشافعي إذا ضربه ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد بر واحتجوا بعموم هذه الآية إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي على البلاء الذي ابتليناه به نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(4/44)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي اذكر صبرهم فإبراهيم ألقي في النار فصبر وإسحاق أضجع للذبح في قول فصبر ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر: أُولِي الْأَيْدِي قال ابن عباس أولي القوة في طاعة الله تعالى:
وَالْأَبْصارِ أي في المعرفة بالله تعالى، وقيل: المراد باليد أكثر الأعمال وبالبصر أقوى الإدراكات فعبر بهما عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر وللإنسان قوتان عالمية وعاملية وأشرف ما يصدر عن القوة العالمية معرفة الله تعالى وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي والأبصار إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قيل معناه أخلصناهم بذكرى الآخرة فليس لهم ذكرى غيرها، وقيل نزعنا من قلوبهم حبّ الدنيا وذكراها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكراها وقيل كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله تعالى، وقيل أخلصوا بخوف الآخرة وهو الخوف الدائم في القلب وقيل أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ يعني من الذين اختارهم الله تعالى واتخذهم صفوة وصفاهم من الأدناس والأكدار وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ أي اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ قوله عز وجل: هذا ذِكْرٌ أي الذي يتلى عليكم ذكر وقيل شرف وقيل جميل تذكرون به وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون وينقلبون إليه في الآخرة ثم ذكر ذلك فقال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قيل تفتح أبوابها لهم بغير فتح لها بيد بل بالأمر يقال لها انفتحي انغلقي مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي مستويات الأسنان والشباب والحسن بنات ثلاث وثلاثين سنة وقيل متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن.
[سورة ص (38) : الآيات 53 الى 60]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي قيل للمؤمنين هذا ما توعدون، وقيل هذا ما يوعد به المتقون إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي دائم ما له من نفاد وانقطاع بل هو دائم كلما أخذ منه شيء عاد مثله في مكانه.
قوله تعالى: هذا أي الأمر الذي ذكرناه وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ يعني لشر مرجع يرجعون إليه ثم بينه فقال تعالى: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ معناه هذا حميم وهو الماء الحار وغساق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها وقيل هو ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة وقيل الغساق عين في جهنم وقيل هو البارد المنتن والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي مثل الحميم والغساق أَزْواجٌ أي أصناف أخر من العذاب هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا فوج يعني جماعة الأتباع مقتحم معكم النار أي داخلوها كما دخلتموها أنتم قيل إنهم يضربون بالمقامع حتى يقتحموها بأنفسهم خوفا من تلك المقامع قالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ أي الأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي داخلوها كما صليناها نحن قالُوا أي قال الأتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا رحبت بكم الأرض والعرب تقول مرحبا وأهلا وسهلا أي أتيت رحبا وسعة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني وتقول الأتباع للقادة أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتموه لنا وقيل معناه أنتم قدمتم لنا هذا العذاب بدعائكم إيانا إلى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ أي فبئس دار القرار جهنم.(4/45)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
[سورة ص (38) : الآيات 61 الى 67]
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
قالُوا يعني الأتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرعه وسنه لنا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي ضعف عليه العذاب في النار.
قال ابن عباس حيات وأفاعي وَقالُوا يعني كفار قريش وصناديدهم وأشرافهم وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ أي في الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ يعنون بذلك فقراء المؤمنين مثل عمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وإنما سموهم أشرارا لأنهم كانوا على خلاف دينهم أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ يعني أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا فلم يروا فيها الذين كانوا يسخرون منهم فقالوا ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النار أم دخلوها فزاغت عنهم الأبصار أي أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا. وقيل معناه أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا وقيل معناه أم كانوا خيرا منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي ذكر لَحَقٌّ ثم بين ذلك فقال تعالى: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي في النار وإنما سماه تخاصما لأن قول القادة للأتباع لأمر حبا بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة.
قوله عز وجل: قُلْ أي يا محمد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ يعني الذي لا شريك له في ملكه الْقَهَّارُ أي الغالب وفيه شعار بالترهيب والتخويف ثم أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فكونه ربا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفارا يشعر بأنه يغفر الذنوب وإن عظمت ويرحم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن قاله ابن عباس وقيل يعني القيامة.
[سورة ص (38) : الآيات 68 الى 75]
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي وأن ما جئت به لم أعلمه إلا بوحي من الله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني في شأن آدم حين قال الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ.
فإن قلت كيف يجوز أن يقال إن الملائكة اختصموا بسبب قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ والمخاصمة مع الله تعالى لا تليق ولا تمكن.
قلت لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة وهو علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة إِنْ يُوحى إِلَيَّ أي إنما علمت هذه المخاصمة بوحي من الله تعالى إليّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني إلا أنما أنا نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتاني ربي في أحسن صورة قال أحسبه قال في المنام فقال يا محمد هل تدري فيم(4/46)
يختصم الملأ الأعلى قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء على المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون قال والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام» وفي رواية «فقلت لبيك وسعديك في المرتين» وفيها «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
(فصل: في الكلام على معنى هذا الحديث) وللعلماء في هذا الحديث وفي أمثاله من أحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب السلف إمراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
المذهب الثاني: هو تأويل الحديث، وقيل الكلام على معنى الحديث نتكلم على إسناده فنقول قال البيهقي: هذا حديث مختلف في إسناده فرواه زهير بن محمد عن يزيد بن يزيد عن جابر عن خالد بن الحلاج عن عبد الرّحمن بن عائش عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن عامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورواه موسى بن خلف العمي عن يحيى عن زيد عن جده ممطور وهو أبو سلام عن ابن السكسكي عن مالك بن يخامر وقيل فيه غير ذلك، ورواه أبو أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس وقال فيه أحسبه قال في المنام، ورواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن الحلاج عن ابن عباس قال البخاري عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه وهو حديث الرؤية. قال البيهقي وقد روى من طرق كلها ضعاف وفي ثبوته نظر وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله ثم رواية موسى بن خلف وفيهما ما يدل على أن ذلك كان في المنام.
فأما تأويله فإن الصورة هي التركيب والمصور هو المركب ولا يجوز أن يكون الباري تبارك وتعالى مصورا ولا أن يكون له صورة لأن الصور مختلفة والهيئات متضادة ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه وتعالى فاستحال أن يكون مصورا وهو الخالق الباري المصور فقوله أتاني ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين أحدهما وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالا وكمالا وحسنا عند رؤيته وفائدة ذلك تعريفه لنا أن الله تعالى زين خلقته وحسن صورته عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعد لشدة الوحي وثقله.
الوجه الثاني: أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال والاتصال إليه وأنه تلقاه بالإكرام والإعظام والإجلال. وقد يقال في صفات الله تعالى إنه جميل ومعناه أنه مجمل في أفعاله وذلك نوع من الإحسان والإكرام فذلك من حسن صفة الله تعالى وقد يكون حسن الصورة أيضا يرجع إلى صفاته العلية من التناهي في العظمة والكبرياء والعلو والعز والرفعة حتى لا منتهى ولا غاية وراءه، ويكون معنى الحديث على هذا تعريفنا ما تزايد من معارفه صلّى الله عليه وسلّم عند رؤية ربه عزّ وجلّ فأخبر عن عظمته وعزته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبه الخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقوله صلّى الله عليه وسلّم «فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي» فتأويله أن المراد باليد النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لا يعرفه أحد حتى وجد برد النعمة والمعرفة في قلبه وذلك لما نور قلبه وشرح صدره(4/47)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تعالى ولا على صفات ذاته مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا هو أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه وإذا حملنا الحديث على المنام وأن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال وحصل الغرض ولا حاجة بنا إلى التأويل.
ورؤية البارئ عزّ وجلّ في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه، وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه والله تعالى أعلم.
قوله عز وجل: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك على سبيل التشريف كبيت الله وناقة الله ولأن الروح جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي توليت خلقه أَسْتَكْبَرْتَ أي تعظمت بنفسك عن السجود له أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله:
[سورة ص (38) : الآيات 76 الى 88]
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ يعني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه. ثم بين كونه خيرا منه فقال خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل. وقيل: هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد، ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة وقيل من السماء. وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله تعالى خلقته فاسود وقبح بعد حسنه ونورانيته فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق.
قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار.
فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين.(4/48)
قلت معناه أن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له مع اللعنة من أنواع العذاب ما ينسى بذلك اللعنة فكأنها انقطعت عنه قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أي أنا أقول الحق وقيل الأول قسم يعني فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي بنفسك وذريتك وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ يعني من بني آدم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ أي جعل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي المتقولين القرآن من تلقاء نفسي وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلف له (ق) عن مسروق قال: دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ لفظ البخاري إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة لِلْعالَمِينَ أي للخلق أجمعين وَلَتَعْلَمُنَّ يعني أنتم يا أهل مكة نَبَأَهُ أي خبر صدقه بَعْدَ حِينٍ قال ابن عباس: بعد الموت، وقيل يوم القيامة وقيل من بقي علم بذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/49)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
سورة الزمر
نزلت بمكة إلا قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عوضا عن قوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل فيها ثلاث آيات مدنيات من قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: لا تَشْعُرُونَ وهي اثنتان وقيل خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
قوله عز وجل: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا الكتاب وهو القرآن تنزيل مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي لا من غيره إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي لم ننزله باطلا لغير شيء فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي الطاعة أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل يعني الخالص من الشرك وما سوى الخالص ليس بدين الله الذي أمر به لأن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله أَوْلِياءَ يعني الأصنام ما نَعْبُدُهُمْ أي قالوا ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني قربة وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من خلقكم وخلق السموات والأرض ومن ربكم قالوا الله فقيل لهم فما معنى عبادتكم الأصنام فقالوا ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يرشد لدينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ أي من قال إن الآلهة تشفع له كَفَّارٌ أي باتخاذه الآلهة دون الله تعالى لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى أي لاختار مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني الملائكة ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن ذلك وعما لا يليق بطهارة قلبه هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ أي في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد الْقَهَّارُ أي الغالب الكامل القدرة.(4/50)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني يغشى هذا هذا، وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزا كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني الإبل والبقر والغنم والمعز والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف، وفي تفسير الإنزال وجوه. قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم لَهُ الْمُلْكُ أي لا لغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي عن طريق الحق بعد هذا البيان.
قوله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعا أو ليدفع عن نفسه ضررا وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجا لكان ذلك نقصانا والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فعلى هذا يكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى بقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يريد بعض عباد الله وأجراه قوم على العموم، وقال لا يرضى لأحد من عباده الكفر ومعنى الآية لا يرضى لعباده أن يكفروا به وهو قول السلف، قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله تعالى وإن كان بإرادته لأن الرضا عبارة عن مدح الشيء والثناء عليه بفعله والله تعالى لا يمدح الكفر ولا يثني عليه ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وقد لا يرضى به ولا يمدح عليه وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا وَإِنْ تَشْكُرُوا أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ فيثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تقدم بيانه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في القلوب، قوله تعالى:(4/51)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
[سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 10]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي بلاء وشدة دَعا رَبَّهُ مُنِيباً أي راجعا إِلَيْهِ مستغيثا به ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ أي ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني الأصنام لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي ليرد عن دين الله تعالى قُلْ أي لهذا الكافر تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي في الدنيا إلى انقضاء أجلك إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قيل نزلت في عتبة بن ربيعة وقيل في أبي حذيفة المخزومي وقيل هو عام في كل كافر أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قيل فيه حذف مجازه كمن هو غير قانت، وقيل مجازه الذي جعل لله أندادا أخير أم من هو قانت. وقيل معنى الآية تمتع بكفرك إنك من أصحاب النار ويا من هو قانت أنت من أصحاب الجنة. قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر وعمر. وعن ابن عمر: أنها نزلت في عثمان. وقيل: إنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان وقيل: الآية عامة في كل قانت وهو المقيم على الطاعة، وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام، وقيل: القانت القائم بما يجب عليه آناءَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ساجِداً وَقائِماً أي في الصلاة وفيه دليل على ترجيح قيام الليل على النهار وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي وهو الخشوع في الصلاة ومعرفة من يصلى له، وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنّة الراحة فيكون قيامه أشقّ على النفس فيكون الثواب فيه أكثر يَحْذَرُ أي يخاف الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قيل المغفرة وقيل الجنة وفيه فائدة وهي أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فلم يضف الحذر إليه تعالى، وقال في مقام الرجاء ويرجو رحمة ربه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى ويعضد. هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف نجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو منه وآمنه مما يخاف أخرجه الترمذي قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أي ما عند الله من الثواب والعقاب وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك، وقيل: الذين يعلمون عمار وأصحابه. والذين لا يعلمون أبو حذيفة المخزومي، وقيل افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دلّ ذلك على كماله وفضله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي بطاعته واجتناب معاصيه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني للذين آمنوا وحسنوا العمل حسنة يعني الجنة وقيل الصحة والعافية في هذه الدنيا وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال ابن عباس يعني ارتحلوا من مكة وفيه حثّ على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه وقيل نزلت في مهاجري الحبشة وقيل نزلت في جعفر بن أبي طالب: وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما نزل بهم البلاء وصبروا وهاجروا إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال علي بن أبي طالب كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرين فإنه يحثي لهم حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.(4/52)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 16]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
قوله عز وجل: قُلْ يا محمد إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي مخلصا له التوحيد أي لا أشرك به شيئا وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي من هذه الأمة قيل أمره أولا بالإخلاص وهو من عمل القلب ثم أمره ثانيا بعمل الجوارح لأن شرائع الله تعالى لا تستفاد إلا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو المبلغ فكان هو أول الناس شروعا فيها فخص الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأمر لينبه على أن غيره أحق بذلك فهو كالترغيب لغيره قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته ومنصب نبوته إذا كان خائفا حذرا من المعاصي فغيره أولى بذلك قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فإن قلت ما معنى التكرار في قوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وفي قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. قلت هذا ليس بتكرار لأن الأول الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة والإخلاص، والثاني أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى وحده بالعبادة ولا يعبد أحدا غيره مخلصا له دينه، لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله: اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحضر والمعنى الله أعبد ولا أعبد أحدا غيره ثم أتبعه بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس أمرا بل المراد منه الزجر والتهديد والتوبيخ ثم بين كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يعني أزواجهم وخدمهم يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا وأهلا في الجنة فمن عمل بطاعة الله تعالى كان ذلك المنزل والأهل ومن عمل بمعصية الله تعالى دخل النار وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله تعالى فخسر نفسه وأهله ومنزله وقيل خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أي أطباق وسرادقات وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فراش ومهاد وقيل أحاطت النار بهم من جميع الجهات والجوانب.
فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة، قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي فخافون. قوله تعالى:
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 21]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)(4/53)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ يعني الأوثان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي رجعوا إلى عبادة الله تعالى بالكلية وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره لَهُمُ الْبُشْرى أي في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة وفي الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني القرآن فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي أحسن ما يؤمرون به فيعملون به وهو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو عنه والعفو أحسن الأمرين وقيل ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم وقيل يستمعون القرآن وغيره من الكلام فيتبعون القرآن لأنه كله حسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاءه عثمان وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزلت فيهم فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقيل نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله وهم زيد بن عمرو وأبو ذر وسلمان الفارسي أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي إلى عبادته وتوحيده وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال ابن عباس: سبق في علم الله تعالى أنه في النار وقيل كلمة العذاب قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي لا تقدر عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أبا لهب وولده لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ أي منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل هي أرفع منها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» قوله الغابر أي الباقي في الأفق أي في ناحية المشرق أو المغرب.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخل ذلك الماء يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي عيونا وركايا ومسالك ومجاري في الأرض كالعروق في الجسد قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي مثل أصفر وأخضر وأحمر وأبيض وقيل أصنافه مثل البر والشعير وسائر أنواع الحبوب ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ أي بعد خضرته ونضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ قوله عز وجل:
[سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 23]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي وسعه لِلْإِسْلامِ وقبول الحق كمن طبع الله تعالى على قلبه فلم يهتد فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي على يقين وبيان وهداية.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على(4/54)
نور من ربه قلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله فما علامات ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ القسوة جمودة وصلابة تحصل في القلب.
فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر الله وهو سبب لحصول النور والهداية؟
قلت إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي أبي بن خلف، وقيل: في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل.
قوله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام تَقْشَعِرُّ أي تضطرب وتشمئز مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف. وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي لذكر الله تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء. روي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وفي رواية «حرمه الله تعالى على النار» قال بعض العارفين: السيارون في بيداء جلال الله إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإذا لاح لهم جمال من عالم الجمال عاشوا. وقال قتادة: هذا نعت أولياء الله الذي نعتهم الله به بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان، وروي عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال عبد الله: فقلت لها إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وذكر عن ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق: فإن قلت لما ذكرت الجلود وحدها أولا في جانب الخوف ثم قرنت معها القلوب ثانيا في الرجاء قلت إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب اقشعرت الجلود من ذكر آيات(4/55)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
الوعيد في أول وهلة وإذا ذكر الله ومبني أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم وقيل إن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والخوف ليس بمطلوب وإذا حصل الخوف اقشعر منه الجلد وإذا حصل الرجاء اطمأن إليه القلب ولان الجلد ذلِكَ أي القرآن الذي هو أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي هو الذي يشرح الله به صدره لقبول الهداية وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يجعل قلبه قاسيا منافيا لقبول الهداية فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي يهديه. قوله عزّ وجلّ:
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدته يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل يجر على وجه في النار وقيل يرمى به في النار منكوسا فأول شيء تمسه النار وجهه، وقيل هو الكافر يرمى به منكوسا في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه ومعنى الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن العذاب وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي تقول لهم الخزنة ذُوقُوا ما أي وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي في الدنيا من المعاصي كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني وهم غافلون آمنون من العذاب فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي العذاب والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل:
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون قُرْآناً عَرَبِيًّا أي فصيحا أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي منزها عن التناقض، وقال ابن عباس: غير مختلف.
وقيل: غير ذي لبس وقيل: غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن أنس وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
أي الكفر والتكذيب.
فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية.
قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه. قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم والشكس السيء الخلق المخالف للناس لا يرضى بالإنصاف وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي خالصا له فيه ولا منازع والمعنى واضرب يا محمد لقومك مثلا وقل لهم ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد يدعي أنه عبده وهم يتجاذبونه في مهن شتى فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل(4/56)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
الإخلاص وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته فأي هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى والمؤمن الذي يعبد الله وحده فكان حال المؤمن الذي يعبد إلها واحدا أحسن وأصلح من حال الكافر الذي يعبد آلهة شتى وهو قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهذا استفهام إنكار أي لا يستويان في الحال والصفة قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي لله الحمد كله وحده دون غيره من المعبودين، وقيل لما ثبت أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الحق بالدلائل الظاهرة والأمثال الباهرة قال: الحمد لله على حصول هذه البينات وظهور هذه الدلالات بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي المستحق للعبادة هو الله تعالى وحده لا شريك له.
قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ أي ستموت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي سيموتون وذلك أنهم كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم موته فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وقيل نعى إلى نبيه نفسه وإليكم أنفسكم والمعنى أنك ميت وإنهم ميتون وإن كنتم أحياء فإنكم في عداد الموتى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال ابن عباس يعني المحق والمبطل والظالم والمظلوم عن عبد الله بن الزبير قال:
«لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، قال الزبير: يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال: نعم، فقال: إن الأمر إذا لشديد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيف قلنا نعم هو هذا وعن إبراهيم قال: لما نزلت هذه الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» . قوله تعالى:
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 36]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا أو شريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أي بالقرآن وقيل بالرسالة إليه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي منزلة ومقام لِلْكافِرِينَ.
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي والذي صدق به، قال ابن عباس: الذي جاء بالصدق هو(4/57)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلا إله إلا الله وصدق به هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا بلغه إلى الخلق، وقيل: الذي جاء بالصدق هو جبريل عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن وصدق به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: الذي جاء بالصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصدق به أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقيل وصدق به المؤمنون وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع. وقيل: الذي جاء بالصدق أهل القرآن وهو الصدق يجيئون به يوم القيامة وقد أدوا حقه فهم الذين صدقوا به أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي الذين اتقوا الشرك لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي من الجزاء والكرامة ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي في أقوالهم وأفعالهم لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي يستره عليهم بالمغفرة وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي يجزيهم بمحاسن أفعالهم ولا يجزيهم بمساويها.
قوله عز وجل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقرئ عباده يعني الأنبياء عليهم الصلاة السلام قصدهم قومهم بالسوء فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك أنهم خوفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم مضرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 37 الى 42]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أي منيع في ملكه ذِي انْتِقامٍ أي منتقم من أعدائه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم، وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق فإن فطرة الخلق شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل عجائب السموات والأرض وما فيها من أنواع الموجودات علم بذلك أنها من ابتداع قادر حكيم ثم أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا قدرة لها على جلب خير أو دفع ضر وهو قوله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي بشدة وبلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي بنعمة وخير وبركة هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكتوا فقال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي هو ثقتي وعليه اعتمادي عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي عليه يثق الواثقون قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي اجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم وهو أمر تهديد وتقريع إِنِّي عامِلٌ أي بما أمرت به من إقامة الدين فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي أنا وأنتم وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو تهديد وتخويف إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي ليهتدي به كافة الخلق فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي ترجع فائدة هدايته إليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي يرجع وبال ضلالته عليه وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لم توكل بهم ولا تؤاخذ عنهم قيل هذا منسوخ بآية القتال.
قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي الأرواح حِينَ مَوْتِها أي فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها(4/58)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
وهو موت الأجساد وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها والنفس التي يتوفاها عند النوم وهي التي يكون بها العقل والتمييز، ولكل إنسان نفسان نفس هي التي تكون بها الحياة وتفارقه عند الموت وتزول بزوالها الحياة والنفس الأخرى هي التي يكون بها التمييز وهي التي تفارقه عند النوم ولا يزول بزوالها التنفس فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ أي فلا يردها إلى جسدها وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يرد النفس التي لم يقض عليها الموت إلى جسدها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يأتي وقت موتها، وقيل إن للإنسان نفسا وروحا فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح وقال علي بن أبي طالب: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة. وقيل: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله تعالى فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى حين انقضاء مدة آجالها (ق) . عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» .
فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وبين قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا.
قلت: المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى وملك الموت هو القابض للروح بإذن الله تعالى ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الروح من سائر البدن فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في البعث وذلك أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث وقيل إن في ذلك دليلا على قدرتنا حيث لم نغلط في إمساك ما نمسك من الأرواح وإرسال ما نرسل منها. قوله تعالى:
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 45]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ يعني الأصنام قُلْ يا محمد أَوَلَوْ كانُوا يعني الآلهة لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً أي من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا ملك لأحد فيهما سواه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي في الآخرة.
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتى يظهر على الوجه فيتهلل. قوله عز وجل:(4/59)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 50]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدنيا (م) عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال «سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى: وَحاقَ يعني نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ يعني شدة دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ يعني أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنها استدراج من الله تعالى: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 51 الى 53]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسع الرزق لمن يشاء وَيَقْدِرُ أي يقتر ويقبض على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.
قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» أخرجه النسائي. وعن ابن عباس أيضا قال «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً(4/60)
فقال: وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فقال وحشي نعم هذا فجاء فأسلم» وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فأنزل الله تعالى هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا جميعا وهاجروا. وعن ابن عمر أيضا قال كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له وقوله أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تجاوزوا الحد في كل فعل مذموم قيل هو ارتكاب الكبائر وغيرها من الفواحش لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من رحمة الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله من الكبائر إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فإن قلت حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي وإطلاقا في الإقدام عليها وذلك لا يمكن.
قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقا ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم.
(فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية) روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب (ق) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له» لفظ البخاري ولمسلم قال «فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض(4/61)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان رجل أسرف على نفسه وفي رواية لم يعمل خيرا قط وفي رواية لم يعمل حسنة قط فلما حضره الموت قال لبنيه إذا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فو الله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله تعالى الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك» وعنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر في العبادة مجتهد فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول له أقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا فقال والله لا يغفر لك الله أو قال لا يدخلك الجنة فقبض الله أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادرا وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة «تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته» أخرجه أبو داود عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» أخرجه الترمذي، قوله عنان السماء العنان السحاب وقيل هو ما عن لك منها وقراب الأرض بضم القاف هو ما يقارب ملأها. قوله عز وجل:
[سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 55]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أخلصوا له التوحيد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي لا تمنعون منه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يعني غافلين عنه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 58]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس يا حَسْرَتى أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي على ما قصرت في طاعة الله، وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي أرشدني إلى دينه وطاعته لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي الشرك أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ أي عيانا لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل وهو قوله تعالى:(4/62)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
[سورة الزمر (39) : الآيات 59 الى 66]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني القرآن فَكَذَّبْتَ بِها أي قلت ليست من الله وَاسْتَكْبَرْتَ أي تكبرت عن الإيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ أي زعموا أن له ولدا وشريكا وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي عن الإيمان.
قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك بِمَفازَتِهِمْ أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي لا يصيبهم المكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز:
لم يؤذها الديك بصوت تغريد ... ولم يعالج غلقها بإقليد
والمعنى أن الله تعالى مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الله الذي يملك مقاليدها، وقيل مقاليد السموات خزائن الرحمة والرزق والمطر ومقاليد الأرض النبات وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بآياته الظاهرة الباهرة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قوله عز وجل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه فوصفهم بالجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأنه هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي الذي عملته قبل الشرك، وهذا خطاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره لأن الله عز وجل عصم نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الشرك وفيه تهديد لغيره وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي لإنعامه عليك.
قوله تعالى.
[سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 68]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (ق) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع(4/63)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفي رواية «والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن وفيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا له ثم قرأ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول: أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لفظ مسلم وللبخاري «أن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محمل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه.
قوله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور أُخْرى مرة أخرى وهي النفخة الثانية فَإِذا هُمْ قِيامٌ أي من قبورهم يَنْظُرُونَ أي ينتظرون أمر الله فيهم (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوما، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا:
أربعون سنة قال: أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» قوله تعالى:
[سورة الزمر (39) : الآيات 69 الى 73]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة وَوُضِعَ الْكِتابُ أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ يعني ليكونوا شهداء على أممهم وَالشُّهَداءِ قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل يعني الحفظة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا يزاد في(4/64)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي ثواب ما عملت وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد.
قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يعني سوقا عنيفا زُمَراً أفواجا بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها يعني توبيخا وتقريعا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من أنفسكم ومن جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي وجبت عَلَى الْكافِرِينَ وهي قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قوله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما.
قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق.
قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاءوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذلك وهوان لهم. الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية.
فإن قلت حتى إذا جاءوها شرط فأين جوابه؟
قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخلوها لدلالة الكلام عليه وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات طِبْتُمْ قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 74 الى 75]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتصرف فيها كما نشاء تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه وهو قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ أي ننزل مِنَ الْجَنَّةِ أي في الجنة حَيْثُ(4/65)
نَشاءُ
فإن قلت فما معنى قوله حَيْثُ نَشاءُ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره.
قلت يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وحسنا وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى غيره وقيل إن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون فيها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها قال الله عز وجل: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
أي محدقين محيطين بحافته وجوانبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ بين أهل الجنة وأهل النار بالعدل وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول أهل الجنة شكرا حين تمّ وعد الله لهم، وقيل ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداءة كل أمر وخاتمته والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/66)
حم (1)
سورة حم المؤمن
وتسمى سورة غافر وهي مكية قيل غير آيتين وهما قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن» وعن ابن عباس قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن مسعود إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات الجنة أتأنق فيهن، وقال سعد بن إبراهيم إن آل حم تسمى العرائس.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله عز وجل: حم قال ابن عباس رضي الله عنهما: حم اسم الله الأعظم وعنه قال الر وحم ون حروف اسمه الرّحمن مقطعة وقيل حم اسم للسورة وقيل الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان، والميم افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل معناه حم بضم الحاء أي قضى ما هو كائن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي الغالب القادر وقيل الذي لا مثل له الْعَلِيمِ أي بكل المعلومات غافِرِ الذَّنْبِ يعني ساتر الذنب وَقابِلِ التَّوْبِ يعني التوبة قال ابن عباس غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله شَدِيدِ الْعِقابِ لمن لا يقول لا إله إلا الله ذِي الطَّوْلِ يعني السعة والغنى وقيل ذي الفضل والنعم وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني هو الموقوف بصفات الوحدانية التي لا يوصف بها غيره إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مصير العباد إليه في الآخرة قوله تعالى:(4/67)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
[سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 7]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)
ما يُجادِلُ يعني ما يخاصم ويحاجج في آيات الله يعني في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن.
قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن جدالا في القرآن كفر» أخرجه أبو داود وقال المراد في القرآن كفر وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتمارون فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض وإنما أنزل الكتاب يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرف في وجهه الغضب فقال «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ يعني تصرفهم فِي الْبِلادِ للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم فإن عاقبة أمرهم العذاب كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ قال ابن عباس ليقتلوه ويهلكوه وقيل ليأسروه وَجادَلُوا يعني خاصموا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا يعني ليبطلوا بِهِ الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ يعني أنزلت بهم من الهلاك ما هموا هم بإنزاله بالرسل وقيل معناه فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكا مستأصلا وَكَذلِكَ حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ يعني كما وجبت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من قومك أَنَّهُمْ يعني بأنهم أَصْحابُ النَّارِ قوله عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ قيل حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر كما قال الله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ وهم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عز وجل وهم على صورة الأوعال وجاء في الحديث إن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما في الهواء ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتمجيد ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء وقال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروي أن أقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم تسبيحهم سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح وقيل إن أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفا من التي تليها والتي تليها أشد خوفا من التي تليها.
وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» أخرجه أبو داود وأما صفة العرش فقيل إنه جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقا وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ويكسى العرش كل يوم ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة وقال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة وقيل إن العرش قبلة لأهل السماء كما أن الكعبة قبلة لأهل الأرض قوله: وَمَنْ حَوْلَهُ يعني الطائفين به وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة، قال وهب بن منبه: إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويدبر هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضا هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا سبحانك(4/68)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر والخلق كلهم إليك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام واحتجب الله عز وجل من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نار وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من در أبيض وسبعين حجابا من ياقوت أحمر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق بجلاله والتحميد هو الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له.
فإن قلت قدم قوله يسبحون بحمد ربهم على قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يكون التسبيح إلا بعد الإيمان فما فائدة قوله ويؤمنون به.
قلت فائدته التنبيه على شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه. ولما كان الله عز وجل محتجبا عنهم بحجب جلاله وجماله وكماله وصفهم بالإيمان به. قال شهر بن حوشب حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي يسألون الله تعالى المغفرة لهم قيل هذا الاستغفار من الملائكة مقابل لقولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لهم ثانيا وهو كالتنبيه لغيرهم فيجب على كل من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له رَبَّنا أي ويقولون ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وفيه تنبيه على تقديم الثناء على الله تعالى بما هو أهله قيل المطلوب بالدعاء فلما قدموا الثناء على الله عز وجل قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي دينك وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قال مطرف أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين.
[سورة غافر (40) : الآيات 8 الى 10]
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قيل إذا دخل المؤمن الجنة قال: أين أبي وأين أمي وأين ولدي وأين زوجتي، فيقال: إنهم لم يعملوا عملك، فيقول: إني كنت أعمل لي ولهم فيقال أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل لسروره ولذته وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي عقوبات السيئات بأن تصونهم من الأعمال الفاسدة التي توجب العقاب وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يعني من تقه في الدنيا فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني في القيامة وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني النعيم الذي لا ينقطع في جوار مليك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وجلاله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يعني يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم لَمَقْتُ اللَّهِ يعني إياكم في الدنيا أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي اليوم عند حلول العذاب بكم.(4/69)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
[سورة غافر (40) : الآيات 11 الى 12]
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهذه موتتان وحياتان وقيل أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في القبر للسؤال ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا للبعث في الآخرة وذلك أنهم عدوا أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ثم الحياة في القبر ثم الموتة الثانية فيه ثم الحياة للبعث فأما الحياة الأولى التي هي من الدنيا فلم يعدوها لأنها ليست من أقسام البلاء وقيل ذكر حياتين وهي حياة الدنيا وحياة القيامة وموتتين وهي الموتة الأولى في الدنيا ثم الموتة الثانية في القبر بعد حياة السؤال ولم يعدوا حياة السؤال لقصر مدتها فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا يعني إنكارهم البعث بعد الموت فلما شاهدوا البعث اعترفوا بذنوبهم ثم سألوا الرجعة بقولهم فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ يعني من النار مِنْ سَبِيلٍ والمعنى فهلّا إلى رجوع إلى الدنيا من سبيل لنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط من الخروج وإنما قالوا ذلك تعللا وتحيرا والمعنى فلا خروج ولا سبيل إليه ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ معناه فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعى الله وحده كفرتم يعني إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتم ذلك وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ أي غيره تُؤْمِنُوا أي تصدقوا ذلك الشرك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ أي الذي لا أعلى منه الْكَبِيرِ أي الذي لا أكبر منه.
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 19]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي عجائب مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق وَما يَتَذَكَّرُ أي يتعظ بهذه الآيات إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة والعبادة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي رافع درجات الأنبياء والأولياء والعلماء في الجنة وقيل معناه المرتفع أي إنه سبحانه وتعالى هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر لأنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال التنبيه على كمال القدرة فكل ما كان أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى يُلْقِي الرُّوحَ يعني ينزل الوحي سماه روحا لأن به تحيا الأرواح كما تحيا الأبدان بالأرواح مِنْ أَمْرِهِ قال ابن عباس:
من قضائه وقيل بأمره وقيل من قوله عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني الأنبياء لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يعني لينذر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، وقيل يلتقي الخلق والخالق(4/70)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
وقيل يلتقي العابدون والمعبودون وقيل يلتقي المرء مع عمله وقيل يلتقي الظالم والمظلوم يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أي من أعمالهم وأحوالهم، فإن قلت إن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام فما وجه تخصيص ذلك اليوم، قلت كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم وهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه في الدنيا لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أي يقول الله عز وجل في ذلك اليوم بعد فناء الخلق لمن الملك فلا أحد يجيبه فيجيب نفسه تعالى فيقول لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي الذي قهر الخلق بالموت وقيل إذا حضر الأولون والآخرون في يوم القيامة نادى مناد لمن الملك فيجيبه جميع الخلائق في يوم القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولونه تلذذا حيث كانوا يقولونه في الدنيا ونالوا به المنزلة الرفيعة في العقبى والكفار يقولونه على سبيل الذل والصغار والندامة حيث لم يقولوه في الدنيا الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لا ظُلْمَ الْيَوْمَ أي إن الخلق آمنون في ذلك اليوم من الظلم لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب بل يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد.
قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يعني يوم القيامة سميت آزفة لقرب وقتها وكل ما هو آت فهو قريب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا كاظِمِينَ أي مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا حتى يضيق القلب عنه ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي من قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٍ أي يشفع لهم يُطاعُ أي فيهم يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل وقيل هو نظر الأعين لما نهى الله عنه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي يعلم مضمرات القلوب.
[سورة غافر (40) : الآيات 20 الى 26]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي يحكم بالعدل وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر على شيء إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوال الخلق الْبَصِيرُ بأفعالهم أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أي المعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء فلم تنفعهم قوتهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي يدفع عنهم العذاب ذلِكَ أي ذلك العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعني(4/71)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
فرعون وقومه اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل هذا القتل غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوالدان فلما بعث موسى عليه الصلاة والسلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي استحيوا النساء ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى عليه الصلاة والسلام ومظاهرته وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إِلَّا فِي ضَلالٍ أي يذهب كيدهم باطلا ويحيق بهم ما يريده الله تعالى وَقالَ فِرْعَوْنُ أي لملئه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وإنما قال فرعون هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى وإنما منعوه عن قتله لأنه كان فيهم من يعتقد بقلبه أنه كان صادقا، وقيل قالوا لا تقتله فإنه هو ساحر ضعيف فلا يقدر أن يغلب سحرنا وإن قتلته قالت العامة كان محقا صادقا وعجزوا عن جوابه فقتلوه وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ يعني يقول فرعون أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ يعني بذاك تغيير الدين وتبديله وعبادة غيره.
[سورة غافر (40) : الآيات 27 الى 29]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)
وَقالَ مُوسى يعني لما توعده فرعون بالقتل إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يأت في دفع الشدة إلا بأن استعاذ بالله واعتمد عليه فلا جرم أن صانه الله عن كل بلية مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي متعظم عن الإيمان لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قوله عز وجل: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ قيل كان ابن عم فرعون وقيل كان من القبط وقيل كان من بني إسرائيل، فعلى هذا يكون معنى الآية وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وكان اسم هذا المؤمن حزبيل عند ابن عباس وأكثر العلماء وقال إسحاق كان اسمه جبريل وقيل حبيب أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ أي لأن يقول رَبِّيَ اللَّهُ وهذا استفهام إنكار وهو إشارة إلى التوحيد وقوله وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فيه إشارة إلى تقرير نبوته بإظهار المعجزة والمعنى وقد جاءكم بما يدل على صدقه وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي لا يضركم ذلك إنما يعود وبال كذبه عليه وَإِنْ يَكُ صادِقاً أي فكذبتموه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قيل معناه يصبكم الذي يعدكم إن قتلتموه وهو صادق، وقيل بعض على أصلها ومعناه كأنه قاله على طريق الاحتجاج أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفيه هلاككم فذكر البعض ليوجب الكل إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي يعني إلى دينه مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي على الله تعالى (خ) عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولوى ثوبه في عنقه وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
قوله عز وجل: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ يعني غالبين في الأرض أي أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا يعني يمنعنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا والمعنى لكم الملك فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله تعالى إن حل بكم قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ أي من الرأي والنصيحة إِلَّا ما أَرى(4/72)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
يعني لنفسي وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى ثم حكى الله تعالى أن مؤمن آل فرعون رد على فرعون هذا الكلام وخوفه أن يحل به ما حل بالأمم قبله بقوله:
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب حتى أتاهم العذاب وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني لا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يعني يوم القيامة سمي يوم القيامة يوم التناد لأنه يدعى فيه كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضا فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة وينادى فيه بالسعادة والشقاوة ألا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وينادي حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت وقيل ينادي المؤمن هاؤم اقرءوا كتابيه وينادي الكافر يا ليتني لم أوت كتابيه وقيل يوم التناد يعني يوم التنافر من ند البعير إذا نفر وهرب وذلك أنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا عليه فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يعني منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعني يعصمكم من عذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني يهديه وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ يعني يوسف بن يعقوب مِنْ قَبْلُ يعني من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ يعني قوله أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ قيل مكث فيهم يوسف عشرين سنة نبيا وقيل إن فرعون يوسف هو فرعون موسى وقيل هو فرعون آخر فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ قال ابن عباس من عبادة الله وحده لا شريك له والمعنى أنهم بقوا شاكين في نبوته لم ينتفعوا بتلك البينات التي جاءهم بها حَتَّى إِذا هَلَكَ يعني مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا يعني أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان عليه بل قالوا ذلك ليكون لهم أساسا في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعده وليس قولهم لن يبعث الله من بعده رسولا تصديقا لرسالة يوسف كيف وقد شكوا فيها وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضمون إلى التكذيب لرسالته كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ يعني في شركه وعصيانه مُرْتابٌ يعني في دينه.(4/73)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
[سورة غافر (40) : الآيات 35 الى 40]
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ قيل هذا تفسير للمسرف المرتاب يعني الذين يجادلون في إبطال آيات الله بالتكذيب بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي بغير حجة وبرهان أَتاهُمْ من الله كَبُرَ أي ذلك الجدال مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ قوله عز وجل: وَقالَ فِرْعَوْنُ يعني لوزيره يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً يعني بناء ظاهرا لا يخفى على الناظرين وإن بعد وقد تقدم ذكره في سورة القصص لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ يعني طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى كاذِباً أي فيما يدعي ويقول إن له ربا غيري وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ قال ابن عباس رضي الله عنهما صده الله تعالى عن سبيل الهدى وقرئ وصد بالفتح أي وصد فرعون الناس عن السبيل وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي وما كيده في إبطال آيات موسى إلا في خسار وهلاك.
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي طريق الهدى يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي متعة ينتفعون بها مدة ثم تنقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ يعني التي لا تزول والمعنى أن الدنيا فانية منقرضة لا منفعة فيها وأن الآخرة باقية دائمة والباقي خير من الفاني، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبا فانيا والآخرة خزفا باقيا لكانت الآخرة خيرا من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قيل معناه من عمل الشرك فجزاؤه جهنم خالدا فيها ومن عمل بالمعاصي فجزاؤه العقوبة بقدرها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ يعني لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير وقيل يصب عليهم الرزق صبا بغير تقتير.
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 46]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ معناه أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة من النار وأنتم تدعونني إلى الشرك الذي يوجب النار ثم فسر ذلك فقال تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي لا أعلم أن الذي تدعونني إليه إله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله الحق ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ أي في انتقامه ممن كفر الْغَفَّارِ أي لذنوب أهل التوحيد لا جَرَمَ يعني حقا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يعني الصنم لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ يعني ليست له استجابة دعوة لأحد في الدنيا ولا في الآخرة وقيل ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا ولا في الآخرة لأن الأصنام لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ يعني مرجعنا إلى الله فيجازي كلّا بما يستحقه وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين(4/74)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي أرد أمري إلى الله وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني يعلم المحق من المبطل ثم خرج المؤمن من بينهم فطلبوه فلم يقدروا عليه وذلك قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا يعني ما أرادوا به من الشر قيل إنه نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام وكان قبطيا وَحاقَ يعني نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ يعني الغرق في الدنيا والنار في الآخرة وذلك قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يعني صباحا ومساء قال ابن مسعود «أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة» وقيل تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا.
ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر أعاذنا الله تعالى منه بمنّه وكرمه (ق) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة» ثم أخبر الله تعالى عن مستقرهم يوم القيامة فقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ قال ابن عباس ألوان من العذاب غير الذي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا.
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ أي واذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون يعني أهل النار فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي في الدنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني الرؤساء والقادة إِنَّا كُلٌّ فِيها يعني نحن وأنتم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قضى علينا وعليكم وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ يعني حين اشتد عليهم العذاب لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا يعني الخزنة أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني لا عذر لكم بعد مجيء الرسل قالُوا بَلى أي اعترفوا بذلك قالُوا فَادْعُوا يعني أنتم إنا لا نّدعوا لكم لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب قال الله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ يعني يبطل ويضل ولا ينفعهم.
قوله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن عباس بالغلبة والقهر، وقيل بالحجة وقيل بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة وكل ذلك حاصل لهم فهم منصورون بالحجة على من خالفهم تارة وقد نصرهم الله بالقهر على من عاداهم وأهلك أعداءهم بالانتقام منهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل فإنه قتل به سبعين ألفا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يعني وننصرهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد وهم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي إن اعتذروا عن كفرهم لم يقبل منهم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي البعد من الرحمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني جهنم.(4/75)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 57]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى يعني النبوة وقيل التوراة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وقيل سائر الكتب المنزلة على أنبيائهم هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ قوله تعالى: فَاصْبِرْ أي يا محمد على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي نسخت آية القتال آية الصبر وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ يعني الصغائر وهذا على قول من يجوزها على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل يعني على ترك الأولى والأفضل وقيل على ما صدر منه قبل النبوة وعند من لا يجوز الصغائر على الأنبياء يقول هذا تعبد من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ليزيده درجة ولتصير سنة لغيره من بعده وذلك لأن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي، والاشتغال بما ينبغي والأول مقدم وهو التوبة من الذنوب والثاني الاشتغال بالطاعات وهو قوله تعالى:
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزه ربك عما لا يليق بجلاله وقيل صل شاكرا لربك بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني صلاة العصر وصلاة الفجر وقال ابن عباس الصلوات الخمس إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ يعني كفار قريش إِنْ فِي صُدُورِهِمْ يعني ما في قلوبهم إِلَّا كِبْرٌ قال ابن عباس ما حملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة ما هُمْ بِبالِغِيهِ يعني ببالغي مقتضى ذلك الكبر وقيل معناه إن في صدورهم إلا كبر على محمد صلّى الله عليه وسلّم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك وقيل نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا قال الله تعالى:
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من فتنة الدجال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لأقوالهم الْبَصِيرُ يعني بأفعالهم.
قوله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني مع عظمهما أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي من إعادتهم بعد الموت والمعنى أنهم مقرون أن الله تعالى خلق السموات والأرض وذلك أعظم في الصدور من خلق الناس فكيف لا يقرون بالبعث بعد الموت وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني أن الكفار لا يعلمون حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها، وقال قوم معنى أكبر من خلق الناس أي أعظم من خلق الدجال ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال.
(فصل في ذكر الدجال) (م) عن هشام بن عروة قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» معناه أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال (ق) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافئة» ولأبي داود والترمذي عنه قال «قام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذر نوح قومه ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من نبي إلا وقد أنذر قومه الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية لمسلم «بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر ويقرؤه كل مسلم» عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت «كان(4/76)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي فذكر الدجال، فقال إن بين يديه ثلاث سنين سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها.
والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها. والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول:
أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربك قال: فيقول: بلى، فيتمثل الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظمه أسنمة ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه قالت: ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم قالت وأخذ بلحمتي الباب فقال مهيم أسماء فقلت: يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال: إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء:
فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ، قال: يجزيهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس» وفي رواية عنها قالت قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار» هذا حديث أخرجه البغوي بسنده والذي جاء في صحيح مسلم قال «قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استذرته الريح» وفي رواية أبي داود عنه «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته وفيه ثم ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله» (ق) عن حذيفة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء عذب بارد» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه» (ق) «عن المغيرة بن شعبة قال «ما سأل أحد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي ما يضرك قلت إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله من ذلك» عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من سمع بالدجال فلينأ منه فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به الشبهات أو قال لما يبعث به من الشبهات» أخرجه أبو داود (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها فينزل السبخة ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق» (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك» عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الدجال يخرج بأرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب (م) . عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» عن مجمع بن جارية الأنصاري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. قال الشيخ محيي الدين النووي: قال القاضي عياض هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذهب الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله تعالى به عباده فأقدره على أشياء من المقدورات من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره وإتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره(4/77)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
ويقتله عيسى ابن مريم عليه السلام ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وخلافا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنها لو كانت حقا لضاهت معجزات الأنبياء وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة فيكون
ما معه كالتصديق له وإنما يدعي الربوبية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه وعن إزالة الشاهة بكفره المكتوب بين عينيه ولهذه الدلائل لا يغتر به إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو خوفا من فتنته لأن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب ولهذا حذرت الأنبياء من فتنته فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه لما سبق من العلم بحاله ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه ما ازددت فيك إلا بصيرة قوله «قلت يا رسول الله إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله تعالى من ذلك» معناه هذا أهون على الله تعالى من أن يجعل ما خلقه الله عز وجل على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم بل إنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك لأنه ثبت في الحديث أن معه ماء ونارا فماؤه نار وناره ماء بارد والله تعالى أعلم.
[سورة غافر (40) : الآيات 58 الى 60]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
قوله عز وجل: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الجاهل والعالم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي لا يستوون قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ يعني القيامة لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في قيامها ومجيئها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت، قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر «الدعاء هو العبادة ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من لم يسأل الله يغضب عليه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب عن أنس بن مالك قال «الدعاء مخ العبادة» أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب فإن قلت كيف قال ادعوني أستجب لكم وقد يدعو الإنسان كثيرا فلا يستجاب له، قلت الدعاء له شروط منها الإخلاص في الدعاء وأن لا يدعو وقلبه لاه مشغول بغير الدعاء وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان وأن لا يكون فيه قطيعة رحم فإذا كان الدعاء بهذه الشروط كان حقيقا بالإجابة فإما أن يعجلها له وإما أن يؤخرها له يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له به في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقيل الدعاء هو الذكر والسؤال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي أي عن توحيدي وقيل دعائي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين ذليلين.(4/78)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
[سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 69]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
قوله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لتحصل لكم الراحة فيه بسبب النوم والسكون وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي لتحصل لكم فيه مكنة التصرف في حوائجكم ومهماتكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق الأشياء كلها وأنه لا شريك له في ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فأنى تصرفون عن الحق كَذلِكَ أي كما أفكنتم عن الحق مع قيام الدلائل كذلك يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي فراشا لتستقروا عليها وقيل منزلا في حال الحياة وبعد الموت وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا كالقبة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي خلقكم فأحسن خلقكم قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قيل هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ وهذا يفيد الحصر أي لا حي إلا هو فوجب أن يحمل ذلك على الذي يمتنع أن يموت امتناعا تاما ثابتا وهو الله تعالى الذي لا يوصف بالحياة الكاملة إلا هو، والحي هو المدرك الفعال لما يريد وهذه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة ولما نبه على هذه الصفات نبه على كمال الوحدانية بقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فادعوه واحمدوه، قال ابن عباس من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وذلك حين دعي إلى الكفر أمره الله تعالى أن يقول ذلك.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني أصلكم آدم وقيل يحتمل أن كل إنسان خلق من تراب لأنه خلق من النطفة وهي من الأغذية والأغذية من النبات والنبات من التراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث الطفولية وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيوخة وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن يصير شيخا وَلِتَبْلُغُوا أي جميعا أَجَلًا مُسَمًّى أي وقتا محدود لا تجاوزونه يعني(4/79)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
أجل الحياة إلى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي ما في هذه الأحوال العجيبة من القدرة الباهرة الدالة على توحيده وقدرته هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يكونه من غير كلفة ولا معاناة ولا تعب وكل ذلك من كمال قدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من الأفعال الدالة على قدرته كأنه قال من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني القرآن أَنَّى يُصْرَفُونَ أي عن دين الحق وقيل نزلت في القدرية.
[سورة غافر (40) : الآيات 70 الى 78]
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه وعيد وتهديد ثم وصف ما أوعدهم به فقال تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ يعني يجرون بتلك السلاسل فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يعني توقد بهم النار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي فقدناهم فلم نرهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قيل إنهم أنكروا عبادتها، وقيل لم نكن ندعوا شيئا ينفع ويضر، وقيل ضاعت عبادتنا لها فكأنا لم نكن ندعو من قبل شيئا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي كما أضل هؤلاء ذلِكُمْ أي العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ أي تبطرون وتأشرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي تختالون وتفرحون به ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ يعني السبعة خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني عن الإيمان.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي بنصرك على الأعداء فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي قبل أن يحل ذلك بهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أي خبره وحاله في القرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي لم نذكر لك حال الباقين منهم وليس منهم أحد إلا أعطاه الله تعالى آيات ومعجزات، وقد جادله قومه وكذبوه فيها وما جرى عليهم يقارب ما جرى عليك فصبروا وهذا تسلية لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني بأمره وإرادته فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي قضاؤه بين الأنبياء والأمم قُضِيَ بِالْحَقِّ يعني بالعدل وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ يعني الذين يجادلون في آيات الله بغير حق وفيه وعيد وتهديد لهم.(4/80)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 85]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد في أسفاركم وحاجاتكم وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر يُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائل قدرته أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
يعني أن هذه الآيات التي ذكرها ظاهرة باهرة فليس شيء منها يمكن إنكاره.
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني مصانعهم وقصورهم والمعنى لو سار هؤلاء في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة هؤلاء المنكرين المتمردين الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددا وأموالا من هؤلاء فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي لم ينفعهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا أي رضوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قيل هو قولهم لن نبعث ولن نعذب وقيل هو علمهم بأحوال الدنيا سمي ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عذابنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ يعني أن سنة الله قد جرت في الأمم الخالية بعدم قبول الإيمان عند معاينة البأس وهو العذاب يعني بتلك السنة أنهم إذا رأوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ يعني بذهاب الدارين قيل الكافر خاسر في كل وقت ولكنه يتبين خسرانه إذا رأى العذاب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/81)
حم (1)
سورة فصلت
وتسمى سورة السجدة وسورة المصابيح مكية وهي أربع وخمسون آية وسبعمائة وست وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)
قوله عز وجل: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت وميزت وجعلت معاني مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد قُرْآناً عَرَبِيًّا أي باللسان العربي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي إنما أنزلناه على العرب بلغتهم ليفهموا منه والمراد ولو كان بغير لسانهم ما فهموه بَشِيراً وَنَذِيراً نعتان للقرآن أي بشيرا لأولياء الله بالثواب ونذيرا لأعدائه بالعقاب فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي عنه فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يصغون إليه تكبرا وَقالُوا يعني مشركي مكة قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي فلا نفقه ما تقول وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم فلا نسمع ما تقول والمعنى أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول فَاعْمَلْ أي أنت على دينك إِنَّنا عامِلُونَ أي على ديننا قُلْ يا محمد إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي كواحد منكم يُوحى إِلَيَّ أي لولا الوحي ما دعوتكم، قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي توجهوا إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله وَاسْتَغْفِرُوهُ أي من ذنوبكم وشرككم وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس: لا يقولون لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس، والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. وقيل: لا يقرون بالزكاة المفروضة ولا يرون إتيانها واجبا يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقيل: معناه لا ينفقون في طاعة الله ولا يتصدقون، وقيل: لا يزكون أعمالهم وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي جاحدون بالبعث بعد الموت.(4/82)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
[سورة فصلت (41) : الآيات 8 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: غير مقطوع، وقيل: غير منقوص، وقيل: غير ممنون عليهم به، وقيل: غير محسوب. قيل نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن العمل والطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه (خ) عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة ولا مرتين يقول «إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر كتب الله تعالى له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» .
قوله عز وجل: قُلْ أَإِنَّكُمْ استفهام بمعنى الإنكار وذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله تعالى وهو قوله تعالى لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وثانيهما وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً إثبات الشركاء والأنداد له والمعنى كيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين يعني الأحد والاثنين ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي هو رب العالمين وخالقهم المستحق للعبادة لا الأصنام المنحوتة من الخشب والحجر وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها أي من فوق الأرض وَبارَكَ فِيها أي في الأرض بكثرة الخيرات الحاصلة فيها وهو ما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم وقيل قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة وقيل قدر البر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر والذرة لأهل قطر والسمك لأهل قطر وكذلك سائر الأقوات.
قيل إن الزراعة أكثر الحرف بركة لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض قال الله تعالى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين فخلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وهما يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فصارت أربعة أيام رد الآخر على الأول في الذكر سَواءً لِلسَّائِلِينَ معناه سواء لمن سأل عن ذلك أي فهكذا الأمر سواء لا زيادة فيه ولا نقصان جوابا لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي عمد إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ ذلك الدخان كان بخار الماء، قيل كان العرش قبل خلق السموات والأرض على الماء فلما أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض أمر الريح فضربت الماء فارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السماء ثم أيبس الماء فخلقه أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبعا.
فإن قلت هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وقوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء فكيف الجمع بينهما.
قلت الجواب المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولا ثم خلق السماء بعدها ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها.
وجواب آخر وهو أن يقال إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين، وليس الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط بل هو عبارة عن التقدير أيضا فيكون المعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء فعلى هذا يزول الإشكال والله أعلم بالحقيقة فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي ائتيا ما أمرتكما به أي افعلاه وقيل افعلا ما أمرتكما طوعا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ معناه أتينا بما فينا طائعين فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل.(4/83)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قيل قال الله تعالى لهما أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمرك ونباتك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 12 الى 14]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)
وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي أتمهن وفرغ من خلقهن فِي يَوْمَيْنِ وهما الخميس والجمعة وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال ابن عباس خلق في كل سماء خلقا من الملائكة وخلق ما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى وقيل أوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي التي تلي الأرض بِمَصابِيحَ أي بكواكب تشرق كالمصابيح وَحِفْظاً أي وجعلناها يعني الكواكب حفظا للسماء من الشياطين الذين يسترقون السمع ذلِكَ أي الذي ذكر من صنعه وخلقه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي في ملكه الْعَلِيمِ أي بخلقه وفيه إشارة إلى كمال القدرة والعلم.
قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ أي خوفتكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي هلاكا مثل هلاكهم والصاعقة المهلكة من كل شيء إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ يعني إلى عاد وثمود مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم وهما هود وصالح وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم أَلَّا أي بأن لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يعني لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة بدل هؤلاء الرسل فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال: «قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه ثم أتينا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه فلما خرج إليه قال: يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب» وقال محمد بن كعب القرظي: حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا(4/84)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
لعله يقبل منا بعضها فنعطيه ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يزيدون ويكثرون قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعيبت آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها فقال صلّى الله عليه وسلّم قل يا أبا الوليد فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا شعر جاش به صدرك فنعذرك فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه أحد حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني، قال: فافعل، فقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ثم مضى فيها يقرأ فلما سمعها عتبة أنصت وألقى يده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السجدة فسجد ثم قال أسمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ما هو بشعر ولا بسحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني يا معشر قريش خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله محمد يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم» .
[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
قوله عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وذلك أن هودا هددهم بالعذاب فقالوا نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا وكانوا ذوي أجسام طوال قال الله تعالى ردا عليهم أَوَلَمْ يَرَوْا أي أو لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي عاصف شديد الصوت وقيل هي الريح الباردة فقيل إن الريح ثمانية، فأربع منها عذاب وهي الريح الصرصر والعاصف والقاصف والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قيل أرسل عليهم من الريح على قدر خرق الخاتم فأهلكوا جميعا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي نكدات مشؤومات ذات نحس وقيل ذات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه وقيل أمسك الله عز وجل عنهم المطر ثلاث سنين ودأبت عليهم الريح من غير مطر لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي عذاب الذل والهوان وذلك مقابل لقوله فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ذلك الذي نزل بهم من الخزي والهوان في الحياة الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي أشد إهانة وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب.
[سورة فصلت (41) : آية 17]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس بينا لهم سبيل الهدى وقيل دللناهم على الخير والشر فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي اختاروا الكفر على الإيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي ذي الهوان بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من الشرك.(4/85)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
[سورة فصلت (41) : الآيات 18 الى 24]
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي يتقون الشرك والأعمال الخبيثة وهم صالح ومن آمن معه من قومه.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يساقون ويدفعون وقيل يحبس أولهم حتى يلحق آخرهم حَتَّى إِذا ما جاؤُها يعني النار شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي بشراتهم وقيل فروجهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معناه أن الجوارح تنطق بما كتمت الألسن من عملهم (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه عز وجل يقول يا رب ألم تجرني من الظلم، قال فيقول بلى فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين عليك شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأعضائه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» وَقالُوا يعني الكفار الذين يجرون إلى النار لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ معناه أن القادر الذي خلقكم أول مرة في الدنيا وأنطقكم ثم أعادكم بعد الموت قادر على إنطاق الأعضاء والجوارح وهو قوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقيل تم الكلام عند قوله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ثم ابتدأ بقوله وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقيل إنه ليس من جواب الجلود وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أي تستخفون وقيل معناه تظنون أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ والمعنى أنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ولا تظنون أنها تشهد عليكم وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر (ق) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون أن الله تعالى يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ
قيل الثقفي هو عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
قوله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أَرْداكُمْ أي أهلككم قال ابن عباس طرحكم في النار فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ثم أخبر عن حالهم بقوله تعالى فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي مسكن وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسترضوا ويطلبوا العتبى والمعتب هو الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المرضيين.(4/86)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
[سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 29]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
وَقَيَّضْنا لَهُمْ أي بعثنا ووكلنا وقيل هيأنا لهم وسببنا لهم قُرَناءَ أي نظراء من الشياطين حتى أضلوهم فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي من أمر الدنيا حتى آثروهم على الآخرة وَما خَلْفَهُمْ أي فدعوهم إلى التكذيب بالآخرة وإنكار البعث وقيل حسنوا لهم أعمالهم القبيحة الماضية والمستقبلة وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب فِي أُمَمٍ أي مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي قريش لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس: والغطوا فيه من اللغط وهو كثرة الأصوات كان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر وقيل أكثروا الكلام حتى يتخلط عليه ما يقول وقيل والغوا فيه بالمكاء والصفير وقيل صيحوا في وجهه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ يعني محمدا على قراءته فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ يعني بأسوأ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي في الدنيا وهو الشرك ذلِكَ أي الذي ذكر من العذاب جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ ثم بين ذلك الجزاء فقال النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي دار الإقامة لا انتقال لهم عنها جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في النار رَبَّنا أي يقولون يا ربنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه لأنهما سنّا المعصية نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي في النار لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي في الدرك الأسفل من النار وقال ابن عباس: ليكونا أشد عذاب منا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قال أهل التحقيق كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته لأجل العمل به، ورأس المعرفة اليقينية معرفة الله تعالى وإليه الإشارة بقوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ورأس الأعمال الصالحة أن يكون الإنسان مستقيما في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط فتكون الاستقامة في أمر الدين والتوحيد فتكون في الأعمال الصالحة. سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الاستقامة فقال:
أن لا تشرك بالله شيئا وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.
وقال عثمان رضي الله تعالى عنه: استقاموا أخلصوا في العمل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أدوا الفرائض، وهو قول ابن عباس. وقيل استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وقيل:
استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وكان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قال ابن عباس عند الموت وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى تكون في(4/87)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث أَلَّا تَخافُوا أي من الموت وقيل لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة وَلا تَحْزَنُوا أي على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله وقيل لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فأنا أغفرها لكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ أي تقول الملائكة عند نزولهم بالبشرى نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم وقيل تقول لهم الحفظة نحن كنا معكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَنحن أولياؤكم فِي الْآخِرَةِ
لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وَلَكُمْ فِيها
أي في الجنة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
أي من الكرامات واللذات وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
أي تتمنون نُزُلًا أي رزقا والنزل رزق النزيل والنزيل هو الضيف مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل والكريم إذا أعطى هذا النزل فما ظنك بما بعده من الألطاف والكرامة.
قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعة الله تعالى وقيل هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: هو المؤمن أجاب الله تعالى فيما دعاه إليه ودعا الناس إلى ما أجاب إليه وَعَمِلَ صالِحاً في إجابته وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أرى أن هذه الآية نزلت في المؤذنين وقيل إن كل من دعا إلى الله تعالى بطريق من الطرق فهو داخل في هذه الآية.
وللدعوة إلى الله تعالى مراتب:
الأولى: دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الله تعالى بالمعجزات وبالحجج والبراهين وبالسيف وهذه المرتبة لم تتفق لغير الأنبياء.
المرتبة الثانية: دعوة العلماء إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط والعلماء أقسام علماء بالله وعلماء بصفات الله وعلماء بأحكام الله.
المرتبة الثالثة: دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف فهم يجاهدون الكفار حتى يدخلوا في دين الله وطاعته.
المرتبة الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم أيضا دعاة إلى الله تعالى وإلى طاعته، وعمل صالحا، قيل:
العمل الصالح على قسمين قسم يكون من أعمال القلوب وهو معرفة الله تعالى وقسم يكون بالجوارح وهو سائر الطاعات وقيل: وعمل صالحا صلّى ركعتين بين الأذان والإقامة (ق) . عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال في الثالثة لمن شاء» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
«الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» أخرجه أبو داود والترمذي، وقال هذا حديث حسن. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قيل ليس الغرض منه القول فقط بل يضم إليه اعتقاد القلب فيعتقد بقلبه دين الإسلام مع التلفظ به.
[سورة فصلت (41) : الآيات 34 الى 38]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ يعني الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة(4/88)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال ابن عباس أمره بالصبر عند الغضب وبالحلم عند الجهل وبالعفو عند الإساءة فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي صديق قريب، قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب وذلك حيث لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة وَما يُلَقَّاها أي وما يلقى هذه الخصلة والفعلة وهي دفع السيئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام وما يلقاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من الخير والثواب وقيل الحظ العظيم الجنة يعني ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى ما لا ينبغي ومعنى الآية وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من شره إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لاستعاذتك الْعَلِيمُ بأحوالك.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أي ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ أي إنهما مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي المستحق للسجود والتعظيم هو الله خالق الليل والنهار والشمس والقمر إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويزعمون أن سجودهم لهذه الكواكب هو سجود لله عز وجل فنهوا عن السجود لهذه الوسائط وأمروا بالسجود لله الذي خلق هذه الأشياء كلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي عن السجود لله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يفترون ولا يملون.
(فصل) وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما أنه عند قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وهو قول ابن مسعود والحسن وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد لأن ذكر السجدة قبله والثاني وهو الأصح عند أصحاب الشافعي وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة لأن عنده يتم الكلام.
[سورة فصلت (41) : الآيات 39 الى 43]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي يميلون عن الحق فِي آياتِنا أي في أدلتنا قيل بالمكاء والتصدية واللغو واللغط وقيل يكذبون بآياتنا ويعاندون ويشاقون لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا تهديد ووعيد قيل نزلت في أبي جهل أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ هو أبو جهل خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ المعنى الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا آمنون يوم القيامة قيل هو حمزة وقيل عثمان وقيل عمار بن ياسر اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر تهديد ووعيد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها(4/89)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن وفي جواب إن وجهان أحدهما أنه محذوف تقديره إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم، والثاني جوابه أولئك ينادون من مكان بعيد ثم أخذ في وصف الذكر فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال ابن عباس: كريم على الله تعالى، وقيل: العزيز العديم النظير وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته وقيل أعزه الله بمعنى منعه فلا يجد الباطل إليه سبيلا وهو قوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قيل الباطل هو الشيطان فلا يستطيع أن يغيره وقيل إنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيأتيه الباطل من خلفه فعلى هذا يكون معنى الباطل الزيادة والنقصان وقيل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله وقيل معناه أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه وقيل: لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان ولا فيما تأخر تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أي في جميع أفعاله حَمِيدٍ أي إلى جميع خلقه بسبب نعمه عليهم ثم عزى الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم على تكذيبهم إياه فقال عز وجل: ما يُقالُ لَكَ أي من الأذى والتكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعني أنه قد قيل للأنبياء قبلك ساحر كما يقال لك وكذبوا كما كذبت إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي لمن تاب وآمن بك وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي لمن أصر على التكذيب.
[سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 47]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
قوله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس قُرْآناً أَعْجَمِيًّا يعني بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ يعني هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمهاءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعني أكتاب أعجمي ورسول عربي وهذا استفهام إنكار والمعنى لو نزل الكتاب بلغة العجم لقالوا كيف يكون المنزل عليه عربيا والمنزل أعجميا، وقيل في معنى الآية: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أنزلنا الكلام العجمي إلى القوم العرب ولصح قولهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، وأنا لما أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب وهم يفهمونه فكيف يمكنهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر وقيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال إنك تعلم محمدا فقال هو والله يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية قُلْ يا محمد هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يعني من الضلالة وَشِفاءٌ يعني لما في القلوب من مرض الشرك والشك وقيل شفاء من الأوجاع والأسقام وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعني صموا عن استماع القرآن وعموا عنه فلا ينتفعون به أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعني كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم كذلك هؤلاء في قلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني فمصدق به ومكذب كما اختلف قومك في كتابك وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني لفرغ من عذابهم وعجل(4/90)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
إهلاكهم وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يعني من كتابك وصدقك مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ يعني يعود نفع إيمانه وعمله لنفسه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني ضرر إساءته أو كفره يعود على نفسه أيضا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني فيعذب غير المسيء.
قوله عز وجل: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ يعني إذا سأل عنها سائل قيل له لا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله تعالى ولا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها، وقال ابن عباس:
هو الكفرى قبل أن ينشق وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي يعلم قدر أيام الحمل وساعاته ومتى يكون الوضع وذكر الحمل هو أم أنثى ومعنى الآية كما يرد إليه علم الساعة فكذلك يرد إليه علم ما يحدث من كل شيء كالثمار والنتاج وغيره.
فإن قلت قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشف قولا فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون.
قلت أما أصحاب الكشف إذا قالوا قولا فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد لا يصيب وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله تعالى المشركين فيقول أَيْنَ شُرَكائِي أي الذين تدعون أنها آلهة قالُوا يعني المشركين آذَنَّاكَ أي أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي يشهد أن لك شريكا وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام.
[سورة فصلت (41) : الآيات 48 الى 53]
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي يعبدون في الدنيا وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب.
قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي لا يمل الكافر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ يعني لا يزال يسأل ربه الخير وهو المال والغنى والصحة وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والفقر فَيَؤُسٌ أي من روح الله تعالى قَنُوطٌ أي من رحمته وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا أي آتيناه خيرا وعافية وغنى مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة وبلاء أصابه لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي أستحقه بعملي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي ولست على يقين من البعث وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي يقول هذا الكافر أي فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الجنة والمعنى كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا قال ابن عباس لنوقفنهم على مساوي أعمالهم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والفقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير قُلْ أي قل يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي هذا القرآن ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ أي جحدتموه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف للحق بعيد عنه والمعنى فلا أحد أضل منكم سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس يعني منازل(4/91)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
الأمم الخالية وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي البلاء والأمراض وقيل ما نزل بهم يوم بدر وقيل في الآفاق هو ما يفتح من القرى والبلاد على محمد صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وفي أنفسهم هو فتح مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني دين الإسلام، وقيل يتبين القرآن أنه من عند الله وقيل يتبين لهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مؤيد من قبل الله تعالى وقيل في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار والنبات وفي أنفسهم يعني من لطيف الحكمة وبديع الصنعة حتى يتبين لهم أنه الحق يعني لا يقدر على هذه الأشياء إلا الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني يشهد أن القرآن من عند الله تعالى، وقيل أولم يكفهم الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله لهم على التوحيد وأنه شاهد لا يغيب عنه شيء.
[سورة فصلت (41) : آية 54]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من القيامة أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/92)
حم (1)
سورة حم عسق
وتسمى سورة الشورى وهي مكية، في قول ابن عباس والجمهور وحكي عن ابن عباس إلا أربع آيات نزلت بالمدينة أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقيل فيها من المدني ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله تعالى:
بِذاتِ الصُّدُورِ وقوله وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إلى قوله مِنْ سَبِيلٍ وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا والله أعلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله عز وجل: حم عسق سئل الحسين بن الفضل لم قطع حروف حم عسق ولم يقطع حروف المص والمر وكهيعص، فقال: لأنها بين سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره لأن حم عسق عدت آيتين وعدت أخواتها التي لم تقطع آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلا فقال معناها حم الأمر أي قضى وبقي عسق على أصله. وقال ابن عباس ح حلمه م مجده ع علمه س سناه ق قدرته أقسم الله عز وجل بها. وقيل إن العين من العزيز والسين من قدوس والقاف من قاهر وقيل ح حرب في قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز م ملك يتحول من قوم إلى قوم ع عدو لقريش يقصدهم س سنون كسني يوسف ق قدرة الله في خلقه، وقيل هذا في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فالحاء حوضه المورود والميم ملكه الممدود والعين عزه الموجود والسين سناؤه المشهود والقاف قيامه في المقام المحمود وقربه من الملك المعبود وقال ابن عباس ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق فلذلك قال الله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ وقيل معناه كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى الذين من قبلك اللَّهُ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، والمعنى كأنه قيل من يوحي فقال الله العزيز الحكيم ثم وصف نفسه وسعة ملكه فقال تعالى:
[سورة الشورى (42) : الآيات 4 الى 7]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي من فوق الأرضين وقيل تنفطر كل واحدة فوق التي تليها من عظمة الله تعالى وقيل من قول المشركين اتخذ الله ولدا(4/93)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق بجلاله وقيل يصلون بأمر ربهم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من المؤمنين دون الكفار، لأن الكافر لا يستحق أن تستغفر له الملائكة، وقيل يحتمل أن يكون لجميع من في الأرض أما في حق الكافرين فبواسطة طلب الإيمان لهم ويحتمل أن يكون المراد من الاستغفار لا يعاجلهم بالعقاب وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، وقيل استغفارهم لمن في الأرض هو سؤال الرزق لهم فيدخل فيه المؤمن والكافر أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يعني أنه تعالى يعطي المغفرة التي سألوها ويضم إليها بمنه وكرمه الرحمة العامة الشاملة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي جعلوا له شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يعني رقيب على أحوالهم وأعمالهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني لم توكل بهم حتى تؤخذ بهم إنما أنت نذير وَكَذلِكَ أي ومثل ما ذكرنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني مكة والمراد أهلها وَمَنْ حَوْلَها يعني قرى الأرض كلها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي وتنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله سبحانه وتعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد ذلك يتفرقون وهو قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم قابضا على كفه ومعه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة فقال عبد الله بن عمرو ففيم العمل إذا؟ قال اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ثم قال فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 11]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً قال ابن عباس: على دين واحد وقيل على ملة الإسلام وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دين الإسلام وَالظَّالِمُونَ أي الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ أي يدفع عنهم العذاب وَلا نَصِيرٍ أي يمنعهم من العذاب أَمِ اتَّخَذُوا يعني الكفار مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قال ابن عباس هو وليك يا محمد وولي من تبعك وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أن من يكون بهذه الصفة فهو الحقيق بأن يتخذ وليا ومن لا يكون بهذه الصفة فليس بولي وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي من أمر الدين فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب وقيل علمه إلى الله وقيل تحاكموا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن حكمه من حكم الله تعالى ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته ذلِكُمُ اللَّهُ يعني الذي يحكم بين المختلفين هو الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(4/94)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
يعني وإليه أرجع في كل المهمات فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني من جنسكم أَزْواجاً يعني حلائل، وإنما قال من أنفسكم لأن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ يعني يخلقكم وقيل يكثركم فِيهِ يعني في الرحم وقيل في البطن لأنه قد تقدم ذكر الأزواج وقيل نسلا بعد نسل حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل وقيل الضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطب من الناس والأنعام إلا أنه غلب جانب الناس وهم العقلاء على غير العقلاء من الأنعام، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به أي يكثركم بالتزويج لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ المثل صلة أي ليس كهو شيء وقيل الكاف صلة مجازه ليس مثله شيء، قال ابن عباس: ليس له نظير.
فإن قلت هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقتضي إثبات المثل فما الفرق.
قلت المثل الذي يكون مساويا في بعض الصفات الخارجية على الماهية فقوله ليس كمثله شيء معناه ليس له نظير، كما قاله ابن عباس أو يكون معناه ليس لذاته سبحانه وتعالى مثل وقوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى معناه وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد فقد ظهر بهذا التفسير معنى الآيتين وحصل الفرق بينهما وَهُوَ السَّمِيعُ يعني لسائر المسموعات الْبَصِيرُ يعني المبصرات.
[سورة الشورى (42) : الآيات 12 الى 15]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني مفاتيح الرزق في السموات يعني المطر وفي الأرض يعني النبات يدل عليه قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي أنه يوسع على ن يشاء ويضيق على من يشاء لأن مفاتيح الرزق بيده إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي من البسط والتضييق.
قوله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أي ما بين وسن لكم طريقا واضحا من الدين، أي دينا تطابقت على صحته الأنبياء وهو قوله تعالى: ما وَصَّى بِهِ نُوحاً أي أنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد دينا واحدا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي من القرآن وشرائع الإسلام وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة وأولو العزم.
ثم فسر المشروع الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من رسله بقوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ والمراد بإقامة الدين هو توحيد الله والإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر وطاعة الله في أوامره ونواهيه وسائر ما يكون الرجل به مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة قال الله(4/95)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وقيل أراد تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقيل تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنه مجمع على تحريمهن، وقيل لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله تعالى بالوحدانية والطاعة وقيل بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من التوحيد ورفض الأوثان اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي يصطفي لدينه من يشاء من عباده وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يقبل على طاعته وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي بأن الفرقة ضلالة بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وقيل بغيا منهم على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي في تأخير العذاب عنهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين من آمن وكفر يعني لأنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أنبيائهم وقيل الأمم الخالية لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يؤمنون به مُرِيبٍ يعني مرتابين شاكين فيه فَلِذلِكَ أي إلى ذلك فَادْعُ أي إلى ما وصى الله تعالى به الأنبياء من التوحيد وقيل لأجل ما حدث به من الاختلاف في الدين الكثير فادع أنت إلى الاتفاق على الملة الحنيفية وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي أثبت على الدين الذي أمرت به وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي المختلفة الباطلة وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي آمنت بكتب الله المنزلة كلها وذلك لأن المتفرقين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال ابن عباس أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام وقيل لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء وقيل لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم وتحاكمتم إلى اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن إله الكل واحد وكل أحد مخصوص بعمل نفسه وإن اختلفت أعمالنا فكل يجازي بعمله لا حُجَّةَ أي لا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ وهذه الآية منسوخة بآية القتال إذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة فلم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أي في المعاد لفصل القضاء وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
[سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 18]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دين الله قيل هم اليهود قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس لدين الله تعالى فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزة نبيه صلّى الله عليه وسلّم حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي خصومتهم باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي في الآخرة اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي وقت إتيانها قريب وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا تكذيبا له متى تكون الساعة فأنزل الله تعالى:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها أي ظنا منهم أنها غير آتية وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ أي خائفون مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي أنها آتية لا شك فيها أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ أي يخاصمون فِي السَّاعَةِ وقيل يشكون فيها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قوله عز وجل:(4/96)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 23]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان إليهم، قال ابن عباس: حفي بهم وقيل رفيق وقيل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم يدل عليه قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعني أن الإحسان والبر إنعام في حق كل العباد وهو إعطاء ما لا بد منه فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه، وقيل لطفه في الرزق من وجهين أحدهما أنه جعل رزقكم من الطيبات والثاني أنه لم يدفعه إليكم مرة واحدة وَهُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على كل ما يشاء الْعَزِيزُ أي الذي لا يغالب ولا يدافع مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أي كسب الآخرة والمعنى من كان يريد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي بالتضعيف الواحدة إلى عشرة إلى ما يشاء الله تعالى من الزيادة، وقيل إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعة إليه وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني يريد بعمله الدنيا مؤثرا لها على الآخرة نُؤْتِهِ مِنْها أي ما قدر وقسم له منها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يعني لأنه لم يعمل لها، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» ذكره في جامع الأصول ولم يعزه إلى أحد من الكتب الستة وأخرجه البغوي بإسناده.
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ يعني كفار مكة شُرَكاءُ يعني الأصنام وقيل الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ قال ابن عباس شرعوا لهم غير دين الإسلام ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يعني أن تلك الشرائع بأسرها على خلاف دين الله تعالى الذي أمر به وذلك أنهم زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم لا يعلمون غيرها وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ يعني أن الله حكم بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة تَرَى الظَّالِمِينَ يعني يوم القيامة مُشْفِقِينَ أي وجلين خائفين مِمَّا كَسَبُوا أي من الشرك والأعمال الخبيثة وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي جزاء كسبهم واقع بهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأن هذه الروضات أطيب بقاع الجنة فلذلك خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بها وفيه تنبيه على أن الجنة منازل غير الروضات هي لمن هو دون الذين عملوا الصالحات من أهل القبلة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي من الكرامة ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ أي الذي ذكر من نعيم الجنة الذي يبشر الله به عباده الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قوله عز وجل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة أَجْراً أي جزاء إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: عجبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن بطن من قريش إلا وله فيهم قرابة فقال ألا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وعن ابن عباس أيضا في قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى: يعني أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي، وإليه(4/97)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضحاك (خ) عن ابن عمر أن أبا بكر قال: ارقبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم في أهل بيته واختلفوا في قرابته، فقيل علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أهل بيته من تحرم عليه الصدقة من أقاربه وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام (م) . عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به» فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ثم قال «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين من أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرمت عليهم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» .
فإن قلت طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي لا يجوز لقوله في قصة نوح عليه السلام وغيره من الأنبياء وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
قلت لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة.
بقي الجواب عن قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى.
فالجواب عنه من وجهين: الأول معناه لا أطلب منكم إلا هذه وهذا في الحقيقة ليس بأجر ومنه قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
معناه إذا كان هذا عيبهم فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين كان في أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى فقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى المودة في القربى ليست أجرا في الحقيقة لأن قرابته قرابتهم فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم فثبت أن لا أجر البتة، والوجه الثاني أن هذا الاستثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قل لا أسألكم عليه أجرا ثم ابتدأ فقال إلا المودة في القربى أي لكن أذكركم المودة في قرابتي الذين هم قرابتكم فلا تؤذوهم وقيل: إن هذه الآية منسوخة وذلك لأنها نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلة رحمه فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من النبيين فأنزل الله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فصارت هذه الآية ناسخة لقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وإليه ذهب الضحاك والحسين بن الفضل، والقول بنسخ هذه الآية غير مرضي لأن مودة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه من فرائض الدين وهو قول السلف فلا يجوز المصير إلى نسخ هذه الآية. وروي عن ابن عباس في معنى الآية قول آخر قال: إلا أن توادوا الله وتتقربوا إليه بطاعته وهو قول الحسن قال هو القربى إلى الله يقول إلا التقرب إلى الله تعالى والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي بالتضعيف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب شَكُورٌ أي للقليل من الأعمال حتى يضاعفها.
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 25]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)
أَمْ يَقُولُونَ أي بل يقول كفار مكة افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيه توبيخ لهم معناه أيقع في قلوبهم ويجري(4/98)
على لسانهم أن ينسبوا مثله إلى الكذب وأنه افترى على الله كذبا وهو أقبح أنواع الكذب فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أي يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم وقولهم إنه مفتر وقيل معناه يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله بالفعل به ما أخبر به في هذه الآية وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أخبره الله تعالى أن ما يقولونه الباطل والله عز وجل يمحوه وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يحق الإسلام بما أنزل من كتابه وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال ابن عباس: لما نزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره أنهم اتهموه وأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أولياؤه وأهل طاعته.
(فصل في ذكر التوبة وحكمها) قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا.
فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة وإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة والشرط الرابع أن يبرأ من حق صاحبها فهذه شروط التوبة وقيل التوبة الانتقال عن المعاصي نية وفعلا والإقبال على الطاعات نية وفعلا، وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة (خ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (م) عن الأغر بن بشار المزني قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقذ ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده الدوية الفلاة والمفازة» (ق) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها» الآية أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) . عن أبي موسى(4/99)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقوله عز وجل: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي يمحوها إذا تابوا وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعين من خير وشر فيجازيهم عليهم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 26 الى 28]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني يجيب المؤمنون الله تعالى فيما دعاهم لطاعته وقيل معناه ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه، وقال ابن عباس: ويثبت الذين آمنوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه، وقال ابن عباس: يشفعهم في إخوانهم ويزيدهم من فضله، قال في إخوان إخوانهم وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ قوله عز وجل: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي وسع الله الرزق لعباده لَبَغَوْا أي لطغوا وعتوا فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس، وقيل: إن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة رجع إلى مقتضى طبعه وهو التكبر وإذا وقع في شدة ومكروه وفقر انكسر فرجع إلى الطاعة والتواضع، وقيل: إن البغي مع القبض والفقر أقل ومع البسط والغنى أكثر لأن النفس مائلة إلى الشر لكنها إذا كانت فاقدة لآلاته كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ يعني الأرزاق نظرا لمصالح عباده وهو قوله تعالى: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ والمعنى أنه تعالى عالم بأحوال عباده وبطبائعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم يدل على ذلك ما روى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله عز وجل قال «يقول الله عز وجل من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى لو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» أخرجه البغوي بإسناده.
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي يئس الناس منه وذلك أدعى لهم إلى الشكر قيل حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ثم أنزل الله عز وجل المطر فذكرهم نعمته لأن الفرح بحصول النعمة بعد الشدة أتم وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي يبسط بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب وَهُوَ الْوَلِيُّ أي لأهل طاعته الْحَمِيدُ أي المحمود على ما يوصل إلى الخلق من أقسام رحمته.(4/100)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
[سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 33]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ أي أوجد فِيهِما أي في السموات والأرض مِنْ دابَّةٍ.
فإن قلت كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة.
قلت الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما يوصف به الإنسان، وقيل: يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يدبون دبيب الإنسان وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يعني يوم القيامة.
قوله عز وجل: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع والأسقام والقحط والغلاء والغرق والصواعق وغير ذلك من المصائب فبما كسبت أيديكم من الذنوب والمعاصي وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لكم يا علي ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أي من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن الله ليرفعه لها إلا بها (ق) . عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين فِي الْأَرْضِ هربا يعني لا تعجزوني حيثما كنتم وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ يعني السفن وهي السيارة فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالقصور وكل شيء مرتفع عند العرب فهو علم إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي التي تجري بها السفن فَيَظْلَلْنَ يعني السفن الجواري رَواكِدَ أي ثوابت عَلى ظَهْرِهِ أي ظهر البحر لا تجري إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وهذه صفة المؤمن لأنه يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء.
[سورة الشورى (42) : الآيات 34 الى 39]
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي يغرقهن ويهلكهن بِما كَسَبُوا أي بما كسبت ركابها من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي من ذنوبهم فلا يعاقب عليها وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله تعالى ما لهم من مهرب من عذابه فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي من زينة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ليس هو من زاد المعاد وَما عِنْدَ اللَّهِ أي من الثواب خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(4/101)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
والمعنى أن المؤمن والكافر يستويان في متاع الحياة الدنيا فإذا صارا إلى الله تعالى كان ما عند الله من الثواب خيرا وأبقى للمؤمن وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعني كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة وشبه ذلك وَالْفَواحِشَ يعني ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني يكظمون الغيظ ويجهلون وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ يعني أجابوا إلى ما دعاهم إليه من طاعته وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يعني يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون ولا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه قيل.
ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ يعني الظلم والعدوان هُمْ يَنْتَصِرُونَ يعني ينتقمون من ظالمهم من غير تعد قال ابن زيد جعل الله تعالى المؤمنين صنفين صنف يعفون عمن ظلمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فإذا قدروا عفوا.
وقيل: إن العفو إغراء للسفيه وقال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ثم مكنهم الله عز وجل في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم ثم بين الله تعالى أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال تعالى:
[سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 44]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة وقيل لأن الجزاء يسوء من ينزل به، وقيل هو جزاء القبيح إذا قال أخزاك الله فقل له أخزاك الله ولا تزد وإذا شتمك فاشتمه بمثلها ولا تعتدوا وقيل هو في القصاص في الجراحات والدماء يقتص بمثل ما جنى عليه وقيل إن الله تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: فَمَنْ عَفا أي عمن ظلمه وَأَصْلَحَ أي بالعفو بينه وبين الظالم فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي بعقوبة ومؤاخذة إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدؤون بالظالم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يعملون فيها بالمعاصي أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ أي لم ينتصر وَغَفَرَ تجاوز عن ظالمه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني تركه الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة التي أمر الله عز وجل بها وقيل إن الصابر يؤتي بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزما وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يعني ماله من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه أو يمنعه من عذابه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يعني يوم القيامة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يعني أنهم يسألون الرجعة إلى الدنيا.(4/102)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
[سورة الشورى (42) : الآيات 45 الى 49]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي خاضعين متواضعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ يعني يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم، وقيل ينظرون بطرف خفي أي ضعيف من الذل، وقيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا والنظر بالقلب خفي وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بأن صاروا إلى النار. وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني وخسروا أهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي وصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى فقد استدت عليهم طرق الخير اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا داعي الله يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة وقيل هو يوم الموت ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي ما لكم من مخلص من العذاب وقيل من الموت وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي ينكر حالكم وقيل النكير الإنكار يعني لا تقدرون أن تنكروا من أعمالكم شيئا فَإِنْ أَعْرَضُوا أي عن الإجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي تحفظ أعمالهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي ليس عليك إلا البلاغ وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً قال ابن عباس: يعني الغنى والصحة فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي قحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الأعمال الخبيثة فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي لما تقدم من نعمة الله تعالى عليه.
قوله عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني له التصرف فيهما بما يريد يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لا يقدر أحد أن يعترض عليه في ملكه وإرادته يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أي فلا يولد له ذكر وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي فلا يولد له أنثى.
[سورة الشورى (42) : الآيات 50 الى 52]
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يجمع بينهما فيولد له الذكور والإناث وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي فلا يولد له ولد، وقيل هذا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فقوله يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ولد له أربع بنين وأربع بنات ويجعل من يشاء عقيما يعني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لم يولد لهما وهذا على وجه التمثيل وإلا فالآية عامة في جميع الناس إِنَّهُ عَلِيمٌ أي بما يخلق قَدِيرٌ أي على ما يريد أن يخلق.(4/103)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قيل في سبب نزولها: إن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى صلّى الله عليه وسلّم ونظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده وهو وحي وكما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي يسمعه كلامه من وراء حجاب ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني من الملائكة إما جبريل أو غيره فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يعني يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في الدنيا ويأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله تعالى في سورة النجم إِنَّهُ عَلِيٌّ أي عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ أي في جميع أفعاله.
قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قال ابن عباس: نبوة، وقيل: قرآنا لأن به حياة الأرواح، وقيل: رحمة وقيل جبريل ما كُنْتَ تَدْرِي أي قبل الوحي مَا الْكِتابُ يعني القرآن وَلَا الْإِيمانُ اختلف العلماء في هذه الآية مع اتفاقهم على أن الأنبياء قبل النبوة كانوا مؤمنين فقيل معناه ما كنت تدري قبل الوحي شرائع الإيمان ومعالمه.
وقال محمد بن إسحاق عن ابن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة دليله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله تعالى لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قبل النبوة يوحد الله تعالى ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب وكان يتعبد على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم تتبين له شرائع دينه إلا بعد الوحي إليه وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً قال ابن عباس يعني الإيمان وقيل القرآن لأنه يهتدي به من الضلالة وهو قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي أي لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى دين الإسلام.
[سورة الشورى (42) : آية 53]
صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
صِراطِ اللَّهِ يعني دين الله الذي شرعه لعباده الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ يعني أمور الخلائق في الآخرة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/104)
حم (1)
سورة الزخرف
مكية وهي تسع وثمانون آية وثلاث وثلاثون كلمة «1» وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
قوله عز وجل: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ أقسم بالكتاب وهو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة وقيل المبين يعني الواضح للمتدبرين وجواب القسم إِنَّا جَعَلْناهُ أي صيرنا هذا الكتاب عربيا وقيل بيناه وقيل سميناه وقيل وصفناه وقيل أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني معانيه وأحكامه وَإِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: أول ما خلق الله عز وجل القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ثم قرأ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
أي عندنا فالقرآن مثبت عند الله تعالى في اللوح المحفوظ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أخبر عن شرفه وعلو منزلته، والمعنى إن كذبتم يا أهل مكة بالقرآن فإنه عندنا لعليّ أي رفيع شريف، وقيل على علي جميع الكتب حكيم أي محكم لا يتطرق إليه الفساد والبطلان.
قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً معناه أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمر ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان وهو قوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ والمعنى لا نفعل ذلك قال قتادة والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله عز وجل عاد بعائدته وكرامته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء الله، وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين أي معرضين عنكم، وقيل: معناه أفنطوي الذكر عنكم طيا فلا تدعون ولا توعظون وقيل أفنترككم فلا نعاقبكم على كفركم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 12]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)
__________
(1) (قوله وثلاث وثلاثون كلمة) كذا بالأصل ولا يخفى ما فيه اهـ مصححه.(4/105)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني كاستهزاء قومك بك وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي أقوى من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي صفتهم والمعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي والعقوبة.
قوله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي ولئن سألت يا محمد قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يعني أنهم أقروا بأن الله تعالى خلقهما وأقروا بعزته وعلمه ومع إقرارهم بذلك عبدوا غيره وأنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها ولما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم فَأَنْشَرْنا بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من قبوركم أحياء وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف والأنواع كلها قيل إن كل ما سوى الله تعالى فهو زوج وهو الفرد المنزه عن الأضداد والأنداد والزوجية وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ يعني في البر والبحر.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 13 الى 18]
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي على ظهور الفلك والأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعني بتسخير المركب في البر والبحر وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي ذلل لنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وقيل ضابطين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي لمنصرفون في المعاد (م) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» قوله وعثاء السفر: يعني تعبه وشدته ومشقته وكآبة المنظر وسوء المنقلب الكآبة الحزن والمنقلب المرجع وذلك أن يعود من سفره حزينا كئيبا أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال.
عن علي بن أبي ربيعة قال «شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاث مرات ثم قال الله أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل كما فعلت فقلت يا رسول الله من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً يعني ولدا وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الأب(4/106)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
ومعنى جعلوا هنا حكموا وأثبتوا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي لجحود نعم الله تعالى عليه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ هذا استفهام إنكار وتوبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات وَأَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبها لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد والمعنى أنهم نسبوا إليه البنات ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له وقد ولد لك بنت اغتم وتربد وجهه غيظا وأسفا وهو قوله تعالى: ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي من الحزن والغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة ربي ذي اقتدار فينا
قوله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يعني أو من يتربى فِي الْحِلْيَةِ يعني في الزينة والنعمة والمعنى أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ولولا نقصانها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بين نقصان حالها بوجه آخر وهو قوله وَهُوَ فِي الْخِصامِ أي المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ للحجة وذلك لضعف حالها وقلة عقلها قال قتادة قلما تكلمت امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 19 الى 23]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
وَجَعَلُوا أي وحكموا وأثبتوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ وقرئ عند الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي حضروا خلقهم حين خلقوا وهذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ أي على الملائكة أنهم بنات الله وَيُسْئَلُونَ أي عنها، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: وما يدريكم أنهم بنات الله، قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويسألون عنها في الآخرة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة وقيل الأصنام وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال الله تعالى ردا عليهم.
ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني ما هم إلا كاذبون في قولهم إن الله رضي منا بعبادتها، وقيل يكذبون في قولهم إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي يأخذون بما فيه بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وملة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذه المقالة بقوله تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أغنياؤها ورؤساؤها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي بهم.(4/107)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 24 الى 31]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى أي بدين هو أصوب مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ فأبوا أن يقبلوا قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي معناه أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله الذي خلقني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي يرشدني إلى دينه وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي لا إله إلا الله كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه من الشرك إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعني كفار مكة وَآباءَهُمْ في الدنيا بالمد في العمر والنعمة ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن وقيل الإسلام وَرَسُولٌ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم مُبِينٌ أي يبين لهم الأحكام وقيل بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والمعجزات وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه فلم يفعلوا بل كذبوا وعصوا وسموه ساحرا وهو قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ قوله عز وجل: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ معناه أنهم قالوا منصب النبوة منصب عظيم شريف لا يليق إلا برجل شريف عظيم كثير المال والجاه من إحدى القريتين وهما مكة والطائف واختلفوا في هذا الرجل العظيم قيل الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف وقيل عتبة بن ربيعة من مكة وكنانة بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وقال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمير الثقفي قال الله تعالى ردا عليهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 32 الى 35]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ معناه أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعوها حيث شاؤوا وفيه الإنكار الدال على تجهيلهم والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثلا فقال تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا مالكا وهذا مملوكا وهذا قويا وهذا ضعيفا ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإذا عجزوا عن الاعتراض في حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها وذلتها فكيف يقدرون على الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض عبادنا بمنصب النبوة والرسالة والمعنى كما فضلنا بعضهم على بعض كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ثم قال تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا يعني لو أننا سوينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره، وحينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا ولكنا فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا فتسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش فهذا بماله وهذا بعمله فيلتئم قوام العالم وقيل يملك(4/108)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
بعضهم بما له بعضا بالملك وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني الجنة خَيْرٌ يعني للمؤمنين مِمَّا يَجْمَعُونَ أي يجمع الكفار من الأموال لأن الدنيا على شرف الزوال والانقراض وفضل الله ورحمته يبقى أبد الآبدين.
قوله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي لولا أن يصيروا كلهم كفارا فيجتمعون على الكفر ويرغبون فيه إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيت الكفار أكثر الأسباب المفيدة للتنعم وهو قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ يعني مصاعد ودرجات من فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ يصعدون ويرتقون عليها وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً أي من فضة وَسُرُراً أي ولجعلنا لهم سررا من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي ولجعلنا من ذلك زخرفا وهو الذهب وقيل الزخرف الزينة من كل شيء وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أن الإنسان يستمتع بذلك قليلا ثم ينقضي لأن الدنيا سريعة الزوال والذهاب وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ يعني الجنة خاصة للمتقين الذين تركوا الدنيا.
عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو كانت الدنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وعن المستورد بن شداد جد بني فهر قال «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله قال فإن الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا أحبّ الله عبدا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» .
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 39]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ أي يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي فلم يخف عقابه ولم يرد ثوابه وقيل يول ظهره عن القرآن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نسبب له شيطانا ونضمه إليه ونسلطه عليه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يعني لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني يمنعونهم عن الهدى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى حَتَّى إِذا جاءَنا يعني الكافر وحده وقرئ جاءنا على التثنية يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة قالَ الكافر لقرينه الشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر القمران ولأبي بكر وعمر العمران، وقيل: أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، والقول الأول أصح فَبِئْسَ الْقَرِينُ يعني الشيطان قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ يعني أشركتم أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف عنكم شيئا، لأن كل واحد من الكفار والشياطين له الحظ الأوفر من العذاب وقيل لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.(4/109)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب أنهم لا يؤمنون.
قوله عز وجل: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي بأن نميتك قبل أن نعذبهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي بالقتل بعدك أَوْ نُرِيَنَّكَ أي في حياتك الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي من العذاب فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي قادرون على ذلك متى شئنا عذبناهم، وأراد به مشركي مكة وقد انتقم منهم يوم بدر وهذا يفيد التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه وعده الانتقام له منهم إما حال حياته أو بعد وفاته، وهذا قول أكثر المفسرين وقيل عني به ما يكون في أمته وقد كان بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم نقمة شديدة في أمته ولكن أكرم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تقربه عينه وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ يعني القرآن إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على دين مستقيم لا يميل عنه إلا الضال وَإِنَّهُ يعني القرآن لَذِكْرٌ أي لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يعني عن حقه وأداء شكره وروى ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل قال لقريش» (ق) . عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (خ) عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» وقيل القوم هم العرب والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل ذكر لك أي ذلك شرف لك بما أعطاك الله من النبوة والحكمة ولقومك يعني المؤمنين بما هداهم الله تعالى به وسوف تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 45 الى 50]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ اختلف العلماء من هؤلاء والمسؤولون فروي عن ابن عباس في رواية عنه «لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعث الله عز وجل له آدم وولده من المرسلين فأذن جبريل ثم أقام وقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من أرسلنا الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا أسأل قد اكتفيت. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسأل فلم يشك ولم يسأل فعلى هذا القول قال بعضهم هذه الآية نزلت ببيت المقدس ليلة أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقال أكثر المفسرين معناه سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول ابن عباس في أكثر الروايات عنه ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ومقاتل ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل.(4/110)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي يسخرون وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي قرينتها التي قبلها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت هذه آيات ودلالات لموسى عليه الصلاة والسلام وعذابا لهم وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن كفرهم وَقالُوا يعني لموسى عليه الصلاة والسلام لما عاينوا العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أي العالم الكامل الحاذق وإنما قالوا ذلك له تعظيما وتوقيرا لأن السحر كان عندهم علما عظيما وصنعة ممدوحة وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أخبرتنا عن عهده إليك أنا إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله أن يكشفه عنا إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي لمؤمنون فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 57]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني أنهار النيل الكبار وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني، وقيل تجري بأمري أَفَلا تُبْصِرُونَ أي عظمتي وشدة ملكي أَمْ أَنَا أي بل أنا خَيْرٌ وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين وقيل فيه إضمار مجازه أفلا تبصرون أم تبصرون ثم ابتدأ فقال أنا خير مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف حقير يعني موسى وَلا يَكادُ يُبِينُ أي يفصح بكلامه للثغته التي كانت في لسانه وإنما عابه بذلك لما كان عليه أولا وقيل معناه ولا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أي إن كان صادقا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ قيل إنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدا تجب طاعته أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي متتابعين يقارن بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينوه على أمره.
قال الله تعالى: فَاسْتَخَفَّ يعني فرعون قَوْمَهُ يعني القبط أي وجدهم جهالا وقيل حملهم على الخفة والجهل فَأَطاعُوهُ أي على تكذيب موسى إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني حيث أطاعوا فرعون فيما استخفهم به فَلَمَّا آسَفُونا أي أغضبونا وهو في حق الله وإرادته العقاب وهو قوله تعالى: انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ يعني جعلنا المتقدمين الماضين عبرة وموعظة لمن يجيء من بعدهم.
قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وذلك لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقد تقدم ذكره في سورة الأنبياء ومعنى الآية ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعبادة النصارى إياه إِذا قَوْمُكَ يعني قريشا مِنْهُ أي من المثل يَصِدُّونَ أي(4/111)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
يرتفع لهم ضجيج وصياح وفرح وقيل يقولون إن محمدا ما يريد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 58 الى 61]
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا وقيل معنى أم هو يعني عيسى والمعنى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن قد رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ يعني هذا المثل لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ هؤلاء الأصنام بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي بالباطل. عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح ثم ذكر عيسى فقال تعالى: إِنْ هُوَ أي ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي بالنبوة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي آية وعبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خلقه من غير أب وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ الخطاب لأهل مكة مَلائِكَةً معناه لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلا منكم ملائكة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يكونون خلفا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني، وقيل يخلف بعضهم بعضا وَإِنَّهُ يعني عيسى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها (ق) . عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» وفي رواية أبي داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» (ق) عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم» وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم ويروى أنه ينزل عيسى وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام ليقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن وقيل في معنى الآية وإنه أي وإن القرآن لعلم للساعة أي يعلم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي لا تشكن فيها، وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها وَاتَّبِعُونِ أي على التوحيد هذا أي الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.(4/112)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 62 الى 66]
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ أي لا يصرفنكم الشَّيْطانُ أي عن دين الله الذي أمر به إِنَّهُ يعني الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي بالنبوة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي من أحكام التوراة وقيل من اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى وقيل الذي جاء به عيسى الإنجيل وهو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم عيسى في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فيما آمركم به إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف الفرق المتحزبة بعد عيسى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة والمعنى أنها تأتيهم لا محالة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 71]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
الْأَخِلَّاءُ أي على الكفر والمعصية في الدنيا يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي إن الخلة إذا كانت كذلك صارت عداوة يوم القيامة إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي إلا الموحدين المتحابين في الله عز وجل المجتمعين على طاعته، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية قال: «خليلان مؤمنان وخليلان كافران مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك صلّى الله عليه وسلّم ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب» .
قوله عز وجل: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ قيل إن الناس حين يبعثون ليس أحد منهم إلا فزع فينادي مناد يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم فيتبعها الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس الناس كلهم غير المسلمين فيقال لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي تسرون وتنعمون يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ جمع صحفة وهي القصعة الواسعة وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو إناء مستدير بلا عروة وَفِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عن عبد الرّحمن بن سابط قال «قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت وسأله آخر فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل قال فلم يقل ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» أخرجه الترمذي وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.(4/113)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 72 الى 81]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف عنهم وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي آيسون من رحمة الله تعالى:
وَما ظَلَمْناهُمْ أي وما عذبناهم بغير ذنب وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي لأنفسهم بما جنوا عليها وَنادَوْا يا مالِكُ يعني يدعون مالكا خازن النار يستغيثون به فيقولون لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا بل لنستريح والمعنى توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيجيبهم بعد ألف سنة قاله ابن عباس، وقيل بعد مائة سنة، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم» قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ قال هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ومعنى ماكثون مقيمون في العذاب لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً أي أحكموا أمرا في المكر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي محكمون أمرا في مجازاتهم إن كاد شرا كدتهم بمثله أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم بَلى نسمع ذلك كله ونعلمه وَرُسُلُنا يعني الحفظة من الملائكة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قوله عز وجل: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الرّحمن فإنه لا شريك له ولا ولد له، وقال ابن عباس: إن كان أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك. وقيل: معناه لو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ولكن لا ولد له، وقيل: العابدين بمعنى الآنفين أي أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد. وقال الزمخشري في معنى الآية: إن كان للرحمن ولد وصح وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق عليها محالا مثلها ثم نزه نفسه عن الولد فقال تعالى:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 82 الى 88]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عما يقولونه من الكذب فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ يعني هو الإله الذي يعبد في السماء وفي الأرض لا إله إلا هو وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في تدبير خلقه الْعَلِيمُ يعني بمصالحهم وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ قيل سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية وأراد بالذين يدعون من دونه آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة بقوله إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ لأنهم عبدوا من دون الله ولهم شفاعة وقيل المراد بالذين يدعون من دونه عيسى وعزير والملائكة فإن الله تعالى لا يملك لأحد من هؤلاء(4/114)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله فمن شهدها بقلبه شفعوا له وهو قوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وقيل يعلمون أن الله عز وجل خلق عيسى وعزيرا والملائكة ويعلمون أنهم عباده وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني أنهم إذا أقروا بأن الله خالق العالم بأسره فكيف قدموا عبادة غيره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني يصرفون عن عبادته إلى غيره وَقِيلِهِ يا رَبِّ يعني قوله محمد صلّى الله عليه وسلّم شاكيا الله ربه يا رب إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: شكا إلى الله تعالى تخلف قومه عن الإيمان، وقال قتادة:
هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه.
[سورة الزخرف (43) : آية 89]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يعني أعرض عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب وَقُلْ سَلامٌ معناه المتاركة، وقيل معناه قل خيرا بدلا من شرهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني عاقبة كفرهم وفيه تهديد لهم وقيل معناه يعلمون أنك صادق، قال مقاتل: نسختها آية السيف والله تعالى أعلم.(4/115)
حم (1)
سورة الدخان
مكية وهي سبع وقيل تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وأحد وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
قوله عز وجل: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني المبين ما يحتاج الناس إليه من حلال وحرام وغير ذلك من الأحكام إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل هي ليلة القدر أنزل الله تعالى فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما على حسب الوقائع في عشرين سنة، وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب» أخرجه الترمذي. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي مخوفين عقابنا فِيها أي في تلك الليلة المباركة يُفْرَقُ أي يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي محكم، قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان وقيل هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، وروى البغوي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى» وعن ابن عباس «إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر» أَمْراً أي أنزلنا أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من الأنبياء.
[سورة الدخان (44) : الآيات 6 الى 11]
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10)
يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقيل أنزلناه في ليلة مباركة رحمة من ربك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالهم الْعَلِيمُ أي بأحوالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن الله رب السموات والأرض وما بينهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي من هذا القرآن يَلْعَبُونَ أي يهزئون به لاهون عنه فَارْتَقِبْ أي يا محمد يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (ق) عن مسروق قال: كنا(4/116)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرّحمن إن قاصا عند باب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين» «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى من الناس إدبارا قال اللهم سبعا كسبع يوسف» وفي رواية «لما دعا قريشا فكذبوه واستعصوا عليه قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرّحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله عز وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله عائِدُونَ قال عبد الله فيكشف عذاب الآخرة يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر وفي رواية للبخاري قالوا:
[سورة الدخان (44) : الآيات 12 الى 16]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له إن كشفناه عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله إِنَّا مُنْتَقِمُونَ قوله حصت كل شيء بالحاء والصاد المهملتين أي أهلكت واستأصلت كل شيء (ق) . عن عبد الله بن مسعود قال:
«خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان قيل أصابهم من الجوع كالظلمة في أبصارهم وسبب ذلك أن في سنة القحط العظيم تيبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار ويظلم الهواء والجو وذلك يشبه الدخان وقيل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون الرجل رأسه كالرأس الحنيذ يعني المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي كيف يتذكرون ويتعظون بهذه الحالة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ معناه وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات الظاهرات والآيات البينات الباهرة ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا عنه وَقالُوا مُعَلَّمٌ أي يعلمه بشر مَجْنُونٌ أي تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي الجوع قَلِيلًا أي زمنا يسيرا قيل إلى يوم بدر إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إلى كفركم يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى هو يوم بدر إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي منكم في ذلك اليوم، وهو قول ابن مسعود وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس أنه يوم القيامة.(4/117)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 27]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني على الله وهو موسى بن عمران عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ يعني على الوحي وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني ببرهان بيّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون وقال ابن عباس: تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي فاتركون لا معي ولا عليّ، وقال ابن عباس: اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي مشركون فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي أجاب الله دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه وَاتْرُكِ الْبَحْرَ أي إذا قطعته أنت وأصحابك رَهْواً أي ساكنا والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه، وقيل اتركه طريقا يابسا وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو كَمْ تَرَكُوا أي بعد الغرق مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس شريف حسن وَنَعْمَةٍ أي وعيش لين رغد كانُوا فِيها أي في تلك النعمة فاكِهِينَ أي ناعمين وقرئ فكهين أي أشرين بطرين.
[سورة الدخان (44) : الآيات 28 الى 37]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
كَذلِكَ أي أفعل بمن عصاني وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه.
عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» فذلك قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، قيل: بكاء السماء حمرة أطرافها، وقال مجاهد:
ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا فقيل: أو تبكي، فقال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً أي جبارا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي علمه الله تعالى فيهم عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة إِنَّ هؤُلاءِ يعني(4/118)
مشركي مكة لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه فَأْتُوا بِآبائِنا أي الذين ماتوا قبل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أم ليسوا خيرا من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعا لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه.
عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا» وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا: كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار، فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك. وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها الله تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال: إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم.
قال تبع أنصفتم فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه وخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما النار ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينها فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن، وقال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.(4/119)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
وقال كعب ذم الله قومه ولم يذمه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم الكافرة أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 46]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي الذي يفصل الله فيه بين العباد مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يمنعون من عذاب الله إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه من أعدائه الرَّحِيمُ أي بأوليائه المؤمنين، قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي ذي الإثم وهو أبو جهل كَالْمُهْلِ أي كدردي الزيت الأسود يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي في بطون الكفار كَغَلْيِ الْحَمِيمِ يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله كالمهل قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه» أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه.
عن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
[سورة الدخان (44) : الآيات 47 الى 56]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56)
قوله تعالى: خُذُوهُ أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي دافعوه وسوقوه بالعنف إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسط النار ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره ثم يقال له ذُقْ أي هذا العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه الله كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في مجلس أمنوا فيه من الغير فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر.
فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي.
قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه وتغييره عن(4/120)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب مُتَقابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا كَذلِكَ أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك وَأكرمناهم بأن زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن وليس هو من عقد التزويج وقيل جعلناهم أزواجا لهن أي جعلناهم اثنين واثنين الحور من النساء النقيات البيض، وقيل يحار الطرف من بياضهن وصفاء لونهن وقيل الحور الشديدات بياض العينين يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يعني أرادوها واشتهوها آمِنِينَ أي من نفادها ومن مضرتها وقيل آمنين فيها من الموت والأوصاب والشيطان لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا إلا وقيل إلا بمعنى لكن، وتقديره ليذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل إنما استثنى الموتة من موت الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله إلى أسباب الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة فكان موتهم في الدنيا كأنه في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 57 الى 59]
فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص من عذاب النار والفوز بالجنة إنما حصل لهم ذلك بفضل الله تعالى وفعل ذلك بهم تفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلنا القرآن على لسانك كناية عن غير مذكور لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون فَارْتَقِبْ أي فانتظر النصر من ربك وقيل انتظر لهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون قهرك بزعمهم وقيل منتظرون موتك قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وعمر بن خثعم أحد رواته وهو ضعيف، وقال البخاري: هو منكر الحديث وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة غفر له» أخرجه الترمذي وقال هشام أبو المقداد أحد رواته ضعيف والله أعلم.(4/121)
حم (1)
سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة مكية وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة وألفان ومائة وأحد وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
قوله عز وجل: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن في خلق السموات والأرض وهما خلقان عظيمان يدلان على قدرة القادر المختار وهو قوله لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ أي وخلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانا ذا عقل وتمييز وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ أي وما يفرق في الأرض من جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها في الخلق والشكل والصورة آياتٌ دلالات تدل على وحدانية من خلقها وأنه الإله القادر المختار لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني أنه لا إله غيره.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 5 الى 11]
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني بالظلام والضياء والطول والقصر وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ يعني المطر الذي هو سبب أرزاق العباد فَأَحْيا بِهِ أي بالمطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي في مهابها فمنها الصبا والدبور والشمال والجنوب ومنها الحارة والباردة وغير ذلك آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
فإن قلت ما وجه هذا الترتيب في قوله لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ولِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ويَعْقِلُونَ.
قلت معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في هذه الدلائل النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا أنه الإله القادر على كل شيء ثم إذا أمعنوا النظر ازدادوا إيقانا وزال عنهم اللبس فحينئذ استحكم علمهم وعدوا في زمرة العقلاء الذين عقلوا عن الله مراده في أسرار كتابه تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها(4/122)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي بعد كتاب الله وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي كذاب صاحب إثم يعني النضر بن الحارث يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً يعني آيات القرآن اتَّخَذَها هُزُواً أي سخر منها أُولئِكَ إشارة إلى من هذه صفته لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ثم وصفهم فقال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ يعني أمامهم جهنم وذلك جهنم وذلك خزيهم في الدنيا ولهم في الآخرة النار وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا أي من الأموال شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي ولا يغني عنهم ما عبدوا من دون الله من الآلهة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا يعني القرآن هُدىً أي هو هدى من الضلالة وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 17]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16)
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بسبب التجارة واستخراج منافعه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته على ذلك وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى خلقها ومنافعها فهي مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع بها جَمِيعاً مِنْهُ قال ابن عباس: كل ذلك رحمه منه وقيل كل ذلك تفضل منه وإحسان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
قوله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون بمقته، قال ابن عباس: نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلا من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يعفو عنه وقيل نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية ثم نسخها بآية القتال لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من الأعمال ثم فسر ذلك فقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ يعني معرفة أحكام الله وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلالات وهو ما وسع عليهم في الدنيا وأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم وأنزل عليهم المن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي بيان الحلال والحرام وقيل العلم ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وما بين لهم من أمره فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ معناه التعجب من حالهم وذلك لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الاختلاف وهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف وذلك أنه لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما كان مقصودهم منه طلب الرياسة والتقدم ثم إنهم لما علموا عاندوا وأظهروا النزاع والحسد والاختلاف إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.(4/123)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 23]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد عَلى شَرِيعَةٍ أي على طريقة ومنهاج وسنة بعد موسى مِنَ الْأَمْرِ أي من الدين فَاتَّبِعْها أي اتبع شريعتك الثابتة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني مراد الكافرين وذلك أنهم كانوا يقولون له أرجع إلى دين آبائك فإنهم كانوا أفضل منك قال الله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئا إن اتبعت أهواءهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني إن الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا ولأولى لهم في الآخرة وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي هو ناصرهم في الدنيا ووليهم في الآخرة هذا يعني القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي معالم للناس في الحدود والأحكام يبصرون به وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أي اكتسبوا المعاصي والكفر أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
معناه أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا والمعنى أن المؤمن مؤمن في محياه ومماته في الدنيا والآخرة والكافر كافر في محياه ومماته في الدنيا والآخرة وشتان ما بين الحالين في الحال والمآل ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي بئس ما يقضون قال مسروق قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ولقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
الآية وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ومعنى الآية أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ذلك لا يتم إلا في القيامة ليحصل التفاوت بين المحقين والمبطلين في الدرجات والدركات.
قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن عباس: اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله وقيل معناه اتخذ معبوده ما تهواه نفسه وذلك أن العرب كانت تعبد الحجارة والذهب والفضة فإذا رأوا شيئا أحسن من الأول رموا بالأول وكسروه وعبدوا الآخر وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي علما منه بعاقبة أمره وقيل على ما سبق في علم الله أنه ضال قبل أن يخلقه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ أي فلم يسمع الهدى ولم يعقله بقلبه وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً يعني ظلمة فهو لا يبصر الهدى فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد أن أضله الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ قال الواحدي ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره.(4/124)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 27]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَقالُوا يعني منكري البعث. ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعني ما الحياة إلا حياتنا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا يعني يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل تقديره نحيا ونموت وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ يعني وما يفنينا إلا ممر الزمان واختلاف الليل والنهار وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني لم يقولوه عن علم علموه إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» وفي رواية «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليلة ونهاره فإذا شئت قبضتهما» وفي رواية «يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» ومعنى هذه الأحاديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد وسبوا فاعلها كان مرجع سبهم إلى الله تعالى إذا هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر لا الدهر فنهوا عن سبب الدهر قيل لهم لا تسبوا فاعل ذلك فإنه هو الله عز وجل والدهر متصرف فيه يقع به التأثير كما يقع بكم والله أعلم.
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معناه أن منكري البعث احتجوا بأن قالوا إن صح ذلك فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني في ذلك اليوم يظهر خسران أصحاب الأباطيل وهم الكافرون يصيرون إلى النار.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 28 الى 32]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء قال سلمان الفارسي إن في القيامة ساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على الركب حتى إبراهيم ينادي ربه لا أسألك إلا نفسي كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي الذي فيه أعمالها ويقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من خير وشر هذا كِتابُنا يعني ديوان الحفظة.
فإن قلت كيف أضاف الكتاب إليهم أولا بقوله تُدْعى إِلى كِتابِهَا وإليه ثانيا بقوله هذا كِتابُنا.
قلت لا منافاة بينهما فإضافته إليهم لأنه كتاب أعمالهم وإضافته إليه لأنه تعالى هو آمر الحفظة بكتبه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أي يشهد عليكم ببيان شاف كأنه ينطق وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم وقيل نستنسخ أي نأخذ نسخته وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب وعليه عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، وقيل الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا(4/125)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
يكون إلا من أصل فينسخ كتاب من كتاب فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الظفر الظاهر وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أي يقال لهم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني آيات القرآن فَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني كافرين منكرين قوله عز وجل:
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي البعث كائن وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في أنها كائنة قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أنكرتموها وقلتم إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي ما نعلم ذلك إلا حدسا وتوهما وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي إنها كائنة.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 33 الى 37]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وَبَدا لَهُمْ أي في الآخرة سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي في الدنيا والمعنى بدا لهم جزاء سيئاتهم وَحاقَ بِهِمْ أي نزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ما لكم من مانعين يمنعونكم من العذاب ذلِكُمْ أي هذا الجزاء بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني حين قلتم لا بعث ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله والإيمان به لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ معناه فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين فإن مثل الربوبية والعامة توجب الحمد والثناء على كل حال وَلَهُ الْكِبْرِياءُ أي وكبروه فإن له الكبرياء والعظمة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وحق لمثله أن يكبر ويعظم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (م) عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العز إزاره والكبرياء رداؤه» قال الله تعالى: «فمن ينازعني عذبته» لفظ مسلم وأخرجه البرقاني وأبو مسعود رضي الله عنهما يقول الله عز وجل:
«العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني شيئا منهما عذبته» ولأبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار» .
(شرح غريب ألفاظ الحديث) قيل هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب يقولون شعار فلان الزهد ولباسه التقوى فضرب الله عز وجل الإزار والرداء مثلا له في انفراده سبحانه وتعالى بصفة الكبرياء والعظمة، والمعنى أنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشاركه فيهما أحد لأنهما من صفاته اللازمة له المختصة به التي لا تليق بغيره والله أعلم.(4/126)
حم (1)
سورة الأحقاف
مكية وقيل غير قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وقيل وقوله فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فإنهما نزلتا بالمدينة وهي أربع وقيل خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله عز وجل: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب مُعْرِضُونَ أي لا يؤمنون به قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم وقيل برواية عن علم الأنبياء وقيل علامة من علم وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن لله شريكا وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني لا تجيب أبدا ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ سموا القرآن سحرا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال الله عز وجل قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على الله من أجلكم هُوَ أَعْلَمُ أي الله أعلم بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن(4/127)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
والقول فيه أنه سحر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القرآن جاء من عنده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي في تأخير العذاب عنكم وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به.
[سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قوله تعالى: قُلْ يا محمد ما كُنْتُ بِدْعاً أي بديعا مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبي الله قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الآية وأنزل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فبين الله ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك (خ) عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يدريك أن الله أكرمه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فو الله لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله» وفي رواية غير البخاري قالت «لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار» فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل الله هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي وقيل «لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره الله عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» وقال في أمته «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» فأعلمه ما يصنع به وبأمته وقيل معناه لا أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم ومن الغالب والمغلوب ثم أخبره أنه يظهر دينه على الأديان وأمته على سائر الأمم.
وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه ما أتبع غير القرآن الذي يوحى إليّ ولا أبتدع من عندي شيئا وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم العذاب وأبين لكم الشرائع.(4/128)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
[سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ماذا تقولون إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ أيها المشركون وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أي أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان به والمعنى إذا كان الأمر كذلك أليس قد ظلمتم وتعديتم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ واختلفوا في هذا الشاهد فقيل هو عبد الله بن سلام آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وشهد بصحة نبوته واستكبر اليهود فلم يؤمنوا يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهو في أرض يخترف النخل فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني بهن آنفا جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها قال أشهد أنك رسول الله ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك زاد في رواية فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه» زاد في رواية «فقال يعني عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله» أخرجه البخاري في صحيحه (ق) . «عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله» قال الراوي لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث وقيل الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام قال مسروق في هذه الآية والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقومه ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن وكل يصدق الآخر فيكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن إنها من عند الله كما شهد محمد صلّى الله عليه وسلّم على القرآن أنه كلام الله فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن إن لا يهدي القوم الظالمين. قيل إنه تهديد وهو قائم مقام جواب الشرط المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين.(4/129)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 15]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من اليهود لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً يعني دين محمد صلّى الله عليه وسلّم ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل نزلت في مشركي مكة قالوا لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وقيل الذين كفروا أسد وغطفان قالوا للذين آمنوا يعني جهينة ومزينة لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم قال الله تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ يعني كذب متقدم وَمِنْ قَبْلِهِ يعني من قبل القرآن كِتابُ مُوسى يعني التوراة إِماماً يعني جعلناه إماما يقتدى به وَرَحْمَةً يعني من الله لمن آمن به وَهذا كِتابٌ يعني القرآن مُصَدِّقٌ يعني للكتب التي قبله لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تقدم تفسيره.
قوله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً
يعني ومدة حمله إلى أن ينفصل من الرضاع وهو الفطام ثلاثون شهرا. فأقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا. قال ابن عباس: إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة وهو قوله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قيل: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وقد تقدمت القصة. وقيل إنها على العموم والأصح أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وذلك أنه صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة فقال هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال الراهب: هذا والله نبي وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر ولا حضر، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بنبوته واختصه برسالته فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي بالإيمان والهداية. وقال علي بن أبي طالب في قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا في أبي بكر أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس: أجابه الله تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضا فقال وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع لأبي بكر إسلام أبويه: أبوه قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وابنه عبد الرّحمن وابن عبد الرّحمن أبي عتيق محمد فهؤلاء أربعة أبو بكر وأبوه وابنه عبد الرّحمن وابن ابنه محمد كلهم أدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلموا ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة غير أبي بكر وقوله: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت إليك إلى كل ما تحب وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: وأسلمت بقلبي ولساني.(4/130)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 16 الى 17]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن فالأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي مع أصحاب الجنة وَعْدَ الصِّدْقِ يعني الذي وعدهم بأن يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ووعده صدق وقيل:
وعدهم بأن يدخلهم الجنة الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ يعني في الدنيا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ يعني إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت أُفٍّ لَكُما وهي كلمة كراهية أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ يعني من قبري حيا وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعني فلم يبعث منهم أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يعني يستصرخان بالله عليه ويقولان له وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني بالبعث فَيَقُولُ ما هذا يعني الذي تدعونني إليه إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال ابن عباس نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. وأنكرت عائشة أن يكون قد نزل هذا في عبد الرّحمن بن أبي بكر (خ) . عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرّحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال له مروان:
هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي والقول الصحيح أنه ليس المراد من الآية شخص معين بل المراد كل شخص كان موصوفا بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث فأبى وأنكر.
وقيل نزلت في كل كافر عاقّ لوالديه قال الزجاج: قول من قال إنها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله تعالى:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 18 الى 20]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب وعبد الرّحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب أي وجب عليهم العذاب فِي أُمَمٍ أي مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقيل لكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين والبار والعاق درجات يعني منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قيل درجات الجنة تذهب إلى علو ودرجات النار تذهب إلى أسفل وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ يعني جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قوله عز وجل:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني يجاء بهم فيكشف لهم عنها ويقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها يعني أن كل ما قدر لكم من الطيبات واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الذي فيه ذل وخزي بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ علق هذا العذاب بأمرين، أحدهما: الاستكبار وهو الترفع، ويحتمل أن يكون عن الإيمان، والثاني: الفسق وهو المعاصي، والأول من عمل القلوب، والثاني من عمل الجوارح.(4/131)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
(فصل) لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات، آثر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة (ق) «عن عمر بن الخطاب قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله. قال: نعم فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله (ق) . «عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (ق) «عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحيم» وفي رواية أخرى قالت: «إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. قال عروة: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ألبانها فيسقينا» عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» أخرجه الترمذي وله عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد أخفت في الله ما لم يخف أحد وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد ولقد أتى عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام إلا شيء يواري إبط بلال (خ) . «عن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته» (خ) . «عن إبراهيم بن عبد الرّحمن أن عبد الرّحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. قال: وأراه قال: قتل حمزة وهو خير مني، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا برده. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام» وقال جابر بن عبد الله: «رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال عمر: كلما اشتهيت يا جابر اشتريت، أما تخاف هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا؟.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال ابن عباس:
الأحقاف واد بين عمان ومهرة. وقيل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود، رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم. وقيل: إن عادا كانوا أحياء باليمن وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. والأحقاف: جمع حقف وهو المستطيل من الرمل فيه اعوجاج كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا. وقيل: الأحقاف ما استدار من الرمل وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي(4/132)
مضت الرسل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبل هود وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى: أن هودا قد أنذرهم بذلك وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا أي عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أن العذاب نازل بنا قالَ يعني هودا إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يعني هو يعلم متى يأتيكم العذاب وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ يعني من الوحي الذي أنزله الله عليّ وأمرني بتبليغه إليكم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ يعني قدر العذاب الذي ينزل بكم فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني رأوا ما يوعدون به من العذاب ثم بينه فقال تعالى: عارِضاً يعني رأوا سحابا عارضا وهو السحاب الذي يعرض في ناحية السماء ثم يطبق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وذلك أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية واد يقال له المغيث وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة فلما رأوا تلك السحابة استبشروا بها ثم قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال الله ردا عليهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ يعني من العذاب ثم بين ماهية ذلك العذاب فقال تعالى: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ثم وصف تلك الريح فقال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها يعني تهلك كل شيء مرت به من رجال عاد وأموالهم يقال: إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة فلما رأوا ذلك، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت الأبواب وصرعتهم. وأمر الله الريح، فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين. ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل واحتملتهم فرمت بهم في البحر. وقيل: إن هودا عليه السلام لما أحس بالريح، خط على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطا فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام. وقيل: إن الله تعالى أمر خازن الريح أن يرسل عليهم مثل مقدار الخاتم فأهلكهم الله بهذا القدر وفي هذا إظهار كمال القدرة (ق) «عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم» زاد في رواية: «وكان إذا رأى غيما عرف في وجهه قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيت غيما عرف في وجهك الكراهة؟ فقال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» وفي رواية قالت «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فرفعته عائشة ذلك فقال وما أدري لعله كما قال قوم هود فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا» الآية وفي رواية أخرى قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا المخيلة: السحاب الذي يظن فيه مطر. وتخيلت السماء: إذا تغيمت.
وقولها: سري عنه أي كشف وأزيل عنه ما كان به من الغم والحزن.
وقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرئ بالتاء مفتوحة على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى:
ما ترى يا محمد إلا مساكنهم خاوية عاطلة من السكان ليس فيها أحد وقرئ بالياء مضمومة والمعنى لا يرى إلا آثار مساكنهم لأن الريح لم تبق منها إلا الآثار والمساكن المعطلة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى:(4/133)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر فَلَوْلا يعني فهلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم وَذلِكَ إِفْكُهُمْ يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده وَما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم.
[سورة الأحقاف (46) : آية 29]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قوله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية.
(ذكر القصة في ذلك) قال المفسرون: لما مات أبو طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه، فلما مات وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحشة من قومه، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمير. وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث: لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي» وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين، وأنت(4/134)
رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك» فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له يأكل منه. ففعل عداس ذلك ثم أقبل بالطبق حتى وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال له: كل. فلما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده قال: بسم الله ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ فقال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟
فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبل رأسه ويديه وقدميه قال فقال أحد ابني ربيعة: أما غلامك، فقد أفسده عليك. فلما جاءهم عداس قال له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. فقال له: ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف حتى إذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن نصيبين كانوا قاصدين اليمن وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا به وأجابوا لما سمعوا القرآن فقص الله خبرهم عليه فقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وفي الآية قول آخر وسيأتي في سورة الجن وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس. وروي أن الجن لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه ليعرف الخبر فكان أول بعث بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم فبعثهم إلى تهامة. وقال أبو حمزة: بلغنا أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس فلما رجعوا إلى قومهم قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا وقال جماعة: بل أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله عز وجل إليه نفرا من الجن وهم من أهل نينوى وجمعهم له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود قال عبد الله بن مسعود لم يحضر معه أحد غيري قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق حتى قام عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثال النسور تهوي وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم مع الفجر فانطلق إليّ فقال لي نمت فقلت: لا والله يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول لهم اجلسوا فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت: نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستنجي بالعظم والروث قال: فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال: إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فقلت: يا رسول الله سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق قال ثم تبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأتاني فقال لهم معك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ وقال: تمرة طيبة وماء طهور.(4/135)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم ثم قال أظهروا؟ فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط. فقال: ما أشبههم بالنفر. الذين صرفوا إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن قلت حديث التوضؤ بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه الخلافيات بأسانيده وأجاب عنها كلها.
والذي صح عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا ليلة بات قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرنا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن. زاد في رواية قال الشعبي: وكانوا من جن الجزيرة أخرجه مسلم في صحيحه وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: وإذ صرفنا إليك الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني واذكر إذ بعثنا إليك يا محمد نفرا من الجن.
واختلفوا في عدد أولئك النفر فقال ابن عباس: كانوا سبعة من جن نصيبين فجعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة. وروي عن زر بن حبيش قال: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن.
وروي أن الجن ثلاثة أصناف: صنف منهم لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف على صور الحيات والكلاب وصنف يحلون ويظعنون ونقل بعضهم أن أولئك الجن كانوا يهودا فأسلموا. قالوا في الجن ملل كثيرة مثل الإنس ففهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام وفي مسلمهم مبتدعة ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع وأطبق المحققون من العلماء على أن الكل مكلفون. سئل ابن عباس هل للجن ثواب؟
فقال: نعم وعليهم عقاب يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير يعود إلى القرآن يعني: فلما حضروا القرآن وقيل يحتمل أنه يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ويكون المعنى: فلما حضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. لأجل استماع القرآن قالُوا أَنْصِتُوا يعني قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمع قراءته ولا يحول بيننا وبين سماعه شيء فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم على سماعه فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من قراءته وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يعني داعين لهم إلى الإيمان مخوفين لهم من المخالفة ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم وذلك بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن والتصديق إلا بعد إيمانهم به وتصديقهم له.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 30 الى 33]
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً قال عطاء: كان دينهم اليهودية ولذلك قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء وذلك أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد وتصديق الأنبياء والإيمان بالمعاد والحشر والنشر وجاء هذا الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كذلك فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: يهدي إلى دين الحق وهو دين الإسلام ويهدي إلى طريق الجنة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ(4/136)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه لا يوصف بهذا غيره وفي الآية دليل على أنه مبعوث إلى الإنس والجن جميعا قال مقاتل لم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله وَآمِنُوا بِهِ.
فإن قلت قوله تعالى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين.
قلت: إنما أعاده لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به وأشرفها فلذلك ذكره على التعيين فهو من باب ذكر العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال بعضهم: لفظة من هنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل: هي على أصلها وذلك أن الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام فإذا أسلموا جرت عليهم أحكام الإسلام فمن أتى بذنب أخذ به ما لم يتب منه أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء آخذه بذنبه واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن، فقال قوم: ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار. وتأولوا قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وإليه ذهب أبو حنيفة. وحكي عن الليث قال: ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وعن أبي الزناد قال: إذا قضى بين الناس، قيل لمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون، ترابا. فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وقال الآخرون:
لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس وهذا هو الصحيح وهو قول ابن عباس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى. قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقال أرطأة بن المنذر:
سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ قال: نعم وقرأ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال: فالإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها يعني في الجنة.
وقوله تعالى: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ يعني لا يعجز الله فيفوته وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يعني أنصارا يمنعونه من الله أُولئِكَ يعني الذين لم يجيبوا داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يعني أنه تعالى خلق هذا الخلق العظيم ولم يعجز عن إبداعه واختراعه وتكوينه بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى يعني أن إعادة الخلق وإحياءه بعد الموت أهون عليه من إبداعه وخلقه فالكل عليه هين إبداع الخلق وإعادته بعد الموت وهو قوله بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إماتة الخلق وإحيائهم لأنه قادر على كل شيء.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 الى 35]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيه إضمار تقديره فيقال لهم أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يعني هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل وهو الحق قالُوا بَلى وَرَبِّنا هذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك وفيه توبيخ وتقريع لهم فعند ذلك قالَ لهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قوله عز وجل: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر.
واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيا إلا(4/137)
كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي. قال: لأن لفظة من في قوله مِنَ الرُّسُلِ للتبين لا للتبعيض كما تقول: ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال قوم: أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبيا لقوله بعد ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله. وقيل: هم ستة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء. وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، في قول، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر على الجب والسجن، وأيوب صبر على الضر. وقال ابن عباس وقتادة: هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني والله لا بد لي من طاعته والله لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله» .
قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني اصبر على أذاهم لا تستعجل بنزول العذاب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة كأنه صلّى الله عليه وسلّم ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمره الله تعالى بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر بقرب العذاب فقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ يعني من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا يعني في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ يعني أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه قدر ساعة من نهار لأن ما مضى وإن كان طويلا فهو يسير إلى ما يدوم عليهم من العذاب وهو أبد الآبدين بلا انقطاع ولا فناء وتم الكلام عند قوله ساعة من نهار ثم ابتدأ فقال تعالى: بَلاغٌ أي هذا القرآن وما فيه من البينات والهدى بلاغ من الله إليكم. والبلاغ: بمعنى التبليغ فَهَلْ يُهْلَكُ يعني: بالعذاب إذا نزل إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ يعني الخارجين عن الإيمان بالله وطاعته قال الزجاج: تأويله لا يهلك من رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية والله أعلم.(4/138)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
مدنية وهي ثمان وثلاثون آية.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
قوله عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطلها ولم يتقبلها منهم. وأراد بالأعمال: ما كانوا يفعلون من أعمال البر في إطعام الطعام، وصلة الأرحام وفك العاني وهو الأسير، وإجارة المستجير، ونحو ذلك. وقال بعضهم: أول هذه السورة متعلق بآخر سورة الأحقاف المتقدمة كأن قائلا قال:
كيف يهلك القوم الفاسقون ولهم أعمال صالحة كإطعام الطعام ونحوه من الأعمال والله لا يضيع لعامل عمله ولو كان مثقال ذرة من خير فأخبر بأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم يعني أبطلها لأنها لم تكن لله ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم ليقال عنهم ذلك فلهذا السبب أبطلها الله تعالى وقال الضحاك:
أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الدائرة عليهم. قال بعضهم: المراد بقوله، الَّذِينَ كَفَرُوا هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر وهم رؤوس كفار قريش منهم أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم. وقيل: هم جميع كفار قريش وقيل هم كفار أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل كافر وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ومنعوا غيرهم عن الدخول في دين الله وهو الإسلام أو منعوا أنفسهم من الدخول في الإسلام أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطلها لأنها كانت لغير الله ومنه قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن عباس الذين كفروا مشركو قريش، والذين آمنوا هم الأنصار وقيل مؤمنو أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل مؤمن آمن بالله ورسوله وهذا هو الأولى ليشمل جميع المؤمنين وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ يعني القرآن الذي أنزله الله على محمد وإنما ذكره بلفظ الاختصاص مع ما يجب من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله تعظيما لشأن القرآن الكريم وتنبيها على أنه لا يتم الإيمان إلا به وأكد ذلك بقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وقيل: معناه أن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الحق لأنه ناسخ للأديان كلها ولا يرد عليه نسخ وقال سفيان الثوري في قوله آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ يعني لم يخالفوه في شيء كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني ستر بأيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم وتوبتهم منها فغفر لهم بذلك ما كان منهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ يعني حالهم وشأنهم وأمرهم بالتوفيق في أمور الدين والتسليط على أمور الدنيا بما أعطاهم من النصر على أعدائهم. وقيل أصلح بالهم يعني قلوبهم لأن القلب إذا(4/139)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
صلح صلح سائر الجسد وقال ابن عباس عصمهم أيام حياتهم يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ يعني الشيطان وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن ومعنى الآية ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات المؤمنين كائن بسبب إتباع الكفار الباطل وإتباع المؤمنين الحق من ربهم كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ الضمير في أمثالهم راجع إلى الناس على أنه تعالى يضرب للناس أمثال أنفسهم أو أنه راجع إلى الفريقين على معنى أنه تعالى ضرب أمثال الفريقين للناس ليعتبروا بها قال الزجاج كذلك يضرب الله أمثال حسنات المؤمنين وأمثال أعمال الكافرين للناس.
[سورة محمد (47) : آية 4]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ يعني: فاضربوا رقابهم ضربا. وضرب الرقاب، عبارة عن القتل، إلا أن المراد ضرب الرقاب فقط دون سائر الأعضاء وإنما خص الرقاب بالضرب، لأن قتل الإنسان أشنع ما يكون بضرب رقبته فلذلك خصت بالذكر في الأمر بالقتل ولأن الرأس من أشرف أعضاء البدن فإذا أبين عن بدنه كان أسرع إلى الموت والهلاك بخلاف غيره من الأعضاء حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ يعني بالغنم في القتل وقهرتموهم مأخوذ من الشيء الثخين الغليظ. والمعنى: إذا اثقلتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسرى والمعنى فأسروهم وشدوا وثاقهم حتى لا يفلتوا منكم والوثاق اسم لما يوثق به أي يشد به فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يعني بعد الأسر إما أن تمنوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض وإما أن تفادوهم فداء.
(فصل: في حكم الآية) اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وبقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وهذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وإليه ذهب الأوزاعي وأصحاب الرأي قالوا لا يجوز لمن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء بل إما القتل أو الاسترقاق أيهما رأى الإمام. ونقل صاحب الكشاف عن مجاهد قال ليس اليوم من ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق ويجوز أن يكون المراد أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا أو يمن عليهم فيخلوا لقبول الجزية إن كانوا من أهل الذمة ويراد بالفداء أن يفادى بأسراهم أسرى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة والمشهور عنه أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال البالغين من الكفار إذا أسروا بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وهذا القول هو الصحيح ولأنه به عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء بعده (ق) عن أبي هريرة قال: «بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان من الغد قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان من الغد قال: ما عندك يا(4/140)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
ثمامة قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والله ما كان على الأرض أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ قال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لفظ مسلم بطوله واختصره البخاري عن عمران بن حصين قال «أسر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرجلين للذين أسرتهما ثقيف» أخرجه الشافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود بلفظ أطول من هذا.
وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها يعني أثقالها وأحمالها والمراد أهل الحرب يعني حتى يضعوا أسلحتهم ويمسكوا عن القتال وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان فسمى الأسلحة وزرا لأنها تحمل. وقيل: الحرب هم المحاربون مثل الشرب والركب. وقيل: الأوزار الآثام. ومعناه: حتى يضع المحاربون أوزارهم بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله. وقيل: معناه حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا. ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر متى الدجال» هكذا ذكره البغوي بغير سند قال الكلبي معناه حتى يسلموا أو يسالموا. قال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ذلِكَ يعني الذي ذكر وبين من حكم الكفار وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ يعني ولو شاء الله لأهلكهم بغير قتال وكفاكم أمرهم وَلكِنْ يعني ولكن أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يعني فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الشهداء وقرئ قاتلوا وهم المجاهدون في سبيل الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ يعني فلن يبطلها بأن يوفيهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله تعالى قال قتادة ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في يوم أحد وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل.
[سورة محمد (47) : الآيات 5 الى 7]
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)
سَيَهْدِيهِمْ يعني أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور في الآخرة إلى الدرجات العلي وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ويرضي أعمالهم ويقبلها وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ يبين لهم منازلهم في الجنة حتى اهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئونها ولا يستدلون عليها كأنهم ساكنوها منذ خلقوا فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ومنزله وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا هذا قول أكثر المفسرين. ونقل عن ابن عباس عرفها لهم طيبها لهم من العرف وهو الريح الطيبة وطعام معرف أي مطيب.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يعني تنصروا دين الله ورسوله وقيل: تنصروا أولياء الله وحزبه يَنْصُرْكُمْ يعني على عدوكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ يعني عند القتال وعلى الصراط.(4/141)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
[سورة محمد (47) : الآيات 8 الى 14]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال ابن عباس: يعني بعدا لهم. وقال أبو العالية: سقوطا لهم وقال الضحاك:
خيبة لهم. وقال ابن زيد: شقاء لهم. وقيل: التعس في الدنيا العثرة وفي الآخرة التردي في النار. يقال للعاثر:
تعسا إذا دعوا عليه ولم يريدوا قيامه وضده لعا إذا دعوا له وأرادوا قيامه وفي هذا إشارة جليلة وهي أنه تعالى لما قال في حق المؤمنين وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، يعني في الحرب والقتال، كان من الجائز أن يتوهم متوهم أن الكافر أيضا يصبر ويثبت قدمه في الحرب والقتال فأخبر الله تعالى أن لكم الثبات أيها المؤمنون ولهم العثار والزوال والهلاك وقال في حق المؤمنين بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقال في حق الكفار بصيغة الدعاء عليهم وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطل أعمالهم لأنها كانت في طاعة الشيطان ذلِكَ يعني التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن الذي فيه النور والهدى وإنما كرهوه لأن فيه الأحكام والتكاليف الشاقة على النفس لأنهم كانوا قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك والأخذ بالجد والاجتهاد في طاعة الله فلهذا السبب كرهوا ما أنزل الله فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ يعني فأبطل أعمالهم التي عملوها في غير طاعة الله ولأن الشرك محبط للعمل.
ثم خوف الكفار فقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من الأمم الماضية والقرون الخالية الكافرة دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقال: دمره الله. يعني أهلكه، ودمر عليه إذا أهلك ما يختص به والمعنى أهلك الله عليهم ما يختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وَلِلْكافِرِينَ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْثالُها يعني إن لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاءهم به من عند الله وهذا التضعيف إنما يكون في الآخرة ذلِكَ يعني الإهلاك والهوان بِأَنَّ أي بسبب أن اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعني هو ناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ يعني لا ناصر لهم وسبب ذلك أن الكفار لما عبدوا الأصنام وهي جماد لا تضر ولا تنفع ولا تنصر من عبدها فلا جرم ولا ناصر لهم والفرق بين قوله: «وأن الكافرين لا مولى لهم وبين قوله ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحق أن المولى هنا بمعنى الناصر والمولى هناك بمعنى الرب والمالك والله تعالى رب كل أحد من الناس ومالكهم فبان الفرق بين الآيتين ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني هذا لهم في الآخرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ يعني في الدنيا بشهواتها ولذاتها وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ يعني ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم وهم مع ذلك لاهون ساهون عما يراد بهم في غد ولهذا شبههم بالأنعام لأن الأنعام لا عقل لها ولا تمييز وكذلك الكافر لا عقل له ولا تمييز لأنه لو كان له عقل ما عبد ما يضره ولا ينفعه. قيل: المؤمن في الدنيا يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع وإنما وصف الكافر بالتمتع في الدنيا لأنها جنته وهي سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من النعيم العظيم الدائم وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ يعني مقام الكفار في الآخرة. والثواء: المقام في المكان مع الاستقرار فيه، فالنار مثوى الكافرين ومستقرهم.
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني أخرجك أهلها. والمراد بالقرية: مكة. قال ابن عباس: كم من رجال هي أشد قوة من أهل مكة أهلكهم الله يدل عليه قوله أَهْلَكْناهُمْ(4/142)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
ولم يقل أهلكناها فَلا ناصِرَ لَهُمْ يعني فلا مانع يمنعهم من العذاب والهلاك الذي حل بهم قال ابن عباس: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك، فأنزل الله هذه الآية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني على يقين من دينه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وهو الكافر أبو جهل ومن معه من المشركين وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ يعني في عبادة الأوثان.
[سورة محمد (47) : الآيات 15 الى 17]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
قوله عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ لما بين الله عز وجل حال الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن في هذه الآية ما أعد لكل واحد من الفريقين فبين أولا ما أعد للمؤمنين المتقين فقال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يعني صفة الجنة. قال سيبويه: المثل هو الوصف فمعناه وصف الجن وذلك لا يقتضي مشبها به.
وقيل: الممثل به محذوف غير مذكور والمعنى مثل الجنة التي وعد المتقون مثل عجيب وشيء عظيم وقيل:
الممثل به مذكور وهو قوله: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ فِيها يعني الجنة التي وعد المتقون أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ يعني غير متغير ولا منتن. يقال: أسن الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ يعني كما تتغير ألبان الدنيا فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ يعني ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر وليس من شرابها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار بل هي لمجرد الالتذاذ فقط وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى يعني ليس فيه شمع كعسل الدنيا ولم يخرج من بطون النحل حتى يموت فيه بعض نحله بل هو خالص صاف من جميع شوائب عسل الدنيا.
عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (م) عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» قال الشيح محيي الدين النووي في شرح مسلم:
سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان جيحان المذكوران في الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنة وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما ثم ذكر كلاما بعد هذا طويلا. ثم قال: فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة، ففيه تأويلان الثاني، وهو الصحيح، أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة. فالجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة. وقال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر هكذا نقله البغوي عنه.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ في ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا الحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ فإن قلت: المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة، فكيف يكون له فيها المغفرة.
قلت ليس بلازم أن يكون المعنى ولهم مغفرة فيها لأن الواو لا تقتضي الترتيب فيكون المعنى ولهم فيها من(4/143)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
كل الثمرات ولهم مغفرة قبل دخولهم إليها، وجواب آخر وهو أن المعنى ولهم مغفرة فيها برفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف الدنيا فإن مأكولها يترتب عليه حساب وعقاب ونعيم الجنة لا حساب عليه ولا عقاب فيه قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ يعني من هو في هذا النعيم المقيم الدائم كمن هو خالد في النار يتجرع من حميمها وهو قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً يعني شديد الحر قد استعرت عليه جهنم منذ خلقت، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ يعني فخرجت من أدبارهم والأمعاء جمع معي وهو جميع ما في البطن من الحوايا.
وقال الزجاج: قوله كمن هو خالد في النار راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم.
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد» كما كان أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب حسن صحيح.
عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله يسقى من ماء صديد يتجرعه قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا دنا منه وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره. قال الله تعالى: ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ويقول: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني ومن هؤلاء الكفار مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وهم المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا به وتغافلا عنه حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يعني أن هؤلاء المنافقين الذين كانوا عندك يا محمد يستمعون كلامك فإذا خرجوا من عندك قالُوا يعني المنافقين لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني من الصحابة ماذا قالَ آنِفاً يعني ما الذي قال محمد الآن وهو من الائتناف. يقال: ائتنفت الأمر أي ابتدأته قال مقاتل:
وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس وقد سئلت فيمن سئل أُولئِكَ يعني المنافقين الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني فلم يؤمنوا ولم ينتفعوا بما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ يعني في الكفر والنفاق والمعنى أنهم لما تركوا إتباع الحق أمات الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا يعني المؤمنين لما بين الله أن المنافق يسمع ولا ينتفع بل هو مصر على متابعة الهوى بين حال المؤمن المهتدي الذي ينتفع بما يستمع فقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا يعني بهداية الله إياهم إلى الإيمان زادَهُمْ هُدىً يعني أنهم كلما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما جاء به عن الله عز وجل آمنوا بما سمعوا منه وصدقوه فيزيدهم ذلك هدى مع هدايتهم وإيمانا مع إيمانهم وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ يعني وفقهم للعمل بما أمرهم به وهو التقوى. وقال سعيد بن جبير: آتاهم ثواب تقواهم، وقيل: آتاهم نفس تقواهم، بمعنى أنه تعالى بيّن لهم التقوى.
[سورة محمد (47) : الآيات 18 الى 19]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
قوله عز وجل: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً يعني الكافرين والمنافقين الذين قعدوا عن الإيمان فلم يؤمنوا فالساعة بغتة تفجؤهم وهم على كفرهم ونفاقهم ففيه وعيد وتهديد والمعنى لا ينظرون إلى الساعة والساعة آتية لا محالة وسميت القيامة ساعة لسرعة قيامها.
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بادروا بالأعمال سبعا فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو(4/144)
مرضا مفسدا أو هرما مقيدا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي أماراتها وعلاماتها واحدها شرط.
ولما كان قيام الساعة أمرا مستبطأ في النفوس وقد قال الله تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فكأن قائلا قال متى يكون قيام الساعة فقال تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قال المفسرون: من أشراط الساعة انشقاق القمر وبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ق) . عن سهل بن سعد قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال: بعثت أنا والساعة كهاتين وفي رواية قال بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بإصبعيه يمدهما» (ق) عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل أحدهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى وفي رواية قال بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قيل معنى الحديث أن المراد أن ما بين مبعثه صلّى الله عليه وسلّم وقيام الساعة شيء يسير كما بين الإصبعين في الطول وقيل هو إشارة إلى قرب المجاورة (ق) عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم. وفي رواية ويظهر الزنى ويقل الرجال ويكثر النساء» (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل وفي رواية: يرفع العلم ويثبت الجهل أو قال ويظهر الجهل» (خ) عن أبي هريرة قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديثه فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة قال: ها أنا ذا يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» .
وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يعني فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة. وقيل: معناه كيف يكون حالهم إذا جاءتهم الساعة فلا تنفعهم الذكرى ولا تقبل منهم التوبة ولا يحتسب بالإيمان في ذلك الوقت فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأورد على هذا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بالله وأنه لا إله إلا هو فما فائدة هذا الأمر.
وأجيب عنه بأن معناه: دم على ما أنت عليه من العلم. فهو كقول القائل للجالس: اجلس أي دم على ما أنت عليه من الجلوس أو يكون معناه ازدد علما إلى علمك. وقيل: إن هذا الخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فالمراد به غيره من أمته. قال أبو العالية وسفيان بن عيينة: هذا متصل بما قبله. معناه: إذا جاءتهم فاعلم أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله الذي لا إله إلا هو. وقيل: معناه فاعلم أنه لا إله إلا الله وأن جميع الممالك تبطل عند قيامها فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله الذي لا إله إلا هو وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار مع أنه مغفور له ليستنّ به أمته وليقتدوا به في ذلك (م) عن الأغر المزني أغر مزينة قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر في اليوم مائة مرة وفي رواية قال: توبوا إلى ربكم فو الله إني لأتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم» (خ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وفي رواية أكثر من سبعين مرة» قوله: إنه ليغان على قلبي الغين التغطية والستر أي يلبس على قلبي ويغطي وسبب ذلك ما أطلعه عليه من أحوال أمته بعده فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم. وقيل: إنه لما كان يشغله النظر في أمور المسلمين ومصالحهم حتى يرد أنه قد شغل بذلك وإن كان من أعظم طاعة وأشرف عبادة عن أرفع مقام مما هو فيه وهو التفرد بربه عز وجل وصفاء وقته معه وخلوص(4/145)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
همه من كل شيء سواه فلهذا السبب كان صلّى الله عليه وسلّم يستغفر الله فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: هو مأخوذ من الغين وهو الغيم الرقيق الذي يغشى السماء فكان هذا الشغل والهم يغشى قلبه صلّى الله عليه وسلّم ويغطيه عن غيره فكان يستغفر الله منه وقيل هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه صلّى الله عليه وسلّم وكأن سبب استغفاره لها إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى.
وحكى الشيخ محيي الدين النووي عن القاضي عياض، أن المراد به الفترات والغفلات من الذكر الذي كان شأنه صلّى الله عليه وسلّم الدوام عليه فإذا فتر وغفل عد ذلك ذنبا واستغفر منه وحكى الوجوه المتقدمة عنه. وعن غيره. وقال الحارث المحاسبي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام وإجلال وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالى. وقيل:
يحتمل أن هذا الغبن حالة حسنة وإعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما قال: أفلا أكون عبدا شكورا.
وقيل في معنى الآية: استغفر لذنبك أي لذنوب أهل بيتك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني من غير أهل بيته وهذا إكرام من الله عز وجل لهذه الأمة حيث أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ قال ابن عباس والضحاك: متقلبكم يعني متصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ومثواكم يعني مصيركم إلى الجنة أو إلى النار وقيل: متقلبكم في أشغالكم بالنهار ومثواكم بالليل إلى مضاجعكم وقيل:
متقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وبطونهن ومثواكم في الدنيا وفي القبور والمعنى أنه تعالى عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها وإن دق وخفي.
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 22]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ وذلك أن المؤمنين كانوا حراصا على الجهاد في سبيل الله فقالوا: فهلا أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد؟ لكي نجاهد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ قال مجاهد: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني نفاقا وهم المنافقون يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يعني شزرا وكراهية منهم للجهاد وجبنا عن لقاء العدو نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعني كما ينظر الشاخص بصره عند معاينة الموت فَأَوْلى لَهُمْ فيه وعيد وتهديد وهو معنى قولهم في التهديد وليك وقاربك ما تكره وتم الكلام عند هذا.
ثم ابتدأ بقوله طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فعلى هذا هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة وقول معروف أمثل لهم وأولى بهم.
والمعنى: لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن. وقيل: هو متصل بما قبله واللام في لهم بمعنى الباء مجازة فأولى بهم طاعة الله وطاعة رسوله وقول معروف بالإجابة والمعنى لو أطاعوا وأجابوا لكانت الطاعة والإجابة أولى بهم وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء عنه فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فيه حذف تقديره فإذا عزم صاحب الأمر وقيل: هو على أصله ومجازه كقولنا: جاء الأمر ودنا الوقت وهذا أمر متوقع. ومعنى الآية: فإذا عزم الأمر خالف المنافقون وكذبوا فيما وعدوا به فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني الصدق وقيل: معناه لو صدقوا الله في إظهار الإيمان والطاعة لكان ذلك خيرا لهم فَهَلْ عَسَيْتُمْ أي فلعلكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم(4/146)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
عن سماع القرآن وفارقتم أحكامه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قال قتادة كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرّحمن؟
(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الرّحمن شجنة من الرّحمن فقال الله تعالى من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» . وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقو الرّحمن فقال: مه فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها الشجنة: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق. والحقو. مشد الإزار من الإنسان وقد يطلق على الإزار، ولما جعل الرحم شجنة من الرّحمن، استعار لها الاستمساك به والأخذ كما يستمسك القريب من قريبه والنسيب من نسيبه. ومعنى صلة الرحم: مبرة الأقارب والإحسان إليهم وقطع الرحم ضد صلتها والعائذ اللائذ المستجير قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني وليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والده فيتصل بعضه ببعض فسمي ذلك الاتصال رحما. والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وأصلها وعظيم إثم قاطعها ولهذا سمي العقوق قطعا كأنه قطع ذلك السبب المتصل قال:
ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بهذا بأمر الله عز وجل هذا كلام القاضي عياض في معنى هذا الحديث والله أعلم وقيل في الآية في قوله إِنْ تَوَلَّيْتُمْ هو من الولاية يعني فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض، يعني بالظلم، وتقطعوا أرحامكم، ومعنى الاستفهام في قوله: فهل عسيتم للتقرير المذكور والمعنى هل يتوقع منكم الإفساد.
فإن قلت: عسى طمع وترج وتوقع وذلك على الله محال لأنه تعالى عالم بكل شيء فما معناه.
قلت: قال بعضهم معناه: يفعل بكم فعل المترجي المبتلي. وقال بعضهم معناه كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال الزمخشري: معناه أنه لما عهد منكم إحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا.
[سورة محمد (47) : الآيات 23 الى 26]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
أُولئِكَ إشارة إلى من إذا تولى أفسد في الأرض وقطع الأرحام الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته فَأَصَمَّهُمْ يعني عن سماع الحق وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ يعني عن طريق الهدى وذلك أنهم لما سمعوا القرآن فلم يفهموه ولم يؤمنوا به وأبصروا طريق الحق فلم يسلكوه ولم يتبعوه، فكانوا بمنزلة الصم العمى، وإن كان لهم أسماع وأبصار في الظاهر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني يتكفرون فيه وفي مواعظه وزواجره وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف وخلوص النية أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها(4/147)
يعني بل على قلوب أقفالها وجعل القفل مثلا لكل مانع للإنسان من تعاطي فعل الطاعة. يقال: فلان مقفل عن كذا، بمعنى ممنوع منه.
فإن قلت: إذا كان الله تعالى قد أصمهم وأعمى أبصارهم وأقفل على قلوبهم وهو بمعنى الختم فكيف يمكنهم تدبر القرآن مع هذه الموانع الشديدة.
قلت: تكليف ما لا يطاق جائز عندنا، لأن الله أمر بالإيمان لمن سبق في علمه أنه لا يؤمن فكذلك هنا والله يفعل ما يريد لا اعتراض لأحد عليه. وقيل: إن قوله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ المراد به التأسي. وقيل: إن هذه الآية محققة للآية المتقدمة وذلك أن الله تعالى لما قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ فكان قوله أفلا يتدبرون القرآن كالتهييج لهم على ترك ما هم فيه من الكفر الذي استحقوا بسببه اللعنة أو كالتبكيت لهم على إصرارهم على الكفر والله أعلم بمراده.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي، عن عروة بن الزبير قالا: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به» هذا حديث مرسل وعروة بن الزبير تابعي من كبار التابعين وأجلهم لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه ولد سنة اثنتين وعشرين وقيل غير ذلك.
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ يعني رجعوا القهقهرى كفارا مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى يعني من بعد ما وضح لهم طريق الهداية. قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون آمنوا أولا ثم كفروا ثانيا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ يعني زين لهم القبيح حتى رأوه حسنا وَأَمْلى لَهُمْ قرئ بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله يعني أمهلوا ومد لهم في العمر وقرئ وأملى لهم بفتح الألف واللام بمعنى وأملى لهم الشيطان بأن مد لهم في الأمل.
فإن قلت: الإملاء والإمهال لا يكونان إلا من الله لأنه الفاعل المطلق وليس للشيطان فعل قط على مذهب أهل السنة، فما معنى هذه القراءة.
قلت إن المسول والمملي هو الله تعالى في الحقيقة وليس للشيطان فعل إنما أسند إليه ذلك من حيث إن الله تعالى قدر ذلك على يده ولسانه فالشيطان يمنيهم ويزين لهم القبيح ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر العمر ذلِكَ إشارة إلى التسويل والإملاء بِأَنَّهُمْ يعني بأن أهل الكتاب أو المنافقين قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وهم المشركون سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ يعني من التعاون على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وترك الجهاد معه والقعود عنه وكانوا يقولون ذلك سرا فأخبر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خبرهم ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أمرهم.(4/148)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
[سورة محمد (47) : الآيات 27 الى 32]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ يعني ذلك الضرب بِأَنَّهُمُ يعني بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ يعني ترك الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن عباس: بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ يعني كرهوا ما فيه رضوان الله عز وجل وهو الإيمان والطاعة والجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ التي عملوها من أعمال البر لأنها لم تكن لله ولا بأمره أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وهم المنافقون أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ يعني يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرف المؤمنون نفاقهم واحدها ضغن وهو الحقد الشديد. وقال ابن عباس: حسدهم وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ لما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ فكأن قائلا قال لم لم يخرج أضغانهم ويظهرها فأخبر تعالى أنه إنما أخر ذلك لمحض المشيئة لا لخوف منهم فقال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لا مانع لنا من ذلك. والإراءة بمعنى التعريف والعمل. وقوله: فَلَعَرَفْتَهُمْ لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة الحقيقية كما يقال: عرفته فلم يعرف فكان المعنى هنا عرفناكهم تعريفا تعرفهم به ففيه إشارة إلى قوة ذلك التعريف الذي لا يقع معه اشتباه وقوله بِسِيماهُمْ يعني بعلامتهم أي نجعل لك علامة تعرفهم بها. قال أنس: ما خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ يعني في معنى القول وفحواه ومقصده وللحن معنيان صواب وخطأ صرف الكلام وإزالته عن التصريح إلى المعنى والتعريض وهذا محمود من حيث البلاغة ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فلعل بعضكم ألحن بحجته من بعض» وإليه قصد بقوله وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وأما اللحن المذموم فظاهر وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب أو التصحيف. ومعنى الآية: وإنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضون به من القول من تهجين أمرك وأمر المسلمين وتقبيحه والاستهزاء به فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ونفاقه ثم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ يعني أعمال جميع عباده فيجازي كلّا على قدر عمله.
قوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ يعني ولنعاملنكم معاملة المختبر فإن الله تعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها ووجودها حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ يعني إنا نأمركم بالجهاد حتى يظهر المجاهد ويتبين من يبادر منكم ويصبر عليه من غيره لأن المراد من قوله: حتى نعلم، أي علم الوجود والظهور وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ يعني نظهرها ونكشفها ليتبين من يأتي القتال ولا يصبر على الجهاد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ يعني خالفوه فيما أمرهم به من الجهاد وغيره مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى يعني من بعد ما ظهر لهم أدلة الهدى وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني إنما يضرون أنفسهم بذلك والله تعالى منزه عن ذلك وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ يعني وسيبطل أعمالهم فلا يرون لها ثوابا في الآخرة لأنها لم تكن لله تعالى قال ابن عباس:
هم المطعمون يوم بدر.(4/149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
[سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لما ذكر الله عز وجل الكفار بسبب مشاقتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قال عطاء: يعني بالشرك والنفاق والمنى. داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان والطاعة ولا تشركوا فتبطل أعمالكم.
وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصيانه. وقال الكلبي: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والسمعة لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. وقال الحسن: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي والكبائر. قال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرون أنه لا يضرهم مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا من الكبائر بعد أن نحبط أعمالهم واستدل بهذه الآية من يرى إحباط الطاعات بالمعاصي ولا حجة لهم فيها وذلك لأن الله تعالى يقول:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وقال تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فالله تعالى أعدل وأكرم من أن يبطل طاعات سنين كثيرة بمعصية واحدة وروى ابن عمر أنه قال: كنا نرى أنه لا شيء من حسناتنا إلا مقبولا حتى نزل وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا. فقلنا: الكبائر والفواحش حتى نزل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فكففنا عن ذلك القول وكنا نخاف على من أصاب الكبيرة ونرجو لمن لم يصبها واستدل بهذه الآية من لا يرى إبطال النوافل حتى لو دخل في صلاة تطوع أو صوم تطوع لا يجوز له إبطال ذلك العمل والخروج منه ولا دليل لهم في الآية ولا حجة لأن السنة مبينة للكتاب «وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أصبح صائما فلما رجع إلى البيت وجد حيسا فقال لعائشة قربيه فلقد أصبحت صائما فأكل» وهذا معنى الحديث وليس بلفظه وفي الصحيحين أيضا أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع له طعاما فلما قربه إليه قال. كل فإني صائم قال لست بآكل حتى تأكل فأكل معه وقال مقاتل في معنى الآية لا تمنوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتبطل أعمالكم نزلت في بني أسد وسنذكر القصة في تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قيل نزلت في أهل القليب وهم أبو جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر وألقوا في قليب بدر وحكمها عام في كل كافر مات على كفره فالله لا يغفر له لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَلا تَهِنُوا الخطاب فيه لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم هو عام لجميع المسلمين يعني فلا تضعفوا أيها المؤمنون وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ يعني ولا تدعوا الكفار إلى الصلح أبدا منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني وأنتم الغالبون لهم والعالون عليهم. أخبر الله تعالى أن الأمر للمسلمين والنصرة والغلبة لهم عليهم وإن غلبوا المسلمين في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ يعني بالنصر والمعونة ومن كان الله معه فهو العالي الغالب وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ يعني لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم. وقال ابن عباس وغيره: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها ثم حض على الآخرة بذم الدنيا فقال تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي باطل وغرور يعني كيف تمنعكم الدنيا عن طلب الآخرة وقد علمتم أن الدنيا كلها لعب ولهو إلا ما كان منها في عبادة لله عز وجل وطاعته واللعب ما يشغل الإنسان وليس فيه منفعة في الحال ولا في المآل ثم إذا استعمله الإنسان ولم يشغله عن غيره ولم ينسه أشغله المهمة فهو اللعب وإن أشغله عن مهمات نفسه فهو اللهو وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ يعني يؤتكم جزاء أعمالكم في الآخرة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يعني أن الله تعالى لا يسأل من العباد أموالهم لإيتاء الأجر عليهم، بل يأمرهم بالإيمان والتقوى والطاعة ليثيبهم عليها الجنة. وقيل: معناه ولا يسألكم محمد صلّى الله عليه وسلّم أموالكم وقيل: معناه لا يسألكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أموالكم(4/150)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
كلها في الصدقات إنما يسألكم غيضا من فيض وهو ربع العشر من أموالكم وهو زكاة أموالكم ثم ترد عليكم ليس لله ورسوله فيها حاجة إنما فرضها الله تعالى في أموال الأغنياء وردها على الفقراء فطيبوا بإخراج الزكاة أنفسكم.
وإلى هذا القول ذهب سفيان بن عيينة ويدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها الضمير عائد إلى الأموال فَيُحْفِكُمْ يعني يجهدكم ويطلبها كلها والإحفاء المبالغة في المسألة وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال:
أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح تَبْخَلُوا يعني بالمال فلا تعطوه وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يعني بغضكم وعداوتكم لشدة محبتكم للأموال قال قتادة علم الله أن الإحفاء بمسألة الأموال مخرج للأضغان.
[سورة محمد (47) : آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني أنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصفون ثم استأنف وصفهم فقال تعالى: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل أراد به النفقة في الجهاد والغزو وقيل المراد به إخراج الزكاة وجميع وجوه البر والكل في سبيل الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ يعني بما فرض عليه إخراجه من الزكاة أو ندب إلى إنفاقه في وجوه البر وَمَنْ يَبْخَلْ يعني بالصدقة وأداء الفريضة فلا يتعداه ضر بخله وهو قوله تعالى: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي على نفسه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ يعني عن صدقاتكم وطاعتكم لأنه الغني المطلق الذي له ملك السموات والأرض وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ يعني إليه وإلى ما عنده من الخيرات والثواب في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعن القيام بما أمركم به وألزمكم إياه يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يعني يكونون أطوع لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم منكم. قال الكلبي: هم كندة والنخع من عرب اليمن. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة:
هم فارس والروم.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا ومن يستبدل بنا قال فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منكب سلمان ثم قال هذا وأصحابه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وله رواية أخرى عن أبي هريرة قال: «قال ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل إن تولينا استبدلوا منا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ سلمان فقال هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» ولهذا الحديث طرق في الصحيح ترد في سورة الجمعة إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(4/151)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
سورة الفتح
وهي مدنية (خ) «عن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير في بعض سفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر كررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك فقال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ قرآن فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه فقال: لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وأخرجه الترمذي وزاد فيه «وكان في بعض أسفاره بالحديبية» (ق) عن أنس قال: لما نزلت إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ إلى قوله فَوْزاً عَظِيماً مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعا» لفظ مسلم ولفظ البخاري إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال الحديبية فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هنيئا مريئا فما لنا فأنزل الله عز وجل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت هذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما إنا فتحنا لك فتحا مبينا فعن أنس وأما هنيئا مريئا فعن عكرمة» . وأخرجه الترمذي عن قتادة عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لقد أنزلت عليّ الليلة آية أحب إليّ مما على الأرض ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله لقد بين لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت عليه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
قوله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده والمعنى إنا قضينا وحكمنا لك فتحا مبينا ظاهرا بغير قتال ولا تعب. واختلفوا في هذا الفتح فروى قتادة عن أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: إنه فتح خيبر. وقيل: هو فتح فارس والروم وسائر بلاد الإسلام التي يفتحها الله عز وجل له.
فإن قلت على هذه الأقوال هذه البلاد مكة وغيرها لم تكن قد فتحت بعد فكيف قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً بلفظ الماضي.
قلت: وعد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالفتح وجيء به بلفظ الماضي جريا على عادة الله تعالى في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة كأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك في حكمنا وتقديرنا وما قدره وحكم به فهو(4/152)
كائن لا محالة. وقال أكثر المفسرين: إن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية وهو الأصح، وهو رواية عن أنس.
ومعنى الفتح: فتح المغلق المستصعب وكان الصلح مع المشركين يوم الحديبية مستصعبا متعذرا حتى فتحه الله عز وجل ويسره وسهله بقدرته ولطفه. عن البراء قال: تغدون أنتم الفتح فتح مكة ولقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها ولم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا وماشيتنا وركابنا. وقال الشعبي في قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: فتح الحديبية وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم فأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، فعز الإسلام بذلك وأكرم الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قيل اللام في قوله ليغفر لك الله لام كي والمعنى فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة بالفتح، وقال الحسن بن الفضل: هو مردود إلى قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات» وقال ابن جريج: هو راجع إلى قوله في سورة النصر وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك. وقيل: إن الفتح لم يجعل سببا للمغفرة ولكن لاجتماع ما قدر له من الأمور الأربعة المذكورة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك الفتح ونصرناك على عدوك وغفرنا لك ذنبك وهديناك صراطا مستقيما ليجتمع لك عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. وقيل: يجوز أن يكون الفتح سببا للغفران لأنه جهاد للعدو وفيه الثواب والمغفرة مع الظفر بالعدو والفوز بالفتح. وقيل: لما كان هذا الفتح سببا لدخول مكة والطواف بالبيت، كان ذلك سببا للمغفرة. ومعنى الآية: ليغفر لك الله جميع ما فرط منك ما تقدم من ذنبك يعني قبل النبوة وما تأخر، يعني بعدها وهذا على قول ما يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال عطاء الخراساني: ما تقدم من ذنبك يعني من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعائك لهم. وقال سفيان الثوري: ما تقدم من ذنبك مما كان منك قبل النبوة، وما تأخر يعني كل شيء لم تعمله ويذكر مثل هذا على طريق التأكيد كما تقول: أعط من تراه ومن لم تره واضرب من لقيت ومن لم تلقه فيكون المعنى: ما وقع لك من ذنب وما لم يقع فهو مغفور لك. وقيل المراد منه ما كان من سهو وغفلة، وتأول لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن له ذنب كذنوب غيره فالمراد بذكر الذنب هنا ما عسى أن يكون وقع منه من سهو ونحو ذلك لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين فسماه ذنبا فما كان من هذا القبيل وغيره فهو مغفور له فأعلمه الله عز وجل بذلك وإنه مغفور له ليتم نعمته عليه وهو قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يعني بالنبوة وما أعطاك من الفتح والنصر والتمكين وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويهديك إلى صراط مستقيم وهو الإسلام ويثبتك عليه والمعنى ليجمع لك من الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام. وقيل: معناه ويهدي بك إلى صراط مستقيم وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً يعني غالبا ذا عز ومنعة وظهور على الأعداء وقد ظهر النصر بهذا الفتح المبين وحصل الأمن بحمد الله تعالى.
فإن قلت: وصف الله تعالى النصر بكونه عزيزا والعزيز هو المنصور صاحب النصر فما معناه؟.
قلت: معناه ذا عزة كقوله عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي ذات رضا. وقيل: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسنادا مجازيا. يقال: هذا كلام صادق كما يقال متكلم صادق. وقيل: معناه نصرا عزيزا صاحبه فحذف(4/153)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
المضاف إيجازا واختصارا وقيل إنما يحتاج إلى هذه التقديرات إذا كانت العزة من الغلبة. والعزيز: الغالب.
أما إذا قلنا إن العزيز هو النفيس القليل أو العديم النظير، فلا يحتاج إلى هذه التقديرات، لأن النصر الذي هو من الله تعالى عزيز في نفسه لكونه من الله تعالى فصحّ وصف كونه نصرا عزيزا.
[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 6]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يعني الطمأنينة والوقار في قلوبهم لئلا تنزعج نفوسهم. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة البقرة وقد تقدم تفسيرها في موضعها.
ولما قال الله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، بيّن وجه هذا النصر كيف هو، وذلك أنه تعالى جعل السكينة التي هي الطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها فكان ذلك من أسباب النصر الذي وعد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم ثم قال تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وذلك أنه تعالى جعل السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين سببا لزيادة الإيمان في قلوبهم، وذلك أنه كلما ورد عليهم أمر أو نهي، آمنوا به وعملوا بمقتضاه، فكان ذلك زيادة في إيمانهم. وقال ابن عباس: بعث الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله فلما آمنوا به وصدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد حتى أكمل دينهم، فكلما أمروا بشيء وصدقوه، ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم، وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وقيل: لما آمنوا بالأصول وهو التوحيد وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به عن الله عز وجل وآمنوا بالبعث بعد الموت والجنة والنار وآمنوا بالفروع وهي جميع التكاليف البدنية والمالية كان ذلك زيادة في إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما قال الله عز وجل:
وينصرك الله نصرا عزيزا، وكان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، فكأن قائلا قال: كيف ينصره؟ فأخبره الله عز وجل أن له جنود السموات والأرض وهو قادر على نصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم ببعض جنوده بل هو قادر على أن يهلك عدوه بصيحة ورجفة وصاعقة ونحو ذلك فلم يفعل بل أنزل سكينة في قلوبكم أيها المؤمنون ليكون نصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإهلاك أعدائه على أيديكم فيكون لكم الثواب ولهم العقاب وفي جنود السموات والأرض وجوه: الأول: إنهم ملائكة السموات والأرض. الثاني: أن جنود السموات الملائكة وجنود الأرض جميع الحيوانات الثالث أن جنود السموات مثل الصاعقة والصيحة والحجارة وجنود الأرض مثل الزلال والخسف والغرق ونحو ذلك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بجميع جنوده الذين في السموات والأرض حَكِيماً يعني في تدبيره وقيل: عليما بما في قلوبكم أيها المؤمنون حكيما حيث جعل النصر لكم على أعدائكم.
قوله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يستدعي سابقا تقديره هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليدخلهم جنات. وقيل: تقديره أن من علمه وحكمته إن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم الفتح والنصر ليشكروه على نعمه، فيثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد تقدم ما روي عن أنس أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال الصحابة: هنيئا مريئا قد بين الله تعالى ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فإن(4/154)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
قلت تكفير السيئات إنما يكون قبل دخولهم الجنة فكيف ذكره بعد دخولهم الجنة، قلت: الواو لا تقتضي الترتيب وقيل إن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال بالذكر بمعنى أنه من أهل الجنة وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً يعني أن ذلك الإدخال والتكفير كان في علم الله تعالى فوزا عظيما وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ يعني المنافقين والمنافقات من أهل المدينة والمشركين والمشركات من أهل مكة وإنما قدم المنافقين على المشركين هنا وفي غيره من المنافقين كانوا أشد على المؤمنين من الكافرين لأن الكافر يمكن أن يحترز منه ويجاهد لأنه عدو مبين والمنافق لا يمكن أن يحترز منه ولا يجاهد فلهذا كان شره أكثر من شر الكافر فكان تقديم المنافق بالذكر أولى الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ يعني أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني عليهم دائرة العذاب والهلاك وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زيادة في تعذيبهم وهلاكهم وَلَعَنَهُمْ يعني وأبعدهم وطردهم عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يعني في الآخرة وَساءَتْ مَصِيراً يعني ساءت جهنم منقلبا.
[سورة الفتح (48) : الآيات 7 الى 10]
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقدم تفسيره بقي ما فائدة التكرير ولم قدم ذكر جنود السموات والأرض على إدخال المؤمنين الجنة ولم أخر ذكر جنود السموات والأرض هنا بعد تعذيب المنافقين والكافرين، فنقول:
فائدة التكرار للتأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة ومنهم من هو للعذاب فقدم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين جنود الرحمة فيثبتوهم على الصراط وعند الميزان فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه، فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء، وأخر ذكر جنود السموات والأرض بعد تعذيب الكافرين والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقوهم أبدا.
فإن قلت: قال في الآية الأولى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وقال في هذه الآية وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فما معناه؟ قلت: لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله ضعف المؤمنين، ناسب أن تكون خاتمة الآية الأولى وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، ولما بالغ في وصف تعذيب الكافر والمنافق وشدته، ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فهو كقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وقوله فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذكره في معرض الامتنان عليه حيث شرفه بالرسالة وبعثه إلى الكافة شاهدا على أعمال أمته ومبشرا يعني لمن آمن به وأطاعه بالثواب ونذيرا يعني لمن خالفه وعصى أمره بالعقاب ثم بين فائدة الإرسال فقال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فالضمير فيه للناس المرسل إليهم وَتُعَزِّرُوهُ يعني ويقووه وينصروه. والتعزير: نصر مع تعظيم وَتُوَقِّرُوهُ يعني وتعظموه والتوقير: التعظيم والتبجيل وَتُسَبِّحُوهُ من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة.
قال الزمخشري: والضمائر لله تعالى والمراد بتعزير الله تعالى. تعزير دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ومن فرق الضمائر(4/155)
فقد أبعد وقال غيره: الكنايات في قوله ويعزروه ويوقروه راجعة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعندها تم الكلام فالوقف عليّ ويوقروه وقف تام ثم يبتدئ بقوله ويسبحوه بُكْرَةً وَأَصِيلًا على أن الكناية في ويسبحوه راجعة إلى الله تعالى يعني ويصلوا الله أو يسبحوا بالغداة والعشي.
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يعني إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا إنما يبايعون الله لأنهم باعوا أنفسهم من الله عز وجل بالجنة وأصل البيعة: العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان بالحديبية، وهي قرية ليست بكبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلتين سميت ببئر هناك. وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر. قال مالك: هي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل. ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد والتخفيف أفصح وعامة المحدثين يشددونها (ق) عن يزيد بن عبيدة، قال: قالت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: على الموت (م) عن معقل بن يسار لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا عن أغصانها من رأسه ونحن أربعة عشرة مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر.
قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين ومعناهما صحيح بايعه جماعة منهم سلمة بن الأكوع على الموت فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا أو ينتصروا. وبايعه جماعة منهم معقل بن يسار على أن لا يفروا (خ) . عن ابن عمر قال: إن الناس كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يعني عمر: يا عبد الله انظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذهب فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع. وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم.
وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيبايعونه ويد الله فوق أيديهم كذا نقله البغوي عنه. وقال الكلبي:
نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يد الله فوق أيديهم يحتمل وجوها، وذلك لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين.
فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما: يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم كما قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وثانيهما: يد الله فوق أيديهم أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال: اليد لفلان، أي الغلبة والنصرة والقوة.
وإن قلنا: إنها بمعنيين، فنقول: اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة، فيكون المعنى: يد الله فوق أيديهم بالحفظ. وقال الزمخشري: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريقة التخيل، فقال: يد الله فوق أيديهم، يريد أن يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله عز وجل من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذا مذهب أهل التأويل وكلامهم في هذه الآية ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
وقوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يعني فمن نقض العقد الذي عقده مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ونكث البيعة فإن وبال ذلك وضره يرجع إليه ولا يضر إلا نفسه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ يعني من البيعة فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يعني في الآخرة وهو الجنة.(4/156)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 15]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس ومجاهد يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع والنخع وأسلم وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق الهدى ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلفوا، واعتلّوا بالشغل، فأنزل الله تعالى فيهم سيقول لك يا محمد المخلفون من الأعراب الذين خلفهم الله عز وجل عن صحبتك، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه وعاتبتهم على التخلف عنك شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعني النساء والذراري. يعني: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم: فلذا تخلفنا عنك فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي إنا مع عذرنا معترفون بالإساءة فاستغفر لنا بسبب تخلفنا عنك فأكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني أنهم في طلب الاستغفار كاذبون لأنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أم لا قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا يعني سوءا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدفع عنهم الضر أو يجعل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله عز وجل أنه إن أراد شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني من إظهاركم الاعتذار وطلب الاستغفار وإخفائكم النفاق بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً يعني ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون إلى أهليهم وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ يعني زيّن الشيطان ذلك الظن عندكم حتى قطعتم به، حتى صار الظن يقينا عندكم، وذلك أن الشيطان قد يوسوس في قلب الإنسان بالشيء ويزينه له حتى يقطع به وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يعني وظننتم أن الله يخلف وعده وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، يريدون بذلك قتلهم فلا يرجعون فأين تذهبون معهم انظروا ما يكون من أمرهم وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يعني وصرتم بسبب ذلك الظن الفاسد قوما بائرين هالكين وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً. لما بين الله تعالى حال المخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين حال ظنهم الفاسد وإن ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر حرضهم على الإيمان والتوبة من ذلك الظن الفاسد فقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وظن أن الله يخلف وعده فإنه كافر وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين المبايعين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحال الظانين ظن السوء أخبر أن له ملك السموات والأرض ومن كان كذلك فهو يغفر لمن يشاء بمشيئته ويعذب من يشاء ولكن غفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وإليه الإشارة بقوله تعالى:
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قوله عز وجل: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني الذين تخلفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ يعني إذا سرتم وذهبتم أيها المؤمنون إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني غنائم خيبر وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من الغنائم شيئا وعدهم الله عز وجل فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئا ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يعني(4/157)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
إلى خيبر فنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المتخلفين عن الحديبية حيث قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في غنيمة وهنا قالوا: ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يعني يريدون أن يغيروا ويبدلوا مواعيد الله لأهل الحديبية حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة وهذا قول جمهور المفسرين. وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث أمره أن لا يسير منهم أحدا إلى خيبر.
وقال ابن زيد: هو قول الله تعالى فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا، والقول الأول أصوب قُلْ أي قل لهم يا محمد لَنْ تَتَّبِعُونا يعني إلى خيبر كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل مرجعنا إليكم غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا يعني يمنعكم الحسد أن نصيب معكم من الغنائم شيئا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني لا يعلمون ولا يفهمون من الله ما لهم وما عليهم من الدين إلا قليلا منهم وهو من تاب منهم وصدق الله ورسوله.
[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 18]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)
قوله عز وجل: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ لما قال الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قل لن تتبعونا، وكان المخلفون جمعا كثيرا من قبائل متشعبة، وكان فيهم من ترجى توبته وخيره بخلاف الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه، فجعل الله عز وجل لقبول توبتهم علامة، وهي أنهم يدعون إلى قوم أولى بأس شديد، فإن أطاعوا، كانوا من المؤمنين ويؤتيهم الله أجرا حسنا وهو الجنة، وإن تولوا وأعرضوا عما دعوا إليه، كانوا من المنافقين ويعذبهم عذابا أليما. واختلفوا في المشار إليهم بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ من هم فقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: هم الروم. وقال الحسن: هم فارس والروم. وقال سعيد بن جبير:
هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال ابن جريج: دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد، وأقوى هذه الأقوال، قول من قال إنهم هوازن وثقيف، لأن الداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأبعدها قول من قال إنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب أما الدليل على صحة القول الأول فهو أن العرب كان قد ظهر أمرهم في آخر الأمر على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق إلا مؤمن تقي طاهر أو كافر مجاهر.
وأما المنافقون، فكان قد علم حالهم لامتناع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عليهم، وكان الداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حرب من خالفه من الكفار. وكانت هوازن وثقيف من أشد العرب بأسا وكذلك غطفان فاستنفر النبي صلّى الله عليه وسلّم العرب لغزوة حنين وبني المصطلق، فصح بهذا البيان أن الداعي هو النبي صلّى الله عليه وسلّم. فإن قيل: هذا ممتنع لوجهين: أحدهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لن تتبعونا، وقال: لن تخرجوا معي أبدا، فكيف كانوا يتبعونه مع هذا النهي؟ الوجه الثاني:
قوله أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، ولم يبق للنبي صلّى الله عليه وسلّم حرب مع قوم أولي بأس شديد، لأن الرعب كان قد دخل قلوب العرب كافة فنقول: الجواب عن الوجه الأول من وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا مقيد بقيد وهو أن يكون تقديره: قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من(4/158)
النفاق والمخالفة وهذا القيد لا بد منه لأن من أسلم وحسن إسلامه وجب عليه الجهاد ولا يجوز منعه من الخروج إلى الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الوجه الثاني: في الجواب عن الوجه الأول أن المراد من قوله لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا يعني في غزوة خيبر لأنها كانت مخصوصة بمن شهد بيعة الرضوان بالحديبية دون غيرهم. ثم نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو لم يدعهم إلى الجهاد معه أو منعهم من الخروج إلى الجهاد معهما لامتنع أبو بكر وعمر من الإذن لهم في الخروج إلى الجهاد معهما كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لامتناع النبي صلّى الله عليه وسلّم من أخذها وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبق له حرب مع قوم أولي بأس شديد فغير مسلم لأن الحرب كانت باقية مع قريش وغيرهم من العرب وهم أولو بأس شديد فثبت بهذا البيان أن الداعي للمخلفين هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأما قول من قال إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وإن عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم فظاهر في الدلالة وفيه دليل على صحة خلافتهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة وعلى مخالفتهما النار.
وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما الإسلام أو القتل فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني الجنة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني تعرضوا عن الجهاد كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني عام الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار ولما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والأعذار كيف حالنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني في التخلف عن الجهاد وهذه أعذر ماهرة في جواز ترك الجهاد، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر، لأن الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الاحتراز منه والهرب، وكذلك الأعرج، والمريض. وفي معنى الأعرج: الزمن المقعد والأقطع. وفي معنى المريض: صاحب السعال الشديد والطحال الكبير. والذين لا يقدرون على الكر والفر: فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر وهي: الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يستصحب معه ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد والاشغال التي تعوق عن الجهاد كتمريض المريض الذي ليس له من قوم مقامه عليه ونحو ذلك وإنما قدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج لأنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقدم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قريب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في أمر الجهاد وغيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني يعرض عن الساعة ويستمر على الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً يعني في الآخرة.
قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ يعني بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ولا يفروا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وكانت هذه الشجرة سمرة (ق) عن طارق بن عبد الرّحمن قال انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت ابن المسيب فأخبرته فقال سعيد: كان أبي ممن بايع تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فعميت علينا فلم نقدر عليها. قال سعيد: فأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها فأنتم أعلم فضحك. وفي رواية، عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد عام فلم أعرفها، وروي أن عمر مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هاهنا وبغضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال: سيروا. ذهبت الشجرة. (خ) عن ابن عمر قال رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها وكانت رحمة من الله تعالى (م) عن أبي الزبير، أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه جميعا غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره. زاد في رواية قال: بايعناه على أن لا نفر. ولم نبايعه على الموت.
وأخرجه الترمذي عن جابر في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.(4/159)
قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. (ق) عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية. «أنتم اليوم خير أهل الأرض» . وكنا ألفا وأربعمائة قال: ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. وروى سالم عن جابر قال: كنا خمس عشرة مائة (ق) عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية وكان سبب هذه البيعة على ما ذكر محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل يقال له «الثعلب» ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله فمنعتهم الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف على نفسي قريشا وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته وحمله بين يديه ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف به. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتبسته قريش عندها فبلغ، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا نبرح حتى نناجز القوم» . ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت قال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل على ما استطعتم» . وقد تقدم عن جابر ومعقل بن يسار أنهما قالا: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. وقد تقدم أيضا الجمع بين هذا وبين قول سلمة بن الأكوع بايعناه على الموت وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجلا من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب، ولم يتخلف عن بيعة الرضوان أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة قال جابر: فكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.
وقوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من الصدق والإخلاص والوفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض والنفاق فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ يعني الطمأنينة عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين المخلصين حتى ثبتوا وبايعوك على الموت وعلى أن لا يفروا وفي هذه الآية لطيفة، وهي أن هذه البيعة كانت فيها طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وذلك موجب لرضوان الله عز وجل وهو موجب لدخول الجنة ويدل عليه قوله تعالى في الآية المتقدمة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فثبت بهذا البيان أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة، ويشهد لصحة ما قلناه الحديث المتقدم.
فإن قلت الفاء في فعلم للتعقيب وعلم الله قبل الرضا، لأنه تعالى علم ما في قلوبهم من الصدق والإيمان فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في قوله فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ.
قلت: قوله: ما فِي قُلُوبِهِمْ، متعلق بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ، فيكون تقديره: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك فعلم ما في قلوبهم من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب بل عند المبايعة التي عندها علم الله بصدقهم والفاء في قوله: فأنزل السكينة للتعقيب، لأنه تعالى لما علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم فأنزل السكينة عليهم.(4/160)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
وقوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً يعني خيبر.
[سورة الفتح (48) : الآيات 19 الى 20]
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني من أموال أهل خيبر وكانت خيبر ذات نخيل وعقار وأموال فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني منيعا كامل العزة غنيا عن إعانتكم حَكِيماً حيث حكم لكم بالغنائم ولأعدائكم بالهلاك على أيديكم.
قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني المغانم التي تغنمونها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني مغانم خيبر وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله عز وجل في المستقبل وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب أعجلها الله لكم وهي في جنب ما وعدكم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قصد خيبر وحاصر أهلها، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله عز وجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: المعنى إن الله عز وجل كف أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنّة عليكم وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ هو عطف على ما تقدم تقديره، فعجل لكم الغنائم لتنتفعوا بها، ولتكون آية للمؤمنين. يعني:
ولتحصل من بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم. وقيل: لتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في إخباره عن الغيوب، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويهديكم إلى دين الإسلام ويثبتكم عليه ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر.
(ذكر غزوة خيبر) وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع (ق) . عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم. وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر فلما انتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فخرجوا علينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا محمد والخميس فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (م) عن سلمة بن الأركع قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من هذا؟» قال: أنا عامر. قال: «غفر لك ربك» قال: وما استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنسان يخصه إلا استشهد. قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بعامر. قال:
فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب(4/161)
قال: وبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا بضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عمي عامر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قال ذلك؟ قلت: ناس من أصحابك. قال: كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين. ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبصق في عينيه فبرأ، وأعطاه الراية فخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
فقال علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال فضرب مرحبا فقتله ثم كان الفتح على يده. أخرجه مسلم بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري طرفا منه قال البغوي وقد روى حديث فتح خيبر جماعة منهم سهل بن سعد وأنس بن مالك وأبو هريرة يزيدون وينقصون فيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه، فدعا عليا فأعطاه الراية وقال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فأتى خيبر فخرج مرحب صاحب الحصن وعلى رأسه مغفر من حجر قد نقبه مثل البيضة وهو يرتجز، فخرج إليه علي بن أبي طالب، فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز، فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله؟ قال: ابنك يقتله إن شاء الله. ثم التقيا، فقتله الزبير.
ثم كان الفتح ثم لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتح الحصون ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويحوز الأموال» قال محمد بن إسحاق: فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقت اليهود عليه حجرا فقتله ثم فتح حصن ابن أبي الحقيق فأصاب سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب جاء بها بلال وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية، صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فجهزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفاها لنفسه وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منها فسألها عن ذلك ما هو، فأخبرته الخبر، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزوجها كنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله، فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل من اليهود فقال لرسول الله: صلّى الله عليه وسلّم إني رأيت كنانة يطوف(4/162)
بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك قال: نعم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي، فأبى أن يؤديه إليه فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة» (ق) عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر بياض فخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثا. قال: وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد والخميس يعني الجيش. قال: فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطني جارية من السبي. قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال: ادعوها فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: خذ جارية من السبي غيرها، فأعتقها النبي صلّى الله عليه وسلّم وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها، حتى إذا كان بالطريق، جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل وأصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم عروسا فقال: من كان عنده شيء فليجئ به. وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن قال: وأحسبه ذكر السويق. قال: فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (ق) . عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا» . فقال أناس:
نهى عنها لأنها لم تخمس وقال آخرون: إنما نهى عنها البتة (ق) عن أنس: «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك. أو قال علي قالوا أنقلتها قال لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
قال محمد بن إسماعيل قال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخبير فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» (خ) . عن عائشة قالت: «لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر» (ق) عن ابن عمر «أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها. حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء. قال محمد بن إسحاق: لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلوا له الأموال ففعل بهم ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاملهم على النصف ففعل على أن لنا إذا شئنا إخراجكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية، يعني مشوية، وسألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تناول الذراع فأخذها، فلاك منها قطعة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما بشر فأساغها يعني ابتلعها وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلفظها، ثم قال:
إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فيسخبرنا. فتجاوز عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومات بشر(4/163)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
على مرضه الذي توفي فيه. فقال: يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» . فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماتت شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة.
عن عبيد الله بن سلمان أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم فجاء رجل فقال: يا رسول الله لقد ربحت اليوم ربحا ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي. قال: ويحك وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أنبئك بخير ربح؟ قال: وما هو يا رسول الله قال: ركعتان بعد الصلاة» أخرجه أبو داود.
[سورة الفتح (48) : الآيات 21 الى 24]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها يعني حفظها لكم حتى تفتحوها ومنعها من غيركم حتى تأخذوها، وقال ابن عباس: علم الله أن يفتحها لكم واختلفوا فيها فقال ابن عباس: هي فارس والروم وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم بل كانوا خولا لهم حتى أقدرهم الله عليها بشرف الإسلام وعزه. وقيل: هي خيبر وعدها الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها ففتحها الله لهم. وقيل: هي مكة. وقيل: هو كل فتح فتحه المسلمون أو يفتحونه إلى آخر الزمان وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي: من فتح القرى والبلدان لكم وغير ذلك وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أسد وغطفان وأهل خيبر لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي لانهزموا عنكم ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني من تولى الله خذلانه فلا ناصر له ولا مساعد سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يعني هذه سنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ سبب نزول هذه الآية ما روي عن أنس بن مالك: «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فأخذهم سبايا فاستحياهم فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم» انفرد بإخراجه مسلم وقال عبد الله بن مغفل المزني: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أمانا قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم» .
ومعنى الآية، أن الله تعالى ذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلوا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح وهو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أيدي أهل مكة وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ أي قضى بينهم وبينكم بالمكافة والمحاجزة بِبَطْنِ مَكَّةَ قيل: أراد به الحديبية. وقيل: التنعيم. وقيل: وادي مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي مكنكم منهم حتى ظفرتم بهم وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قوله عز وجل:
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
(ذكر صلح الحديبية) روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث(4/164)
صاحبه قالا: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتى عتبة الخزاعي. وقال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: امضوا على اسم الله فنفذوا. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس: حل حل. فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا فلم يلبث الناس أن نزحوه. وشكا الناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل في البئر فغرزه في جوفه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر.
فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: أو لست بالوالد؟
قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؟ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك.
قال وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنصل السيف. وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟
وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.(4/165)
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بعينه قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون في وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره.
وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلّى الله عليه وسلّم:
وأصحابه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا له: اجلس فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحبيش نفرة رجل واحد. فقالوا: مه كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقال: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم. فقال سهيل: أما الرّحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله ما نكتبها إلا بسم الله الرّحمن الرّحيم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي: اكتب باسمك اللهم. ثم قال له: اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقال سهيل لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن هذا البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري وذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وعلي أن يخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله لأتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلي أن لا يأتيك منا رجلا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلما.
وروي عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن أنت محمد بن عبد الله قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله. قال: لا والله لا أمحوك أبدا قال: فأرنيه، فأراه إياه فمحاه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده. وفي رواية، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قال البراء: على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم(4/166)
ومن أتاه من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه.
وروى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشترطوا أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا.
(رجعنا إلى حديث الزهري) قال بينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا: يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد قال فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فأجره لي. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت، وكان قد عذب في الله عذابا شديدا، وفي الحديث، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك في المستضعفين فرجا ومخرجا إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا وإنا لا نغدر، فوثب عمر إلى جنب أبي جندل وجعل يقول:
اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون ودم أحدهم دم كلب ويدني السيف منه.
قال عمر: ورجوت أن يأخذ السيف فيضربه به فضن الرجل بأبيه وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ذلك، دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وزادهم أمر أبي جندل شرّا إلى ما بهم.
قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ قال الزهري في حديثه عن مروان والمسور وروى أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلنا: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل. قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قلت:
فلم نعط الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أولست كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه وتطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، فلما فرغ من قضية الكتاب. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا فو الله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام النبي صلّى الله عليه وسلّم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ونحر بدنة ودعا حالقا فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما قال ابن عمر وابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يرحم الله المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين والمقصرين قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين. قال: لأنهم لم يشكوا.(4/167)
قال ابن عمر: وذلك أنه تربص قوم وقالوا: لعلنا نطوف بالبيت.
قال ابن عباس: وأهدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك. قال الزهري في حديثه: ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر امرأتين يومئذ كانتا في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية قال: فنهاهم أن يردوا النساء وأمرهم أن يردوا الصداق. قال: ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد رجل من قريش وهو مسلم وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالا: العهد الذي جعلت لنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح في ديننا الغدر وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأخذه، منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ويلك ما لك؟ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد.
فلما سمع ذلك، عرف أن يرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بصير ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فخرج عصابة منهم إليه فانفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرحم لما أرسلت إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقدموا إليه المدينة وأنزل الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حتى بلغ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وحالوا بينه وبين هذا البيت أخرجه البخاري بطوله سوى ألفاظ منه وهي مستثناة في الحديث. منها قوله: فنزع سهما من كنانته، وأعطاه رجلا من أصحابه، إلى قوله: فو الله ما زال يجيش لهم بالري ومنها قوله ثم بعثوا الحليس بن علقمة إلى قوله فقالوا كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به ومنها قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، إلى قوله: وعليّ أن يخلوا بيننا وبين البيت. ومنها قوله: وروي عن البراء قصة الصلح، إلى قوله: رجعنا إلى حديث الزهري. ومنها قوله: وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا جندل، إلى قوله:
قال عمر فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت ألست نبي الله حقا؟ ومنها قوله: قال ابن عمر وابن عباس، إلى قوله: وقال الزهري في حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فهذه الألفاظ لم يخرجها البخاري في صحيحه.
(شرح غريب ألفاظ الحديث) قوله: بضع عشرة، البضع: في العدد بالكسر وقد يفتح هو ما بين الثلاثة إلى التسعة. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. قوله: وبعث عينا له أي جاسوسا. قوله: وقد جمعوا لك الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا. وقيل: هم حلفاء قريش وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة تحالفوا تحت جبل يقال له: حبش فسموا بذلك. وقيل: هو اسم واد بأسفل مكة.(4/168)
وقيل: سموا بذلك لتجمعهم. والتحبيش: التجمع. قوله: فإن قعدوا قعدوا موتورين، أي منقوصين. قوله:
فنفذوا: أي مضوا وتخلصوا. قوله: إن خالد بن الوليد بالغميم، اسم موضع ومنه كراع الغميم. وقوله: طليعة الطليعة، الجماعة يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو. قوله: وقترة الجيش: هو الغبار الساطع معه سواد. قوله: يركض نذير، النذير: الذي يعلم القوم بالأمر الحادث. قوله: حل حل: هو زجر للناقة. قوله خلأت القصوا: يعني أنها لما توقفت عن المشي وتقهقرت ظنوا ذلك خللا في خلقها وهو كالحران للفرس فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما خلأت أي ليس ذلك من خلقها ولكن حبسها حابس الفيل، أي منعها عن المسير. والذي منع الفيل عن مكة هو الله تعالى والقصوا اسم ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم تكن قصوا وهو شق الأذن. قوله: خطة، أي حالة وقضية يعظمون فيها حرمات الله جمع حرمة وهي فروضه وما يجب القيام به يريد بذلك حرمة الحرم ونحوه. قوله: حتى نزل بأقصى الحديبية بتخفيف الياء وتشديدها، وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقال ما لك: هي من الحرم. وقال ابن القصار:
بعضها من الحل حكاه في المطالع. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له. والتربص: أخذ الشيء قليلا قليلا.
وقوله: فما زال يجيش بالري، يقال: جاشت البئر بالماء إذا ارتفعت وفاضت. والري ضد العطش، والصد الرجوع بعد الورود. وقوله: وكانت خزاعة عيبة، نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال فلان عيبة نصح فلان إذا كان موضع سره وثقته في ذلك. قوله: نزلوا على أعداد مياه الحديبية، الماء العد: الكثير الذي لا انقطاع له كالعيون وجمعه أعداد. قوله: ومعهم العوذ المطافيل، العوذ: جمع عائذ وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها، وقيل: هي كل أنثى لها سبع ليال منذ وضعت. والمطافيل: جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها وهذه استعارة استعار ذلك للناس وأراد بهم أن معهم النساء والصبيان. قوله: وإن قريشا قد نهكتهم الحرب أي، أضرت بهم وأثّرت فيهم.
وقوله: ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة. قوله: وإلا فقد جموا، أي: استراحوا. والجمام: بالجيم الراحة بعد التعب. قوله: تنفرد سالفتي السالفة الصفحة والسالفتان صفحتا العنق. وقيل: السالفة حبل العنق وهو ما بينه وبين الكتف وهو كناية عن الموت لأنها لا تنفرد عنه إلا بالموت. قوله: إني استنفرت، يقال: استنفر القوم إذا دعاهم إلى قتال العدو، وعكاظ: اسم سوق كانت في الجاهلية معروفة. وقوله: بلحوا على فيه لغتان التخفيف والتشديد وأصل التبليح: الإعياء والفتور. والمراد: امتناعهم من إجابته وتقاعدهم عنه. قوله: استأصلت قومك.
واجتاح: أصله من الاجتياح إيقاع المكروه بالإنسان ومنه الجائحة والاستئصال والاجتياح متقاربان في مبالغة الأذى. قوله: إني لأرى وجوها وأشوابا: الأشواب، مثل الأوباش وهم الأخلاط من الناس والرعاع. يقال: فلان خليق بذلك أي جدير لا يبعد ذلك من خلقه قوله امصص بظر اللات وهي اسم صنم لهم كانوا يعبدونه والبظر ما تقطعه الخافضة وهي الخاتنة من الهنة التي تكون في فرج المرأة وكان هذا اللفظ شتما لهم يدور في ألسنتهم.
قوله: لولا يدلك عندي اليد النعمة وما يمتن به الإنسان على غيره. قوله: أي غدر معدول عن غادر وهو للمبالغة. وقوله: قد عرض عليكم خطة رشد، يقال: خطة رشد وخطة غيّ. والرشد والرشاد خلاف الغي والمراد منه أنه قد طلب منكم طريقا واضحا في هدى واستقامة. قوله: وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل تهدى إلى البيت في حج أو عمرة، وتقليدها: هو أن يجعل في رقابها شيء كالقلادة من لحاء الشجر أو نعل أو غيره ليعلم بذلك أنه هدى. والإشعار: هو أن يشق جانب السنام فيسيل دمه عليه وقوله لما رأى الهدى يسيل عليه أي يقبل عليه كالسيل من عرض الوادي أي جانبه. وقوله: هذا مكرز وهو رجل فاجر. الفجور: الميل عن الحق وكل انبعاث في شر فهو فجور. قوله: هذا ما قاضى عليه، أي فاعل من القضاء وهو إحكام الأمر وإمضاؤه وهو في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وإتمامه. قوله: ضغطة، هو كناية عن القهر والضيق. قوله:
بجلباب السلاح، بضم الجيم وسكون اللام مع تخفيف الباء ويروى بضم اللام أيضا مع التشديد وهو وعاء من(4/169)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
أدم شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا ويعلق في مؤخرة الرحل. قوله: يرسف بضم السين وكسرها لغتان، وهو: مشي المقيد. قوله: فأجره لي. قال ابن الأثير: يجوز أن يكون بالزاي من الإجازة أي اجعله جائزا غير ممنوع ولا محرم أو أطلقه لي وإن كان بالراء المهملة فهو من الإجارة والحماية والحفظ وكلاهما صالح في هذا الموضوع.
قوله: فلم نعطى الدنية، أي القضية التي لا نرضى بها أي لم نرض بالأدون والأقل في ديننا؟ قوله:
فاستمسك بغرزه الغرز لكور الناقة كالركاب لسرج الفرس والمعنى: فاستمسك به ولا تفارقه ساعة كما لا تفارق رجل الراكب غرز رحله فإنه على الحق الذي لا يجوز لأحد تركه. قوله: ويل أمه، هذه كلمة تقال للواقع فيما يكره ويتعجب بها أيضا، ومسعر الحرب أي موقدها. يقال: سعرت النار وأسعرتها إذا أوقدتها. والمسعر:
الخشب الذي توقد به النار وسيف البحر بكسر السين جانبه وساحله والله أعلم وأما تفسير الآية فقوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني كفار مكة، وَصَدُّوكُمْ أي منعوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت سبعين بدنة مَعْكُوفاً أي محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي منحره وحيث يحل نحره وهو الحرم وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ يعني المستضعفين بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي لم تعرفوهم أَنْ تَطَؤُهُمْ أي بالقتل وتوقعوا بهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي إثم وقيل: غرم الدية، وقيل: كفارة قتل الخطأ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل: هو أن المشركين يعتبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم.
والمعرة: المشقة يقول: لولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم به كفارة أو سيئة وجواب لولا محذوف تقديره لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لهذا السبب لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح وقيل دخولها لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تميزوا المؤمنين من الكفار لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي بالسبي والقتل بأيديكم وقيل: لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لولا رجال. والثاني: لو تزيلوا. ثم قال: ليدخل الله في رحمته من يشاء يعني المؤمنين والمؤمنات في رحمته أي في جنته. قال قتادة: في الآية إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 26 الى 27]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي الأنفة والغضب وذلك حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن البيت ومنعوا الهدي محله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وأنكروا أن يكون محمد رسول(4/170)
الله. وقيل: قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا رغما منا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فكانت هذه حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ التي دخلت قلوبهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: حتى لا يدخلهم ما دخلهم في الحمية فيعصون الله في قتالهم وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى.
قال ابن عباس: «كلمة التقوى لا إله إلا الله» وأخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. وقال علي وابن عمر: كلمة التقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزهري: هي بسم الله الرّحمن الرّحيم وَكانُوا أَحَقَّ بِها أي من كفار مكة وَأَهْلَها أي كانوا أهلها في علم الله، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم أهل الخير والصلاح وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير.
قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، شق عليهم ذلك وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل.
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: «شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قال: أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نرجف فوجدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس قرأ «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» فقال عمر: أهو فتح يا رسول الله؟ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن المراد من الفتح هو صلح الحديبية، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل. وقوله: لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق، أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد حق وصدق بالحق أي الذي رآه حق وصدق وقيل: يجوز أن يكون بالحق قسما لأن الحق من أسماء الله تعالى أو قسما بالحق الذي هو ضد الباطل وجوابه لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ وقيل: لتدخلن من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه حكاية عن رؤياه فأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ذلك إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ قيل: إنما استثني مع علمه بدخوله تعليما لعباده الأدب وتأكيدا لقوله: «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» وقيل: إن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. وقيل: لما لم يقع الدخول في عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال: لتدخلن المسجد الحرام لا بقوتكم وإرادتكم ولكن بمشيئة الله تعالى، وقيل: الاستثناء واقع على إلا من لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع أنه لا يشك في الموت مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ أي كلها وَمُقَصِّرِينَ أي تأخذون بعض شعوركم لا تَخافُونَ أي من عدو في رجوعكم لأن قوله آمنين في حال الإحرام لأنه لا قتال فيه. وقوله: لا تخافون يرجع إلى كمال الأمن بعد الإحرام في حال الرجوع فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يعني علم أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول وكان ذلك سببا لوطء المؤمنين والمؤمنات.
وقيل: علم أن دخولكم في السنة الثانية ولم تعلموا أنتم فظننتم أنه في السنة الأولى فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من قبل دخولكم الحرم فَتْحاً قَرِيباً يعني صلح الحديبية قاله الأكثرون. وقيل: هو فتح خيبر قوله عز وجل:(4/171)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
[سورة الفتح (48) : الآيات 28 الى 29]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ هذا البيان صدق الرؤيا وذلك أن الله تعالى لا يرى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما لا يكون فيحدث الناس فيقع خلافه فيكون سببا للضلال فحقق الله أمر الرؤيا بقوله: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» وبقوله «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق» وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة وهو قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي يعليه ويقويه على الأديان كلها فتصير الأديان كلها دونه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي في أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيه تسلية لقلوب المؤمنين وذلك أنهم تأذوا من قول الكفار لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت فقال الله تعالى: وكفى بالله شهيدا. أي: في أنه رسول الله، ثم قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي هو محمد رسول الله الذي سبق ذكره في قوله أرسل رسوله. قال ابن عباس: شهد له بالرسالة ثم ابتدأ فقال وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني أصحابه المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أي غلاظ أقوياء كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي: متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالولد مع الوالد. كما قال في حقهم: «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها يَبْتَغُونَ أي يطلبون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يعني الجنة وَرِضْواناً أي أن يرضى عنهم. وفيه لطيفة وهو أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى والمرائي بعمله لا يبتغي له أجرا وذكر بعضهم في قوله: والذين معه يعني أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان تراهما ركعا سجدا علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله ورضوانا بقية الصحابة سِيماهُمْ أي علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ واختلفوا في هذه السيما على قولين: أحدهما: أن المراد في يوم القيامة قيل: هي نور وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا لله في الدنيا وهي رواية عن ابن عباس. وقيل: تكون مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقيل: يبعثون غرا محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك. والقول الثاني: إن ذلك في الدنيا وذلك أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة صلاتهم بالليل. وقيل: هو السمت الحسن والخشوع والتواضع.
قال ابن عباس: ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه. والمعنى: أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن يعرفون به وقيل هو صفوة الوجه من سهر الليل ويعرف ذلك في رجلين أحدهما سهر الليل في الصلاة والعبادة والآخر في اللهو واللعب فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما فيظهر في وجه المصلي نور وضياء وعلى وجه اللاعب ظلمة. وقيل: هو أثر التراب على الجباه لأنهم كانوا يصلّون على التراب لا على الأثواب. قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ يعني ذلك الذي ذكر صفتهم في التوراة وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ بذكر نعتهم وصفتهم في الإنجيل فقال تعالى: وَمَثَلُهُمْ أي صفتهم فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي إفراطه قبل فراخه. قيل: هو نبت فما خرج بعده شطؤه فَآزَرَهُ أي: قوّاه وأعانه وشد أزره فَاسْتَغْلَظَ أي غلظ ذلك الزرع وقوي فَاسْتَوى أي تم وتلاحق نباته وقام عَلى سُوقِهِ جمع ساق أي على أصوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يعجب ذلك الزرع زراعة وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الإنجيل أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون قال(4/172)
قتادة: مثل أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الإنجيل أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قيل الزرع محمد صلّى الله عليه وسلّم والشطء أصحابه والمؤمنون وقيل: الزرع هو محمد صلّى الله عليه وسلّم شطأه أبو بكر فآزره عمر فاستغلظ عثمان فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب يعجب الزراع يعني جميع المؤمنين لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قيل: هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم لا يبعد الله سرا بعد اليوم. وقيل: قوتهم وكثرتهم ليغيظ بهم الكفار. قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية.
(فصل في فضل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) (ق) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» (م) .
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلّم أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث» . قوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعين وتابعيهم والقرن كل أهل زمان قيل هو أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة عن عبد الرّحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبو بكر في الجنة وعمر بن الخطاب في الجنة وعثمان بن عفان في الجنة وعلي بن أبي طالب في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرّحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة» . أخرجه الترمذي.
وأخرج عن سعيد بن زيد نحوه وقال: هذا أصح من الحديث الأول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه قال عمر فنعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم» أخرجه الترمذي مفرقا في موضعين، أحدهما: إلى قوله أبو عبيدة بن الجراح، والآخر إلى أبي ذر (خ) .
عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد أحدا أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: اثبت أحد أراه ضربه برجله فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» .
عن ابن مسعود: «عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدى عثمان وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (ق) عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه في جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة فقلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من؟ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالا» عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالا من ماله رحم الله عمرا ليقولن الحق وإن كان مرا تركه الحق وما له من صديق. رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (م) عن زر بن حبيش قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. عن.
عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من أحد يموت من أصحابي بأرض إلا بعثه الله قائدا ونورا لهم يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقد روي عن أبي بريدة مرسلا وهو أصح. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وعن أبي هريرة نحوه أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله(4/173)
صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب.
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ لفظة من في قوله منهم لبيان الجنس لا للتبعيض. كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان، فيكون معنى الآية وعد الله الذين آمنوا من جنس الصحابة. وقال ابن جرير: يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ولذلك لم يقل منه مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. وقيل: إن المغفرة جزاء الإيمان فإن لكل مؤمن مغفرة والأجر العظيم جزاء العمل الصالح والله تعالى أعلم بمراده.(4/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
سورة الحجرات
(مدنية وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا) .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ من التقديم أي لا ينبغي لكم أن يصدر منكم تقديم أصلا. وقيل: لا تقدموا فعلا بين يدي الله ورسوله. والمعنى: لا تقدموا بين يدي أمر الله ورسوله ولا نهيهما. وقيل: لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه إشارة إلى احترام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والانقياد لأوامره ونواهيه والمعنى: لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو قبل أن يفعله. وقيل: لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة واختلفوا في معنى الآية فروي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى أي: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن أناسا ذبحوا قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمروا أن يعيدوا الذبح. (ق) عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء» زاد الترمذي في أوله: قال خطبنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر وذكر الحديث.
وروي عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل نبيكم عن عمار بن ياسر قال: «من صام في اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه قدم وفد من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.
وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت زاد في رواية فما كان عمر يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه حتى يستفهمه أخرجه البخاري. وقيل: نزلت الآية في ناس كانوا يقولون: لو نزل في كذا أو صنع كذا وكذا، فكره الله ذلك وقيل في معنى الآية لا تفتئتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقيل في القتال وشرائع الدين: لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في تضييع حقه بمخالفة أمره إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لأقوالكم عَلِيمٌ أي بأفعالكم.(4/175)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
[سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي لا تجعلوا كلامكم مرتفعا على كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخطاب وذلك، لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام. وقوله: لا تقدموا نهي عن فعل وقوله لا ترفعوا أصواتكم نهي عن قول وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ويعظموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا فيقول يا محمد بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا تحبط. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي بذلك. (ق) عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أيشتكي؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى. قال:
فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل هو من أهل الجنة.
زاد في رواية: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة مسلم وللبخاري نحوه. وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون أنزلت فيّ وأنا رفيع الصوت على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار. فمضى عاصم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار فضربتها بمسمار. وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره قال اذهب فادعه فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس. فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوك فقال اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا أرفع صوتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبدا فأنزل الله تعالى:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية. قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار وانهزمت طائفة منهم فقال: أف لهؤلاء. ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلانا رجلا من المسلمين نزع درعي فذهب به وهو في ناحية من المعسكر عند فرس يستن في طيله وقد وضع على درعي برمته فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقل له: إن علي دينا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالدا فوجد الدرع والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قال أبو هريرة وابن عباس: لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا كأخي السرار. وقال ابن الزبير: لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي(4/176)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
إجلالا له وتعظيما أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ. قال ابن عباس: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم، هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما في أهله، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا. حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ قالوا: نعم. قال سبرة: أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة، فرضوا به، فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد رضيت. ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم فأنزل الله عز وجل: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وصفهم بالجهل وقلة العقل. وقيل في معنى الآية: أكثرهم إشارة إلى من يرجع منهم عن ذلك الأمر ومن لا يرجع فيستمر على حاله وهم الأكثر.
[سورة الحجرات (49) : آية 5]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاءوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء. وقيل: لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم خيرا لهم: وقيل: نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب. ويروى ذلك عن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا: يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول:
إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قم فأجبه. فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: أجبه. فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال: إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعرا وقولا ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يضرك ما كان قبل هذا. ثم أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيات إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب منهم. وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد فأنزل الله هذه الآيات.(4/177)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد. فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ يعني الوليد بن عقبة.
وقيل: هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ، فعلى هذا يكون معنى الآية:
إن جاءكم فاسق بنبإ، أي بخبر، فتبينوا. وقرئ: فتثبتوا، أي: فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق أَنْ تُصِيبُوا أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي قَوْماً بِجَهالَةٍ أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ أي من إصابتكم بالخطإ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي: فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا لَوْ يُطِيعُكُمْ أي الرسول فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم لَعَنِتُّمْ أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري «أنه قرأ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال: هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي جعله أحب الأديان إليكم وَزَيَّنَهُ أي حسنه وقربه منكم وأدخله فِي قُلُوبِكُمْ حتى اخترتموه لأن من أحب شيئا إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسنا وثباتا وبذلك تطيعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ قال ابن عباس: يريد الكذب وَالْعِصْيانَ جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه.
والإيمان الكامل: ما اجتمع فيه ثلاثة أمور: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. فقوله: وكره إليكم الكفر في مقابله.
قوله: حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو: لا إله إلا الله. والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى:
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي: أولئك هم المهتدون(4/178)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي فعل ذلك بكم فضلا منه وَنِعْمَةً عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكم وبما في قلوبكم حَكِيمٌ في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم.
قوله عز وجل: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. (ق) عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه، فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما.
ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض. (ق) عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: فسار حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ. وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: لا تغيروا علينا. فسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلّى الله عليه وسلّم دابته.
وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف. وقيل: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية فحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء معه قومه، فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله عز وجل: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. وقيل: المراد من الطائفتين الأوس والخزرج. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما فَإِنْ بَغَتْ أي تعدت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى كتابه الذي جعله حكما بين خلقه. وقيل: ترجع إلى طاعته في الصلح الذي أمر به فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي الذي يحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين.
[سورة الحجرات (49) : آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي في الدين والولاية ذلك أن الإيمان وقد عقد بين أهله من السبب والقرابة كعقد النسب الملاصق وإن بينهم ما بين الإخوة من النسب والإسلام لهم كالأب قال بعضهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ أي إذا اختلفا واقتتلا وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (ق) .(4/179)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة» والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
(فصل في حكم قتال البغاة) قال العلماء: في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ويدل عليه ما روي عن علي بن أبي طالب، وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين أمشركون هم؟ فقال: لا إنهم من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع: هو الخارج على الإمام العدل فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم إماما فالحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام ويدعوهم إلى طاعته، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على البغي قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته. ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم نادى منادي على يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ولا يذفف على جريح، وهو بذال معجمة، وهو الإجهاز على الجريح وتحرير قتله وتتميمه. وأتي علي يوم صفين بأسير فقال:
لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين. وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس ومال فلا ضمان عليها قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالا.
أما من لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة: بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم، أو لم يكن لهم تأويل، أو لم ينصبوا إماما، فلا يتعرض لهم إذا لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين فإن فعلوا ذلك فهم كقطاع الطريق في الحكم.
وروي أن عليا سمع رجلا يقول في ناحية المسجد: لا حكم إلا الله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل.
لكم علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية نزلت في ثلاثة أسباب: السبب الأول: من أولها إلى قوله خيرا منهم. قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة، أخذ أصحابه مجالسهم فظل كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قائما كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخطى رقاب الناس ثم يقول: تفسحوا تفسحوا. فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينه وبينه رجل فقال: تفسح. فقال له الرجل: أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضبا، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال: من هذا؟ قال أنا فلان. قال له ثابت: ابن فلانة وذكر أما له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا فأنزل الله هذه الآية.(4/180)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوه من رثاثة حالهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم. أي: لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينتقصه به ولعله عند الله خير منه وهو قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ السبب الثاني قوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أي لا يستهزئ نساء من نساء عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيرن أم سلمة بالقصر. وعن ابن عباس: «أنها نزلت في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: يهودية بنت يهوديين. عن أنس: بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنك لابنة نبي وعمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال: اتقي الله يا حفصة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.
والسبب الثالث قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ عن أبي جبيرة بن الضحاك وهو أخو ثابت بن الضحاك الأنصاري قال: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة «قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فأنزل الله هذه الآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أخرجه أبو داود وفي الترمذي قال «كان الرجل منا يكون له اسمان وثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره قال فنزلت هذه الآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.»
قال الترمذي: حديث حسن. قوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يعيب بعضكم بعضا ولا يطعن بعضكم في بعض. والمراد بالأنفس، الإخوان هنا. والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم، فإذا عاب عائب أحدا بعيب، فكأنه عاب نفسه. وقيل: لا يخلو أحد من عيب فإذا عاب غيره فيكون حاملا لذلك على عيبه فكأنه هو العائب لنفسه ولا تنابزوا بالألقاب أي لا تدعوا الإنسان بغير ما سمي به. وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله. وقيل: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. قيل: كان الرجل اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقيل: هو أن تقول لأخيك يا كلب يا حمار يا خنزير. وقال بعض العلماء: المراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يفيد ذما له، فأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها كالأعمش والأعرج وما أشبه ذلك فلا بأس بها إذا لم يكرهها المدعو بها، وأما الألقاب التي تكسب حمدا ومدحا تكون حقا وصدقا فلا يكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين ولعلي: أبو تراب ولخالد سيف الله ونحو ذلك بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الاسم أن تقولوا له يا يهودي أو يا نصراني بعد ما أسلم أو يا فاسق بعد ما تاب وقيل معناه أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أي من ذلك كله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: الضارون لأنفسهم بمعصيتهم ومخالفتهم. وقيل: ظلموا الذين قالوا لهم ذلك.
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل(4/181)
فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ شيئا لهما فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئا. قال: لا غلبتني عيناي فنمت قالا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله طعاما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل طعام وأدم فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا: والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال: ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة فأنزل الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن يعني أن يظن بأهل الخير سوءا فنهى الله المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شرا وقيل هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا فيراه أخوه المسلم فيظن شرا لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا فأما أهل السوء والفسق المجاهرون بذلك فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما: إثم، وهو أن يظن ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به. وقيل: الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به وهو الظن الحسن بالله عز وجل ومنه مندوب إليه وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ومنه حرام محظور وهو سوء الظن بالله عز وجل وسوء الظن بالأخ المسلم وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عيوب الناس نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى يظهر على ما ستره الله منها (ق) .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا.
التقوى هاهنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير. وقيل: معناهما واحد وهو طلب الأخبار. وقوله: ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها. قوله: ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره.
عن ابن عمر قال: «صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» . قال نافع: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك. والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب عن زيد بن وهب. قال: أتى ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة» (م) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» .(4/182)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه. عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته» . أخرجه مسلم عن عائشة قالت: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، قوله: لمزجته أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة.
قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ قال مجاهد: لما قيل أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بسوء غالبا قيل تأويله إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لأنه لا يحس بذلك وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه لأن الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء كما يتألم جسده إذا قطع لحمه والعرض أشرف من اللحم فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحم الناس فترك أعراضهم أولى وقوله لحم أخيه آكد في المنع آكد لأن العدو قد يحمله الغضب على أكل لحم عدوه، وقوله ميتا أبلغ في الزجر.
عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وفي نسخة وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود وقال ميمون بن سيار بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي وقائل يقول كل يا عبد الله قلت وما آكل؟ قال كل بما اغتبت بعد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال: ولكنك استمعت ورضيت، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أمر الغيبة واجتناب نواهيه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: أنا رسول الله قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية. وقيل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئا يغيره.
وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يعني آدم وحواء. والمعنى: إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في(4/183)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
النسب وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً جمع شعب بفتح الشين وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا شعوبا لتشعب القبائل منهم وقيل لتجمعهم وَقَبائِلَ جمع قبيلة وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر ودون القبائل العمائر واحدتها عمارة بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ وهم كبني هاشم وبني أمية من لؤي ودون الأفخاذ الفصائل واحدتها فصيلة بالصاد المهملة كبني العباس من بني هاشم ثم بعد ذلك العشائر واحدتها عشيرة وليس بعد العشيرة شيء يوصف. وقيل: الشعوب للعجم، والقبائل: للعرب، والأسباط:
من بني إسرائيل. وقيل: الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد بل ينسبون إلى المدائن والقرى والقبائل الذين ينتسبون إلى آبائهم.
لِتَعارَفُوا أي ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا للتفاخر بالأنساب ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان على غيره ويكتسب بها الشرف عند الله تعالى فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قيل: أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور.
وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحسب المال والكرم التقوى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (ق) . عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» فقهوا بضم القاف على المشهور وحكي كسرها ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي أذهب عنكم غيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس إن الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» والمحجن عصا محنية الرأس كصولجان وقوله غبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بظواهركم ويعلم أنسابكم خَبِيرٌ أي ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم إلى معادكم قيل: التقي هو العالم بالله المواظب على الوقوف ببابه المتقرب إلى جنابه. وقيل: حد التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر والفضائل ولا يغتر ولا يأمن فإن اتفق أن يرتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه توبة وندامة ومن ارتكب منهيا ولم يتب في الحال واتكل على المهلة وغره طول الأمل فليس بمتق لأن المتقي لم يترك ما أمر به ويترك ما نهي عنه وهو مع ذلك خاش لله خائف منه لا يشتغل بغير الله تعالى فإن التفت لحظة إلى نفسه وأهله وولده جعل ذلك ذنبا واستغفر منه وجدد له توبة جعلنا الله وإياكم من المتقين.
[سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويقولون: أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا فأنزل الله فيهم هذه الآية.(4/184)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
وقيل: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا للحديبية تخلفوا عنها فأنزل الله عز وجل قالت الأعراب آمنا أي صدقنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي استسلمنا وانقدنا مخافة القتل والسبي وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أخبر أن حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص. (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال:
«أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رهطا وأنا جالس فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم هو أعجبهم إليّ فقلت ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو مسلما ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ثم قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه» . زاد في رواية قال الزهري: «فترى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح» لفظ الحميدي اعلم أن الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان لقوله لإبراهيم عليه السلام: «أسلم قال أسلمت لرب العالمين» ومنه ما هو انقياد باللسان والقلب وذلك قوله: ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.»
وقيل: الإيمان هو التصديق بالقلب مع الثقة وطمأنينة النفس عليه والإسلام هو الدخول في السلم والخروج من أن يكون حربا للمسلمين مع إظهار الشهادتين.
فإن قلت: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا القول.
قلت بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعم والإيمان أخص لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص متحدان في الوجود فذلك المؤمن والمسلم.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي ظاهرا وباطنا سرا وعلانية وقال ابن عباس تخلصوا له الإيمان لا يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي من ثواب أعمالكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم بين حقيقة الإيمان فقال تعالى:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 15 الى 18]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في دينهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم ولما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون وعرف الله منهم غير ذلك فأنزل الله عز وجل: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي تخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي لا تخفى عليه خافية وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يحتاج إلى إخباركم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا هو قولهم أسلمنا ولم نحاربك يمنون بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبين بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تعتدوا عليّ بإسلامكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم وهو قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنكم مؤمنون إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فكيف يخفى عليه حالكم بل يعلم سركم وعلانيتكم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي بجوارحكم الظاهرة والباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/185)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
سورة ق
(مكية وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا) .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
قوله عز وجل: ق قال ابن عباس: هو قسم وقيل: هو اسم للسورة وقيل اسم من أسماء الله وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل هو مفتاح اسمه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض والقدوس والقيوم. وقيل: معناه قضى الأمر أو قضى ما هو كائن. وقيل: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كتفاها وخضرة السماء منه والعالم داخله ولا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى ويقال هو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي الشريف الكريم على الله الكثير الخير والبركة واختلفوا في وجواب القسم قيل جوابه محذوف تقديره لتبعثن وقيل جوابه بل عجبوا وقيل ما يلفظ من قول وقيل قد علمنا ومعنى بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن يخوفهم رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته وصدقه فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي معجب غريب أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي حين نموت ونبلى نبعث وترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي يبعد أن نبعث بعد الموت قال الله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمنا شيء وَعِنْدَنا أي مع علمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ بمعنى محفوظ أي من التبديل والتغيير وقيل حفيظ بمعنى حافظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ وقد أثبت فيه ما يكون.
[سورة ق (50) : الآيات 5 الى 11]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ قيل: معناه كذبوا به لما جاءهم. وقيل: كذبوا المنذر لما جاءهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط ملتبس قيل معنى اختلاط أمرهم قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم مرة شاعر ومرة ساحر(4/186)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
ومرة معلم مجنون ويقولون في القرآن مرة سحر ومرة رجز ومرة مفتري فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم وقيل في هذه الآية من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه وقيل ما ترك قوم الحق إلا مرج عليهم أمرهم ثم دلهم على عظيم قدرته فقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها أي: بغير عمد وَزَيَّنَّاها أي بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي: شقوق وصدوع وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي: من كل صنف حسن كريم يبتهج به أي:
يسر به تَبْصِرَةً أي جعلنا ذلك تبصرة وَذِكْرى أي تذكرة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى الله تعالى والمعنى ليتبصر ويتذكر به من أناب وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير الخير والبركة فيه حياة كل شيء وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ أي: بذلك الماء جَنَّاتٍ أي بساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي: طوالا وقيل مستويات لَها طَلْعٌ أي: ثمر يطلع ويظهر ويسمى طلعا قبل أن يتشقق نَضِيدٌ أي: متراكب بعضه على بعض في أكمامه فإذا تشقق وخرج من أكمامه فليس بنضيد رِزْقاً أي: جعلنا ذلك رزقا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً فأنبتنا فيها الكلأ والعشب كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي: من القبور أحياء بعد الموت. قوله تعالى:
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 18]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: كان لوط مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم ولذلك قال إخوان لوط وَقَوْمُ تُبَّعٍ هو أبو كرب أسعد تبع الحميري وقد تقدم قصص جمعهم قيل ذم الله عز وجل قوم تبع ولم يذمه وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه فلهذا خص بالذكر دونهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أي: كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم فحق وعيدي أي وجب لهم عذابي وقيل فحق وعيدي للرسل بالنصر أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا حين خلقناهم أولا فنعيا بالإعادة ثانيا وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي شك مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يحدث به قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بيان لكمال علمه أي نحن أعلم به منه والوليد العرق الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلباوين ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم الله شيء. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي يتلقن الملكان الموكلان به وبعمله ومنطقه فيكتبانه ويحفظانه عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ يعني أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات قَعِيدٌ أي قاعد وكل واحد منهما قعيد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. وقيل: أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يتكلم من كلام يخرج من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي حافظ عَتِيدٌ أي حاضر أينما كان سوى وقت الغائط وعند جماعة فإنهما يتأخران عنه فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه وهو على تلك(4/187)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
الحالة حتى يكتبا ما يتكلم به أنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلم به حتى أتيته في مرضه وقيل لا يكتبان إلا ما له أجر وثواب أو عليه وزر وعقاب. وقيل: إن مجلسهما تحت الشعر على الحنك وكان الحسن البصري يعجبه أن ينظف عنفقته روى البغوي بإسناد الثعلبي. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر.
قوله تعالى:
[سورة ق (50) : الآيات 19 الى 24]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بِالْحَقِّ أي بحقيقة الموت وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك الذي كنت عنه تميل. وقيل: تهرب وقال ابن عباس: تكره وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ذلك اليوم الذي وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه وَجاءَتْ أي في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي يسوقها إلى المحشر وَشَهِيدٌ أي يشهد عليها بما عملت. قال ابن عباس: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل فيقول الله تعالى لصاحب تلك النفس لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي من هذا اليوم في الدنيا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي قوي ثابت نافذ تبصر ما كنت تتكلم به في الدنيا. وقيل: ترى ما كان محجوبا عنك وقيل نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك وَقالَ قَرِينُهُ يعني الملك الموكل به هذا ما لَدَيَّ أي عندي عَتِيدٌ أي معد محضر. وقيل: يقول الملك هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي يقول الله تعالى لقرينه وقيل هذا أمر للسائق والشهيد كُلَّ كَفَّارٍ أي شديد الكفر عَنِيدٍ أي عاص معرض عن الحق معاند لله فيما أمره به.
[سورة ق (50) : الآيات 25 الى 30]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله مُعْتَدٍ أي ظالم لا يقر بتوحيد الله مُرِيبٍ أي: شاكّ في التوحيد الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ يعني النار قالَ قَرِينُهُ يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ قيل: هذا جواب لكلام مقدر وهو أن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته أي ما أضللته وما أغويته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي عن الحق فيتبرأ منه شيطانه وقال ابن عباس: قرينه يعني الملك يقول الكافر ربّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ولكن كان في ضلال بعيد أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق قالَ الله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي لا تعتذروا عندي بغير عذر وقيل هو(4/188)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
خصامهم مع قرنائهم وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي بالقرآن وأنذرتكم على ألسن الرسل وحذرتكم عذابي في الآخرة لمن كفر ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي لا تبديل لقولي وهو قوله عز وجل: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وقضيت عليكم ما أنا قاض فلا يغير قولي ولا يبدل وقيل معناه ولا يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه، لأني علام الغيوب وأعلم كيف ضلوا وهذا القول هو الأولى يدل عليه أنه قال ما يبدل القول لدي ولم يقل ما يبدل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: فأعاقبهم بغير جرم. وقيل: معناه فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن.
قوله عز وجل: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ بيان لما سبق لها من وعد الله تعالى إياها أنه يملؤها من الجنة والناس وهذا السؤال من الله تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده وَتَقُولُ يعني جهنم هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يعني تقول قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكاري. وقيل: هو بمعنى الاستزادة. وهو رواية عن ابن عباس. فعلى هذا يكون السؤال وهو قوله: هل امتلأت؟ قبل دخول جميع أهلها فيها.
وروي عن ابن عباس: «إن الله تعالى سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت؟ فتقول قط قط قد امتلأت وليس في مزيد» (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش- وفي رواية رب العزة- فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة. ولأبي هريرة نحوه وزاد «ولا يظلم الله من خلقه أحدا» .
(فصل) هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان:
أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والمذهب الثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث. فقيل: المراد بالقدم المقدم وهو سائغ في اللغة. والمعنى: حتى يضع الله فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل: إنه يحتمل أن في المخلوقات من تسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض: أظهر التأويل أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها قال المتكلمون: ولا بد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى والله أعلم.
قوله: قط قط أي: حسبي حسبي. قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات: إسكان الطاء، وكسرها منونة، وغير منونة. وقوله: ولا يظلم الله من خلقه أحدا، يعني: أنه يستحيل الظلم في حق الله تعالى فمن عذبه بذنب أو بغير ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى وقوله تعالى.
[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 34]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت وأدنيت لِلْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الشرك غَيْرَ بَعِيدٍ يعني أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الأنبياء لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة. قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقيل: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقيل: هو التواب، وقال ابن(4/189)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
عباس: هو المسيح. وقيل: هو المصلي حَفِيظٍ قال ابن عباس الحافظ لأمر الله وعنه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل: حفيظ لما استودعه الله من حقه. وقيل: هو المحافظ على نفسه المتعهد لها المراقب لها. وقيل: هو المحافظ على الطاعات والأوامر مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف الرّحمن فأطاعه وإن لم يره وقيل: خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد إذا ألقى الستر أغلق الباب وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي مخلص مقبل على طاعة الله ادْخُلُوها أي يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوا الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من العذاب والهموم. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم وقيل: بسلامة من زوال النعم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي في الجنة لأنه لا موت فيها.
[سورة ق (50) : الآيات 35 الى 39]
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا ثم يزيد الله عبيده ما لم يسألوا مما لم يخطر بقلب بشر وهو قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وقيل: المزيد، هو النظر إلى وجهه الكريم قيل: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة في دار كرامته فلهذا هو المزيد.
قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً يعني سطوة والبطش الأخذ بصولة وعنف فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي ساروا وتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي فلم يجدوا لهم محيصا أي مهربا من أمر الله وقيل: لا يجدون لهم مفرا من الموت بل يموتون فيصيرون إلى عذاب الله وفيه تخويف لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر من إهلاك القرى تذكرة وموعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ. قال ابن عباس: أي عقل. وقيل: له قلب حاضر مع الله واع عن الله أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع القرآن واستمع ما يقال له لا يحدث نفسه بغيره وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه.
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي إعياء وتعب قال المفسرون نزلت في اليهود حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم وتكذيبا لهم في قولهم استراح يوم السبت بقوله تعالى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: والظاهر أن المراد الرد على المشركين والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما فقوله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانيا كما قال الله تعالى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ الآية وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك أن الأحد والاثنين أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان خلق السموات والأرض ابتدئ يوم الأحد لكان الزمان قبل الأجساد والزمان لا ينفك عن الأجساد فيكون قبل خلق الأجسام أجسام لأن اليوم عبارة عن زمان سير الشمس من الطلوع إلى الغروب وقبل السموات والأرض لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة الزمان أي مدة كانت قوله عز وجل: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي: اصبر يا محمد على ما يقولون أي من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل(4/190)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
الأمر بقتالهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صلّ حامدا لله قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي صلاة الصبح وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني صلاة المغرب. قال ابن عباس: صلاة الظهر والعصر.
[سورة ق (50) : الآيات 40 الى 41]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة المغرب والعشاء. وقيل: يعني صلاة الليل أي وقت صلّى وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر. وهي رواية عن ابن عباس.
ويروى مرفوعا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر» (م) عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر، عن ابن مسعود، قال: «ما أحصى ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر يقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.
وقيل: في قوله وأدبار السجود: التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات (خ) عن ابن عباس قال:
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسبح في أدبار الصلوات كلها يعني قوله وأدبار السجود (م) . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر» (خ) عنه «أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا» .
قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ يعني استمع يا محمد حديث يوم ينادي المنادي. وقيل: معناه انتظر صيحة القيامة والنشور. قال المفسرون: المنادي هو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول: يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وهو قوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل: إن صخرة بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقيل: هي في وسط الأرض.
[سورة ق (50) : الآيات 42 الى 45]
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي الصيحة الأخيرة ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي من القبور إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي أي في الدنيا وَنُمِيتُ يعني عند انقضاء الأجل وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي في الآخرة وقيل: تقديره نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي يخرجون سراعا إلى المحشر وهو قوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني كفار مكة في تكذيبك وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي ما أوعدت به من عصاني من العذاب قال ابن عباس: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت:
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» أي عظ بالقرآن من يخاف وعيدي والله أعلم بمراده.(4/191)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
سورة الذاريات
(مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
قوله عز وجل: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرياح التي تذر التراب فَالْحامِلاتِ وِقْراً يعني السحاب يحمل ثقلا من الماء فَالْجارِياتِ يُسْراً يعني السفن تجري في الماء جريا سهلا فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وقيل: هم أربعة: جبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه وصاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح. وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح لأنها تنشئ السحاب وتسيره ثم تحمله وتقله ثم تجري به جريا سهلا ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته. والمعنى: أقسم بالذاريات بهذه الأشياء، وقيل: فيه مضمر تقديره ورب الذاريات ثم ذكر جواب القسم فقال تعالى:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 5 الى 14]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي من الثواب والعقاب يوم القيامة لَصادِقٌ أي الحق وَإِنَّ الدِّينَ أي الحساب والجزاء لَواقِعٌ أي لكائن ثم ابتدأ قسما آخر فقال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي، وقيل: ذات الزينة حبكت بالنجوم وقيل: ذات البنيان المتقن وقيل: ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل ولكنها لا ترى لبعدها من الناس وجواب القسم قوله إِنَّكُمْ يعني يا أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يعني في القرآن وفي محمد صلّى الله عليه وسلّم يقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين وفي محمد صلّى الله عليه وسلّم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وقيل: لفي قول مختلف أي مصدق ومكذب يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه وهو من حرمه الله الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن وقيل: معناه أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فيقولون إنه ساحر وشاعر وكان ومجنون فيصرفونه عن الإيمان به قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي: الكذابون وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصرفوا الناس عن الإسلام. وقيل: هم الكهنة الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في غفلة وعمى وجهالة ساهُونَ أي(4/192)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
لاهون غافلون عن أمر الآخرة والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء يعني يوم القيامة تكذيبا واستهزاء قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ أي يكون هذا الجزاء في يوم هم عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يدخلون ويعذبون بها وتقول لهم خزنة النار: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي في الدنيا تكذيبا به.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 18]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني في خلال الجنات عيون جارية آخِذِينَ ما آتاهُمْ أي ما أعطاهم رَبُّهُمْ أي من الخير والكرامة إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي قبل دخولهم الجنة كانوا محسنين في الدنيا ثم وصف إحسانهم فقال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. وقال ابن عباس: كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أولها أو من أوسطها عن أنس بن مالك في قوله: «كانوا قليلا من الليل ما يهجعون» قال: كانوا بين المغرب والعشاء أخرجه أبو داود.
وقيل: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة وقيل: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها، ووقف بعضهم على قوله: كانوا قليلا، أي من الناس ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون الليل كله في الصلاة والعبادة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي ربما مدوا عبادتهم إلى وقت السحر ثم أخذوا في الاستغفار وقيل: معناه يستغفرون من تقصيرهم في العبادة وقيل: يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل وقيل: معناه يصلون بالأسحار لطلب المغفرة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» ولمسلم قال: «فيقول أنا الملك أنا الملك» وذكر الحديث وفيه «حتى يضيء الفجر» وزاد في رواية «من يقرض غير عديم ولا ظلوم» .
(فصل) هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان:
أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ويترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب تبارك وتعالى عن صفات الأجسام.
المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أن الصعود والنزول من صفات الأجسام والله تعالى يتقدس عن ذلك. فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من عباده والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأن ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى وفي ذلك الوقت تكون النية خالصة والرغبة إلى الله تعالى متوفرة فهو مظنة لقبول الإجابة والله تعالى أعلم (ق) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» . زاد في رواية: «وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي: «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي(4/193)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
العظيم» (خ) عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي، أو قال دعا أستجيب له فإن توضأ وصلّى قبلت صلاته» قوله تعار من الليل يقال: تعارّ الرجل من نومه إذا انتبه وله صوت وقوله عز وجل:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 19 الى 24]
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب قيل إنه ما يصلون به رحما أو يقرون به ضيفا أو يحملون به كلّا أو يعينون به محروما وليس بالزكاة قاله ابن عباس. وقيل: إنه الزكاة المفروضة لِلسَّائِلِ أي الذي يسأل الناس ويطلب منهم وَالْمَحْرُومِ قيل هو الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحروم الذي ليس له في فيء الإسلام سهم. وقيل: معناه الذي حرم الخير والعطاء، وقيل: المحروم، المتعفف الذي لا يسأل. وقيل: هو صاحب الجائحة الذي أصيب زرعه وثمره أو نسل ماشيته وقيل: هو المحارف المحروم في الرزق والتجارة وقيل: هو المملوك وقيل: هو المكاتب، وأظهر الأقوال، أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل إنما يفطن له متيقظ وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي عبر من البحار والجبال والأشجار والثمار وأنواع النبات لِلْمُوقِنِينَ أي بالله الذي يعرفونه ويستدلون عليه بصنائعه وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي آيات إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن تنفخ الروح.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع وقيل: يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين وقيل: يعني تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال ابن عباس هو المطر وهو سبب الأرزاق وَما تُوعَدُونَ يعني من الثواب والعقاب. وقيل: من الخير والشر. وقيل: الجنة والنار ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما ذكر من الرزق وغيره مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي بلا إله إلا الله.
وقيل: شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ومعناه إنه لحق كما أنك تتكلم. وقيل: إن معناه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره.
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ يعني هل أتاك يا محمد حديث الذين جاءوا إبراهيم بالبشرى فاستمع نقصصه عليك وقد تقدم ذكر عددهم وقصتهم في سورة هود الْمُكْرَمِينَ قيل: سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراما عند الله. وقيل: لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون.
وقيل: لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكرمهم بتعجيل قراهم وخدمته إياهم بنفسه وطلاقة وجهه لهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سماهم مكرمين لأنهم كانوا غير مدعوين (ق) عن أبي شريح العدوي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.(4/194)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
[سورة الذاريات (51) : الآيات 25 الى 34]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي غرباء لا نعرفكم.
قال ابن عباس: قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا بغير استئذان وقيل: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض فَراغَ أي عدل ومال إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي جيد وكان مشويا. قيل: كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف ولا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا قالَ أَلا تَأْكُلُونَ يعني أنه حثهم على الأكل. وقيل:
عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم فَأَوْجَسَ أي فأضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنهم لم يتحرموا بطعامه قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يبلغ ويعلم وقيل: عليم أي نبي فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه فِي صَرَّةٍ أي في صيحة والمعنى أنها أخذت تولول وذلك من عاد النساء إن سمعن شيئا فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس: لطمت وجهها. وقيل: جمعت أصابعها وضربت جبينها تعجبا وذلك من عادة النساء أيضا إذا أنكرن شيئا وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ معناه: أتلد عجوز عقيم وذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما علم حالهم وأنهم من الملائكة قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم وما طلبكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم لوط لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قيل هو الآجر مُسَوَّمَةً أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به.
وقيل: معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 35 الى 43]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني لوطا وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم.
لأن الإسلام أعم من الإيمان. وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلما، لا يدل على اتحاد مفهوميهما وَتَرَكْنا فِيها أي في مدينة قوم لوط آيَةً أي عبرة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ والمعنى تركنا فيها علامة للخائفين تدلهم على أن الله مهلكهم فيخافون مثل عذابهم قوله عز وجل: وَفِي مُوسى أي وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة ظاهرة فَتَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بِرُكْنِهِ أي بجمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فأغرقناهم في البحر هُوَ مُلِيمٌ
أي آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسل وَفِي(4/195)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
عادٍ أي وفي إهلاك عاد أيضا آية وعبرة إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ يعني التي لا خير فيها ولا بركة فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي كالشيء الهالك البالي وهو ما يبس وديس من نبات الأرض كالشجر والتبن ونحوه وأصله من رم العظم إذا بلي وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ يعني إلى وقت انقضاء آجالهم وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 44 الى 51]
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تكبروا عن طاعة ربهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي بعد مضي ثلاثة أيام من بعد عقر الناقة وهي الموت في قول ابن عباس. وقيل: أخذهم العذاب والصاعقة كل عذاب مهلك وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يرون ذلك العذاب عيانا فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض من تلك الصرعة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين منا وقيل: ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من أمر الله وَقَوْمَ نُوحٍ قرئ بكسر الميم ومعناه وفي يوم نوح وقرئ بنصبها ومعناه: وأغرقنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء وهم عاد وثمود وقوم فرعون إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة.
قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة وقدرة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قيل: هو من السعة: أي أوسعنا السماء بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من السماء والفضاء وبالنسبة إلى سعة السماء كالحلقة الملقاة في الفلاة وقال ابن عباس: معناه قادرون على بنائها كذلك وعنه لموسعون أي الرزق على خلقنا وقيل: معناه وإنا ذوو السعة والغنى وَالْأَرْضَ فَرَشْناها أي بسطناها ومهدناها لكم فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والسهل والجبل والصيف والشتاء والجن والإنس والذكر والأنثى والنور والظلمة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والحامض لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: قل يا محمد ففروا إلى الله أي فاهربوا من عذابه إلى ثوابه بالإيمان والطاعة وقال ابن عباس ففروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله ففروا مما سوى الله إلى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ أي مخوف مُبِينٌ أي بين الرسالة بالحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة والباهرة القاطع وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي وحدوده ولا تشركوا به شيئا إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ قيل: إنما كرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 57]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
كَذلِكَ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار(4/196)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
مكة والأمم الخالية مِنْ رَسُولٍ يعني يدعوهم إلى الإيمان والطاعة إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال الله تعالى أَتَواصَوْا بِهِ أي أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه وفيه توبيخ لهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي لم يتواصلوا بهذا القول لأنهم لم يتلاقوا على زمان واحد بل جمعتهم على ذلك علة واحدة وهي الطغيان وهو الحامل لهم على ذلك القول فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وبذلت المجهود وما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى عنهم فأنزل الله عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت نفوسهم بذلك والمعنى عظ بالقرآن كفار مكة فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم وقيل: معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم.
قوله عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ أي من المؤمنين إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون» وقيل: معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي وهو ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة. وقال علي بن أبي طالب إلا ليعبدون أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي. وقيل: معناه إلا ليعرفوني وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده. وقيل: معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا لأن معنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقيل: معناه إلا ليوحدوني فأما المؤمن فيوحده اختيارا في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده اضطرارا في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم لأني أنا الرزاق المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه لما صح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» أخرجه مسلم ثم بين أن الرزاق هو لا غيره فقال تعالى:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 58 الى 60]
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي لجميع خلقه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يعني هو القوي الشديد المقتدر البليغ القوة والقدرة الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي من أهل مكة ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي بالعذاب لأنهم أخروا إلى يوم القيامة يدل عليه قوله عز وجل فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة وقيل: يوم بدر والله تعالى أعلم بمراده.(4/197)
وَالطُّورِ (1)
سورة الطور
(مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
قوله عز وجل: وَالطُّورِ أراد به الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالأرض المقدسة وقيل: بمدين وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب فِي رَقٍّ يعني الأديم الذي يكتب فيه المصحف مَنْشُورٍ أي مبسوط.
واختلفوا في الكتاب، فقيل: هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير الأقلام. وقيل:
هو اللوح المحفوظ. وقيل: هو دواوين الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشورا فآخذ بيمينه وآخذ بشماله.
وقيل: هو القرآن.
[سورة الطور (52) : الآيات 4 الى 10]
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يعني بكثرة الغاشية والأهل وهو بيت في السماء السابعة قدام العرش بحيال الكعبة يقال له الصراع حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وصح في حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى البيت المعمور في السماء السابعة قال: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه وفي رواية أخرى قال فانتهيت إلى بناء فقلت للملك ما هذا؟ قال بناء بناه الله للملائكة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون يسبحون الله ويقدسونه.
وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس. وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو وقال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يركبن رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وقيل: المسجور المملوء وقيل: هو اليابس الذي ذهب ماؤه ونضب. وقيل: هو المختلط العذب بالملح.
وروي عن علي أنه قال البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون من قبورهم أقسم الله(4/198)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ يعني إنه لحق وكائن ونازل بالمشركين في الآخرة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي مانع.
قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أسارى بدر فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت ولم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل: تتحرك وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض وتضطرب وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإنذار والأعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة.
[سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 21]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15)
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
فَوَيْلٌ أي شدة عذاب يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي يوم القيامة الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي يخوضون في الباطل يَلْعَبُونَ أي غافلون لأهون عما يراد بهم يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يعني دفعا بعنف وجفوة، وذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون بها دفعا إلى النار على وجوههم وزجّا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها، قال لهم خزنتها: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا أَفَسِحْرٌ هذا ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى السحر وأنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك وقيل لهم: أفسحر هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها أي قاسوا شدتها فَاصْبِرُوا أي على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا أي عليه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر والجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب في الدنيا.
قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ أي معجبين بذلك ناعمين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي من الخير والكرامة وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الإيمان والطاعة مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي موضوعة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ يعني ألحقنا أولادهم الصغار والكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه، أن معنى الآية والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر الله تعالى أنه(4/199)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)
يجمع لعبده المؤمن من ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه فيدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا وذلك قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: وما نقصنا الآباء من أعمالهم شيئا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم إلى آخر الآية.
عن علي قال: «سألت خديجة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فولدي منك قال: في الجنة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم» أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي.
كُلُّ امْرِئٍ أي كافر بِما كَسَبَ أي عمل من الشرك رَهِينٌ أي مرتهن بعمله في النار والمؤمن لا يكون مرتهنا بعمله لقوله «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين» ثم ذكر ما وعدهم به من الخير والنعمة فقال تعالى:
[سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 23]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ يعني زيادة عما كان لهم وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي من أنواع اللحوم يَتَنازَعُونَ أي يتعاطون ويتناولون فِيها أي في الجنة كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها أي لا باطل فيها ولا رفث ولا تخاصم ولا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يكون فيها ما يؤثمهم ولا يجري بينهم ما فيه لغو وإثم كما يجري بين شربة الخمر في الدنيا. وقيل: لا يأثمون في شربها.
[سورة الطور (52) : الآيات 24 الى 30]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ أي في الحسن والبياض والصفاء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي وقال عبد الله بن عمرو ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل واحد منهم على عمل غير عمل صاحبه وعن قتادة قال: «ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعني يسأل بعضهم بعضا في الجنة قال ابن عباس:
يتذاكرون ما كانوا فيه من الخوف والتعب في الدنيا قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي في الدنيا مُشْفِقِينَ أي خائفين من العذاب فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالمغفرة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ يعني عذاب النار وقيل: هو اسم من أسماء جهنم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نخلص الدعاء والعبادة له إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ قال ابن عباس: اللطيف وقيل: يعني الصادق فيما وعد. وقيل: البر العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم بره جميع خلقه الرَّحِيمُ بعبيده.
قوله عز وجل: فَذَكِّرْ يعني فعظ يا محمد بالقرآن كفار مكة فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي برحمته وعصمته وقيل: بإنعامه عليك بالنبوة بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ الكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي والمعنى أنك لست كما يقول كفار مكة إنه كاهن أو مجنون إنما تنطلق بالوحي نزلت في الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكهانة والسحر والشعر والجنون أَمْ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المقتسمين(4/200)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ بِهِ أي ننتظر به رَيْبَ الْمَنُونِ يعني حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أو يتفرق عنه أصحابه وإن أباه مات وهو شاب ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه والمنون اسم للموت وللدهر وأصله القطع سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.
[سورة الطور (52) : الآيات 31 الى 37]
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35)
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
قُلْ تَرَبَّصُوا أي انتظروا بي الموت فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي من المنتظرين حتى يأتي أمر الله فبكم فعذبوا يوم بدر بالقتل والسبي أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم بِهذا وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي يتجاوزون الحد في الطغيان والكفر أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق القرآن من تلقاء نفسه والتقول التكلف ولا يستعمل إلا في الكذب والمعنى ليس الأمر كما زعموا بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي بالقرآن استكبارا ثم ألزمهم الحجة فقال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي مثل القرآن في نظمه وحسنه وبيانه إِنْ كانُوا صادِقِينَ يعني إن محمد تقوله من قبل نفسه أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
قال ابن عباس: من غير رب خالق. والمعنى: أم خلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي لأنفسهم وذلك في البطلان أشد لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به وليوحدوه وليعبدوه وقيل: في معنى الآية: أخلقوا باطلا فلا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون أم هم الخالقون أي لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني ليس الأمر كذلك بَلْ لا يُوقِنُونَ أي بالحق وهو توحيد الله تعالى وقدرته على البعث وأن الله تعالى هو خالقهم وخالق السموات والأرض فليؤمنوا به وليوقنوا أنه ربهم وخالقهم أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ يعني النبوة ومفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا وقيل: خزائن المطر والرزق أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي المسلطون الجبارون.
وقيل: الأرباب القاهرون فلا يكونون تحت أمر ولا نهي ويفعلون ما يشاءون.
[سورة الطور (52) : الآيات 38 الى 45]
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يعني مرقى ومصعد إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي يستمعون عليه الوحي من السماء فيعلمون أن ما هم عليه حق فهم به مستمسكون فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ أي إن ادعوا ذلك بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة بينة أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ هذا إنكار عليهم حيث جعلوا لله ما يكرهون لأنفسهم أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي جعلا على ما جئتهم به من النبوة ودعوتهم إليه من الدين فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ يعني أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم فمنعهم عن الإسلام أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب وهو ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم به الرسول من أمر القيامة والبعث باطل. وقيل: هو جواب لقولهم نتربص به ريب المنون، والمعنى: اعلموا أن محمدا يموت قبلهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يحكمون قال ابن عباس: معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما(4/201)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
فيه ويخبرون الناس به أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي مكرا بك ليهلكوك فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي المجزيون بكيدهم والمعنى أن ضرر كيدهم يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم وهو أنهم مكروا به في دار الندوة ليقتلوه فقتلوا ببدر أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعني يرزقهم وينصرهم سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ المعنى: أنه نزه نفسه عما يقولون.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً هذا جواب لقولهم فأسقط علينا كسفا من السماء يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم يَقُولُوا لمعاندتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض يسقينا فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا أي يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون ويهلكون.
[سورة الطور (52) : الآيات 46 الى 49]
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي كفروا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل: هو الجوع والقحط سبع سنين وقيل: هو عذاب القبر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أن العذاب نازل بهم.
قوله عز وجل: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم به فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا.
أي بمرأى منا.
قال ابن عباس: نرى ما يعمل بك. وقيل: معناه إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إليك بمكروه وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: وقل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيرا ازددت بذلك إحسانا وإن كان غير ذلك كان كفارة لك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم:
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال ابن عباس: معناه حين تقوم من منامك. وقيل: هو ذكر الله بالليل من حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة وعن عاصم بن حميد قال: «سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام الليل فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك كان إذا قام كبر عشرا وحمد الله عشرا وسبح عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» أخرجه أبو داود والنسائي وقيل: إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك يدل عليه ما روي عن عائشة قالت «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك» أخرجه الترمذي وأبو داود وقد تكلم في أحد رواته.
وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي فصلّ له يعني صلاة المغرب والعشاء وَإِدْبارَ النُّجُومِ يعني الركعتين قبل صلاة الفجر ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. وقيل: إدبار النجوم هي فريضة صلاة الصبح (ق) عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالطور» والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.(4/202)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
سورة النجم
(مكية وهي اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال ابن عباس يعني الثريا إذا سقطت وغابت والعرب تسمي الثريا نجما ومنه قولهم إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: «ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع» أراد بالنجم الثريا، وقيل: هي نجوم السماء كلها وهويها غروبها فعلى هذا لفظه واحد ومعناه الجمع. وروي عن ابن عباس أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع. وقيل: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل: أراد بالنجم القرآن سمي نجما لأنه نزل نجوما متفرقة في عشرين سنة وهو قول ابن عباس أيضا. وقيل: النجم هو النبت الذي لا ساق له وهويه سقوطه إذا يبس على الأرض. وقيل: النجم هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وهويه نزوله ليلة المعراج من السماء وجواب القسم قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما ضل عن طريق الهدى وَما غَوى أي ما جهل. وقيل: الفرق بين الضلال والغي أن الضلال هو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا والغواية أن لا يكون له طريق إلى مقصده مستقيم وقيل: إن الضلال أكثر استعمالا من الغواية وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي بالهوى والمعنى لا يتكلم بالباطل وذلك أنهم قالوا: إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه إِنْ هُوَ أي ما هو يعني القرآن وقيل: نطقه في الدين إِلَّا وَحْيٌ من الله يُوحى إليه.
[سورة النجم (53) : الآيات 5 الى 11]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى يعني جبريل علم محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما أوحى الله إليه عز وجل وكونه شديد القوى أنه اقتلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أسرع من رجعة الطرف ذُو مِرَّةٍ أي ذو قوة وشدة. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن وقيل: ذو خلق طويل حسن.
فَاسْتَوى يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وَهُوَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمعنى استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عند مطلع الشمس وقيل: فاستوى يعني جبريل وهو كناية عن جبريل أيضا أي قام في صورته التي خلقه الله فيها وهو بالأفق الأعلى وذلك أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(4/203)
في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بحراء، فطلع له جبريل عليه الصلاة والسلام من ناحية المشرق، فسد الأفق إلى المغرب فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه، الصلاة والسلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة التي خلق عليها إلا نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.
اختلف العلماء في معنى هذه الآية فروي عن مسروق بن الأجدع قال «قلت لعائشة فأين قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق» أخرجاه في الصحيحين.
وعن زر بن حبيش في قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وفي قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى وفي قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: فيها كلها أن ابن مسعود قال «رأى جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح» زاد في رواية أخرى «رأى جبريل في صورته» أخرجه مسلم والبخاري في قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فعلى هذا يكون معنى الآية ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان منه قاب قوسين أو أدنى أي: بل أدنى وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو. وقال آخرون: ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلّى الله عليه وسلّم فتدلى أي فقرب منه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وقد ورد في الصحيحين في حديث المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.
وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس والتدلي هو النزول إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الحافظ عبد الحق في كتابه. الجمع بين الصحيحين، بعد ذكر حديث أنس من رواية شريك، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.
وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به وفي رواية شريك قدم وآخر وزاد ونقص فيحتمل أن هذا اللفظ من زيادة شريك في الحديث وقال الضحاك دنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربه عز وجل فتدلى أي فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى والقاب القدر والقوس الذي يرمي به وهو رواية عن ابن عباس. وقيل: معناه حيث الوتر من القوس فأخبر أنه كان بين جبريل ومحمد صلّى الله عليه وسلّم مقدار قوسين وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد بينهما خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريد أن بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قدر ذراعين والقوس الذراع التي يقاس بها من قاس يقيس أو أدنى بل أقرب فَأَوْحى
أي فأوحى الله إِلى عَبْدِهِ
محمد صلّى الله عليه وسلّم ما أَوْحى
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أوحى جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أوحى إليه ربه عز وجل وقال سعيد بن جبير: أوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قوله عز وجل: ما كَذَبَ الْفُؤادُ قرئ بالتشديد أي ما كذب محمد صلّى الله عليه وسلّم ما رَأى أي بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه وقرئ بالتخفيف أي ما كذب فؤاد محمد الذي رآه بل صدقه والمعنى: ما كذب الفؤاد فيما رأى. واختلفوا في الذي رآه، فقيل: رأى جبريل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقيل: هو الله عز وجل ثم اختلفوا في معنى الرؤية فقيل جعل بصره في فؤاده وهو قول ابن عباس (م) . عن ابن عباس ما(4/204)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال: رآه بفؤاده مرتين وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه حقيقة وهو قول أنس بن مالك والحسن وعكرمة قالوا: رأى محمد ربه عز وجل. وروى عكرمة عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدا بالرؤية. وقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين أخرجه الترمذي بأطول من هذا. وكانت عائشة تقول: لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه. وتحمل الآية على رؤية جبريل.
عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وما كان لبشر أن يكلمه إلا الله وحيا أو من وراء حجاب. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ومن حدثك أن محمدا كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجاه في الصحيحين (م) عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربك؟ قال: نور أني أراه» .
قوله عز وجل:
[سورة النجم (53) : الآيات 12 الى 16]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16)
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى يعني أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به. والمعنى: أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى (م) عن أبي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال: رأى جبريل. وعلى قول ابن عباس: يعني نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه عز وجل في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رآه بعينه عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (م) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها وقال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب» .
وفي رواية الترمذي إليها ينتهي علم الخلائق لا علم لهم فوق ذلك وفي حديث المعراج المخرج في الصحيحين «ثم صعد بي إلى السماء السابعة ثم قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى» فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى. وفي أفراد مسلم من حديث أنس قال: «ثم عرج بنا إلى السماء السابعة وذكره إلى أن قال فيه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال فلما غشيها من نور الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها» وقال هلال بن يساف سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر سدرة المنتهى فقال: يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو قال يستظل بظلها مائة ألف راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» أخرجه الترمذي. وقال: مقاتل هي شجرة تحمل الحلي والحلل(4/205)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
والثمار من جميع الألوان ولو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس: جنة المأوى يأوي إليها جبريل والملائكة وقيل:
يأوي إليها أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن مسعود: فراش من ذهب وقيل: يغشاها ملائكة أمثال الغربان. وقيل: أمثال الطيور حتى يقعن عليها. وقيل: غشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة من حب الله تعالى أمثال الغربان حتى يقعن عليها وقيل: هو نور رب العزة ويروى في الحديث قال: رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله عز وجل:
[سورة النجم (53) : الآيات 17 الى 19]
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19)
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى يعني ما مال بصر النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يمينا وشمالا ولا جاوز ما رأى وقيل: ما أمر به وهذا وصف أدبه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام الشريف إذ لم يلتفت إلى شيء سوى ما أمر به.
وفي معنى الآية إن قلنا إن الذي يغشى السدرة فراش من ذهب أي لم يلتفت إليه ولم يشتغل به وفيه بيان أدبه صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يقطع بصره عن المقصود وإن قلنا الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يلتفت عنه يمنة ولا يسرة ولا يشتغل بغير مطالعة ذلك النور.
الوجه الثاني: ما زاغ البصر بصعقة ولا غشية كما أخبر عن موسى بقوله «وخر موسى صعقا» وذلك أنه لما تجلى رب العزة وظهر نوره على الجبل قطع نظره وغشي عليه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم ثبت في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول وتزل فيه الأقدام وتميل فيه الأبصار فوصف الله عز وجل قوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام العظيم بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى.
وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآيات العظام وقيل: أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره ورجوعه وقيل: معناه لقد رأى من آيات ربه الآيات الكبرى (م) عن عبد الله بن مسعود قال:
لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح (خ) عنه قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء.
(فصل من كلام الشيخ محيي الدين النووي في معنى قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل ليلة الإسراء) قال القاضي عياض اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلّى الله عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة كما وقع في صحيح مسلم. وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين.
وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن وكان يحلف على ذلك وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة وسؤال موسى إياها دليل على جوازها إذ لا يجهل نبي ما يجوز أن يمتنع على ربه. واختلفوا في أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا، فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه. وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس وكذلك اختلفوا في قوله: ثم دنا فتدلى فالأكثر على أن هذا(4/206)
الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلّم أو مختص بأحدهما من الآخر أو من سدرة المنتهى.
وذكر ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه أو من الله فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولا ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من الله لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلّى الله عليه وسلّم وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه. والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك وعظيم بره وفضله العظيم لديه ويكون قوله تعالى: قاب قوسين أو أدنى، هنا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن الله تعالى إجابة الرغبة وإبانة المنزلة هذا آخر كلام القاضي عياض.
قال الشيخ محيي الدين: وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية. قال: والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة ولكن لا تتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس: «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين» وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه؟ قال:
نعم. وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: رأى محمد ربه عز وجل وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل.
والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل فأخبره أنه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ولقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسمع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النفي هذا كلام صاحب التحرير في إثبات الرؤية.
قال الشيخ محيي الدين فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو كان معها حديث لذكرته وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها، فنقول: أما احتجاج عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره. وأما احتجاجها بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الآية، فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، الوجه الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الوجه الثالث: ما قاله بعض العلماء إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة وهذا القول وإن كان محتملا لكن الجمهور.
على أن المراد بالوحي هنا إلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحيا وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ(4/207)
فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه من حديث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم وقول عائشة في أول الحديث «لقد قف شعري» فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال تقول العرب عند إنكار الشيء: قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي ذر «نور أني أراه» فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون المفتوحة ومعناه: حجابه نور فكيف أراه قال الماوردي الضمير في أراه عائد على الله تعالى والمعنى أن النور يمنعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حال بين الرائي وبينه وفي رواية رأيت نورا معناه: رأيت النور فحسب ولم أر غيره وفي رواية ذاته نور أني أراه ومعناه هو خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال ومن المستحيل أن تكون ذات الله نورا إذ النور من جملة الأجسام والله يتعالى عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين والله أعلم.
قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى. وقيل: العزى تأنيث الأعز. والمعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء وكان اللات بالطائف وقيل: بنخلة كانت قريش تعبده وقرئ اللات بالتشديد (خ) . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان اللات رجلا يلت السويق للحاج. قيل: فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. وقيل: كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها ثم يتخذ حيسا فيطعم الحاج وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقيل: كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم وكان يسلأ السمن فيضعه على صخرة فتأتيه العرب فتلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولها ثقيف إلى منازلها فمرت الطائف على موضع اللات وأما العزى فقيل هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فقطعها فجعل يضربها بالفأس ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال: إن خالدا رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد قطعتها. فقال: ما رأيت؟ فقال ما رأيت شيئا فقال ما قطعت فعاودها ومعه المعول فقطعها واجتثت أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال: تلك العزى ولن تعبد أبدا.
وقيل: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن سالم الغطفاني. وقيل: إنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فرجع إلى بطن نخلة فقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصفا وقال الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة. وقال: هذه المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار وأسندها إلى شجرة. وقال: هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة الثلاث حتى افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وأمر برفع الحجارة وأمر خالد بن الوليد بالعزى فقطعها وقيل: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وقوله تعالى:(4/208)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
[سورة النجم (53) : الآيات 20 الى 23]
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
وَمَناةَ قيل: هي لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد وقيل: هي بيت بالمشلل كانت تعبده بنو كعب. وقيل: مناة، صنم لهذيل وخزاعة وكانت تعبدها أهل مكة وقيل: اللات والعزى ومناة أصنام من الحجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها الثَّالِثَةَ الْأُخْرى الثالثة نعت لمناة إذ هي الثالثة في الذكر وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى وإنما الأخرى هنا نعت للثلاثة قال الخليل: قالها لوفاق رؤوس الآي كقوله «مآرب أخرى» ولم يقل أخر.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.
وقيل: هي صفة ذم كأنه تعالى قال ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة. فعلى هذا فالأصنام ترتب مراتب، وذلك لأن اللات كان صنما على صورة آدمي والعزّى شجرة فهي نبات ومناة صخرة فهي جماد وهي في أخريات المراتب. ومعنى الآية: هل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، وإذا رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للعبادة لأنها لا تضر ولا تنفع وقيل: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ألكم الذكر وله الأنثى. وقيل: كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك فقال الله عز وجل منكرا عليهم أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قال ابن عباس: أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم وقيل: قسمة عوجاء غير معتدلة إِنْ هِيَ أي ما هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والمعنى: أنكم سميتموها آلهة وليست حقيقة ولا بمعبودة حقيقة وقيل: معناه قلتم لبعضها عزى ولا عزة لها فلا يكون لها مسمى حقيقة.
ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بما تقولون إنها آلهة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي في قولهن إنها آلهة وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يعني هو ما زين لهم الشيطان من عبادة الأصنام وقيل: وضعوا عبادتهم بمقتضى شهواتهم والذي ينبغي أن تكون العبادة بمقتضى الشرع لا بمتابعة هوى النفس وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي البيان بالكتاب المنزل والنبي المرسل أن الأصنام ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار. قوله تعالى:
[سورة النجم (53) : الآيات 24 الى 30]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى معناه أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام أي ليس الأمر كما يظن ويتمنى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يملك أحد فيها شيئا أبدا إلا بإذنه وقيل: معناه أن الإنسان إذا اختار معبودا على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله ذلك إن شاء في الدنيا والآخرة وإن شاء أمهله إلى الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي ممن يعبدهم هؤلاء ويرجون شفاعتهم عند الله لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً يعني أن الملائكة، مع علو منزلتهم، لا تغني شفاعتهم، شيئا فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها ثم أخبر أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه فقال تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ أي في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي من أهل التوحيد قال ابن عباس يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه وقيل: إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن شاء الشفاعة له إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني الكفار الذين أنكروا البعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي بتسمية الأنثى حيث قالوا إنهم بنات الله. فإن قلت كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث.(4/209)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
قلت المراد منه بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمناسبته رؤوس الآي وقيل: إن كل واحد من الملائكة يسمونه تسمية الأنثى وذلك لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني بالله فيشركون به ويجعلون له ولدا وقيل: ما يستيقنون أن الملائكة أناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني في تسمية الملائكة بالإناث وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً يعني لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق وقيل معناه إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم وقيل:
الحق هو الله تعالى والمعنى أن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن.
وقيل: عن الإيمان وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يعني أنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يردوها ويعملوا لها وفيه إشارة إلى إنكارهم الحشر ثم صغر رأيهم فقال تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك نهاية علمهم وقلة عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة وقيل: معناه أنهم لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنهم يشفعون لهم فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن والإيمان إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي هو عالم بالفريقين ويجازيهم بأعمالهم.
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا. والمعنى:
إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي وحدوا ربهم بِالْحُسْنَى يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال ولله ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ قيل: الإثم، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وقيل: هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، وقيل: هو فعل ما لا يحل وقيل: الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر وَالْفَواحِشَ جمع فاحشة، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وقيل: هي ما فحش من الكبائر إِلَّا اللَّمَمَ أي إلا ما قل وصغر من الذنوب وقيل: هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية: إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقال أبو صالح:
سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملك كريم. عن ابن عباس في قوله عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب وقيل: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة وقيل: هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن(4/210)
المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم. وقيل: اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس (ق) عن ابن عباس قال «ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» .
ولمسلم قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وقيل: اللمم على وجهين، أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش.
والوجه الثاني: هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقيل: هو ما لم على القلب أي خطر وقيل: اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل: في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة) قال العلماء: أكبر الكبائر الشرك بالله وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها. فعلى هذا يقال في كل واحدة منها: هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها.
وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب.
وفي رواية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس: كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلف في ضبطها، فروي عن ابن عباس أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا وقيل: هي ما وعد الله عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا. وقال الغزالي: في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرئ عليها اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه القواعد:
إذا أردت معرفة الفرق بين الكبيرة والصغيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر فمن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم ممن أكل درهما(4/211)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)
من مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته فإن تسببه إلى هذه المفسدة أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه. ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يؤخذ منه ثمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه الكبيرة: كل ذنب كبر وعظم عظما بحيث يصح معه أنه يطلق عليه اسم الكبيرة ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة ولها أمارات منها الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها ما وصف فاعلها بالفسق أو يضاف إليه اللعن كلعن الله من غير منار الأرض ونحو ذلك والله أعلم.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس: لمن فعل ذلك ثم تاب وأناب.
وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس قالا: لا كبيرة في الإسلام أي لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار معناه أن الكبيرة أيضا تمحى بالاستغفار والتوبة والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار وقيل في حد الإصرار هو أن يتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بذنبه وتم الكلام على قوله إن ربك واسع المغفرة ثم ابتدأ فقال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي قبل أن يخلقكم وهو قوله: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني خلق أباكم آدم من التراب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ سمي جنينا لاستتاره في بطن أمه فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس: لا تمدحوها. وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال. وقيل في معنى الآية: هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم حالكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك أو أنا أزكى منك أو أتقى منك فإن العلم عند الله وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى وهو قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى يعني بمن بر وأطاع وأخلص العمل وقيل في معنى الآية فلا تزكوا أنفسكم يعني لا تنسبوها إلى زكاء العلم وزيادة الخير والطاعات وقيل لا تنسبوها إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. قيل: نزلت من ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فأنزل الله فيهم هذه الآية. قوله عز وجل:
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 36]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم على دينه فغيره بعض المشركين وقالوا: أتركت دين الأشياخ وضللت. قال: إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن أعطاه كذا من ماله ورجع إلى الشرك أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى للذي عيره بعض الذي ضمن له من المال ومنعه تمامه فأنزل الله أفرأيت الذي تولى يعني أدبر وأعرض عن الإيمان وَأَعْطى يعني لصاحبه الذي عيره قَلِيلًا وَأَكْدى أي بخل بالباقي. وقيل: أعطى قليلا يعني من الخير بلسانه وأكدى يعني قطعه وأمسك ولم يعم بالعطية.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأمور.
وقيل: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله: وأعطى(4/212)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
قليلا وأكدى يعني لم يؤمن به ومعنى الآية أكدى يعني قطع وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي ما غاب عنه يعني أن صاحبه يتحمل عنه عذابه أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يعني يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني أسفار التوراة.
[سورة النجم (53) : الآيات 37 الى 41]
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
وَإِبْراهِيمَ يعني ويخبر بما في صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى يعني كمل وتمم مما أمر به وقيل: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه وقيل وفي فرض عليه وقيل قام بذبح ولده وقيل استكمل الطاعة. وقيل: وفي بما فرض عليه في سهام الإسلام وهو قوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ والتوفية الإتمام. وقيل:
وفي شأن المناسك. وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إبراهيم الذي وفي عمله كل يوم بأربع ركعات أول النهار.
عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله تبارك وتعالى أنه قال «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب ثم بين ما في صحفهما فقال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى. والمعنى: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم. وقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي عمل وهذا في صحف إبراهيم وموسى أيضا قال ابن عباس هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقيل كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلها ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي عن ابن عباس «أن امرأة رفعت صبيا لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجرا» أخرجه مسلم وعنه «أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم» .
وفي رواية أن سعد بن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه وأخرجه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
«إن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم.» أخرجاه في الصحيحين. وفي حديث ابن عباس دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعا. وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه وإنما يكون ذلك تمرينا للعبادة. وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها. وهو إجماع العلماء.
وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين للنصوص الواردة في ذلك ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجع جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابه: يصله ثوابها. وبه قال أحمد بن حنبل وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله عند الشافعي والجمهور. وقال أحمد: يصله ثواب الجميع والله أعلم.
وقيل: أراد بالإنسان الكافر. والمعنى: ليس له من الخير إلا ما عمل هو فيثاب عليه في الدنيا بأن يوسع عليه في رزقه ويعافى في بدنه حتى لا يبقى له في الآخرة خير وروي أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان أعطى(4/213)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
العباس قميصا ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قميصه ليكفن فيه فلم يبق له في الآخرة حسنة يثاب عليها. وقيل: ليس للإنسان إلا ما سعى هو من باب العدل فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما يشاء من فضله وكرمه وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه في ميزانه يوم القيامة وفيه بشارة للمؤمن وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غما ثُمَّ يُجْزاهُ أي السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي الأتم والأكمل. والمعنى: أن الإنسان يجزى جزاء سعيه الجزاء الأوفى. قوله عز وجل:
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 47]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إليه منتهى الخلق ومصيرهم إليه في الآخرة وهو مجازيهم بأعمالهم وفي المخاطب بهذا وجهان أحدهما أنه عام تقديره وأن إلى ربك أيها السامع أو العاقل كائنا من كان المنتهى فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ليقلع المسيء عن إساءته ويزداد المحسن في إحسانه الوجه الثاني أن المخاطب بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا، ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: لا تحزن فإن إلى ربك المنتهى. وقيل. في معنى الآية: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال لا فكرة في الرب.
وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة» . ومعناه: لا فكرة في الرب أي انتهى الأمر إليه لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة علمت أن لا بد لها من موجد وإذا علمت أن موجدها هو الله تعالى فقد انتهى الأمر إليه فهو إشارة إلى وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار قيل أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقيل: أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء عن جابر بن سمرة قال «جلست مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم إذا ضحكوا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية سماك بن حرب: فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم. وسئل ابن عمر: هل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل (ق) .
عن أنس قال: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فغطى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوههم لهم خنين» وهو بالخاء المعجمة أي بكاء مع صوت يخرج من الأنف وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات في الدنيا وأحيا للبعث. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل:
أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي من كل حيوان وهو أيضا من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فيخلق بعضها ذكرا وبعضها أنثى وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تصب في الرحم. وقيل:
تقدر. وفي هذا تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق الله منها أعضاء مختلفة وطباعا متباينة وخلق منها الذكر والأنثى وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته ولهذا لم يؤكده بقوله وأنه هو خلق لأنه لم يدع أحد إيجاد نفسه ولا خلقها ولا خلق غيره كما لم يقدر أحد أن يدعي خلق السموات والأرض وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ(4/214)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
الْأُخْرى أي الخلق الثاني بعد الموت للبعث يوم القيامة.
[سورة النجم (53) : الآيات 48 الى 56]
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى الناس بالأموال وأعطى القنية وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية. وقيل: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية. وأقنى: بالإبل والبقر والغنم.
وقيل: أقنى أي أخدم.
وقال ابن عباس: أغنى وأقنى، أي أعطى فأرضى. وقيل: أغنى يعني رفع حاجته ولم يتركه محتاجا إلى شيء لأن الغنى ضد الفقر، وأقنى: أي زاد فوق الغنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي أنه رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى وأول من سن لهم ذلك الرجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة تشبيها له في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة وعبد الشعرى وهو كوكب يضيء خلف الجوازء ويسمى كلب الجبار أيضا وهما اثنتان: يمانية وشامية يقال لإحداهما العبور والأخرى الغميصاء. سميت بذلك لأنها أخفى من العبور والمجرة بينهما. وأراد بالشعرى هنا العبور وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب فكانوا عادا أخرى وقيل: الأخرى إرم. وقيل:
الأولى يعني أول الخلق هلاكا بعد قوم نوح وَثَمُودَ وهم قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة فَما أَبْقى يعني منهم أحدا وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ يعني أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود بالغرق إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى يعني لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب وَالْمُؤْتَفِكَةَ يعني قرى قوم لوط أَهْوى أي أسقط وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها فَغَشَّاها أي ألبسها الله ما غَشَّى يعني الحجارة المنضودة المسومة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي تشكّ أيها الإنسان. وقيل: أراد الوليد بن المغيرة. قال ابن عباس: تتمارى أي تكذب هذا نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي رسول من الرسل المتقدمة أرسل إليكم كما أرسلت الرسل إلى قومهم وقيل: أنذر محمد كما أنذرت الرسل من قبله.
[سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 62]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة واقتربت الساعة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي مظهرة ومبينة متى تقوم. وقيل: معناه ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله غير أنه لا يكشفها. وقيل: الكاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية. والمعنى: لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره. وقيل: معناه ليس لها رد يعني: إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد.
قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ تنكرون وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من الوعيد وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون غافلون قاله ابن عباس. وعنه، أن السمود هو الغناء بلغة أهل اليمن وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا. ولعبوا وأصل السمود في اللغة، رفع الرأس، مأخوذ، من سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في سيره والسامد اللاهي والمعنى. وقيل: معناه أشرون بطرون. وقال مجاهد: غضاب(4/215)
مبرطمون قيل له: وما البرطمة؟ قال: الإعراض فَاسْجُدُوا لِلَّهِ يعني أيها المؤمنون شكرا على الهداية. وقيل:
هذا محمول على سجود التلاوة. وقيل: على سجود الفرض في الصلاة وَاعْبُدُوا أي اعبدوا الله وإنما قال:
واعبدوا، إما لكونه معلوما، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله تعالى (ق) عن عبد الله بن مسعود: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافر» زاد البخاري في رواية له قال: «أول سورة نزلت فيها سجدة النجم وذكره» وقال في آخره وهو «أمية بن خلف» (خ) .
عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (ق) عن زيد بن ثابت قال: «قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النجم فلم يسجد فيها» ففي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب وهو قول الشافعي وأحمد وقال عمر بن الخطاب: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع وهو قول سفيان وأصحاب الرأي والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/216)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
سورة القمر
(مكية وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثون وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
قوله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت القيامة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قيل: فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وانشقاق القمر من آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة ومعجزاته يدل عليه ما روي عن أنس: «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين» .
أخرجه البخاري ومسلم. وزاد الترمذي فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ولهما عن ابن مسعود. قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شقتين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا» وفي رواية أخرى قال: «بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه. فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا» ولهما عن ابن عباس قال: «إن القمر انشق في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (م) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اشهدوا» وعن جبير بن مطعم قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصار فرقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم» أخرجه الترمذي وزاد غيره فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم.
قال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا: نعم. قد رأيناه فأنزل الله تعالى:
اقتربت الساعة وانشق القمر. فهذه الأحاديث الصحيحة قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن المجيد بذلك فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن وقد أخبر عنه الصادق فيجب الإيمان به واعتقاد وقوعه.
وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم، قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره. فأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا النقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في رؤيتهم له ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء عن هذا بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ(4/217)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
النادر. ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء في الليل من العجائب والأنوار والطوالع والشهب العظام ونحو ذلك يقع ولا يتحدث به إلا آحاد الناس ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرناه من غفلة الناس. وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها، فلم يتأهب غيرهم لها. قال العلماء: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم وقيل في معنى الآية ينشق القمر يوم القيامة وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه ولأن الله ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا دليل على وجود هذه الآية العظيمة وقد كان ذلك في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: وإن يروا آية أي تدل على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالآية هنا انشقاق القمر يعرضوا أي عن التصديق بها وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي دائم مضطرد.
وكل شيء دام حاله قيل فيه: مستمر.
وذلك لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات فقالوا هذا سحر مستمر: وقيل مستمر أي قوي محكم شديد بعلوه يعلو كل سحر.
قيل: مستمر أي ذاهب سوف يبطل ويذهب ولا يبقى وإنما قالوا ذلك تمنية لأنفسهم وتعليلا وَكَذَّبُوا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وما عاينوا من قدرة الله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم الشيطان من الباطل وقيل: هو قولهم إنه سحر القمر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي لكل أمر حقيقة فما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقيل: كل أمر مستقر. فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار، وقيل: يستقر قول المصدقين والمكذبين حين يعرفون حقيقته بالثواب أو العقاب. وقيل: معناه لكل حديث منتهى. وقيل: ما قدر فهو كائن وواقع لا محالة. وقيل: هو جواب قولهم سحر مستمر يعني ليس أمره بذاهب كما زعمتم بل كل أمر من أموره مستقر وإن أمر محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيظهر إلى غاية يتبين فيها أنه حق.
[سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 7]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي من أخبار الأمم الماضية المكذبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي منتهى وموعظة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي غنى تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم نسختها آية القتال يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي اذكر يا محمد يوم يدع الداعي وهو إسرافيل ينفخ في الصور قائما على صخرة بيت المقدس إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي منكر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظاما له خُشَّعاً وقرئ خاشعا أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مثل في كثرتهم وتموج بعضهم في بعض حيارى فزعين.
[سورة القمر (54) : الآيات 8 الى 14]
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)(4/218)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
مُهْطِعِينَ مسرعين مادي أعناقهم مقبلين إِلَى الدَّاعِ يعني إلى صوت الداعي وهو إسرافيل وقيل ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي صعب شديد وفيه إشارة إلى أن ذلك اليوم يوم شديد على الكافرين لا على المؤمنين.
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجروه على دعوته ومقالته بالشم والوعيد بقولهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ فَدَعا يعني نوحا رَبَّهُ وقال أَنِّي مَغْلُوبٌ أي مقهور فَانْتَصِرْ أي فانتقم لي منهم فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قيل هو على ظاهره وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبوابا. وقيل: هو على الاستعارة، فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب انصبابا شديدا لم ينقطع أربعين يوما وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها عيونا تسيل بالماء فَالْتَقَى الْماءُ يعني ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي قضى عليهم في أم الكتاب.
وقيل قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر وَحَمَلْناهُ يعني نوحا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ يعني سفينة ذات ألواح. وأراد بالألواح، خشب السفينة العريضة. وَدُسُرٍ هي المسامير التي تشد بها الألواح وقيل الدسر صدر السفينة. وقيل: هي عوارض السفينة وأضلاعها.
وقيل: الألواح: جانبا السفينة، والدسر: أصلها وطرفاها. تَجْرِي يعني السفينة بِأَعْيُنِنا يعني بمرأى منا. وقيل: بحفظنا. وقيل: بأمرنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يعني فعلنا ذلك به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لنوح لأنه كان كفر به وجحد أمره. وقيل لمن بمعنى لما أي جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم. وقيل: جزاء لما صنع بنوح وأصحابه.
[سورة القمر (54) : الآيات 15 الى 24]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً يعني الفعلة التي فعلنا بهم آية يعتبر بها. وقيل: أراد السفينة. قال قتادة: أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة عبرة حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متذكر معتبر متعظ خائف مثل عقوبتهم (ق) عن ابن مسعود قال «قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مذكر فردها عليّ» وفي رواية أخرى «سمعته يقرؤها فهل من مدكر دالا» فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ يعني إنذاري وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ يعني سهلنا القرآن لِلذِّكْرِ يعني ليتذكر ويعتبر به قال سعيد بن جبير يسرناه للحفظ والقراءة وليس شيء من كتب الله تعالى يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متعظ بمواعظه وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم.
قوله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاري لهم بالعذاب إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديدة الهبوب فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي يوم شؤم مُسْتَمِرٍّ أي دائم الشؤم استمر على جميعهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحد إلا هلك فيه.
وقيل: كان ذلك اليوم يوم الأربعاء في آخر الشهر تَنْزِعُ النَّاسَ أي الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على(4/219)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
رؤوسهم فتدق رقابهم. قيل: كانت تنزعهم من حفرهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قال ابن عباس: أصول نخل مُنْقَعِرٍ أي منقطع من مكانه ساقط على الأرض. قيل: كانت الريح تبين رؤوسهم من أجسامهم فتبقي أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالإنذار الذي جاء به صالح فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً يعني آدميا واحدا منا نَتَّبِعُهُ أي ونحن جماعة كثيرون إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أي خطأ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: عذاب. وقيل: شدة عذاب وقيل إنا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته. وقيل: لفي جنون. وقيل: لفي بعد عن الحق.
[سورة القمر (54) : الآيات 25 الى 31]
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ يعني أأنزل الوحي عليه مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة سَيَعْلَمُونَ غَداً أي حين ينزل بهم العذاب. وقيل: يعني يوم القيامة وإنما ذكر الغد للتقريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي صالح أم من كذبه إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا، وذلك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة حمراء ناقة عشراء فقال الله تعالى إنا مرسلو الناقة فِتْنَةً أي محنة واختبارا لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ أي على أذاهم وَنَبِّئْهُمْ أي أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي بين الناقة وبينهم لها يوم ولهم يوم وإنما قال تعالى بينهم تغليبا للعقلاء كُلُّ شِرْبٍ أي نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ أي يحضره من كانت نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يومهم حضروا شربهم. وقيل: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت حضروا اللبن فَنادَوْا صاحِبَهُمْ يعني قدار بن سالف فَتَعاطى أي فتناول الناقة بسيفه فَعَقَرَ يعني الناقة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثم بين عذابهم فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً يعني صيحة جبريل فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرجل يحظر لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم. وقيل: هو الشجر البالي الذي يهشم حين تذروه الرياح.
والمعنى: أنهم صاروا كيبيس الشجر إذا بلي وتحطم وقيل كالعظام النخرة المحترقة وقيل هو التراب يتناثر من الحائط.
[سورة القمر (54) : الآيات 32 الى 42]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً يعني الحصباء وهي الحجارة التي دون ملء الكف وقد يكون الحاصب الرامي، فعلى هذا، يكون المعنى إنا أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم أي يرميهم بالحجارة ثم استثنى.(4/220)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
فقال تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوطا وابنتيه نَجَّيْناهُمْ يعني من العذاب بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم كَذلِكَ نَجْزِي أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي مَنْ شَكَرَ يعني أن من وحد الله لم يعذبه مع المشركين وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا يعني أخذنا إياهم بالعقوبة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عميا بإذن الله يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون.
ومعنى: فطمسنا أعينهم، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. وقيل: طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا؟ فلم يروهم فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ يعني ما أنذركم به لوط من العذاب وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي جاءهم وقت الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قوله عز وجل: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام. وقيل: النذر، الآيات التي أنذرهم بها موسى كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ يعني بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة فقال تعالى:
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 48]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار، أي، ليسوا بأقوى منهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ
يعني من العذاب فِي الزُّبُرِ أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية أَمْ يَقُولُونَ يعني كفار مكة نَحْنُ جَمِيعٌ يعني أمرنا مُنْتَصِرٌ يعني من أعدائنا والمعنى: نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا. ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي. وقيل: معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال: كلهم عالم، يعني: كل واحد منهم عالم. قال الله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي.
وقيل في الإفراد، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فهم في ذلك كرجل واحد (خ) .
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في قبة يوم بدر «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر.
وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر: كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في درعه ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ يعني جميعا والساعة أدهى وأمر، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر.(4/221)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
قوله عز وجل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم.
وقيل: في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة. وقيل: في ضلال، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلّى الله عليه وسلّم مس سقر.
[سورة القمر (54) : الآيات 49 الى 51]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له. وقال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك.
(فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه) (م) «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» قال وعرشه على الماء (م) .
عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (م) عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: كل شيء بقدر الله تعالى قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» .
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. وفي حديث جبريل المتفق عليه: وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت ففيه ذم القدرية.
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال» .
أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله «وزاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام» .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء الله فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر» .
قال ابن الجوزي: وإنما قيل: خصماء الله، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها. وروي عن الحسن قال: والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل، وصلّى حتى يصير كالوتر،(4/222)
ثم أخذ ظلما حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها الله تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا. وسميت هذه الفرقة قدرية، لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه. وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين، أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر. قال ابن قتيبة وإمام الحرمين: هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى الله تعالى.
ويضيفون القدر والأفعال إلى الله تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه.
قال إمام الحرمين: وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «القدرية مجوس هذه الأمة» شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن. ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية. وحديث: القدرية مجوس هذه الأمة، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين. وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي: إنما جعلهم صلّى الله عليه وسلّم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين: النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكساب العباد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها. قال: والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر. ويقال:
قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلقهن. وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل العقد والحل من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقد قرر ذلك أئمة المتكلمين أحسن تقرير بدلائله القطعية السمعية والعقلية والله أعلم.
وأما معاني الأحاديث المتقدمة، فقوله: جاء مشركو قريش إلى قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله تعالى مراد له، وكذلك قوله: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء المراد منه تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل القدر فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله وعرشه على الماء أي قبل أن يخلق السموات والأرض، وقوله: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو قال: الكيس(4/223)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
والعجز. العجز: عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله بالتسويف به وتأخيره عن وقته. وقيل: يحتمل العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور.
ومعنى الحديث: أن العاجز قدر عجزه والكيس قدر كيسه.
قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي وما أمرنا إلا مرة واحدة وقيل معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كُنْ فَيَكُونُ لا مراجعة فيه فعلى هذا إذا أراد الله سبحانه وتعالى شيئا قال له كن فيكون فهنا بان فرق بين الإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحدة فيه بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول بل هو إشارة إلى نفاذ الأمر كَلَمْحِ الْبَصَرِ قال ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وعن ابن عباس أيضا: معناه وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متعظ بأن ذلك حق فيخاف ويعتبر.
[سورة القمر (54) : الآيات 52 الى 55]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأشياع من خير وشر فِي الزُّبُرِ أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم مُسْتَطَرٌ أي مكتوب.
قوله عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ أي بساتين وَنَهَرٍ أي أنهار وإنما وحّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل.
وقيل: معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن الله صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق عِنْدَ مَلِيكٍ قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان مُقْتَدِرٍ أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها. قال جعفر الصادق: وصف الله تعالى المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء السادس من تفسير الخازن ويليه الجزء السابع وأوله سورة الرّحمن(4/224)
الرَّحْمَنُ (1)
سورة الرّحمن علا، وعز وجل
(وهي مكية وذكر ابن الجوزي أنها مدنية في قول من قولين عن ابن عباس وهي ست وسبعون آية وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا) .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
قوله عز وجل: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قيل لما نزلت اسجدوا للرحمن قال كفار مكة وما الرّحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرّحمن فأنزل الله الرّحمن يعني الذي أنكرتموه هو الذي علم القرآن، وقيل هذا جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فقال تعالى الرّحمن علم القرآن يعني علّم محمدا القرآن وقيل علّم القرآن يسره للذكر ليحفظ ويتلى وذلك أن الله عز وجل عد نعمه على عباده فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه وأكثره ذكرا وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني أسماء كل شيء وقيل علّمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية وقيل الإنسان اسم جنس وأراد به جميع الناس، فعلى هذا يكون معنى علمه البيان أي النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات، وقيل علمه الكتابة والفهم والإفهام حتى عرف ما يقول وما يقال له وقيل علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقيل أراد بالإنسان محمدا صلّى الله عليه وسلّم علّمه البيان يعني بيان ما يكون وما كان لأنه صلّى الله عليه وسلم ينبئ عن خبر الأولين والآخرين وعن يوم الدين، وقيل علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام والحدود والأحكام.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 11]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال ابن عباس يجريان بحساب ومنازل لا يتعديانها وقيل يعني بهما حساب الأوقات والآجال ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد، وقيل الحساب هو الفلك تشبيها بحسبان الرحى وهو ما يدور الحجر بدورانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قيل النجم ما ليس له ساق من النبات كالبقول والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء وسجودها سجود ظلها وقيل النجم هو الكوكب، وسجوده طلوعه والقول الأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ولأنهما أرضيان في مقابلة سماءين وَالسَّماءَ رَفَعَها أي فوق الأرض وَوَضَعَ الْمِيزانَ قيل أراد بالميزان العدل لأنه آلة العدل والمعنى أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لا تجاوزوا العدل وقيل أراد به الآلة التي يوزن بها للتوصل إلى الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير أن لا تطغوا في الميزان أي لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في(4/225)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
الميزان وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب وَلا تُخْسِرُوا أي لا تنقصوا الْمِيزانَ أي لا تطففوا في الكيل والوزن أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه وَالْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها مدحوة على الماء لِلْأَنامِ يعني للخلق الذين بثهم فيها وهو كل ما ظهر عليها من دابة وقيل للإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فِيها يعني في الأرض فاكِهَةٌ يعني من أنواع الفاكهة وقيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف وهو الطلع ما لم ينشق وكل شيء ستر شيئا فهو كم وقيل أكمامها ليفها واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها وأكثرها بركة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 12 الى 15]
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)
وَالْحَبُّ يعني جميع الحبوب التي يقتاب بها كالحنطة والشعير ونحوهما وإنما أخّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل وأعم وجودا في الأماكن ذُو الْعَصْفِ قال ابن عباس يعني التبن وعنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه ويبس وقيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه ولا ورق وهو العصف ثم يكون سوقا ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب وَالرَّيْحانُ يعني الرزق قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق وقيل هو الريحان الذي يشم، وقيل:
العصف التبن والريحان ثمرته فذكر قوت الناس والأنعام ثم خاطب الجن والإنس فقال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة وكرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم ويقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن حاملا فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريرا وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه وخاطب الجن والإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم. عن جابر رضي الله تعالى عنه قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية غيره «كانوا أحسن منكم ردا وفيه ولا بشيء» قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ يعني من طين يابس له صلصلة وهو الصوت منه إذا نقر كَالْفَخَّارِ يعني الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف.
فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب وقال من حمإ مسنون وقال من طين لازب وقال من ماء مهين وقال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق وذلك أن الله تعالى خلقه أولا من تراب ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنونا وهو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالا كالفخار وَخَلَقَ الْجَانَّ وهو أبو الجن. وقيل هو إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.(4/226)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 16 الى 25]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف وهو غاية ارتفاع الشمس ومشرق الشتاء وهو غاية انحطاط الشمس. وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يعني مغرب الصيف ومغرب الشتاء، وقيل يعني مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني أرسل البحرين العذب والملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط وهو قوله: يَلْتَقِيانِ لكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ وهو قوله: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على صاحبه وقيل لا يختلطان ولا يتغيران وقيل لا يطغيان على الناس بالغرق وقيل مرج البحرين بحر الروم وبحر الهند وأنتم الحاجز بينهما وقيل بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقيل بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وقيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر ولا يخرج من جميع البحر ولكن من بعضه وقيل يخرج من السماء وماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة، وقوله تعالى: اللُّؤْلُؤُ قيل هو ما عظم من الدر وَالْمَرْجانُ صغاره وقيل بعكس ذلك وقيل المرجان هو الخرز الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الكبار الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض وقيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت وقيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قوله عز وجل:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 31]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31)
كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من حيوان وإنما ذكره بلفظة من تغليبا للعقلاء فانٍ أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة وصرف الزمن اليسير إلى الطاعة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يعني ذاته والوجه يعبر به عن الجملة.
وفي المخاطب وجهان أحدهما أنه كل واحد والمعنى ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع.
والوجه الثاني: أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذُو الْجَلالِ أي ذو العظمة والكبرياء ومعناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وَالْإِكْرامِ أي المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أخرجه الترمذي وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها.
قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني من ملك وإنس وجن فلا يستغني عن فضله أهل السموات والأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وقيل كل(4/227)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
أحد يسأل الرحمة وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه وفيه إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى وأن كل مخلوق وإن جل وعظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا قال المفسرون من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل قوما ويشفي مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويفرج عن مكروب ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلا ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن مما خلق الله عز وجل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال ابن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه إن الله عز وجل كتب ما يكون في كل يوم وقدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قيل هو وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة وليس هو فراغ عن شغل لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك وما به شغل وهذا قول ابن عباس وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك وقيل معناه أن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك ونفرغ منه فهو على طريق المثل وأراد بالثقلين الإنس والجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتا، وقيل كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما وقال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس والجن ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 32 الى 35]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جوانبهما وأطرافهما فَانْفُذُوا أي فاخرجوا والمعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة والمعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكي ومن سمائي وأرضي فافعلوا وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ والهرب من الإنس وأقوى على ذلك ثم قال تعالى: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر وغلبة وأني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني وقال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفي الخبر «يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادي» يا مَعْشَرَ(4/228)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية فذلك قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه وقيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار وَنُحاسٌ وقيل هو الدخان وهو رواية عن ابن عباس وقيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل وقيل يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة وقيل يجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر فَلا تَنْتَصِرانِ أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 36 الى 41]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفرجت فصارت أبوابا لنزول الملائكة وقيل المراد منه خراب السماء وذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء وقيل فيه تهويل وتعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن وهو تشقق السماء وذوبانها وهو قوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة وقيل إن السماء تتلون يومئذ ألوانا كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه وقيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألوانا وقيل تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصلها حر جهنم وقيل كالدهان أي كالأديم الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن الله تعالى علمها منهم وكتبتها الحفظة عليهم وهذه رواية عن ابن بعاس وعنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده وعن ابن عباس أيضا في الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
قال لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتم كذا وكذا وقيل إنها مواطن فيسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها وعن ابن عباس أيضا قال لا يسألون سؤال شفقة ورحمة إنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وقيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، يعني بسواد وجوههم وزرقة عيونهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره وقيل تجعل رؤوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة وقيل يسحب بعضهم بالنواصي وبعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 42 الى 46]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يعني قد انتهى حره أي أنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل وقال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما(4/229)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)
تُكَذِّبانِ فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ إلى هنا ليست نعما فكيف عقبها بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ وزواجر وتخويف وكل ذلك نعمة من الله تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعما فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه من عباده المؤمنين فقال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة والمعصية وقيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه وهو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله واطلاعه عليه فيدعها من مخافة الله وقيل لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته وما عمل من خير أخلصه لله ولا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله مع الإخلاص ودأبوا الليل والنهار جَنَّتانِ يعني جنة عدن وجنة نعيم وقيل جنة بخوفه ربه وجنة بتركه شهوته.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج مخففا سير أول الليل ومثقلا سير آخر الليل والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل وروى البغوي بسنده عن أبي ذر «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 47 الى 54]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51)
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: ذَواتا أَفْنانٍ أي أغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا وقيل ذواتا ظلال وهو ظل الأغصان على الحيطان، وقال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس بالكرامة والزيادة لأهل الجنة وقيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان ونوعان وقيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها جمع بطانة والتي تلي الأرض من تحت الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود وأبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وعنه أيضا قال بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد وقال ابن عباس وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر وقيل ظواهرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم والقاعد والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا(4/230)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
فإنها لا تنال إلا بكدّ وتعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وقيل لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 55 الى 58]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟
قلت إلى الجنتين وإنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن وقصور ومجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي لم يجامعهن ولم يفرعهن والمعنى لم يدمهن بالجماع وقيل معناه لم يمسهن ومنه قول الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمثن قبل ... وهن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي قبل أزواجهن من أهل الجنة، وَلا جَانٌّ قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم وفي الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وسئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم وقرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع ولم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن وقيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن.
لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد وقيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا ومعنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضا وقيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه وقال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك لأن الله تعالى يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال وقد روي عن ابن مسعود بمعناه ولم يرفعه وهو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا، وللبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد وزاد فيه ولا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود.(4/231)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 59 الى 66]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63)
مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة، وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي، وقيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمنين بالإحسان وهو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل والعقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان وقال ابن عباس من دونهما في الدرج وقيل في الفضل وقال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين وقال ابن جريج هن أربع جنان: جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وقال الكناني ومن دونهما جنتان يعني أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والجنتان الأخريان من ياقوت وزبرجد وهما أفضل من الأوليين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ أي سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوارتان بالماء لا ينقطعان وقال ابن عباس والضحاك ينضخان بالخير والبركة على أهل الجنة وقال ابن مسعود ينضخان بالمسك والكافور على أولياء الله وقال أنس بن مالك ينضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 67 الى 76]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها وإنما عطف النخل والرمان بالواو وإن كانا من جملة الفواكه تنبيها على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه وعلى هذا القول عامة المفسرين وأهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص والتفضيل فهو كقوله من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال خصهما بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفهما وفضلهما وقيل بعضهم ليس النخل والرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة وطعام وثمرة الرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ولهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث وخالفه صاحباه وهذا القول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية وروى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفا قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم وثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين(4/232)