لم يكن حينئذ وراءه مسجد الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ يعني بالأنهار والأشجار والثمار، وقيل سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة. فإن قلت:
ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط؟ قلت: قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلّى الله عليه وسلّم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولا لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء. وقوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام. فإن قلت لفظة من في قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا قائل به فما وجهه. قلت: ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضا ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمدا صلّى الله عليه وسلّم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلّى الله عليه وسلّم على إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقواله ودعائه الْبَصِيرُ لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس الْبَصِيرُ بما ردوا عليه من التكذيب. وقيل: إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله. وحمله على العموم أولى.
فصل
في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام، وما قال العلماء فيه (ق) حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم حدثهم عن ليلة أسري به قال: «بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعا، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته وسمعته يقول من قصته إلى شعرته، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود: أهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح. قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك؟
قال: محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت، فإذا إدريس قال:
هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل(3/110)
مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال:
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى قال:
هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له:
ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت:
ما هذان يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى، قال: بم أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت: ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال: فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» زاد في رواية أخرى «وأجزي بالحسنة عشرا» وفي رواية أخرى «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيمانا وحكمة، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى» (ق) «عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال: نعم معي محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، قال: ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح. قال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال: فلما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال: ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قال: فقلت من هذا قال: هذا موسى. قال ثم مررت بعيسى فقال مرحبا(3/111)
بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال: هذا عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال: فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال لي موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها. قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فقال: هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال: ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة
المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» (ق) عن شريك بن أبي نمر «أنه سمع أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشوا إيمانا، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا: ومن معك قال معي محمد قالوا: وقد بعث إليه قال نعم قالوا: مرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال:
مرحبا وأهلا يا بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا، بنهرين يطردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟
قال: هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا: ومن معك قال محمد قالوا: وقد بعث إليه قال: نعم قالوا: مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة. وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية.
ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة. فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال:
يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال: وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل عليه(3/112)
السلام ليشير عليه، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا. فقال الجبار: يا محمد. قال: لبيك وسعديك قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال: فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ قال: خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام» هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك عن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند، فذكر من أول حديث شريك طرفا ثم قال: وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه، قال قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا با بني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل، قيل ومن معك قال محمد، قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، قال: فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير. قال الله تعالى ورفعناه مكانا عليا ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، فقيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى
وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: قد حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»(3/113)
هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصرا وفيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بالبراق ليلة أسرى به ملجما مسرجا، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقا» وأخرجه النسائي مختصرا، والمعنى واحد وفي آخره قال: فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع.
فصل
قال البغوي: قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام. قال البغوي: وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي، وقبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقها سنة ثمان، ونزل قوله سبحانه وتعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم: قد جاء من رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر شهرا.
وقال الحربي: كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: أسري به صلّى الله عليه وسلّم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل. قال الشيخ محيي الدين: وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها.
فصل
في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقيل: إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال: كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما أسري بروحه. وحكي هذا القول عن عائشة(3/114)
أيضا وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلف والله أعلم قوله صلّى الله عليه وسلّم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة بإسكان اللام، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلا طيبا سائغا للشاربين وأنه سليم العاقبة، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر. قوله: ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت قال: جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول: أنا فلان ولا يقول: أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبوابا وبوابين وأن عليها حرسا وقول بواب السماء وقد أرسل إليه، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعجاب، وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة، وتحويل ظهره إليها. وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا، وقع في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين: سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها. ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن مسعود: سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي. قال الشيخ محيي الدين النووي: معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولا فناجيته فيه ثانيا وقوله: فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل. قلت: وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة والنجم، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشرا وفي الأخرى خمسا ليس بين هذه الرواية منافاة، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس، وليس المراد منه التنصيف، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمسا إلى آخره ثم قال: هي خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، وقد شق أيضا في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج. وقوله: أتيت بطست من ذهب، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا
قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلئ إيمانا وحكمة فأفرغها في صدري. فان قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الأجسام، فما معنى ذلك؟ قلت: يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما وهذا من أحسن المجاز. وقوله في صفة آدم عليه السلام: فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار، تعرض على آدم عليه السلام، وهو في السماء فوافق وقت عرضها(3/115)
على آدم مرور النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبر بما رأى. وقوله: فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم، وحزنه على سوء حال الكفار منهم. وقوله في إدريس مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على أن إدريس، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أن إبراهيم جده، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام: فالجواب عن هذا أنه قيل: إن إدريس المذكور هنا هو إلياس، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض. قال الشيخ محيي الدين: ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أبا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا، وهو أخ وإن كان أبا لأن الأنبياء إخوة والمؤمنين إخوة والله أعلم.
فصل
في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي روي أنه لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال: يا جبريل إن قومي لا يصدقون. قال:
يصدقك أبو بكر وهو الصديق. قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ هل استفدت من شيء؟ قال: نعم أسري بي الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال: أبو جهل: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم. فلم ير أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، ولكن قال: أتحدث قومك بما حدثتني به. قال: نعم قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فانقضت المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال: حدث قومك بما حدثتني قال: نعم أسري بي الله قالوا إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجبا وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال: أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا: أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق. قال: وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى. قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال: نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه، فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا: هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان، فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال: نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية. ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت. وقال آخر: وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال: فلم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر مبين (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:(3/116)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط. قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعدا كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلّى الله عليه وسلّم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه فالتفّت إليه فبدأني بالسلام» (ق) عن جابر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية: لما كذبني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس» وذكر الحديث (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، فإذا هو قائم يصلي في قبره. عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بإصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق» أخرجه الترمذي. فإن قلت: كيف رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت، وهم في الدار الآخرة؟ قلت أما صلاته صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه رآهم يلبون، ويحجون، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 4]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا يعني وقلنا لهم: لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يعني ربا كفيلا ذُرِّيَّةَ يعني يا ذرية مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يعني أن نوحا كان كثير الشكر، وذلك أنه كان إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال: الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا لذلك. قوله عز وجل وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ: يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وقال ابن عباس: وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام، وبيت المقدس وَلَتَعْلُنَّ يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولى المرتين قيل: إفسادهم في المرة الأولى هو ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا من المحارم وقيل: إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي(3/117)
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتله داود وقيل: هو سنحاريب وهو من أهل نينوى وقيل هو بختنصر البابلي وهو الأصح أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني ذوي بطش وقوة في الحرب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يعني طافوا بين الديار وسطها يطلبونكم ليقتلوكم وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعني قضاء كائنا لازما لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، حين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً يعني أكثر عددا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ يعني لها ثوابها وجزاء إحسانها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها يعني فعليها إساءتها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعني ليحزنوكم وقرئ بالنون أي ليسوء الله وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني وقت إفسادهم الأول وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكا.
ذكر القصة في هذه الآية
قال محمد بن إسحاق: كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ومحسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أن ملكا منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبيا ليسدده ويرشده، ولا ينزل عليهم كتابا إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير. فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فلم يزل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعياء النبي إليه، وقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده؟ بستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء: لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي، أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص: اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك. فاستجاب الله له وكان عبدا صالحا فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا لله وقال:
إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا. قال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك(3/118)
عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر. فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمس نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجدا لله تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة: الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة: القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفا لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكرة وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن ابنه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله لشعياء: - قم في قومك حتى أوحي على لسانك. فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين. إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كانت خرابا زمانا لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه
وهو قوي أو يقال: ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّما ذا رأي وهمة حفيظا قويا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا. فقالوا: بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا، لا عمران فيها قال الله تعالى: قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح(3/119)
الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزكّ صدقتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما استمع قول المستضعف المستكين، وان من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي: إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلّاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبيا أميا ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا بي وإخلاصا لي يصلون قياما وقعودا، وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير، والتوحيد
والتسبيح والتحميد والتهليل والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف يطهرون لي، الوجوه والأطراف ويعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء أنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة، فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال: ناشة بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنه وهي تهتز خضراء فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى(3/120)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
الله إلى أرمياء، أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمي وعرفهم بأحداثهم. فقال أرمياء: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت إني معك، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم، ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية وقال في آخرها: عن الله عز وجل حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثا أقرهم بالشام وثلثا سباهم وثلثا قتلهم وذهب باناث بيت المقدس، وبالصبيان السبعين ألفا حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله عز وجل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 5 الى 7]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا عجيبة إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال: ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا: رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال: صدقتم قالوا: فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال: صدقتم فما تأويلها قالوا: تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكا، وبعضهم، كان أحسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء، فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا: يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر(3/121)
منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله تعالى هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكا فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا: ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد. كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره. قال:
أفتحب أن يرد إليك قال: نعم قال: ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزيز فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حبا لم يحبوا حبه شيئا قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليه الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟
أخبروني خبره. فقالوا: هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال: ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا. وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا: يحيى بن زكريا قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ باذن(3/122)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره. وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم، ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم واليونانيين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس ابن أسبيانيوس الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصّغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام: أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت: رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا. قالت:
ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول: لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفا حتى سكن دمه قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 8 الى 19]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)(3/123)
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم وَإِنْ عُدْتُمْ أي إلى المعصية عُدْنا أي إلى العقوبة. قال قتادة فعادوا فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم: فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي سجنا ومحبسا من الحصر الذي هو مجلس الحبس، وقيل:
فراشا من الحصير الذي يبسط ويفترش. قوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله وَيُبَشِّرُ يعني القرآن الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً يعني الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار في الآخرة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ أي على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ يعني قوله عند الغضب: اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس: ضجرا لا صبر له على سرّاء ولا ضراء. قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبرا يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب. والقول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة. قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا أي باختلاف الليل والنهار عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة. واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بيانا شافيا واضحا غير ملتبس قيل: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلا قوله عز وجل وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس:
عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان. وقيل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقيل: ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وقيل: هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما(3/124)
يزين أو يشين فإن كان عمله خيرا كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شرا كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه ويخرج له بقول تبارك وتعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قيل:
بسطت للإنسان صحيفتان ووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته. فإذا مات طويت الصحيفتان، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة اقْرَأْ كِتابَكَ أي يقال له: اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئا كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي محاسبا قال الحسن: لقد عدل عليك «1» من جعلك حسيب نفسك، وقيل: يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي. فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. قوله سبحانه وتعالى مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضا، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لإقامة الحجة وقطعا للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل. قوله سبحانه وتعالى وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
في معنى الآية قولان: أحدهما: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين: معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا. والقول الثاني:
أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها. يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذا قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل. والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُوا فِيها
أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي وجب عليها العقاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب (ق) ، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها» . قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث» قوله: ويل للعرب. ويل كلمة تقال: لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أي المكذبة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش. قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره. وقيل: القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» قال محمد ابن القاسم: ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات. وقيل: القرن ثمانون سنة. وقيل: أربعون وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات، لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. قوله عز وجل مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة يعني الدنيا عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ أي من البسط أو التقتير لِمَنْ نُرِيدُ أن نفعل به ذلك أو إهلاكه، وقيل في معنى الآية. عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئا، قدرناه له وهذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ أي في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً أي مطرودا مباعدا. قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي مقبولا قيل: في الآية ثلاث
__________
(1) . قوله عدل عليك هكذا في الأصل الطبع وفي بعض النسخ إليك سيدل عليك وفي الخطيب عدل والله في خلقك من إلخ وفي الكشاف: يا ابن آدم أنصفك والله من إلخ اهـ.(3/125)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
شرائط في كون السعي مشكورا إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت، وعن بعض السلف الصالح. من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 20 الى 25]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أي نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا، ومن يريد الآخرة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يعني يرزقهما جميعا ثم يختلف الحال بهما في المآل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
أي ممنوعا عن عباده والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا إذ لا حظ للكافر في الآخرة انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى، لأنها دار المقامة. قوله تعالى لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر وهذا أولى فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً أي من غير حمد مَخْذُولًا أي بغير ناصر. قوله سبحانه وتعالى: وَقَضى رَبُّكَ أي وأمر ربك. قاله ابن عباس:
وقيل معناه وأوجب ربك. وقيل: معناه الحكم والجزم. وقيل: ووصى ربك. وحكي عن الضحاك أنه قرأها ووصى ربك وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافا وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فيه وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالوالدين إحسانا أي برا بهما وعطفا عليهما وإحسانا إليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء: الأول قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وهي كلمة تضجّر وكراهية، وقيل: إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد، ونفخت فيه تزيله تقول: أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم. والثاني: قوله وَلا تَنْهَرْهُما أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال: نهره وانتهره بمعنى. فإن قلت: المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت: المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله ولا تنهرهما، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها. الثالث: قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي حسنا جميلا لينا كما(3/126)
يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل: هو يا أماه يا أبتاه وقيل: لا يكنيهما وقيل: هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ. الرابع: قوله عز وجل وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه مِنَ الرَّحْمَةِ أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما كنت في حال الصغر مفتقرا إليهما. الخامس: قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وقيل:
يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما. وقيل في معنى هذه الآية: إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما.
فصل
في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين، (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك» (م) عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: رغم أنفه، رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» (م) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك قال: نعم قال ففيهما فجاهد» وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين» أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا قال: وهو أصح عن أبي الدرداء قال «فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه» أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح (م) «عن عبد الله بن مسعود قال:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى» . قوله سبحانه وتعالى رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، عدم عقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي أبرارا مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، أو غيرهما أو قيل فرط منكم في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله، واستغفرتم مما فرط منكم فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوابين غَفُوراً قال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما. وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس: الأوّاب الرجاع إلى الله فيما يحزنه، وينوبه وعنه أنهم المسبحون. وقيل: هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم. قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم قوله: إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها.
والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الصغار وقيل: الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين. قوله سبحانه وتعالى:(3/127)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 38]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل: إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل: أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي لا تنفق مالك في المعصية. وقيل: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق درهما أو مدا في باطل كان مبذرا. وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقيل: هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل: إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل: أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم: هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي جحودا للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله. قوله عز وجل وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية. والمعنى: وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرت أن تؤتيهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي لينا جميلا أي عدهم وعدا طيبا، تطيب به قلوبهم. وقيل: هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال جابر: أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها وَلا تَبْسُطْها أي بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ أي فتعطي جميع ما عندك. وقيل: هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء(3/128)
المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوما عند نفسك وأصحابك أيضا يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل: يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم مَحْسُوراً أي منقطعا لا شيء عندك تنفقه وقيل: محسورا أي نادما على ما فرط منك. ثم سلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ أي يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي فاقة وفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي إثما
كبيرا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي قبيحة زائدة على حد القبح وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل: إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منها المعصية وإيجاب الحد على نفسه، ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . أخرجاه في الصحيحين وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً
أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل: سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي الولي قال ابن عباس: لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه. وقيل معناه إذا كان القتيل واحدا فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً قيل الضمير راجع للمقتول ظلما يعني أنه منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله، وقيل:
الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه: إنه كان منصورا على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله:
فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ أي الإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهي عنه وقيل: أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي عنه وقيل مطلوبا وقيل: العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموءودة تسأل فيم قتلت. قوله عز وجل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ المراد منه إتمام الكيل وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قيل هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل:
هو القبان قيل هو رومي وقيل: سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل، أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم،(3/129)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال على أربابها ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْفُ أي ولا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم. وقيل: معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع والبصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها. عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به قال: فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال حديث حسن غريب.
قوله: وشر منيي يعني ماءه وذكره. قوله عز وجل وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي بطرا وكبرا وخيلاء إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. وقيل: إن الذي يمشي مختالا يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له:
إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. عن علي قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب. أخرجه الترمذي في الشمائل. قوله تكفؤا: التكفؤ التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفؤ أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا. وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي. قوله:
لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم. فإن قلت: كيف قيل: سيئة مع قوله مكروها؟ قلت: قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروها سيئة عند ربك وقوله: مكروها على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروها وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 39 الى 46]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال(3/130)
فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار. وقيل: إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة. قيل: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: ولا تجعل مع الله إلها آخر. قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى: افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر فيه التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا وقال في هذه الآية وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموما فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموما ثم يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير. قوله سبحانه وتعالى أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة بِالْبَنِينَ يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا ويعتبروا وَما يَزِيدُهُمْ أي تصريفنا وتذكيرنا إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقيل: معناه لتقربوا إليه. وقيل: معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال عز وجل سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه. قوله عز وجل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ يعني الملائكة والإنس والجن وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: وإن من شيء حي إلا يسبح. وقيل: جميع الحيوانات والنباتات. قيل: إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح. وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح. وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل:
كل الأشياء تسبح الله حيوانا كان أو جمادا وتسبيحها: سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فقل الماء فقال: «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله» . فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري (م) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن» (خ) عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان(3/131)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأول أصح كما دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف. واعلم أن لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه. وقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح. قوله عز وجل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل: معناه مستورا عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: «لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله. قال: لا لم يزل ملك بيني وبينها» وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا لئلا يسمعوه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً جمع نافر.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 47 الى 57]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل: معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي وأنت تقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي وبما يتناجون به في أمرك، وقيل: معناه ذوو نجوى بعضهم يقول: هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي مطبوبا وقيل مخدوعا وقيل: معناه أنه سحر فجن. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسخر بالطعام وبالشراب
أي يغذى بهما انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه فقالوا: ساحر شاعر كاهن مجنون فُضِّلُوا أي في جميع ذلك وحاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي إلى طريق الحق وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً أي بعد الموت وَرُفاتاً أي ترابا وقيل: الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فيه أنهم استبعدوا الإعادة بعد الموت والبلى. فقال سبحانه وتعالى ردا عليهم قُلْ أي قل يا محمد كُونُوا حِجارَةً(3/132)
أي في الشدة أَوْ حَدِيداً أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم، أنكم حجارة أو حديد في القوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قيل: يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات. وقيل: يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا أي من يبعثنا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أي خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يعني البعث والقيامة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي هو قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي من قبوركم إلى موقف القيامة فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وقيل: هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي في الدنيا وقيل في القبور إِلَّا قَلِيلًا وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفا من السنين، عد ذلك قليلا بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة، وقيل: إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة. قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل. وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو. وقيل: أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويلقي العداوة بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة. قوله عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي يميتكم على الشرك فتعذبوا، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا قيل: نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل: معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما، وقال لعيسى: كن فكان وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا وذلك قوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسين سورة، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام. فإن قلت: لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء؟ قلت: فيه وجوه: أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى: وآتينا داود زبورا وذلك أن داود أعطي مع النبوة الملك، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيها على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر. الوجه الثالث: أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب
بعد التوراة فكذبهم الله بقوله: وآتينا داود زبورا ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة، وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أن يفضل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قوله عز وجل قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فقال الله عز وجل: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي الجوع والقحط وَلا تَحْوِيلًا أي إلى(3/133)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومقصود الآية الرد على المشركين، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن نعبد المقربين إليه، وهم الملائكة. ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم ثم قال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يدعون المشركون آلهة يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي القربة والدرجة العليا. قال ابن عباس:
هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم. وقال عبد الله بن مسعود: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية. قوله تعالى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ معناه، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ أي جنته وَيَخافُونَ عَذابَهُ وقيل: معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب، ونبي مرسل فضلا عن غيرهم من الخلائق. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 64]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي بالموت والخراب أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا، وقيل: الإهلاك في حق المؤمنين الإماته وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي مكتوبا مثبتا. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: ما أكتب قال: القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد» أخرجه الترمذي.
قوله سبحانه وتعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ قال ابن عباس «سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بل تستأني بهم» فأنزل الله عز وجل وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي التي سألها الكفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى وَآتَيْنا(3/134)
ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً
أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم فَظَلَمُوا بِها أي جحدوا أنها من عند الله. وقيل: فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفا من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. وقيل: معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفا أي إنذارا بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون. قوله عز وجل وَإِذْ قُلْنا لَكَ أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ الأكثرون من المفسرين على أن المراد منها ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري. وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم. والعرب تقول: رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيمانا. وقال قوم: أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف. وقال قوم كان له معراجان: معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام. وقيل: أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعد ما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك. فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون، والفتنة فيها أن أبا جهل قال: إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر. وقيل: إن عبد الله بن الزبعري قال: إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل: يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ الآيات. فإن قلت: أين لعنت شجرة
الزقوم في القرآن؟ قلت: لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس: في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي تمردا وعتوا عظيما قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي قالَ يعني إبليس أَرَأَيْتَكَ الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي أمهلتني إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإضلال. وقيل: معناه لأقودنهم كيف شئت. وقيل:
لأستولين عليهم بالإغواء إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قالَ الله تعالى اذْهَبْ أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء فَمَنْ(3/135)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ
أي جزاؤك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا. قوله سبحانه وتعالى وَاسْتَفْزِزْ أي استخف واستزل واستعجل وأزعج مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس. وقيل: أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل: معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. يقال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس. وقيل: المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل: هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموءودة، وقيل: أولاد الزنا. وعن ابن عباس أيضا هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل: هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها. وقيل: إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال: وما المغربون قال: الذين شارك فيهم الجن. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال: ذلك من وطء الجن وَعِدْهُمْ أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل: قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد أن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعلها البتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وهو أنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها. وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل. فإن قلت: كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يأمر بالفحشاء؟ قلت: هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم. وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله سبحانه وتعالى وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال:
وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غرورا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 65 الى 69]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يعني بعبادة الأنبياء وأهل الفضل والصلاح لأنه لا يقدر على إغوائهم(3/136)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي حافظا. والمعنى: أنه سبحانه وتعالى لما أمكن إبليس أن يأتي بما يقدر عليه من الوسوسة كان ذلك سببا لحصول الخوف في قلب الإنسان، قال تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي فالله سبحانه وتعالى أقدر منه وأرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان ووساوسه، ويعصمهم من إغوائه وإضلاله. وفي بعض الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني. قال: استفزز من استطعت منهم الآية. فقال آدم: يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال رب زدني قال: التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد قال رب زدني فقال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية. وفي الخبر قال إبليس: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا فما قراءتي؟ قال: الشعر. قال: فما كتابتي؟ قال: الوشم، قال: ومن رسلي؟ قال الكهنة.
قال: أي شيء مطعمي؟ قال ما لم يذكر عليه اسمي قال فما شرابي قال كل مسكر قال: وأين مسكني؟ قال الحمامات- قال- وأين مجلسي؟ قال في الأسواق قال: وما حبائلي قال: النساء قال: وما أذاني؟ قال المزمار.
قوله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي أي يسوق ويجري لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي حيث يسر لكم هذه المنافع، والمصالح وسهلها عليكم وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي الشدة وخوف الغرق في البحر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها إِلَّا إِيَّاهُ أي إلا الله وحده فإنكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم فَلَمَّا نَجَّاكُمْ أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي جحودا أَفَأَمِنْتُمْ أي بعد إنجائكم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي تغوره. والمعنى: أن الجهات كلها له، وفي قدرته برا كان أو بحرا بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي نمطر عليكم حجارة من السماء، كما أمطرناها على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي مانعا وناصرا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أي مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال ابن عباس: أي عاصفا وهي الريح الشديدة. وقيل: الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً التبيع المطالب.
والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا لكم ودركا للثأر من جهتنا.
وقيل: معناه من يتبعنا بالإنكار علينا. قوله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 71]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال ابن عباس: هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وقال أيضا بالعقل وقيل بالنطق والتمييز والخط والفهم، وقيل باعتدال القامة وامتدادها وقيل بحسن الصورة وقيل:
الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل: بتسليطهم على جميع ما في الأرض وتسخيره لهم وقيل: بحسن تدبيرهم أمر المعاش والمعاد. وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أي على الإبل(3/137)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
والخيل والحمير وَالْبَحْرِ أي وحملناهم في البحر على السفن، وهذا من مؤكدات التكريم لأن الله تعالى سخر لهم هذه الأشياء لينتفعوا بها، ويستعينوا بها على مصالحهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب وقيل الزبد والتمر والحلواء، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل: إن جميع الأغذية إما نباتية وإما حيوانية ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا واعلم أن الله تعالى قال في أول الآية: ولقد كرمنا بني آدم وفي آخرها وفضلناهم، ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل والإلزام التكرار والأقرب أن يقال: إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية، مثل العقل والنطق والخط وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل. ثم قال سبحانه وتعالى: على كثير ممن خلقنا تفضيلا. ظاهر الآية يدل على أنه فضل بني آدم على كثير ممن خلق لا على الكل فقال: قوم فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة وهذا مذهب المعتزلة. وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم. وقيل: فضلوا على جميع الخلائق وعلى الملائكة كلهم. فإن قلت: كيف تصنع بكثير؟ قلت: يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أراد كلهم وفي الحديث عن جابر يرفعه قال:
«لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة فقال: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وقيل بالتفضيل وهو الأولى والراجح أن خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر من بني آدم، وهذا التفضيل إنما هو بين الملائكة والمؤمنين من بني آدم لأن الكفار لا حرمة لهم قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده. قوله عز وجل يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر. وقيل: بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أن أصحاب الشمال يقرءونه أيضا. قلت: الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملا على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 72 الى 76]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى المراد عمى القلب والبصيرة لا عمى البصر. والمعنى: ومن كان في هذه الدنيا أعمى، أي عن هذه النعم التي قد عدها في هذه الآيات المتقدمة فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أي التي لم تعاين ولم تر(3/138)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا قاله ابن عباس: وقيل معناه ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي أشد عمى وأضل سبيلا، أي أخطأ طريقا. وقيل: معناه ومن كان في الدنيا كافرا ضالا، فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل توبته. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قيل في سبب نزولها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر. وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: قد وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. قال: وما هن؟ قالوا: لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها قالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا- أي هموا- ليفتنونك- أي ليصرفونك- عن الذي أوحينا إليك لِتَفْتَرِيَ أي لتختلق وتبتعث عَلَيْنا غَيْرَهُ ما لم تقله وَإِذاً أي لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك ووافوك وصافوك وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ أي تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي قربت من الفعل. فإن قلت كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه.
قلت: كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول بعد ذلك «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي ناصرا يمنعك من عذابنا. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها قيل: هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة، وذلك حسدا فأتوه فقالوا: يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض أنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى: همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية. وقيل: همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الإزعاج وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى يهلكوا. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 77 الى 79]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن(3/139)
يهلكهم وأن لا يعذبهم مادام نبيهم بينهم فإذا خرج من بين أظهرهم عذبهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا.
قوله سبحانه وتعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ روي عن ابن مسعود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي. قال ابن عباس وابن عمر وجابر: هو زوال الشمس. وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين. ومعنى اللفظ: يجمعهما، لأن أصل الدلوك الميل والشمس: تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين: لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس: بدو الليل وهذا يتناول المغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار (خ) . عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهودا. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل. قوله سبحانه وتعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم. والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وبقي الوجوب ثابتا في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» وقيل: إن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة: فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال: نافلة لك ولم يقل عليك. فإن قلت: ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلّى الله عليه وسلّم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات.
فصل
في الأحاديث الواردة في قيام الليل (ق) عن المغيرة بن شعبة قال: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا» (م) عن زيد بن خالد الجهني: قال لأرمقن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود (ق) ، «عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة: إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي» (ق) عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيما بين أن يفرغ من(3/140)
صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» (خ) عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه. سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة النساء» أخرجه أبو داود النسائي. «عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة» أخرجه الترمذي (ق) عن الأسود قال: «سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج» عن أنس قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليل مصليا إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه» أخرجه النسائي. زاد في رواية غيره قال: «وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا» . وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظة عسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم أحرمه كان ذلك عارا عليه والله أكرم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه. والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (م) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (ق) عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى
ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته، وقعت ساجدا فيدعني ما شاء فيقال: يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع يا محمد رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود» وفي رواية للبخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال وهذا المقام المحمود(3/141)
الذي وعده نبيكم صلّى الله عليه وسلّم زاد في رواية «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال: هيا، فقلنا: لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم، ثم قال:
ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال: ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قوله: وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي. عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول: إني أذنبت ذنبا عظيما فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول: إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم» قال: ابن جدعان: قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخرج ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. قال سفيان: ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال: من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون: مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد» أخرجه الترمذي. قوله: ما حل المماحلة: المخاصمة والمجادلة. والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه. قوله: فاقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي: وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» زاد الترمذي، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري. عنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده فيه أهل الجمع كلهم (م) عن يزيد بن صهيب قال:
كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال:
فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت يا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هذا الذي تحدثونه والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته وكلما أرادوا أن(3/142)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
يخرجوا منها أعيدوا فيها، فما هذا الذي تقولون قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ ما قبله إنه في الكفار ثم قال فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه قلت: نعم قال فإن مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال غيره أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فيخرجون منه كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجعنا فلا والله ما خرج غير رجل واحد أو كما قال، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو ابن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة. وروى أبو وائل عن ابن مسعود أنه قال: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق عليه. ثم قرأ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال يقعده على العرش. وعن مجاهد مثله وعن عبد الله بن سلام قال يقعد على الكرسي. قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 81]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس:
معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة.
وقيل: معناه أخرجني من مكة آمنا من المشركين، وأدخلني مكة ظاهرا عليها بالفتح، وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا عند الله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة بينة وقيل: ملكا قويا تنصرني به على من عاداني وعزا ظاهرا أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس، وقال يظهره على الدين كله وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية. قوله تعالى وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني الإسلام والقرآن وَزَهَقَ الْباطِلُ أي الشرك والشيطان إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال (ق) . عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد- قوله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس. والمعنى: ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها. وقيل: هو شفاء للأمراض(3/143)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين «1» أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادا والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع. وأما النوع الثاني: وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. يدل عليه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في فاتحة الكتاب، «وما يدريك أنها رقية» : وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخسارا للظالمين، وقيل: لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة: لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي بالصحة والسعة أَعْرَضَ أي عن ذكرنا ودعائنا وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل: معناه تكبر وتعظم وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والضر كانَ أي يائسا قنوطا، وقيل: معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة. قوله عز وجل قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قال ابن عباس: على ناحيته. وقيل: الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أوضح طريقا وأحسن مذهبا واتباعا للحق قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم:
لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه، وفي رواية، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟
فسكت وفي رواية، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر الوحي، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وفي رواية، وما أوتوا من العلم إلا قليلا. قال الأعمش هكذا في قراءتنا. العسيب: جريد النخل وسعفه. وقال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن
__________
(1) . قوله لأنها تنقسم إلى نوعين أي الأمراض الغير الجسمانية بدليل قوله بعد وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية والعبارة في الفخر الرازي بغاية التهذيب فليراجع.(3/144)
اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبركم بما سألتم غدا، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثني عشر يوما وقيل: خمسة عشر يوما وقيل أربعين يوما وأهل مكة يقولون: قد وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ونزل في الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب، قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ونزل في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل: الروح هو القرآن لأن الله سماه روحا ولأن به حياة القلوب. وقيل: هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال. وتكلم قوم في ماهية الروح فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: هو عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان. وقيل: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل. وأقاويل الحكماء والصوفية في ماهية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بدليل قوله: قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ من علم ربي إِلَّا قَلِيلًا أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام. وقيل: هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علما لنبوته. والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح. قوله عز وجل وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل؟ قلت: المراد منه محو ما في المصاحف
وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود: «اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال:
يسرى عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا، ولا يجدون مما في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل. له(3/145)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب: ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي» إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود.
قوله سبحانه وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لا يقدرون على ذلك وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي عونا. نزلت حين قال المشركون: لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 93]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقيل: معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا. قوله سبحانه وتعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا: لن نؤمن لك. روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إليّ محمدا فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى. قالوا: فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك(3/146)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
جنات وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال: ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل.
فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فو الله ما أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك. فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا من مباعدتهم فأنزل الله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يعني أرض مكة يَنْبُوعاً أي عيونا أو أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي بستان فيه نخيل وعنب فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أي تشقيقا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا قال ابن عباس: كفيلا أي يكفلون بما تقول. وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول. وقيل: معناه تراهم مقابلة عيانا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب وأصله الزينة أَوْ تَرْقى أي تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية قُلْ أي قل يا محمد سُبْحانَ رَبِّي أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طوق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتين، ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 97]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي الوحي. والمعنى: وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم هي إنكارهم أن يرسل الله البشر وهو قوله تعالى إِلَّا أَنْ قالُوا أي جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وذلك أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا فأجابهم الله بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي مستوطنين مقيمين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي على أني رسوله إليكم وأني قد بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ يعني المنذرين والمنذرين خَبِيراً بَصِيراً أي عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكفار وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أي يهدونهم وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو(3/147)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ (ق) «عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم. قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون. فإن قلت: كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وقال سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع. قلت فيه أوجه: أحدها قال ابن عباس معناه عميا لا يبصرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون ما يسرهم. الوجه الثاني: قيل: معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى: ثم تعاد إليهم هذه الأشياء. الوجه الثالث: قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها. وقيل: ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى قال: لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو زِدْناهُمْ سَعِيراً أي وقودا وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه، وزيد في سعير النار لتحرقهم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 98 الى 101]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا لما ذكر الوعيد المتقدم قال: ذلك جزاؤهم بما كفروا يعني ذلك العذاب جزاؤهم بسبب كفرهم بآياتنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أجابهم الله ورد عليهم بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في عظمها وشدتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي في صغرهم وضعفهم وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت، وقيل يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وعنادا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن نعمه ورزقه وقيل: إن خزائن الله غير متناهية. والمعنى: لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي ممسكا بخيلا. فان قلت: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم، فكيف وصفه بالبخل؟ قلت: الأصل في الإنسان البخل، لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلالات واضحات. قال ابن عباس: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه، فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وقيل عوض فلق البحر، واليد والسنون ونقص من الثمرات وقيل: الطمس والبحر بدل السنين(3/148)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
والنقص. قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز، وقد صارت حجرا وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر: هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه. فإذا فيه بيض مكسر نصفين، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة. وقيل: التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر: لا تقل نبي. فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين، فأتياه فسألاه عن هذه الآية. ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا: نشهد إنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود فَسْئَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم إِذْ جاءَهُمْ يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قال ابن عباس: مخدوعا وقيل: مطبوبا أي سحروك وقيل معناه ساحرا معطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 102 الى 104]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
قالَ موسى لَقَدْ عَلِمْتَ خطابا لفرعون. قال ابن عباس: علمه فرعون ولكنه عانده ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الآيات التسع بَصائِرَ أي بينات يبصر بها وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: ملعونا. وقيل: هالكا. وقيل: مصروفا عن الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ معناه أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني أرض مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جميعا إلى موقف القيامة، واللفيف: الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل: أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل. وقيل: معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً يعني بالجنة للمطيعين وَنَذِيراً أي مخوفا بالنار للعاصين. قوله عز وجل وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق والباطل، وقيل: معناه أنزلنا نجوما لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على تؤدة وترسل في ثلاث(3/149)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي على حسب الحوادث قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فيه وعيد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ قيل: هم مؤمنو أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ قال ابن عباس: أراد بها الوجوه سُجَّداً أي يقعون على الوجوه سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تعظيما لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، من بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي كائنا واقعا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي خضوعا لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جهنم» أخرجه الترمذي والنسائي.
وزاد النسائي «في منخري مسلم أبدا» الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» أخرجه الترمذي قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده:
يا الله يا رحمن فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية ومعناه أنهما اسمان لله تعالى فسموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم أَيًّا ما تَدْعُوا ما صلة ومعناه أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم، أو من جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني إذا حسنت أسماؤه كلها فهذان الاسمان منها ومعنى كونها حسنى أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم والتمجيد وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (ق) عن ابن عباس في قوله: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلا زاد في رواية وابتغ بين ذلك سبيلا أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن وقيل نزلت الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول. (ق) عن عائشة «ولا تجهور بصلاتك ولا تخافت بها» قالت: نزل ذلك في الدعاء. وقيل: كان أعراب من بني تميم إذا سلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: اللهم ارزقنا مالا وولدا يجهرون بذلك فأنزل الله عز وجل «ولا تجهر بصلاتك أي لا ترفع صوتك بقراءتك ودعائك ولا تخافت بها» المخافتة خفض الصوت، والسكوت وَابْتَغِ أي اطلب بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا وسطا بين الجهر والإخفاء. عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك فقال إني أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلا وقال لعمر مررت بك، وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال: اخفض قليلا» أخرجه الترمذي وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يحمده على وحدانيته. وقيل: معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده. وقيل: إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ(3/150)
والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك، لم يكن مستحقا للحمد والشكر وكذا قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي. وقيل: إذا كان منزها عن الولد والشريك والولي كان مستوجبا لجميع أنواع المحامد. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أحب الكلام إلى الله أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت» أخرجه مسلم. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/151)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
سورة الكهف
وهي مكية وآياتها مائة وإحدى عشرة آية، وكلماتها ألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وحروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الكهف (18) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)
قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل له شيئا من العوج قط والعوج في المعاني، كالعوج في الأعيان والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وقيل معناه لم يجعله مخلوقا روي عن ابن عباس في قوله تعالى: «قرآنا عربيا غير ذي عوج» قال غير مخلوق.
[سورة الكهف (18) : الآيات 2 الى 10]
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
قَيِّماً أي مستقيما وقال ابن عباس: عدلا، وقيل قيما على الكتب كلّها مصدقا لها وناسخا لشرائعها لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً معناه لينذر الذين كفروا بأسا شديدا وهو قوله سبحانه وتعالى بعذاب بئيس مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً يعني الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين فيه أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي بالولد وباتخاذه يعني أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل مفرط. فإن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم. قلت انتفاء العلم يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به وَلا لِآبائِهِمْ أي ولا لأسلافهم من قبل كَبُرَتْ أي عظمت كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي هذا الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم(3/152)
وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا قيل حقيقة الكذب أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر قولهم عنه وزاد بعضهم مع علم قائله أنه غير مطابق وهذا القيل باطل لأن الله سبحانه وتعالى وصف قولهم بإثبات الولد بكونه كذبا مع أن الكثير منهم يقولون ذلك ولا يعلمون كونه باطلا فعلمنا أن كل خبر لا تطابق الخبر عنه فهو كذب والكذب خلاف الصدق، وقيل: هو الانصراف عن الحق إلى الباطل ورجل كذاب وكذوب إذا كان كثير الكذب. قوله عز وجل فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً أي حزنا وقيل غيظا إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها أي مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، وقيل يعني النبات والشجر والأنهار، وقيل أراد به الرجال خاصة فهم زينة الأرض، وقيل أراد به العلماء والصلحاء وقيل جميع ما في الأرض هو زينة لها. فإن قلت أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين. قلت زينتها كونها تدل على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، وقيل إن جميع ما في الأرض ثلاثة معدن ونبات وحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان، قيل الأولى أن لا يدخل في هذه الزينة المكلف، بدليل قوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ فمن يبلو يجب أن لا يدخل في ذلك ومعنى لنبلوهم نختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصلح عملا وقيل أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها أي من الزينة، صَعِيداً جُرُزاً يعني مثل أرض لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة والصعيد وجه الأرض وقيل هو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا ينبت فيه شيء، قوله سبحانه وتعالى أَمْ حَسِبْتَ أي أظننت يا محمد أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي هم عجب من آياتنا وقيل معناه أنهم ليسوا بأعجب آياتنا، فإن خلقنا من السموات والأرض وما فيهم من العجائب أعجب منهم والكهف الغار الواسع في الجبل، والرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم ثم وضع على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة، وعن ابن عباس أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقال كعب الأحبار: هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف ثم ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف فقال عز وجل من قائل إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي صاروا إليه، وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى وهو الطري من الشباب فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهب لنا الهداية والنصر والأمن من الأعداء وَهَيِّئْ لَنا أي أصلح لنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي حتى نكون بسببه راشدين مهديين وقيل معناه واجعل أمرنا رشدا كله.
ذكر قصة الكهف وسبب خروجهم إليه:
قال محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار مرج أمر أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكون بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله. فلما نزل مدينة أصحاب الكهف واسمها أفسوس استخفى منه أهل الإيمان وهربوا في كل وجه فاتخذ شرطا من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم بين القتل وبين عبادة الأصنام، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ويجعل ما قطع من أجسادهم على أسوار المدينة وأبوابها فلما عظمت الفتنة وكثرت ورأى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء، وكانوا من أشراف الروم وهم ثمانية نفر وبكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وجعلوا يقولون: «ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا» اكشف عن عبادك(3/153)
المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلاهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجودا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل فقال لهم الشرط ما خلفكم عن أمر الملك، ثم انطلقوا إلى الملك فأخبروه خبر الفتية فبعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة، وجوههم بالتراب فقال لهم ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة أهل مدينتكم اختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم، فقال مكسلينا وهو أكبرهم: إن لنا إلها ملء السموات والأرض عظمته لن ندعوا من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبدا اصنع بنا ما بدا لك. وقال أصحابه مثل ذلك فلما سمع الملك كلامهم أمر بنزع ثيابهم وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة وقال سأفرغ لكم وأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبانا حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه فترجعون إلى عقولكم. ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة أخرى قريبة منه لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا وخافوا إذا قدم أن يذكرهم، فأتمروا بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس «1» ، فيمكثوا فيه ويعبدوا الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فيصنع بهم ما يشاء فلما اتفقوا على ذلك عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم، وأتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فمكثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم الكلب: ما تريدون مني لا تخشوا مني أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس: هربوا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم الكلب فخرجوا من البلد إلى الكهف. قال ابن عباس: فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد ابتغاء لوجه الله عز وجل وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم اسمه تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة لبس ثيابا رثة كثياب المسلمين ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا. ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل فأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة فقال لهم تمليخا: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم وأطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع وذلك عند غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويذكر بعضهم بعضا فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان من الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد ظنوا أن بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة، قد كنت أجلت لهم أجلا ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا، فلما قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا: أما نحن لم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا إلى جبل يدعى ينجلوس فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يصنع
__________
(1) . قوله ينجلوس هكذا في بعض النسخ وفي بعضها مخلوس وفي حياة الحيوان منحلوس اهـ. [.....](3/154)
بالفتية فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يأمر بسد باب الكهف عليهم وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
فأمر دقيانوس بالكهف فسد عليهم وقال دعوهم كما هم في كهفهم يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله عز وجل أرواحهم وفاة نوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال. ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس واسم الآخر روناس اهتما أن يكتبا شأن هؤلاء الفتية، وأسماءهم وأنسابهم وأخبارهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه، وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وكان معهم كلب صيد لهم، وكان أحدهم وزير الملك فقذف الله سبحانه وتعالى الإيمان في قلوبهم فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه وقال في نفسه أخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لئلا يصيبني عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره وجلس إليه من غير أن يظهره على أمره ثم خرج آخر فخرجوا جميعا فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا ليخرج كل فتيين فيخلوا ويفشي كل واحد سره إلى صاحبه ففعلوا ذلك فإذا هم جميعا على الإيمان وإذا الكهف في جبل عظيم قريب منهم فقال بعضهم لبعض فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته. فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيد فناموا ثلاثمائة سنين وازداد تسعا، وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان الملك ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكون لهؤلاء شأن ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن. قال محمد بن إسحاق: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدروس فلما ملك بقي ملكه ثماني وستين سنة، فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح وتضرع إلى الله وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا الحياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد. وجعل بيدروس الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيرا وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلق بابه عليه، ولبس مسحا وجعل تحته رمادا فجلس عليه فدأب ليله ونهاره يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه. ثم إن الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية فيها، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه ذلك الكهف وكان اسمه أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ويبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما كان على باب الكهف، وفتحا باب الكهف وحجبهم الله تعالى عن الناس بالرعب فلما فتح باب الكهف أذن الله سبحانه وتعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا(3/155)
يستيقظون منها إذا أصبحوا من ليلتهم. ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كما كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم
ولا ألوانهم شيء ينكرونه وأنهم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: أنبئنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار، وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا: قد التمستم في المدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله، ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر فينا عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحدا، وابتع لنا طعاما فأتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعا، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع، فانطلق تمليخا خارجا فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه، ولا يشعر أن دقيانوس وأهله هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة كانت لأهل الإيمان. إذ كان أمر الإيمان ظاهرا فيهما فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها يمينا وشمالا ثم ترك ذلك الباب ومضى إلى باب آخر فرأى مثل ذلك فخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى أشخاصا كثيرة محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول يا ليت شعري ما هذا أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة في هذه المدينة ويستخفون بها واليوم ظاهرة لعلي نائم حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي في أسواقها فسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم، فزاده ذلك تعجبا ورأى أنه حيران فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدران المدينة وهو يقول في نفسه والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس كان على الأرض من يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ابن مريم لا يخاف، ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له ما اسم هذه المدينة يا فتى فقال اسمها أفسوس، فقال في نفسه لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج قبل أن يصيبني فيها شر فأهلك. فمضى إلى الذين يبتاعون الطعام فأخرج لهم الورق التي كانت معه وأعطاها رجلا منهم وقال له بعني بهذه الورق طعاما، فأخذها الرجل ونظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها فناولها رجلا آخر من أصحابه فنظر ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ويتشاورون بينهم، ويقول بعضهم لبعض: إن هذا أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان طويل فلما رآهم تمليخا يتحدثون فيه فرق فرقا شديدا وخاف وجعل يرعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس يأتونه ويتعرفونه فلا يعرفونه فقال لهم وهو شديد الخوف منهم: أفضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامك فلا حاجة لي به، فقالوا له يا فتى من أنت وما شأنك والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا انطلق معنا وأرناه وشاركنا فيه نخفف عليك ما وجدت، وإنك إن لم تفعل نحملك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال والله قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه، فقالوا له يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت وجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وخاف حتى لم يجر على لسانه إليهم شيء، فلما رأوه لا يتكلم
أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه وجعلوا يسحبونه في سكك المدينة حتى سمع به من فيها، وقيل قد أخذ رجل معه كنز فاجتمع عليه أهل المدينة وجعلوا(3/156)
ينظرون إليه ويقولون والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، وجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم، وكان متيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها، اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وهو يبكي والناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علي اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل يقول في نفسه فرقوا بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتونني فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار فإنا قد كنا تواثقنا على الإيمان بالله وأن لا نشرك به أحدا أبدا ولا نفترق في حياة ولا موت فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وطنطيوس ورأى أنه لم يذهب إلى دقيانوس، أفاق وذهب عنه البكاء وأخذ أريوس وطنطيوس الورقة ونظرا إليها وعجبا منها وقال أين الكنز الذي وجدت يا فتى فقال تمليخا: ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال له أحدهما: ممن أنت فقال تمليخا أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة فقيل له: ومن أبوك ومن يعرفك بها فأخبرهم باسم أبيه، فلم يوجد من يعرفه ولا أباه فقال له أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول غير أنه نكث بصره إلى الأرض فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون، وقال بعضهم ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم، فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا أتظن إنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه المدينة وضربها ولهذه الورقة أكثر من ثلاث مائة سنة وأنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ شمط وحولك سراة هذه المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار، وإنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته. فقال لهم تمليخا: أخبروني عما أسألكم عنه فإن أنتم فعلتم صدقتكم عما عندي، فقالوا له سل لا نكتمك شيئا، قال: فما فعل الملك دقيانوس فقال: ما نعرف على وجه الأرض من اسمه دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك في الزمان الأول وله دهر طويل وهلك بعده قرون كثيرة، فقال تمليخا: إني إذا لحيران وما يصدقني أحد من الناس فيما أقول لقد كنا فتية على دين الواحد وأن الملك أكرهنا على عبادة الأصنام والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس، فأتينا إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس فنمنا فيه فلما انتهينا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا معكم كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فلما سمع أريوس قول تمليخا قال يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله عز وجل لكم على يد هذا الفتى فانطلقوا بنا معه حتى يرينا أصحابه. فانطلق أريوس وطنطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه ظنوا أنه أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث بهم إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضا وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه. فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذ هم بأريوس وأصحابه وقوفا على
باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمن الطويل وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها. ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم فضة فوقف على الباب ودعا جماعة من عظماء أهل المدينة وأمر بفتح التابوت بحضرتهم(3/157)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومرطونس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوس وقالوس والكلب اسمه قطمير. كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر بهم فلما قرءوه عجبوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية تدلهم على البعث ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجدا لله وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا وأخبرهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس ثم أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك للناس آية لتكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث، وذلك أن فتية بعثهم الله وقد كان توفاهم منذ ثلاث مائة سنة وأكثر، فلما أتى الملك الخبر رجع عقله إليه وذهب همه وقال: أحمدك اللهم رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني ولم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح بيدروس الملك ثم أخبر بذلك أهل مدينته فركب وركبوا معه حتى أتوا مدينة أفسوس، فتلقاهم أهلها وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية بيدروس فرح بهم وخر ساجدا على وجهه وقام بيدروس الملك قدامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه. ثم قال الفتية لبيدروس الملك نستودعك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن. فبينما الملك قائم إذا هم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم، فقام الملك إليهم وجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في منامه فقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه، فأمر الملك عند ذلك بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، ولم يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر الملك أن يتخذوا على باب الكهف مسجدا يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما وأمر أن يؤتى كل سنة. وقيل إن تمليخا حمل إلى الملك الصالح فقال له الملك من أنت قال أنا رجل من أهل هذه المدينة، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وإن أسماءهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا: هم أصحابي فلما سمع الملك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل تمليخا فبشرهم فقبض الله روحه وأرواحهم وأعمى على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فذلك قوله عز وجل إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي صاروا إلى الكهف واسمه خيرم فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هداية في الدين وَهَيِّئْ لَنا أي يسر لنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي ما نلتمس منه رضاك وما فيه رشدنا، وقال ابن عباس: أي مخرجا من الغار في سلامة. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 11 الى 17]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)(3/158)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ألقينا عليهم النوم، وقيل منعنا نفوذ الأصوات إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي من نومهم لِنَعْلَمَ أي علم مشاهدة وذلك أن الله عز وجل لم يزل عالما، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي الطائفتين أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف. قوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي شبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً أي إيمانا وبصيرة وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف إِذْ قامُوا يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا أي الفتية رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأصنام لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً قال ابن عباس: يعني جورا وقيل كذبا يعني إن دعونا غير الله هؤُلاءِ قَوْمُنَا يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً يعني أصناما يعبدونها لَوْلا أي هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على عبادة الأصنام بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وزعم أنه له شريكا أو ولدا ثم قال بعضهم لبعض وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وذلك أنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي الجؤوا إليه يَنْشُرْ لَكُمْ أي يبسط لكم رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ أي يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم. قوله سبحانه وتعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ أي تميل وتعدل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ أي تتركهم وتعدل عنهم ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي متسع من الكهف ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصا لهم بالكرامة، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبدا لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها، ولكن اختار الله لهم مضجعا في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات الله أي إن شأنهم وحديثهم من آيات الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يضلله الله ولم يرشده فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا أي معينا مُرْشِداً أي يرشده. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 18 الى 20]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)(3/159)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
وَتَحْسَبُهُمْ خطاب لكل أحد أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم مفتحة وَهُمْ رُقُودٌ أي نيام وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ قال ابن عباس: كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، قيل كانوا يقلبون في يوم عاشوراء وقيل كانوا لهم في السنة تقلبتان وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قال ابن عباس: كان كلبا أغر وعنه أنه كان فوق القلطي ودون الكرزي. والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل كان شديد الصفرة يضرب إلى حمرة، وقال ابن عباس: كان اسمه قطمير وقيل ريان وقيل صهبان قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام بِالْوَصِيدِ أي فناء الكهف، وقيل عتبة الباب وكان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم، قيل كان ينقلب مع أصحابه فإذا انقلبوا ذات اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها، وإذا انقلبوا ذات الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ يا محمد لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا من وحشة المكان. وقيل لأن أعينهم مفتحة كالمتيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام وقيل لكثرة شعورهم، وطول أظفارهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار وقيل إن الله سبحانه وتعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد. قال ابن عباس: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف الله عن هؤلاء لنظرنا إليهم، فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك فقيل له لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا. فبعث معاوية ناسا فقال اذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقهم. قوله سبحانه وتعالى وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ يعني كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان بعثناهم من النومة التي تشبه الموت لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو رئيسهم وكبيرهم مكسلمينا كَمْ لَبِثْتُمْ أي في نومكم وذلك، أنهم استنكروا طول نومهم وقيل إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك قالُوا لَبِثْنا يَوْماً ثم نظروا فوجدوا الشمس قد بقي منها بقية فقالوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وقيل إن مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ يعني تمليخا بِوَرِقِكُمْ هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قيل هي ترسوس وكان اسمها في الزمن الأول قبل الإسلام أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل طعاما وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن، ولا تكون من ذبح من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقيل أطيب طعاما وأجود وقيل أكثر طعاما وأرخصه فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي قوت وطعام تأكلونه وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان وَلا يُشْعِرَنَّ أي ولا يعلمن بِكُمْ أَحَداً أي من الناس إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يعلموا بمكانكم يَرْجُمُوكُمْ قيل معناه يشتموكم ويؤذوكم بالقول وقيل يقتلوكم، وكان من عادتهم القتل بالحجارة وهو أخبث القتل وقيل يعذبوكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي الكفر وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن عدتم إليه. قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 25]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)(3/160)
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك فيها أنها آتية إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ. قال ابن عباس:
في البنيان فقال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني بنيانا لأنهم على ملتنا وقيل كان تنازعهم في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال قوم تبعث الأرواح فأراهم الله آية وأن البعث للأرواح والأجساد وقيل تنازعوا في مدة لبثهم وقيل في عددهم فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ يعني بيدروس وأصحابه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران كانوا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف عندهم فقال السيد وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي وقال العاقب وكان نسطوريا خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ وقال المسلمون سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على لسان جبريل صلّى الله عليه وسلّم بعد ما حكى قول النصارى أولا، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى رجما بالغيب أي ظنا وحدسا من غير يقين ولم يقل ذلك في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن هو قول النصارى وأن يكون قول المسلمين مخالفا لقول النصارى في كونه رجما بالغيب وظنا، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ هذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أو من أخبره الله سبحانه وتعالى بذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة وهم مكسلمينا «1» وتمليخا ومرطونس وبينونس وسارينوس ودنوانس وكشفيططنونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير فَلا تُمارِ فِيهِمْ.
أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي إلا بظاهر ما قصصنا عليك فقف عنده ولا تزد عليه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أي في أصحاب الكهف مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب أَحَداً أي لا ترجع إلى قول أحد منهم بعد أن أخبرناك قصتهم. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني إذا عزمت على فعل شيء غدا فقل إن شاء الله ولا تقله بغير استثناء، وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال أخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية وقد تقدمت القصة في سورة بني إسرائيل وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع، وإن كان بعد سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان، فإن بعد لم يصح ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام متصلا بالاستثناء وقيل في معنى الآية واذكر ربك إذا غضبت قال وهب مكتوب في التوراة والإنجيل ابن آدم «اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب» ، وقيل الآية في الصلاة يدل عليه ما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من نسي صلاة فليصلها إذ ذكرها» قال تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي متفق عليه زاد مسلم أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، وقيل إن الله سبحانه وتعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يذكره أو يهديه لما هو خير له من أن يذكر ما نسي وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله سبحانه
__________
(1) . قوله مكسلمينا وقع اختلاف كبير في أسمائهم وذكر في القاموس في ذلك ثلاثة أقوال فليراجع.(3/161)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
وتعالى أن يخبرهم أن الله سبحانه وتعالى سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث آتاه من علم غيب المرسلين وقصصهم مما هو أوضح وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل هذا شيء أمره الله أن يقوله مع قوله إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان قوله إن شاء الله فتوبته من ذلك أن يقول مع قوله إن شاء الله عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا. قوله عز وجل وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قيل هذا خبر عن قول أهل الكتاب ولو كان خبرا من الله عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله أعلم بما لبثوا وجه ولكن الله رد قولهم بقوله:
[سورة الكهف (18) : الآيات 26 الى 29]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا والأصح أنه إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ويكون معنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا، يعني إن نازعوك في مدة لبثهم في الكهف فقل أنت الله أعلم بما لبثوا أي هو أعلم منكم وقد أخبر بمدة لبثهم وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثمائة وتسع سنين فرد الله عليهم بذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله. فإن قلت لم قال سنين ولم يقل سنة، قلت قيل لما نزل قوله سبحانه وتعالى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا أياما أو شهورا أو سنين فنزلت سنين على وفق قولهم وقيل هو تفسير لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وازدادوا تسعا وقيل قالت نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت قل الله أعلم بما لبثوا. وقيل إن عند أهل الكتاب لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية والتفاوت بين القمرية والشمسية في كل مائة سنة ثلاث سنين فتكون الثلاثمائة الشمسية ثلاث مائة وتسع سنين قمرية لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها فإنه العالم وحده به فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ معناه ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع لا يغيب عن سمعه وبصره شيء يدرك البواطن كما يدرك الظواهر والقريب والبعيد والمحجوب وغيره لا تخفى عليه خافية ما لَهُمْ أي ما لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ أي من دون الله مِنْ وَلِيٍّ أي ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً قيل معناه لا يشرك الله في علم غيبه أحدا وقيل في قضائه. قوله تعالى وَاتْلُ أي واقرأ يا محمد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ يعني القرآن واتبع ما فيه واعمل به لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا مغير للقرآن ولا يقدر أحد على التطرق إليه بتغيير أو تبديل. فإن قلت موجب هذا أن لا يتطرق النسخ إليه. قلت النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا. وقيل معناه لا مغير لما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إن لم تتبع القرآن مُلْتَحَداً أي ملجأ وحرزا تعدل إليه. قوله عز وجل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من(3/162)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
الفقراء ومنهم سلمان وعليه صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك أي احبس يا محمد نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يعني طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون وجه الله لا يريدون عرض الدنيا، وقيل نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يرجعون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» وَلا تَعْدُ أي لا تصرف ولا تجاوز عَيْناكَ عَنْهُمْ إلى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف وَاتَّبَعَ هَواهُ أي في طلب الشهوات وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ضياعا ضيع أمره وعطل أيامه، وقيل ندما وقيل سرفا وباطلا وقيل مخالفا للحق وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلي من
ذلك شيء فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله «اعملوا ما شئتم» وقيل معنى الآية وقل الحق من ربكم أي لست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم نارا وإن آمنتم فلكم ما وصف الله لأهل طاعته، وعن ابن عباس في معنى الآية: من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا من العتاد وهو العدة لِلظَّالِمِينَ أي الكافرين ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها السرادق الحجزة التي تطيف بالفساطيط عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «قال سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة» أخرجه الترمذي قال ابن عباس: هو حائط نار وقيل هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة وقيل هو دخان يحيط بالكفار وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي من شدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال ابن عباس: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله سبحانه وتعالى بماء كالمهل قال: «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه منه» أخرجه الترمذي. وقال رشدين أحد رواة الحديث قد تكلم بفيه من قبل حفظة الفروة جلدة الوجه وقيل المهل الدم والقيح وقيل هو الرصاص والصفر المذاب يَشْوِي الْوُجُوهَ أي ينضج الوجوه من حره بِئْسَ الشَّرابُ أي ذلك الذي يغاثون به وَساءَتْ أي النار مُرْتَفَقاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: منزلا وقيل مجتمعا وأصل المرتفق المتكأ وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا متكأ. قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي لا نترك أعمالهم الصالحة وقيل إن قوله إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا كلام معترض وتقديره إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي دار إقامة سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وذلك لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل يحلى كل إنسان منهم ثلاثة أساور سوار(3/163)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
من ذهب لهذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى «وحلوا أساور من فضة» وسوار من لؤلؤ لقوله «ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير» وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ هو الديباج الرقيق وَإِسْتَبْرَقٍ هو الديباج الصفيق الغليظ وقيل السندس المنسوج بالذهب مُتَّكِئِينَ خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولما وصف الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء قال نِعْمَ الثَّوابُ أي نعم الجزاء وَحَسُنَتْ أي الجنات مُرْتَفَقاً أي مقرا ومجلسا، والمراد بقوله وحسنت مرتفقا مقابلة ما تقدم ذكره من قوله سبحانه وتعالى وساءت مرتفقا. قوله عز وجل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ قيل نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم وهما أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل وكان مؤمنا وأخوه الأسود بن عبد الأسود وكان كافرا وقيل هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه وسلمان وأصحابه وشبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه قطروس وهما اللذان وصفهما الله سبحانه وتعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما ذكره عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف وإني قد اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا اللهم إني أشتري منك خدما ومتاعا بألف دينار في الجنة فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في خدمه وحشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه فقال فلان، قال نعم قال ما شأنك قال أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال فما فعلت بمالك وقد قاسمتك مالا وأخذت شطره، فنص عليه قصته فقال وإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده، فقضي لهما فتوفيا فنزل فيهما قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أمواله فنزل فيهما «واضرب لهم مثلا رجلين» جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ أي وجعلنا بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما أي أطفناهما من جوانبهما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أي بين النخل والأعناب الزرع وقيل بينهما أي بين الجنتين، يعني لم يكن بين الجنتين خراب بغير زرع كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أي أعطت كل واحدة من الجنتين أُكُلَها أي ثمرها تماما وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي ولم تنقص منه شيئا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما شققنا وسطهما نَهَراً.
[سورة الكهف (18) : الآيات 34 الى 44]
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(3/164)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
وَكانَ لَهُ أي لصاحب البستان ثَمَرٌ قرئ بالفتح جمع ثمرة وقرئ بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما فَقالَ يعني صاحب البستان لِصاحِبِهِ يعني المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يخاطبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي عشيرة ورهطا وقيل خدما وحشما وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يعني الكافر آخذا بيد أخيه المؤمن يطوف به فيها ويريه إياها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بكفره فتوهم أنها لا تفنى أبدا وأنكر البعث فقال وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي فإن قلت كيف قال ولئن رددت إلى ربي وهو منكر للبعث قلت معناه ولئن رددت إلى ربي على ما نزعم من أن الساعة آتية لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي يعطيني هناك خيرا منها لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك من تراب لأن خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقا له ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي عداك بشرا سويا وكملك إنسانا ذكرا بالغ مبلغ الرجال لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي مجازه لكن أنا هو الله ربي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا أي هلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها ما شاء الله اعترافا بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله تعالى وفضله وأن أمرها بيده وأنه إن شاء تركها عامرة وإن شاء تركها خرابا لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي وقلت لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها بمعونة الله وتأييده ولا أقدر على حفظ مالي ودفع شيء عنه إلا بالله. روي عن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء لا قوة إلا بالله الحائط البستان إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً أي لأجل ذلك تكبرت علي وتعظمت فَعَسى رَبِّي أي فلعل ربي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ يعني في الآخرة وَيُرْسِلَ عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً قال ابن عباس: نارا، وقيل مرامي مِنَ السَّماءِ وهي الصواعق فتهلكها فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها وقيل تزلق فيها الأقدام وقيل رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا ذاهبا لا تناله الأيدي ولا الدلاء فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً يعني إن طلبته لم تجده وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ يعني أحاط العذاب بثمر جنته وذلك أن الله تعالى أرسل عليها من السماء نارا فأهلكها وغار ماؤها فَأَصْبَحَ يعني صاحبها الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ يصفق بكف على كف ويقلب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها المعنى فأصبح يندم على ما أنفق في عمارتها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة سقوفها وقيل إن كرومها المعرشة سقطت عروشها في الأرض وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يمنعونه من عذاب الله وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا لا يقدر على الانتصار لنفسه وقيل معناه لا يقدر على رد ما ذهب منه. قوله سبحانه وتعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ قرئ بكسر الواو يعني السلطان في القيامة لِلَّهِ الْحَقِّ وقرئ بفتحها من الموالاة والنصرة، يعني أنهم يتولونه يومئذ ويتبرؤون مما كانوا يعبدون من دونه في الدنيا هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب وَخَيْرٌ عُقْباً يعني عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير إثابة وعاقبة قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 48]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)(3/165)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
وَاضْرِبْ لَهُمْ أي اضرب يا محمد لقومك مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ يعني المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي خرج منه كل لون وزهرة فَأَصْبَحَ أي عن قريب هَشِيماً قال ابن عباس:
يابسا تَذْرُوهُ الرِّياحُ قال ابن عباس: تذريه تفرقه وتنسفه وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي قادرا قوله سبحانه وتعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ يعني التي يفتخر بها عيينة وأصحابه الأغنياء زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني ليست من زاد الآخرة، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة وقد يجمعهما لأقوام وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قال ابن عباس: هي قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «استكثروا من قول الباقيات الصالحات. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله» . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتفعوا. قلت: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قلت: وما الرتع؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب عن سعيد بن المسيب أن الباقيات الصالحات هي قول العبد الله أكبر وسبحان الله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله أخرجه مالك في الموطأ موقوفا عليه وعن ابن عباس أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس وعنه أنها الأعمال الصالحة خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وَخَيْرٌ أَمَلًا أي ما يؤمله الإنسان. قوله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نذهب بها وذلك أن تجعل هباء منثورا كما يسير السحاب وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي ظاهرة ليس عليها شجر ولا جبل ولا بناء وقيل هو بروز ما في بطنها من الموتى وغيرهم فيصير باطن الأرض ظاهرها وَحَشَرْناهُمْ يعني جميعا إلى موقف الحساب فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك منهم أحدا عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
أي صفا صفا وفوجا فوجا لأنهم صف واحد وقيل قياما كل أمة وزمرة صف ثم يقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
يعني أحياء وقيل حفاة عراة غرلالْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
يعني القيامة يقول ذلك لمنكر البعث (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم قال: فيقال لي إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. زاد في رواية فأقول سحقا سحقا» قوله غرلا أي قلفا والغرلة القلفة التي تقع من جلد الذكر وهو موضع الختان، وقوله سحقا أي بعدا، قال بعض العلماء: إن المراد بهؤلاء أصحاب الردة الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة بعده (ق) عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلا» . قالت عائشة: فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال: «الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» . زاد النسائي في رواية «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» .
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 49 الى 51]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)(3/166)
وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني صحائف أعمال العباد توضع في أيدي الناس في أيمانهم وشمائلهم، وقيل توضع بين يدي الله تعالى فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ أي خائفين مِمَّا فِيهِ يعني من الأعمال السيئة وَيَقُولُونَ يعني إذا رأوها يا وَيْلَتَنا أي يا هلاكنا وكل من وقع في هلكة دعا بالويل مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً أي من ذنوبنا الصغيرة إِلَّا أَحْصاها أي عدها وكتبها وأثبتها فيه وحفظها، قال ابن عباس:
الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم واللمس والقبلة والكبيرة الزنا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا في بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فانضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات» الحقير الشيء الصغير التافه وقوله لموبقات أي مهلكات. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي مكتوبا أي مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا ولا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» أخرجه الترمذي. وقال لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قُلْنا أي واذكر يا محمد إذ قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ قال ابن عباس: كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم وقال الحسن: كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله سبحانه وتعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا، وذلك أن قريشا قالت الملائكة بنات الله، فهذا يدل على أن الملك يسمى جنا ويعضده اللغة لأن الجن مأخوذ من الاجتنان، وهو الستر فعلى هذا تدخل الملائكة فيه فكل الملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة، ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه وتعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل ويصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة ووجه من قال إنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة قوله كان من الجن والجن جنس مخالف للملائكة قوله أفتتخذونه وذريته فأثبت له ذرية والملائكة لا ذرية لهم، وأجيب عن الاستثناء أنه استثناء منقطع وهو مشهور في كلام العرب قال الله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وقال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً قيل إنه كان من الملائكة فلما خالف الأمر مسخ وغير وطرد ولعن. وقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعة ربه أَفَتَتَّخِذُونَهُ يعني يا بني آدم أفتتخذون إبليس وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ يعني أعداء روى مجاهد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل رجل فقال أخبرني هل لإبليس زوجة قلت إن ذلك العرس ما شهدته ثم ذكرت قول الله عز وجل أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم، قيل يتوالدون كما يتوالد ابن آدم. وقيل إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. قال مجاهد: من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف ومره وبه يكنى، وزلنبور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع وبتر وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجيزة المرأة، ومطموس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحسن موضعه وإذا أكل ولم يسم أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه(3/167)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
وخاصمتهم ثم أذكر فأقول داسم داسم أعوذ بالله منه، روى أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» أخرجه الترمذي. (م) عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذاك
شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت» قال الأعمش أراه قال فيلتزمه. وقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا يعني بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم وطاعته. قوله سبحانه وتعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرتهم يعني إبليس وذريته وقيل الكفار وقيل الملائكة خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ والمعنى ما أشهدتهم خلقها فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ يعني الشياطين الذين يضلون الناس عَضُداً يعني أنصارا وأعوانا. قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 60]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا يعني يقول الله تعالى يوم القيامة نادوا شُرَكائِيَ يعني الأصنام الَّذِينَ زَعَمْتُمْ يعني أنهم شركائي فَدَعَوْهُمْ أي فاستغاثوا بهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يجيبوهم ولم ينصروهم وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يعني بين الأصنام وعبدتها وقيل بين أهل الهدى وبين أهل الضلال مَوْبِقاً يعني مهلكا قال ابن عباس:
هو واد في النار وقيل نهر تسيل منه نار وعلى حافتيه حيات مثل البغال الدهم وقيل كل حاجز بين شيئين فهو موبق وأصله الهلاك وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ أي المشركون النَّارَ فَظَنُّوا أي أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي داخلوها وواقعون فيها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا لأنها أحاطت بهم من كل جانب وقيل لأن الملائكة تسوقهم إليها. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي ليتذكروا ويتعظوا وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي خصومة في الباطل قال ابن عباس: أراد النضر بن الحارث وجداله في القرآن وقيل أراد به أبي بن خلف وقيل أراد به جميع الكفار وقيل الآية على العموم وهو الأصح (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصليان» . فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله تعالى فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئا ثم سمعته(3/168)
يقول وهو مول يضرب فخذه بيده «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» قوله عز وجل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى يعني القرآن وأحكام الإسلام والبيان من الله تعالى وقيل إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ والمعنى أنه لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان والاستغفار إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يعني سنتنا بإهلاك الأولين إن لم يؤمنوا وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قال ابن عباس: أي عيانا من المقابلة وقيل فجأة. قوله سبحانه وتعالى وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي بالثواب على الطاعة وَمُنْذِرِينَ بالعقاب لمن عصى وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ هو قولهم «أبعث الله بشرا رسولا» وقولهم للرسل «ما أنتم إلا بشر مثلنا» وشبه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليبطلوا بِهِ الْحَقَّ ويزيلوه وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً فيه إضمار يعني اتخذوا ما أنذروا به وهو القرآن استهزاء. قوله عز وجل وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ أي وعظ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها أي تولى عنها وتركها ولم يؤمن بها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي ما عمل من المعاصي من قبل إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ يريد لئلا يفهموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا وصما وَإِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد إِلَى الْهُدى أي الدين فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا يؤمنون وَرَبُّكَ الْغَفُورُ أي البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ أي الموصوف بالرحمة لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي يعاقب الكفار بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ أي في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يعني البعث والحساب لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي ملجأ وَتِلْكَ الْقُرى قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أي كفروا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي أجلا لإهلاكهم. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ الآيات أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران من سبط لاوي بن يعقوب صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة. وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا من أولاد يوسف بن يعقوب وكان قد تنبأ قبل موسى بن عمران. والقول الأول أصح بدليل أن الله سبحانه وتعالى في كتابه لم يذكر العزيز موسى إلا أراد به صاحب التوراة فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ولو أراد شخصا آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران صاحب التوراة وأما فتاه فالأصح أنه يوشع ابن نون بن أفرا ثم ابن يوسف وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته، وقيل إنه أخو يوشع وقيل فتاة يعني بده بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقل أحدكم عبده وأمتي وليقل فتاي وفتاتي» . (ق) عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس أن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى
عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسأل أي الناس أعلم فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به قال: فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما، فاضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به. فقال له فتاه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا فقال موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال رجعا فقصا آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب أبيض فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام فقال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني ما علمت رشدا، قال: إنك لن تستطيع(3/169)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
معي صبرا، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله لا أعلمه فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها «لقد جئت شيئا إمرا قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا: قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كانت الأولى من موسى نسيانا قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى:
«أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» قال وهذه أشد من الأولى قال «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من ولدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض» أي مائلا فقال الخضر بيده هكذا فأقامه فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا «لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يرحم الله موسى، لوددت أنه صبر يقص علينا من أخبارهما» قال سعيد بن جبير فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين. وفي رواية عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام موسى عليه السلام ذكر الناس يوما حتى إذا ما فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله تعالى. فقال بلى قال أي رب وأين هو قال بمجمع البحرين قال خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح. وفي رواية تزود حوتا مالحا فإنه حيث يفقد الحوت زاد في رواية وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ورجعنا إلى التفسير. قوله سبحانه وتعالى لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قيل أراد بحر فارس والروم ما يلي المشرق وقيل طنجة وقيل إفريقية أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً يعني أو أسير دهرا طويلا. والحقب ثمانون سنة فحمل خبزا وسمكة مالحة في المكتل وهو الزنبيل الذي يسع خمسة عشر صاعا ومضيا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين وعندها عين تسمى عين الحياة لا تصيب شيئا إلا حيي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وهاجت ودخلت في البحر.
[سورة الكهف (18) : الآيات 61 الى 62]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)
فَلَمَّا بَلَغا يعني موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي بين البحرين نَسِيا أي تركا حُوتَهُما.
وإنما كان الحوت مع يوشع بن نون، وهو الذي نسيه وإنما أضاف النسيان إليهما تزواده لسفرهما وقيل المراد من قوله نسيا حوتهما أي نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول للمطلوب.
فَاتَّخَذَ أي الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي مسلكا. وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لم يلتئم فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر» . قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى صار صخرة، وقد روينا أنهما لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله(3/170)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره فانطلقا حتى إذا كان من الضد وهو قوله سبحانه وتعالى فَلَمَّا جاوَزا يعني ذلك الموضع وهو مجمع البحرين قالَ يعني موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي طعامنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا وشدة وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع في طلبه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 63 الى 71]
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)
قالَ يعني يوشع أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ وهي صخرة كانت بالموضع الموعود فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي تركته وفقدته، وذلك أن يوشع حين رأى من الحوت ذلك قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره، فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد ثم قال وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان، قيل المراد من النسيان شغل قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي فعله دون النسيان الذي يضاد الفكر لأن ذلك لا يصح إلا من قبل الله تعالى وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قيل هذا من قول يوشع بن نون يعني وقع الحوت في البحر فاتخذ سبيله فيه مسلكا. وروي في الخبر كان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا وقيل أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه دهرا ثم صار حيا بعد ما أكل بعضه. قوله عز وجل قالَ يعني موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ نطلب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا يقصان الذي جاءا منه ويتبعانه فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا قيل كان ملكا من الملائكة والصحيح الذي ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء في التواريخ أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل كان من بني إسرائيل وقيل كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا والخضر لقب له، سمي به لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت. (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء» ، الفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة وقيل سمي خضرا لأنه كان إذا صلّى اخضر ما حوله. وروينا أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام قال: أنا موسى أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. ومعنى مسجى بثوب أي مغطى بثوب وقوله وأنى بأرضك السلام معناه من أين بأرضك التي أنت فيها الآن السلام. وروي أنه لقيه على طنفسة خضراء على جانب البحر فذلك قوله سبحانه وتعالى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً أي نعمة مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علم الباطن إلهاما ولم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم. فإن قلت ظاهر الآيات يدل على أن الخضر كان أعلى شأنا من موسى وكان موسى يظهر التواضع له والتأدب معه. قلت لا يخلو إما أن يكون الخضر من بني إسرائيل أو من غيرهم فإن كان من بني إسرائيل فهو من أمة موسى، ولا جائز أن يكون أحد الأمة أفضل من نبيها أو أعلى شأنا منه، وإن كان من غير بني إسرائيل فقد قال الله تعالى لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانكم قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ معناه جئت لأصحبك وأتبعك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي صوابا وقيل علما ترشدني به. وفي بعض(3/171)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
الأخبار قال الخضر لموسى: كفى بالتوراة علما وبني إسرائيل شغلا، فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فحينئذ قالَ الخضر لموسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى أمورا منكرة ولا يجوز للأنبياء الصبر مع المنكرات ثم بين عذره في ترك الصبر فقال وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي علما قالَ موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً إنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي أخالفك فيما تأمرني به قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أي فإن صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه شرط عليه ثم شرطا فقال فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أي مما أعمله مما تنكره ولا تعترض عليه حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً معناه حتى أبتدئ بذكره فأبين لك شأنه. قوله سبحانه وتعالى فَانْطَلَقا أي يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة هؤلاء لصوص، وأمروهما بالخروج فقال صاحب السفينة ما هم بلصوص ولكن أرى وجوه الأنبياء. وروينا عن أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، أي بغير عوض ولا عطاء، فلما لججوا في البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة فذلك» قوله تعالى حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ يعني موسى له أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي أتيت شيئا عظيما
منكرا. روي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق.
[سورة الكهف (18) : الآيات 72 الى 77]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)
قالَ العالم وهو الخضر أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ يعني موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ. قال ابن عباس: لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئا آخر. وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك وقال أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا» وَلا تُرْهِقْنِي أي لا تغشني مِنْ أَمْرِي عُسْراً والمعنى لا تعسر علي متابعتك وسيرها بالاغضاء وترك المناقشة وقيل لا تكلفني مشقة ولا تضيق علي أمري. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان، يلعبون فأخذ الخضر غلاما ظريفا وضيء الوجه كان وجهه يتوقد حسنا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه. وروى عبد الرزاق هذا الخبر وفيه أشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه. وروي أنه رضخ رأسه بحجر وقيل ضرب رأسه بالجدار فقتله. قال ابن عباس:
كان غلاما لم يبلغ الحنث ولم يكن نبي الله موسى يقول أقتلت نفسا زاكية، إلا وهو صبي لم يبلغ الحنث، وقيل كان رجلا وقيل كان اسمه حيسور وقيل كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه. وقيل كان غلاما يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه. (ق) عن أبي بن كعب قال: قال رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» لفظ مسلم قالَ يعني موسى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي لم تذنب قط وقرئ زكية وهي التي أذنبت ثم تابت بِغَيْرِ نَفْسٍ أي لم تقتل نفسا حتى يجب عليها القتل لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا عظيما، وقيل النكر أعظم من الأمر لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة خوف الهلاك، وقيل الأمر أعظم لأن فيه تغريق جمع كثير، وقيل معناه لقد جئت شيئا أنكر من الأول لأن ذاك كان خرقا(3/172)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
يمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه قالَ يعني الخضر أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قيل زاد في هذه الآية قوله لك لأنه نقض العهد مرتين، وقيل إن هذه اللفظة توكيد للتوبيخ فعند هذا قالَ موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قيل إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه، قال موسى إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني، أي فارقني لا تصاحبني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قال ابن عباس: أي قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقيل معناه اتضح لك العذر في مفارقتي والمعنى أنه مدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرتين أولا وثانيا مع قرب المدة (ق) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رحمة الله علينا وعلى موسى وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فلو صبر لرأى العجب» قوله ذمامة هو بذال معجمة أي حياء وإشفاق من الذم واللوم، يقال ذممته ذمامة يعني لمته ملامة ويشهد له قول الخضر هذا فراق بيني وبينك.
قوله سبحانه وتعالى فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس: يعني أنطاكية وقيل الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء وقيل هي بلدة بالأندلس اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما قال أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجلس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما» . وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم فلم يضيفوهما. وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم. وعن قتادة قال: شر القرى التي لا تضيف الضيف فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يسقط وهذا من مجاز الكلام لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها، فاستعير لها النظر كما أستعير للجدار الإرادة. فَأَقامَهُ أي سواه، وفي حديث أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال الخضر بيده هكذا فأقامه وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه. قالَ يعني موسى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على إصلاح الجدار جعلا والمعنى أنك قد علمت أنا جياع، وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو اتخذت على عملك أجرا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 78 الى 82]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
قالَ يعني الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل إن هذا الإنكار على ترك أخذ الأجر هو المفرق بيننا سَأُنَبِّئُكَ أي سوف أخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً وقيل إن موسى أخذ بثوب الخضر وقال أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال الخضر أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ قيل كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر، أي يؤجرونها ويكتسبون بها، وفيه دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئا لا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملكه بكفايته، وإن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين، لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وقيل خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي كل سفينة صالحة فخرقتها وعبتها حتى لا يأخذها(3/173)
الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي والأزدي وكان كافرا وقيل اسمه هدد بن بدد، روي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال أردت إذا هي تمر به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها وانتفعوا بها. قوله عز وجل وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أي خفنا والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه، وقيل معناه فعلمنا أَنْ يُرْهِقَهُما أي يغشيهما وقيل يكلفهما طُغْياناً وَكُفْراً قيل معناه فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه على دينه فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما الإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وتقوى، وقيل هو في مقابلة قوله تعالى «أقتلت نفسا زاكية» فقال الخضر أردنا أن يرزقهما الله خيرا منه زكاة وَأَقْرَبَ رُحْماً أي ويكون المبدل منه أقرب عطفا ورحمة لأبويه، بأن يبرهما ويشفق عليهما قيل أبدلهما جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه أمة من الأمم وقيل ولدت سبعين نبيا، وقيل أبدلهما بغلام مسلم وقيل إن الغلام الذي قتل فرح به أبواه حين ولد وحزن عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله سبحانه وتعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
قوله سبحانه وتعالى وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قيل كان اسمهما أصرم وصريم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كان الكنز ذهبا وفضة» أخرجه الترمذي. وقيل كان الكنز صحفا فيها علم. وقال ابن عباس: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالقدر كيف يغضب، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه. وقيل الكنز إذا أطلق يراد به المال ومع التقييد يراد به غيره، يقال عند فلان كنز علم وكان هذا اللوح جامعا لهما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل إن اسمه كاشح وكان من الأتقياء، قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، وقيل كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله سبحانه وتعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم وقال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي يدركا ويعقلا قوتهما، وهو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة. فإن قلت كيف قال في الأولى فأردت وفي الثانية فأردنا وفي الثالثة فأراد ربك وما وجه كل واحدة في هذه الألفاظ. قلت إنه لما ذكر العيب أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع الله تعالى، فقال فأردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنه من العلماء العظماء في علم الباطن وعلوم الحكمة، وأنه لم يقدم على مثل هذا القتل إلا بحكمة عالية، ولما ذكر رعاية المصالح في مال اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله سبحانه وتعالى لأن حفظ الأبناء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله سبحانه وتعالى، فلأجل ذلك أضافه إلى الله تعالى وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما يعني إذا بلغا وعقلا وقويا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي نعمة من ربك وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه إياي لأن تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أصولهم، لا يكون إلا بالنص وأمر الله تعالى.
واستدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري على أنه الخضر كان نبيا لأن هذا يدل على الوحي وذلك للأنبياء، والصحيح أنه ولي لله وليس بنبي. وأجيب عن قوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري إنه إلهام من الله سبحانه وتعالى له بذلك، وهذه درجة الأولياء. وقيل معناه إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنها بأسرها ترجع إلى معنى واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.
ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي لم تطق أن تصبر عليه. روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن(3/174)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
يفارق الخضر قال: أوصني قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلب العلم لتعمل به. واختلف العلماء في أن الخضر حي أم ميت فقيل إنه حي وهو قول الأكثرين من العلماء وهو متفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة والحكايات في رؤيته والاجتماع به، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة. هذا آخر كلامه، وقيل إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان السبب في حياة الخضر فيما حكي أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذو القرنين دخل الظلمة لطلب عين الحياة، وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فاغتسل وشرب منها وصلى شكرا لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، فرجع وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله سبحانه وتعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما صلى العشاء ليلة «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 91]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
وقوله عز وجل وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قيل اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح وقيل اسمه الإسكندر بن فيلفوس كذا صح الرومي، وكان ولد عجوز ليس لها ولد غيره ونقل الإمام فخر الدين في تفسيره عن أبي الريحان السروري المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أنه من حمير واسمه أبو كرب سمي ابن عير بن أبي أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم مرشد
فرآى مآب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأطة حرمد
قوله فرأى مآب الشمس، أي ذهاب الشمس وقوله في عين ذي خلب أي حمأة، والثأطة الحمأة أيضا والجمع ثأط والحرمد الطين الأسود. وقيل سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقيل لأنه ملك فارس والروم وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس وقيل لأنه كان له ذؤابتان حسنتان، وقيل كان له قرنان تواريهما العمامة، وروي عن علي أنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله. واختلفوا في نبوته فقيل كان نبيا ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى قلنا يا ذا القرنين وخطاب الله لا يكون إلا مع الأنبياء وقيل لم يكن نبيا. قال أبو الطفيل: سئل علي عن ذي القرنين أكان نبيا فقال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله وناصح الله، فناصحه الله. وروي أن عمر سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال تسميتم بأسماء الأنبياء، فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة والأصح الذي عليه الأكثرون أنه كان ملكا صالحا عادلا وأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب وهذا هو القدر المعمور من الأرض، وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن دان له طوائف ثم مضى إلى ملوك العرب وقهرهم، ومضى حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم رجع إلى مصر وبنى الإسكندرية، وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بيت المقدس وقرب فيه(3/175)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
القربان، ثم انعطف إلى أرمينية وبوب الأبواب وبنى السد ودانت له ملوك العراق والنبط والبربر. واستولى على ممالك الفرس ثم مضى إلى الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ثم رجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها وحمل إلى حيث هو مدفون وقيل إن عمره كان ألفا وثلاثين سنة ومثل هذا الملك البسيط الذي هو على خلاف العادات وجب أن يبقى ذكره مخلدا على وجه الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي خبرا يتضمن حاله. قوله سبحانه وتعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي وطأنا له والتمكين تمهيد الأسباب، قال علي سخر الله له السحاب فحمل عليه ومد له في الأسباب، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طريقها. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ما يحتاج إليه الخلق وكل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء سَبَباً أي علما يتسبب به إلى كل ما يريده ويسير به في أقطار الأرض وقيل بلاغا إلى حيث أراد، وقيل قربنا له أقطار الأرض فَأَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حماة وهي الطينة السوداء، وقرئ حامية أي حارة، وسأل معاوية كعبا: كيف تجد في التوراة تغرب الشمس وأين تغرب؟ قال: نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين. وقيل يجوز أن يكون معنى في عين حمئة أي عندها عين حمئة، أو في رأي العين، وذلك أنه بلغ موضعا من المغرب لم يبق بعده شيء من العمران فوجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة. كما أن راكب البحر يرى أن الشمس كأنها تغيب في البحر وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أي عند العين أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب يقال إنها الجاسوس واسمها بالسريانية حريحسا سكنها قوم من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح لولا ضجيج أهلها، لسمع الناس وجبة الشمس حين تجب أي تغيب قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ يستدل بهذا من يزعم أنه كان نبيا فإن الله خاطبه ومن قال إنه لم يكن نبيا قال المراد منه الإلهام وقيل يحتمل أن يكون الخطاب على لسان غيره إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ يعني تقتل من لم يدخل في الإسلام.
وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يعني تعفو وتصفح وقيل تأسرهم فتعلمهم الهدى، خيره الله سبحانه وتعالى بين الأمرين قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي كفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي نقتله ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أي في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي منكرا يعني بالنار لأنها أنكر من القتل وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى أي جزاء أعماله الصالحة وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا ومنازل حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً قيل إنهم كانوا في مكان ليس بينهم وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر عليهم بناء، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم تحت الأرض، فإذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقيل إنهم كانوا إذا طلعت الشمس نزلوا في الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، وقيل هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقيل إنهم قوم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم جابلق واسمها بالسريانية مرقيسيا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج. قوله سبحانه وتعالى كَذلِكَ أي كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، وقيل معناه أنه حكم في القوم الذين هم عند مطلع الشمس كما حكم في القوم الذين عند مغربها وهو الأصح.
وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي علما بما عنده ومن معه من الجند والعدة وآلات الحرب، وقيل معناه وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية بذلك الملك والاستقلال به والقيام بأمره. قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 94]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)(3/176)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هما هنا جبلان في ناحية الشمال في منقطع أرض الترك حكي أن الواثق بعث بعض من يثق به من أتباعه إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً أي أمام السدين قيل هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قال ابن عباس: لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فإن قلت كيف أثبت لهم القول وهم لا يفهمون. قلت تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم، وقيل معناه لا يكادون يفقهون قولا إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم الخرس إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم، وهم من أولاد يافث بن نوح والترك منهم قيل إن طائفة منهم خرجت تغير فضرب ذو القرنين السد فبقوا خارجه فسموا الترك لذلك لأنهم تركوا خارجين. قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس «هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء» وروى حذيفة مرفوعا «أن يأجوج ومأجوج أمة، وكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه قد حمل السلاح، وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا، وقال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية.
وعن علي: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول. وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم «1» ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز. فلما بلغ كان عبدا صالحا قال الله سبحانه وتعالى إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس. يقال له ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال ذو القرنين بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم؟
فقال الله تعالى إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك، فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك. فانطلق حتى أتى مغرب الشمس، فوجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد، فدعاهم إلى الله تعالى وعبادته فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جندا عظيما وانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم، حتى أتى هاويل ففعل فيهم كفعله في ناسك ثم مضى حتى أتى منسك ففعل فيهم كفعله في الأمتين، وجند منهم جندا عظيما ثم أخذ ناحية اليسرى فأتى تأويل ففعل بهم كفعله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض. فلما كان فيما يلي منقطع الترك مما يلي المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض، وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا شك أنهم يتملكون الأرض ويظهرون عليها
__________
(1) . قوله. احتلم، هذا مردود فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الشيطان، والاحتلام من الشيطان اهـ من هامش.(3/177)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
ويفسدون فيها فهل نجعل لك خرجا، على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ قال: «ما مكّنّي فيه ربي خير» وقال أعدو إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
فانطلق حتى توسط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخالب وأضراس كالسباع، ولهم هدب شعر يواري أجسادهم، ويتقون به من الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى، يصيف في واحدة ويشتي في واحدة، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا فلما عاين ذو القرنين ذلك انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما وحفر له الأساس حتى بلغ الماء فذلك قوله تعالى قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه وأدخلوه أرضهم، فلقوا منهم أذى شديدا وقيل فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل معناه أنهم سيفسدون عند خروجهم فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا وأجرا من الأموال عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي حاجزا فلا يصلون إلينا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 95 الى 98]
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قالَ لهم ذو القرنين ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما قواني به ربي خير من جعلكم فَأَعِينُونِي يعني لا أريد منكم المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي سدا قالوا وما تلك القوة؟ قال فعلة وصناع يحسنون البناء والآلة. قالوا وما تلك الآلة؟ قال: آتُونِي أي أعطوني وقيل جيئوني «1» زُبَرَ الْحَدِيدِ أي قطع الحديد فأتوه بها، وبالحطب فجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين طرفي الجبلين قالَ انْفُخُوا يعني في النار حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي صار نارا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ أي أصيب عليه قِطْراً أي نحاسا مذابا فجعلت النار تأكل الحطب وجعل النحاس يسيل مكانه حتى لزم الحديد النحاس قيل إن السد كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، وقيل إن عرضه خمسون ذراعا وارتفاعه مائة ذراع وطوله فرسخ، واعلم أن هذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها، والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها. فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلو عليه لعلوه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي من أسفله لشدته وصلابته قالَ يعني ذو القرنين هذا أي السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي نعمة من ربي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي قيل يعني القيامة وقيل وقت خروجهم جَعَلَهُ دَكَّاءَ أي أرضا ملساء وقيل مدكوكا مستويا مع الأرض وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده تسعين» قوله وعقد بيده تسعين هو من موضوعات الحساب، وهو أن تجعل رأس إصبعك السبابة في وسط الإبهام من باطنها شبه الحلقة، لكن لا يتبين لها إلا خلل يسير وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا قال فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا، إن شاء الله تعالى، واستثنى قال فيرجعون فيجدونه
__________
(1) . قوله وقيل جيئوني ظاهر أنه تفسير لآتوني مقطوع الهمزة ولا يصح إنما يصح إذا كان تفسيرا لآتوني موصولها فليتأمل اهـ.(3/178)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
على هيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه وتفر منهم الناس» وفي رواية «تتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهام إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء فيزدادون قسوة وعتوا، فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيهلكون، فو الذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا» أخرج الترمذي. وقوله قسوة وعتوا أي غلظة وفظاظة وتكبرا، والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم وقوله وتشكر يقال شكرت الشاة تشكر شكرا، إذا امتلأ ضرعها لبنا، والمعنى أنها تمتلي أجسامها لحما وتسمن. (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» . قوله عز وجل:
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 105]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قيل هذا عند فتح السد، يقول تركنا يأجوج ومأجوج يموج أي يدخل بعضهم في بعض كموج الماء، ويختلط بعضهم في بعض لكثرتهم، وقيل هذا عند قيام الساعة يدخل الخلق بعضهم في بعض لكثرتهم ويختلط إنسهم بجنهم حيارى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فيه دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي في صعيد واحد وَعَرَضْنا أي أبرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ليشاهدوها عيانا الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ أي غشاء وستر عَنْ ذِكْرِي أي عن الإيمان والقرآن والهدى والبيان وقيل عن رؤية الدلائل وتبصرها وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي سمع قبول للإيمان والقرآن لغلبة الشقاء عليهم، وقيل معناه لا يستطيعون أن يسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لشدة عداوتهم له.
قوله تعالى أَفَحَسِبَ أي أفظن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ يعني أربابا يريد عيسى والملائكة، بل هم لهم أعداء يتبرؤون منهم. وقال ابن عباس: يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله، والمعنى أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء وإني لا أغضب لنفسي فلا أعاقبهم وقيل معناه أفظنوا أنه ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي منزلا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مثواهم وقيل معدة لهم عندنا كالنزل للضيف. قوله تعالى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا فنالوا هلاكا وبوارا، قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وقيل هم الرهبان الذي حبسوا أنفسهم في الصوامع، وقال علي بن أبي طالب:
هم أهل حوراء يعني الخوارج الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي بطل عملهم واجتهادهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أي يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي عملا ثم وصفهم فقال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ يعني أنهم جحدوا دلائل توحيده وقدرته، وكفروا بالبعث والثواب والعقاب، وذلك لأنهم كفروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن فصاروا كافرين بهذه الأشياء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. قيل لا تقيم لهم ميزانا، لأن الميزان إنما توضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميزوا مقدار الطاعات ومقدار السيئات. قال أبو سعيد الخدري «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم من العظم كجبال(3/179)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا شيئا فذلك قوله تعالى «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا حظ ولا قدر ولا وزن (ق) عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 106 الى 110]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من حبوط أعمالهم وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال تعالى جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً يعني سخرية واستهزاء. قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» . قال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقيل: الفردوس هو البستان الذي فيه الأعناب. وقيل: هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروبا من النبات. وقيل: الفردوس البستان بالرومية. وقيل: بلسان الحبش منقولا إلى العربية نزولا هو ما يهيأ للنازل على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمها نزلا. وقيل في معنى كانت لهم أي في علم الله تعالى قبل أن يخلقوا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ أي لا يطلبون عَنْها حِوَلًا أي تحولا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى.
قوله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» ثم تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل لما نزل «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» قالت اليهود أوتينا علم التوراة وفيها علم كل شيء.
فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ما يستمده الكاتب ويكتب به، وأصله من الزيادة قال مجاهد: لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب قيل والخلائق يكتبون لَنَفِدَ الْبَحْرُ أي لنفد ماؤه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي علمه وحكمه وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً والمعنى ولو كان الخلائق يكتبون والبحر يمدهم لفني ماء البحر ولم تفن كلمات ربي، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مددا وزيادة. قوله تعالى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قال ابن عباس: علم الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر فيقول آنا آدمي مثلكم إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به وهو قوله تعالى يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له في ملكه فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يخاف المصير إليه وقيل يؤمل رؤية ربه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء الله تعالى والمصير إليه فليستعمل نفسه في العمل الصالح وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي لا يرائي بعمله ولما كان العمل الصالح قد يراد به وجه الله سبحانه وتعالى وقد يراد به الرياء والسمعة اعتبر فيه قيدان، أحدهما: يراد به سبحانه وتعالى والثاني: أن يكون مبرأ من جهات الشرك جميعها (ق)(3/180)
عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به» قوله من سمع سمع الله به أي من عمل عملا مراءاة للناس يشتهر بذلك شهرة الله يوم القيامة، وقيل سمع الله به أي أسمعه المكروه (م) عن أبي هريرة قال «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ولغير مسلم فأنا منه بريء هو والذي عمله» . عن سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه منه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؟ قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء» . (م) عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» وفي رواية من آخرها والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/181)
كهيعص (1)
سورة مريم
مكية وهي ثمان وتسعون آية وثمانون وسبعمائة كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة حرف بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
كهيعص قال ابن عباس رضي الله عنهما هو اسم من أسماء الله تعالى، وقيل اسم للقرآن، وقيل للسورة وقيل هو قسم أقسم الله تعالى به. وعن ابن عباس قال الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، وقيل معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.
ذِكْرُ أي هذا الذي نتلو عليك ذكر رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا قيل معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته إِذْ نادى أي دعا رَبَّهُ في المحراب نِداءً خَفِيًّا أي دعاء سرا من قيامه في جوف الليل، وقيل راعى سنة الله في إخفاء دعائه لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيان، ولكن الإخفاء أولى، وقيل خفت صوته لضعفه وهرمه يدل عليه قوله تعالى قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ أي رق وضعف الْعَظْمُ مِنِّي أي من الكبر وقيل اشتكى سقوط الأضراس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ أي ابيض الشعر شَيْباً أي شمطا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبني، وقيل معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي أي من بعد موتي والموالي هم بنو العم وقيل العصبة وقيل الكلالة وقيل جميع الورثة وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي أعطني من عندك ولدا مرضيا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أي وليا ذا رشاد، وقيل أراد به يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم، وقيل أراد به الحبورة، لأن زكريا كان رأس الأحبار، والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأن الأنبياء لم يورثوا المال وإنما يورثون العلم، ويبعد عن زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يشفق على ماله أن يرثه بنو عمه، وإنما خاف أن يضيع بنو عمه(3/182)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
دين الله ويغيروا أحكامه، وذلك لما أن شاهد من بني إسرائيل تبديل الدين وقتل الأنبياء. فسأل ربه ولدا صالحا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع وهذا قول ابن عباس وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي برا تقيا مرضيا.
قوله تعالى يا زَكَرِيَّا المعنى فاستجاب الله له دعائه فقال يا زكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ أي بولد ذكر اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي لم يسم أحد قبله يحيى وقيل معناه لم نجعل له شبها ومثلا، وذلك لأنه لم يعص الله ولم يهم بمعصية قط وقال ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدا، قيل لم يرد الله تعالى بذلك اجتماع الفضائل كلها ليحيى، وإنما أراد بعضها لأن الخليل والكليم كانا قبله وهما أفضل منه قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي أي من أين يكون لي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي وامرأتي عاقر وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي يأسا يريد بذلك نحول الجسم ودقة العظم ونحول الجلد قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي يسير وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل يحيى وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي دلالة على حمل امرأتي قالَ آيَتُكَ أي علامتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي صحيحا سليما من غير بأس ولا خرس، وقيل ثلاث ليال متتابعات والأول أصح قيل إنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله انطلق لسانه. قوله عز وجل:
[سورة مريم (19) : الآيات 11 الى 22]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من الموضع الذي كان يصلي فيه وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه حتى يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون، إذ خرج إليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروا ذلك عليه، وقالوا له ما لك فَأَوْحى أي فأومأ وأشار إِلَيْهِمْ وقيل كتب لهم في الأرض أَنْ سَبِّحُوا أي صلوا لله بُكْرَةً وَعَشِيًّا المعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة. قوله عز وجل يا يَحْيى فيه إضمار ومعناه وهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ قال ابن عباس: يعني النبوة صَبِيًّا وهو ابن ثلاث سنين وذلك أن الله تعالى أحكم عقله وأوحى إليه، فإن قلت كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا. قلت لأن أصل النبوة مبني على خرق العادات، إذا ثبت هذا فلا تمنع صيرورة الصبي نبيا، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو من أوتي الحكم صبيا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمة من عندنا قال الحطيئة يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
أي ترحم علي وَزَكاةً قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقيل هي العمل الصالح، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملا صالحا في إخلاصه وَكانَ تَقِيًّا أي(3/183)
مسلما مخلصا مطيعا، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أي بارا لطيفا بهما محسنا إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الآية وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد عَصِيًّا
قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
معناه وأمان له من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حيا من عذاب يوم القيامة، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجا من مكان قد كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوما ما شاهدهم قط، ويوم يبعث لأنه يرى مشهدا عظيما فأكرم الله تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها.
قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
أي في القرآن مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
أي تنحت واعتزلت مِنْ أَهْلِها
أي من قومها مَكاناً شَرْقِيًّا
أي مكانا في الدار ما يلي المشرق، وكان ذلك اليوم شاتيا شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارى المشرق قبلة فَاتَّخَذَتْ
أي فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
قال ابن عباس أي سترا وقيل جلست وراء جدار، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك.
قوله تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعني جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئا، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به والقول الأول أصح، فلما رأت مريم جبريل عليه السلام يقصد نحوها بادرته من بعيد قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي مؤمنا مطيعا لله تعالى، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها. فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقيا. قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمنا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم، كذلك ها هنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور قالَ
لها جبريل عليه السلام إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ
أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من الله تعالى لأنه أرسل به لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
قال ابن عباس ولدا صالحا طاهرا من الذنوب قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي أي من أين يكون لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي ولم يقربني زوج وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن ها هنا واحد منهما قالَ جبريل كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ أي هكذا قال ربك هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي خلق ولدك بلا أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا وَرَحْمَةً مِنَّا أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي محكوما مفروغا من لا يرد ولا يبدل. قوله عز وجل فَحَمَلَتْهُ قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع، وقيل مد جيب درعها بإصبعه ثم نفخ في الجيب، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها، وقيل في فيها، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا من أهلها.
قال ابن عباس: أقصى الوادي، وهو بيت لحم فرارا من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.(3/184)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
قال ابن عباس: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر الحوامل من النساء، وقيل كانت مدة حملها ثمانية أشهر، وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدة وعاش، وقيل ولد لستة أشهر وهي بنت عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل ست عشرة سنة وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى، وقال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي يمنة جبل صهيون، وكانا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم من أهل زمانها أحد أشد عبادة واجتهادا منها وأول من علم بحمل مريم يوسف، فبقي متحيرا في أمرها كلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها وصلاحها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر منها من الحمل فأول ما تكلم به أن قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن أتكلم به أشفي صدري، فقالت: قل قولا جميلا، قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل ينبت شجر بغير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر؟
قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تر أن الله أنبت الشجرة بالقدرة من غير غيث أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها قال يوسف:
لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على كل شيء يقول له كن فيكون، قالت له مريم: ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى. فعند ذلك زال ما عنده من التهمة وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل. فلما دنت ولادتها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك فذلك قوله تعالى فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا قوله عز وجل:
[سورة مريم (19) : الآيات 23 الى 28]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27)
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي ألجأها وجاء بها والمخاض وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وكانت نخلة يبست في الصحراء في شدة البرد ولم يكن لها سعف، وقيل التجأت إليها تستند إليها وتستمسك بها من شدة الطلق، ووجع الولادة قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا تمنت الموت استحياء من الناس وخوفا من الفضيحة وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا يعني شيئا حقيرا متروكا لم يذكر، ولم يعرف لحقارته وقيل جيفة ملقاة، وقيل معناه أنها تمنت أنها لم تخلق فَناداها مِنْ تَحْتِها قيل إن مريم كانت على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها، وقيل ناداها من سفح الجبل وقيل هو عيسى وذلك أنه لما خرج من بطن أمه ناداها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي نهرا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام برجله في الأرض فظهرت عين ماء عذبة، وجرت وقيل كان هناك نهر يابس فجرى فيه الماء بقدرة الله سبحانه وتعالى وجنت النخلة اليابسة، فأورقت وأثمرت وأرطبت وقيل معنى تحتك تحت أمرك إن أمرته أن يجري جرى، وإن أمرته بالإمساك أمسك وقيل معنى سريا أي عيسى وكان عبدا سريا رفيعا وَهُزِّي إِلَيْكِ أي حركي إليك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا قيل الجنى الذي بلغ الغاية وجاء أوان اجتنائه. قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل فَكُلِي وَاشْرَبِي أي مريم كلي من الرطب واشربي من النهر وَقَرِّي عَيْناً(3/185)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
أي طيبي نفسا، وقيل قري عينا بولدك عيسى، يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينيك عن النظر إلى غيره فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً معناه يسألك عن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا، قيل كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسي، وقيل إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة وقيل أمرها أن تقول هذا القول نطقا ثم تمسك عن الكلام بعده وإنما منعت من الكلام لأمرين أحدهما: أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها وفيه دلالة على أن تفويض الكلام إلى الأفضل أولى. الثاني: كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا يقال إنها كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس.
قوله تعالى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قيل إنها لما ولدت عيسى عليه السلام حملته في الحال إلى قومها وقيل إن يوسف النجار احتمل مريم وابنها عيسى إلى غار فمكث فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي عظيما منكرا وقيل معناه جئت بأمر عجيب بديع يا أُخْتَ هارُونَ أي شبيهة هارون قيل كان رجلا صالحا في بني إسرائيل شبهت به في عفتها وصلاحها وليس المراد الأخوة في النسب، قيل إنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس (م) عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت خراسان سألوني فقالوا إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم» .
وقيل كان هارون أخا مريم لأبيها، وقيل كان من أمثل رجل في بني إسرائيل وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وقيل كان هارون في بني إسرائيل فاسقا أعظم الفسق فشبهوها به ما كانَ أَبُوكِ يعني عمران امْرَأَ سَوْءٍ قال ابن عباس: زانيا وَما كانَتْ أُمُّكِ يعني حنة بَغِيًّا أي زانية فمن أين لك هذا الولد.
[سورة مريم (19) : الآيات 29 الى 37]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أشارت مريم إلى عيسى أن كلمهم، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل لما أشارت إليه غضب القوم وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قيل أراد بالمهد الحجر وهو حجرها، وقيل هو المهد بعينه قيل لما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم، وقيل لما أشارت إليه ترك الرضاع واتكأ على يساره وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قال وهب: أتاها زكرياء عند مناظرتها اليهود، فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوما، وقيل: بل يوم ولد إني عبد الله أقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم لئلا يتخذ إلها. فإن قلت إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت نفي التهمة عن أمه وأن عيسى لم(3/186)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
ينص على ذلك، وإنما نص على إثبات عبوديته لله تعالى.
قلت كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن أمه، فلهذا أول ما تكلم باعترافه على نفسه بالعبودية لتحصل إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في زنا، والتكلم بإزالة التهمة عن أمه لا يفيد إزالة التهمة عن الله سبحانه وتعالى فكان الاشتغال بذلك أو آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا قيل معناه سيجعلني نبيا ويؤتيني الكتاب وهو الإنجيل وهذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم متى كنت نبيا قال: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» وقال الأكثرون إنه أوتي الإنجيل، وهو صغير وكان يعقل عقل الرجال الكمل وعن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ معناه أني نفاع أينما توجهت، وقيل معلما للخير أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وقيل مباركا على من يتبعني وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما وكلفني فعلهما. فإن قلت كيف يؤمر بالصلاة والزكاة، في حال طفوليته وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ» الحديث ... قلت إن قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل المراد أوصاه بأدائهما في الوقت المعين لهما وهو البلوغ، وقيل إن الله تعالى صيره حين انفصل عن أمه بالغا عاقلا وهذا القول أظهر في سياق قوله ما دُمْتُ حَيًّا فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه إليه في زمان جميع حياته حين كان في الأرض، وحين رفع إلى السماء وحين ينزل الأرض بعد رفعه وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي جعلني برا بوالدتي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي عاصيا لربي متكبرا على الحق بل، وأنا خاضع متواضع وروي أنه قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي، قال بعض العلماء لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا هذه الآية، وقيل الشقي الذي يذنب ولا يتوب.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ أي السلامة عند الولادة من طعن الشيطان وَيَوْمَ أَمُوتُ أي عند الموت من الشرك وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي من أهوال يوم القيامة فلما كلمهم عيسى بذلك علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الأطفال ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي ذلك الذي قال إني عبد الله هو عيسى بن مريم قَوْلَ الْحَقِّ أي هذا الكلام هو القول الحق أضاف القول إلى الحق، وقيل هو نعت لعيسى يعني بذلك عيسى بن مريم كلمة الله الحق والحق هو الله الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكون ويختلفون فقائل يقول هو ابن الله وقائل يقول ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي ما كان من صفاته اتخاذ الولد ولا ينبغي له ذلك سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد أن يحدث أمرا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي لا يتعذر عليه اتخاذه على الوجه الذي أراده وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك يعني لأن الله ربي وربكم لا رب للمخلوقات سواه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أخبرتكم به أن الله أمرني به هو الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ يعني النصارى سموا أحزابا لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة حين.
[سورة مريم (19) : الآيات 38 الى 46]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)(3/187)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا، وقيل معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع ويصدع قلوبهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي يوم القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل أراد باليوم الدنيا، يعني أنهم في الدنيا في خطأ بين وفي الآخرة يعرفون الحق، وقيل: معناه لكن الظالمون في الآخرة في ضلال عن طريق الجنة بخلاف المؤمنين.
قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يعني خوف يا محمد كفار مكة يوم الحسرة، سمي بذلك لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان، يدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا ما ندمه يا رسول الله قال: إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع» أخرجه الترمذي. قوله أن لا يكون نزع النزع عن الشيء: الكف عنه، وقال أكثر المفسرين يعني بيوم الحسرة حين يذبح الموت. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي مناد آخر يا أهل النار فيشرفون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ثم قرأ.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده إلى الدنيا وزاد الترمذي فيه «فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار» قوله كهيئة كبش أملح الأملح: المختلط بالبياض والسواد، قوله فيشرفون يقال أشرف إلى الشيء إذا تطلع ينظر إليه ومالت نحوه نفسه.
قوله فيذبح بين الجنة والنار اعلم أن الموت عرض ليس بجسم في صورة كبش أو غيره فعلى هذا يتأول الحديث، على أن الله تعالى يخلق هذا الجسم وهو حيوان فيذبح فيموت فلا يبقى يرجى له حياة ولا وجود، وكذلك حال أهل الجنة والنار بعد الاستقرار فيهما لا زوال لهما ولا انتقال (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» . عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة أحد إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ولا يدخل النار أحد إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة» أخرجه البخاري.
وقوله تعالى إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي عما يراد بهم في الآخرة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أي نميت سكان الأرض جميعا ويبقى الله سبحانه وتعالى وحده فيرثهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فنجزيهم بأعمالهم. قوله عز وجل ويبقى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أي كثير الصدق وهو مبالغة في كونه صديقا، وقيل الصدّيق الكثير التصديق قيل من صدق الله في وحدانيته وصدق أنبياءه ورسله وصدق بالبعث بعد الموت وقام بالأوامر فعمل بها فهو صديق، ولما قربت رتبة الصديق من رتبة النبي انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيا، والنبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه وأي رتبة أعلى من رتبة من جعله الله تعالى واسطة بينه(3/188)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
وبين عباده إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
يعني آزر وهو يعبد الأصنام يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
يعني صوتا وَلا يُبْصِرُ
لا ينظر شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ
أي يكفيك شَيْئاً
وصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية، وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا يستحقها إلا من له ولاية الإنعام وله أوصاف الكمال وهو الله تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ يعني بالله والمعرفة ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أي على ديني أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي لا تطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك.
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي عاصيا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أي أعلم، وقيل هو على ظاهره لأنه يمكن أن يؤمن فيكون من أهل الجنة، أو يصر على الكفر فيكون من أهل النار فحمل الخوف على ظاهره أولى.
واعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن مقرونا بالتلطف والرفق، فإن قوله في مقدمة كلامه يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صرفه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأصنام ثم أمره باتباعه في الإيمان، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي بقوله إني أخاف أَنْ يَمَسَّكَ أي يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ أي إن أقمت على الكفر فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا في النار، وقيل صديقا له في النار، وإنما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا مع أبيه لأمور أحدها: لشدة تعلق قلبه بصلاحية أبيه وأداء حق الأبوة والرفق به، وثانيها: أن النبيّ الهادي إلى الحق لا بد أن يكون رفيقا لطيفا حتى يقبل منه كلامه، وثالثها:
النصح لكل أحد فالأب أولى قالَ يعني أباه مجيبا له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ أي أتاركها أنت وتارك عبادتها لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ أي ترجع وتسكت عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها لَأَرْجُمَنَّكَ قال ابن عباس:
معناه لأضربنك، وقيل لأقتلنك بالحجارة، وقيل لأشتمنك، وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح والقول الأول هو الصحيح وَاهْجُرْنِي أي اجتنبني قال ابن عباس: اعتزلني سالما لا يصيبنك مني معرة مَلِيًّا أي دهرا طويلا.
[سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 57]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56)
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
قالَ يعني إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه وذلك لأنه لم يؤمن بقتاله على كفره، وقيل هذا سلام هجران ومفارقة، وقيل هو سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، قيل إنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله فيه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له، وقيل معناه سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي برا لطيفا والمراد أنه يستجيب لي إذا دعوته لأنه عودني الإجابة لدعائي وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أفارقكم وأفارق ما تعبدون من دون الله وذلك أنه فارقهم وهاجر إلى الأرض المقدسة وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبد ربي الذي خلقني وأنعم علي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي أرجو أن لا أشقى بدعاء ربي وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام، ففيه التواضع له مع التعريض بشقاوتهم. قوله عز وجل فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ذهب مهاجرا وَهَبْنا لَهُ أي بعد الهجرة(3/189)
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد أكرم على الله من أبيه وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي أنعمنا عليهما بالنبوة وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أي مع ما وهبنا لهم من النبوة وهبنا لهم المال والولد وذلك أنه بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق وكثرة الأولاد وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا يعني ثناء حسنا رفيعا في أهل كل دين حتى دعا لهم أهل الأديان كلهم فهم يتولونهم ويثنون عليهم.
قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرئ بكسر اللام أي أخلص العبادة، والطاعة لله تعالى ولم يراء وقرئ بالفتح أي مختارا اختاره الله تعالى ثم استخلصه واصطفاه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا فهذان وصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي من ناحية يمين موسى، والطور جبل معروف بين مصر ومدين ويقال إن اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إني أنا رب العالمين وَقَرَّبْناهُ قال ابن عباس: قربه وكلمه ومعنى التقريب إسماعه كلامه وقيل رفعه على الحجب حتى سمع صرير الأقلام، وقيل معناه رفع قدره ومنزلته أي وشرفناه بالمناجاة وهو قوله تعالى نَجِيًّا أي مناجيا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وذلك أن موسى دعا ربه فقال واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي فأجاب الله دعوته، وأرسل إلى هارون ولذلك سماه هبة له وكان هارون أكبر من موسى.
قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ هو إسماعيل بن إبراهيم وهو جد النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ قيل إنه لم يعد شيئا إلا وفي به وقيل إنه وعد رجلا أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد، حتى رجع إليه الرجل وقيل إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد ميعادا إلى أي وقت ينتظر فقال إن وعده نهارا فكل النهار وإن وعده ليلا فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى وَكانَ رَسُولًا إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم إسماعيل بوادي مكة حين خلفهم إبراهيم، وجرهم هو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ وقحطان أبو قبائل اليمن نَبِيًّا أي مخبرا عن الله تعالى وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أي قومه وجميع أمته بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قال ابن عباس: يريد الصلاة المفروضة عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا، وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاة والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي قائما لله بطاعته وقيل رضيه لنبوته ورسالته وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو جد أبي نوح واسمه أخنوخ، سمي إدريس لكثرة دراسة الكتب وكان خياطا وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط وكانوا من قبل يلبسون الجلود وهو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب.
إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وذلك أن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قيل هي الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا، وقيل إنه رفع إلى السماء. وهو الأصح يدل عليه ما روى أنس بن مالك بن صعصعة «عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج» متفق عليه وكان سبب رفع إدريس إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره: أنه سار يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوما فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال يا رب خلقتني لحر الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فأجبته قال يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس، فكان إدريس يسأله فكان ما سأله أن قال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي لعلي ازداد شكرا وعبادة فقال الملك لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها(3/190)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا.
قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتا وقال وهب: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي. فأوحى الله إليه أن اقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعدادا له. ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى. قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكا أن يرفع أبوابها فأراها.
ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة، وقال ما أخرج منها فبعث الله إليه ملكا حكما بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن الله تعالى قال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وقد ذقته ثم قال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فأنا وردتها وقال وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت. فقال قوم هو ميت واستدل بالأول. وقال قوم هو حي واستدل بهذا. وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس. واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى. قوله عز وجل:
[سورة مريم (19) : الآيات 58 الى 62]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم الله عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعني إدريس ونوحا وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب وَإِسْرائِيلَ أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فرتب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد وَبُكِيًّا جمع باك، أخبر الله تعالى أن(3/191)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعا وخشوعا وخوفا وحذرا. والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن.
(فصل)
وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعوا بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك. وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
قوله تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد النبيين المذكورين خَلْفٌ أي قوم سواء أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وتابعهم وقيل هم في هذه الأمة أَضاعُوا الصَّلاةَ أي تركوا الصلاة المفروضة. وقيل أخروها عن وقتها وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تأتي المغرب وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أي آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله وقيل اتبعوا المعاصي وشرب الخمور، وقيل هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بضع في الأسواق والأزقة فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال ابن عباس: الغي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن له ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق، ولشاهد الزور وقيل هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه يسيل قيحا ودما، وقيل: واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر تسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتستعر بها جهنم وقيل معنى غيا خسرانا وقيل هلاكا وعذابا، وليس معنى يلقون يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية.
قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً يعني إلا من تاب من التقصير في الصلوات والمعاصي وآمن من الكفر وعمل صالحا بطاعة الله تعالى فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون شيئا ثم وصف الجنة فقال تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي إنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم وهم غائبون عنها إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي آتيا وقيل معنى وعده موعود وهو الجنة مأتيا أي يأتيه أولياء الله وأهل طاعته لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي باطلا وفحشا وهو فضول الكلام إِلَّا سَلاماً يعني بل يسمعون فيها سلاما والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن معنى السلامة، وذلك أن أهل الجنة لا يسمعون فيها ما يؤلمهم، إنما يسمعون تسليمهم، وقيل هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم، وقيل هو تسليم الله عليهم وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال أهل التفسير:
يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار كعادتهم في الدنيا، وقيل إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب، وقيل المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق ولا تقتير، وقيل: كانت العرب لا تعرف أفضل من الرزق الذي يؤتى به البكرة والعشي، فوصف الله تعالى الجنة بذلك. وقوله تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 63 الى 71]
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)(3/192)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا أي نعطي وننزل وقيل يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي المتقين من عباده عز وجل وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا فنزلت وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا» الآية قال فكان هذا جواب جبريل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم «وقيل احتبس جبريل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين سأله اليهود عن أمر الروح وأصحاب الكهف، ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك، فقال له جبريل وإني كنت أشوق إليك، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا أحبست احتبست» فأنزل الله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك وأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وقوله لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا أي له علم ما بين أيدينا وما خلفنا، وقيل أكد ذلك بقوله ما بين أيدينا وما خلفنا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل، وقيل معناه له ما بين أيدينا من أمر الآخرة والثواب والعقاب وما خلفنا أي ما مضى من الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي من هذا الوقت إلى أن تقوم الساعة، وقيل ما بين ذلك أي ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة، وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما بقي منها وما بين ذلك أي مدة حياتنا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا أي ما نسيك ربك وما تركك رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي من يكون كذلك لا يجوز عليه النسيان لأنه لا بد أن يدبر أحوالها كلها، وفيه دليل على أن فعل العبد خلق لله لأنه حاصل بين السموات والأرض فكان لله تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي اصبر على أمره ونهيه هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قال ابن عباس: مثلا وقيل هل تعلم أحدا يسمى الله غير الله.
قوله تعالى وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي جنس الإنسان والمراد به الكفار الذين أنكروا البعث، وقيل هو أبي بن خلف الجمحي وكان منكرا للبعث أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا قاله استهزاء وتكذيبا للبعث قال الله تعالى أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أي يتذكر ويتفكر يعني منكر البعث أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والمعنى أولا يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة. قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أن الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أولا ثم أقسم بنفسه فقال تعالى فَوَ رَبِّكَ وفيه تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لنجمعنهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ أي مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا قال ابن عباس: جماعات وقيل جاثين على الركب لضيق المكان، وقيل إن البارك على ركبتيه صورته كصورة الذليل. فإن قلت هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً.
قلت وصفوا بالجثو على العادة المعهودة في مواقف المقالات والمناقلات، وذلك لما فيه من القلق مما يدهمهم من شدة الأمور التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ أي لنخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي من كل أمة وأهل دين من الكفار أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا قال ابن عباس:
يعني جرأة وقيل فجورا وتمردا، وقيل قائدهم رئيسهم في الشرك، والمعنى أنه يقدم في إدخال النار الأعتى ممن هو أكبر جرما وأشد كفرا. وفي بعض الأخبار أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين، ثم يقدم الأكفر فالأكفر فمن كان أشد منهم تمردا في كفره خص بعذاب أعظم وأشد لأن عذاب الضال المضل واجب أن يكون فوق عذاب الضال التابع لغيره في الضلال. وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل(3/193)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
العذاب فلذلك قال في جميعهم ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب وقيل معنى الآية أنهم أحق بدخول النار.
قوله عز وجل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي وما منكم إلا واردها وقيل القسم فيه مضمر أي والله ما منكم من أحد إلا واردها والورود هو موافاة المكان، واختلفوا في معنى الورود ها هنا وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله واردها فقال ابن عباس والأكثرون: معنى الورود هنا الدخول، والكناية راجعة إلى النار، فيدخلها البر والفاجر ثم ينجي الله الذين اتقوا منها، يدل عليه ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول فقال نافع: ليس الورود الدخول فقرأ ابن عباس إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أدخلها هؤلاء أم لا ثم قال يا نافع والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله أن يخرجك منها بتكذيبك فمن قال بدخول المؤمنين النار يقول من غير خوف ولا ضرر ولا عذاب البتة بل مع الغبطة والسرور لأن الله تعالى أخبر عنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر. فإن قلت كيف يدفع عن المؤمنين حر النار وعذابها، قلت يحتمل أن الله تعالى يخمد النار فتعبرها المؤمنون، ويحتمل أن الله تعالى يجعل الأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار من النار محرقة والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين تكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت في حق إبراهيم عليه السلام، وكما أن الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها فإن قلت إذا لم يكن على المؤمنين عذاب فما فائدة دخولهم النار.
قلت فيه وجوه، أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه، وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار، حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها، وثالثها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب الذي على الكفار صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وقال قوم ليس المراد من الورود الدخول، وقالوا لا يدخل النار مؤمن أبدا لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها فعلى هذا يكون المراد من الورود الحضور والرؤية، لا الدخول كما قال تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أراد به الحضور، وقال عكرمة الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها وروي عن ابن مسعود أنه قال وإن منكم إلا واردها، يعني القيامة والكناية راجعة إليها، والقول الأول أصح وعليه أهل السنة فإنهم جميعا يدخلون النار ثم يخرج الله منها أهل الإيمان بدليل قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك وهم المؤمنون والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه، يدل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يموت لأحد من المؤمنين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» وفي رواية «فيلج النار إلا تحلة القسم» أخرجاه في الصحيحين، أراد بالقسم قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (م) عن أم مبشر الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عند حفصة «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها قالت بلى يا رسول الله فانتهزها فقالت حفصة وإن منكم إلا واردها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قال الله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.
وقال خالد بن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة وفي الحديث «تقول النار للمؤمنين جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» . وروي عن مجاهد في قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال من حم من المسلمين فقد وردها» وفي الخبر «الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار» (ق) عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» قوله فيح جهنم وهجها وحرها.
وقوله تعالى كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي كان ورود جهنم قضاء لازما قضاه الله تعالى عليكم وأوجبه.
[سورة مريم (19) : آية 72]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)(3/194)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي جميعا، وقيل جاثين على الركب قالت المعتزلة في الآية دليل على صحة مذهبهم، في أن صاحب الكبيرة والفاسق يخلد في النار بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها، وهم المتقون والفاسق لا يكون متقيا فبقي في النار أبدا. وأجيب عنه بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك بقول لا إله إلا الله ويشهد لصحة ذلك أن من آمن بالله ورسوله، صح أن يقول إنه متق من الشرك ومن صدق عليه أنه متق من الشرك صح أنه متق، لأن المتقي جزء من المتقي من الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار بعموم قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا
فصارت الآية التي توهموها دليلا لهم من أقوى الدلائل على فساد قولهم، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار (خ) عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان» . (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا. يا رسول الله. قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا. يا رسول الله.
قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة، فيقول الله من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم.
قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من ينجدل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجوهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أعضاء السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فيقول هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق.
فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها سكت ما شاء الله تعالى أن يسكت، ثم يقول يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت المواثيق والعهود أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت أن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره فيقول وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول يا رب أدخلني الجنة. فيقول الله تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول له تمن فيتمنى. حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تمن كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله لك ذلك ومثله معه» . قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة «وعشرة أمثاله» قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قوله لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد رضي الله عنه: سمعته يقول «لك ذلك وعشرة أمثاله» . وفي رواية للبخاري قال فيأتيهم الله في غير الصورة التي(3/195)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
يعرفونها فيقول أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا عرفناه. فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه» . قلت أما ما يتعلق بمعاني الحديث والكلام على الرؤية فسيأتي في تفسير سورة ن والقيامة ونتكلم ها هنا على شرح غريب ألفاظه، قوله مثل شوك السعدان هو نبت ذو شوك معقف وهو من أجود مراعي الإبل.
وقوله فمنهم من يوبق بعمله يقال أوبقته الذنوب أي أهلكته. والمنجدل المرمى المصورع وقيل هو المقطع. والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يقع في النار. قوله وقد امتحشوا أي احترقوا، وقيل هو أن تذهب النار الجلد وتبدي العظم. قوله كما تنبت الحبة في حميل السيل، الحبة بكسر الحاء وهي البذورات جميعا وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه، قوله قشبني ريحها أي آذاني والقشب السم فكأنه قال قد سمني ريحها. قوله وأحرقني ذكاؤها أي اشتعالها ولهبها قوله رأى زهرتها الزهرة الحسن والنضارة والبهجة. (ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى. فيقول الله تعالى له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي أضراسه وأنيابه، وقيل هي آخر الأسنان.
عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة، قال فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة، قال فيرش عليهم أهل الجنة من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حمالة السيل» أخرجه الترمذي الحمم الفحم والحمالة كل ما جاء به السيل، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار ودلت الآية الثانية والأحاديث أن الله تعالى أخرج منها المتقين وجميع الموحدين وترك فيها الظالمين وهم المشركون. قوله تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 77]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي دلائل واضحات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحارث ومن دونه من كفار قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني فقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون أفخر ثيابهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً
أي منزلا ومسكنا وهو موضع الإقامة وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا فأجابهم الله تعالى بقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا وأموالا وقيل أحسن ثيابا ولباسا وَرِءْياً أي منظرا من الرؤية قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا هذا أمر بمعنى الخبر معناه يدعه في طغيانه ويمهله في كفره حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ أي الأسر والقتل في الدنيا وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني القيامة فيدخلون النار فَسَيَعْلَمُونَ أي عند ذلك مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا وَأَضْعَفُ جُنْداً أي أقل ناصرا والمعنى فسيعلمون أهم خير وهم(3/196)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
في النار أم المؤمنون وهم في الجنة وهذا رد عليهم في قولهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، قوله تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي إيمانا وإيقانا على يقينهم وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي عاقبة ومرجعا. قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا الآية، (ق) عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين فأتيته أتقاضاه، وفي رواية فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقلت لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث. قال وإني لميت ثم مبعوث. قلت بلى قال دعني حتى أموت وأبعث فسأوتي مالا وولدا فأقضيك. فنزلت أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.
[سورة مريم (19) : الآيات 78 الى 91]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91)
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل يعني عمل عملا صالحا قدمه، وقيل عهد إليه أنه يدخله الجنة كَلَّا رد عليه يعني لم يفعل ذلك سَنَكْتُبُ سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه به في الآخرة، وقيل يأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيده عذابا فوق العذاب، وقيل نطيل مدة عذابه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ معناه أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه، وقيل يزول عنه ما عنده من مال وولد فيعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك بقي فردا فذلك قوله وَيَأْتِينا يعني يوم القيامة فَرْداً بلا مال ولا ولد فلا يصح أن يبعث في الآخرة بمال وولد. قوله تعالى وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني مشركي قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي منعة يعني يكونوا شفعاء يمنعوهم من العذاب كَلَّا أي ليس الأمر كما زعموا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ يعني تجحد الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها عبادة المشركين ويتبرؤون منهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي أعوانا عليهم يكذبونهم ويلعنونهم وقيل أعداء لهم وكانوا أولياءهم في الدنيا. قوله عز وجل أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي سلطناهم عليهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية والمعنى تحثهم وتحرضهم على المعاصي تحريضا شديدا وفي الآية دليل على أن الله تعالى مدبر لجميع الكائنات فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي لا تعجل بطلب عقوبتهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام، وقيل الأنفاس التي يتنفسونها في الدنيا إلى الأجل الذي أجل لعذابهم. قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجتمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى جنته وفدا أي جماعات. قال ابن عباس: ركبانا قال أبو هريرة: على الإبل. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي مشاة عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء ولا يرد أحد إلا بعد العطش وقيل يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء (ق) عن أبي هريرة(3/197)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمضي معهم حيث أمسوا» . قول تقيل معهم حيث قالوا من القيلولة وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم.
قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي.
قوله عز وجل لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني لا إله إلا الله وقيل لا يشفع الشافعون إلا للمؤمنين، وقيل لا يشفع إلا لمن قال لا إله إلا الله، أي لا يشفع إلا للمؤمنين وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله من العرب لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قال ابن عباس منكرا، وقيل معناه لقد قلتم قولا عظيما تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ من الانفطار وهو الشق وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي تخسف بهم وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أي تسقط وتنطبق عليهم أَنْ دَعَوْا أي من أجل أن جعلوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً فإن قلت ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ومن أين تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات. قلت فيه وجهان أحدهما: أن الله تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة. الثاني: أن يكون استعظاما للكلمة وتهويلا من فظاعتها وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده. قال ابن عباس فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولدا ثم نزه الله نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 92 الى 98]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي ما يليق به اتخاذ الولد ولا يوصف به لأن الولد لا بد أن يكون شبيها بالوالد، ولا شبيه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله تعالى من سرور به واستعانة وذكر جميل بعده وكل ذلك لا يليق بالله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي آتية يوم القيامة عبدا ذليلا خاضعا، والمعنى أن الخلائق كلهم عبيده لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي عد أنفاسهم وأيامهم وآثارهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وكلهم تحت تدبيره وقهره وقدرته وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي وحيدا ليس معه من أحوال الدنيا شيء.
قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي محبة قيل يحبهم الله تعالى ويحببهم إلى عباده المؤمنين (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدا دعا جبريل عليه السلام إن الله تعالى يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وفي رواية لمسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض الله(3/198)
عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» قال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم. وقال: كعب مكتوب في التوراة لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن «سيجعل لهم الرحمن ودا» .
قوله تعالى فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن بِلِسانِكَ يا محمد لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين وَتُنْذِرَ بِهِ أي القرآن قَوْماً لُدًّا أي شدادا في الخصومة. وقيل صما عن الحق، وقيل الألد الظالم الذي لا يستقيم ولا يقبل الحق ويدعي الباطل وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ختم الله تعالى هذه السورة بموعظة بليغة لأنهم إذا علموا وأيقنوا أنه لا بد من زوال الدنيا بالموت خافوا ذلك وخافوا سوء العاقبة في الآية فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك فقال تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ أي هل ترى، تجد منهم أي من القرون مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيا قال الحسن: بادوا جميعا لم يبق منهم عين ولا أثر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/199)
طه (1)
سورة طه
وهي مكية وهي مائة وأربعة، وقيل خمس وثلاثون آية وألف وستمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا. عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أعطيت السورة التي فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» النافلة: الزيادة وفقنا الله لفهم ذلك.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
قوله عز وجل طه قيل هو قسم أقسم الله بطوله وهدايته، وقيل هو من أسماء الله فالطاء افتتاح اسمه طاهر والهاء افتتاح اسمه هاد. وقيل معناه يا رجل والمراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكذلك يا إنسان، وقيل هو بالسريانية، وقيل بالقبطية، فعلى هذا يكون قد وافقت لغة العرب هذه اللغات في هذه الكلمة، وقيل هو يا إنسان بلغة عك وعك قبيلة من قبائل العرب، وقيل معناه طا الأرض بقدميك يريد به في التهجد وذلك لما نزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه، وكان يصلي الليل كله فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.
وقيل لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي لتتعنى وتتعب إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لكن أنزلنا عظة لمن يخشى وإنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم هم المنتفعون بها تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أي من الله الذي خلق الأرض والسموات العلية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمتها وعلوها إلا الله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى تقدم الكلام عليه في سورة الأعراف مستوفى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني الهواء وَما تَحْتَ الثَّرى أي إنه مالك لجميع ما في الأربعة الأقسام، والثرى هو التراب الندي وقيل معناه ما وراء الثرى من شيء. وقال ابن عباس: إن الأرضين على ظهور النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش، والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في قصة لقمان، والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت ذلك الثرى إلا الله تعالى، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست. قوله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 7 الى 14]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)(3/200)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي تعلن به فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قال ابن عباس: السر ما تسر في نفسك وأخفى من السر ما يلقيه الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك لا تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا والله يعلم ما أسررت به اليوم وما تسر به غدا، وعنه أن السر ما أسر به ابن آدم في نفسه وأخفى ما هو فاعله قبل أن يعلمه، وقيل السر ما أسره الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسره في نفسه، وقيل السر هو العمل الذي يسر من الناس وأخفى هو الوسوسة، وقيل السر أن يعلم الله تعالى أسرار العباد وأخفى هو سره من عباده فلا يعلم أحد سره، وقيل: مقصود الآية زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والإخفاء على ما فيه ثواب أو عقاب، فالسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والإخفاء هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ثم وحد نفسه فقال تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تأنيث الأحسن والذي فضلت به أسماؤه في الحسن دون سائر الأسماء، دلالتها على معنى التقديس والتحميد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وقد أتاك لما قدم ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفاه بقصة موسى عليه الصلاة والسلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود إِذْ رَأى ناراً وذلك أن موسى استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر ليزور والدته وأخاه فأذن له، فخرج بأهله وماله وكانت أيام الشتاء فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته حامل في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهارا، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، وذلك في ليلة مظلمة مثلجة شاتية شديدة البرد لما أراد الله من كرامته فأخذ امرأته الطلق فأخذ زنده فجعل يقدح فلا يورى فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت نارا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي شعلة من نار في طرف عود أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي أجد عند النار من يدلني على الطريق فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار ورأى شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها أطافت بها نارا بيضاء تتقد كأضوء ما يكون، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار، قيل كانت الشجرة ثمرة خضراء وقيل كانت من العوسج، وقيل كانت من العليق وقيل كانت شجرة من العناب، روي ذلك عن ابن عباس وقال أهل التفسير لم يكن الذي رآه موسى نارا بل كان نورا ذكر بلفظ النار لأن موسى عليه الصلاة والسلام حسبه نارا.
قال ابن عباس: هو من نور الرب سبحانه وتعالى، وقيل هي النار بعينها وهي إحدى حجب الرب تبارك وتعالى، يدل عليه ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حجابه النار لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» أخرجه مسلم قيل إن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كلما دنا نأت عنه، وإذا نأى دنت منه، فوقف متحيرا وسمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة فعند ذلك نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ قال وهب: نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به، وقيل إنه سمعه بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا وقوله(3/201)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ كان السبب فيه ما روي عن ابن مسعود مرفوعا في قوله فاخلع نعليك قال كانتا من جلد حمار ميت.
ويروى غير مدبوغ وإنما أمر بخلعها صيانة للوادي المقدس، وقيل أمر بخلعهما ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة لتناله بركتها فإنها قدست مرتين فخلعها موسى فألقاهما من وراء الوادي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً اسم للوادي الذي حصل فيه وقيل طوى واد مستدير عميق مثل المطوي في استدارته وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك برسالاتي وبكلامي فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى فيه نهاية الهيبة والجلال له فكأنه قال له لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ولا تعبد غيري وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي لتذكرني فيها وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي ولا ترائي فيها ولا تقصد بها غرضا آخر، وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها، (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» وتلا قتادة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وفي رواية: «إذا رقد أحدكم في الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
[سورة طه (20) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19)
فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها قال أكثر المفسرين: معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق وكيف أظهرها لكم، ذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في الكتمان للشيء يقولون كتمت سرك في نفسي، أي أخفيته غاية الإخفاء، والله تعالى لا يخفى عليه شيء. والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان لأنه إذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب من ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت الموت، وأنه إذا لم يعرف وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت مخافة معاجلة الأجل.
قوله تعالى لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي بما تعمل من خير وشر فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها أي فلا يصرفك عن الإيمان بالساعة ومجيئها من لا يؤمن بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي مراده وخالف أمر الله فَتَرْدى أي فتهلك. قوله عز وجل وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سؤال تقرير والحكمة فيه تنبيهه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة قالَ هِيَ عَصايَ قيل كان لها شعبتان وفي أسفلها سنان ولها محجن واسمها نبعة أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها إذا مشيت وإذا عييت وعند الوثبة وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي أضرب بها الشجرة اليابسة ليسقط ورقها فترعاه الغنم وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي حاجة ومنافع أخرى، وأراد بالمآرب ما كان يستعمل فيه العصا في السفر فكان يحمل بها الزاد ويشد بها الحبل ويستقي بها الماء من البئر ويقتل بها الحيات ويحارب بها السباع ويستظل بها إذا قعد، وروي عن ابن عباس أن موسى كان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه وتحدثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج له ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء وكان إذا اشتهى ثمرة ركزها فتصير غصن تلك الشجرة وتورق وتثمر، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كدلو حتى يستقي، وكانت تضيء بالليل كالسراج وإذا ظهر له(3/202)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
عدو كانت تحارب وتناضل عنه قالَ الله تعالى أَلْقِها يا مُوسى أي انبذها واطرحها.
قال وهب: ظن موسى أنه يقول ارفضها فَأَلْقاها أي فطرحها على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تَسْعى أي تمشي بسرعة على بطنها وقال في موضع آخر كأنها جان، وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى فالجان عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حية على قدر العصا، ثم كانت تتورم وتنتفخ حتى صارت ثعبانا وهو انتهاء حالها، وقيل إنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان، قال محمد بن إسحاق: نظر موسى فإذا العصا حية من أعظم ما يكون من الحيات، وصارت شعبتاها شدقين لها، والمحجن عنقا وعرفا يهتز كالنيازك، وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخفة من الإبل، فتلقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفا عظيما، فلما عاين ذلك موسى ولّى مدبرا وهرب، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أقبل وارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف قالَ خُذْها يعني بيمينك وَلا تَخَفْ قيل كان خوفه لما عرف ما لقي آدم من الحية، وقيل لما قال له ربه لا تخف بلغ من طمأنينة نفسه وذهاب الخوف عنه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى هيئتها فنردها عصا كما كانت، وقيل كان على موسى مدرعة صوف قد خللها بعود فلما قال الله تعالى خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله تعالى أن يكشف يده فكشفها. وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له ملك أرأيت لو أمر الله بما تحاذره أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟؟ قال: لا ولكني ضعيف من ضعف خلقت. قال فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ. قال المفسرون:
أراد الله تعالى أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق ولئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون قوله تعالى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يعني إلى إبطك وقيل تحت عضدك تَخْرُجْ بَيْضاءَ يعني نيرة مشرقة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني من غير عيب والسوء ها هنا بمعنى البرص قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر آيَةً أُخْرى أي دلالة أخر على صدقك سوى العصا لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى قال ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته. قوله عز وجل:
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 40]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى يعني جاوز الحد في العصيان والتمرد وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى كان مبعوثا إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر متبوعا فكان ذكره الأولى قال وهب: قال الله تعالى لموسى اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي وإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبسك حلة من(3/203)
سلطاني تستكمل بها القوة في أمري بعثتك بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لا يغتر بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ولا يتنفس إلا بعلمي قال فسكت موسى فجاء ملك وقال له أجب ربك قالَ.
يعني موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي يعني وسعه للحق، قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك، وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفا شديدا لشدة شوكته وكثرة جنوده، فكان يضيق بما كلف من مقاومة فرعون وحده، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحدا لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى، وإذا علم ذلك لم يخف من فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي وذلك أن موسى كان في حجرة فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته، فقال فرعون لامرأته آسية إن هذا عدوي وأراد أن يقتله، فقالت له آسية إنه صبي لا يعقل، وقيل إن أم موسى لما فطمته ردته إلى فرعون فنشأ في حجره وحجر امرأته يربيانه واتخذاه ولدا، فبينما هو يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب إذ رفعه فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير منه حتى همّ بقتله، فقالت آسية: أيها الملك إنه صبي لا يعقل جربه إن شئت، فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فوضعهما بين يدي موسى، فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى فوضعها على الجمر فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت فيه عقدة يَفْقَهُوا قَوْلِي يعني احلل العقدة كي يفهموا قولي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي يعني معينا وظهيرا، والوزير من يوازرك ويحتمل عنك بعض ثقل عملك ثم بين من هو فقال هارُونَ أَخِي وكان هارون أكبر من موسى وأفصح لسانا وأجمل وأوسم وكان أبيض اللون وكان موسى آدم أقنى جعدا اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي يعني قو به ظهري وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي يعني في أمر النبوة وتبليغ الرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً يعني نصلي كثيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً يعني نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من جميل نعمك إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً يعني خبيرا عليما قالَ الله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي أعطيت جميع ما سألته وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى يعني قيل هذه المرة ثم بين تلك المنة بقوله تعالى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى يعني ما يلهم ثم فسر ذلك الإلهام وعدد نعمه عليه فقال أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ يعني ألهمناها أن اجعليه في التابوت فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعني نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يعني شاطئ البحر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني فرعون.
فأخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وشقوقه ثم ألقته في النيل. وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون. فبينما فرعون جالس على البركة مع امرأته آسية، إذ هو بتابوت يجيء به الماء فأمر الغلمان والجواري بإخراجه، فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا بصبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك نفسه وعقله فذلك قوله تعالى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قال ابن عباس: أحبه وحببه إلى خلقه، قيل ما رآه أحد إلا أحبه لملاحة كانت في عيني موسى وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ونظر إليه إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ واسمها مريم متعرفة خبره فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي على امرأة ترضعه وتضمه إليها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا نعم. فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله تعالى فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي بلقائك ورؤيتك وَلا تَحْزَنَ أي وليذهب عنها الحزن وَقَتَلْتَ نَفْساً.
قال ابن عباس: كان قتل قبطيا كافرا قيل كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي من غم القتل وكربه وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قال ابن عباس: اختبرناك اختبارا وقيل ابتليناك ابتلاء، قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى، منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم(3/204)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم قتله، ثم ناوله الجمرة بدل الجوهرة، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفا فَلَبِثْتَ أي مكثت سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ هي بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر، هرب إليها موسى قال وهب: لبث موسى عند شعيب. ثمانيا وعشرين سنة عشر سنين منها يرعى الغنم مهر زوجته صفوراء ابنة شعيب وثمان عشرة سنة أقام عنده بعد ذلك حتى ولد له وخرج من مصر ابن اثنتي عشرة سنة هاربا ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي جئت على القدر الذي قدرت أن تجيء فيه. قيل على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى إلى الأنبياء فيه.
[سورة طه (20) : الآيات 41 الى 48]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك واصطفيتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي. وذلك أن قيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله ومحبته. وقيل معناه اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي أي بدلائلي. قال ابن عباس:
يعني الآيات التسع الذي بعث بها موسى عليه السلام وَلا تَنِيا أي لا تضعفا وقيل لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي أي لا تقصرا في ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما ومن ذكر النعمة شكرها اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي دارياه وارفقا به. قال ابن عباس: لا تعنفا في قولكما، وقيل كنياه فقولا له يا أبا العباس وقيل يا أبا الوليد وقيل أراد بالقول اللين قوله هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقيل الآية إنما أمرهما باللطافة لماله من حق تربية موسى، وقيل عداه على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وتبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وإذا مات دخل الجنة فلما أتاه موسى ووعده بذلك أعجبه وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أن لك عقلا ورأيا، أنت رب تريد أن تكون مربوبا، وأنت تعبد تريد أن تعبد، فقال فرعون صواب ما قلت فغلبه على رأيه.
وكان هارون بمصر فأمر الله موسى أن يأتي هارون وأوحى الله إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه. وقوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي يتعظ ويخاف ويسلم فإن قلت كيف قال لعله يتذكر وقد سبق في علمه أنه لا يتذكر ولا يسلم. قلت معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع وقضاء الله وراء أمركما، وقيل هو إلزام الحجة وقطع المعذرة كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، وقيل هو ينصرف إلى غير فرعون مجازه لعله يتذكر متذكرا ويخشى خاش إذا رأى بري وإلطافي بمن خلقته وأنعمت عليه ثم ادعى الربوبية، وقيل لعل من الله واجب ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية وذلك حين ألجمه الغرق وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ الرازي فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً الآية فبكى يحيى وقال إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله قالا يعني موسى وهارون رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا.
قال ابن عباس: يعجل علينا بالقتل والعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يجاوز الحد في الإساءة إلينا قالَ الله تعالى لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست(3/205)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
بغافل عنكما فلا تهتما فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي أرسلنا إليك ربك فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي خل عنهم وأطلقهم من أعمالك وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي لا تتعبهم في العمل، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء وقطع الصخور مع قتل الولدان وغير ذلك قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قال فرعون وما هي فأخرج موسى يده لها شعاع كشعاع الشمس، وقيل معناه قد جئناك بمعجزة وبرهان يدل على صدقنا على ما ادعيناه من الرسالة وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ليس المراد منه سلام التحية بل إنما معناه سلم من العذاب من أسلم إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه.
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 61]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58)
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
قالَ يعني فرعون فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي فمن إلهكما الذي أرسلكما قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، وقيل أعطى كل شيء صلاحه وهداه، وقيل أعطى كل شيء صورته فخلق اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح، وقيل يعني جعل زوجة الرجل المرأة والبعير الناقة والفرس الرمكة وهي الحجرة والحمار الأتان ثم هدى ألهمه كيف يأتي الذكر الأنثى قالَ يعني فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي فما حال القرون الماضية والأمم الخالية مثل قوم نوح وعاد وثمود فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث، وإنما قال فرعون ذلك لموسى حين خوفهم مصارع الأمم الخالية فحينئذ قال فرعون فما بال القرون الأولى قالَ يعني موسى عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها، وقيل إنما رد موسى علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لم يعلم ذلك لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وقومه فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ لا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يخطئ وقيل لا يغيب عنه شيء وَلا يَنْسى أي فيتذكر وقيل لا ينسى ما كان من أعمالهم حتى يجازيهم بها الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا وقيل مهدها لكم وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي أدخل في الأرض لأجلكم طرقا وسهلها لكم لتسلكوها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر ثم الأخبار عن موسى ثم قال الله تعالى فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أَزْواجاً أي أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي مختلف الألوان والطعوم والمنافع فمنها ما هو للناس ومنها ما هو للدواب كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ أي أخرجنا أصناف النبات للانتفاع بالأكل والرعي إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، قيل هم الذين ينتهون عما حرم الله عليهم مِنْها خَلَقْناكُمْ أي من الأرض خلقنا آدم، وقيل إن الملك ينطلق فيأخذ من التراب الذي يدفن فيه فيذره في النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة وَفِيها نُعِيدُكُمْ أي عند الموت والدفن وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي يوم القيامة للبعث والحساب.
قوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ يعني فرعون آياتِنا كُلَّها يعني الآيات التسع التي أعطاها الله موسى فَكَذَّبَ(3/206)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
وَأَبى
يعني فرعون وزعم أنها سحر وأبى أن يسلم قالَ يعني فرعون أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا يعني مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى يريد أن تغلب على ديارنا فيكون لك الملك وتخرجنا منها فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي اضرب أجلا وميقاتا لا نُخْلِفُهُ لا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي مكانا عدلا وقال ابن عباس: نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه وقيل معناه سوى هذا المكان قالَ يعني موسى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قيل كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة وقيل هو يوم النيروز وقال ابن عباس يوم عاشوراء وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي وقت الضحوة نهارا جهارا ليكون أبعد من الريبة فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ يعني فرعون كَيْدَهُ يعني مكره وسحره وحيله ثُمَّ أَتى يوم المعاد قالَ لَهُمْ مُوسى يعني للسحرة الذين جمعهم فرعون وكانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل ساحر حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل كانوا اثني عشر ألفا وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ أي فيهلكنكم ويستأصلكم وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي خسر من ادعى مع الله إلها آخر وقيل معناه خسر من كذب على الله تعالى. قوله تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 62 الى 64]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي تناظروا وتشاوروا، يعني السحرة في أمر موسى سرا من فرعون وقالوا إن غلبنا موسى اتبعناه، معناه لما قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا. قال بعضهم لبعض ما هذا بقول ساحر وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي المناجاة قالُوا قال بعضهم لبعض سرا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يعني موسى وهارون يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يعني من مصر بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قال ابن عباس: يعني بسراة قومكم وأشرافكم، وقيل معناه يصرفان وجوه الناس عنكم، وقيل أراد أهل طريقتكم المثلى وهم بنو إسرائيل يعني يريد أن يذهبا بهم لأنفسهما، وقيل معناه يذهبا بسنتكم وبدينكم الذي أنتم عليه فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي لا تدعو شيئا من كيدكم إلا جئتم به، وقيل معناه اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له ولا تختلفوا فيختل أمركم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي جمعا مصطفين ليكون أشد لهيبتكم وقيل معناه ثم ائتوا المكان الموعود به وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاز من غلب.
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 75]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
قالُوا يعني السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي عصينا(3/207)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قالَ يعني موسى بَلْ أَلْقُوا يعني أنتم أولا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إضمار أي فألقوا فإذا حبالهم وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى قيل إنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى كأن الأرض امتلأت حيات وكانت قد أخذت ميلا في ميل من كل جانب ورآها كأنها تسعى فَأَوْجَسَ أي أضمر وقيل وجد فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قيل هو طبع البشرية وذلك أنه ظن أنها تقصده، وقيل خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره فلا يتبعوه قُلْنا لا تَخَفْ أي قال الله تعالى لموسى لا تخف إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب عليهم ولك الغلبة عليهم والظفر وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي عصاك والمعنى لا يخيفنك كثرة حبالهم وعصيهم فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها تَلْقَفْ أي تلقم وتبتلع ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي حيلة ساحر وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي من الأرض.
وقال ابن عباس لا يسعد حيث كان فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قال صاحب الكشاف سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقائين. وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وقيل إنهم لما سجدوا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة قالَ يعني فرعون آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أي لرئيسكم وعظيمكم يعني أنه أسحركم وأعلاكم في صناعة السحر ومعلمكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
يعني على جذوع النخل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً يعني على إيمانكم به أنا أو رب موسى على ترك الإيمان به وَأَبْقى يعني أدوم قالُوا يعني السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ يعني لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعني الدلالات الواضحات، قيل هي اليد البيضاء والعصا وقيل كان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحر فأين حبالنا وعصينا. وقيل إنهم لما سجدوا رأوا الجنة والنار ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وَالَّذِي فَطَرَنا قيل هو قسم، وقيل معناه لن نؤثرك على الله الذي فطرنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ يعني فاصنع ما أنت صانع إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني إنما أمرك وسلطانك في الدنيا سيزول عن قريب إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فإن قلت كيف قالوا هذا وقد جاءوا مختارين غير مكرهين. قلت كان فرعون أكرههم في الابتداء على تعلمهم السحر لكي لا يذهب أصله. وقيل كانت السحرة اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل، وكان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر. وقيل قال السحرة لفرعون أرنا موسى إذا هو نام فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون هذا ليس بساحر إن الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى عليهم فأكرههم على أن يعملوا فذلك قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني خير منك ثوابا وأبقى عقابا وقيل خير منك إن أطيع وأبقى عذابا إن عصي وهذا جواب لقوله وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً قيل هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل هو من تمام قول السحرة معناه من مات على الشرك فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً يعني من مات على الإيمان قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى يعني الرفيعة العلية ثم فسر الدرجات بقوله
[سورة طه (20) : الآيات 76 الى 86]
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80)
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)(3/208)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى يعني تطهر من الذنوب، وقيل أعطى زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» أخرجه الترمذي.
قوله وأنعما يقال أحسن فلان إلى فلان وأنعم يعني أفضل وزاد في الإحسان، والمعنى أنهما منهم وزادوا تناهيا إلى غايته.
قوله تعالى وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعني أسر بهم ليلا من أرض مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً يعني اجعل لهم طريقا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا يَبَساً يعني يابسا ليس فيه ماء ولا طين وذلك أن الله تعالى أيبس لهم الطريق في البحر لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى يعني لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك فَأَتْبَعَهُمْ يعني فلحقهم فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ يعني أصابهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وهو الغرق وقيل علاهم وسترهم من اليم ما لم يعلم كنهه إلا الله تعالى فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى يعني وما أرشدهم وهو تكذيب لفرعون في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.
قوله عز وجل يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ذكرهم الله النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم وفيما وعد موسى من المناجاة بجانب الطور وكتب التوراة في الألواح. وإنما قال وواعدناكم لأنها اتصلت بهم حيث كانت لنبيهم، ورجعت منافعها إليهم وبها قوام دينهم وشريعتهم وفيها أفاض الله عليهم من سائر نعمه وأرزاقه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس لا تظلموا، وقيل لا تكفروا النعمة فتكونوا طاغين، وقيل لا تتقووا بنعمتي على المعاصي، وقيل لا تدخروا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي يعني يجب عليكم غضبي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى يعني هلك وسقط في النار وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال ابن عباس تاب عن الشرك وَآمَنَ يعني وحد الله وصدق رسوله وَعَمِلَ صالِحاً يعني أدى الفرائض ثُمَّ اهْتَدى قال ابن عباس علم أن ذلك توفيق من الله تعالى، وقيل لزم الإسلام حتى مات عليه، وقيل علم أن لذلك ثوابا، وقيل أقام على السنة. قوله عز وجل وَما أَعْجَلَكَ يعني وما حملك على العجلة عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلا يذهبون معه إلى الطور ليأخذوا التوراة. فسار بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه، وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال الله له وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ فأجاب ربه ف قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم بالقرب مني يأتون على أثري من بعدي.
فإن قلت لم يطابق السؤال الجواب فإنه سأله عن سبب العجلة فعدل عن الجواب، فقال هم أولاء بأنه لم يوجد منه إلا تقدم سيره ثم أعقبه بجواب السؤال فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي لتزداد رضا قالَ فَإِنَّا قَدْ(3/209)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَتَنَّا قَوْمَكَ أي فإنا ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا مِنْ بَعْدِكَ أي من بعد انطلاقك إلى الجبل وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي دعاهم وصرفهم إلى الضلال وهو عبادة العجل، وإنما أضاف الضلال إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه وقيل إن جميع المنشآت تضاف إلى منشئها في الظاهر، وإن كان الموجد لها في الأصل هو الله تعالى فذلك قوله هنا وأضلهم السامري، قيل كان السامري من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة، وقيل كان من القبط وكان جارا لموسى وآمن به، وقيل كان علجا من علوج كرمان رفع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا جزعا قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي صدقا يعطيكم التوراة أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي مدة مفارقتي إياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم الغضب من ربكم بسببه فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي يعني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع.
[سورة طه (20) : الآيات 87 الى 96]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي بملك أمرنا، وقيل باختيارنا وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي حملنا مع أنفسنا ما كنا قد استعرناه من قوم فرعون، والأوزار الأثقال سميت أوزارا لكثرتها وثقلها وقيل الأوزار الآثام، أي حملنا آثاما وذلك أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط ولم يردوها وبقيت معهم إلى حين خروجهم من مصر وقيل إن الله لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذها بنو إسرائيل فكانت غنيمة ولم تكن الغنائم تحل لهم فَقَذَفْناها أي ألقيناها قيل إن السامري قال لهم احفروا حفيرة وألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه فيها. وقيل إن هارون أمرهم بذلك ففعلوا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ما كان معه من الحلي فيها، قال ابن عباس: أوقد هارون نارا وقال اقذفوا ما معكم فيها، وقيل إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال هارون اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه. فألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل في فم العجل وقال كن عجلا يخور فكان كذلك. بدعوة هارون فذلك قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ اختلفوا هل كان الجسد حيا أم لا على قولين أحدهما لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل فيها الريح صوت كصوت العجل. الثاني: أنه صار حيا وخار كما يخور العجل فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى يعني قال ذلك السامري ومن تابعه من افتتن به. وقيل عكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط مثله فَنَسِيَ قيل هو إخبار عن قول السامري أي إن موسى نسي إلهه وتركه ها هنا وذهب يطلبه. وقيل معناه أن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر فأخطأ الطريق وضل. وقيل هو من كلام الله تعالى وكأنه أخبر عن السامري أنه نسي(3/210)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء. ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي إن العجل لا يرد لهم جوابا إذا دعوه ولا يكلمهم وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هذا توبيخ لهم إذ عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبده وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.
قوله عز وجل وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل رجوع موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي ابتليتم بالعجل وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي على ديني في عبادة الله وَأَطِيعُوا أَمْرِي يعني في ترك عبادة العجل.
اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولا عن الباطل بقوله إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله وَأَطِيعُوا أَمْرِي فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة. وإنما قال وإن ربكم الرحمن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود قالُوا لَنْ نَبْرَحَ يعني لن نزال عَلَيْهِ يعني على عبادة العجل عاكِفِينَ يعني مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل. فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وقالَ له يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أي أشركوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي يعني خالفت أمري الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ
يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا فتقول رَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزابا فيتقاتلون، فتقول فرقت بني إسرائيل لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري قالَ فَما خَطْبُكَ يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت يا سامِرِيُّ قالَ يعني السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ يعني من تراب حافر فرس جبريل فَنَبَذْتُها يعني فقذفتها في فم العجل فخار. فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار. قلت ذكروا فيه وجهين.
أحدهما: أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذرا عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة. الوجه الثاني: أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس، فلما رآه قال إن لهذا لشأنا فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه، فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد. وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ يعني زينت لِي نَفْسِي وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعلة غيري واتبعت فيه هواي.
[سورة طه (20) : الآيات 97 الى 108]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106)
لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)(3/211)
قالَ يعني موسى للسامري فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ يعني ما دمت حيا أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ يعني لا تخالط أحدا ولا يخالطك أحد فعوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أوحش منها ولا أعظم وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا مساس لك ولولدك. فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحد وقيل كان إذا مس أحدا. أو مسه أحد حما جميعا فتحامى الناس وتحاموه وكان لا مساس حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وَإِنَّ لَكَ يا سامري مَوْعِداً يعني بعذابك في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ قرئ بكسر اللام ومعناه لن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة، وقرئ بالفتح أي لن تكذبه ولم يخلفكه الله بل يكافئك على فعلك وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ يعني الذي تزعم الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً يعني دمت عليه مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي لنذرينه فِي الْيَمِّ يعني في البحر نَسْفاً روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم وحرقه في النار ثم ذراه في البحر وقيل معناه لنحرقنه أي لنبردنه فعلى هذا التأويل لم ينقلب لحما ودما فإن ذلك لا يمكن أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال صار لحما ودما ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها في البحر فلما فرغ موسى من أمر العجل وإبطال ما ذهب إليه السامري رجع إلى بيان الدين الحق فقال مخاطبا لبني إسرائيل إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ يعني المستحق للعبادة والتعظيم هو الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني وسع علمه كل شيء وقيل يعلم من يعبده.
قوله عز وجل: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ يعني من أخبار ما قَدْ سَبَقَ يعني الأمم الخالية وقيل ما سبق من الأمور وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وهو القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ يعني عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً يعني حملا ثقيلا من الإثم خالِدِينَ فِيهِ يعني مقيمين في عذاب الوزر وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يعني بئس ما حملوا أنفسهم من الإثم يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قيل هو قرن ينفخ فيه يدعي به الناس للمحشر والمراد بهذه النفخة النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يعني نحشر المجرمين زرق العيون سود الوجوه وقيل عميا وقيل عطاشا يَتَخافَتُونَ يعني يتشاورون بَيْنَهُمْ ويتكلمون خفية إِنْ لَبِثْتُمْ يعني مكثتم في الدنيا إِلَّا عَشْراً يعني عشر ليال وقيل في القبور وقيل بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة وذلك أن العذاب رفع عنهم بين النفختين فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا فقال الله تعالى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني يتشاورون فيما بينهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أوفاهم وأعدلهم قولا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة وقيل نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم قوله عز وجل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً.
قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال كيف تكون الجبال يوم القيامة فأنزل الله تعالى هذه الآية والنسف هو القلع أي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثورا فَيَذَرُها أي يدع أماكن الجبال من الأرض قاعاً صَفْصَفاً أي أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يعني لا انخفاضا ولا(3/212)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
ارتفاعا يعني لا ترى واديا ولا رابية يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي صوت الداعي ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن لا عِوَجَ لَهُ أي لا عوج لهم عن دعائه ولا يزيعون عنه يمينا ولا شمالا بل يتبعونه سراعا وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ يعني سكنت وذلت وخضعت وضعفت والمراد به أصحاب الأصوات وقيل خضعت الأصوات من شدة الفزع فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وهو الصوت الخفي قال ابن عباس: هو تحريك الشفاه من غير نطق وقيل أراد بالهمس صوت وطء الأقدام إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل.
[سورة طه (20) : الآيات 109 الى 119]
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118)
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ لأحد من الناس إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يعني إلا من أذن له أن يشفع وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قال ابن عباس: يعني قال لا إله إلا الله، وفيه دليل على أنه لا يشفع غير المؤمن، وقيل إن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن يأذن الله له فيها وكان عند الله مرضيا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قيل الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي، أي يعلم الله ما قدموا من الأعمال وما خلفوا من الدنيا وقيل الضمير يرجع إلى من أذن له الرحمن وهو الشافع، والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع ثم قال يعلم ما بين أيديهم أي أيدي الشافعين وما خلفهم وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً قيل الكناية ترجع إلى ما أي هو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهم لا يعلمونه، والمعنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما وقيل الكناية راجعة إلى الله تعالى أي ولا يحيطون بالله علما وَعَنَتِ الْوُجُوهُ يعني ذلت وخضعت في ذلك اليوم ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره وذكر الوجوه وأراد بها المكلفين لأن عنت من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وفيها يظهر وقوله تعالى لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ تقدم تفسيره وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً.
قال ابن عباس خسر من أشرك بالله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً قال ابن عباس معناه لا يخاف أن يزاد على سيئاته ولا ينقص من حسناته، وقيل لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها قوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي كما بينا في هذه السورة أو هذه الآية المتضمنة للوحيد أنزلنا القرآن كله كذلك وقوله قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلسان العرب ليفهمون ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا وفصلنا القول فيه بذكر الوعيد ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد بهما يتعلق فتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يجتنبون الشرك والمحارم وترك الواجبات أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي إنما أنزلنا القرآن ليصبروا متقين مجتنبين ما لا ينبغي ويحدث لهم القرآن ذكرا يرغبهم في الطاعات وفعل ما ينبغي، وقيل معناه يجدد لهم القرآن عبرة وعظة(3/213)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
فيعتبرون ويتعظون بذكر عقاب الله الأمم قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي جل الله وعظم عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون والجاحدون وقيل فيه تنبيه على ما يلزم خلقه من تعظيمه وتمجيده، وقيل إنما وصف نفسه بالملك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره وأولى به منه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادره فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل مما يريده من التلاوة مخافة الانفلات أو النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك فقال تعالى وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي ولا تعجل بقراءته مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ وقيل معناه لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معناه وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فيه التواضع والشكر لله والمعنى زدني علما إلى ما علمت فإن لك في كل شيء علما وحكمة، قيل ما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول اللهم زدني علما وإيمانا ويقينا قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ يعني أمرناه وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي من هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَنَسِيَ أي فترك ما عهدنا إليه من الاحتراز عن أكل هذه الشجرة وأكل منها، وقيل أراد النسيان الذي هو ضد الذكر وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي صبرا عما نهي عنه وحفظا لما أمر به، وقيل معناه لم نجد له رأيا معزوما حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له، وقيل معناه لم نجد له عزما على المقام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب قوله عز وجل وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أن يسجد فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا أي إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ أي حواء وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدوا له فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أسند الخروج إليه، وإن كان الله تعالى هو المخرج لأنه لما كان بوسوسته وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك. ومعنى تشقى تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، وهو الحرث والزرع والحصد والطحن والخبز قيل أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فكان ذلك شقاءه. فإن قلت لم أسند الشقاء إلى آدم دون حواء.
قلت فيه وجهان أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم. الثاني: إنه أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها يعني الجنة وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها أي تعطش وَلا تَضْحى أي تبرز للشمس فيؤذيك حرها لأنه ليس في الجنة شمس وأهلها في ظل ممدود والمعنى أن الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة وإنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إليه أهل الدنيا.
[سورة طه (20) : الآيات 120 الى 129]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)(3/214)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدا وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبه إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه. وقوله تعالى فَأَكَلا مِنْها يعني أكل آدم وحواء من الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ أي بأكل الشجرة فَغَوى أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مرارا ويعتاده.
(ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما فحج آدم موسى» .
وفي رواية لمسلم «قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى. قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى» .
(الكلام على معنى الحديث وشرحه)
قوله احتج آدم وموسى: المحاجة المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلانا فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها شرها.
والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختيار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء. فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وإنما كان تناوله الشجرة سببا لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي من قبل أن يخلقني.
(فصل: في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك)
قال الإمام فخر الدين الرازي: اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة،(3/215)
أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم. الثاني: ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض. وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ومن الناس من جوز ذلك سهوا قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن. الثالث: ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو. الرابع: ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال. أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر. الثاني: قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث:
لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي. الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ. الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة. واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها:
قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة. الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جاءتهم النبوة. ويدل عليه وجوه أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف. الثاني: لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالا من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضا لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل. الثالث: لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال. الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ. الخامس: قال الله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. السادس: قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ وقال تعالى في حق موسى:
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه. قال وأما المخالف فقد تمسك بآيات منها قصة آدم هذه، والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيا وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة. وقال القاضي عياض وأما قصة آدم وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه. وقبل لم يقصد المخالفة استحلالا لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذلك قال ولم نجد له عزما أي قصدا للمخالفة، وقيل بل أكل من الشجرة متأولا(3/216)
وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأول أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم.
فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه. قلت إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا، وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أو خذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى. قوله عز وجل: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره واصطفاه فَتابَ عَلَيْهِ أي عاد بالعفو والمغفرة وَهَدى أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس، ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدوا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي الكتاب والرسول فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أنهم قالوا هو عذاب القبر. قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تختلف أضلاعه.
وفي بعض المسانيد مرفوعا يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل هو الزقوم والضريع والغسلين في النار، وقيل الحرام والكسب الخبيث. وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة. وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى. وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً يعني بصيرا العين أو بصير بالحجة قالَ كَذلِكَ يعني كما أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها يعني فطردتها وأعرضت عنها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر وَأَبْقى يعني وأدوم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني في ديارهم ومنازلهم إذا سافروا وذلك أن قريشا كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازما لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.(3/217)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
[سورة طه (20) : الآيات 130 الى 135]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ نسختها آية السيف وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل بأمر ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي صلاة العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي ومن ساعاته فَسَبِّحْ يعني فصل المغرب والعشاء قال ابن عباس يريد أول الليل وَأَطْرافَ النَّهارِ يعني صلاة الظهر سمي وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء لَعَلَّكَ تَرْضى أي ترضى ثوابه في المعاد، وقيل معناه لعلك ترضى بالشفاعة، وقرئ ترضى بضم التاء أي تعطى ثوابه، وقيل يرضاك ربك (ق) عن جرير بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» قوله لا تضامون بتخفيف الميم من الضيم، وهو الظلم والمعنى أنكم ترونه جميعا لا يظلم بعضكم بعضا في رؤيته وروي بتشديد الميم من الانضمام والازدحام، أي لا يزدحم ولا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته والكاف في قوله كما ترون هذا القمر كاف التشبيه للرؤية لا للمرئي وهي فعل الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم هذا القمر ليلة البدر ولا ترتابون فيه ولا تشكون قوله عز وجل: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ قال أبو رافع نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال قل له إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق أو سلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته إني لأمين في السماء وأمين في الأرض أذهب بدرعي الحديد إليه» فنزلت هذه الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر نظرا تكاد تردده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به وتمنيا له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أي أعطينا أَزْواجاً أي أصنافا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنجعل ذلك فتنة بأن تزيد النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا وَرِزْقُ رَبِّكَ أي في المعاد في الجنة خَيْرٌ وَأَبْقى أي أدوم وقال أبي بن كعب من لم يعتز بالله تقطعت نفسه حسرات، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه. ف قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي قومك وقيل من كان على دينك بِالصَّلاةِ يعني بالمحافظة عليها وَاصْطَبِرْ عَلَيْها يعني اصبر على الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وقيل اصبر عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا ولا أن ترزق نفسك بل نكلفك عملا نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي بل نحن نرزقك ونرزق أهلك وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي الخصلة المحمودة لأهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوك وآمنوا بك وفي بعض المسانيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية قوله تعالى وَقالُوا يعني المشركين لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي بيان ما فيها وهو القرآن لأنه أقوى(3/218)
دلالة وأوضح آية وقيل معنى ما في الصحف ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من أخبار الأمم أنهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم لم يؤمنوا فعجلنا لهم العذاب والهلاك فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك وقيل بينة ما في الصحف الأولى هي البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته وبعثته وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي لقالوا يوم القيامة أولا أرسلت إلينا رسولا يدعونا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى بالعذاب والهوان والافتضاح قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أي منتظر دوائر الزمان وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون وحوادث الدهر فإذا مات تخلصنا قال الله تعالى:
فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ أي إذا جاء أمر الله وقامت القيامة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ يعني المستقيم وَمَنِ اهْتَدى يعني من الضلالة نحن أم أنتم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/219)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
سورة الأنبياء
وهي مكية وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية وألف ومائة وثمان وستون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة وتسعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
قوله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة. نزلت في منكري البعث وإنما ذكر الله هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين، فيكونون أقرب إلى التأهب له، والمراد بالناس المحاسبون وهم المكلفون دون غيرهم، وقيل هم المشركون وهذا من باب إطلاق اسم الجنس على بعضه وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أي عن التأهب له وقيل معناه أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء ثم إذا نبهوا من سنة الغفلة بما يتلى من الآيات والنذر أعرضوا عنه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني ما يحدث الله من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به وقيل معناه إن الله يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وقيل الذكر المحدث ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافه إليه لأن الله تعالى قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ساهية معرضة غافلة عن ذكر الله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالغوا في إخفاء التناجي وهم الذين أشركوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به، فقال تعالى مخبرا عنهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أنهم أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة والأولى إرسال البشر إلى البشر لأن الإنسان إلى القبول من أشكاله أقرب أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ يعني أتحضرون السحر وتقبلونه وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ يعني تعلمون أنه سحر قالَ لهم محمد رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ(3/220)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
يعني لا يخفى عليه شيء وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأفعالهم. قوله عز وجل:
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم بَلِ افْتَراهُ يعني اختلقه بَلْ هُوَ شاعِرٌ وذلك أن المشركين اقتسموا القول في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما يقوله، فقال بعضهم أضغاث أحلام وقال بعضهم بل هو فرية وقال بعضهم هو شاعر وما جاءكم به شعر فَلْيَأْتِنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم بِآيَةٍ يعني بحجة إن كان صادقا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي من الرسل بالآيات قال الله تعالى مجيبا لهم ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية أتتهم الآيات أَهْلَكْناها يعني بالتكذيب أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ يعني إن جاءتهم آية والمعنى أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما جاءتهم أفيؤمن هؤلاء. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم، والمعنى إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا يوحى إليهم مثلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل التوراة والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أمر الله المشركين بسؤال أهل الكتاب لأن المشركين أقرب إلى تصديقهم من تصديق من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل أراد بالذكر القرآن يعني فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قوله عز وجل: وَما جَعَلْناهُمْ أي الرسل جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ هذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، والمعنى لم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام وَما كانُوا خالِدِينَ يعني في الدنيا بل يموتون كغيرهم ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني من المؤمنين الذين صدقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين لأن المشرك مسرف على نفسه.
قوله عز وجل: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا معشر قريش كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ يعني شرفكم وفخركم وهو شرف لمن آمن به، وقيل معناه فيه حديثكم، وقيل فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه بعث على التدبر لأن الخوف من لوازم العقل. قوله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 23]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
وَكَمْ قَصَمْنا يعني أهلكنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً يعني كافرة والمراد أهل القرية وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي أحدثنا بعد هلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي عذابنا بحاسة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يعني يسرعون هاربين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب لا تَرْكُضُوا يعني قيل لهم لا تهربوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ يعني تنعمتم فيه من العيش وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قال ابن عباس عن قتل نبيكم، قيل نزلت هذه الآية في أهل حضر موت قرية باليمن، وكان أهلها عربا فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم، فلما استمر فيهم القتل هربوا فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا، أي لا تهربوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمنعون من(3/221)
شئتم، فإنكم أهل ثروة ونعمة فأتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جو السماء يا لثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك، أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني لأنفسنا حين كذبنا الرسل وذلك أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب، وقالوا ذلك على سبيل الندامة ولم ينفعهم الندم فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ يعني تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً يعني بالسيوف كما يحصد الزرع خامِدِينَ يعني ميتين.
قوله عز وجل: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ معناه ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب للعب واللهو، سويناهما لفوائد منها التفكر في خلقهما وما فيهما من العجائب والمنافع التي لا تعد ولا تحصى لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال ابن عباس: اللهو المرأة وعنه أنه الولد لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا يعني من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض، وقيل معناه لو كان ذلك جائزا في حقنا لم نتخذه بحيث يظهر لكم بل نستر، ذلك حتى لا تتطلعوا عليه، وذلك أن النصارى لما قالوا، في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بقوله لاتخذناه من لدنا لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يعني ما كنا فاعلين، وقيل ما كنا ممن يفعل ذلك لأنه لا يليق بالربوبية بَلْ يعني دع ذلك الذي قالوه فإنه كذب وباطل نَقْذِفُ يعني نرمي ونسلط بِالْحَقِّ يعني بالإيمان عَلَى الْباطِلِ يعني على الكفر، وقيل الحق قول الله أنه لا ولد له والباطل قولهم اتخذ الله ولدا فَيَدْمَغُهُ فيهلكه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ يعني ذاهب والمعنى أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يذهب ويضمحل، ثم أوعدهم على كذبهم فقال تعالى (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) يا معشر الكفار (مِمَّا تَصِفُونَ) الله بما لا يليق من الصاحبة والولد وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة وإنما خص الملائكة وإن كانوا داخلين في جملة من في السموات لكرامتهم ومزيد الاعتناء بهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يعني لا يتكبرون ولا يتعظمون عنها وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يعني لا يعيون ولا يتعبون، وقيل لا ينقطعون عن العبادة ثم وصفهم الله تعالى يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ يعني لا يضعفون ولا يسأمون، وذلك أن تسبيحهم متصل دائم لا يفتر في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو شغل أخر قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني الأصنام من الحجارة والخشب وغيرهما من المعادن وهي من الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ يعني يحيون الأموات، إذ لا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم، وهو الله عز وجل لَوْ كانَ فِيهِما يعني في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ يعني غير الله (لفسدتا) يعني لخربتا وهلك من فيهما الوجود والتمانع من الآلهة لأن كل أمر صدر عن الاثنين فأكثر لم يجر على النظام وقال الإمام فخر الدين الرازي قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا، وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرا على تحريك زيد وتسكينه.
لو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه وأراد تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعن معا لوجدا معا وذلك محال أو يقع مراد أحدهما: دون الثاني وذلك أيضا محال لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر، بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح. وثانيهما: أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص، وهو على الإله محال. ولو فرضنا إلهين، لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد،(3/222)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
وهو محال لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا، فيلزم استغناؤه عنهما معا واحتياجه إليهما معا، وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا، أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما، وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الثاني والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات. واعلم أنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية الله تعالى.
وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن، واعلم أن كل من طعن في دلالة التمانع ففسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام، لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم في قوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وأما قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ففيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يعني لا يسأل عما يفعله ويقضيه في خلقه وَهُمْ يُسْئَلُونَ يعني والناس عن أعمالهم، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال وهدى وإضلال وإسعاد وإشقاء، لأنه الرب مالك الأعيان والخلق يسألون سؤال توبيخ.
يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 24 الى 33]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لما أبطل الله تعالى أن تكون آلهة سواه، بقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا أنكر عليهم اتخاذهم الآلهة فقال أم اتخذوا من دونه آلهة وهو استفهام إنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على ذلك ثم قال مستأنفا هذا يعني القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ يعني خبر مَنْ قَبْلِي أي من الأمم السالفة وما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة.
وقال ابن عباس ذكر من معي القرآن وذكر من قبلي التوراة والإنجيل، والمعنى راجعوا القرآن والتوراة(3/223)
والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا أو كان معه آلهة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أي فوحدوني، وقيل لما توجهت الحجة عليهم، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق، فقال بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون، أي عن التأمل والتفكر وما يجب عليهم من الإيمان بأنه لا إله إلا هو. قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ نزه نفسه عما قالوا. بَلْ عِبادٌ أي هم عباد يعني الملائكة مُكْرَمُونَ أي أكرمهم الله واصطفاهم لا يَسْبِقُونَهُ أي لا يتقدمونه بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ المعنى أنهم لا يخالفونه قولا ولا عملا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما عملوا وما هم عاملون وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قال ابن عباس إلا لمن قال لا إله إلا الله وقيل إلا لمن رضى الله تعالى عنه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وجلون لا يأمنون مكره وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ قيل عنى به إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
قوله عزّ وجلّ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألم يعلم الذين كفروا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قال ابن عباس كانتا شيئا واحدا ملتزقتين فَفَتَقْناهُما أي فصلنا بينهما بالهواء. قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحا بوسطهما ففتحهما بها، وقيل كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة، ففتقها وجعلها سبع سموات وكذلك الأرض، وقيل كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء، من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر، وذلك لأنه سبب لحياة كل شيء، وقال المفسرون: معناه أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء وقيل يعني النطفة. فإن قلت قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة والجان. قلت خرج هذا الأمر مخرج الأغلب والأكثر يعني أن أكثر ما على وجه الأرض مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تميد بهم، قيل إن الأرض بسطت على الماء فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء فأرساها الله فأثبتها بالجبال وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي فِجاجاً أي طرقا ومسالك والفج الطريق الواسع بين الجبلين سُبُلًا هو تفسير الفجاج لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى مقاصدهم وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي من أن يسقط ويقع وقيل محفوظا من الشياطين بالشهب وَهُمْ يعني الكفار عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي عما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم، وكيفية حركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة القاهرة، لا يتفكرون ولا يعتبرون بها وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء.
وإنما قال يسبحون ولم يقل تسبح، على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها فعل العقلاء، وهو السباحة والجري. والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك وقيل الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الرحى، وقيل الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، وقيل الفلك استدارة السماء، وقيل الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم، وقال أصحاب الهيئة الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلا بأخبار الصادق فسبحان الخالق المدبر لخلقه بالحكمة والقدرة الباهرة غير المتناهية. قوله عزّ وجلّ:(3/224)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 43]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعني الدوام والبقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون نشمت بموته، فنفى الله الشماتة عنه بهذا والمعنى أن الله تعالى قضى أن لا يخلد في الدنيا بشرا لا أنت ولا هم فإن مت أنت أفيبقى هؤلاء وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ هذا العموم مخصوص بقوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك فإن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت. والذوق ها هنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله وَنَبْلُوكُمْ أي نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ أي بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر، وقيل مما تحبون وما تكرهون فِتْنَةً أي ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون وصبركم فيما تكرهون وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أي ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي سخريا قيل نزلت في أبي جهل مر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فضحك وقال هذا نبي بني عبد مناف أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي يعيب ألهتكم والذكر يطلق على المدح والذم مع القرينة وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب قوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، قيل معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، وقيل لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل وأورث بنيه العجلة وقيل معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه، لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، وقيل خلق بسرعة وتعجيل على غير قياس خلق بنيه لأنهم خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أطوارا أطوارا طورا بعد طور وقيل خلق الإنسان من عجل أي من طين قال الشاعر:
والنخل ينبت بين الماء والعجل
أي بين الماء والطين. وقيل أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه قوله سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وذلك أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب، وقيل نزلت في النضر بن الحرث، ومعنى سأريكم آياتي أي مواعيدي فلا تطلبوا العذاب قبل وقته فأراهم يوم بدر، وقيل كانوا يستعجلون القيامة فلذلك قال تعالى وَيَقُولُونَ يعني المشركين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على(3/225)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
سبيل الاستهزاء فبين تعالى أنهم إنما يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم بين ما لهؤلاء المستهزئين فقال تعالى:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ يعني لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ قيل السياط وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب والمعنى لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا بالعذاب ولما قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني الساعة بَغْتَةً أي فجأة فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي صرفها ودفعها عنهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون للتوبة والمعذرة وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي يا محمد كما استهزأ بك قومك فَحاقَ أي نزل وأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقوبة استهزائهم وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.
قوله تعالى قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا انصرفتم في معايشكم مِنَ الرَّحْمنِ قال ابن عباس معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي عن القرآن ومواعظه مُعْرِضُونَ أي لا يتأملون في شيء منها أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا معناه ألهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أي لا يقدرون على نصر أنفسهم فكيف ينصرون من عبدهم وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال ابن عباس يمنعون وقيل يجارون وقيل ينصرون وقيل معناه لا يصبحون من الله بخير.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 44 الى 57]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53)
قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ يعني الكفار وَآباءَهُمْ أي في الدنيا بأن أنعمنا عليهم وأمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي امتد بهم الزمان فاغتروا أَفَلا يَرَوْنَ يعني هؤلاء المشركين أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني ننقص من أطراف المشركين، ونزيد من أطراف المؤمنين يريد بذلك ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا وقرية فقرية، والمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد، بعد الواحد وفتح البلاد والقرى مما حول مكة وإدخالها في ملك محمد صلّى الله عليه وسلّم، وموت رؤوس المشركين المتنعمين بالدنيا، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع منا ومن إرادتنا فيهم ثم قال أَفَهُمُ الْغالِبُونَ استفهام بمعنى التقريع معناه بل نحن الغالبون وهم المغلوبون قُلْ يا محمد إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي أخوفكم بالقرآن وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما(3/226)
يُنْذَرُونَ
أي يخوفون وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي أصابتهم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ قال ابن عباس طرف وقيل شيء قليل لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. قوله عزّ وجلّ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل ومعنى وضعها إحضارها لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي لأهل يوم القيامة قيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال، فمن أحاطت حسناته بسيئاته فاز ونجا وبالعكس ذل وخسر، والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد، وقال الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وأكثر الأقوال أنه ميزان واحد وإنما جمع لاعتبار تعدد الأعمال الموزونة به. وروي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه عزّ وجلّ أن يريه الميزان فأراه كل كفته ما بين المشرق والمغرب فلما رآه غشي عليه، ثم فاق فقال إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ قال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. فعلى هذا ففي كيفية وزن الأعمال مع أنها أعراض طريقان: أحدهما: أن توضع صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة، وصحائف السيئات في كفة. والثاني: أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. فإن قلت كيف تصنع بقوله ونضع الموازين القسط مع قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا.
قلت هذه في حق الكفار لأنهم ليس لهم أعمال توزن مع الكفر. وقوله تعالى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يعني لا تبخس مما لها وما عليها من خير وشر شيئا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها معناه أنه لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءه مسيء، وأراد بالحبة الجزء اليسير من الخردل، ومعنى أتينا بها يعني أحضرناها لنجازي بها. عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئا، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول لا يا رب، فيقول أفلك عذر، فيقول لا يا رب. فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي. السجل الكتاب الكبير، وأصله من التسجيل لأنه يجمع أحكاما، والبطاقة ورقة صغيرة تجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه، والطيش الخفة، قلت في الحديث دليل على أن صحائف الأعمال هي التي توزن، لا أن الأعمال تتجسد جواهر فتوزن والله أعلم. قوله تعالى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال ابن عباس معناه كفى بنا عالمين حافظين لأن من حسب شيئا فقد علمه وحفظه، والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون بأشد الخوف منه ويروى عن الشبلي أنه رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال:
حاسبونا فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
هكذا سيمة الملوك ... بالمماليك يرفقوا
قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل وهو التوراة، وقيل الفرقان النصر على الأعداء فعلى هذا يكون وَضِياءً يعني التوراة ومن قال الفرقان هو التوراة جعل الواو زائدة في وضياء والمعنى آتينا موسى التوراة ضياء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ يعني يتذكرون بمواعظها ويعملون بما فيها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه، وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أي كما آتينا موسى التوراة، فكذلك أنزلنا(3/227)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
القرآن ذكرا مباركا، أي هو ذكر لمن آمن به مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي صلاحه وهداه مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ وهو حين خرج من السرب وهو صغير وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي إنه من أهل الهداية والنبوة إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني الصور والأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي مقيمون على عبادتها قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي فاقتدينا بهم قالَ يعني إبراهيم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
أي في خطأ بين بعبادتكم إياها قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالصدق أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ يعنون أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي على أنه الإله الذي يستحق العبادة، وقيل شاهد على أنه خالق السموات والأرض وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأمكرن بها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين إلى عيدكم، قيل إنما قال إبراهيم هذا القول سرا في نفسه، ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه فأفشاه عليه، وهو القائل إنا سمعنا فتى يذكرهم، وقيل كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم رجعوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، فنادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم، ومستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام جنبها إلى جنب بعض كل صنم الذي يليه أصغر منه وهكذا إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي الآلهة وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء «ألا تأكلون» فلما لم يجيبوه قال «ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين» وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم، علق الفأس في عنقه، وقيل في يده ثم خرج فذلك قوله تعالى.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 58 الى 68]
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62)
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي كسرا وقطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي تركه ولم يكسره ووضع الفأس في عنقه، ثم خرج وقيل ربطه على يده وكانت اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من نحاس ورصاص وحجر وخشب وكان الصنم الكبير من الذهب مكللا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان وقوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قيل معناه يرجعون إلى إبراهيم وإلى دينه وما يدعوهم إليه، إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها، وقيل معناه لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه ما لهؤلاء تكسروا وأنت صحيح والفأس في عنقك، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم مكسرة قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ(3/228)
أي في تكسيرها واجترائه عليها قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يسبهم ويعيبهم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي هو الذي نظن أنه صنع هذا فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي جيئوا به ظاهرا بمرأى الناس وإنما قاله نمرود لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي عليه بأنه الذي فعل ذلك كرهوا أن يأخذوه بغير بينة وقيل معناه لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به فلما أتوا به قالُوا له أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ يعني إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبدون معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم فذلك قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي حتى يخبروا بمن فعل ذلك بهم، وقيل: معناه إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هذه أختي» لفظ الترمذي قيل في قوله إني سقيم أي: سأسقم وقيل: سقيم القلب مغتم بضلالتكم.
وأما قوله بل فعله كبيرهم هذا فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال: إن كان ينطق فهو على طريق التبكيت لقومه وقوله لسارة: هذه أختي، أي في الدين والإيمان قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فكل هذه الألفاظ صدق في نفسها ليس فيها كذب. فإن قلت: قد سماها النبي صلّى الله عليه وسلّم كذبات بقوله: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة ويذكر كذباته. قلت: معناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها بمؤاخذته بها قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم والأولى هو الأول للحديث، ويجوز أن يكون الله أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال:
أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا قال الإمام فخر الدين الرازي: وهذا القول مرغوب عنه، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذب لمصلحة ويأذن الله فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبر الأنبياء عنه، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ويطرق التهمة إلى كلها، والحديث محمول على المعاريض، فإنه فيها مندوحة عن الكذب.
وقوله: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يعني تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فَقالُوا ما نراه إلا كما قال إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ يعني بعبادتكم ما لا يتكلم وقيل معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ قال أهل التفسيسر أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم ثم أدركتهم الشقاوة فرجعوا إلى حالهم الأولى وهو قوله: ثم نكسوا على رؤوسهم أي ردوا إلى الكفر وقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ يعني فكيف نسألهم، فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم قالَ لهم أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً يعني إن عبدتموه وَلا يَضُرُّكُمْ يعني إن تركتم عبادته أُفٍّ لَكُمْ يعني تبا لكم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى أنه حقرهم وحقر معبودهم أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أليس لكم عقل تعقلون به أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ يعني أنكم لا تنصرونها إلا بتحريق إبراهيم لأنه يعيبها ويطعن فيها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ يعني ناصرين آلهتكم. قال ابن عمر: الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
ذكر القصة في ذلك
فلما اجتمع نمرود وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى ثم(3/229)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
جمعوا له صلاب الحطب وأصناف الخشب مدة شهر حتى كان الرجل يمرض فيقول: لئن عوفيت لأجمعن حطبا لإبراهيم وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتسابا في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم، فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب نارا فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطير ليمر بها فتحرق من شدة وهجها وحرها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه، فقيل إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا، فصاحت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة: أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره، فأذن لنا في نصرته فقال الله تعالى: إنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري، فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه وقال: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الهواء وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم حسبي الله حسبي الله ونعم الوكيل.
وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة فقال: أما إليك فلا قال جبريل فاسأل ربك فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي (خ) عن ابن عباس في قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال: قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ قال كعب الأحبار: جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار (ق) عن أم شريك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أمر بقتل الأوزاغ- زاد البخاري- وقال كان ينفخ على إبراهيم» (قلنا) يعني قال عز وجل.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 69 الى 71]
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)
يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: لو لم يقل سلاما لمات إبراهيم من بردها، وفي بعض الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبدا، وقيل: أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام، قاله المنهال بن عمرو وقال إبراهيم: ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت في النار. قيل:
وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه. قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين النار يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم. قال: هل تخشى إن قمت أن تضرك قال لا.
قال: فقم فاخرج منها فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها فلما وصل إليه قال له يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك مثلك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها فقال نمرود(3/230)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة.
قال إبراهيم: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها، فذبحها نمرود، وكف عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومنعه الله عز وجل منه قوله عز وجل وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً يعني أرادوا أن يكيدوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ قيل: معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم. وقيل: إن الله تعالى أرسل على نمرود وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة فأهلكته. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً يعني من نمرود وقومه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني إلى أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار. وقال أبي بن كعب: بارك الله فيها وسماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وقيل: لأن أكثر الأنبياء منها (ق) عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لكعب:
ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره فقال كعب: إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنز من عباده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود، أراد بالهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لأهل الشام فقلت وما ذاك يا رسول الله قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ قال ها هنا ونحا بيده نحو الشام» أخرجه الترمذي.
قال محمد بن إسحاق: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله تعالى به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئهم وآمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وتبعه لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران وهو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور فثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر، فخرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج مهاجرا حتى قدم مصر، ثم خرج ورجع إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله نبيا إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قوله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 72 الى 79]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً يعني عطية من عطاء الله. قال ابن عباس: النافلة هو يعقوب لأن الله(3/231)
تعالى أعطى إبراهيم إسحاق بدعائه حيث قال: رب هب لي من الصالحين وزاده يعقوب نافلة وهو ولد الولد وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يعني قدوة يهتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يعني يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ يعنى العمل بالشرائع وَإِقامَ الصَّلاةِ يعني المحافظة عليها وَإِيتاءَ الزَّكاةِ يعني الواجبة وخصهما لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر الله والزكاة أفضل العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَكانُوا لَنا عابِدِينَ يعني موحدين قوله عز وجل وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي الفصل بين الخصوم بالحق وقيل أراد الحكمة والنبوة وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني قرية سدوم وأراد أهلها وأراد بالخبائث إتيان الذكور في أدبارهم، وكانوا يتضارطون في مجالسهم مع أشياء أخرى كانوا يعلمونها من المنكرات إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا قيل: أراد بالرحمة النبوة وقيل أراد بها الثواب إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الأنبياء.
قوله تعالى: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه له، وقيل: إنه كان أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء. والكرب أشد الغم وَنَصَرْناهُ أي منعناه مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من أن يصلوا إليه بسوء وقيل من بمعنى على إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. قوله عز وجل وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان الحرث كرما قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعا وهو أشبه بالعرف إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا فأفسدته وكان بلا راع وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه. وفيه دليل لمن يقول بأن أقل الجمع اثنان لقوله وكنا لحكمهم والمراد به داود وسليمان قال ابن عباس وغيره. إن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن غنم هذا دخلت زرعي ليلا فوقعت فيه فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأعطاه رقاب الغنم بالزرع، فخرجا فمرا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي ويروى أنه قال له بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك، فقيل: كان لسليمان يوم حكم بذلك من العمر إحدى عشر سنة.
وحكم الإسلام في هذه المسألة أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير بالنهار فلا ضمان على ربها وما أفسدته بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح. ويدل على هذه المسألة ما روى حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وزاد في رواية: وإن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل، أخرجه أبو داود مرسلا. وذهب أصحاب الرأي أن المالك إذا لم يكن مع ماشيته فلا ضمان عليه فيما أتلفت ليلا كان أو نهارا، فذلك قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي علمناه وألهمناه حكم القضية وَكُلًّا أي داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده.
واختلف العلماء في أن حكم داود كان باجتهاده أم بنص، وكذلك حكم سليمان فقال بعضهم: حكما(3/232)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
بالاجتهاد. قال: ويجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين والعلماء لهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطئوا فلا إثم عليهم (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ومن قال بهذا يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عنه بالوحي، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية وبالحديث حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ، وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه، ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهدا، ووجه الاجتهاد في هذا الحكم أن داود قوم قدر الضرر في الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم، وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر في الحرث قيمة المثل، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه.
وأما سليمان فإن اجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الحرث فحكم به. ومن أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ أي يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، قيل:
كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقيل معنى يسبحن يصلين معه إذا صلى وقيل كان داود إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وَكُنَّا فاعِلِينَ يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 80 الى 81]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81)
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي صنعة الدروع التي تلبس في الحرب قيل أول من صنع الدروع وسردها واتخذها حلقا داود وكانت من قبل صفائح قالوا إن الله ألان الحديد لداود بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين والدرع يجمع بين الخفة والحصانة وهو قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ أي تمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ أي حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم وقيل ليحصنكم الله به فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي يقول ذلك لداود وأهل بيته. قوله عز وجل وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح وهو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحسن بحركته ويخفى عن البصر بلطفه عاصِفَةً أي شديدة الهبوب. فإن قلت: قد وصفها الله بالرخاء وهي الريح اللينة قلت: كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك لأنها كانت تجري بسليمان وأصحابه حيث يشاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي بصحة التدبير فيه وعلمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قال وهب: كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه حلقت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره، وكان امرأ غزاء، قلما كان يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من(3/233)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد.
وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا. قال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الإنس أو من الجن نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فنازلون بالشام وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه شمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، وقال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان الخيل حتى فاتته، صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل. وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض السند وجاوزها وخرج منها إلى مكران وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام. وكان مستقره بمدينة تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأصفر والأبيض، وفي ذلك يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 82 الى 83]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
قوله عز وجل وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي دون الغوص وهو اختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية، ويتجاوزون في ذلك إلى أعمال المدن والقصور والصناعات كاتخاذ النورة والقوارير والصابون وغير ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ يعني حتى لا يخرجوا عن أمره، وقيل: حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وذلك أنهم كانوا إذا عملوا عملا في النهار وفرغ قبل الليل أفسدوه وخربوه. قيل: إن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه. قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ يعني دعا ربه.
ذكر قصة أيوب عليه السلام
قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلا من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله(3/234)
من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة، وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو أربع أو خمس وفوق ذلك، وكان الله تعالى قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرا لأنعم الله، مؤديا لحق الله قد امتنع عن عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه: رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير، ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما تلدد والآخر صافر وكان لهؤلاء مال، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع. فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسد والبغي، فصعد سريعا حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال.
فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس: اذهب فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة: الحمد لله هو أعطانيها وهو أخذها، وإنها مال الله أعارنيها وهو أولى بها، إذا شاء نزعها. قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى التراب وعريانا أحشر إلى الله عز وجل، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قلبه. قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتا من عند آخرها ومات رعاتها، فجاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه. قال: فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأول، فرد عليه أيوب مثل رده الأول، وجعل إبليس يصف ماله مالا مالا حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه، ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال.(3/235)
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على ولده. فانقض عدو الله حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده، وجعل جدره يضرب بعضها بعضا يرميهم بالخشب والحجارة، فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم، وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: يا ليت أمي لم تلدني. فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئا ذليلا وقال: إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، وكان الله أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب
ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب. فانقض عدو الله إبليس سريعا إليه فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة.
فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا: تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به. قال: وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى: إنكم تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه الله بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا. فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم، ولا لهوانهم عليه، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول، وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لأمر الله(3/236)
وإجلالا، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء.
قال أيوب عليه السلام: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فإذا نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من الله سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال:
أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم. وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي. ثم أعرض عنهم أيوب، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، وللفتنة نصيبا، وقد وقع عليّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي. وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي يا أيوب إن الله يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي. لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا، ما يبلغ لمثله مثلك. أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت أي مقدار قدرتها، أم على أي شيء وضعت أكنافها. أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ وشق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب: صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليّ إلهي. قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء هو الذي أنطقني. ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك. ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك. إنما تكلمت حين تكلمت بعذري، وسكت حين سكت(3/237)
لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي، أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعينك عن أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزا للصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فمنه تناول وقرب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. روي عن أنس يرفعه أن أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة، وقال وهب: ثلاث سنين لم يزد يوما، وقال كعب: سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدود، لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بالطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض، فلما اجتمعوا إليه قالوا:
ما أحزنك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالا ولا ولدا ولم يزدد إلا صبرا، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا تقربه إلا امرأته، فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له: فأين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا عليّ قالوا: من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امرأة أيوب وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل وقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟
قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الديدان في جسده. فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدا، فصرخت فعلم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك الحسن؟ اذبح هذه السخلة واسترح. قال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟
قالت الله قال كم متعنا به قالت ثمانين سنة.
قال فمنذ كم ابتلانا قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله. طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام أن أذوق منه شيئا اعزبي عني فلا أراك، فطردها، فذهبت. فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا لله وقارب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين ماء، فاغتسل منها فلم يبق عليه من درنه ودائه شيء ظاهر إلا سقط، وعاد شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا وكسي حلة فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان عليه وما كان له. من أهل ومال إلا وقد ضعفه الله له وذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراد من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها؟ قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا؟ ويضيع فتأكله السباع؟ لأرجعن إليه. فرجعت إليه فلا الكناسة رأت، ولا تلك الحالة التي كانت تعرف، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعيني أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عن أيوب، فدعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري(3/238)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
أضاع أم ما فعل به؟ فقال أيوب: ما كان منك فبكت وقالت بعلي. فقال هل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت وهل يخفى على أحد رآه ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت: أما إنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا. قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله فرد عليّ ما ترين.
وقال وهب: لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء. فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم. قال: هل تعرفيني؟ قالت لا. قال: أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياه ببطن الوادي الذي لقيها فيه. وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها. قال: لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة جلدة وقال عند ذلك: مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. ثم إن الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها، وأراد أن يبر يمين أيوب، فأمره أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغير فيضربها به ضربة واحدة. وقيل: لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء:
أحدها: ما قيل في حقه: لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا، والثاني: أن امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها فأتته بطعام، والثالث: قول إبليس: إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني. وقيل مسني الضر أي من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له بعد ما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. فإن قلت كيف سماه الله صابرا وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله مسني الضر وقوله مسني الشيطان بنصب وعذاب؟ قلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء بدليل.
[سورة الأنبياء (21) : آية 84]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ والشكوى إنما تكون إلى الخلق لا إلى الخالق بدليل قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقال سفيان بن عيينة: من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعا كما «روي أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فقال كيف تجدك؟ قال: أجدني مغموما وأجدني مكروبا. وقال لعائشة حين قالت: وا رأساه بل أنا وا رأساه» قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وذلك أنه قال له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله فنبعت عين ماء فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل، فنبعت عين ماء بارد، فأمره أن يشرب منها، فشرب، فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما كان وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين: رد الله إليه أهله وأولاده بأعيانهم وأحياهم الله وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن، وعن ابن عباس رواية أخرى أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا. وقيل كان له سبع بنين وسبع بنات.
وعن أنس يرفعه أن كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضا. وروى أن الله تعالى بعث إليه ملكا وقال له: إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك، فخرج إليه فأرسل الله عليه جرادا من ذهب فذهبت واحدة(3/239)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
فاتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك ما يكفيك ما في أندرك؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركاته (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكني لا غنى لي عن بركتك» .
وقيل: آتى الله أيوب مثل أهله الذين هلكوا. قال عكرمة: قيل لأيوب إن أهلك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال: بل يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا. فعلى هذا يكون معنى الآية وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي نعمة وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ يعني عظة وعبرة لهم. قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 87]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
وَإِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وَإِدْرِيسَ هو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ لما ذكر الله أمر أيوب وصبره على البلاء أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضا. أما إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فإنه صبر على الانقياد إلى الذبح. وأما إدريس فقد تقدمت قصته. وأما ذو الكفل فاختلفوا فيه فقيل نبيا من بني إسرائيل وكان ملكا أوحى الله إليه إني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل أنه يصلي الليل ولا يفتر ويصوم النهار ولا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل. وقيل: لما كبر اليسع قال إني أستخلف رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي أنظر كيف يعمل قال: فجمع الناس وقال: من يتقبل مني ثلاثا أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا، فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام من الليل والنهار إلا تلك النومة: فدق الباب فقال: من هذا، فقال: شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا، وجعل يطول عليه حتى ذهبت القائلة فقال: إذا رحت فائتني حتى آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلم يره، فلما رجع إلى القائلة وقال وأخذ مضجعه دق الباب فقال: من هذا فقال: الشيخ المظلوم ففتح له وقال له: ألم أقل إذا قعدت فائتني؟ قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك إذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا جلست فائتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النعاس فلما كانت تلك الساعة نام فجاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت فدق الباب من داخل فاستيقظ فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فقال: أتنام والخصوم ببابك، فنظر إليه فعرفه فقال:
أعدو الله؟ قال نعم أعييتني وفعلت ما فعلت لأغضبك فعصمك الله فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، واختلف في نبوته فقيل كان نبيا، وهو إلياس وقيل هو زكريا، وقيل إنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعني ما أنعم به عليهم من النبوة وصبرهم إليه في الجنة من الثواب إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.(3/240)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله عز وجل: وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت أضيف إلى الحوت لابتلاعه إياه وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن عباس في رواية عنه: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منها تسعة أسباط ونصفا وبقي منهم سبطان ونصف، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك: فمن ترى، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء. قال: يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس: وأمره أن يخرج فقال يونس هل الله أمرك بإخراجي؟ قال لا. قال فهل سماني الله لك؟ قال لا. قال ها هنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك وقومه وأتى بحر الروم فركب وقيل ذهب عن قومه مغاضبا لربه لما كشف عنهم العذاب بعد ما أوعدهم وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب عنهم به فكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذابا لا كراهية لحكم الله. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أنهم يقتلون من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه ما لم يأتهم العذاب للميعاد فذهب مغاضبا. قال ابن عباس: أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم فقال: ألتمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة.
وقال وهب: إن يونس كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وقال وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نقضي عليه العقوبة. قاله ابن عباس في رواية عنه وقيل معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس وقيل معناه فظن أنه يعجر ربه فلا يقدر عليه، قيل لما انطلق يونس مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه وكان له سلف وعبادة أبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين ما بين يوم وليلة. وقيل سبعة أيام وقيام ثلاثة. وقيل: إن الحوت ذهب به حتى بلغ تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه وراجع نفسه في بطن الحوت فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي حيث عصيتك وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته وروى أبو هريرة مرفوعا قال أوحى الله تعال إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح هو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول فقال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذلك.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 88 الى 92]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)(3/241)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي تلك الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا. فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ومنها فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومنها قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت قبل الرسالة أم لا؟ فقال ابن عباس: كانت رسالته بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح. وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضبا فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج. وإن الله تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله، أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلما. وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل والله أعلم.
قوله عز وجل وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعا ربه فقال رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ هو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى أي ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما وقيل كانت سيئة الخلق فأصلحها الله تعالى له بأن رزقها حسن الخلق إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وقيل زكريا وأهل بيته، والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله عز وجل وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً يعني أنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين: أحدهما: الفزغ إلى الله لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه.
والثاني: الخشوع وهو قوله تعالى وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الوقوع في الإثم. قوله تعالى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وهي مريم بنت عمران فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً أي دلالة لِلْعالَمِينَ على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب، فان قلت هما آيتان فكيف قال آية؟. قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياه من غير أب آية. قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم ودينكم أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 93 الى 100]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)(3/242)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا حتى لعن بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجزيهم بأعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي لعمله وحافظون له. وقيل: الشكر من الله المجازاة، والكفران ترك المجازاة. قوله عز وجل وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ قال ابن عباس:
ومعناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك، وقيل: معناه وحرام على أهل قرية حكمنا بهلاكهم أن نقبل أعمالهم لأنهم لا يتوبون.
قوله عز وجل حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يريد فتح السد وذلك أن الله يفتحه أخبر عن يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان، يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يسرعون النزول من كل الآكام والتلال. وفي هذه الكناية وجهان: أحدهما أن المراد بهم يأجوج ومأجوج وهو الأصح بدليل ما روي عن النواس بن سمعان قال «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظننا أنه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر لهم السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأصبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه» . قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم «ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ثم يأتي عيسى عليه السلام إلى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله فيهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم(3/243)
فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة. ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» أخرجه مسلم.
شرح غريب ألفاظ الحديث
قوله حتى ظنناه في طائفة النخل أي ناحية النخل وجانبه والطائفة القطعة من الشيء، وقوله فخفض فيه ورفع خفض صوته ورفعه من شدة ما تكلم به في أمره. وقيل إنه خفض من أمره تهوينا له ورفع من شدة فتنته والتخويف من أمره. قوله إنه شاب قطط أي جعد الشعر وقوله طافئة أي خارجة عن حدها قوله إنه خارج خلة أي إنه يخرج قصدا وطريقا بين جهتين والتخلل الدخول في الشيء. قوله فعاث أي أفسد. قوله اقدروا له قدره أي قدروا قدر يوم من أيامكم المعهودة وصلوا فيه بقدر أوقاته، وقوله فتروح عليهم سارحتهم أي مواشيهم، وقوله فيصبحون ممحلين أي مقحطين قد أجدبت أرضهم وغلت أسعارهم. قوله كيعاسيب النحل جمع يعسوب وهو فحل النحل ورئيسها. قوله فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى بالنشاب. قوله بين مهرودتين رويت بالدال المهملة وبالمعجمة أي شقتين وقيل حلتين وقيل الهرد الصبغ الأصفر بالورس والزعفران. قوله لا يدان لأحد بقتالهم أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم فرسي جمع فريس وهو القتيل. قوله زهمهم أي ريحهم النتنة. قوله كالزلفة أي كالمرآة وجمعها زلف ويروى بالقاف وأراد به استواءها ونظافتها. قوله تأكل العصابة أي الجماعة قيل يبلغون أربعين وقحف الرمانة في الحديث قشرها، والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة الناقة ذات اللبن، والفئام الجماعة من الناس، والفخذ دون القبيلة، وقوله يتهارجون أي يختلفون والتهارج الاختلاف، وأصله القتل.
الوجه في تفسير قوله تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ
قيل جميع الخلائق يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب (م) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلّى الله عليه وسلّم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذكرون قالوا؟ نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» . قوله عز وجل وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي القيامة قال حذيفة لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. الفلو المهر فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل معنى الآية أن القيامة إذا قامت شخص أبصار الذين كفروا من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف هول ذلك اليوم ويقولون يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا يعني في الدنيا حيث كذبنا به وقلنا إنه غير كائن بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي في وضعنا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل إِنَّكُمْ الخطاب للمشركين وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها ووقودها وقيل يرمي بهم في النار كما يرمي بالحصباء وأصل الحصب الرمي أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني الأصنام آلِهَةً أي على الحقيقة ما وَرَدُوها أي ما دخل الأصنام النار وعبدوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني العابدين والمعبودين لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قيل الزفير هو أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس وقيل هو شدة ما ينالهم من العذاب وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر(3/244)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 107]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قال العلماء: إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة أُولئِكَ عَنْها أي عن النار مُبْعَدُونَ قيل: الآية عامة من كل من سبقت له من الله السعادة، وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أفحمه ثم تلا عليه إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآيات الثلاث ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يعني عزيرا والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون الله، ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ أي من النعيم والكرامة خالِدُونَ أي مقيمون. قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قال ابن عباس: يعني النفخة الأخيرة، وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي في الدنيا. قوله عز وجل يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قال ابن عباس: السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر. وقيل: السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل الطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة (ق) عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده» قوله غرلا أي قلفا.
وقوله تعالى وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني الإعادة والبعث بعد الموت. قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قيل: الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس: الزبور(3/245)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقيل الزبور: كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمعنى أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء: أن الجنة يرثها من كان صالحا من عباده عاملا بطاعته. وقال ابن عباس: أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها إِنَّ فِي هذا أي في القرآن لَبَلاغاً أي وصولا إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى لِقَوْمٍ عابِدِينَ يعني مؤمنين لا يعبدون أحدا من دون الله تعالى وقيل هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. وقال ابن عباس: عالمين وقيل: هم العالمون العاملون. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل: كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق، وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس: هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن، فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا رحمة مهداة» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني منقادون لما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله والمراد بهذا الاستفهام الأمر أي أسلموا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا ولم يسلموا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا عَلى سَواءٍ أي إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبد أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم والمعنى آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل معناه لتستووا في الإيمان به وأعلمتكم بما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره وَإِنْ أَدْرِي أي وما أعلم أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يعني يوم القيامة لا يعلمه إلا الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي لا يغيب عن علمه شيء منكم في علانيتكم وسركم وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم بكم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم قالَ رَبِّ احْكُمْ أي افصل بيني وبين من كذبني بِالْحَقِّ أي بالعذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر. وقيل: معناه افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق من الجميع وهو أن تنصرني عليهم والله يحكم بالحق طلب ولم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي من الشرك والكفر والكذب والأباطيل، كأنه سبحانه وتعالى قال قل داعيا إلى رب احكم بالحق، وقل متوعدا للكفار وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الرابع من تفسير الخازن ويليه الجزء الخامس وأوله: تفسير سورة الحج(3/246)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
سورة الحج
وهي مكية غير ست آيات من قوله عزّ وجلّ هذانِ خَصْمانِ إلى قوله وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ وهي ثمان وسبعون آية وألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قوله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني احذروا عقابه واعملوا بطاعته إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى. قيل: هي من أشراط الساعة قبل قيامها. وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها يَوْمَ تَرَوْنَها
أي الساعة وقيل الزلزلة تَذْهَلُ
قال ابن عباس تشغل وقيل تنسي كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي كل امرأة معها ولد ترضعه وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام. فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
على التشبيه وَما هُمْ بِسُكارى
على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
(ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك» .
زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار قال رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذ تضع الحوامل، ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» زاد في رواية قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار وأني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا» لفظ البخاري. وفي حديث عمران بن حصين وغيره أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلّى الله(3/247)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
عليه وسلّم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا والناس من بين باك وجالس حزين متفكر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي يوم ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعث النار» وذكر نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال «يدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال: نعم قال ومع كل واحد سبعون ألفا» . قوله عزّ وجلّ:
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول للملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا وَيَتَّبِعُ يعني في جداله في الله بغير علم كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ يعني المتمرد المستمر في الشر وفيه وجهان أحدهما: أنهم شياطين الإنس وهم رؤساء الكفر الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أنه إبليس وجنوده كُتِبَ عَلَيْهِ يعني قضى على الشيطان أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ يعني اتبعه فَأَنَّهُ يعني الشيطان يُضِلُّهُ يعني يضل من تولاه عن طريق الجنة وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ وفي الآية زجر عن اتباعه والمعنى كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ يعني شك مِنَ الْبَعْثِ يعني بعد الموت فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذريته من المني وأصلها الماء القليل ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ يعني من دم جامد غليظ وذلك أنّ النطفة تصير دما غليظا ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
قال ابن عباس: أي تامة الخلق وغير تامة الخلق وقيل مصورة وغير مصورة وهو السقط. وقيل: المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط فكأنه سبحانه وتعالى قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تام الصورة والحواس والتخطيط، والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها. وروي عن علقمة عن ابن مسعود موقوفا عليه قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها في الرحم دما ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض يموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه بعمل(3/248)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
أهل الجنة فيدخلها» وقوله تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة وقيل لنبين لكم أنّ تغير المضغة إلى الخلقة هو اختيار الفاعل المختار فإنّ القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أي لا تسقطه ولا تمجه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت خروجه من الرحم تام الخلق ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي وقت الولادة من بطون أمهاتكم طِفْلًا أي صغارا وإنّما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمال القوة والعقل والتمييز وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي قبل بلوغ الكبر وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي الهرم والخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي يبلغ من السن ما يتغير به عقله فلا يعقل شيئا فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال تعالى وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي يابسة لا نبات فيها فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي ارتفعت وذلك أنّ الأرض ترتفع بالنبات وَأَنْبَتَتْ هو مجاز لأن الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل صنف حسن نضير والبهيج هو المبهج وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنّ الله تعالى لمّا ذكر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب فقال تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 13]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
ذلِكَ أي ذكرنا ذلك لتعلموا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وإن هذه الأشياء دالة على وجود الصانع وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي إنه إذا لم يستبعد منه إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من كان كذلك كان قادرا على جميع الممكنات وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي ما ذكر من الدلائل لتعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها وأنّها حق وأنّ البعث بعد الموت حق قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني النضر بن الحرث وَلا هُدىً أي ليس معه من الله بيان ولا رشاد وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي ولا كتاب من الله له نور ثانِيَ عِطْفِهِ أي لاوي جنبه وعنقه متبخترا لتكبّره معرضا عما يدعى إليه من الحق تكبّرا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عذاب وهوان وهو أنه قتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ أي يقال له ذلك بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فيعذبهم بغير ذنب والله تعالى على أي وجه أراد يتصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم.
قوله عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله، قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد(3/249)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلّا شرا فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائط الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن.
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي صحة في جسمه وسعة في معيشته اطْمَأَنَّ بِهِ أي رضي به وسكن إليه وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصونا.
وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الظاهر يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ إن عصاه ولم يعبده وَما لا يَنْفَعُهُ أي إن أطاعه وعبده ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والرشد يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فإن قلت قد قال الله تعالى في الآية الأولى يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ وقال في هذه الآية يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما. قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى: ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل: إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل: إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جمادا لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي الناصر والمصاحب المعاشر. قوله عزّ وجلّ:
[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 18]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ يعني نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم فِي الدُّنْيا أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه وَالْآخِرَةِ أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي بحبل إِلَى السَّماءِ أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي صنيعه وحيلته ما يَغِيظُ أي فليختنق غيظا. وليس هذا على سبيل(3/250)
الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولكنه كما يقال للحاسد مت غيظا وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سببا يصل به إلى السماء، ثم ليقطع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة.
وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه. روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق. ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقا تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشياطين وهو ما عدا الإسلام إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يحكم بينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إنه عالم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلّا وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح: وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه.
فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصا من غير فائدة. قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عاما في حق الكل إلّا أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضا فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول: بمعنى الانقياد، والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة. فإن قلت قوله من في السموات ومن في الأرض لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال وكثير من الناس. قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعا دون بعض وهم الذين قال فيهم وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم من السجود تسجد ظلالهم لله عزّ وجلّ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي من يذله الله فلا يكرمه أحد إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
(فصل)
هذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها.
قوله عزّ وجلّ:(3/251)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي جادلوا في دينه وأمره واختلفوا في هذين الخصمين فروي عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحين (خ) عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس بن عبادة فيهم نزلت «هذان خصمان اختصموا في ربهم» قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة. قال محمد بن إسحاق: خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم فذكروا أنفسهم قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد ابن عتبة فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل. فلما أتوا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ألست شهيدا يا رسول الله قال: بلى فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول:
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال ابن عباس: نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم حسدا فهذه خصومتهم في ربهم وقيل هم المؤمنون والكافرون من أي ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم وقيل الخصمان الجنة والنار (ق) عن أبي هريرة قال قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم» زاد في رواية «وغزاتهم فقال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنّما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم ربك من خلقه أحدا.
وأما الجنة فإنّ الله تعالى ينشئ لها خلقا» وللبخاري «اختصمت الجنة والنار» وهذا القول ضعيف والأقوال الأولى أولى بالصحة لأن حمل الكلام على ظاهره أولى وقوله هذان كالإشارة إلى سبب تقدم ذكره وهو أهل الأديان الستة وأيضا فإنه ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته وذكر مآل الخصمين فقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب. لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب وقيل يلبس أهل النار مقطعات من نار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ(3/252)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ
أي الماء الحار الذي انتهت حرارته يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم والأحشاء وَالْجُلُودُ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوف أحدهم، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يعني سياط من حديد وهي الجزر من الحديد. وفي الخبر «لو وقع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ يعني كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم أُعِيدُوا فِيها يعني ردوا إليها بالمقامع.
قيل إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ يعني تقول لهم الملائكة ذلك والحريق بمعنى المحرق فهذا وصف حال أحد الخصمين وهم الكفار وقال تعالى في وصف الخصم الآخر وهم المؤمنون إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وهو الإبريسم الذي حرم لبسه على الرجال في الدنيا. عن معاوية هو جد بهز بن حكيم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد» . أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» . قوله تعالى وَهُدُوا من الهداية يعني أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلّا الله. وقيل هو لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله وقيل إلى القرآن وقيل هو قول أهل الجنة «والحمد لله الذي صدقنا وعده» وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ يعني إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله. قوله عزّ وجلّ:
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني ويصدون عن المسجد الحرام الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ قال بعضهم ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه وَالْبادِ أي الطارئ المنتاب إليه من غيره واختلفوا في معنى الآية فقيل سواء العاكف فيه والبادي في تعظيم حرامته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة قالوا: والمراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:(3/253)
«يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقيل: المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أنّ المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يزعج أحد أحدا إذا كان قد سبق إلى منزله وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل قال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم فعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها قالوا: إنّ أرض مكة لا تملك لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد وإليه ذهب أبو حنيفة. قالوا: والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم وعلى القول الأول الأقرب إلى الصواب أنه يجوز بيع دور مكة وإجارتها وهو قول طاوس وعمرو بن دينار. وإليه ذهب الشافعي احتج الشافعي في ذلك قوله تعالى: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق» . أضاف الديار إلى مالكيها وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف درهم فدلت هذه النصوص على جواز بيعها وقوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي في المسجد الحرام بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي يميل إلى الظلم قيل الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله. وقيل: هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد وقطع شجر. وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقيل:
احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه» .
أخرجه أبو داود وقال عبد الله بن مسعود في قوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال لو أنّ رجلا همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أنّ رجلا همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. قال السدي: إلّا أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمرو أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله. قوله تعالى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ قال ابن عباس: جعلنا وقيل وطأنا وقيل بينا وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمن الطوفان فلما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء البيت لم يدر أي جهة يبني فبعث الله تعالى ريحا خجوجا «1» فكنست له ما حول البيت عن الأساس وقيل بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبنى عليه أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له: لا تشرك بي شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ أي من الشرك والأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ أي الذين يطوفون بالبيت وَالْقائِمِينَ أي المقيمين فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي المصلين. قوله عزّ وجلّ وَأَذِّنْ أي أعلم وناد، والأذان في اللغة الإعلام فِي النَّاسِ قال ابن عباس: أراد بالناس أهل القبلة بِالْحَجِّ فقال إبراهيم عليه السلام وما يبلغ صوتي فقال الله عليك الأذان وعلينا الإبلاغ فقام إبراهيم على المقام حتى صار كأطول الجبال وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال يا أيّها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا وروي أنّ إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وزعم الحسن أن المأمور بالتأذين هو محمد صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع (م) عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحج
__________
(1) . الخجوج للريح الشديد، المراد الملتوية في هبوبها كالخجوجات. اهـ قاموس.(3/254)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
فحجوا» يَأْتُوكَ رِجالًا أي مشاة على أرجلهم جمع راجل وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي ركبانا على الإبل المهزولة من كثرة السير وبدأ بذكر المشاة تشريفا لهم يَأْتِينَ أي جماعة الإبل مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي من كل طريق بعيد فمن أتى مكة حاجا فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه.
قوله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قيل العفو والمغفرة وقيل: التجارة وقال ابن عباس: الأسواق وقيل ما يرضى به الله من أمر الدنيا والآخرة وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص عليها من أجل وقت الحج في آخرها. وعن ابن عباس أنها أيام عرفة والنحر وأيام التشريق وقيل: إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني الهدايا والضحايا من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وفيه دليل على أنّ الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأنه التسمية على بهيمة الأنعام عند نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة ليس بواجب وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا فأمر الله بمخالفتهم. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال «وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين بدنة ونحر علي ما غبر وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم قوله ما غبر أي ما بقي قوله ببضعة أي بقطعة. واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا قال الشافعي: لا يأكل منه شيئا وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلّا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند أصحاب الرأي أنه يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما. وقوله تعالى وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ يعني الزمن الذي لا شيء له وقوله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 29 الى 30]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد ولبس الثياب والحاج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ. وقال ابن عمر وابن عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها. وقيل المراد منه الوفاء بما نذر وهو على ظاهره وقيل: أراد به الخروج عمّا وجب عليه نذره أو لم ينذره وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أراد به طواف الواجب وهو طواف الإفاضة ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والطواف ثلاثة طواف القدوم وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه (ق) عن عائشة: «إن أول شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حجّ أبو بكر وعمر مثله» (ق) عن ابن عمر «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا» . زاد في رواية «ثم يصلي ركعتين يعني بعد الطواف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة» . ولفظ أبي داود «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا طاف في الحج أو(3/255)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين» . والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق (ق) عن عائشة قالت: «حاضت صفية ليلة النفر فقالت: ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري» . قوله عقرى وحلقى معناه عقرها الله أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم: لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر. الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال «أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض» متفق عليه.
الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله «بالبيت العتيق» قال ابن عباس وغيره سمي عتيقا لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط، وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي ما نهى الله عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل: حرمات الله ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل: الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجسا لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يعني الكذب والبهتان.
وقال ابن عباس: هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك. قوله تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 31 الى 34]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
حُنَفاءَ لِلَّهِ يعني مخلصين له غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص لله بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت «حنفاء لله غير مشركين به» أي حجوا لله مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ يعني تسلبه وتذهب به أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ يعني تميل وتذهب به فِي مَكانٍ سَحِيقٍ يعني بعيد. ومعنى الآية أنّ من أشرك بالله بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي(3/256)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة. إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق. وقيل معنى الآية من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وقيل شبه الإيمان بالسماء في علوه والذي ترك الإيمان بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس وقول الزور وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعني تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال ابن عباس: شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار، وهو العلامة التي يعرف بها أنها هدى وتعظيمها استسمانها واستحسانها وقيل شعائر الله أعلام دينه وتعظيمها من تقوى القلوب لَكُمْ فِيها أي في البدن مَنافِعُ قيل هي درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها. وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك ورواية عن ابن عباس وقيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء. واختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يجوز ركوبها والحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها فقال يا رسول الله إنّها بدنة فقال: اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة» . أخرجاه في الصحيحين. وكذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها. وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلّا أن يضطر إليه وقيل أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة والأسواق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الخروج من مكة وقيل لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعني بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم. وروي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم» ومن قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة. قوله تعالى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرئ بكسر السين يعني مذبحا وهو موضع القربان منسكا بفتح السين وهو إراقة الدم وذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني عند ذبحها ونحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين وإن جاز أكله. قوله عزّ وجلّ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني سموا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُوا يعني أخلصوا وانقادوا وأطيعوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال ابن عباس: المتواضعين وقيل المطمئنين إلى الله وقيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم وقيل هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم فقال تعالى:
[سورة الحج (22) : الآيات 35 الى 40]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)(3/257)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني خافت من عقاب الله فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ يعني من البلاء والمرض والمصائب ونحو ذلك مما كان من الله تعالى وما كان من غير الله فله أن يصبر عليه وله أن ينتصر لنفسه وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ يعني في أوقاتها محافظة عليها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يتصدّقون. قوله تعالى وَالْبُدْنَ جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها، يريد الإبل الصحاح الأجسام والبقر ولا تسمى الغنم بدنة لصغرها جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يعني من أعلام دينه قيل لأنها تشعر وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي لَكُمْ فِيها خَيْرٌ يعني نفع في الدنيا وثواب في العقبى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها يعني عند نحرها صَوافَّ يعني قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فينحرها كذلك (ق) عن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياما مقيدة سنّة محمد صلّى الله عليه وسلّم» فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يعني سقطت بعد النحر ووقع جنبها على الأرض فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر هو الذي يسأل وعن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل ولا يتعرض. وقيل: القانع هو الذي يسأل والمعتر هو الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم كَذلِكَ يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ يعني لتتمكنوا من نحرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنعام الله عليكم لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى الله تعالى فأنزل الله لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها يعني لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ يعني ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص وهو ما أريد به وجه الله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ يعني البدن لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وهو أن يقول الله: أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس الموحدين.
قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم منهم وينصرهم عليهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته. قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا منه شريكا وكفروا نعمه. وقيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته وسمى غير الله عليها فهو خوان كفور. قوله عزّ وجلّ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي أذن الله لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال. وقيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم. فقال تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتعظيم والتمكين لا موجب الإخراج وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي بالجهاد وإقامة الحدود لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء وَبِيَعٌ هي معابد النصارى في البلد وقيل الصوامع للصابئين والبيع للنصارى وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتا(3/258)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
وَمَساجِدُ يعني مساجد المسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يعني في المساجد. ومعنى الآية ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم المساجد وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه ونبيه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ أي على نصر من ينصر دينه عَزِيزٌ أي لا يضام ولا يمنع مما يريده. قوله عزّ وجلّ:
[سورة الحج (22) : الآيات 41 الى 47]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ هذا وصف أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هم جميع هذه الأمة وقيل هم المهاجرون وهو الأصح لأنه قوله «الذين إن مكناهم» صفة لمن تقدم ذكرهم وهو قوله «الذين أخرجوا من ديارهم» وهم المهاجرون وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه وذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا منازع. قوله تعالى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فيه تسلية وتعزية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى وإن كذبك قومك فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فإن قلت لم قال وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى؟. قلت فيه وجهان أحدهما: أن موسى لم يكذبه قومه وهم بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهو القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم وأخرت العقوبة عنهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبه. قوله عزّ وجلّ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وقرئ أهلكناها على التعظيم وَهِيَ ظالِمَةٌ أي وأهلها ظالمون فَهِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة عَلى عُرُوشِها أي على سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي رفيع طويل عال وقيل مجصص وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن. أما القصر فعلى قمة جبل والبئر في سفحه ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي البئر والقصر خاليين. وقيل إن هذه البئر كانت بحضر موت في بلدة يقال لها: حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضر موت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضر موت. لذلك ولما مات صالح بنو حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا منهم فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله تعالى إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان. وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخرب قصرهم. قوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني ما يذكر لهم من أخبار(3/259)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
القرون الماضية فيعتبرون بها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلوب النافع وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي إنه أنجز ذلك يوم بدر وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس: يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقيل يوما من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود بزيادة فيه وأخرج الترمذي نحوه ومعنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل إن يوما من أيام العذاب في الثقل والاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه وقيل معناه أن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره وهذا معنى قول ابن عباس.
[سورة الحج (22) : الآيات 48 الى 52]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها يعني أمهلتها وَهِيَ ظالِمَةٌ يعني مع استمرار أهلها على الظلم ثُمَّ أَخَذْتُها يعني أنزلت بهم العذاب وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد وتهديد. قوله عزّ وجلّ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أمر رسول الله أن يديم لهم التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت لكم منذرا فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لما أمر الله الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول «إنما أنا نذير مبين» أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن ووعيد من عصى فقال «فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة» يعني ستر لصغائر ذنوبهم وقيل للكبائر أيضا مع التوبة ورزق كريم يعني لا ينقطع أبدا وقيل هو الجنة وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني عملوا في إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ يعني مثبطين الناس عن الإيمان وقرئ معاجزين يعني معاندين مشاقين وقيل معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قال ابن عباس وغيره من المفسرين: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله عزّ وجلّ سورة والنجم فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه(3/260)
جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حزنا شديدا وخاف من الله تعالى خوفا كبيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيما وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلّا بجوار أو مستخفيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وَلا نَبِيٍّ النبي هو الذي تكون نبوته إلهاما، أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني في مراده وقال ابن عباس: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا. والمعنى ما من نبي «إلا تمنى» أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقي الشيطان. وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال
حسان في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر
فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وآخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا» . أخرجه البخاري ومسلم وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» . رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة. فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني: وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إله غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلّى الله عليه وسلّم قال الله عزّ وجلّ «ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين» . الآية الجواب الثالث: في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلا ويفصل الآي تفصيلا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا لصوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذم الأوثان وعيبها وإنهم كانوا يحفظون السورة كما(3/261)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
أولها الله عزّ وجلّ الجواب الرابع: في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول: يكون معنى قوله إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني: وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله «إلا إذا تمنى» أي تلا وهو ما يقع للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا كذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا» وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم. قوله عزّ وجلّ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي
يبطله ويذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قوله عزّ وجلّ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف شديد.
[سورة الحج (22) : الآيات 54 الى 58]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي التوحيد والقرآن والتصديق ينسخ الله ما يشاء أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي أحكم الله من آيات القرآن هو الحق من ربك فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يعتقدوا أنه من الله عزّ وجلّ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي تسكن إليه وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق قويم وهو الإسلام. قوله عزّ وجلّ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة لِلَّهِ وحده من غير منازع ولا مشارك فيه يَحْكُمُ أي يفصل بَيْنَهُمْ ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. قوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي لا ينقطع أبدا وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عزّ وجلّ لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين. قلت قد يسمى غير الله رازقا على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.
[سورة الحج (22) : الآيات 59 الى 71]
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)(3/262)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنياتهم حَلِيمٌ بالعفو عنهم. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ
يعني جازى الظالم بمثل ظلمه وقيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصرهم الله عليهم فذلك قوله تعالى لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يعني عن مساوي المؤمنين غَفُورٌ يعني لذنوبهم ذلِكَ يعني ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ في معنى هذا الإيلاج قولان، أحدهما: أنه يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار وذلك بغيبوبة الشمس ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. القول الثاني: هو ما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر من الساعات وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذو الحق في قوله وفعله، ودينه حق وعبادته حق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ يعني المشركين مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ يعني الأصنام التي ليس عندها ضر ولا نفع وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ أي العالي على كل شيء الْكَبِيرُ أي العظيم في قدرته وسلطانه. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعني بالنبات إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يعني باستخراج النبات من الأرض رزقا للعباد والحيوان خَبِيرٌ يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يعني الدواب التي تركب في البر وَالْفُلْكَ أي وسخر لكم السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ يعني سخر لها الماء والرياح ولولا ذلك ما جرت وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ أي لكيلا تسقط عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا والدين وقد بلغ الغاية في الإنعام والإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أي أنشأكم ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي يوم البعث للثواب والعقاب إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي لجحود(3/263)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
لنعم الله عزّ وجلّ. قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قال ابن عباس شريعة هُمْ ناسِكُوهُ هم عاملون بها وعنه أنه قال عيدا وقيل موضع قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ وقيل معناه لا تنازعهم أنت. قوله تعالى وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى الإيمان به وإلى دينه إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين واضح قويم وَإِنْ جادَلُوكَ يعني خاصموك في أمر الذبح وغيره فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي من التكذيب اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني فتعلمون حينئذ الحق من الباطل وقيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأبى. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه الأمة أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعني علمه بجميعه عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي هين وقيل: إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على الله يسير وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم ولا دليل عقلي وَما لِلظَّالِمِينَ يعني المشركين مِنْ نَصِيرٍ يعني مانع يمنعهم من العذاب.
[سورة الحج (22) : الآيات 72 الى 77]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يعني الإنكار والكراهية يتبين ذلك في وجوههم يَكادُونَ يَسْطُونَ يعني يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء وقيل يبطشوه بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ قُلْ يعني قل لهم يا محمد أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ يعني بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون النَّارُ يعني هي النار وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا. قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلا. وقال في الكشاف قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة فَاسْتَمِعُوا لَهُ يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع والمعنى جعل لي شبيه وشبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً يعني واحدا في صغره وضعفه وقلته لأنها لا تقدر على ذلك وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ يعني لخلقه، والمعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها وصغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا له وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ قال ابن عباس: كانوا يطلون(3/264)
الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه. وقيل: كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه ويأكل منه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم والمطلوب هو الصنم وقيل الطالب الصنم والمطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أو يخلق الذباب لعجز عنه وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ يعني غالب لا يقهر. قوله عزّ وجلّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ يعني يختار من الملائكة رُسُلًا جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم وَمِنَ النَّاسِ يعني يختار الله من الناس رسلا مثل إبراهيم وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل صلّى الله عليهم أجمعين. نزلت حين قال المشركون أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني بأقوالهم بَصِيرٌ يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: ما قدموا وَما خَلْفَهُمْ يعني ما خلفوا وقيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون وقيل يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني في الآخرة. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ يعني وحدوه وقيل أخلصوا له العبادة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وقيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة وحسن القول وغير ذلك من أعمال البر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
فصل: في حكم سجود التلاوة هنا
لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة واختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله في الحج سجدتان قال:
«نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص. وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود وقال إسناده واه.
ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقرأ وإذا السماء انشقت» . أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب. قوله عزّ وجلّ:(3/265)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
[سورة الحج (22) : آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قاله ابن عباس: وعنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل الله ولا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهدة النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس هُوَ اجْتَباكُمْ يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرّجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق.
وقيل: معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا. وقيل: معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده، قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدا غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج. وقال ابن عباس: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ لأنها داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها فكيف سماه أبا في قوله «ملة أبيكم إبراهيم» . قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب لكل المسلمين فهو أبو المسلمين. والمعنى وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله «وأزواجه أمهاتهم» وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما أنا لكم كالوالد» وفي قوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قولان أحدهما: أن الكناية ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن القول الثاني: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فاستجاب الله دعاءه فينا وَفِي هذا أي وفي القرآن سماكم المسلمين لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أن قد بلغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ يعني ثقوا به وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله. وقال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه. وقيل: الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة هُوَ مَوْلاكُمْ يعني وليكم وناصركم وحافظكم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي الناصر لكم والله تعالى أعلم.(3/266)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
سورة المؤمنين
وهي مكية وهي مائة وثمان عشرة آية وألف وثمانمائة وأربعون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. وقال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وارض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عزّ وجلّ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال ابن عباس: مخبتون أذلّاء خاضعون. وقيل خائفون وقيل: متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر. وقيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده. وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله (ق) عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه» . وفي رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود والنسائي. وقيل الخشوع هو أن لا يرفع بصره إلى السماء (خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال:
لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون» رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» . ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر. قوله تعالى:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 3 الى 10]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10)(3/267)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو وما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا هي العمل الصالح والأول أولى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ
الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ على بمعنى من أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال: مكروه سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكرارا وصفهم أولا بالخشوع في الصلاة وآخرا بالمحافظة عليها. قوله عزّ وجلّ أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة هُمُ الْوارِثُونَ يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 11 الى 18]
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة(3/268)
ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل: المراد من الإنسان هو آدم، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي حريز وهو الرحم وسمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة له. قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوما ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي مباينا للخلق الأول قال ابن عباس: هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيوانا بعد ما كان جمادا وناطقا بعد ما كان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها فَتَبارَكَ اللَّهُ أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟. قلت الخلق له معان: منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلّا الله تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين.
وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيرا وسمّى نفسه خالقا بقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فقال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من تمام الخلق لَمَيِّتُونَ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم. وعن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير(3/269)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
الدين والدنيا وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره. وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر ما أنبت بالماء فقال تعالى:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 19 الى 29]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بالماء جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي شتاء وصيفا وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشية وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار. وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وأيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده.
وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ الصبغ الإدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدما وهو الزيتون ودهنا وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة. قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي آية تعتبرون بها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء، وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل عَلَيْها
أي وعلى الإبل عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر. قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي ما لكم معبودا سواه أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عقابه إذا عبدتم غيره فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعا وأنتم له تبع وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يعني بإبلاغ الوحي ما سَمِعْنا بِهذا يعني الذي يدعونا إليه نوح فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ يعني جنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ يعني إلى(3/270)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
الموت فتستريحوا منه قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا يعني بمرأى منا قاله ابن عباس. وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله وَوَحْيِنا قيل: إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا يعني عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة، وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور فَاسْلُكْ فِيها يعني فأدخل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني من كل حيوان ذكر وأنثى وَأَهْلَكَ يعني وسائر من آمن بك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يعني وجب عليه العذاب مِنْهُمْ يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قوله عزّ وجلّ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ يعني اعتدلت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ يعني في السفينة فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب. وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 30 الى 44]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39)
قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله لَآياتٍ يعني دلالات على قدرتنا وَإِنْ كُنَّا يعني وما كنا لَمُبْتَلِينَ يعني إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد إهلاكهم قَرْناً آخَرِينَ يعني عادا فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني هودا قاله أكثر المفسرين وقيل القرن ثمود والرسول صالح والأول أصح أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ يعني هذه الطريقة التي أنتم عليها مخافة العذاب وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني بالمصير إليها وَأَتْرَفْناهُمْ يعني نعمناهم ووسعنا عليهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ يعني من مشربكم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ يعني لمغبونون أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ يعني من قبوركم أحياء هَيْهاتَ هَيْهاتَ قال ابن عباس أي بعيد بعيد لِما تُوعَدُونَ استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم(3/271)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
للتفكر في بدء أمرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا قيل معناه نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل معناه يموت قوم ويحيا قوم وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ يعني بعد الموت إِنْ هُوَ يعنون رسولهم إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين بالبعث بعد الموت قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ يعني ليصيرن نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ يعني صيحة العذاب وقيل صاح بهم جبريل فتصدعت قلوبهم وقيل أراد بالصيحة الهلاك فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً هو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان شجر، والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض فَبُعْداً يعني ألزمنا بعدا من الرحمة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قوله عز وجل ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ يعني أقواما آخرين ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها يعني وقت هلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ يعني عن وقت هلاكهم ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا يعني مترادفين يتبع بعضهم بعضا غير متواصلين لأن بين كل رسولين زمنا طويلا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً يعني بالهلاك فأهلكنا بعضهم في أثر بعض وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعني سمرا وقصصا يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. قوله تعالى:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 60]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60)
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني بحجة بينة كالعصا واليد وغيرهما إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا يعني تعظموا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً عالِينَ يعني متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم فَقالُوا يعني فرعون وقومه أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا يعنون موسى وهارون وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ يعني مطيعون متذللون فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ يعني بالغرق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني لكي يهتدي به قومه. قوله عزّ وجلّ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً يعني دلالة على قدرتنا لأنه خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد. فإن قلت لم قال آية ولم يقل آيتين. قلت معناه جعلنا شأنهما آية لأن عيسى ولد من غير ذكر وكذلك مريم ولدته من غير ذكر فاشتركا في هذه الآية فكانت آية واحدة وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ يعني مكان مرتفع قيل هي دمشق وقيل هي الرملة وقيل أرض فلسطين وقال ابن عباس هي بيت المقدس. قال كعب بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل هي مصر وسبب الإيواء أنها فرت بابنها إليها. وقوله ذاتِ قَرارٍ يعني منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها وَمَعِينٍ هو الماء الجاري الذي تراه العيون. قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قيل أراد بالرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم وحده وقيل أراد به عيسى عليه السلام وقيل أراد جميع الرسل وأراد بالطيبات الحلال وَاعْمَلُوا صالِحاً أي استقيموا على ما يوجبه الشرع إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيه(3/272)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك فلأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطمعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فإنّى يستجاب لذلك» أخرجه مسلم. قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة وهي الإسلام وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أي فاحذرون وقيل معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم فأمركم واحد وأنا ربكم فاتقون فَتَقَطَّعُوا أي تفرقوا فصاروا فرقا يهودا ونصارى ومجوسا وغير ذلك من الأديان المختلفة أَمْرَهُمْ أي دينهم بَيْنَهُمْ زُبُراً أي فرقا وقطعا مختلفة وقيل معنى زبرا أي كتبا، والمعنى تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي مسرورون معجبون بما عندهم من الدين فَذَرْهُمْ الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في عمايتهم وغفلتهم حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يموتوا أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ أي ما نعطيهم ونجعله لهم مددا من المال والبنين في الدنيا نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي نعجل لهم ذلك في الخيرات ونقدمه ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي إن ذلك استدراج لهم ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي خائفون، والمعنى أنّ المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه. قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات. وقيل معناه يعملون ما عملوا من أعمال البر وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأنّ أعمالهم لا تقبل منهم أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي إنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون. قال الحسن عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصدّيق ولكن هم الذين يصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» أخرجه الترمذي، وقوله:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 61 الى 71]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي إليها وقال ابن عباس سبقت لهم من الله السعادة وقيل سبقوا الأمم إلى الخيرات. قوله عزّ وجلّ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها من الأعمال، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع الصوم فليفطر وَلَدَيْنا(3/273)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
كِتابٌ
هو اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يبين الصدق والمعنى قد أثبتنا عمل كل عامل في اللوح المحفوظ فهو ينطق به ويبينه وقيل هو كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ثم ذكر الكفار فقال تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ أي غفلة وجهالة مِنْ هذا يعني القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم مِنْ دُونِ ذلِكَ يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في قوله إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ هُمْ يعني الكفار لَها أي لتلك الأعمال الخبيثة عامِلُونَ أي لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي رؤساءهم وأغنياءهم بِالْعَذابِ قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر وقيل هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف» إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يصيحون ويستغيثون ويجزعون لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ يعني لا تجزعوا ولا تضجوا اليوم إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ يعني لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ يعني ترجعون القهقرى وتتأخرون عن الإيمان مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال ابن عباس: أي بالبيت الحرام كناية عن غير مذكور أي مستعظمين بالبيت وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدا فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف. وقيل مستكبرين به أي بالقرآن فلم يؤمنوا به والقول الأول أظهر سامِراً يعني أنهم يسمرون بالليل حول البيت وكان عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا أو شعرا ونحو ذلك من القول فيه وفي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تَهْجُرُونَ من الإهجار وهو الإفحاش في القول وقيل معنى تهجرون تعرضون عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن الإيمان به وبالقرآن وقيل هو من الهجر وهو القول القبيح أي تهذون وتقولون ما لا تعلمون أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني أفلم يتدبروا ما جاءهم من القرآن فيعتبرون بما فيه من الدلالات الواضحة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ يعني فأنكروا يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم فكذلك بعثنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون وليس هو كذلك بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ. قوله عزّ وجلّ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ قيل الحق هو الله تعالى والمعنى ولو اتبع الله مرادهم فيما يفعل. وقيل: لو سمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون وقيل: الحق هو القرآن أي لو نزل القرآن بما يحبون وما يعتقدون لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي لفسد العالم بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قال ابن عباس بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ أي شرفهم مُعْرِضُونَ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 72 الى 88]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)(3/274)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أي على ما جئتهم به خَرْجاً أي أجرا وجعلا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تقدم تفسيره وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الإسلام وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ أي عن دين الحق لَناكِبُونَ أي لعادلون عنه ومائلون وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي قحط وجدوبة لَلَجُّوا أي لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لم ينزعوا عنه وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا على قريش أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط. فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال: إنهم قد أكلوا القد والعظام وشكا إليه الضر فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ ما خضعوا وما ذلوا لربهم وَما يَتَضَرَّعُونَ أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل هو الموت وقيل هو قيام الساعة إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير. قوله عزّ وجلّ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي لتسمعوا بها وتبصروا وتعقلوا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي لم تشكروا هذه النعم وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تبعثون وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان وقيل جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ما ترون من صنعه فتعتبروا بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي كذبوا كما كذب الأولون، وقيل معناه أنكروا البعث مثل ما أنكر الأولون مع وضوح الأدلة قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي لمحشورون قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ أي هذا الوعد وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي وعد آباؤنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأولين. قوله تعالى قُلْ أي يا محمد لأهل مكة لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من الخلق إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي خالقها ومالكها سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله قُلْ أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي عبادة غيره وقيل معناه أفلا تحذرون عقابه قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي ملك كل شيء وَهُوَ يُجِيرُ أي يؤمن من يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يؤمن من أخافه الله وقيل يمنع هو من يشاء من السوء ولا يمتنع منه من أراده بسوء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي فأجيبوا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 89 الى 101]
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)(3/275)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي فإنّى تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته وكيف يخيل لكم الحق باطلا بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أي بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما يدعون من الشريك والولد مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي من شريك إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم وإذا كان كذلك فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ويقدر على كل شيء ثم نزه نفسه تعالى فقال سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي من إثبات الولد والشريك عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعظم من أن يوصف بما لا يليق به.
قوله عزّ وجلّ قُلْ رَبِّ أي يا رب إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي ما وعدتهم من العذاب رَبِّ أي يا رب فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي تهلكني بهلاكهم وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ أي من العذاب لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بالخلة التي هي أحسن وهي الصفح والإعراض والصبر السَّيِّئَةَ يعني أذاهم أمر بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ثم نسخها الله بآية السيف نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي يكذبون ويقولون من الشرك.
قوله عزّ وجلّ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أي أمتنع وأعتصم بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي في شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة» .
أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحا قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق. قوله ونفخه الكبر وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ. وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عزّ وجلّ أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ قيل المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم. وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أنه استغاث بالله أولا ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلّا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب كَلَّا كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها إِنَّها يعني مسألته الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا ينالها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ معناه أن بينهم وبين الرجعة حجابا ومانعا عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ قال ابن عباس إنها النفخة الأولى نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ(3/276)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية.
قال: «يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع. فإن قلت قد قال ها هنا ولا يتساءلون وقال في موضع آخر وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون. قوله عزّ وجلّ:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 102 الى 114]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106)
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أي غبنوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ أي تسفح وقيل تحرق وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي التي كتبت علينا فلم نهتد وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ
أي عن الهدى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي من النار فَإِنْ عُدْنا أي لما تكره فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها أي أبعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وروي عن عبد الله بن عمرو «إن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين عاما يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسئوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق» . ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعني المؤمنين يَقُولُونَ رَبَّنا(3/277)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي تسخرون منهم وتستهزءون بهم حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي على أذاكم واستتهزائكم في الدنيا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة قالَ يعني أن الله قال للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا وفي القبور عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب فَسْئَلِ الْعادِّينَ يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني قدر لبثكم في الدنيا قوله عزّ وجلّ:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لعبا وباطلا لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزّ وجلّ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي في دار الآخرة للجزاء. روى البغوي بسنده عن الحسن: «أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بماذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على الجبل لزال» ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزّ وجلّ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك فَإِنَّما حِسابُهُ أي جزاؤه عِنْدَ رَبِّهِ أي هو مجازيه بعلمه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ يعني لا يسعد من جحد وكذب وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.(3/278)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
سورة النور
وهي مدنية وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
قوله عزّ وجلّ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدرنا ما فيها من الحدود وقيل أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم، إلى قيام الساعة وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني تتعظون. قوله تعالى:
[سورة النور (24) : الآيات 2 الى 3]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الزنا هو من الكبائر وموجب للحد وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. والشروط المعتبرة في وجوب الحد العقل والبلوغ ويشترط الإحصان في الرجم ويجب على العبد والأمة نصف الحد ولا رجم عليهما لأنه لا يتنصف وقوله فاجلدوا أي فاضربوا يقال جلده إذا ضرب جلده ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم كل واحد منهما أي الزانية والزاني مائة جلدة. وقد وردت السنة بجلد مائة وتغريب عام وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة التغريب إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل مائة جلدة ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب وإن كان الزاني محصنا فعليه الرحم وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقيل معنى الرأفة أن تحفظوا الضرب بل أوجعوهما ضربا وهو قول سعيد بن المسيب والحسن. قال الزهري يجتهد في حد الزنا والفرية أي القذف ويخفف في حد الشرب وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد الفرية دون ذلك في حد الشرب فِي دِينِ اللَّهِ أي في حكم الله. وروي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله وقيل هو من باب التهييج، والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه ومعناه إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود وَلْيَشْهَدْ يعني وليحضر عَذابَهُما أي حدهما إذا أقيم عليهما طائِفَةٌ يعني نفر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قيل أقله رجل واحد فصاعدا وقيل رجلان وقيل ثلاثة وقيل أربعة بعدد شهود الزنا. قوله عزّ وجلّ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ اختلف العلماء في معنى(3/279)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
الآية وحكمها فقال قوم قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بغايا هنّ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فنزلت هذه الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهنّ كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس. وقال عكرمة نزلت في نساء كن بمكة والمدينة لهن رايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي. وكان في الجاهلية ينكح الزانية يتخذها مأكله فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد بن مرثد الغنوي وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له في الجاهلية فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها. فقال مرثد إن الله حرم الزنا قالت فانكحني فقال حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد شيئا فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها» .
أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة المعنى فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم المراد من النكاح هو الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك. وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ورواية عن ابن عباس قال يزيد بن هارون إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان وقال سعيد بن المسيب وجماعة إن حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في هذا العموم واحتج من جوز نكاح الزانية بما روي عن جابر: «أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها وهي جميلة قال استمتع بها» وفي رواية غيره فأمسكها إذا وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس ولم يرفعه بعضهم قال وهذا الحديث ليس بثابت. وروي أنّ عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام «1» وقيل في معنى الآية إن الفاجر الخبيث لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء وإنما يرغب في نكاح فاجرة خبيثة مثله أو مشركة والفاسقة الخبيثة لا ترغب في نكاح الصلحاء من الرجال وإنما ترغب في نكاح فاسق خبيث مثلها أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين أي صرف الرغبة بالكلية إلى نكاح الزواني وترك الرغبة في الصالحات العفائف محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا حرمة التزوج بالزانية. قوله:
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 7]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون بالزنا الْمُحْصَناتِ يعني المسلمات الحرائر العفائف ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي يشهدون على الزنا فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً بيان حكم الآية أن من قذف محصنا أو محصنة بالزنا فقال له: يا زاني أو يا زانية أو زنيت فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حرا وإن كان عبدا يجلد أربعين وإن
__________
(1) . ظن أن المراد بالغلام هنا الشاب الذي قد زنى بها أبى الزواج منها بعد إقامة الحد عليهما اهـ مصححه.(3/280)
كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. وشرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى لو زنى في عمره مرة واحدة ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك ثم قذفه قاذف فلا حد عليه فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة يشهدون عليه بالزنا سقط الحد عن القاذف لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية. وقد ثبت صدقه وأما الكنايات مثل أن يقول يا فاسق أو يا فاجر أو يا خبيث أو يا مؤاجر أو قال امرأتي لا ترديد لا مس فهذا ونحوه لا يكون قذفا إلا أن يريد ذلك. وأما التعريض مثل أن يقول أما أنا فما زنيت أو ليست امرأتي زانية فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك يجب فيه الحد وقال أحمد هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا. قوله تعالى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه دليل على أنّ القذف من الكبائر لأن اسم الفاسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء فذهب قوم إلى أنّ القاذف ترد شهادته بنفس القذف وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته بعد التوبة قبلت شهادته سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله لقول تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وقالوا هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق وإذا تاب تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق. يروى ذلك عن عمر وابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنّ شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب وقالوا الاستثناء يرجع إلى قوله «وأولئك هم الفاسقون» وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي قالوا بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد قال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه. وذهب الشافعي إلى أنّ حد القذف يسقط بالتوبة. وقال: الاستثناء يرجع إلى الكل وعامة العلماء على أنه لا يسقط الحد بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة. فإن قلت إذا قبلت شهادته بعد التوبة فما معنى قوله أبدا. قلت معنى أبدا ما دام مصرّا على القذف لأنه أبد كل إنسان مدته على ما يليق به كما يقال شهادة الكافر لا تقبل أبدا يراد بذلك ما دام على كفره فإذا أسلم قبلت شهادته. قوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أي يشهدون على صحة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي غير أنفسهم فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ سبب نزول هذه الآية ما روي عن سهل بن الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال لعاصم: أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأل عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة التي سألت عنها فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فجاء عويمر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال مالك قال
ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين» . أخرجاه في الصحيحين زاد في رواية ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انظروا إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا وقد صدق عليها. وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه قوله أسحم أي أسود الأدعج الشديد سواد العين مع سعتها وقوله خدلج الساقين أي ممتلئ الساقين غليظهما وقوله، كأنه وحرة بفتح الحاء دويبة كالعظاءة(3/281)
تلصق بالأرض وأراد بها في الحديث المبالغة في قصره (خ) عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: البينة والحد في ظهرك فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين فانصرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأرسل إليهما. فجاء فقام هلال بن أمية فشهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول الله يعلم إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفها وقال: إنها موجبة قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» . وفي رواية غير البخاري عن ابن عباس قال «لما نزلت والذين يرمون المحصنات» الآية قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ حاجته ويذهب وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. فقال سعد يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا أعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبر الله فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فإنّ الله يأبى إلّا ذلك فقال صدق الله ورسوله قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع أصحابه فقال يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أتاه به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به والله يعلم إني لصادق. وما قلت إلا حقا وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربه قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد بجلد هلال وتبطل شهادته فبينما هم كذلك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ فأنزل الله والذين يرمون أزوجهم إلى آخر الآيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبشر يا هلال فإنّ الله تعالى قد جعل لك فرجا. فقال: كنت أرجو ذلك من الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلّم قيل فكذبت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال يا رسول الله قد صدقت وما قلت إلّا حقا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاعنوا بينهما فقيل لهلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقال له عند الخامسة: يا هلال اتق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يحدني عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثم قال للمرأة اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فقال لها عند الخامسة ووقفها اتقى الله إن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما. وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق على الشبه المكروه، وكان أميرا بمصر لا يدرى من أبوه» الأورق هو الأبيض وروى ابن عباس «أن عويمرا لما لاعن زوجته خولة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نودي(3/282)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
الصلاة جامعة فصلّى العصر ثم قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها لحبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود فقعد. ثم قال لخولة قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة: عضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ثم قال: تحينوا الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق بشريك.
بيان حكم الآية
إن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية وجوب الحد عليه إن كانت محصنة أو التعزير إن كانت غير محصنة غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا قذف أجنبيا أو أجنبية يقام عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة يشهدون بالزنا أو يقر المقذوف بالزنا فيسقط عنه الحد. وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن سقط عنه الحد فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة لأنه الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا بما لا يمكنه إقامة البينة ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه فقال تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وإذا أقام الزوج بينة على زناها أو اعترفت هي بالزنا سقط عنه الحد واللعان إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما بدأ بالرجل فيقيمه ويلقنه كلمات اللعان فيقول: قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه في اللعان ويقول كما يلقنه الإمام. وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول وإن هذا الولد أو هذا الحمل لمن الزنا ما هو مني.
ويقول في الخامسة علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإمام لا تحسب فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة وحرمت عليه على التأبيد وانتفى عنه النسب وسقط عنه الحد ووجب على المرأة حد الزنا، فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج. قوله عزّ وجلّ:
[سورة النور (24) : الآيات 8 الى 9]
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
وَيَدْرَؤُا أي يدفع عَنْهَا الْعَذابَ أي الحد أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ حكم الآية أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد وهو إسقاط الحد عنها. ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان. وعند أصحاب الرأي لا حد على من قذف زوجته بل موجبه اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان حبست حتى تلاعن. وعند الآخرين اللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس بل(3/283)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة. وعن أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين وبه قال الشافعي وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيما له فيلزمه الحد ويلحقه الولد لكن لا يرتفع تأبيد التحريم. وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب نفسه جاز له أن ينكحها وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل وكل من صح يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا. وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين فإن كان أحد الزوجين رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما وظاهر القرآن حجة لمن قال: يجري اللعان بينهما لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه ويغلظ اللعان بأربعة أشياء بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان وأن يكون بمحضر جماعة من الناس، أما تعدد الألفاظ فيجب ولا يجوز الإخلال بشيء منها، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن فإن كان بمكة فبين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر، وأما الزمان فهو أن يكون بعد العصر، وأما الجمع فأقله أربعة والتغليظ بالجمع مستحب فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان. قوله تعالى:
[سورة النور (24) : الآيات 10 الى 11]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لعاجلكم بالعقوبة ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ أي يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة حَكِيمٌ أي فيما فرضه من الحدود. قوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات سبب نزولها ما روي عن ابن شهاب قال حدّثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا قالوا:
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت عائشة: أقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت:
وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه(3/284)
كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين» .
وفي رواية «موغرين في نحر الظهيرة قالت فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ثم ينصرف فذلك الذي يريبني منه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت: أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كيف تيكم قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيت أبوي قالت فقلت لأمي يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به فقالت: يا بنية هوني على نفسك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت: فقلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي قالت: ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال أسامة هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال:
أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت له بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله قالت: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي وفي رواية في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي قالت: فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: أنا أعذرتك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج. أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت:
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت فتشهّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى(3/285)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال: قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وإن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم والله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قال فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله وفي رواية قال أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت: فأنزل الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات في براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمت أو ما رأيت؟
فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط زاد في رواية قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط قالت: ثم قتل بعد في سبيل الله شهيدا» .
هذا حديث متفق على صحته أخرجاه في الصحيحين زاد البخاري في رواية عن عروة: عن عائشة «والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول وقال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقرره ويشيعه ويستوشيه قال عروة لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى. قال عروة كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أخرجاه من حديث مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان ينشدها شعرا ببيت من أبياته فقال:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة: لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها: تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قالت وأي عذاب أشد من العمى. وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
حل غريب ألفاظ هذا الحديث
قوله: وكلهم حدثني طائفة أي قطعة من حديثها، قوله كان أوعى أي أحفظ له، قولها آذن أي أعلم(3/286)
بالرحيل، قولها فإذا عقد لي من جزع أظفار وهو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، قولها لم يهبلن أي يكثر لحمهن فيثقلن، قولها إنما يأكلن العلقة من الطعام هو بضم العين أي البلغة من الطعام وهو قدر ما يمسك الرمق، قولها وليس بها منهم داع ولا مجيب أي ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جوابا، قولها فتيممت أي قصدت قولها قد عرس من وراء الجيش فأدلج، التعريس نزول المسافر في آخر الليل للراحة والإدلاج بالتشديد سير آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، قولها باسترجاعه هو قوله «إنا لله وإنا إليه راجعون» قولها فخمرت أي غطيت وجهي بجلبابي أي إزاري، قولها موغرين في نحر الظهيرة الوغرة شدة الحر وكذا نحر الظهيرة أي أولها، قولها والناس يفيضون أي يخوضون ويتحدثون، قولها وهو يريبني يقال رابني الشيء يريبني أي شككت فيه، قولها ولا أرى من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللطف أي الرفق بها واللطف في الأفعال الرفق وفي الأقوال لين الكلام، قولها حتى نقهت أي أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضي فيها الحاجة من غائط وبول وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أو خز، قولها تعس مسطح أي عثر وهو من الدعاء على الإنسان أي سقط لوجهه، قولها يا هنتاه أي بلهاء كأنها تنسبها إلى البله وقلة المعرفة، قولها لا يرقأ لي دمع أي لا ينقطع وقول بريرة إن رأيت بمعنى النفي أي ما رأيت منها أمرا أغمصه بالصاد المهملة أي أعيب والداجن الشاة التي تألف البيت وتقيم به: قوله صلّى الله عليه وسلّم: من يعذرني أي من يقوم بعذري إن أنا كافأته على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت فلا تلوموني على ذلك قولها وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه أي من قبيلته قولها ولكن احتملته الحمية أي حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة، قولها فتثاور الحيان أي ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة، قولها فلم يزل يخفضهم أي يهون عليهم ويسكن، قوله صلّى الله عليه وسلّم إن كنت ألممت قيل هو من اللمم وهو صغائر الذنوب وقيل معناه مقارفة الذنب من غير فعل، قولها قلص دمعي أي انقطع جريانه، قولها ما رام أي ما برح من مكانه والبرحاء الشدة والكرب والجمانة وجمعها جمان فسري عنه أي كشف عنه وقول زينب أحمي سمعي وبصري أي أمنعهما أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر، قولها وهي التي كانت تساميني من السمو وهو العلو والغلبة فعصها الله أي منعها من الوقوع في الشر بالورع وقول الرجل ما كشفت من كنف أي من ستر أنثى قوله ويستوشيه أي يستخرجه بالبحث عنه والاستقصاء فيه وقول حسان في عائشة حصان بفتح الحاء يقال امرأة حصان أي متعففة رزان أي ثابتة ما تزن أي ترمي ولا تتهم بريبة أي بأمر يريب الناس حيية وتصبح غرثى أي جائعة والغرث الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة، والمعنى أنها لا تغتاب أحدا مما هو غافل عن مثل هذا الفعل وقول عائشة في حسان إنه كان ينافح أي يناضل ويخاصم عن الله ورسوله: وأما التفسير فقوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بالكذب والإفك أسوأ الكذب لكونه مصروفا عن الحق وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء والمدح بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والعلم والديانة فمن رماها بالسوء فقد قلب الحق بالباطل وجاء بالإفك، عصبة أي جماعة منكم أي عبد الله بن أبي ابن سلول ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش زوجة طلحة ابن عبيد الله. فإن قلت عبد الله بن أبي ابن سلول كان رأس المنافقين فكيف قال منكم. قلت كان ينسب إلى الإيمان في الظاهر وقيل قوله منكم خرج مخرج الأغلب فإنّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة كانوا من المؤمنين المخلصين لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ يعني الإفك الخطاب لعائشة وصفوان وقيل لعائشة ولأبويها وللنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أن الله آجركم على ذلك وأظهر براءتكم وشهد بكذب العصبة
وأوجب لهم الذم وهذا غاية الشرف والفضل لكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ يعني تحمل معظمه وبدأ بالخوض فيه وأقام بإشاعته وهو عبد الله بن أبي ابن سلول مِنْهُمْ من العصبة لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني عذاب النار في الآخرة روي «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا جميعا ثمانين ثمانين» . قوله عزّ وجلّ:(3/287)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
[سورة النور (24) : الآيات 12 الى 21]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يعني الحديث الكذب وهو قول أهل الإفك ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ بإخوانهم وأهل دينهم خَيْراً والمعنى كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظن ولا يسرعوا في التهمة وقول الزور فيمن عرفوا عفته وطهارته وفيه معاتبة للمؤمنين وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ يعني كذب بين لا حقيقة له لَوْلا يعني هلا جاؤُ عَلَيْهِ يعني على ما زعموا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يعني يشهدون بذلك فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ يعني في حكم الله هُمُ الْكاذِبُونَ وهذا من باب الزواجر. فإن قلت كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت. قلت قيل هذا في حق الذين رموا عائشة خاصة ومعناه فأولئك هم الكاذبون في غيبي.
وعلمي وقيل معناه فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب والقاذف إذا لم يأت بالشهود يجب زجره. قوله تعالى لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ معناه لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم به من حديث الإفك والخطاب للقذفة وهذا الفضل هو تأخير العذاب وقبول التوبة ممن تاب إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
أي يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا فيتلقونه تلقيا يلقيه بعضهم إلى بعض وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي من غير أن تعلموا أنه حق وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي وتظنون أنه سهل لا إثم فيه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي في الوزر وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ قيل هو للتعجب وقيل هو للتنزيه هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي كذب عظيم يبهت ويحير من عظمه. روي أن أم أيوب الأنصاري قالت لأبي أيوب الأنصاري: ما بلغك ما يقول الناس في عائشة فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس يحرم الله عليكم وقيل ينهاكم الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي في الأمر والنهي وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأمر عائشة وصفوان حَكِيمٌ أي حكم ببراءتهما. قوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي يظهر الزنا ويذيع فِي الَّذِينَ آمَنُوا قيل الآية مخصوصة بمن قذف عائشة والمراد بالذين آمنوا جميع المؤمنين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا يعني الحد والذم على فعله وَالْآخِرَةِ أي وفي الآخرة لهم النار وَاللَّهُ يَعْلَمُ أي كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله وَأَنْتُمْ(3/288)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
لا تَعْلَمُونَ
وقيل معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه على ذلك وأنتم لا تعلمون ذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني لولا إنعامه عليكم لعاجلكم بالعقوبة قال ابن عباس يريد مسطحا وحسان بن ثابت وحمنة وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني آثاره ومسالكه وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ يعني بالقبائح من الأقوال والأفعال وكل ما يكره الله عزّ وجلّ والآية عامة في حق كل أحد لأن كل مكلف ممنوع من ذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً يعني ما طهر ولا صلح والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا أخبر الله تعالى أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد وقيل الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل. وهذا قول ابن عباس قال معناه ما قبل توبة أحد منكم أبدا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يعني يطهر مَنْ يَشاءُ من الذنب بالرحمة والمغفرة وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالكم عَلِيمٌ يعني بما في قلوبكم قوله:
[سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
وَلا يَأْتَلِ يعني ولا يحلف من الألية وهي القسم أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يعني الغنى يعني أبا بكر الصديق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني مسطحا وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر الصديق حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله هذه الآية وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا يعني عن خوض مسطح في أمر عائشة أَلا تُحِبُّونَ يخاطب أبا بكر أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلما قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر قال بل أنا أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها عنه أبدا. وفي الآية أدلة على فضل أبي بكر الصديق لأن الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح وذكره بلفظ الجمع في قوله أولوا الفضل وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم وهذا يدل على علو شأنه ومرتبته منها أنه احتمل الأذى من ذوي القربى ورجع عليه بما كان ينفقه عليه وهذا من أشد الجهاد لأنه جهاد النفس. ومنها أنه تعالى قال في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فاعف عنهم واصفح» وقال في حق أبي بكر: «وليعفوا وليصفحوا» فدل أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأخلاق. وفي الآية دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ويكفّر عن يمينه ومنه الحديث الصحيح «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني العفائف الْغافِلاتِ يعني عن الفواحش والغافلة، عن الفاحشة هي التي لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها الْمُؤْمِناتِ وصفها بالمؤمنات لعلو شأنها لُعِنُوا يعني عذبوا فِي الدُّنْيا بالحد وَالْآخِرَةِ يعني وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهذا في حق عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وروي عن حصيف قال قلت لسعيد بن جبير من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة قال ذاك لعائشة وأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة دون سائر المؤمنات ليس في ذلك توبة ومن قذف امرأة مؤمنة(3/289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
فقد جعل الله له توبة ثم قرأ «والذين يرمون المحصنات» إلى قوله تابوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة وقيل بل لهم توبة أيضا للآية يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ هذا قبل أن يختم على أفواههم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ يروي أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا وهو قوله بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ يعني جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يعني الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء وقيل معناه يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا وقال ابن عباس وذلك أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين. قوله عزّ وجلّ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ قال أكثر المفسرين معنى الخبيثات الكلمات والقول للخبيثين من الناس ومثله وَالْخَبِيثُونَ أي من الناس لِلْخَبِيثاتِ من القول وَالطَّيِّباتُ أي من القول ومعنى الآية أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس. والطيب من القول لا يليق إلا بالطيب من الناس وعائشة لا يليق بها. الخبيث من القول لأنها طيبة فيضاف إليها طيب القول من الثناء والمدح وما يليق بها وقيل معناه لا يتكلم بالخبيث إلا الخبيث من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ولا يتكلم بالطيب من القول إلا الطيب من الرجال والنساء. وهذا مدح للذين يرونها بالطاهر والمدح لها وقيل معنى الآية الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء أمثال عبد الله بن أبي المنافق والشاكين في الدين والطيبات من النساء لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ يريد عائشة طيبها الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ يعني عائشة وصفوان ذكرهما الله بلفظ الجمع منزهون مِمَّا يَقُولُونَ يعني أصحاب الإفك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي عفو لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة روي أنّ عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سفرة حرير وقال هذه: زوجتك.
وروي أنه أتى بصورتها في راحته. ومنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف ونزلت براءتها من السماء وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول حدثتني الصديقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرأة من السماء. قوله تعالى:
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ويقول تستأنسوا خطأ من الكاتب وفي هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر والاستئناس في اللغة الاستئذان. وقيل الاستئناس طلب الإنس وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنه إني داخل وقيل هو من آنست أي أبصرت وقيل هو أن يتكلم بتسبيحة أو يتنحنح حتى يعرف أهل البيت وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها بيان حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد الاستئذان والسلام. واختلفوا في أيهما يقدم فقيل يقدم الاستئذان فيقول أدخل سلام عليكم كما في الآية من تقديم الاستئذان قبل السلام. وقال الأكثرون يقدم السلام فيقول سلام عليكم أأدخل(3/290)
وتقدير الآية حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكذا هو في مصحف ابن مسعود وروي عن كند بن حنبل قال:
«دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ولم أسلّم ولم أستأذن فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل» أخرجه أبو داود والترمذي وعن ربعي بن حراش قال «جاء رجل من بني عامر فاستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في البيت فقال ألج فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخادمه اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . أخرجه أبو داود (ق) عن أبي سعيد وأبيّ ابن كعب عن أبي موسى قال أبو سعيد: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت قال ما منعك قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال أبي بن كعب فو الله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك.
قال الحسن الأول إعلام والثاني مؤامرة والثالث استئذان بالرجوع عن عبد الله بن بسر قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن» أخرجه أبو داود وقيل إذا وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلّا قدم الاستئذان ثم يسلم. وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم يدل عليه ما روي «عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أستأذن على أمي؟ قال نعم فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها» أخرجه مالك في الموطأ مرسلا وقوله تعالى ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي فعل الاستئذان خير لكم وأولى بكم من التهجم بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي هذه الآداب فتعملوا بها. قوله عزّ وجلّ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي البيوت أَحَداً أي يأذن لكم في دخولها فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي في الدخول وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا يعني إذا كان في البيت قوم وكرهوا دخول الداخل عليهم فقالوا ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازما هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي الرجوع هو أطهر وأصلح لكم فإنّ للناس أحوالا وحاجات يكرهون الدخول عليهم في تلك الأحوال وإذا حضر إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا جاز. كان ابن عباس يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف على الباب فلا ينظر من شقه إذا كان الباب مردودا (ق) «عن سهل بن سعد قال «اطلع رجل من جحر في باب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدرى يرجل وفي رواية يحك به رأسه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر» (ق) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه» وفي رواية النسائي قال «لو أن أمرأ أطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك حرج» وقال مرة أخرى جناح وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من الدخول بالإذن ولما نزلت آية الاستئذان قالوا كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ يعني إثم أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يعني بغير استئذان فِيها مَتاعٌ لَكُمْ يعني منفعة لكم قيل إن هذه البيوت هي الخانات والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم فيها فيجوز دخولها بغير استئذان ولمنفعة النزول بها واتقاء الحر والبرد وإيواء الأمتعة بها.(3/291)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو منفعتها فليس فيها استئذان. وقيل هي جميع البيوت التي لا ساكن فيها لأن الاستئذان إنما جعل لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك جاز له الدخول بغير استئذان وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يعني عما لا يحل النظر إليه قيل معناه يغضوا أبصارهم. وقيل من هنا للتبعيض لأنه لا يجب الغض عما يحل إليه النظر وإنما أمروا أن يغضوا عما لا يحل النظر إليه (م) عن جرير قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة قال: «اصرف بصرك» عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي (م) عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي
الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وقوله تعالى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ يعني عما لا يحل. قال أبو العالية كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا في هذا الموضع فإن أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه. فإن قلت كيف أدخل من على غض البصر دون حفظ الفرج. قلت فيه دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وثديهن وأعضادهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات في البيع والأجنبية يجوز النظر إلى وجهها وكفيها للحاجة إلى ذلك وأما أمر الفروج فمضيق وكفاك أن أبيح النظر إلّا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه. فإن قلت كيف قدم غض البصر على حفظ الفرج. قلت لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد ولا يكاد أحد يقدر على الاحتراس منه ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ يعني غض البصر وحفظ الفرج إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم قوله عزّ وجلّ:
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يعني عما لا يحل لهن. روي عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجبا منه فقلنا: يا رسول الله أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» أخرجه الترمذي وأبو داود. قوله تعالى وَلا يُبْدِينَ يعني لا يظهرن زِينَتَهُنَّ يعني لغير المحرم وأراد بالزينة الخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها والمراد من الزينة النظر إلى مواضعها من البدن إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها يعني من الزينة قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي الوجه والكفان. وقال ابن مسعود هي الثياب. وقال ابن عباس هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليه للضرورة مثل تحمل الشهادة ونحوه من الضرورات إذا لم يخف فتنة وشهوة فإن خاف شيئا من ذلك غض البصر وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة وسائر بدنها عورة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ يعني ليلقين بمقانعهن عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني موضع الجيب(3/292)
وهو النحر والصدر يعني ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وأقراطهن وصدورهن (خ) عن عائشة قالت: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله «وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها» المرط كساء من صوف أو خز أو كتان وقيل هو الإزار وقيل هو الدرع وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال ابن عباس لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن أو آبائهن أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنية ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة. ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته غير أنه يكره له النظر إلى فرجها أَوْ نِسائِهِنَّ يعني المؤمنات من أهل دينهن أراد به أن يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة ما بين السرة والركبة ولا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتجرد من ثيابها عند الذمية أو الكافرة لأن الله تعالى قال أو نسائهن والذمية أو الكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين فكانت أبعد من الرجل الأجنبي كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات.
وقيل يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قيل هو عبد المرأة فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا وأن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم. وهو ظاهر القرآن يروى ذلك عن عائشة وأم سلمة: وروى أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم «أتى إلى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وقيل: هو كالأجنبي معها وهو قول سعيد بن المسيب.
قال والمراد من الآية الإماء دون العبيد أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قرئ غير بنصب الراء وقيل هو بمعنى الاستثناء ومعناه يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة وقرئ غير بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب الحاجة والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء وقال ابن عباس هو الأحمق العنين وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب والخصي وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنث (م) عن عائشة رضي الله عنها: «قالت كان يدخل على أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل عليكن هذا فاحجبوه زاد أبو داود في رواية وأخرجوه إلى البيداء يدخل كل جمعة فيستطعم» قوله أقبلت بأربع أي أن لها في بطنها أربع عكن فهي تقبل إذا أقبلت بها وأراد بالثمان أطراف العكن الأربع من الجانبين وذلك صفة لها بالسنون أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها وقيل:
لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر وقيل لم يطيقوا أمر النساء وقيل لم يبلغوا حد الشهوة وقيل الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قيل كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها فنهين عن ذلك وقيل إن الرجل تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن وقد علل ذلك بقوله تعالى: لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم به ما عليهن من الحلي وغيره وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أي من التقصير الواقع في أمره ونهيه وراجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة قيل إن أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد فلا ينفك عن تقصير يقع منه فلذلك وصى المؤمنين بالتوبة والاستغفار ووعد بالفلاح إذا تابوا واستغفروا فذلك قوله تعالى(3/293)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (م) عن الأغر أغر مزينة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «توبوا إلى ربكم فو الله إني لأتوب إلى ربي تبارك وتعالى مائة مرة في اليوم» عن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المجلس يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة» أخرجه عبد الرحمن بن حميد الكشي (ق) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» (م) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه» . قوله عزّ وجلّ:
[سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ جمع الأيم يطلق على الذكر والأنثى وهو من لا زوج له من رجالكم ونسائكم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ أي من عبيدكم وَإِمائِكُمْ بيان حكم الآية الأمر المذكور في الآية أمر ندب واستحباب لإجماع السلف عليه فيستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبته أن يتزوج وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . الباءة النكاح ويكنى به عن الجماع أيضا والوجاء بكسر الواو رض الأنثيين وهو نوع من الخصاء شبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» أخرجه أبو داود والنسائي (م) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة أفضل له من النكاح عند الشافعي وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل. قال الشافعي: قد ذكر الله عبدا أكرمه فقال وسيدا حصورا وهو الذي لا يأتي النساء وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح وفي الآية دليل على أن تزويج الأيامى إلى الأولياء لأن الله خاطبهم به كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات. وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم روي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وجوز أصحاب الرأي للمرأة تزويج نفسها وقال مالك إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها وإن كانت شريفة فلا والدليل على أن الولي شرط في النكاح ما روي عن أبي موسى الأشعري قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» أخرجه أبو داود والترمذي ولهما عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن تشاحوا فالسلطان ولي من لا ولي له» . وقوله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قيل الغنى هنا القناعة وقيل:
هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة وقال عمر بن الخطاب. عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح والله تعالى يقول إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال بعضهم إن الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله» وقال «وإن يتفرقا يغني كلا من سعته» وَاللَّهُ واسِعٌ يعني أنه ذو الإفضال والجود عَلِيمٌ أي بما يصلح خلقه من الرزق قوله تعالى:(3/294)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
[سورة النور (24) : آية 33]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً يعني ليطلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من الصدق والنفقة حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني يوسع عليهم من رزقه وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ يعني يطلبون المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ سبب نزول هذه الآية أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها وقتل يوم حنين في الحرب، بيان حكم الآية وكيفية المكاتبة وذلك أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال ويسمى مالا معلوما تؤدي ذلك في نجمين أو في نجوم معلومة في كل نجم كذا فإذا أديت ذلك فأنت حر ويقبل العبد ذلك، فإذا أدى العبد ذلك المال عتق ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة وإذا عتق بأداء المال فما فضل في يده من المال فهو له ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق وما في يده من المال فهو لسيده لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» أخرجه أبو داود وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ أمر إيجاب يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرا إذا سأل العبد ذلك على قيمته أو على أكثر من قيمته وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه وكان كثير المال فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه فدعاه عمر فقال له: كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا فكاتبوهم إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فكاتبه وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي لأنه عقد جوز إرفاقا بالعبد ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل فيحصل المقصود. وجوز أبو حنيفة الكتابة إلى نجم وحالة واحدة واختلفوا في معنى قوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فقال ابن عمر قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقيل مالا، روي أن عبدا لسلمان الفارسي قال له: كاتبني قال ألك مال قال لا قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه قيل لو أراد به المال لقال أن علمتم لهم خيرا وقيل صدقا وأمانة. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمنع من المكاتبة إذا كان هكذا وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله» . أخرجه الترمذي والنسائي وقيل معنى الخير أن يكون العبد عاقلا بالغا فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق وقوله تعالى وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قيل هو خطاب للموالي فيجب على السيد أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئا وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة. وبه قال الشافعي ثم اختلفوا في قدر ما يحط فقيل يحط الربع وهو قول علي ورواه بعضهم مرفوعا. وقال ابن عباس: يحط الثلث وقال الآخرون: ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وبه قال الشافعي قال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم أخرجه مالك في الموطأ. وقال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ويضع عنه من آخر كتابته ما أحب وقال بعضهم هو أمر استحباب والوجوب أظهر وقيل أراد بقوله وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات وهو قوله وفي الرقاب أراد به المكاتب وهو قول الحسن وزيد بن أسلم. وقيل: هو حث لجميع الناس على مؤنتهم واختلف العلماء فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فذهب كثير
منهم إلى أنه يموت رقيقا وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال عمر بن عبد العزيز(3/295)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
والزهري وقتادة وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقال قوم: إن ترك وفاء ما بقي عليه من مال الكتابة كان حرا وإن فضل له مال كان لأولاده الأحرار. وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء وقد وجد وتتبعه أولاده وأكسابه كما في الكتابة الصحيحة لأن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم. وقوله تعالى:
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي إماءكم عَلَى الْبِغاءِ أي الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً الآية (م) عن جابر قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا قال فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وفي رواية أخرى أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال المفسرون: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان يقال لهما مسيكة ومعاذة وكان يكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه فأنزل الله هذه الآية وروي أن إحدى الجاريتين جاءت ببرد، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاء الإسلام، وحرم الزنا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكتا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف العلماء في معنى قوله إن أردن تحصنا على أقوال أحدها: أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطا فيه الثاني: إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأمّا إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا الثالث: أن إن بمعنى إذا أي إذا أردن وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنا، كقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذا كنتم القول الرابع: أن في هذه الآية تقديما وتأخيرا تقديره وأنكحوا الأيامى منكم إن أردتم تحصنا، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا أي لتطلبوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي من أموال الدنيا يريد كسبهن، وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ يعني على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني للمكرهات والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن والله لهن والله. قوله تعالى:
[سورة النور (24) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي من الحلال والحرام وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي شبها من حالكم بحالهم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من كان قبلهم من المكذبين وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي المؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر. قوله عزّ وجلّ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: معناه الله هادي السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون وقيل معناه الله منور السموات والأرض، نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء وقيل: معناه مزين السموات والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال: زين الأرض(3/296)
بالنبات والأشجار، وقيل: معناه إن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر:
إذا سار عبد الله عن مرو ليلة ... فقد سار عنها نورها وجمالها
مَثَلُ نُورِهِ أي مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدي به وقال ابن عباس مثل نوره الذي أعطى المؤمن، وقيل الكناية عائدة إلى المؤمن أي مثل نور قلب المؤمن وقيل أراد بالنور القرآن وقيل هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو الطاعة سمي طاعة الله نورا، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفا وتفصيلا كَمِشْكاةٍ هي الكوة التي لا منفذ لها قيل: هي بلغة الحبشة فِيها مِصْباحٌ أي سراج وأصله من الضوء الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يعني القنديل وإنما ذأر الزجاجة لأن النور، وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج ثم وصف الزجاجة، فقال تعالى الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ من درأ الكوكب إذا اندفع منقضا، فيتضاعف نوره في تلك الحال، وفي ذلك الوقت وقيل هو من درأ النجم إذا طلع، وارتفع وقيل دري أي شديد الإنارة نسب إلى الدر، في صفائه وحسنه وإن كان الكوكب أضوأ من الدر لكنه يفضل الكوكب بصفائه كما يفضل الدر على سائر اللؤلؤ وقيل الكوكب الدري أحد الكواكب الخمسة السيارة، التي هي زحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد، قيل: شبهه بالكواكب ولم يشبهه بالشمس والقمر، لأنهما يلحقهما الكسوف بخلاف الكواكب يُوقَدُ أي اتقد المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي من زيت شجرة مباركة كثيرة البركة، وفيها منافع كثيرة لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو إدام وهو أصفى الأدهان وأضوأها، وقيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقيل: أراد به زيتون الشام لأنها هي الأرض المباركة، وهي شجرة لا يسقط ورقها، عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» أخرجه الترمذي. وقوله لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي ليست شرقية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة، إذا طلعت بل مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها، وعند غروبها فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا معنى قول ابن عباس وقيل معناه أنها ليست في مقنأة لا تصيبها الشمس، ولا في مضحاة لا يصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل وقيل معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد وقيل معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض، لا شرقي ولا غربي وقيل ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أي من صفائه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي قبل أن تمسه النار نُورٌ عَلى نُورٍ أي نور المصباح على نور الزجاجة.
فصل في بيان التمثيل المذكور في الآية
اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل، فقيل: المراد به الهدى ومعناه أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، والرقة والبياض فإذا كان كذلك كان كاملا في صفائه، وصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى وقيل وقع هذا التمثيل لنور محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم به أنه نبيّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار وروي عن ابن عمر في هذه الآية قال المشكاة: جوف محمد صلّى الله عليه وسلّم والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي جعله الله فيه لا شرقية ولا غربية، لا يهودي ولا نصراني توقد من شجرة مباركة إبراهيم نور على نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم: وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم،(3/297)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين سمى الله محمدا مصباحا، كما سماه سراجا منيرا والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام لأن أكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية، يعني إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما لأن اليهود تصلّي إلى الغرب، والنصارى تصلّي إلى الشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلّى الله عليه وسلّم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم، وقيل وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن قال أبيّ بن كعب، هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن توقد من شجرة مباركة هي شجرة الإخلاص لله وجده فمثله مثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة نضرة، لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن، قد احترس أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق يكاد زيتها يضيء أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه، نور على نور قال أبي: فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور، وعمله نور ومدخله نور، ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونور على نور، وقال الكلبي: نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله.
وقيل نور الإيمان ونور القرآن وقيل هذا مثل القرآن فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح فكذلك يهتدى بالقرآن والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة المعرفة في قلبه، يكاد زيتها يضيء أي نور المعرفة يشرق في قلب المؤمن، ولو لم يمسسه النار وقيل تكاد حجة القرآن تتضح، وإن لم يقرأ نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور. قوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: لدين الإسلام وهو نور البصيرة وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي يبين الله الأشياء للناس تقريبا إلى الأفهام، وتسهيلا لسبيل الإدراك وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قوله عزّ وجلّ:
[سورة النور (24) : آية 36]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36)
فِي بُيُوتٍ أي ذلك المصباح يوقد في بيوت والمراد بالبيوت جميع المساجد، قال ابن عباس: المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض وقيل: المراد بالبيوت أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ومسجد المدينة بناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومسجد قباء أسس على التقوى وبناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي تبنى وقيل:
تعظم فلا يذكر فيها الخنى من القول وتطهر عن الأنجاس والأقذار وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ لَهُ فِيها أي يصلي له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بالغداة والعشي قال أهل التفسير: أراد به الصلاة المفروضة فالتي تؤدّى بالغداة صلاة الفجر والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت كله وقيل: أراد به الصبح والعصر. عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «من صلى صلاة البردين دخل الجنة أراد بالبردين صلاة الصبح، وصلاة العصر» وقال ابن عباس: التسبيح بالغدو صلاة الضحى والآصال صلاة العصر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يعنيه إلا ذاك كان أجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» أخرجه أبو داوود.(3/298)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
[سورة النور (24) : الآيات 37 الى 40]
رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
رِجالٌ قيل خص الرجال بالذكر في هذه المساجد، لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا جماعة لا تُلْهِيهِمْ أي لا تشغلهم تِجارَةٌ وقيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل الإنسان به عن الصلوات، والطاعات وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا، لأنه ذكر البيع بعده وقيل التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يده وَلا بَيْعٌ أي ولا يشغلهم بيع عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي حضور المساجد لإقامة الصلوات وَإِقامِ الصَّلاةِ يعني إقامة الصلاة في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وروي عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت هذه الآية «رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة» وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يعني المفروضة قال ابن عباس إذا حضر، وقت أداء الزكاة لا يحبسونها يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ يعني أن هؤلاء الرجال، وإن بالغوا في ذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. قيل: إن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار. وقيل:
تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وترفع عن الأبصار الأغطية. وقيل: تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء فتخشى الهلاك وتطمع في النجاة، وتتقلب الأبصار من هول ذلك اليوم، من أي ناحية يؤخذ بهم أمن ذات اليمين، أم من ذات الشمال ومن أي يؤتون كتبهم أمن اليمين أم من قبل الشمال؟ وقيل: يتقلب القلب في الجوف، فيرتفع إلى الحنجرة فلا ينزل ولا يخرج ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا والمراد بالأحسن الحسنات كلها وهي الطاعات فرضها ونفلها، وذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم وقيل: إنه سبحانه وتعالى يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم، على الواحد من عشرة إلى سبعمائة ضعف وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني أنه سبحانه وتعالى يجزيهم بأحسن أعمالهم ولا يقتصر على ذلك بل يزيدهم من فضله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فيه تنبيه على كمال قدرته وكمال جوده وسعة إحسانه وفضله. قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ لما ضرب مثلا لحال المؤمن وأنه في الدنيا والآخرة في نور، وأنه فائز بالنعيم المقيم، أتبعه بضرب مثل لأعمال الكفار، وشبهه بالسراب وهو شبه ماء يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري يظنه من رآه ماء، فإذا قرب منه لم ير شيئا. والقيعة القاع وهو المنبسط من الأرض وفيه يكون السراب يَحْسَبُهُ أي يتوهمه الظَّمْآنُ أي العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ أي جاء ما قدر أنه ماء وقيل: جاء إلى موضع السراب لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي لم يجده على ما قدره وظنه ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، يعتقد أنه له ثوابا عند الله وليس كذلك فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته، وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه به فإذا جاءه لم يجده شيئا فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله، نافعة فإذا احتاج إلى عمله لم يجده أغنى عنه شيئا ولا نفعه وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجد الله بالمرصاد وقيل: قدم(3/299)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
على الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي جزاء عمله وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ معناه أنه عالم بجميع المعلومات فلا تشغله محاسبة واحد عن واحد. ثم ضرب للكفار مثلا آخر فقال تعالى أَوْ كَظُلُماتٍ أعلم الله سبحانه وتعالى أن أعمال الكفار إن كانت حسنة، فهي كسراب بقيعة وإن كانت قبيحة فهي كظلمات، وقيل: معناه إن مثل أعمالهم في فسادها، وجهالتهم فيها كظلمات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء ولجة البحر معظمه يَغْشاهُ أي يعلوه مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي متراكم مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غمورة الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة وقيل: معناه لم يرها إلا بعد الجهد وقيل: لما كانت اليد من أقرب شيء يراه الإنسان قال: لم يكد يراها، ووجه التشبيه أن الله ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات: ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب، وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل وقيل: شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه. قال أبيّ بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ قال ابن عباس من لم يجعل الله له دينا وإيمانا، فلا دين له وقيل من لم يهده الله فلا هادي له قيل نزلت هذا الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر وعاند، والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار. قوله عزّ وجلّ:
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 45]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الهواء قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قيل: الصلاة لبني آدم والتسبيح لسائر الخلق وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وقيل: معناه إن كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه وقيل معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن جميع الموجودات ملكه وفي تصرفه وعنه نشأت ومنه بدأت فهو واجد الوجود وقيل معناه أن خزائن المطر والرزق بيده ولا يملكها أحد سواه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإلى الله مرجع العباد بعد الموت. قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً بأمره إلى حيث يشاء من أرضه وبلاده ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من وسطه وهو مخارج القطر وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل معناه وينزل من جبال من السماء وتلك الجبال من برد. قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالا من برد وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال في الكثرة من برد. فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة. قلت: من الأولى لابتداء الغاية لأن(3/300)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي البرد مَنْ يَشاءُ فيهلكه وأمواله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أي فلا يضره يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي من شدة ضوئه وبريقه يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما فيأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمن أقلب الليل والنهار» . معنى هذا الحديث: أن العرب كانوا يقولون عند النوازل والشدائد أصابنا الدهر ويذمونه في أشعارهم فقيل لهم: لا تسبوا الدهر فإن فاعل ذلك هو الله عز وجل والدهر مصرف تقع فيه التأثيرات كما تقع بكم، وقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر من هذه الأشياء لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده.
قوله عز وجل وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أي من نطفة وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة والجن، لأنا لا نشاهدهم وقيل: إن أصل جميع الخلق من الماء وذلك أن الله خلق ماء فجعل بعضه ريحا ونورا فخلق منه الملائكة وجعل بعضه نارا فخلق منه الجن، وجعل بعضه طينا فخلق منه آدم فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ أي كالحيات والحيتان والديدان ونحو ذلك وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ يعني مثل بني آدم والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يعني كالبهائم والسباع. فإن قلت كيف قال: خلق كل دابة من ماء مع أن كثيرا من الحيوانات يتولد من غير نطفة. قلت ذلك المخلق من غير نطفة، لا بد أن يتكون من شيء، وذلك الشيء أصله من الماء فكان من الماء. فإن قلت: فمنهم من يمشي ضمير العقلاء، فلم يستعمل في غير العقلاء.
قلت ذكر الله تعالى ما لا يعقل مع من يعقل لأن جعل الشريف أصلا، والخسيس تبعا أولى. فإن قلت: لم قدم ما يمشي على بطنه على غيره من المخلوقات. قلت قدم الأعجب، والأعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة المشي، وهي الأرجل والقوائم ثم ذكر ما يمشي على رجلين ثم ما يمشي على أربع. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الأربع وفي الحيوانات ما يمشي على أكثر من أربع، كالعناكب والعقارب والرتيلا وما له أربع وأربعون رجلا ونحو ذلك. قلت هذا القسم كالنادر فكان ملحقا بالأغلب وقيل: إن هذه الحيوانات اعتمادها على أربع في المشي والباقي تبع لها يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما لا يعقل ولا يعلم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو القادر على الكل العالم بالكل المطلع على الكل، يخلق ما يشاء كما يشاء لا يمنعه مانع ولا دافع.
[سورة النور (24) : الآيات 46 الى 55]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)(3/301)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعني القرآن هو المبين للهدى والأحكام والحلال والحرام وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته. قوله تعالى وَيَقُولُونَ يعني المنافقين آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا أي يقولونه: بألسنتهم من غير اعتقاد ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض عن طاعة الله ورسوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد قولهم آمنا، ويدعو إلى غير حكم الله قال الله تعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ نزلت هذا الآية في بشر المنافق، كان بينه وبين يهودي خصومة في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمدا يحيف فأنزل الله هذه الآية وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي الرسول يحكم بحكم الله بينهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن الحكم وقيل عن الإجابة وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي مطيعين منقادين لحكمه أي إذا كان الحكم لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم أنه، كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي كفر ونفاق أَمِ ارْتابُوا أي شكوا وهذا استفهام ذم وتوبيخ، والمعنى هم كذلك أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي بظلم بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لأنفسهم بإعراضهم عن الحق. قوله عزّ وجلّ إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ هذا تعليم أدب الشرع على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا وهو أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أي الدعاء وَأَطَعْنا أي بالإجابة وَأُولئِكَ أي من هذه صفته هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه وسره وَيَخْشَ اللَّهَ أي على ما عمل من الذنوب وَيَتَّقْهِ أي فيما بعد فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يعني الناجون.
قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قيل: جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئا لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا، ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقيل لما نزل بيان كراهتهم لحكم الله ورسوله قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا، وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى بحكمك فقال الله تعالى قُلْ
لهم لا تُقْسِمُوا
يعني لا تحلفوا، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
يعني هذه طاعة القول باللسان دون الاعتقاد بالقلب، وهي معروفة يعني أمر عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون وقيل: معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
يعني من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يعني بقلوبكم وصدق نياتكم فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ أي ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما كلفتم من الإجابة والطاعة وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أي تصيبوا الحق والرشد في طاعته وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح البين. قوله عزّ وجلّ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ قيل مكث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم: سلاحه فقال رجل منهم أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية، ومعنى ليستخلفنهم والله ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فجعلهم ملوكها وساستها وسكانها كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما استخلف داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء، وكما استخلف بني إسرائيل وأهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى أي اختاره لَهُمْ قال(3/302)
ابن عباس يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي آمنين لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فأنجز الله وعده وأظهر دينه ونصر أولياءه وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض (خ) عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال: «يا عدي هل رأيت الحيرة قلت: لم أرها ولقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي، فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم القيامة، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن ألم أبعث إليك رسولا، فيبلغك فيقول بلى يا رب، ألم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم» قال عدي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة» قال عدي:
فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم: يخرج الرجل ملء كفه ذهبا إلخ.
وفي الآية دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين بعده، لأن في أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى وغيره من الملوك، وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين عن سفينة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا» ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وعلي ستا قال علي: قلت لحماد القائل لسعيد أمسك سفينة قال نعم» أخرجه أبو داود والترمذي بنحو هذا اللفظ. قلت: كذا ورد هذا الحديث بهذا التفصيل، وفيه إجمال وتفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة كما ذكر في الحديث، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر ولهذا جاء في بعض روايات الحديث على كذا، ولم يبين تعيين مدته فعلى هذا التفصيل تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر، وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن كانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم، وقوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أراد به كفران النعمة ولم يرد الكفران بالله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي العاصون قال أهل التفسير:
أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتلون بعد أن كانوا إخوانا. عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: «لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال عثمان: ما جاء بك قال: جئت في نصرك قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجا خير لي منك داخلا، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: أيّها الناس إن لله سيفا مغمودا وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فو الله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلن الله سيفه المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان» أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي «فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا» .
قوله تعالى:(3/303)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
[سورة النور (24) : الآيات 56 الى 58]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي افعلوا هذه الأشياء على رجاء الرحمة لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ أي فائتين عنا فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال ابن عباس وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلاما من الأنصار يقال له:
مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك فأنزل الله هذه الآية وقيل: نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ واللام لام الأمر وفيه قولان أحدهما: أنه على الندب والاستحباب والثاني: أنه على الوجوب وهو الأولى الذين ملكت أيمانكم يعني العبيد والإماء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعني الأحرار وليس المراد منهم الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء ولكنهم لم يبلغوا الحلم وهو سن التمييز والعقل وغيرهما، واتفق العلماء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة، ولم يحتمل فقال أبو حنيفة لا يكون بالغا حتى يبلغ ثمان عشرة سنة ويستكملها والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمسة عشرة سنة يصير مكلفا، وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي وقت المقيل وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وإنما خص هذه الثلاثة الأوقات، لأنها ساعات الخلوات ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
يعني العبيد والخدم والصبيان جُناحٌ أي حرج في الدخول عليكم بغير استئذان بَعْدَهُنَّ أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي العبيد والخدم يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالكم بغير إذن بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي يطوف بعضكم على بعض كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل: إنها منسوخة حكي ذلك عن سعيد بن المسيب، روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا يا ابن العباس كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بها، ولا يعمل بها أحد قول الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية فقال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجاب فربما دخل الخدم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير» فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد. أخرجه أبو داود في رواية عنه نحوه وزاد فرأيي أن ذلك أغنى عن الاستئذان في تلك العورات، وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: «سألت الشعبي عن هذه الآية ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أمنسوخة هي؟ قال: لا والله قلت إن الناس لا يعملون بها قال الله تعالى المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية أن ناسا يقولون: نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قيل ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن هذه الآية وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ والناس يقولون أعظمكم بيتا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. وقوله عزّ وجلّ:(3/304)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
[سورة النور (24) : الآيات 59 الى 61]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي الاحتلام يريد الأحرار الذين بلغوا فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي دلالته وقيل أحكامه وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأمور خلقه حَكِيمٌ بما دبر وشرع قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك، وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره قوله وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر فلا يلدن ولا يحضن اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يردن الأزواج لكبرهن، وقيل: هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن فأما من كانت فيها بقية جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي عند الرجال والمعنى بعض ثيابهن وهو الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار فأما الخمار فلا يجوز وضعه غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي من غير أن يردن بوضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن. والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما يجب عليها أن تستره وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي فلا يلقين الجلباب ولا الرداء خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قوله عز وجل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ اختلف العلماء في هذه الآية فقال ابن عباس: لما أنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، والزمنى والعمى والعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله عز وجل عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي من الطعام حقه فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في أي ليس في الأعمى، والمعنى ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج وقيل كان العميان والعرجان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان الأعمى يقول ربما آكل أكثر من ذلك ويقول الأعرج والأعمى ربما أجلس مكان اثنين فنزلت هذه الآية، وقيل:
نزلت ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سماهم الله في باقي الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن عنده شيء، ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه أو بعض من سمى الله تعالى فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته فأنزل الله هذا الآية وقيل: كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وأصحابها غيب فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام عند قوله وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وقوله تعالى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ كلام مستأنف قيل لما نزلت وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل من(3/305)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
أحد فأنزل الله تعالى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، قيل أراد من أموال عيالكم وبيوت أزواجكم لأن بيت المرأة كبيت الزوج، وقيل بيوت أولادكم ونسب بيوت الأولاد إلى الآباء لما جاء في الحديث «أنت ومالك لأبيك» أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس: عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر، وقيل يعني بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منزل عبده، والمفاتح الخزائن ويجوز أن يكون المفتاح الذي يفتح به، وإذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يأكل الشيء اليسير، وقيل: ما ملكتم مفاتحه أي ما خزنتموه عندكم وما ملكتموه أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق هو الذي صدقك في المودة قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، ربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل وقال ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير فنزلت هذه الآية وقيل: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا أنزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا، أي مجتمعين أو أشتاتا أي متفرقين فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله، ومن في بيته قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته، حدثنا أن الملائكة ترد عليه وقال ابن عباس إذا لم يكن في البيت أحد، فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته وعن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً قال ابن عباس حسنة جميلة وقيل ذكر البركة والطيب هاهنا لما فيه من الثواب والأجر كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي عن الله أمره ونهيه وآدابه. قوله عز وجل:
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 63]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي يجمعهم من حرب أو صلاة حضرت، أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل لَمْ يَذْهَبُوا أي لم(3/306)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قال المفسرون «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم» قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه إلا بإذن وإذا استأذن الإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن وهذا إذا لم يكن حدث سبب يمنعه من المقام فإن حدث سبب يمنعه من المقام، بأن يكون في المسجد فتحيض امرأة منهم أو يجنب رجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي أمرهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي في الانصراف والمعنى إن شئت فأذن إن شئت فلا تأذن وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي إن رأيت لهم عذرا في الخروتج عن الجماعة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قوله عز وجل لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول احذروا دعاء الرسول إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره وقيل معناه لا تدعوه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله، ولكن فخموه وعظموه وشرفوه وقولوا يا نبيّ الله يا رسول الله في لين وتواضع قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي يخرجون مِنْكُمْ لِواذاً أي يستتر بعضهم ببعض ويروغ في خفية فيذهب قيل كانوا في حفر الخندق فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختفين وقال ابن عباس لواذا أي يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه، فيخرجون من المسجد في استتار وقوله قد يعلم فيه التهديد بالمجازاة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي لئلا تصيبهم فتنة أي بلاء في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع في الآخرة، ثم عظم الله نفسه فقال تعالى:
[سورة النور (24) : آية 64]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ملكا وعبيدا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي من الإيمان والنفاق وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي من الخير والشر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور» أخرجه أبو عبد الله بن السبع في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/307)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
سورة الفرقان
مكية وهي سبع وسبعون آية وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
قوله عزّ وجلّ تَبارَكَ تفاعل من البركة قيل: معناه جاء بكل بركة وخير وقيل معناه تعظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن سماه فرقانا لأنه فرق بين الحق، والباطل والحلال والحرام وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ أي للإنس والجن نَذِيراً قيل هو القرآن وقيل النذير هو محمد صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو المتصرف فيهما كيف يشاء وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي هو الفرد في وحدانيته، وفيه رد على النصارى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ يعني هو المنفرد بالإلهية، وفيه رد على الثنوية وعباد الأصنام وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مما تطلق عليه صفة المخلوق فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي سواه وهيأه لما يصلح له لا خلل فيه ولا تفاوت، وقيل: قدر كل شيء تقديرا من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق. قوله تعالى:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 3 الى 8]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7)
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
وَاتَّخَذُوا يعني عبدة الأوثان مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني دفع ضر ولا جر نفع وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي إماتة وَلا حَياةً أي إحياء وَلا نُشُوراً أي بعثا بعد الموت وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحارث وأصحابه إِنْ هَذا أي ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي كذب افْتَراهُ أي اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قيل: هم اليهود وقيل عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن، وقيل جبر ويسار وعداس بن عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب، فزعم المشركون أن(3/308)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
محمدا صلّى الله عليه وسلّم يأخذ منهم قال الله تعالى فَقَدْ جاؤُ يعني قائلي هذه المقالة ظُلْماً وَزُوراً أي بظلم وزور، وهو تسميتهم كلام الله بالإفك والافتراء وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها يعني النضر بن الحارث كان يقول: إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار ومعنى اكتتبها انتسخها محمد صلّى الله عليه وسلّم من جبر ويسار وعداس وطلب أن تكتب له لأنه كان لا يكتب فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه ليحفظها لأنه لا يكتب بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني غدوة وعشية قال الله تعالى ردا عليهم قُلْ يا محمد أَنْزَلَهُ يعني القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي الغيب فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لولا ذلك لعاجلهم بعذابه وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كما نأكل نحن وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يلتمس المعاش كما نمشي نحن وإذا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا، ولا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة وكانوا يقولون له لست بملك لأنك بشر مثلنا، والملك لا يأكل ولا يملك لأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق وتبتذل وما قالوه فاسد لأن أكله الطعام لكونه آدميا، ولم يدع أنه ملك ومشيه في الأسواق لتواضعه وكان ذلك صفته في التوراة ولم يكن سخابا في الأسواق وليس شيء من ذلك ينافي النبوة ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أي يصدقه ويشهد له فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي داعيا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى التصرف في طلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يعني بستان يَأْكُلُ مِنْها أي هو فلا أقل من ذلك إن لم يكن له كنز وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعني مخدوعا وقيل مصروفا عن الحق.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 9 الى 17]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13)
لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه التي لا فائدة لها فقالوا مسحور محتاج فَضَلُّوا أي عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة. قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي من الذي قالوا: وأفضل من البستان الذي ذكروا وقال ابن عباس يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش ثم بين ذلك الخير فقال جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي بيوتا مشيدة عن أبي أمامة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما أو قال ثلاثا أو نحو هذا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهبا جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا قالت فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول: أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» ذكر هذين الحديثين البغوي بسنده. قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي القيامة وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي نارا مسعرة إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قيل: من مسيرة عام وقيل من(3/309)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
مسيرة مائة عام. فإن قلت: كيف تتصور الرؤية من النار وهو قوله إذا رأتهم. قلت يجوز أن يخلق الله لها حياة وعقلا ورؤية وقيل: معناه رأتهم زبانيتها سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي غليانا كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب وَزَفِيراً أي صوتا فإن قلت كيف يسمع التغليظ. قلت: معناه رأوا وعلموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا، وقيل: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد، وقال عبيد بن عمير: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قال ابن عباس تضيق عليه كما يضيق الزج في الرمح مُقَرَّنِينَ أي مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقيل:
مقرنين مع الشياطين في السلاسل دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قال ابن عباس: ويلا وقيل هلاكا وفي الحديث «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً هكذا ذكره البغوي بغير سند، وقيل معناه هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة. قوله عز وجل قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أي الذي ذكرت من صفة النار وأهلها أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي ثوابا ومرجعا لهم قال تعالى لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أي أن جميع المرادات لا تحصل إلا في الجنة، لا في غيرها. فإن قلت: قد يشتهي الإنسان شيئا، وهو لا يحصل في الجنة كأن يشتهي الولد ونحوه وليس هو في الجنة قلت إنّ الله يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة، بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيه من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيره خالِدِينَ أي في نعيم الجنة ومن تمام النعيم أن يكون دائما، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم وأنشد في المعنى:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي مطلوبا، وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة» وقالوا «ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك» يقول كان إعطاء الله المؤمنين جنة وعدا، وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك الوعد وقيل الطلبة من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من الملائكة والإنس والجن مثل عيسى والعزير، وقيل يعني الأصنام ثم يخاطبهم فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أخطئوا الطريق.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 18 الى 23]
قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)(3/310)
قالُوا يعني المعبودين سُبْحانَكَ نزهوا الله سبحانه وتعالى من أن يكون معه آلهة ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ يعني ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك، بل أنت ولينا من دونهم وقيل معناه، ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك ونحن عبيدك وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي بطول العمر والصحة والنعمة في الدنيا حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ معناه تركوا المواعظ والإيمان بالقرآن وقيل تركوا ذكرك وغفلوا عنه وَكانُوا قَوْماً بُوراً معناه هلكى أي غلب عليهم الشقاء والخذلان فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ هذا خطاب مع المشركين أي كذبكم المعبودون بِما تَقُولُونَ يعني أنهم آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ أي الآلهة صَرْفاً أي صرف العذاب عن أنفسهم وَلا نَصْراً يعني ولا نصر أنفسهم وقيل لا ينصرونكم أيها العابدون بدفع العذاب عنكم وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يعني يشرك نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً.
قوله عز وجل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ أي يا محمد مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أنزل الله تعالى على هذه الآية والمعنى أن هذه عادة مستمرة من الله تعالى على رسله فلا وجه لهذا الطعن وما أنا إلا رسول ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وهم كانوا بشرا مثلي، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي بلية قال ابن عباس أي جعلنا بعضكم بلاء بعض، لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا أنتم الهدى، قيل: نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأى الوضيع، قد أسلم قبله فأنف وقال: أسلم بعده فيكون له السابقة والفضل علي فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض وقيل: نزلت في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر وبلالا، وصهيبا وعامر بن فهيرة وذويهم، قد أسلموا قبلهم فقالوا: نسلم فنكون مثل هؤلاء وقيل: نزلت في ابتلاء فقراء المسلمين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم من موالينا وأراذلنا فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ أي على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى وقيل إن الغني فتنة الفقير يقول ما لي لم أكن مثله والصحيح فتنة المريض والشريف فتنة الوضيع وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي بمن صبر وبمن جزع (ق) عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم» لفظ البخاري ولمسلم «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» .
قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي يخافون البعث والرجاء، بمعنى الخوف لغة تهامة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فتخبرنا أن محمدا صادق أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا فِي أَنْفُسِهِمْ بهذه المقالة وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي طغوا وقيل عتوا في القول وهو أشد الكفر والفحش وعتوهم، طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به. قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي عند الموت وقيل يوم القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين، يوم القيامة ويقولون للكفار: لا بشرى لكم وقيل: لا بشارة لهم بالجنة كما بشر المؤمن وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قال ابن عباس تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة، إلا من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم أن تكون لكم البشرى وقيل هذا قول: الكفار للملائكة وذلك أن العرب كانت إذا نزلت بهم شدة ورأوا ما يكرهون قالوا حجرا محجورا فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة. قوله عز وجل وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ يعني من أعمال البر التي عملوها في حال الكفر فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي باطلا لا ثواب له(3/311)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
لأنهم لم يعملوه لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد والهباء هو ما يرى في الكوة كالغبار، إذا وقعت الشمس فيها فلا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل والمنثور المفرق قال ابن عباس هو ما تسقيه الرياح، وتذريه من التراب كحطام الشجر وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير من الغبار. قوله تعالى:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 24 الى 29]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي من هؤلاء المشركين المستكبرين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي موضع القائلة، وذلك أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر من أول النهار إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة قال ابن مسعود لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم لأن الله تعالى قال وَأَحْسَنُ مَقِيلًا والجنة لا نوم فيها قال ابن عباس الحساب في ذلك اليوم في أوله، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون، كما بين العصر إلى غروب الشمس. قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي عن الغمام وهو غمام أبيض مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قال ابن عباس تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الإنس والجن ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ثم كذلك حتى تتشق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي تليها ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة، قال ابن عباس: يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي شديد وفيه دليل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا وجاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» .
قوله تعالى وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه كان لا يقدم من سفر، إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقدم ذات يوم من سفر، فصنع طعاما ودعا الناس إليه ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما قرب الطعام، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طعامه. وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف، فلما أخبر أبيّ بن خلف، قال له: يا عقبة صبأت، قال لا والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي، ولم يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة فقال عليه الصلاة والسلام، لا أراك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فقتل عقبة يوم بدر صبرا وأما أبيّ بن خلف فقتله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيده يوم أحد، وقيل: لما بزق عقبة في وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عاد بزاقه في وجهه، فاحترق خداه فكان أثر ذلك في وجهه، حتى قتل وقيل كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف، فأسلم عقبة فقال له أمية:
وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر وارتد، فأنزل الله فيه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ يعني عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، على يديه، أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه(3/312)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
بالمعصية والكفر لطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه، قال عطاء: يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم ينبتان، ثم يأكلهما هكذا كلما نبتت يده أكلها على ما فعل، تحسرا وندامة يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ أي في الدنيا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي ليتني اتبعت محمدا صلّى الله عليه وسلّم واتخذت معه طريقا إلى الهداية يا وَيْلَتى دعا على نفسه بالويل لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا قيل يعني أبي بن خلف لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي عن الإيمان والقرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي يعني الذكر مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَكانَ الشَّيْطانُ وهو كل متمرد عات صد عن سبيل الله من الجن والإنس لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي كثير الخذلان يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب به وحكم الآية عام في كل خليلين، ومتحابين اجتمعا على معصية الله (ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أبو داود والترمذي.
ولهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» . قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 40]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
وَقالَ الرَّسُولُ يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا وأعرضوا عنه، ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه وقيل جعلوه بمنزلة الهجر وهو السيئ من القول فزعموا أنه سحر وشعر، والمعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، يشكو قومه إلى الله عز وجل يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، فعزاه الله تعالى فقال وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلت لك أعداء من مشركي مكة، وهم قومك كذلك جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين والمعنى لا يكبرن عليك ذلك فإن الأنبياء قبلك قد لقوا هذا من قومهم، فصبروا فاصبر أنت كما صبروا فإني ناصرك، وهاديك وهو قوله تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود صلوات الله عليهم أجمعين قال الله كَذلِكَ فعلنا ذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه مفرقا لنقوي به قلبك، فتعيه وتحفظه فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء، يكتبون ويقرءون وأنزلنا القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور تحدث في أوقات مختلفة ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأيسر على العامل به وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا.(3/313)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
قال ابن عباس: وبيناه بيانا والترتيل التبيين في ترسل وتثبت وقيل فرقناه تفريقا آية بعد آية وَلا يَأْتُونَكَ يعني يا محمد هؤلاء المشركون بِمَثَلٍ يعني يضربونه لك في إبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي بما ترد به ما جاءوا به من ما يوردون المثل، وتبطله فسمي ما يوردون من الشبه مثلا، وسمي ما يدفع به الشبه حقا وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً يعني أحسن بيانا وتفصيلا ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين فقال تعالى الَّذِينَ يعني هم الذين يُحْشَرُونَ أي يساقون ويجرون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني منزلا ومصيرا وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معينا وظهيرا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القبط فَدَمَّرْناهُمْ فيه إضمار أي فكذبوهما فدمرناهم تَدْمِيراً يعني أهلكناهم إهلاكا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني رسولهم ومن كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل فلذلك ذكره بلفظ الجمع أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة لمن بعدهم وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ في الآخرة عَذاباً أَلِيماً يعني سيرى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا وَعاداً وَثَمُودَ أي أهلكنا عادا وثمود وَأَصْحابَ الرَّسِّ قال وهب بن منبه كان أهل بئر الرس نزولا عليها، وكانوا أصحاب مواش يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا، يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وآذوا شعيبا فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت البئر وخسف بهم وبديارهم ورباعهم وقيل: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله. وقال سعيد بن جبير: كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار هم الذين ذكرهم الله في سورة «يس» وقيل هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد وثمود وأصحاب الرس وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا قوله تعالى وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني الحجارة وهي قريات قوم لوط، وهي خمس قرى أهلك الله منها أربعا ونجت واحدة. وهي أصغرها وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها يعني إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبروا ويتعظوا لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم في ممرهم إلى الشأم بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعني لا يخافون بعثا. قوله تعالى:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 48]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً نزلت في أبي جهل كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزئا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا يعني قد قارب أن يضلنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعني على عبادتها والمعنى لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي في الآخرة عيانا مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد حجرا، فإذا رأى حجرا أحسن منه رماه وأخذ الأحسن منه وعبده وقال ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة الله خالقه، ثم هوى(3/314)
حجرا فعبده ما حاله عندي وقيل الهوى إله يعبد أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حافظا تحفظه من اتباع الهوى وعبادة ما يهواه من دون الله والمعنى لست كذلك وقال الكلبي نسختها آية القتال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أي ما تقول سماع طالب الإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ يعني ما يعاينون من الحجج والأعلام وهذه المذمة أعظم من التي تقدمت، لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنهم لا سمع لهم ولا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام فقال تعالى إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكير ثم قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعاهدونها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم لأن الأنعام تسجد وتسبح والكفار لا يفعلون ذلك.
قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا، لأنه ظل لا شمس معه وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بضدها ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني بالشمس التي تأتي عليه والمعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزأ فجزأ قبضا خفيفا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني سترا تسترون به والمعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس، الذي يشتمل على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً يعني راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً يعني يقظة وزمانا تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم وطلب الاشتغال وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وأراد به المطهر والماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور وهو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل والريق ونحوها، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير، وهو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضئ به مرة، وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه، كالطين والتراب وأوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره، وكذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة، وإن كان شيئا يمكن صون الماء عنه، ومخالطته كالخل والزعفران ونحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به وإن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئا طاهرا لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلا أو كثيرا، وإن كان الواقع شيئا نجسا نظر فيه فإن كان الماء، أقل من قلتين نجس الماء وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة، ترده السباع والذئاب فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» أخرجه أبو داود والترمذي. وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه، وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «قيل يا رسول الله إنه يستقى لك من بئر بضاعة ويلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر النساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الماء طهور لا ينجسه شيء» وفي رواية قال «قلت يا رسول الله أيتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والنتن(3/315)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الماء طهور لا ينجسه شيء» وقوله تعالى:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 49 الى 57]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قيل: أراد به موضع البلدة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أي نسقي من ذلك الماء أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي بشرا كثيرا والأناسي جمع إنسي وقيل جمع إنسان قوله عز وجل وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ يعني المطر مرة ببلدة ومرة ببلدة أخرى وقال ابن عباس ما عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض وقرأ هذه الآية، وهذا كما روي مرفوعا «ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء» وروي عن ابن مسعود يرفعه، قال: ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى ولكن الله عزّ وجلّ قسم هذه الأرزاق فجعلها في هذه السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ووزن معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار، وقيل: المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطشا ورذاذا ونحوها وقيل التصريف راجع إلى الريح لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا في كفرهم هو أنهم إذا مطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا (ق) عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال «هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح عن عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي رسولا ينذرهم ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة لتستوجب بصبرك ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي شديدا. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلطهما وأفاض أحدهما على الآخر وقيل أرسلهما في مجاريهما هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة يميل إلى الحلاوة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة وقيل مر وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا بقدرته فلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب وَحِجْراً مَحْجُوراً أي سترا ممنوعا فلا يبغي أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي جعله ذا نسب وصهر وقيل النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه والنسب ما يوجب الحرمة والصهر ما لا يوجبها وقيل النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح وقد حرم الله بالنسب سبعا وبالسبب سبعا ويجمعها قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية وقد تقدم تفسير ذلك وبيانه في تفسير سورة النساء وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني هؤلاء المشركين ما لا يَنْفَعُهُمْ أي إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ أي(3/316)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
إن تركوه وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا أعان الشيطان على ربه بالمعاصي لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان وقيل معنى ظهيرا هينا ذليلا من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه وقيل أراد بالكافر أبا جهل والأصح أنه عام في كل كافر. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً أي بالثواب على الإيمان والطاعة وَنَذِيراً منذرا بالعقاب على الكفر والمعصية قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ فتقولون إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا معناه لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلا إلى ربه فعلى هذا يكون المعنى لا أسألكم لنفسي أجرا، ولكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة الله، واتخاذ السبيل إلى جنته. قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 64]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ معناه أنه سبحانه وتعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره أن يتوكل عليه في جميع أموره، وإنما قال على الحي الذي لا يموت لأن من توكل على حي يموت انقطع توكله عليه بموته، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا ينقطع توكل من توكل عليه، ولا يضيع البتة وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي صل له شكرا على نعمه وقيل: معناه قل سبحان الله والحمد لله وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني أنه تعالى عالم بجميع ذنوب عباده فيجازيهم بها. وقيل: معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قادر على مكافأتهم وفيه وعيد شديد، كأنه إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة. قوله عز وجل الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي فاسأل الخبير بذلك، يعني بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش. وقيل: معناه أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم، بهذا إلى غيري وقيل معناه فاسأل عنه خبيرا وهو الله تعالى وقيل: هو جبريل عليه السلام وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب كانوا يسمونه رحمان اليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد وَزادَهُمْ يعني قول القائل اسجدوا للرحمن نُفُوراً يعني عن الإيمان والسجود.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجدات فيسن للقارئ، والمستمع أن يسجدا عند سماعها وقراءتها. قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل: البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها، وقيل: البروج قصور فيها الحرس. وقال ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة، وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت سميت بالبروج، التي هي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل لسكانها وَجَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قال ابن عباس معناه خلفا، وعوضا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن(3/317)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. قال فاتتني الصلاة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإنّ الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر. وقيل جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض وقيل يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب هذا جاء هذا فهما يتعقبان في الضياء، والظلمة والزيادة والنقصان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتذكر ويتعظ أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني شكر نعمة ربه عليه فيهما. قوله عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ قيل هذه الإضافة للتخصيص، والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين بل علماء حكماء، أصحاب وقار وعفة وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء بما يكرهونه قالُوا سَلاماً يعني سدادا من القول يسلمون فيه لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا ولم يجهلوا وليس المراد منه السلام المعروف وقيل هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال ويروى عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قال هذا وصف ليلهم، والمعنى يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجدا على وجوههم وقياما على أقدامهم. قال ابن عباس، من صلّى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا وقائما (م) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» قوله عز وجل:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 77]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي ملحا دائما لازما غير مفارق من عذب من الكفار. قال محمد بن كعب القرظي: سأل الله الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوه فأغرمهم فبقوا في النار، وقال كل غريم مفارق غريمه إلا جهنم: وقيل: الغرام الشر اللازم والهلاك الدائم إِنَّها يعني جهنم ساءَتْ بئست مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قيل الإسراف النفقة في معصية الله، وإن قلت والإقتار منع حقوق الله تعالى وهو قول ابن عباس. وقيل: الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق، حتى يدخل في حد التبذير والإقتار التقصير عما لا بد منه وهو أن لا يجيع عياله ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي قصدا وسطا بين الإسراف والإقتار وحسنة بين السيئتين قيل: هذه الآية في صفة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم واللذة لا يلبسون ثوبا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يسترون به العورة، ويقيهم من الحر والبرد. قال عمر بن الخطاب كفى سرفا أن لا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ (ق) عن ابن عباس «أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن الذي تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ونزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل «يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله قال:
تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي قال أن تزاني حليلة(3/318)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
جارك، فأنزل الله تعالى تصديقه، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي ومن يفعل شيئا من ذلك يلق أثاما قال ابن عباس إنما يريد جزاء الإثم، وقيل عقوبة وقيل: الأثام واد في جهنم ويروى في الحديث «أن الغي والأثام بئران في جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وسبب تضعيف العذاب، أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا.
قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ذنبه وَآمَنَ يعني بربه وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً أي فيما بينه وبين ربه روي عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال: قرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنين والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرح بشيء قط مثل ما فرح بها وفرحه بإنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» . وقوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن عباس: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا وقيل يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه وقيل إن الله تعالى يمحو بالندم جميع السيئات ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 الى 77]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً قيل هذا في التوبة من غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ومعناه، ومن تاب من الشرك وعمل صالحا يعني أدّى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يعود إليه بعد الموت مَتاباً أي حسنا يفضل على غيره ممن قتل وزنا فالآية الأولى وهي قوله: ومن تاب رجوع عن الشرك والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة. وقيل: هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات ومعناه ومن أراد التوبة، وعزم عليها فليتب إلى الله فقوله يتوب إلى الله خبر بمعنى الأمر أي تب إلى الله وقيل معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله تعالى. قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني الشرك وقيل هي شهادة الزور (ق) عن أبي بكر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله قال:
الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه ويطوف به في الأسواق وقيل:
لا يشهدون الزور يعني أعياد المشركين وقيل: الكذب وقيل: النوح وقيل لا يساعد أهل الباطل على باطلهم وقيل الزور اللهو واللعب والغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وأصل الزور(3/319)
حقيقة تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ هو كل ما يجب أن يلغى ويترك مَرُّوا كِراماً يعني إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا فعلى هذا التفسير، تكون الآية منسوخة بآية القتال. وقيل: اللغو المعاصي كلها، والمعنى إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراما أي مسرعين معرضين، وهو أن ينزه المرء نفسه ويكرمها عن هذه المجالس السيئة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قيل: معناه أنه ليس فيه نفي الخرور إنما هو إثبات له ونفي الصمم والعمى والمعنى إذا ذكروا بها أكبوا على استماعها بأذان واعية وأقبلوا على المذكر بها بعيون مبصرة راعية.
وقيل: معناه لم يخروا أي لم يسقطوا ولم يقعوا عليها صما وعميانا، كأنهم بآذانهم صمم وبأعينهم عمى بل يسمعون ما يذكرون به، فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.
قوله عز وجل وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني أبرارا أتقياء فيقرون أعيننا بذلك قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته، وأولاده مطيعين لله عز وجل فيطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره، وتقر عينه بذلك وقيل: إن العرب تذكر قرة العين عند السرور والفرح وسخنة العين عند الغم والحزن. ويقال: دمع العين عند السرور والفرح بارد وعند الحزن حار وقيل معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني يقتدون في الخير بنا. وقيل: معناه نقتدي بالمتقين وتقتدي بنا المتقون وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى وقيل: معناه أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعات المبلغ الذي يشار إليهم فيه ويقتدي بهم. قال بعضهم: فيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها وقيل هذا من المقلوب معناه، واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ أي يثابون الْغُرْفَةَ الدرجة العالية الرفيعة في الجنة وقيل: يريد غرف الدر والزبرجد واللؤلؤ والياقوت في الجنة بِما صَبَرُوا يعني على طاعة الله تعالى وأوامره وعلى أذى المشركين وقيل: بما صبروا عن الشهوات وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً أي ملكا وقيل بقاء دائما وَسَلاماً أي يسلم بعضهم على بعض أو يرسل الرب عز وجل إليهم السلام وقيل سلاما أي سلامة من الآفات. قوله تعالى خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة. قوله تعالى قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي ما يصنع ما يفعل بكم فوجودكم وعدمكم سواء، وقيل:
معناه أي وزن ومقدار لكم عنده لَوْلا دُعاؤُكُمْ إياه. قيل معناه لولا عبادتكم إياه وقيل: لولا إيمانكم وقيل لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر. وقيل: معناه ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاقتكم، والمعنى أنه خلقكم لطاعته وعبادته وهذا قول ابن عباس وقيل: معنى ما يعبأ أي ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة. وقيل معناه ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني، فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون يخاطب أهل مكة يعني أن الله دعاكم إلى توحيده وعبادته على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبتم الرسول ولم تجيبوه إلى الإيمان فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً هذا تهديد لهم أي يكون تكذيبهم لزاما قال ابن عباس: موتا وقيل هلاكا وقيل: قتالا والمعنى يكون التكذيب لازما لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقيل: معناه عذابا دائما وهلاكا لازما لمن كذب مفنيا يلحق بعضكم بعضا وقيل: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، يعني أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر وفي رواية الدخان والقمر والروم واللزام والبطشة» والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/320)
طسم (1)
سورة الشعراء
وهي مكية إلا أربع آيات من آخر السورة من قوله تعالى وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وهي مائتان وسبع وعشرون آية وألف ومائتان وتسع وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وأربعون حرفا، روي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه الصلاة والسلام» .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)
قوله عز وجل طسم قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها وفي رواية أخرى عنه أنه قسم، وهو من أسماء الله تعالى وقيل اسم من أسماء القرآن، وقيل اسم السورة وقيل أقسم بطوله وسنائه وملكه تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات آيات الْكِتابِ الْمُبِينِ قيل لما كان القرآن فيه دلائل التوحيد، والإعجاز الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودلائل الأحكام أجمع ثبت بذلك أن آيات القرآن كافية مبينة لجميع الأحكام.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 3 الى 8]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إن لم يؤمنوا وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون منها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله سبحانه وتعالى. وقيل: معناه لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق. قلت أصل الكلام فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان الخضوع وترك الكلام على أصله أو لما، وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين. وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم أي فظلت كبراؤهم لها خاضعين وقيل أراد بالأعناق الجماعات، يقال جاء عنق من الناس أي جماعة قوله تعالى وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ أي وعظ وتذكير مُحْدَثٍ أي محدث إنزاله فهو محدث التنزيل وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي عن الإيمان به فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أي فسوف يأتيهم أَنْبؤُا أي أخبار وعواقب ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المشركين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها أي بعد أن لم يكن فيها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي جنس ونوع وصنف حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام، قال الشعبي: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن(3/321)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
دخل النار فهو لئيم إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر لَآيَةً تدل على أنه واحد أي دلالة على كمال قدرتنا وتوحيدنا كما قيل:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ووَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون ولا يصدقون.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 9 الى 22]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ ذو الرحمة لأوليائه. قوله تعالى وَإِذْ نادى أي واذكر يا محمد إذ نادى رَبُّكَ مُوسى أي حين رأى الشجرة والنار أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب قَوْمَ فِرْعَوْنَ يعني القبط أَلا يَتَّقُونَ أي يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته والإيمان به قالَ يعني موسى رَبِّ أي يا رب إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي أي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي للعقدة التي كانت على لسانه فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليوازرني ويعينني على تبليغ الرسالة وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي دعوى ذنب وهو قتله القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي به قالَ الله تعالى كَلَّا أي لن يقتلوك فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما تقولون وما يقال لكم. فإن قلت: كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما اثنان. قلت:
أجراهما مجرى الجماعة، وهو جائز في لغة العرب أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله: فائتياه فقولا إنا رسولا ربك. قلت: الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه، إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة، والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا، فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك، وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا، وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن الله قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى الله تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه، قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون، وقالوا: من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين(3/322)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول، ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون: ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة الله تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف قالَ له أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً يعني صبيا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتلت القبطي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسا، وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكفر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة، ولا بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته قالَ يعني موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً يعني النبوة وقيل العلم والفهم وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اتخذتهم عبيدا قيل: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل فيكون معنى الآية، وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني فلم تستعبدني، وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام، فحذف الألف كما قال عمر بن عبد الله بن ربيعة:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها ... وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب واقفة ... تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني، والمعنى أتمن علي أن ربيتني، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية، وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي، ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك حتى تربيني وتكلفني، ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 41]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ يقول أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، وهو سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية فلهذا عدل موسى عن جوابه، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما(3/323)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
أنه خالقهما فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفة إلا بما ذكرته لكم، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب، وقال أهل المعاني أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله تعالى الذي خلقها وأوجدها فلما قال ذلك موسى تحير فرعون في جواب موسى قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أي من أشراف قومه قال ابن عباس: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة أَلا تَسْتَمِعُونَ وإنما قال فرعون: ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أني إنما أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بأفعاله وآثاره وقيل: إنهم كانوا يعتقدون إن آلهتهم ملوكهم ثم زادهم موسى في البيان قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني أن موسى ذكر ما هو أقرب فقال ربكم يعني أنه خالقكم وخالق آبائكم الأولين قالَ يعني فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من السؤال طلب الماهية، وهو يجيب بالآثار الخارجة وهذا لا يفيد البتة فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه، ويتكلم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحته، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل فزاد في البيان قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، ومعنى إن كنتم تعقلون قد عرفتم أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت قالَ فرعون حين لزمته الحجة، وانقطع عنه الجواب تكبرا عن الحق لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قيل كان سجن فرعون أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان يهوي فيه إلى الأرض وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه قالَ له موسى حين توعده بالسجن أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي بآية بينة والمعنى أتفعل ذلك، ولو جئتك بحجة بينة وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بالبيان قالَ يعني فرعون فَأْتِ بِهِ أي إنا لن نسجنك حينئذنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
قيل إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء، قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون فقال: بالذي أرسلك ألا أخذتها فأخذها موسى، فعادت عصا كما كانت فقال وهل غيرها قال نعم وأراه يده ثم أدخلها في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس وهو قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ فعند ذلك قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا يعني موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قومه ثم قال يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ قال هذا القول على سبيل التنفير لئلا يقبلوا قول موسى فَماذا تَأْمُرُونَ يعني ما رأيكم فيه وما الذي أعمله فعند ذلك قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخره وأخاه وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ قيل إن فرعون أراد قتل موسى فقالوا لا تفعل فإنك إن قتلته دخلت الناس شبهة في أمره ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا تثبت له عليك حجة. قوله تعالى فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني يوم الزينة قال ابن عباس وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لموسى قيل أراد بالسحرة موسى وهارون وقالوا: ذلك على طريقة الاستهزاء فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ طلبوا من فرعون الجزاء، وهو بذل المال والجاه فبذل لهم ذلك كله، وأكده بقوله:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 42 الى 61]
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)(3/324)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بعظمة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم قيل: إن عصى موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قيل إنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر، ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين ثم إنهم قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وإنما قالوا رب موسى وهارون، لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد مطلق وتهديد شديد ثم بين ذلك الوعيد فقال لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنا ننقلب ونصير إلى ربنا في الآخرة مؤمنين مؤملين غفرانه وهو قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي الكفر والسحر أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من أهل زماننا وقيل أول المؤمنين أي من الجماعة الذين حضروا ذلك الجمع. قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج، قيل: أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل، كل أهل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وآمرهم أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، ثم اخبزوا فطيرا فإنه أسرع لكم ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري ففعل ذلك موسى، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدا فاستعاروا منهم حليهم، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جهة البحر فلما سمع فرعون ذلك، قال: هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأخذوا أموالنا فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرط يحشرون الجيش قيل: كانت المدائن ألف مدينة واثني عشر ألف قرية، فأرسل فرعون في أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف، وخرج فرعون في الكرسي العظيم في مائتي ألف ملك مسورين مع كل ملك ألف فلذلك قال إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قال أهل التفسير كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل، لم يعدوا دون العشرين وفوق الستين سنة وقال ابن مسعود كانت ستمائة ألف وسبعين ألفا، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ الغيظ الغضب يعني أنهم أغضبونا بمخالفتهم فينا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي خائفون من شرهم وقرئ حذرون، أي ذوو قوة وأداة شاكو السلاح وقيل الحاذر الذي يحذرك الآن بالتحقيق من المتلبس بحمل السلاح، والحذر الذي لا تلقاه إلا خائفا فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ قيل: كانت البساتين ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية وَكُنُوزٍ يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، وسماها كنوزا لأنه لم يؤد حق الله منها وكل مال لم يعط، ولم يؤد حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرا قيل كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب قال الله تعالى وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس حسن قيل: أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم وقيل إنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس(3/325)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
عليها الأشراف من قومه والأمراء وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب والمعنى أنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها العيون وأموالهم ومجالسهم الحسنة كَذلِكَ أي كما وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون، وقومه، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون، وقومه من الأموال والأماكن الحسنة فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي لحق فرعون وقومه موسى، وأصحابه وقت شروق الشمس وهو إضاءتها فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ يعني تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيدركنا فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 62 الى 81]
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71)
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
قالَ أي موسى لثقته وعد الله تعالى إياه كَلَّا أي لن يدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ يعني يدلني على طريق النجاة فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أي فضربه فانشق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي قطعة من الماء كَالطَّوْدِ أي الجبل الْعَظِيمِ قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح فصار البحر يرمي بموج كالجبال، قال يوشع: يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا، والبحر أمامنا قال موسى، ها هنا فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته، وقال: الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال:
ها هنا فكبح فرسه فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني قربنا فرعون وجنوده إلى البحر وقدمناهم إلى الهلاك وقيل إن جبريل كان بين بني إسرائيل، وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم، ويقول للقبط رويدا ليلحق آخركم أولكم، فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان قوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني أنه تعالى جعل البحر يبسا حتى خرج موسى وقومه، منه وأغرق فرعون وقومه، وذلك أنهم لما تكاملوا في البحر انطبق عليهم فأغرقهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما حدث في البحر من انفلاقه آية من الآيات العظام الدالة على قدرته ومعجزة لموسى عليه السلام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أهل مصر قيل: لم يؤمن منهم إلا آسية امرأة فرعون، وحزقيل مؤمن آل فرعون، ومريم ابنة مامويا التي دلت على قبر يوسف حين أخرجه موسى من البحر وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ يعني أي شيء تعبدون وإنما قال إبراهيم ذلك مع علمه بأنهم عبدة لأصنام، ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ يعني نقيم على عبادتها وإنما قالوا: نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يعني يسمعون دعاءكم إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ(3/326)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
يعني بالرزق أَوْ يَضُرُّونَ يعني إن تركتم عبادتهم وإذا كان كذلك، فكيف يستحقون العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة القاطعة قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ المعنى أنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ولكن اقتدينا بآبائنا في ذلك، وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه ومدح الأخذ بالاستدلال قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أي الأولون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي أعداء لي وإنما وحده على إرادة الجنس.
فإن قلت: كيف وصف الأصنام بالعداوة؟ وهي جمادات لا تعقل. قلت: معناه فإنهم عدو لي يوم القيامة لو عبدتهم في الدنيا وقيل: إن الكفار لما عبدوها ونزلوها منزلة الأحياء العقلاء أطلق إبراهيم لفظ العداوة عليها وقيل: هو من المقلوب أراد فإني عدو لهم لأن من عاديته فقد عاداك إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي ولكن رب العالمين، فإنه ربي وولي وقيل إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله تعالى فقال إبراهيم كل ما تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين ثم وصف معبوده الذي يستحق العبادة فقال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى طريق النجاة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب وَإِذا مَرِضْتُ أصابني مرض أضاف المرض إلى نفسه استعمالا للأدب وإن كان المرض والشفاء من الله فَهُوَ يَشْفِينِ أي يبرئني ويعافيني من المرض وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي يميتني في الدنيا ثم يحييني في الآخرة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 82 الى 102]
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أي أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي يوم الجزاء والحساب قيل: خطيئته كذباته الثلاث وتقدم الكلام عليها (م) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال «لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه، أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً قال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه وقيل: العلم والفهم وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي بمن سلف قبلي من الأنبياء في المنزلة والدرجة العالية وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء حسنا وذكرا جميلا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله ذلك وجعل كل الأديان يتولونه، ويثنون عليه وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي ممن تعطيه جنة النعيم لأنها السعادة الكبرى وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ قيل دعا لأبيه على رجاء أن يسلم فيغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وَلا تُخْزِنِي أي ولا تفضحني يَوْمَ يُبْعَثُونَ وهو يوم القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فلا يسلم منها أحد قال سعيد بن المسيب القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل: القلب السليم هو الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي أظهرت لِلْغاوِينَ أي للكافرين وَقِيلَ لَهُمْ يعني يوم القيامة أَيْنَ ما كُنْتُمْ(3/327)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي يمنعونكم من عذاب الله أَوْ يَنْتَصِرُونَ لأنفسهم فَكُبْكِبُوا قال ابن عباس جمعوا وقيل قذفوا وطرحوا بعضهم على بعض وقيل: ألقوا على رؤوسهم فِيها أي في جهنم هُمْ وَالْغاوُونَ يعني الآلهة والعابدين وقيل: الجن والكافرين وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ يعني أتباعه ومن أطاعه من الإنس والجن وقيل ذريته قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني العابدين والمعبودين تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي نعدلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدكم وَما أَضَلَّنا يعني دعانا إلى الضلال إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس، وقيل: الأولون الذين اقتدينا بهم وقيل يعني إبليس وابن آدم الأول وهو قابيل، وهو أول من سن القتل وأنواع المعاصي فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يعني من يشفع لنا يعني كما أن للمؤمنين شافعين من الملائكة والأنبياء وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب يشفع لنا، يقول ذلك الكفار حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق هو الصادق في المودة مع موافقة الدين عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الرجل يقول في الجنة ما فعل بصديقي فلان وصديقه في الجحيم، فيقول الله عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» رواه البغوي بإسناد الثعلبي.
وقال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أنهم تمنوا الرجعة حين لا رجعة لهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 103 الى 129]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112)
إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي مع هذه الدلائل والآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي المنتقم الذي لا يغالب وهو في وصف عزته رحيم. قوله وعز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أي كذبت جماعة قوم نوح، قيل: القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة. فإن قلت: كيف قال المرسلين وإنما هو رسول واحد وكذلك باقي القصص. قلت: لأن دين الرسل واحد وإن الآخر منهم جاء بما جاء به الأول فمن كذب واحد من الأنبياء فقد كذب جميعهم إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أي أخوهم في النسب لا في الدين أَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون فتتركوا الكفر والمعاصي إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي على الوحي، وكان معروفا عندهم بالأمانة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي بطاعته وعبادته وَأَطِيعُونِ أي فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي من جعل وجزاء إِنْ أَجْرِيَ أي ثوابي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قيل: كرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم وقيل ليس فيه تكرار ومعنى الأول ألا تتقون الله في مخالفتي وأنا رسول الله ومعنى الثاني ألا(3/328)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
تتقون الله في مخالفتي وإني لست آخذ منكم أجرا قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي السفلة قال ابن عباس:
يعني القافة وقيل هم الحاكة والأساكفة قالَ يعني نوحا وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي وما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله تعالى، وما لي إلا ظواهر أمرهم وقال الزجاج الصناعات لا تضر في الديانات وقيل: معناه إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو تعلمون ذلك ما عيرتموهم بصنائعهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي عني وقد آمنوا إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ معناه أخوف من كذبني فمن آمن فهو القريب مني، ومن لم يؤمن فهو البعيد عني قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ أي عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي من المقتولين بالحجارة وهو أسوأ القتل وقيل من المشتومين قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ أي احكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي حكما وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي بعد إنجاء نوح ومن معه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي أمين على الرسالة فكيف تتهمونني اليوم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ قال ابن عباس: أي بكل شرف وفي رواية عنه بكل طريق، وقيل: هو الفج بين الجبلين وقيل: المكان المرتفع آيَةً أي علامة وهي العلم تَعْبَثُونَ يعني بمن مر بالطريق والمعنى، أنهم كانوا: يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم، وقيل إنهم بنوا بروج الحمام فأنكر عليهم هود باتخاذها، ومعنى تعبثون تلعبون بالحمام وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ قال ابن عباس أبنية وقيل قصورا مشيدة وحصونا مانعة، وقيل مآخذ الماء يعني الحياض لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 130 الى 155]
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَإِذا بَطَشْتُمْ أي وإذا أخذتم وسطوتم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب، وهو مذموم في وصف البشر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيه زيادة زجر عن حب الدنيا والشرف والتفاخر وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي أعطاكم من الخير ما تعلمون ثم ذكر ما أعطاهم فقال أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
فيه التنبيه على نعمة الله تعالى عليهم إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس(3/329)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فكان جوابهم أن قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه، واستخفافهم بما أورده من المواعظ والوعظ كلام يلين القلب يذكر الوعد والوعيد إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرئ بفتح الخاء أي اختلاق الأولين وكذبهم وقرئ خلق بضم الخاء، واللام أي عادة الأولين من قبلنا أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي أنهم أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكارهم المعاد فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الدنيا من العذاب فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها أي ثمرها الذي يطلع منها هَضِيمٌ قال ابن عباس: لطيف وعنه يانع نضيج وقيل: هو اللين الرخو. وقيل: متهشم يتفتت إذا مس. وقيل: الهضيم هو الذي دخل بعضه في بعض من النضج أو النعومة وقيل هو المدرك وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ وقرئ فرهين قيل: الفاره الحاذق بنحتها والفره قال ابن عباس: الأشر والبطر وقيل: معناه متجبرين فرحين معجبين بصنعكم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: أي المشركين وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون الله فيما أمرهم قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من المسحورين المخدوعين وقال ابن عباس: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا والمعنى أنت بشر مثلنا ولست بملك فَأْتِ بِآيَةٍ يعني على صحة ما تقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أنك رسول إلينا قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي حظ من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 156 الى 188]
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165)
وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ أي على عقرها لما(3/330)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
رأوا العذاب فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ يعني نكاح الرجال من بني آدم وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من قريتنا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي من التاركين المبغضين رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من العمل الخبيث قال الله تعالى فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً أي امرأته فِي الْغابِرِينَ أي بقيت في المهلكين ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الكبريت والنار فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته، والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي بالميزان العدل الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني الخليقة والأمم المتقدمة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً يعني قطعا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 189 الى 214]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208)
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب، فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا والله أعلم بمراده قوله عز وجل وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ(3/331)
الْعالَمِينَ
يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبريل عليه السلام سماه زوجا لأنه خلق من الروح وسماه أمينا، لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه عَلى قَلْبِكَ يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة، وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أخرجاه في الصحيحين. ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن يتغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها، ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم. قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي المخوفين بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه وَإِنَّهُ يعني القرآن وقيل ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته ونعته لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي كتب الأولين أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَعْلَمَهُ يعني يعلم محمدا صلّى الله عليه وسلّم عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ.
قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم قيل كانوا خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد. قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْناهُ يعني القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية، وإن كان عربيا في النسب ومعنى الآية، وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ يعني القرآن ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفة من اتباع من ليس من العرب كَذلِكَ سَلَكْناهُ قال ابن عباس: يعني أدخلنا الشرك والتكذيب فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي القرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قيل لما وعدهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب، فأنزل الله أفبعذابنا يستعجلون أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ يعني العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئا ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي رسل ينذرونهم ذِكْرى أي تذكره وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ يعني أن المشركين كانوا يقولون: إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ذلك، ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك.
قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق علي، ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك. قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ نحو أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به، فتناول(3/332)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله أن كان الرجل الواحد ليأكل، مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وايم الله أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الغد يا: علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا، وأنا أحدثهم سنا فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه» (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش، حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري، لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه، فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه (ق) عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا» (م) عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى «يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه» ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولا وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانيا لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 215 الى 227]
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وَاخْفِضْ أي ألن جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله «من المؤمنين» وقلت: معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألسنتهم وهم(3/333)
المنافقون فَإِنْ عَصَوْكَ يعني فيما تأمرهم به فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعني من الكفر والمخالفة وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره وهو الله تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك، بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال ابن عباس: ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة، وقيل: معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان صلّى الله عليه وسلّم يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل ترون قبلتي ها هنا فو الله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» وقيل: معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقيل: تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لقولك ودعائك الْعَلِيمُ يعني بنيتك وعملك قل يا محمد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ يعني كذاب أَثِيمٍ يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبد الله الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب، والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فذلك قوله يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع كل واحد غواة من قومه، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام يَهِيمُونَ يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون، وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق، فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا» ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الكفار، ويهجون وينافحون عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل» أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: وقد روي في غير هذا الحديث أن(3/334)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح، هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان والله أعلم (ق) عن البراء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإن جبريل معك» (خ) عن عائشة قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينافح ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله» (م) عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال:
اهجهم فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان: قال:
قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبيا لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول هجاهم حسان فشفى واشتفى» فقال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لمم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأعنة مصعدات ... على أكنافها الأسل الظماء
تظل جيادها متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
فصل في مدح الشعر
(خ) عن أبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من الشعر لحكمة» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل يتكلم بكلام فقال «إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما» أخرجه أبو داود (م) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: «ردفت وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء، قلت نعم قال: هيه: فأنشدته بيتا فقال: هيه ثم أنشدته بيتا قال: هيه حتى أنشدته مائة بيت زاد في رواية لقد كاد يسلم في شعره» عن جابر بن سمرة قال: «جالست النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت وربما تبسم معهم» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح.
وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في(3/335)
المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها فقال:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر
فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتا ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة. قوله تعالى وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدءوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا وهجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الطاهر المطهر من الهجاء أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي أيّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس: إلى جهنم وبئس المصير والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(3/336)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
سورة النمل
مكية وهي ثلاث وتسعون آية وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
قوله عز وجل طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي هذه آيات القرآن وَكِتابٍ مُبِينٍ أي وآيات كتاب مبين هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي هو هدى من الضلالة، وبشرى لهم بالجنة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي الخمس بشرائطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي إذا وجبت عليهم طيبة بها أنفسهم وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يعني أن هؤلاء الذين يعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة.
[سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8)
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي القبيحة حتى رأوها حسنة وقيل: إن التزين هو أن يخلق الله العلم في القلب بما فيه المنافع واللذات ولا يخلق العلم بما فيه المضار والآفات فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي يترددون فيها متحيرين أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي أشده وهو القتل والأسر وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وساروا إلى النار. قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي تؤتاه وتلقنه وحيا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي حكيم عليم بما أنزل إليك. فإن قلت: ما الفرق بين الحكمة والعلم.
قلت: الحكمة هي العلم بالأمور العلمية فقط والعلم أعم منه لأنه العلم قد يكون علما، وقد يكون نظرا والعلوم النظرية أشرف إِذْ قالَ أي واذكر يا محمد إذ قال مُوسى لِأَهْلِهِ أي في مسيره بأهله من مدين إلى مصر إِنِّي آنَسْتُ أي أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي امكثوا مكانكم سآتيكم بخبر عن الطريق، وقد كان ضل عن الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ الشهاب شعلة النار والقبس النار المقبوسة منها، وقيل: القبس هو العود الذي في أحد طرفيه نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ يعني تستدفئون من البرد وكان في شدة الشتاء فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ(3/337)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
مَنْ فِي النَّارِ
يعني يورك على من في النار وقيل: البركة راجعة إلى موسى والملائكة والمعنى من في طلب النار وهو موسى وَمَنْ حَوْلَها وهم الملائكة الذين حول النار وهذه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، وقيل:
المراد من النار النور وذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا ومن في النار هم الملائكة وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ومن حولها موسى، لأنه كان بالقرب منها وقيل البركة راجعة إلى النار، وقال ابن عباس: معناه بوركت النار والمعنى بورك من في النار ومن حولها وهم الملائكة وموسى وروي عن ابن عباس في قوله بورك من في النار يعني قدس من في النار وهو الله تعالى عنى به نفسه على معنى أنه نادى موسى وأسمعه من جهتها كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعين واستعلى من جبال فاران ومعنى مجيئه من سيناء بعثه موسى منه، ومن ساعين بعثة المسيح ومن جبال فاران بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفاران اسم مكة، وقيل كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل كما صح في الحديث «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ثم نزه الله سبحانه وتعالى نفسه، وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال تعالى وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال: الله يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قيل معناه أن موسى قال: من المنادي قال: إنه أنا الله وهذا تمهيد لما أراد الله أن يظهره على يده من المعجزات، والمعنى أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية وهو قوله وَأَلْقِ عَصاكَ تقديره فألقاها فصارت حية فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها وَلَّى مُدْبِراً يعني هرب من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ يعني لم يرجع، ولم يلتفت قال الله تعالى يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ يريد إذا أمنتهم لا يخافون أما الخوف الذي هو شرط الإيمان، فلا يفارقهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أنا أخشاكم لله» .
[سورة النمل (27) : الآيات 11 الى 16]
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ قيل: هو ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل والصغيرة وقيل يحتمل أن يكون المراد منه التعريض بما وجد من موسى من قتل القبطي وهو من التعريضات اللطيفة وسماه ظلما لقول موسى إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ثم إنه خاف من ذلك فتاب قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ قال ابن جريح: قال الله تعالى لموسى إنما أخفتك لقتلك النفس، ومعنى الآية لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فعلى هذا التأويل يكون صحيحا وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله إلا من ظلم ثم ابتدأ الخبر عن حالة من ظلم من الناس كافة وفي الآية متروك استغنى عن ذكره لدلالة الكلام عليه تقديره: فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وقيل ليس هذا الاستثناء من المرسلين، لأنه لا يجوز عليهم الظلم بل هو استثناء من المتروك ومعناه: لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف عليهم من الظالمين وهذا الاستثناء المنقطع معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف فإن تاب وبدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم أي أغفر له وأزيل خوفه وقيل: إلا هنا بمعنى ولا معناه ولا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم، ثم بدل حسنا بعد سوء يعني تاب من ظلمه فإني غفور رحيم ثم إن الله تعالى أراه آية أخرى فقال تعالى(3/338)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ قيل كانت عليه مدرعة صوف لا كمّ لها، ولا أزرار فأدخل يده في جيبها وأخرجها فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس أو البرق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني من غير برص فِي تِسْعِ آياتٍ يعني آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن فعلى هذا تكون الآيات إحدى عشرة العصا واليد البيضاء والفلق والطوفان والجراد، والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، وقيل: في بمعنى من أي من تسع آيات فتكون اليد البيضاء من التسع إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني خارجين عن الطاعة فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً يعني بينة واضحة يبصرونها قالُوا هذا يعني الذي نراه سِحْرٌ مُبِينٌ يعني ظاهر وَجَحَدُوا بِها يعني أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يعني علموا أنها من عند الله والمعنى أنهم جحدوا بها بألسنتهم واستيقنوها بقلوبهم وضمائرهم ظُلْماً وَعُلُوًّا أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني الغرق.
قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً يعني علم القضاء والسياسة وعلم داود تسبيح الطير، والجبال وعلم سليمان منطق الطير والدواب وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا يعني بالنبوة والكتاب والملك وتسخير الجن والإنس عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أراد بالكثير الذين فضلا عليهم من لم يؤت علما أو لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وقيل إنهما لم يفضلا أنفسهما على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعني نبوته وعلمه، وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا وأعطي سليمان ما أعطي داود وزيد له تسخير الريح، والجن والشياطين قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود، وأقضى منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى وَقالَ يعني سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه، وروي عن كعب الأحبار قال: صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا لا قال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وصاح طاوس فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: إنه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا:
لا قال: إنه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال إنه يقول استغفروا ربكم يا مذنبين وصاحت طيطوى فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا قال: فإنها تقول كل حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال: إنه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة قال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وصاح قمري قال أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا قال إنه يقول سبحان ربي الدائم قال والغراب يدعو على العشار والحدأة تقول كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول من سكت سلم والببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه. والضفدع يقول سبحان ربي القدوس والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل لسان.
وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال إنه يقول الرحمن على العرش استوى وقال فرقد مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه، ويميل ذنبه فقال: لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال إنه يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وروي أن جماعة من اليهود قالوا لا بن عباس: إنا سائلوك عن سبعة أشياء إن أخبرتنا آمنا وصدقنا قال: سلوا تفقها لا تعنتا قالوا أخبرنا ما تقول القنبرة في صفيرها والديك في صعيقه، والضفدع في نقيقه والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج قال نعم أما القنبر فإنه يقول: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلين وأما الضفدع، فإنه يقول سبحان الله المعبود في البحار وأما الحمار فإنه يقول اللهم العن العشار وأما(3/339)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
الفرس، فإنه يقول إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح وأما الزرزور، فإنه يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق وأما الدراج فإنه يقول الرحمن على العرش استوى، فأسلم هؤلاء اليهود وحسن إسلامهم وروي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال: إذا صاح النسر قال: يا ابن آدم عشت ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي محمد وآل محمد وإذا صاح الخطاف قال الحمد لله رب العالمين ويمد العالمين كما يمد القارئ. وقوله تعالى وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي مما أوتي الأنبياء، والملوك قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة وقيل النبوة والملك وتسخير الرياح والجن والشياطين إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعني الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا وروي أن سليمان أعطي مشارق الأرض ومغاربها فملك ذلك أربعين سنة فملك جميع الدنيا من الجن والإنس والشياطين والطير، والدواب والسباع وأعطي مع هذا منطق الطير ومنطق كل شيء وفي زمنه صنعت الصنائع العجيبة.
[سورة النمل (27) : الآيات 17 الى 20]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)
وَحُشِرَ أي جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ من الأماكن المختلفة في مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبسون حتى يرد أولهم على آخرهم، قيل: كان على جنوده وزعة من النقباء ترد أولها على آخرها لئلا يتقدموا في المسير قال محمد بن كعب القرظي كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة فالبريد ثمانية وأربعون ألف خطوة لأنه أربع فراسخ فجملة ذلك خمسة وعشرون بريدا وقيل نسجت الجن له بساطا من ذهب وحرير، فرسخا في فرسخ وكان يوضع كرسيه في وسطه، فيقعد وحوله كراسي الذهب والفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، والناس حوله والجن والشياطين حول الناس والوحوش حولهم وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه شمس وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني حرة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به وأوحى الله إليه، وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح وأخبرتك به. قوله عز وجل حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي أشرفوا على وادي النمل روي عن كعب الأحبار قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون وهو بين السماء والأرض واتخذ ميادين للدواب فتجري بين يديه والريح تهوي به فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون في آخر الزمان طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه ولما وصل مكة رأى حول البيت، أصناما تعبد فجاوزه سليمان فلما جاوزه بكى البيت فأوحى الله إليه ما يبكيك قال يا رب أبكاني هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا علي، ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه لا تبك، فإني سوف أملؤك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، وأفرض عليهم فريضة يزفون إليك زفيف النسر إلى(3/340)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان والأصنام والشيطان ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف فأتى على وادي النمل كذا قال كعب الأحبار. وقيل: إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم. وقيل: إن ذلك النمل أمثال الذباب. وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قيل: كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمي يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولا كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستبعد أن يخلق الله فيها عقلا ونطقا فإنه قادر على ذلك لا يَحْطِمَنَّكُمْ أي لا يكسرنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال أهل التفسير. علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم، ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطئوكم، ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان، فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم. فإن قلت: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح، قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي، فلذلك قالت نملة: لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكا متبسما، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي. فإن قلت: ما كان سبب ضحك سليمان. قلت شيئان: أحدهما ما دل من قولها على
ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون. الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه، ما قالته النملة وقيل: إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك، ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم.
قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل: أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين. قوله عز وجل وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا تظله وجنده الطير من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خاليا. وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا، قال نافع بن الأزرق بأوصاف، انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء بالهدهد، وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب، وعمي البصر فنزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي أكان وقيل بل كان من أهل الغائبين، ثم أوعده على غيبته فقال:
[سورة النمل (27) : الآيات 21 الى 22]
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)(3/341)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده، وقيل لأفرقنّ بينه وبين إلفه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم، وكان في كل يوم ينحر طول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالا أي وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد:
اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا، وعرضها فبينما هو ينظر يمينا وشمالا رأى بستانا لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير، فقال يعفير ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود؟ قال:
ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غيره ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير، وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير، فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب يريده، فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا: ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين. قال نجوت إذا فانطلق به العقاب: حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه. وقال له: أين كنت لأعذبنك عذابا شديدا فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ معناه أي غير طويل فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيها على أن أدنى خلق الله قد أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا له في ترك الإعجاب. والإحاطة بالشيء علما أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه منه معلوم وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قيل: هو اسم للبلد وهي مأرب(3/342)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
والأصح أنه أسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد جاء في الحديث أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ فقال: رحل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة بِنَبَإٍ أي بخبر يَقِينٍ فقال سليمان وما ذاك فقال:
[سورة النمل (27) : الآيات 23 الى 28]
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27)
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)
إِنِّي أي الهدهد وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن، وهم على صورة الظباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفردا، فإذا معه شاب جميل فخاف منه، قال: لا تخف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: المال لا حاجة لي به. ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث «إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا: فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلا آخر يقال: إنه ابن أخي الملك وكان خبيثا سيء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال: بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلا وقالت اختاروا رجلا تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها (خ) عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال «لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة» . قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي سرير ضخم عال. فإن قلت: كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان. قلت: يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللا بالدر، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس: كان عرش(3/343)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
بلقيس ثلاثين ذراعا، في ثلاثين ذراعا وطوله في السماء ثلاثون ذراعا. وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل: كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعا. قوله عز وجل إخبارا عن الهدهد وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس، وهم مجوس وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ المزين هو الله لأنه الفعال لما يريد، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي إلى الصواب أَلَّا يَسْجُدُوا قرئ بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف، وقرئ بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ يعني الخفي المخبأ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها، من دون الله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض، عالم بجميع المعلومات اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجود، يستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. فإن قلت: قد وصف عرش بلقيس بالعظم وعرش الله بالعظم، فما الفرق بينهما. قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه قالَ سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أي فيما أخبرت أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم إن سليمان كتب كتابا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ «بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملا، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ إنما قال: إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جوابا لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم فقف قريبا منهم فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي يردون من الجواب وقيل: تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فأتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب في حجرها وقال وهب بن منبه: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاءوا وأخذوا مجالسهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 35]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)(3/344)
قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل سمته كريما لأنه كان مختوما، روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «كرامة الكتاب ختمه» وقال ابن عباس: كريم أي شريف لشرف صاحبه، ثم بينت ممن الكتاب فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ قرأت المكتوب فيه فقالت وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله. قلت: ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس، أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ قال ابن عباس: لا تتكبروا علي. والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة، من العلو والتكبر وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أشيروا علي فيما عرض لي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي قاضية وفاصلة حَتَّى تَشْهَدُونِ أي تحضرون قالُوا يعني الملأ مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي في الجسم على القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك ثم قالوا وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أيتها الملكة أي في القتال وتركه فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي تجدين مطيعين لأمرك قالَتْ بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يؤول إليه أمره إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي عنوة أَفْسَدُوها أي خربوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا، وصدق الله قولها فقال تعالى وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي، وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور، وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف.
قال ابن عباس: مائة وصيف ومائه وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة، وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر، وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية، وقالت: إن كنت نبيا ميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت، فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب(3/345)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان، فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة، ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطا شرفه من الذهب والفضة، ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم، فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان، وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين، والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب، التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة، فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، وترك على طريقهم موضعا على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع، ولما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردايس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقيا حسنا، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال أين الحق؟
فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه، فقال لهم: أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول: صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان: من لي بثقبها وسأل الإنس والجن، فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا: نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت: تصير رزقي في الشجر. فقال: لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكه قال: لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها، تضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى فقال تعالى:
[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 39]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك خَيْرٌ أي أفضل مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحدا ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أي بالهدية فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ أي لا طاقة لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من أرض سبأ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب: لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان، وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة. فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل(3/346)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة، قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سريره فرأى رهجا قريبا منه قال ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين. قيل:
غرض سليمان في إحضار عرشها ليريها قدرة الله تعالى وإظهار معجزة دالة على نبوته، وقيل أراد أن ينكره ويغيره قبل مجيئها ليختبر بذلك عقلها وقيل: إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه لأنه أعجبه وصفه، لما وصفه له الهدهد وقيل أراد أن يعرف قدر ملكها لأن السرير على قدر المملكة قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ وهو المارد القوي، وقال ابن عباس العفريت الداهية قال وهب: اسمه كوذي.
وقيل: ذكوان. وقيل: هو صخر المارد وكان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي مجلس قضائك قال ابن عباس: وكان له في الغداة مجلس يقضي فيه إلى متسع النهار وقيل نصفه وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي على ما فيه من الجواهر وغيرها قال سليمان: أريد أسرع من ذلك.
[سورة النمل (27) : الآيات 40 الى 44]
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ قيل هو جبريل. وقيل: هو ملك أيد الله به سليمان وقيل هو آصف بن برخيا وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وقيل هو سليمان نفسه لأنه أعلم بني إسرائيل بالكتاب وكان الله قد آتاه علما وفهما، فعلى هذا يكون المخاطب العفريت الذي كلمه فأراد سليمان إظهار معجزة، فتحداهم أولا ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتأتى للعفريت قيل: كان الدعاء الذي دعا به: يا ذا الجلال والإكرام وقيل: يا حي يا قيوم. وروي ذلك عن عائشة وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، وقال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ودعا آصف، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض، حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل: خر سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان فقال:
ما قال أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قال سليمان: هات قال أنت النبي ابن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإن دعوت الله كان عندك: قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت فَلَمَّا رَآهُ يعني رأى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي محولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي يعني لتمكن من حصول المراد أَأَشْكُرُ أي نعمته علي أَمْ أَكْفُرُ فلا أشكرها وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما(3/347)
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
أي يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة، ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ أي عن شكره لا يضره ذلك الكفران كَرِيمٌ يعني بالإفضال عليه لا يقطع نعمة عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها يعني غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل: هو أن يزاد فيه أو ينقص منه وقيل: إنما يجعل أسفله أعلاه ويجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي إلى معرفة عرشها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، وإنما حمل سليمان على ذلك ما قال وهب ومحمد بن كعب، وغيرهما أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده فأساءوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار، وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان، أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قيل: إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقيل: إنها كانت حكيمة لم تقل نعم خوفا من الكذب ولا قالت: لا خوفا من التكذيب أيضا فقالت: كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر ولم تنكر اشتبه عليها أمر العرش، لأنها تركته في بيت عليه سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها قيل فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ثم قالت وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها يعني من قبل الآية في العرش وَكُنَّا مُسْلِمِينَ يعني منقادين مطيعين خاضعين لأمر سليمان وقيل: قوله تعالى وأوتينا العلم أي بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها أي من قبل الآية في العرش، وكنا مسلمين أو معناه وأوتينا العلم بالله، وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة وكنا مسلمين ويكون الغرض من هذا شكر نعمة الله عليه أن خصه بمزيد العلم، والتقدم في الإسلام وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها طائعة وكنا مسلمين لله.
قوله تعالى وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني منعتها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله وقيل معناه صدها سليمان، عما كانت تعبد من دون الله وحال بينها وبينه إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أخبر الله أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
وذلك أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش وأراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهما لما أخبرته الجن أن رجليها كحافر حمار، وهي شعراء الساقين أمر الشياطين، فعملوا لها قصرا من الزجاج الأبيض كالماء وقيل: الصرح صحن الدار وأجرى تحته الماء، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه وقيل إنما عمل الصرح ليختبر به فهمها كما فعلت في الوصفاء والوصائف.
فلما جلس على السرير دعا بلقيس، ولما جاءت قيل لها ادخلي الصرح لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
أي ماء عظيما كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوض الماء إلى سليمان، فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما نظر سليمان ذلك صرف بصره عنهاالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي مملس نْ قَوارِيرَ
زجاج وليس بماء فحينئذ سترت ساقيها وعجبت من ذلك وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى واستدلت بذلك على التوحيد والنبوةالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بعبادة غيرك أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
أي أخلصت له التوحيد والعبادة، وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت: في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا فلما تبين لها خلاف ذلك قالت: رب إني ظلمت نفسي بذلك الظن. واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها، فقيل انتهى أمرها إلى قولها أسلمت لله رب العالمين ولا عمل لأحد وراء ذلك، لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح وقال بعضهم: تزوجها سليمان وكره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس عما يذهب ذلك فقالوا الموسى. فقالت المرأة إني لم يمسني حديد قط فكره سليمان الموسى وقال: إنها تقطع ساقيها(3/348)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
فسأل الجن فقالوا لا ندري فسأل الشياطين. فقالوا: نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة، والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي سلحين وبيسنون وغمدان ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وولدت له ولدا ذكرا. وقال وهب: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك حتى أزوجك إياه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي من قومي الملك والسلطان، قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله قالت: فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن، وملك زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة ملك الجن وقال له اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل يعمل له ما أراد إلى أن مات سليمان وحال الحول، وعلم الجن موت سليمان، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك سلمان وملك ذي تبع وملك بلقيس، وبقي الملك لله الواحد القهار قيل إن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. قوله عز وجل:
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 49]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوه لا تشركوا به شيئا فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ أي مؤمن وكافر يَخْتَصِمُونَ أي في الدين كل فريق يقول الحق معنا قالَ يعني صالحا للفريق المكذب يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالبلاء والعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي العافية والرحمة لَوْلا أي هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي بالتوبة إليه من الكفر لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لا تعذبون في الدنيا قالُوا اطَّيَّرْنا أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم وقيل: لإمساك القطر عنهم قالوا إنما أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله مكتوب عليكم، سمي طائرا لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم وقال ابن عباس الشؤم الذي أتاكم من عند الله بكفركم وقيل طائركم أي عملكم، عند الله، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قال ابن عباس تختبرون بالخير والشر وقيل معناه تعذبون. قوله تعالى وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعني مدينة ثمود وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ يعني من أبناء أشرافهم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون وهم غواة قوم صالح الذين اتفقوا على عقر الناقة ورأسهم قدار بن سالف قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ يعني يقول بعضهم لبعض احلفوا بالله أيها القوم لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلنه ليلا وَأَهْلَهُ يعني قومه الذين آمنوا معه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لولي دمه ما شَهِدْنا يعني ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما ندري من قتله ولا هلاك أهله وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني في قولنا ما شهدنا ذلك.
[سورة النمل (27) : الآيات 50 الى 63]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)(3/349)
وَمَكَرُوا مَكْراً أي غدروا غدرا حين قصدوا تبيت صالح وأهله وَمَكَرْنا مَكْراً يعني جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ يعني أهلكناهم أي التسعة قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتت التسعة دار صالح شاهرين سلاحهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة وهم يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم وأهلك الله جميع القوم بالصيحة وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا أي بظلمهم وكفرهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي قدرتنا وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَكانُوا يَتَّقُونَ يقال إن الناجين كانوا أربعة آلاف. قوله تعالى وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة القبيحة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي تعلمون أنها فاحشة وهو من بصر القلب وقيل: معناه يبصر بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عتوا منهم أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فإن قلت إذا فسر تبصرون بالعلم وقد قال: بعده «قوم تجهلون» فيكون العلم جهلا. قلت: معناه تفعلون فعل الجاهلين وتعلمون أنه فاحشة. وقيل: تجهلون العاقبة وقيل أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني من أدبار الرجال فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي قضينا عليها بأن جعلناها من الباقين في العذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي الحجارة فَساءَ أي فبئس مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قوله عز وجل قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى هذا خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، وقيل: يحمده على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى يعني الأنبياء والمرسلين وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل:
هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فيه تبكيت للمشركين وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار. والمعنى آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها فإن الله خير لمن عبده وآمن به لإغنائه عنه من الهلاك والأصنام، لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب، ولهذا السبب ذكر أنواعا تدل على وحدانيته وكمال قدرته.
فالنوع الأول قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ذكر أعظم الأشياء المشاهدة الدالة على عظيم(3/350)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
قدرته. والمعنى الأصنام خير أم الذي خلق السموات والأرض ثم ذكر نعمه فقال وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أي بساتين جمع حديقة، وهو البستان المحيط عليه فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات منظر حسن والبهجة الحسن يبتهج به من يراه ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها يعني ما ينبغي لكم، لأنكم لا تقدرون على ذلك لأن الإنسان قد يقول: أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها وأسقيها الماء فأزال هذه الشبهة بقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، والطعوم والروائح المختلفة والزروع تسقى بماء واحد، لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يتأتى لأحد وإن تأتى ذلك لغيره محال أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يعني هل معه معبود أعانه على صنعه بَلْ يعني ليس معه إله ولا شريك هُمْ قَوْمٌ يعني كفار مكة يَعْدِلُونَ يشركون وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر إلى الباطل. النوع الثاني قوله عز وجل أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي دحاها وسواها للاستقرار عليها، وقيل لا تميد بأهلها وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي وسطها بأنهار تطرد بالمياه وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ يعني العذب والملح حاجِزاً أي مانعا لا يختلط أحدهما بالآخر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي توحيد ربهم وقدرته وسلطانه. النوع الثالث قوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ أي المكروب المجهود، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر يعني إذا نزلت بأحد بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى وقيل: هو المذنب إذا استغفر إِذا دَعاهُ يعني فيكشف ضره وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي الضر لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر، الذي لا يعجز والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي سكانها، وذلك أنه ورثهم سكانها والتصرف فيها قرنا بعد قرن وقيل يجعل أولادكم خلفاء لكم وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تتعظون. النوع الرابع قوله عز وجل أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يهديكم بالنجوم والعلامات إذا جن عليكم الليل مسافرين في البر والبحر وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ النوع الخامس قوله تعالى:
[سورة النمل (27) : الآيات 64 الى 78]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي نطفا في الأرحام ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على قولكم إن مع الله إلها(3/351)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
آخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وقت الساعة. والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده ويعلم متى تقوم الساعة وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني أن من في السموات وهم الملائكة ومن في الأرض وهم بنو آدم لا يعلمون متى يبعثون والله تعالى تفرد بعلم ذلك بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ أي بلغ ولحق علمهم فِي الْآخِرَةِ هو ما جهلوه في الدنيا وسقط عنهم علمه. وقيل بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا فيه وعلموا عنه في الدنيا وهو قوله تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ جمع عم وهو أعمى القلب وقيل معنى الآية أن الله أخبر عنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة، وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا.
قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مشركو مكة أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي من قبورنا أحياء لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي هذا البعث نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس ذلك بشيء إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي بتكذيبهم إياك وإعراضهم عنك. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ نزلت في المستهزئين الذي اقتسموا عقاب مكة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ أي دنا وقرب لَكُمْ وقيل معناه ردفكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي من العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر. قوله عز وجل وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
يعني على أهل مكة حيث لم يعجل لهم بالعذاب وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي ذلك وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي تخفي وَما يُعْلِنُونَ أي من عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما مِنْ غائِبَةٍ أي من جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي يبين لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه وَإِنَّهُ يعني القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي يفصل بينهم ويحكم بين المختلفين في الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ أي الحق هُوَ الْعَزِيزُ الممتنع الذي لا يرد له أمر الْعَلِيمُ أي بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء منها.
[سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 82]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فثق به إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي البين إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى يعني موتى القلوب وهم الكفار وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي معرضين. فإن قلت ما معنى مدبرين والأصم لا يسمع صوتا سواء أقبل أو أدبر؟. قلت: هو تأكيد ومبالغة وقيل: إن الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت، أو يفهم بالإشارة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم. ومعنى الآية إنه لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى سماعه، وكالأصم الذي لا يسمع ولا يفهم وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ معناه ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون. قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني إذا وجب عليهم العذاب وقيل: إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم، وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا(3/352)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
عن المنكر وقيل إذا لم يرج صلاحهم وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ.
(م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم: حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن، وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة ثم تمكث زمنا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة، وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم يرعهم، إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، كذا قال عمر وما بين الركب الأسود إلى باب بني مخزوم، عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل، ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدابة قلت: يا رسول الله من أين تخرج قال «من أعظم المساجد حرمة على الله فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها الطالب، ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمنا وكافرا فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر» وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وعن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثا قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وعن عبد الله بن عمرو قال: تخرج الدابة من شعب أجياد فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض وروي عن علي قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة، كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون تُكَلِّمُهُمْ أي بكلام فصيح قيل تقول هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل: تقول ما أخبر الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ تخبر الناس عن أهل مكة أنهم لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. وقرئ تكلمهم بتخفيف اللام من الكلم، وهو الجرح وقال ابن الجوزي: سئل ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم وتكلمهم فقال: كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر. قوله تعالى:
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 87]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)(3/353)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي نحشر من كل قرن جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعون ثم يساقوا إلى النار حَتَّى إِذا جاؤُ يعني يوم القيامة قالَ الله تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي ولم تعرفوها حق معرفتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي حين لم تتفكروا فيها وقيل: معنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها بل كنتم بها جاهلين وَوَقَعَ الْقَوْلُ أي وجب العذاب عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا أي بما أشركوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي بحجة وقيل إن أفواههم مختومة أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا أي أنا خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا يبصر فيه.
وفي الآية دليل على البعث بعد الموت لأن القادر على قلب الضياء ظلمة، والظلمة ضياء قادر على الإعادة بعد الموت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون فيعتبرون. قوله تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ هو قرن ينفخ فيه إسرافيل قال الحسن: الصور هو القرن ومعنى كلامه إن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب في الأجساد فتحيا بها الأجساد فَفَزِعَ أي فصعق مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا. والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. وقيل ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ روى أبو هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى «إلا من شاء الله» قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش وقال ابن عباس: هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل إليهم الفزع.
وقيل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفسه ثم يقول: من بقي يا ملك الموت فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم بقي جبريل وميكائيل، وملك الموت فيقول: خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع، كالطود العظيم فيقول من بقي من خلقي فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل، وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام بقي وجهك الدائم الباقي وجبريل، الميت الفاني فيقول الله: يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه. فيروى أن فضل خلقه على ميكائيل كفضل الطود العظيم على ظرب من الظراب. ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح ملك الموت، فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم يقول الله «أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى: لله الواحد القهار (ق) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي، ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وقيل الذين استثنى الله هم رضوان والحور ومالك والزبانية. وقوله تعالى وَكُلٌّ أي وكل الذين أحيوا بعد الموت أَتَوْهُ أي جاءوه داخِرِينَ أي صاغرين.
[سورة النمل (27) : الآيات 88 الى 93]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)(3/354)
قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً أي قائمة واقفة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعني أنه تعالى، لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي بكلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الإخلاص في العمل، وقيل الحسنة كل طاعة عملها لله عز وجل فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله، وقيل: هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله والنظر إليه لقوله «ورضوان من الله» وقيل: معنى خير منها الأضعاف أعطاه الله بالواحدة عشر أضعافها، لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض.
قلت: إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه. وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني بالشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم «هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» في الدنيا من الشرك.
وقوله تعالى إِنَّما أُمِرْتُ يعني يقول الله تعالى لرسوله قل إنما أمرت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها الله حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا يدخلها إلا محرم، وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من الله لا من الأصنام وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله المطيعين له وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام صلّى الله عليه وسلّم بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي نفع اهتدائه يرجع إليه وَمَنْ ضَلَّ أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي من المخوفين، وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على جميع نعمه، وقيل: على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار سَيُرِيكُمْ آياتِهِ الباهرة ودلائله القاهرة قيل: هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل: آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون الآيات والدلالات وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/355)
طسم (1)
سورة القصص
وهي مكية إلا قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهي ثمان وثمانون آية وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)
قوله عز وجل طسم تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو الكتاب الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام.
[سورة القصص (28) : الآيات 3 الى 7]
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ أي خبر مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ أي بصدق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بالقرآن إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا أي تجبر وتكبر فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا في أنواع الخدمة والتسخير يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يعني بني إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ سمى هذا استضعافا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي بالقتل والتجبر في الأرض وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي ننعم عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ يعني بني إسرائيل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة في الخير يقتدى بهم وقيل ولاة ملوكا وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يعني أملاك فرعون، وقومه بأن نجعلهم في مساكنهم وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نوطن لهم أرض مصر والشام، ونجعلها لهم سكنا وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يخافون وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل وكانوا على حذر منه فأراهم الله ما كانوا يحذرون. قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى هو وحي إلهام، وذلك بأن قذف في قلبها واسمها يوحانذ من نسل لاوي بن يعقوب أَنْ أَرْضِعِيهِ قيل أرضعته ثمانية أشهر وقيل أربعة وقيل ثلاثة وكانت ترضعه، وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي الذبح فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر وأراد نيل مصر وَلا(3/356)
تَخافِي
أي عليه من الغرق وقيل الضيعة وَلا تَحْزَنِي أي على فراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال ابن عباس إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه الصلاة والسلام.
ذكر القصة في ذلك
قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، وقالت لها: قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم، فعالجت قبالها فلما وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك، ولكن وجدت لولدك حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك، فإني أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا إلى أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب فلفته بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن فقالوا ما أدخل القابلة قالت هي مصافية لي فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخته فأين الصبي؟ فقالت: لا أدري فسمعت بكاء الصبي في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما فاحتملته، قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتا له ثم تقذف التابوت في النيل فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال النجار ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته، وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطلق الكلام وجعل يشير بيديه فلم تدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ لسانه وبصره فلم يطق الكلام، ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه، وبقي حيران فجعل لله عليه إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه فيحفظه، حيثما كان فعرف الله صدقه فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدا فقال يا رب: دلني على هذا العبد الصالح فدله عليه فآمن به وصدقه وقال وهب لما حملت أم موسى بموسى، كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى، وذلك شيء ستره الله تعالى لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي ولد فيها، بعث فرعون القوابل وتقدم الأمين ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك مثله، وحملت بموسى ولم يتغير لونها ولم ينب بطنها فكانت القوابل لا تتعرض لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم وأوحى الله إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ فكتمته ثلاثة أشهر فلما خافت عليه عملت تابوتا، مطبقا، ثم ألقته في اليم وهو البحر ليلا.
قال ابن عباس وغيره: كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في ساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ البحر(3/357)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون: إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجر ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه. فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في التابوت وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منه لبنا فألقى الله محبته في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه. وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ثم قبلته وضمته إلى صدرها فقالت: الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا رمي به في البحر فزعا منك فهم فرعون بقتله فقالت آسية: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أي فنصيب منه خيرا أو نتخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها. وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها الله» فقيل لآسية سميه فقالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر لأن موسى هو الماء وهو الشجر فذلك قوله تعالى:
[سورة القصص (28) : الآيات 8 الى 12]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي عاقبة أمرهم إلى ذلك لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي آثمين وقيل: هو من الخطأ ومعناه أنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال وهب لما نظر إليه فرعون قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكانت آسية امرأة فرعون من خيار النساء ومن بنات الأنبياء.
وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وأنت أمرت أن تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي. وقيل: إنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى وليس هو من بني إسرائيل فاستحياه فرعون وألقى الله محبته عليه قال ابن عباس لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه قوله تعالى وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه وقيل معناه ناسيا للوحي الذي أوحى الله عز وجل إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان وقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله وألقيته في البحر وأغرقته. ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتصرح بأنه ابنها من شدة وجلها.
قال ابن عباس كادت تقول وا ابناه وقيل لما رأت التابوت ترفعه موجة وتحطه أخرى خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شدة شفقتها عليه. وقيل كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون(3/358)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي بالعصمة والصبر والتثبت لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين بوعد الله إياها وَقالَتْ لِأُخْتِهِ أي لمريم أخت موسى قُصِّيهِ أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد قيل كانت تمشي جانبا وتنظره اختلاسا ترى أنها لا تنظره وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته وأنها ترقبه وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثديا قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم مِنْ قَبْلُ أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب ذلك فَقالَتْ يعني أخت موسى هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيرا ترضعه وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل لما قالت:
وهم له ناصحون قالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل: إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا قيل كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى:
[سورة القصص (28) : الآيات 13 الى 18]
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي برد موسى إليها وَلا تَحْزَنَ أي لئلا تحزن وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي برده إليها وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الله وعدها أن يرده إليها وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة وَاسْتَوى أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس: وقيل انتهى شبابه وتكامل آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي عقلا وفهما في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قوله تعالى وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوما وكان موسى غائبا فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد. وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا على حين غفلة من أهلها.(3/359)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وقيل لما ضرب موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله قالت امرأته هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته فأخرج منها فلم يدخل عليهم حتى كبر وبلغ أشده فدخل على حين غفلة من أهلها يعني عن ذكر موسى ونسيانهم خبره لبعد عهدهم به. وعن علي أنه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتخاصمان ويتنازعان هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي من بني إسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يعني من القبط وقيل هذا مؤمن وهذا كافر وقيل الذي كان من الشيعة هو السامري والذي من عدوه هو طباخ فرعون واسمه فاتون وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي يحمله الحطب. وقال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ يعني الإسرائيلي عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ يعني الفرعوني والاستغاثة طلب الغوث والمعنى أنه سأله أن يخلصه منه وأن ينصره عليه فغضب موسى واشتد غضبه لأنه أخذه وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة فقال موسى للفرعوني: خلّ سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة فَوَكَزَهُ مُوسى يعني ضربه بجميع كفه وقيل الوكز الضرب في الصدر وقيل الوكز الدفع بأطراف الأصابع فَقَضى عَلَيْهِ يعني قتله وفرغ من أمره فندم موسى عليه ولم يكن قصد القتل فدفنه في الرمل قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ يعني بين الضلالة وقيل في قوله هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى أن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان والمراد منه بيان كونه مخالفا لله سبحانه وتعالى مستحقا للقتل وقيل هذا إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي يعني بقتل القبطي من غير أمر وقيل هو على سبيل الاتضاع لله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله فَاغْفِرْ لِي يعني ترك هذا المندوب وقيل يحتمل أن يكون المراد «رب إني ظلمت نفسي» حيث فعل هذا فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فقال أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي فستره عن الوصول إلى فرعون إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أي بالمغفرة والستر الذي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ معناه فأنا لا أكون معاونا لأحد من المجرمين قال
ابن عباس الكافرين وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا.
قال ابن عباس لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيرا للمجرمين فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ أي التي قتل فيها القبطي خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي ينتظر سوءا والترقب انتظار المكروه وقيل ينتظر متى يؤخذ به فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيث به من بعد. قال ابن عباس: أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا فقال اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي قالَ لَهُ مُوسى للإسرائيلي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي ظاهر الغواية قاتلت رجلا بالأمس فقتلته بسببك وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.
[سورة القصص (28) : الآيات 19 الى 24]
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)(3/360)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة للإسرائيلي فمد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضب موسى وسمع قوله إنك لغوي مبين قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ معناه أنه لم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك فسمعه القبطي فأتى فرعون فأخبره بذلك إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي بالقتل ظلما وقيل الجبار هو الذي يقتل ويضرب ولا ينظر في العواقب وقيل هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ولما فشا أن موسى قتل القبطي أمر فرعون بقتله فخرجوا في طلبه وسمع بذلك رجل من شيعة موسى يقال إنه مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل سمعان وهو قوله تعالى وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى أي يسرع في مشيه وأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ يعني يتشاورون فيك لِيَقْتُلُوكَ وقيل يأمر بعضهم بعضا بقتلك فَاخْرُجْ يعني من المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ يعني في الأمر بالخروج فَخَرَجَ مِنْها يعني موسى خائِفاً على نفسه من آل فرعون يَتَرَقَّبُ يعني ينتظر الطلب هل يلحقه فيأخذه ثم لجأ إلى الله تعالى لعلمه أنه لا ملجأ إلا إليه قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين.
قوله تعالى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ يعني قصد نحوها ماضيا قيل إنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأن أهل مدين من ولد إبراهيم وموسى من ولد إبراهيم ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلد باسمه وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام، قيل خرج موسى خائفا بلا ظهر ولا زاد ولا أحد ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض حتى رأى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه قال ابن عباس وهو أول ابتلاء من الله لموسى قالَ يعني موسى عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ يعني قصد الطريق إلى مدين وذلك أنه لم يكن يعرف الطريق إليها قيل لما دعا موسى جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قوله عز وجل وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ هو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ يعني على الماء أُمَّةً يعني جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ يعني مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ يعني سوى الجماعة وقيل بعيدا من الجماعة امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تند وتذهب والقول الأول أولى لما بعده وهو قوله قالَ يعني موسى للمرأتين ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس قالَتا لا نَسْقِي يعني أغنامنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي حتى يرجع الرعاء من الماء والمعنى أنا امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا نحن مواشينا من فضل ما بقي منهم في الحوض وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي لا يقدر أن يسقي مواشيه فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم، قيل أبوهما هو شعيب عليه الصلاة والسلام. وقيل هو بيرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات بعد ما كف بصره وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما فاقتلع صخرة من على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. وقيل زاحم القوم ونحاهم كلهم عن البئر وسقى لهما الغنم وقيل لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى فرفع الحجر ونزع دلوا واحدا فيه بالبركة وسقى الغنم فرويت فذلك قوله تعالى فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ يعني(3/361)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
عدل إلي رأس الشجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ معناه أنه طلب الطعام لجوعه واحتياجه إليه.
قال ابن عباس: إن موسى سأل الله فلقة خبز يقيم بها صلبة وعن ابن عباس قال: لقد قال موسى: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة وقيل ما سأل إلا الخبز فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه إلي قال الله تعالى:
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 28]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قيل هي الكبرى واسمها صفوراء وقيل صفراء وقيل بل هي الصغرى واسمها ليا وقيل صفيراء وقال عمر بن الخطاب ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء وقيل استحيت منه لأنها دعته لتكافئه وقيل لأنها رسول أبيها قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا قيل لما سمع موسى ذلك كره أن يذهب معها ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي ودليني على الطريق إذا أخطأت ففعلت ذلك فلما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء مهيئا فقال: اجلس يا فتى فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذاك ألست بجائع؟
قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا من الدنيا فقال له شعيب: لا والله يا فتى ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس وأكل فذلك قوله عز وجل فَلَمَّا جاءَهُ أي موسى وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي أخبره بأمره أجمع من خبر ولادته وقتله القبطي وقصد فرعون قتله قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني من فرعون وقومه وإنما قال ذلك لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ يعني إن خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة فقال لها أبوها ما أعلمك بقوته وأمانته؟ قالت أما قوته فإنه رفع الحجر من على رأس البئر ولا يرفعه إلا عشرة.
وقيل أربعون رجلا وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك قالَ شعيب عند ذلك إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ قيل زوجه الكبرى وقال الأكثرون إنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفوراء وهي التي ذهبت في طلب موسى عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تكون لي أجيرا ثمان سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإن أتممت العشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وقيل يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته قالَ يعني موسى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعني ما شرطت علي فلك وما شرطت من تزوج(3/362)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
إحداهما فلي والأمر بيننا على ذلك أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي أيّ الأجلين أتممت وفرغت منه الثمانية أو العشرة فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال ابن عباس شهيد بيني وبينك (خ) عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى أقدم على خير العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضي أكثرهما وأطيبهما لأن رسول الله إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا: «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوج صغراهما وقضى أوفاهما» . وقال وهب أنكحه الكبرى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره فقال الله له: ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار فقال: لا يا رب ولكن شوقا إلى لقائك فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك كليمي موسى ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاه يدفع بها السباع عن غنمة قيل كانت من آس الجنة حملها آدم معه فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى.
ثم إن موسى لما قضى الأجل سلم شعيب إليه ابنته فقال لها موسى اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك فقال لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها وقيل إن شعيبا أراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال له: إني قد وهبت لك ولد أغنامي كل أبلق وبلقاء في هذه السنة فأوحى الله تعالى إلى موسى في النوم أن اضرب بعصاك الماء، ثم اسق الأغنام منه ففعل ذلك فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام.
قوله عز وجل:
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وفرغ منه وَسارَ بِأَهْلِهِ قيل مكث موسى بعد الأجل عند شعيب عشر سنين أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فسار بأهله أي بزوجته قاصدا إلى مصر آنَسَ أي أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي قطعة وشعلة من النار وقيل: الجذوة العود الذي اشتعل بعضه لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ(3/363)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ جعلها الله مباركة لأن الله تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا وقيل يريد البقعة المقدسة مِنَ الشَّجَرَةِ يعني من ناحية الشجرة قال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء تبرق وقيل كانت عوسجة وقيل كانت من العليق وعن ابن عباس إنها العناب أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قيل إن موسى لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله تعالى فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى. وقيل: إن الله تعالى خلق في نفس موسى علما ضروريا بأن المتكلم هو الله تعالى وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى. وقيل: إنه قيل لموسى كيف عرفت أنه نداء الله قال إني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم بذلك أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ يعني فألقاها فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ يعني تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ هي الحية الصغيرة والمعنى أنها في سرعة حركتها كالحية السريعة الحركة وَلَّى مُدْبِراً يعني هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ يعني ولم يرجع قال وهب إنها لم تدع شجرة، ولا صخرة إلا بلعتها حتى إن موسى سمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والصخر في جوفها فحينئذ ولى مدبرا ولم يعقب فنودي عند ذلك يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ.
قوله عز وجل اسْلُكْ يَدَكَ يعني أدخل يدك فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني برص والمعنى أنه أدخل يده فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يعني من الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وما تراه من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى وقال ابن عباس: أمر الله موسى أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقيل المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جناحك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه. وقيل الرهب الكم بلغة حمير ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك لأنه تناول العصا ويده في كمه فَذانِكَ يعني العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ يعني آيتان مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني خارجين عن الحق قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يعني القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ يعني به وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً يعني بيانا وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يعني عونا يُصَدِّقُنِي يعني فرعون وقيل تصديق هارون هو أن يلخص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار فهذا هو التصديق المفيد إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ يعني فرعون وقومه قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ يعني سنقويك به وكان هارون بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً يعني حجة وبرهانا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي بقتل ولا سوء بِآياتِنا قيل معناه نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ يعني لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 45]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)(3/364)
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ يعني واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً يعني مختلق وَما سَمِعْنا بِهذا يعني بالذي تدعونا إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يعني أنه يعلم المحق من المبطل وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني الكافرون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فيه إنكار لما جاء به موسى من توحيد الله وعبادته فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ يعني اطبخ لي الآجر قيل إنه أول من اتخذ آجرا وبنى به فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي قصرا عاليا وقيل منارة. قال أهل السير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، وأمر بالبناء فبنوه ورفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق وأراد الله أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما فقال: قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعده راكبا على البراذين فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منه على عسكره فقتلت منهم ألف رجل ووقعت قطعة منه في البحر وقطعة في المغرب فلم يبق أحد عمل شيئا فيه إلا هلك فذلك قوله لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى يعني أنظر إليه وأقف على حاله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ يعني في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري وأنه أرسله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق بالباطل والظلم بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ يعني للحساب والجزاء فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ يعني فألقيناهم في البحر وهو القلزم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ يعني حين صاروا إلى الهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يعني قادة ورؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي الكفر والمعاصي التي يستحقون بها النار لأن من أطاعهم ضل ودخل النار وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يعني لا يمنعون من العذاب وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني خزيا وبعدا وعذابا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ يعني المبعدين وقيل المهلكين.
وقال ابن عباس من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن كانوا قبل موسى بَصائِرَ لِلنَّاسِ ليبصروا ذلك فيهتدوا به وَهُدىً يعني من الضلالة لمن عمل به وَرَحْمَةً يعني لمن آمن به لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني بما فيه من المواعظ وَما كُنْتَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي وما كنت يا محمد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ يعني بجانب الجبل الغربي قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني الحاضرين ذلك المقام الذي أوحينا إلى موسى فيه فتذكره من ذات نفسك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً يعني خلقنا بعد موسى أمما فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعني طالت عليهم المدة فنسوا عهد الله وتركوا أمره وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد والإيمان به فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي كمقام موسى وشعيب فيهم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يعني تذكرهم بالوعد والوعيد وقيل معناه لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي أرسلناك رسولا(3/365)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
وأنزلنا إليك كتابا فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه ولولا ذلك لما علمتها أنت ولم تخبرهم بها.
[سورة القصص (28) : الآيات 46 الى 53]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي بناحية الجبل الذي كلم الله موسى عليه إِذْ نادَيْنا أي موسى خذ الكتاب بقوة وقال وهب قال موسى: يا رب أرني محمدا وأمته قال إنك لن تصل إلى ذلك ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك واطلاعك على الأخبار الغائبة عنك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل مكة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اعلم أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى فالمراد بقوله: «إذ قضينا إلى موسى الأمر» هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله «وما كنت ثاويا في أهل مدين» أول أمر موسى والمراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى ولما بينها لرسوله ولم يكن في هذه الأحوال حاضرا بين الله أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم ومعجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.
قوله تعالى وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني من الكفر والمعاصي فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أي هلّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ومعنى الآية لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم وقيل معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم قالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أي هلا أُوتِيَ محمد مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى يعني من الآيات كالعصا واليد البيضاء. وقيل:
أوتي كتابا جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال الله تعالى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل يعني اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا يعني التوراة والقرآن يقوي كل واحد(3/366)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
منهما الآخر وقيل ساحران يعني محمدا وموسى. وقيل إن مشركي مكة بعثوا إلى رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعني بالتوراة والقرآن وقيل بمحمد وموسى قُلْ يا محمد فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما يعني من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ يعني الكتاب الذي تأتون به من عند الله وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يأتوا بما طلبت فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قوله عز وجل وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال ابن عباس: بينا وقيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا، وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم، وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخصاصة قالوا: يا رسول الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين. فنزلت هذه الآيات إلى قوله «ومما رزقناهم ينفقون» وقال ابن عباس:
نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا وذلك أن ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إنه نبي حق.
[سورة القصص (28) : الآيات 54 الى 61]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر بِما صَبَرُوا أي على دينهم وعلى أذى المشركين (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ(3/367)
السَّيِّئَةَ
قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في الطاعة وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي القول القبيح أَعْرَضُوا عَنْهُ وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة ويقولون تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا ولكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد منه سلام التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال.
قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي هدايته وقيل أحببته لقرابته وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي بمن قدر له الهدى (م) عن أبي هريرة قال «إنك لا تهدي من أحببت، نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب عند الموت: «يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك» ثم أنشد:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم. ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة يُجْبى إِلَيْهِ يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك. قوله عز وجل وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون سكونا قليلا وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها خراب وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني الكافرة أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يبعث في أم القرى وهي مكة رسولا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه خاتم الأنبياء يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي مشركون.
قوله عز وجل وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائما غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. ولهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً يعني الجنة فَهُوَ لاقِيهِ أي مصيبه وصائر إليه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي وتزول عنه عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي في النار، قيل هذا في المؤمن والكافر وقيل نزلت في(3/368)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي جهل، وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. قوله عز وجل:
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي في الدنيا أنهم من شركائي قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أضللناهم كما ضللنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء وَقِيلَ يعني للكفار ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام لتخلصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي لم يجيبوهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يسأل الكفار فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ أي خفيت واشتبهت عليهم الْأَنْباءُ يعني الأخبار والأعذار والحجج يَوْمَئِذٍ فلم يكن لهم عذر ولا حجة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يجيبون ولا يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضا فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب.
قوله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله. وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه، ثم نزه الله تعالى نفسه فقال سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ أي تخفي صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي يظهرون وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة وَلَهُ الْحُكْمُ أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية(3/369)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
بالشقاوة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قوله عز وجل قُلْ أي قل يا محمد لأهل مكة أَرَأَيْتُمْ يعني أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا نهار فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أي بنهار تطلبون فيه المعيشة أَفَلا تَسْمَعُونَ أي سماع فهم وقبول قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا ليل فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلا بد منهما فأما في الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبدا فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يتعاقبان بالظلمة والضياء لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بالنهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعم الله فيهما وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ وَنَزَعْنا يعني أخرجنا وقيل ميزنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم فَقُلْنا يعني للأمم المكذبة لرسلهم هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم بأن معي شريكا فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي التوحيد لله وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقون في الدنيا من الكذب على الله. قوله عز وجل:
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 79]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل كان عم موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم وقيل بغى عليهم بكثرة ماله وقيل زاد في طول ثيابه شبرا (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء» . أخرجاه في الصحيحين وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب وقيل مفاتحه يعني خزائنه لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ معناه لثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لتثقلها. قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين. وقيل إلى السبعين قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال وقيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما كثرت وثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح ولقد أحسن من قال:(3/370)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم وقيل لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» هذا حديث مرسل وعمرو بن ميمون لم يلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته وقيل أحسن إلى الناس وَلا تَبْغِ أي ولا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ يعني قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. وقيل هو علم الكيمياء وكان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يصنع من الرصاص فضة ومن النحاس ذهبا وكان ذلك سبب كثرة أمواله وقيل كان علمه حسن التصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب قال الله عز وجل أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي للأموال وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ قيل معناه أن الله تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم وقيل لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وقيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قوله عز وجل فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قيل: خرج هو وقومه وهم سبعون ألفا عليهم الثياب الحمر والصفر والمعصفرات وقيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان.
وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب وعليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي والثياب الحمر وهن على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من المال.
[سورة القصص (28) : الآيات 80 الى 82]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بما وعد الله في الآخرة وقال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي ما عند الله من الثواب والخير خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ أي صدق بتوحيد الله وَعَمِلَ صالِحاً أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون وقيل لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ أي على طاعة الله وعن زينة الدنيا. قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.
ذكر قصة قارون:
قال أهل العلم بالأخبار والسير: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأقرأهم للتوراة(3/371)
وأجملهم وأغناهم. وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، وهي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل الله جعلها له فقال له قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى هذا فقال له قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى حتى بنى دارا وجعل لها بابا من الذهب. وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار وعلى كل ألف درهم عنها درهم وكل ألف شاة عنها شاة وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئا كثيرا فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي وتجعلوا عليكم لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم. وقيل طستا من ذهب وقيل قال لها قارون أنزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا والله ولكن قارون جعل لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا يبكي. ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه أني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم. وقيل كان على سريره وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم، حتى قيل إنه ناشده أربعين مرة.
وقيل سبعين مرة وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض(3/372)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد.
قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يعني جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني يمنعونه من الله وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من الممتنعين مما نزل به من الخسف وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يعني صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ألم تعلم وقيل ألم تر. وقيل هي كلمة تقرير معناها أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل ويك، بمعنى ويلك اعلم أن الله. وروي أن وي مفصولة من كأن والمعنى أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكأن معناها أظن وأقدر أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ قال ابن عباس أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالإيمان لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قوله عز وجل:
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 88]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي استكبارا عن الإيمان وقيل علوا واستطالة على الناس وتهاونا بهم وقيل يطلبون الشرف والعز عند ذي سلطان وعن علي أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة وَلا فَساداً قيل الذين يدعون إلى غير عبادة الله تعالى وقيل أخذ أموال الناس بغير حق وقيل العمل بالمعاصي وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه وقيل عاقبة المتقين الجنة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أنزل عليك القرآن وقيل معناه أوجب عليك العمل بالقرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال ابن عباس إلى مكة. أخرجه البخاري عنه قال القتيبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار على غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع في الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: أتشتاق إلى بلدك؟ قال نعم قال: فإن الله تعالى يقول الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية. وقال ابن عباس أيضا لرادك إلى الموت وقيل إلى القيامة، وقيل إلى الجنة قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنك لفي ضلال مبين فقال الله تعالى لهم رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعني نفسه وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني المشركين ومعناه هو أعلم بالفريقين. قوله عز وجل وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي يوحى إليك(3/373)
القرآن إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فأعطاك القرآن فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً أي معينا لِلْكافِرِينَ على دينهم ذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره نعمه عليه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى معرفته وتوحيده وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن عباس:
الخطاب في الظاهر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أهل دينه أي ولا تظاهر الكفار ولا توافقهم وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ معناه أنه واجب على الكل إلا أنه خاطبه به مخصوصا لأجل التعظيم. فإن قلت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معصوما من أن يدعو مع الله إلها آخر فما فائدة هذا النهي. قلت الخطاب معه والمراد به غيره وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلا على أمورك كلها ولا تعتمد على غيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي فان إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا هو والوجه يعبر به عن الذات وقيل معناه إلا ما أريد به وجهه لأن عمل كل شيء أريد به غير الله فهو هالك لَهُ الْحُكْمُ أي فصل القضاء بين الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم والله أعلم بمراده.(3/374)
الم (1)
سورة العنكبوت
وهي مكية وآياتها تسع وستون آية وكلماتها تسعمائة وثمانون كلمة وحروفها أربعة آلاف ومائة وخمسة وستون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قوله عز وجل الم أَحَسِبَ النَّاسُ أي أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا أي بغير اختبار وابتلاء أَنْ أي بأن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب. قيل: نزلت هذه الآية في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فقاتلهم الكفار، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل الله هاتين الآيتين. وقال ابن عباس: أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم. وقيل في عمار كان يعذب في الله تعالى وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله هذه الآية ثم عزاهم فقال تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأنبياء فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ومعنى الآية فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه. وقيل إن آثار أفعال الحق صفة يظهر فيها كل ما يقع وما هو واقع. قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الشرك أَنْ يَسْبِقُونا أي يعجزونا فلا نقدر على الانتقام منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس من كان يخشى البعث والحساب وقيل من كان يطمع في ثواب الله فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب. وقيل يوم القيامة لكائن والمعنى أن من يخشى الله ويؤمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم وَهُوَ السَّمِيعُ(3/375)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
الْعَلِيمُ
أي يعلم ما يعمل العباد من الطاعة والمعصية فيثيبهم أو يعاقبهم أو يعفو.
قوله تعالى وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي له ثوابه وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفي والجهاد هو الصبر على الأعداء والشدة وقد يكون في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن أعمالهم وعبادتهم وفيه بشارة وتخويف أما البشارة فلأنه إذا كان غنيا عن الأشياء فلو أعطي جميع ما خلقه لعبد من عبيده لا شيء عليه لاستغنائه عنه. وهذا يوجب الرجاء التام وأما التخويف فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين فلو أهلكهم بعذابه فلا شيء عليه لاستغنائه عنهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لنطلبنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا.
قوله عز وجل وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً معناه برا بهما وعطفا عليهم والمعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما ما يحسن نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص. وقال ابن إسحاق: سعد بن مالك الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأبيه. قالت له أمه: ما هذا الذي أحدثت والله ما آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ويقال يا قاتل أمه ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت كذلك يوما آخر وليلة فجاءها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك فذلك قوله تعالى وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وفي الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه فقال تعالى إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ أي فأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بصالح أعمالكم وسيئاتها أي فأجازيكم عليها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 9 الى 18]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء وقيل في مدخل الصالحين وهو الجنة. قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ يعني أصابه بلاء(3/376)
من الناس افتتن فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة والمعنى أنه جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ أي فتح ودولة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ أي هؤلاء المنافقون للمؤمنين إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأكذبهم الله تعالى فقال أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي من الإيمان والنفاق وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا فثبتوا على الإيمان والإسلام عند البلاء. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي بترك الإسلام عند البلاء قيل نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال ابن عباس: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر وهم الذين نزلت فيهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ وقيل هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من أهل مكة قيل قاله أبو سفيان لِلَّذِينَ آمَنُوا أي من قريش اتَّبِعُوا سَبِيلَنا يعني ديننا وملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم فذلك قوله وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي أوزاركم والمعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فأكذبهم الله عز وجل بقوله وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم نحمل خطاياكم وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزار أنفسهم. فإن قلت قد قال أولا وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء وقال ها هنا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم فكيف الجمع بينهما. قلت: معناه إنهم لا يرفعون عنهم خطيئة بل كل واحد يحمل خطيئة نفسه ورؤساء الضلال يحملون أوزارهم ويحملون أوزارا بسبب إضلال غيرهم فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي سؤال توبيخ وتقريع لأنه تعالى عالم بأعمالهم وافترائهم. قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ أي فأقام فِيهِمْ يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فإن قلت فما فائدة هذا الاستثناء وهلا قال تسعمائة وخمسين سنة قلت فيه فائدتان إحداهما: أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه يظن به التقريب فهو كقول القائل عاش فلان مائة سنة فقد يتوهم السائل أنه يقول مائة سنة تقريبا لا تحقيقا فإن قال مائة سنة إلا شهرا أو إلا سنة زال ذلك التوهم وفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي لبيان أن نوحا صبر على أذى قومه صبرا كثيرا وأعلى مراتب العدد ألف سنة. وكان المراد التكثير فلذلك أتى بعقد الألف لأنه أعظم وأفخم هذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وأن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم فصبر في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة من آمن بك.
قال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس فكان عمره ألفا وخمسين عاما. وقيل في عمره غير ذلك. قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي فأغرقهم وَهُمْ ظالِمُونَ قال ابن عباس مشركون فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ يعني من الغرق وَجَعَلْناها يعني السفينة آيَةً أي عبرة لِلْعالَمِينَ قيل إنها بقيت على الجودي مدة مديدة وقيل جعلنا عقوبتهم بالغرق عبرة. قوله تعالى وَإِبْراهِيمَ أي وأرسلنا إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أي أطيعوا الله وخافوه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ما هو خير لكم مما هو شر لكم ولكنكم لا تعلمون إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي تقولون كذبا وقيل تصنعون أصناما بأيديكم وتسمونها آلهة إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يقدرون أن يرزقوكم فَابْتَغُوا أي فاطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فإنه القادر على ذلك وَاعْبُدُوهُ أي وحدوه وَاشْكُرُوا لَهُ لأنه المنعم عليكم بالرزق إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(3/377)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
أي في الآخرة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فأهلكهم الله وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قوله تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 29]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
أَوَلَمْ يَرَوْا قيل هذه الآيات إلى قوله فما كان جواب قومه يحتمل أن تكون من تمام قول إبراهيم لقومه وقيل إنها وقعت معترضة في قصة إبراهيم وهي في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ومعنى أو لم يروا أو لم يعلموا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثُمَّ يُعِيدُهُ أي في الآخرة عند البعث إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي الخلق الأول والخلق الثاني قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي ثم إن الله الذي خلقهم ينشئهم نشأة ثانية بعد الموت والمعنى فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئا كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيدا بعد الموت ثانيا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من البداءة والإعادة يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا منه وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ تفضلا وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قيل معناه ولا من في السماء بمعجزين والمعنى أنه لا بعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء وقيل معنى قوله ولا في السماء لو كنتم فيها وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي يمنعكم مني وَلا نَصِيرٍ أي ينصركم من عذابي وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني بالقرآن وَلِقائِهِ أي البعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يعني الجنة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال تعالى فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ قال ذلك بعضهم لبعض وقيل قال الرؤساء للأتباع اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بأن جعلها بردا وسلاما قيل إن ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون وَقالَ يعني إبراهيم لقومه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة وقيل معناه إنكم تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ(3/378)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
تتبرأ الأوثان من عابديها وتتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة وَمَأْواكُمُ النَّارُ يعني العابدين والمعبودين جميعا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين من عذابه فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه برسالته لما رأى معجزاته وهو أول من صدق إبراهيم وأما في أصل التوحيد فإنه كان مؤمنا لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي فهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم هاجر إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر إلى الله تعالى وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه. قيل هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي الذي لا يغلب والذي يمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما يصلحني.
قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يقال إن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا هو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ويحبونه ويحبون الصلاة عليه والذرية الطيبة والنبوة من نسله هذا له في الدنيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس مثل آدم ونوح. قوله عز وجل وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة القبيحة ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لم يفعلها أحد قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله وتأتون في دنياكم المنكر قال «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال: أنا أولى به وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضا في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض. وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح إِلَّا أَنْ قالُوا أي استهزاء ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إن العذاب نازل بنا فعند ذلك
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 30 الى 40]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34)
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39)
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)(3/379)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم. قوله عز وجل وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي من الله بإسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قوم لوط والقرية سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ يعني إبراهيم إشفاقا على لوط وليعلم حاله إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا أي قالت الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الباقين في العذاب وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك وَقالُوا لا تَخَفْ أي من قومك وَلا تَحْزَنْ علينا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ قيل هو الخسف والحصب بالحجارة بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً أي عبرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله تعالى وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي افعلوا فعل من يرجوا اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي باركين على الركب ميتين وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا عادا وثمود وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ يا أهل مكة مِنْ مَساكِنِهِمْ أي منازلهم بالحجر واليمن وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم لغير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الحق وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء ذوي بصائر. وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي أهلكنا هؤلاء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحات فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين من عذابنا فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمود وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي بالهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي بالإشراك. قوله تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)(3/380)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه وإن بيتها في غاية الضعف والوهن لا يدفع عنها حرا ولا بردا فكذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا. وقيل معنى هذا المثل أن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل العنكبوت تتخذ بيتا من نسجها بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لأنها لا تضر ولا تنفع وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أشار إلى ضعفه فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فقد صح أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ هذا توكيد للمثل وزيادة عليه يعني إن الذي يدعون من دونه ليس بشيء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ معناه كيف يجوز للعاقل أن يترك عبادة الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء ويشتغل بعبادة من ليس بشيء أصلا وَتِلْكَ الْأَمْثالُ أي الأشباه يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار من هذه الأمة بأحوال كفار الأمم السابقة نَضْرِبُها أي نبينها لِلنَّاسِ أي لكفار مكة وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يعني ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله عز وجل. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي للحق وإظهار الحق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي دلالة لِلْمُؤْمِنِينَ على قدرته وتوحيده.
وقوله تعالى اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَأَقِمِ الصَّلاةَ فإن قلت: لم أمر بهذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟ قلت لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة: قلبية وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا فبقي الذكر والعبادة البدنية وهما ممكنا التكرار فلذلك أمر بهما إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي ما قبح من الأعمال وَالْمُنْكَرِ أي ما لا يعرف في الشرع. قال ابن مسعود وابن عباس في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا. وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم لم يدع من الفواحش شيئا إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إن صلاته ستنهاه يوما فلم يلبث أن تاب وحسنت حاله» وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ومنه قوله: «إن في الصلاة لشغلا» وقيل أراد بالصلاة القرآن وفيه ضعف لتقدم ذكر القرآن وعلى هذا يكون معناه أن القرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر كما روي عن جابر قال: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته» . وفي رواية «أنه قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه» وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي أنه أفضل الطاعات. عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله» . أخرجه الترمذي وله(3/381)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
عن أبي سعيد الخدري قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال الذاكرون الله كثيرا قالوا يا رسول الله والغازي في سبيل الله؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب في سبيل الله دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» يروي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والتشديد أتم يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعيا للأمر والنهي وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله لا يخلطون به غيره (خ) عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» . وروي «أن أعرابيا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» وقال ابن عباس: معنى ولذكر الله أكبر ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك مرفوعا عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن عطاء ولذكر الله أكبر أي لن تبقى معه معصية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ يعني لا يخفى عليه شيء من أمركم. قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 53]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53)
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ أي ولا تخاصموهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي القرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد بهم من قبل الجزية منهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب فافجؤوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ومعنى الآية إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر وقيل هم أهل الحرب ومن لا عهد له. وقيل الآية منسوخة بآية السيف وَقُولُوا أي للذين قبلوا الجزية إذا حدثوكم بشيء مما في كتبكم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (خ) عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية.
قوله عز وجل وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْ هؤُلاءِ يعني أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ وذلك أن اليهود عرفوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نبي والقرآن حق فجحدوا والجحود إنما يكون بعد المعرفة وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ معناه من كتب أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب وَلا(3/382)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ يعني ولا تكتبه والمعنى لم تكن تقرأ ولم تكتب قبل الوحي إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ معناه لو كنت تكتب أو تقرأ قبل الوحي إليك لارتاب المشركون من أهل مكة، وقالوا إنه يقرأه من كتب الأولين أو ينسخه منها وقيل المبطلون هم اليهود ومعناه أنهم إذا لشكوا فيه واتهموك وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني القرآن فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن وقال ابن عباس يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ يعني اليهود وَقالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي كما أنزل على الأنبياء من قبل وقيل: أراد بالآيات معجزات الأنبياء مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو القادر على إنزالها إن شاء أنزلها وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما كلفت الإنذار وليس إنزال الآيات بيدي أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا هذا جواب لقولهم لولا أنزل عليه آية من ربه قال أولم يكفهم أنا أنزلنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ معناه أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء لأن معجزة القرآن تدوم على ممر الدهور والزمان ثابتة لا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها إِنَّ فِي ذلِكَ يعني القرآن لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي تذكيرا وعظة لمن آمن به وعمل صالحا قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً قال ابن عباس معناه يشهد لي أني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو المطلع على أمري وأمركم ويعلم حقي وباطلكم لا تخفى عليه خافية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: بغير الله وقيل بعبادة الشيطان وقيل بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل وَكَفَرُوا بِاللَّهِ. فإن قلت من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد. قلت نعم فائدته أن ذكر الثاني لبيان قبح الأول فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق لبيان أن الباطل قبيح أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. قوله عز وجل وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث حيث قال «فأمطر علينا حجارة من السماء» وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قال ابن عباس ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا استأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقيل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب، وقيل الأجل بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 54 الى 60]
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أعاده تأكيدا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ أي يصيبهم مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء ما كنتم تعملون. قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
قيل نزلت في ضعفاء مسلمي أهل مكة يقول الله تعالى إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة فإنها واسعة آمنة، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج وقيل المعنى فهاجروا فيها أي فجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا(3/383)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
عملوا في الأرض بالمعاصي فاهربوا منها فإن أرضي واسعة وقيل إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيه بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى بلد تتهيأ له فيها العبادة وقيل معنى إن أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني كل أحد ميت خوفهم بالموت لتهون الهجرة عليهم فلا يقيموا بدار الشرك خوفا من الموت ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجزيكم بأعمالكم.
قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي علالي جمع غرفة وهي العلية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي لله بطاعته الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم وقيل صبروا على الهجرة ومفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يعتمدون على الله في جميع أمورهم. قوله عز وجل وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا بها ويسقينا فأنزل الله:
وكأين من دابة لا تحمل رزقها أي لا ترفع رزقها معها لضعفها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ حيث كنتم وَهُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالكم الْعَلِيمُ بما في قلوبكم عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقول «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» .
أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ومعناه أنها تذهب أول النهار جياعا ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعا ممتلئة البطون ولا تدخر شيئا قال سفيان بن عيينة ليس شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي» الروح: بضم الراء وبالعين المهملة هو القلب والعقل وبفتح الراء هو الخوف قال الله تعالى «فلما ذهب عن إبراهيم الروع» أي الخوف «أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذكر أمرين أحدهما: إشارة إلى اتحاد الذات والثاني إشارة إلى اتحاد الصفات وهي الحركة في الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ اللَّهُ(3/384)
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالرزق والله تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه إذا شاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله تعالى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى: وقيل قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء. قوله تعالى وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي. قوله عز وجل فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي تركوا الأصنام ولجئوا إلى الله تعالى بالدعاء فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة الله في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد وَلِيَتَمَتَّعُوا معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد. قوله عز وجل أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يعني العرب يسبي بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون أَفَبِالْباطِلِ يعني الشيطان والأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام يكفرون وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي فزعم أن له شريكا فإنه منزه عن الشركاء أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ معناه أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم. قوله عز وجل وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا لنثيبنهم ما قاتلوا عليه. وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا الله تعالى. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبد الله والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة والله أعلم.(3/385)
الم (1)
سورة الروم
مكية وهي ستون آية وتسع عشرة كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
قوله عز وجل الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن فارسا كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهرمان وبعث قيصر رجالا وجيشا وأمر عليهم رجلا يدعى بخين فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم فإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله هذه الآيات فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فو الله ليظهرن الروم على فارس. أخبرنا بذلك نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال كذبت: فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال: اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه والمناحبة بالحاء المهملة القمار والمراهنة أراهنك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإذا ظهرت فارس على الروم غرمت وإذا ظهرت الروم على فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك قبل تحريم القمار. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال لعلك ندمت فقال لا فتعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين فقال قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي ضامنا كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد قال: ثم رجع أبي بن خلف إلى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم وقيل كان يوم بدر وربطت الروم خيولهم بالمدائن وبنوا بالعراق مدينة وسموها رومية فقمر أبو بكر أبيّا وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك قبل أن يحرم القمار فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: تصدق به. وكان سبب غلبة الروم فارسا على ما قال عكرمة وغيره: أن شهرمان لما غلب الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب قال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهرمان إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس أخيك فرحان فكتب إليه أيها الملك إنك لم تجد مثل فرحان إن له(3/386)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
لنكاية وصولة في العدو، فلا تفعل فكتب إليه إن في رجال فارس خلفا عنه فعجل إليّ برأسه فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريدا إلى أهل فارس إني قد عزلت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان ثم بعث مع البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهرمان. وقال إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه الصحيفة، فلما وصل البريد إلى شهرمان عرض عليه كتاب كسرى فلما قرأه قال: سمعا وطاعة ونزل عن سرير الملك وأجلس عليه أخاه فرحان فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان فلما قرأها: استدعى بأخيه شهرمان وقدمه ليضرب عنقه فقال له لا تعجل حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعا بسفط ففتحه وأعطاه ثلاث صحائف منه وقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد قتلي بكتاب واحد فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان فكتب إلى قيصر ملك الروم أما بعد إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني في خمسين روميا حتى ألقاك في خمسين فارسيا فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق مخافة أن يريد أن يمكر به حتى أتاه عيونه فأخبروا أنه ليس معه إلا
خمسون فارسيا، فلما التقيا ضربت لهما فيها ديباج فدخلاها ومع كل واحد سكين ودعوا بترجمان يترجم بينهما فقال شهرمان: إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد بأن يقتل أخي فأبيت عليه ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه، وقد خلعناه جميعا ونحن نقاتله معك فقال: قد أصبتما وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوزهما فشا. فقتلا الترجمان معا بسكينيهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك وغلبوهم وقتلوهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية ففرح ومن كان معه من المسلمين بذلك فذلك قوله عز وجل الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ يعني أقرب أرض الشام إلى فارس وقيل هي أذرعات وقيل الأردن وقيل الجزيرة وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي فارس لهم سَيَغْلِبُونَ أي الروم لفارس.
[سورة الروم (30) : الآيات 4 الى 7]
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل إلى التسع وقيل ما دون العشر لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فمن غلب فهو بأمر الله تعالى وقضائه وقدره وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي الروم على فارس وقيل فرح النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وفرحوا بظهور أهل الكتاب على أهل الشرك يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي بيده النصر ينصر من يشاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ أي بالمؤمنين قوله تعالى وَعْدَ اللَّهِ أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أن الله لا يخلف وعده ثم قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أمر معاشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وقال الحسن إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطئ وهو لا يحسن يصلي. وقيل: لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها. وقيل يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي ساهون عنها لا يتفكرون فيها ولا يعلمون بها. قوله عز وجل:
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 18]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)(3/387)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ يعني لإقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي يسافروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي ينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي حرثوها وقلبوها للزراعة وَعَمَرُوها يعني الأمم الخالية أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها يعني أهل مكة وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فلم يؤمنوا فأهلكهم الله فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي بنقص حقوقهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ببخس حقوقهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي أساءوا العمل فاستحقوا السُّواى يعني الخلة التي تسوؤهم وهي النار وقيل السوء اسم لجهنم، ومعنى الآية أن عاقبة الذين عملوا السوء النار أَنْ كَذَّبُوا أي لأنهم كذبوا وقيل معنى الآية ثم كان عاقبة المسيئين أن حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ قوله تعالى اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي خلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي فيجزيهم بأعمالهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قيل: معناه أنهم ييأسون من كل خير وقيل: ينقطع كلامهم وحججهم وقيل يفتضحون وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ يعني أصنامهم التي عبدوها شُفَعاءُ أي يشفون لهم وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين متبرئين يتبرؤون منها وتتبرأ منهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز أهل الجنة من أهل النار. وقيل يتفرقون بعد الحساب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار فلا يجتمعون أبدا فهو قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أي في جنة وقيل الروضة البستان الذي هو في غاية النضارة يُحْبَرُونَ قال ابن عباس يكرمون وقيل يتنعمون ويسرون والحبرة السرور. وقيل في معنى يحبرون: هو السماع في الجنة. قال الأوزاعي: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم وقال: إذا أخذ في السماع فلا يبقى في الجنة شجرة إلا وردته، وسأل أبا هريرة رجل: هل لأهل الجنة من سماع؟ فقال: نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من فضة وثمارها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت يبعث الله ريحا فيجاوب بعضها بعضا فما يسمع أحد أحسن منه وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي البعث يوم القيامة فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ أي فسبحوا الله ومعناه صلوا لله حِينَ تُمْسُونَ أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس يحمده أهل السموات والأرض ويصلون له وَعَشِيًّا أي وصلوا لله عشيّا يعني صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر. قال نافع ابن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وقرأ هاتين الآيتين(3/388)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وقال: جمعتا الصلوات الخمس ومواقيتها. واعلم أنه إنما خص هذه الأوقات بالتسبيح لأن أفضل الأعمال أدومها والإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أول النهار وفي أول الليل وآخره فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين وكذلك باقي الركعات وهي سبع عشرة ركعة مع ركعتي الفجر فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار بقي عليه سبع ساعات في جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته في التسبيح والعبادة.
فصل في فضل التسبيح
عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» . أخرجهما الترمذي وقال فيهما حسن صحيح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» . وهذا الحديث أخرجه في صحيح البخاري (م) عن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعالى النهار فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرار لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (م) عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال «أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه قال كيف يكتسب ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة» . وفي رواية غير مسلم «يحط عنه أربعين ألفا» قوله تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 19 الى 27]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النطفة من الحيوان ويخرج الحيوان من النطفة. وقيل: يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وقيل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بالمطر وإخراج النبات منها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور للبعث والحساب وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم وهو(3/389)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
آدم من تراب ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي تنبسطون في الأرض وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جنسكم من بني آدم وقيل خلق حواء من ضلع آدم لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا للأزواج وتألفوهن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في عظمة الله وقدرته وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي اختلاف اللغات العربية والعجمية وغيرهما وقيل أراد أجناس النطق وأشكاله خالف بينهما حتى لا تكاد تسمع منطقين حتى لو تكلم جماعة من وراء حائط يعرف كل منهم بنطقه ونغمته لا يشبه صوت أحد صوت الآخر وَأَلْوانِكُمْ أي أسود وأبيض وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد ومن أصل واحد وهو آدم عليه السلام. والحكمة في اختلاف الأشكال والأصوات للتعارف أي ليعرف كل واحد بشكله وحليته وصوته وصورته فلو اتفقت الأصوات والصور وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وليعرف صاحب الخلق من غيره والعدو من الصديق والقريب من البعيد فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد. وفي ذلك دليل على سعة القدرة وكمال العظمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لعموم العلم فيهم وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي منامكم الليل للراحة وابتغاؤكم من فضله وهو طلب أسباب المعيشة بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر واعتبار وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي للمسافر ليستعد للمطر وَطَمَعاً أي للمقيم ليستعد المحتاج إليه من أجل الزرع وتسوية طرق المصانع وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي قدرة الله وأنه القادر عليه وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قال ابن عباس وابن مسعود قامتا على غير عمد وقيل يدوم قيامهما بأمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ قال ابن عباس من القبور إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي منها وقيل معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال ابن عباس كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي هو هين عليه وما من شيء عليه بعزيز وقيل معناه وهو أيسر عليه فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء وقيل: هو أهون على الخلق وذلك لأنهم يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهو رواية عن ابن عباس وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا قال ابن عباس: ليس كمثله شيء وقيل هو الذي لا إله إلا هو فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أي في ملكه الْحَكِيمُ في خلقه. قوله عز وجل:
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 33]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)(3/390)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي بين لكم شبها بحالكم ذلك المثل مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بين المثل فقال تعالى هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي عبيدكم وإمائكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي من المال فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ يعني هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر من شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمره دون شريكه ويخاف الرجل شريكه في الميراث وهو يحب أن ينفرد به. وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم ولا ترضوه لأنفسكم فكيف ترضون أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي الدلالات والبراهين والأمثال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون في هذه الدلائل والأمثال بعقولهم بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ أي في الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ جهلا بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي عن طريق الهدى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين يمنعونهم عن عذاب الله. قوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ يعني أخلص دينك لله وقيل سدد عملك والوجه ما يتوجه إلى الله تعالى به الإنسان ودينه وعمله مما يتوجه إليه ليسدده قوله تعالى حَنِيفاً أي مائلا إليه مستقيما عليه فِطْرَتَ اللَّهِ أي دين الله والمعنى الزموا فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال ابن عباس خلق الناس عليها والمراد بالفطرة الدين وهو الإسلام (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم قال اقرءوا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» . زاد البخاري «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا فطرة الله الآية ولهما في رواية «قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين» . قوله: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وضعت الخلقة عليها وإن عبد غير الله قال الله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ولكن لا اعتبار بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى إلى قوله: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فهو مع وجود الإيمان الفطري فإنه محكوم له بحكم أبويه الكافرين وهذا معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث آخر «يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته التي خلقه الله عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه على اعتقاد دينهما. وقيل معناه أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرت على لزومها لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول السليمة وإنما يعدل عنه من عدل إلى غيره لأنه من آفات التقليد ونحوه فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ثم تمثل لأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة بقوله «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء» . أي كما تلد البهيمة بهيمة مستوية لم يذهب من بدنها شيء وقوله «هل تحسون فيها من جدعاء يعني هل تشعرون أو تعلمون فيها من جدعاء وهي المقطوعة الأذن والأنف. قوله عز وجل لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين الله وقيل معنى الآية الزموا فطرة الله ولا تبدلوا التوحيد بالشرك. وقيل معنى لا تبديل لخلق الله هو جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا. وقيل الآية في تحريم إخصاء البهائم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي(3/391)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن خطاب النبيّ صلى
الله عليه وسلّم يدخل فيه الأمة والمعنى راجعين إلى الله تعالى بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة وَاتَّقُوهُ أي ومع ذلك خافوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي داوموا على أدائها في أوقاتها وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى وقيل هم أهل البدع من هذه الأمة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي راضون بما عندهم. قوله تعالى وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي قحط وشدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي مقبلين إليه بالدعاء ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خصبا ونعمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
[سورة الروم (30) : الآيات 34 الى 42]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة الله عليهم فَتَمَتَّعُوا فيه تهديد ووعيد خاطب به الكفار فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حالكم هذه في الآخرة أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً قال ابن عباس حجة وعذرا وقيل كتابا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أي ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بشركهم ويأمرهم به وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي الخصب وكثرة المطر فَرِحُوا بِها أي فرحوا وبطروا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب وقلة مطر وقيل خوف وبلاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من السيئات إذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة ويرجوه عند الشدة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تقدم تفسيره. قوله عز وجل فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من البر والصلة وَالْمِسْكِينَ أي حقه وهو التصدق عليه وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر وقيل الضيف ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يطلبون ثواب الله بما كانوا يعملون وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قوله عز وجل وَما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي في اجتلاب أموال الناس واجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة وهذا قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وكان هذا حراما على النبي خاصة لقوله تعالى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت وقيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه الله. وقيل: هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل ربح ماله لالتماس عونه لا لوجه الله تعالى فلا يربو عند الله لأنه لم يرد بعمله وجه الله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي أعطيتم من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي بتلك الصدقة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بسبب الشرك(3/392)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
والمعاصي ظهر قحط المطر وقلة النبات في البراري والبوادي والمفاوز والقفار والبحر. قيل المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية والعرب تسمي المصر بحرا تقول: أجدب البر وانقطعت مادة البحر وقيل البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ وذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء وتفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب شؤم ذنوبهم وقال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة. قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان البحر عذبا وكان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا. وقيل: إن الأرض امتلأت ظلما وضلالة قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث رجع راجعون من الناس وقيل أراد بالناس كفار مكة لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن الكفر وأعمالهم الخبيثة قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يعني فأهلكوا بكفرهم قوله عز وجل:
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 54]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ يعني لدين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الخلق يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يعني يتفرقون ثم ذكر الفريقين فقال تعالى مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ يعني وبال كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: ليثيبهم الله ثوابا أكثر من أعمالهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فيه تهديد ووعيد لهم. قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي تبشر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي بالمطر وهو الخصب وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي بهذه الرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ معناه لتطلبوا رزقه بالتجارة في البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي هذه النعم. قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي بالدلالات الواضحات على صدقهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
يعني(3/393)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
أنا عذبنا الذين كذبوهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي مع إنجائهم من العذاب ففيه تبشير للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء عن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا من كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الآية: وكان حقا علينا نصر المؤمنين» .
أخرجه الترمذي ولفظه: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» . وقال حديث حسن. قوله عز وجل اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً يعني تنشره فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ يعني مسيرة يوم أو يومين أو أكثر على ما يشاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا متفرقة فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من وسطه فَإِذا أَصابَ بِهِ يعني بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني يفرحون بالمطر وَإِنْ كانُوا أي وقد كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني آيسين فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر والمعنى انظر حسن تأثيره في الأرض وهو قوله تعالى كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني إن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي الزرع بعد الخضرة لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اصفرار الزرع يَكْفُرُونَ أي يجحدون ما سلف من النعمة والمعنى أنهم يفرحون عند الخصب ولو أرسلت عذابا على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بدأكم وأنشأكم على ضعف وقيل من ماء ذي ضعف وقيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنينا ثم طفلا مولودا ومفطوما فهذه أحوال الضعف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً يعني من بعد ضعف الصغر شبابا وهو وقت القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني هرما وَشَيْبَةً وهو تمام النقصان يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي من الضعف والقوة والشباب والشيبة وليس ذلك من أفعال الطبيعة بل بمشيئة الله وقدرته وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء.
قوله تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 60]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف المشركون ما لَبِثُوا أي في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ معناه أنهم استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة وقيل معناه ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يعني يصرفون عن الحق في الدنيا وذلك أنهم كذبوا في قولهم ما لبثوا غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا يبعثوا.
والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه وكان ذلك بقضاء الله وقدره ثم ذكر إنكار المؤمن عليهم كذبتهم فقال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه من اللبث في القبور وقيل معنى الآية وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان يعني الذين يقيمون كتاب الله قالوا للمنكرين قد لبثتم إلى يوم البعث أي في قبوركم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا تطلب منهم العتبى(3/394)
والرجوع في الآخرة وقيل لا تطلب منهم التوبة التي تزيل الجريمة لأنها لا تقبل منهم. قوله تعالى وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فيه إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يعني ما أنتم إلا على باطل وذلك على سبيل العناد. فإن قلت ما معنى توحيد الخطاب في قوله: ولئن جئتهم والجمع في قوله: إن أنتم إلا مبطلون. قلت فيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل ويمكن أن يقال معناه أنكم كلكم أيها الرسل مبطلون كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي توحيد الله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في نصرك وإظهارك على عدوك وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يعني لا يحملنك على الجهل وقيل لا يستخفن رأيك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ يعني بالبعث والحساب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(3/395)
الم (1)
سورة لقمان
مكية وهي أربع وثلاثون آية وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومائة وعشرة أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
قوله عز وجل الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ يعني الذين يعملون الحسنات، ثم ذكرهم فقال الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية قيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وكان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا ويقول إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن. فأنزل الله هذه الآية وقيل هو شراء القينات والمغنين، ومعنى الآية ومن الناس من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت أخرجه الترمذي وهذا لفظه عن أبي أسامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» وفي مثل هذا نزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار» وقال مكحول من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن ابن مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى يشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن. وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وقال إبراهيم النخعي الغناء ينبت النفاق وقيل: هو كل لهو ولعب وقيل: هو الشرك لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني عن دين الإسلام وسماع القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني يفعله عن جهل وحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وَيَتَّخِذَها هُزُواً أي يتخذ آيات الله مزحا أُولئِكَ يعني الذين هذه صفتهم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.(3/396)