إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
أريد بالإنسان الناس، فلذلك استثنى منه إلا المصلين. والهلع: سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم: ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس.
والخير: المال والغنى، والشرّ: الفقر. أو الصحة والمرض: إذا صحّ الغنى منع المعروف وشحّ بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصى. والمعنى: إن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه، كأنه مجبول عليهما مطبوع «1» ، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختيارى، كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع، ولأنه ذمّ والله لا يذمّ فعله، والدليل عليه: استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات، «2» حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «شرّ ما أعطى ابن آدم شحّ هالع وجبن «3» خالع» فإن قلت: كيف قال عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ثم على صلاتهم يحافظون؟ قلت: معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، كما روى عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) . قال محمود: «المعنى أن الإنسان لايثاره الجزع والمنع ورسوبهما فيه كأنه ... الخ» قال أحمد: هو يشرك باطنا وينزه ظاهرا، فينفى كون الهلع الذي هو موجود للآدمي مخلوقا لله تعالى تنزيها له عن ذلك، ويثبت خالقا مع الله، ويتغافل عن اقتضاء نظم الآية لذلك، فإنك إذا قلت: بريت القلم رقيقا، فقد نسبت إليك الحال وهو ترقيقه، كما نسب إليك البرى، وكذلك الآية. وأما قوله: والله لا يذم خلقه، فالله تعالى له الحمد على كل حال، وإنما المذموم العبد بحجة أنه جعل فيه اختيارا يفرق بالضرورة بين الاختياريات والقسريات ألا لله الحجة البالغة والله أعلم.
(2) . قوله: «وظلفوها عن الشهوات» في الصحاح: ظلف نفسه عن الشيء، أى: منعها من أن تفعله أو تأتيه. (ع)
(3) . أخرجه أبو داود وابن حبان وأحمد وإسحاق والبزار كلهم من طريق عبد العزيز بن مروان: سمعت أبا هريرة بهذا، لكن قال «شر ما في الرجل»(4/612)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
وسلم «أفضل العمل أدومه وإن قلّ» «1» وقول عائشة: كان عمله ديمة «2» . ومحافظتهم عليها:
أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسنتها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط «3» باقتراف المآثم، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها حَقٌّ مَعْلُومٌ هو الزكاة، لأنها مقدرة معلومة، أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة. السائل: الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له، ويشفقون من عذاب ربهم.
واعترض بقوله إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أى لا ينبغي لأحد وان بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه. وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء. قرئ: بشهادتهم وبشهاداتهم. والشهادة من جملة الأمانات. وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها. وفي زيها: تضييعها وإبطالها.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
كان المشركون يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا، يستمعون ويستهزءون بكلامه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم، فنزلت مُهْطِعِينَ مسرعين نحوك، مادّى أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك عِزِينَ فرقا
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة. [.....]
(2) . متفق عليه من حديثها رضى الله عنها.
(3) . قال محمود: «أى لا يتركونها في وقت ولا يحبطونها ... الخ» قال أحمد: حفظها من الإحباط نص عند أهل السنة على حفظها من الكفر خاصة، فلا يحبط ما سواء خلافا للقدرية، وقد تقدمت أمثاله والله أعلم.(4/613)
شتى جمع عزة، وأصلها عزوة، كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون. قال الكميت:
ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتّى عزينا «1»
وقيل: كان المستهزءون خمسة أرهط كَلَّا ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة، ثم علل ذلك بقوله إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ إلى آخر السورة، وهو كلام دال على إنكارهم البعث، فكأنه قال: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء، فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟ فإن قلت:
من أى وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث؟ قلت: من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أى من النطف، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيرا منهم، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة. ويجوز أن يراد:
إنا خلقناهم مما يعلمون، أى: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه.
ولذلك أبهم وأخفى: إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم. وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل. وقرئ: برب المشرق والمغرب. ويخرجون، ويخرجون. ومن الأجداث سراعا، بالإظهار والإدغام. ونصب، ونصب: وهو كل ما نصب فعبد من دون الله يُوفِضُونَ يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» «2» .
__________
(1) . الكميت. والكتائب: جمع كتيبة وهي الجماعة. وشتى: جمع شتيت، كمرضى ومريض، وعزين: جمع عزة، أصلها عزو، فعوضت التاء عن الواو، من عزاه إلى كذا، أى: نسبه إليه، لأن بعضها ينتسب إلى بعض.
أو لأنها تنتسب إلى رئيسها. أو إلى أصلها الأعلى، وهذا كناية عن قتله مع كثرة جيشه.
(2) . أخرجه الثعلبي والراحدى وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب،(4/614)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
سورة نوح
مكية، وهي ثمان وعشرون آية [نزلت بعد النحل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
أَنْ أَنْذِرْ أصله: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل: وهي أن الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له أنذر، أى: أرسلناه بالأمر بالإنظار. ويجوز أن تكون مفسّرة، لأنّ الإرسال فيه معنى القول. وقرأ ابن مسعود: أنذر بغير «أن» على إرادة القول. وأَنِ اعْبُدُوا نحو أَنْ أَنْذِرْ في الوجهين. فإن قلت: كيف قال وَيُؤَخِّرْكُمْ مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله مثلا أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أى: إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت، ولم تكن لكم حيلة، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)(4/615)
لَيْلًا وَنَهاراً دائبا من غير فتور مستغرقا به الأوقات كلها فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فرارا، لأنه سبب الزيادة. ونحوه فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، فَزادَتْهُمْ إِيماناً لِتَغْفِرَ لَهُمْ ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح لإعراضهم عنه. سدّوا مسامعهم عن استماع الدعوة وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وتغطوا بها، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل: لئلا يعرفهم، ويعضده قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ. الإصرار: من أصر الحمار على العانة «1» إذا صرّ أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها: استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها وَاسْتَكْبَرُوا وأخذتهم العزة من «2» اتباع نوح وطاعته، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم. فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السرو العلن، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف. قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:
في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى ثُمَّ الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين، أغلظ من إفراد أحدهما. وجِهاراً
__________
(1) . قوله «من أصر الحمار على العانة» هي القطيع من حمر الوحش، والكدم: العض بأدنى الفم. أفاده الصحاح. وفيه: صر الفرس أذنيه ضمها إلى رأسه، فإذا لم يوقعوا قالوا: أصر الفرس بالألف اه، يعنى: إذا لم يجعلوا الفعل متعديا إلى مفعول. (ع)
(2) . قوله «وأخذتهم العزة من اتباع نوح» لعله: عن. (ع)(4/616)
منصوب بدعوتهم، نصب المصدر لأنّ الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنه أراد بدعوتهم جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، بمعنى دعاء جهارا، أى: مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال، أى: مجاهرا.
أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي، وقدّم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة، ترغيبا في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين، كما قال وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة: حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة. وروى: سبعين.
فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضى الله عنه: أنه خرج يستسقى، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر «1» . شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ.
وعن الحسن: أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال. استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية. والسماء:
المظلة لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب، ويجوز أن يراد السحاب أو المطر، من قوله.
إذا نزل السّماء بأرض قوم «2»
والمدرار: الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال جَنَّاتٍ بساتين لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً لا تأملون له توقيرا أى تعظيما.
والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب «3» ، لِلَّهِ بيان للموقر،
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة والطبراني في الدعاء والطبري وغيرهم من رواية الشعبي: أن عمر ...
بهذا وزاد: ثم قرأ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع.
(2) .
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
تطلق السماء على المظلة، وعلى السحاب، وعلى المطر كما هنا، لما فيه من السمو والارتفاع، وتطلق على النبات مجازا، لأن المطر سببه، فلذلك قال: رعيناه، ففي الكلام استخدام، حيث أطلق السماء بمعنى، وأعاد عليها الضمير بمعنى آخر، والغضاب: جمع غضبان والمعنى: أننا شجعان دون غيرنا.
(3) . قال محمود: «ما لكم لا تكونون على حال يكون فيها تعظيم الله تعالى ... الخ» قال أحمد: وهذا التفسير يبقى الرجاء على بابه الخ.(4/617)
ولو تأخر لكان صلة للوقار. وقوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به، لأنه خلقكم أطوارا: أى تارات: خلقكم أوّلا ترابا، ثم خلقكم نطفا، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغا، ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر. أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وعن ابن عباس: لا تخافون لله عاقبة، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب، من «وقر» إذا ثبت واستقرّ. نبههم على النظر في أنفسهم أوّلا، لأنها أقرب منظور فيه منهم، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السماوات والأرض والشمس والقمر فِيهِنَّ في السماوات، وهو في السماء الدنيا، لأنّ بين السماوات ملابسة من حيث أنها طباق «1» فجاز أن يقال: فيهنّ كذا، وإن لم يكن في جميعهنّ، كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها. وعن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهما: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض «2» وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً والضياء: أقوى من النور. استعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث «3» ، لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات: ومنه قيل للحشوية: النابتة والنوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّلية لهم فيه «4» . ومنه قولهم: نجم فلان لبعض المارقة. والمعنى:
أنبتكم فنبتم نباتا. أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين ثم يُخْرِجُكُمْ يوم القيامة، وأكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقا ولا محالة. جعلها بساطا مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه فِجاجاً واسعة منفجة.
__________
(1) . قال محمود: «وإنما هو في السماء الدنيا لأن بين السماوات وبين السماء الدنيا مناسبة» قال أحمد: ويلاحظ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
(2) . حديث ابن عباس موقوف، أخرجه ابن مردويه في يونس من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عنه بهذا. بلفظ «وأقفيتهما إلى الأرض» وروى الحاكم منه ذكر القمر حسب. وحديث ابن عمر رضى الله عنهما مثله» أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمر: فذكره موقوفا. وروى الطبري من طريق هشام الدستوائى عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر. «تنبيه» وقع في الأصل ابن عمر مصحف. وإنما هو عمر ورضى الله عنهما.
(3) . قوله «أدل على الحدوث» لعله: أدل دليل على الحدوث. (ع)
(4) . قوله «من غير أولية لهم فيه» إن كان مراده بالحشوية أهل السنة، فأوليتهم في مذهبهم: الكتاب والسنة. (ع)(4/618)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
وَاتَّبَعُوا رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة خَساراً في الآخرة، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقا له وتثبيتا، وإبطالا لما سواه. وقرئ: وولده بضم الواو وكسرها وَمَكَرُوا معطوف على لم يزده، وجمع الضمير وهو راجع إلى من، لأنه في معنى الجمع والماكرون: هم الرؤساء.
ومكرهم: احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه. وقولهم لهم: لا تذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح مَكْراً كُبَّاراً قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار: أكبر من الكبير. والكبار: أكبر من الكبار، ونحوه: طوال وطوّال وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان ودّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث. وقيل هي أسماء رجال صالحين. وقيل: من أولاد آدم ماتوا، فقال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا، فلما مات أولئك قال لمن بعدهم:
إنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم. وقيل: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. وقرئ: ودّا، بضم الواو. وقرأ الأعمش: ولا يغوثا ويعوقا، بالصرف، وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة، ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا وسواعا ونسرا، كما قرئ:
وضحاها بالإمالة، لوقوعه مع الممالات للازدواج وَقَدْ أَضَلُّوا الضمير للرؤساء. ومعناه:
وقد أضلوا كَثِيراً قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيرا، يعنى أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام، كقوله تعالى إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. فإن قلت: علام عطف قوله(4/619)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ؟ قلت: على قوله رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ وبعد الواو النائبة عنه: ومعناه: قال رب إنهم عصوني، وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا، أى: قال هذين القولين وهما في محل النصب، لأنهما مفعولا «قال» كقولك: قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد، تحكى قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه. فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال: أن يخذلوا «1» ويمنعوا الألطاف «2» ، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك، لقوله تعالى وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً.
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 27]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27)
تقديم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وفي قراءة ابن مسعود: من خطيئاتهم ما أغرقوا، بتأخير الصلة، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهنّ. وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ: خطيئاتهم بالهمزة. وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها. وخطاياهم. وخطيئتهم. بالتوحيد على إرادة الجنس. ويجوز أن يراد الكفر فَأُدْخِلُوا ناراً جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم، لاقترابه، ولأنه كائن لا محالة، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر. ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير: أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله وأنها غير قادرة
__________
(1) . قوله «يخذلوا ويمنعوا مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر ولا يفعله، وأجيب: بأنه إنما دعا عليهم بذلك بعد أن أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون، حيث قال له: إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.
وهذا على مذهب أهل السنة الذين أجازوا أنه تعالى يفعل الشر كخلق الضلال في القلب، لأن فعله لا يخلو عن حكمة. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «كيف جاز أن يريد الضلال، وأجاب بأن المراد به منع الألطاف» قلت: هذا على قاعدته.(4/620)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا. دَيَّاراً من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيام وقيوم، وهو فيعال من الدور. أو من الدار، أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالا لكان دوّارا. فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه، ويقول: احذر هذا، فإنه كذاب، وإن أبى حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبره الله عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومعنى لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله عليه السلام «من قتل قتيلا فله سلبه» «1»
[سورة نوح (71) : آية 28]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
وَلِوالِدَيَّ أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخا بنت أنوش: كانا مؤمنين. وقيل. هما آدم وحواء. وقرأ الحسين بن على: ولولدي، يريد: ساما وحاما بَيْتِيَ منزلي. وقيل:
مسجدى. وقيل: سفينتي، خص أوّلا من يتصل به، لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات تَباراً هلاكا. فإن قلت: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت: غرقوا معهم لا على وجه العقاب «2» ، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.
__________
(1) . متفق عليه، وقد تقدم.
(2) . قال محمود: «ما موجب إغراقهم حين أغرقوا، وأجاب بأنهم ما أغرقوا لا على وجه العقاب ... الخ» قال أحمد: هذا السؤال مفصح عما في باطنه من وجوب تعليل أفعال الله تعالى، وعليه يبنى أنه لا يجوز الألم من الله تعالى إلا باستحقاق سابق، أو لأعواض مترقبة، أو لغير ذلك من المصالح، بناء على القاعدة لهم في الصلاح والأصلح والصبيان لا جناية سبقت منهم ولا عوض يترقب فيهم. فبرد السؤال على ذلك. وأما أهل السنة فالله تعالى قد تكفل الجواب عنهم بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهذا الكلام بالنظر إلى خصوص واقعة قوم نوح، وينجر الكلام منها إلى حكم الله علينا في العدو إذا خيف من مقاتلتهم بالآلات على ذراريهم أن ذلك لا يوجب الاكفاف عن مقاتلتهم بالآلات المهلكة لهم والمذرية، ويستدل برمي النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف بالمجانيق. وقيل له فيهم الذرية، فقال: هم من آبائهم، وأما رميهم بالنار وفيهم الذرية: فمنعه مالك رحمه الله، إلا أن يخاف غائلتهم فيرمون بها إن لم يندفعوا بغيرها، والله تعالى أعلم.(4/621)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
ومنه قوله عليه السلام «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى» «1» وعن الحسن:
أنه سئل عن ذلك فقال: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقيل: أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبى حين أغرقوا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» «2» .
سورة الجنّ
مكية، وآياتها 28 [نزلت بعد الأعراف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)
قرئ: أحى، وأصله وحى، يقال: أوحى إليه ووحى إليه، فقلبت الواو همزة، كما يقال:
أعد وأزن وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة، وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبى عبلة: وحى على الأصل أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح، لأنه فاعل أوحى. وإنا سمعنا: بالكسر: لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحى فتح، وما كان من قول الجنّ كسر:
وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين وَأَنَّ الْمَساجِدَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ ومن فتح كلهنّ فعطفا
__________
(1) . أخرجه مسلم من طريق ابن الزبير عن عائشة رضى الله عنها.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.(4/622)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل:
كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجنّ عددا وعامة جنود إبليس منهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا أى:
قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً، عَجَباً بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب. وفيه مبالغة: وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يدعو إلى الصواب. وقيل: إلى التوحيد والإيمان. والضمير في بِهِ للقرآن، ولما كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك: قالوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أى: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل، لأنّ قوله بِرَبِّنا يفسره جَدُّ رَبِّنا عظمته من قولك: جدّ فلان في عينى، أى: عظم. وفي حديث عمر رضى الله عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. وروى في أعيننا «1» . أو ملكه وسلطانه. أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت، لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون. والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. أو لسلطانه وملكوته. أو لغناه. وقوله مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً بيان لذلك. وقرئ: جدّا ربنا، على التمييز. وجدّ ربنا، بالكسر: أى صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان:
تنبهوا على الخطإ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولدا، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم، إذا أبعد فيه، أى: يقول قولا هو في نفسه شطط، لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله، وكان في ظننا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفترى عليه ما ليس بحق، فكنا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم كَذِباً قولا كذبا، أى: مكذوبا فيه. أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول. ومن قرأ: أن لن تقوّل: وضع كذبا موضع تقوّلا، ولم يجعله صفة، لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذبا.
[سورة الجن (72) : الآيات 6 الى 7]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
__________
(1) . لم أره عن عمر، بل هو عن أنس، كما مضى في البقرة.(4/623)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
والرهق: غشيان المحارم. والمعنى: أنّ الإنس باستعاذتهم بهم زادوهم كبرا وكفرا، وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا:
سدنا الجن والإنس، فذلك رهقهم. أو فزاد الجن الإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم وَأَنَّهُمْ وأنّ الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض.
وقيل: الآيتان من جملة الوحى. والضمير في وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا للجنّ، والخطاب في ظَنَنْتُمْ لكفار قريش.
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 9]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
اللمس: المس، فاستعير للطلب، لأنّ الماس طالب متعرّف. قال:
مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا ... إلى نسب في قومه غير واضع «1»
يقال: لمسه والتمسه وتلمسه «كطلبه وأطلبه وتطلبه» ونحوه: الجس. وقولهم جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحرّاس، كالخدم في معنى الخدّام، ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل:
شدادا، ونحوه
أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا «2»
لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع
__________
(1) .
مسسنا عن الآباء شيئا فكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بنى عمكم كانوا كرام المضاجع
ليزيد بن الحاكم الكلابي. ومسسنا: أى نلنا، فالمس مجاز مرسل، فكل منا ينتمي إلى نسب في قومه غير منخفض ويروى: إلى حسب، فاستوينا من جهة الآباء في التفاخر، فلما بلغنا فيه ذكر الأمهات وجدتم أقاربكم كرام المضاجع كناية عن الأزواج. أو عبر باسم المحل عن الحال فيه، وهن الأزواج مجازا مرسلا، وكرم النساء مذموم، لأنه كناية عن الخنا، كما يكنى ببخلهن عن العفة، فلسنا سواء في الأمهات.
(2) .
أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا ... والذئب أخشاه وكلبا عاويا
الرجيل: تصغير رجل. والركيب: تصغير ركب. غاديا: أى سائرا في الغداة على العادة. يقول: أخاف لهرمى.
وضعفى الرجل الصغير والركب القليل. والذئب: نصب بمضمر، كالمذكور على الاشتغال. أى: وأخشى الذئب وكلبا عطف عليه. أو نصب بمضمر، أى: وأخشى كلبا عاويا. والجملة معطوفة على جملة «أخشى رجيلا» وعيد الكلب بكونه علويا، لئلا يتوهم كذبه في دعواه.(4/624)
للراصد، على معنى: ذوى شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب، بمعنى الراصد أو كقوله:
...... ومعى جياعا «1»
يعنى. يجد شهابا راصدا له ولأجله. فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال الله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فذكر فائدتين «2» في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟ قلت: قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث، وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية. قال بشر بن أبى خازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب «3»
__________
(1) . قوله: «ومعى جياعا» في الصحاح المعى واحد الأمعاء والجياع جمع الجائع. وأول البيت:
كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غزرا ومعى جياعا
والقتود: جمع قتد، وهو خشب الرحل. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت كأن الرجم لم يكن في الجاهلية. وقد قال تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فذكر فائدتى الزينة والرجم ... الخ» قال أحمد: ومن عقائدهم أن الرشد والضلال جميعا مرادان لله تعالى بقولهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل، والمراد بالمريد: هو الله عز وجل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد، فجمعوا بين العقيدة الصحيحة والآداب المليحة.
(3) .
والعير يرهقها الحبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
فعلاهما سبط كأن ضبابه ... محبوب صادات دواجر تنضب
فتجاريا شأوا بطيئا مثله ... هيهات شأوهما وشأو التولب
لبشر بن أبى خازم. والعير: الحمار يرهقها: يكلفها، أى: الأتان. والجبار- بضم المهملة، وقيل بفتحها-:
الأثر من كل شيء، وبالمعجمة: الأرض اللينة. وروى: الغبار، والانقضاض: الاسراع، والسبط: الغبار الممتد، والضباب: ندى يغشى الأرض بالغدوات. والصاد: الديك الذي ينكت التراب فيثير غباره، ويطلق على القدر من النحاس ومن البرام، وعلى داء في الرأس يداوى بالكي بالنار. قيل: وعلى العلم، وفسر به هنا. والدواجر:
التواشط، من دجر إذا نشط سرورا، أو المظلمات. والليل الدجور والديجور: المظلم. وتنضب: اسم شجر دخانه أبيض، وعلم على قرية قريبة من مكة. والشأو: الطلق، يقال: شأى كسهى، إذا سبق غيره. والتولب:
الجحش إذا مضى عليه سنة واحدة، يقول: إن حمار الوحش يكلف أتانه اقتفاء أثره عند الجري، وجحشها يسرع خلفها كاسراع شهاب الرجم، فارتفع فوقهما ممتد من الغبار، كأن ما أشبه الضباب منه غبار أثارته الديكة لأنها تحبه، وكأنه مرتفع «خان ذلك الشجر أو مظلمة، لأنه يحجب الضوء وإن كان أبيض، فدواجر خبر بعد خبر.
ويجوز أنه على حذف العاطف، فقد أجازه السيرافي وابن عصفور وابن مالك، ومنعه ابن جنى والسهيلي، وخرجا ما يوهمه على بدل الاضراب، ويجوز ذلك هنا أيضا، فشبه التيار بثلاثة أشياء، ثم قال: فتجاريا شوطا طويلا مثله، وإثبات البعد للمثل كناية عن إثباته للشأو. ويحتمل أن ضمير مثله للجحش، فهو بالنصب. ثم قال: بعد ما بين شوطهما وشوطه كأنه تأخر. ويحتمل أن المعنى: بعد كل من الشوطين وطال.(4/625)
وقال أوس بن حجر:
وانقضّ كالدّرّي يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا «1»
وقال عوف بن الخرع:
يردّ علينا العير من دون إلفه ... أو الثّور كالدّرّىّ يتبعه الدّم «2»
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلا. وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس رضى الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟
فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم «3» . وفي قوله مُلِئَتْ دليل على أن الحادث هو المل والكثرة، وكذلك قوله نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أى كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.
__________
(1) . لأوس بن حجر يصف فرسا بشدة العدو والسرعة، كالكوكب الدري نسبة للدر لصفاته، أو مأخوذ من الدرء لدرئه الظلام، يتبعه: أى الفرس نقع، أى غبار ينتشر تظنه طنبا بضمتين، وهو حبل الخيمة كما يتبع الدري شعاعه ممتدا عند هويه، فقد شبه النقع بالطنب تصريحا، وبشعاع الكوكب: ضمنا.
(2) . لعوف بن الخرع، يصف فرسا بشدة العدو في الصيد، وأنه يرد عليه الحمار الوحشي حال كونه. أى الحمار من دون إلفه أى بقربه أو يرده من دونه، أى من قربه، وإذا رده من جنب ألفه كان رده وهو وحده أهون عليه، لأنه إذا كان مع إلفه كان أشد فرارا. ويجوز أن المعنى: حال كون الحمار بدون إلفه أى منفردا لا إلف معه يوجب ارتباكه. أو يرد علينا الثور الوحشي حال كونه، أى الثور، كالدرى. أو حال كون الفرس كالدرى، أى: كالكوكب نسبة للدر لصفاء جوهره وإضاءته. أو من الدرة، أى: الدفع، لأنه يدرؤ الظلام حال كون الكوكب يتبعه عند سقوطه من السماء خط أحمر من ضوئه يشبه الدم، فالدم: استعارة مصرحة.
(3) . أخرجه مسلم من رواية الأوزاعي عن الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس أخبرنى رجال من الأنصار، وقال «بينما هم جلوس- فذكره مطولا» ورواه الترمذي من رواية معمر عن الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس قال «بينما- فذكره» ولم يقل: أخبرنى رجال. [.....](4/626)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
[سورة الجن (72) : آية 10]
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق، قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شرا أو رشدا، أى: خيرا، من عذاب أو رحمة، أو من خذلان أو توفيق.
[سورة الجن (72) : آية 11]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11)
مِنَّا الصَّالِحُونَ منا الأبرار المتقون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، كقوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه.
أو أرادوا الطالحين كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً بيان للقسمة المذكورة، أى: كنا ذوى مذاهب مفترقة مختلفة. أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنا في طرائق مختلفة، كقوله:
كما عسل الطّريق الثّعلب «1»
أو كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه والقدّة من قدّ، كالقطعة من قطع، ووصفت الطرائق بالقدد، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق.
[سورة الجن (72) : آية 12]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
فِي الْأَرْضِ وهَرَباً حالان، أى: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم:
منهم أخيار، وأشرار، ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أنّ الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب.
[سورة الجن (72) : آية 13]
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13)
لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى هو سماعهم القرآن وإيمانهم به فَلا يَخافُ فهو لا يخاف، أى فهو غير خائف، ولأنّ الكلام في تقدير مبتدإ وخبر دخلت الفاء، ولولا ذاك لقيل: لا يخف. فإن
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 92 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/627)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
قلت: أى فائدة: في رفع الفعل وتقدير مبتدإ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال. لا يخف؟ قلت: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل:
فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وقرأ الأعمش: فلا يخف، على النهى بَخْساً وَلا رَهَقاً أى جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد «1» فلا يخاف جزاءهما. وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم» «2» ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة، من قوله عز وجل وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
[سورة الجن (72) : الآيات 14 الى 15]
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
الْقاسِطُونَ الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه:
أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فىّ؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله تعالى أَمَّا الْقاسِطُونَ
وقوله تعالى ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أنّ الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعدا أن قال فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.
[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 17]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أن مخففة من الثقيلة، وهو من جملة الموحى. والمعنى: وأوحى إلىّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى، أى: لو ثبت أبوهم الجان على ما كان
__________
(1) . قوله «ولا رهق ظلم أحد» في الصحاح: رهقه بالكسر يرهقه رهقا، أى: غشيه. (ع)
(2) . أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد بهذا. وأتم منه. وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» وأخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم. وعن أنس أخرجه ابن حبان والحاكم أيضا. وعن أبى مالك الأشعرى وواثلة بن الأسقع، أخرجهما الطبراني مطولا. وأخرج حديث واثلة أبو يعلى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه عبد بن حميد.(4/628)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها.
وقرئ بهما، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خوّلوا منه. ويجوز أن يكون معناه: وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاسماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم، لنفتنهم فيه: لتكون النعمة سببا في اتباعهم شهواتهم، ووقوعهم في الفتنة، وازديادهم إثما، أو لنعذبهم في كفران النعمة عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه يَسْلُكْهُ وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة، أى: ندخله عَذاباً والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ فعدّى إلى مفعولين: إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وإمّا بتضمينه معنى «ندخله» يقال: سلكه وأسلكه. قال:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة «1»
والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أى يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. ومنه قول عمر رضى الله عنه: ما تصعدنى شيء ما تصعدتنى خطبة النكاح «2» ، يريد: ما شق علىّ ولا غلبني.
[سورة الجن (72) : آية 18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
وَأَنَّ الْمَساجِدَ من جملة الموحى. وقيل معناه: ولأن المساجد لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا على أنّ اللام متعلقة بلا تدعوا، أى: فلا تدعوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في المساجد، لأنها لله خاصة ولعبادته.
وعن الحسن: يعنى الأرض كلها، لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجدا. وقيل: المراد بها المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد. ومنه قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وعن قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد. وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب: وهي الجبهة، والأنف، واليدان،
__________
(1) . قوله «إذا أسلكوهم في قتائدة» في الصحاح: «قتائدة» اسم عقبة. قال عبد مناف بن ربع:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
والشل: الطرد. والشرد: جمع شارد، كالخدم جمع خادم. (ع)
(2) . حدثني أبو عبيدة في الغريب من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بهذا، وهو منقطع.(4/629)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
والركبتان، والقدمان «1» » . وقيل: هي جمع مسجد وهو السجود.
[سورة الجن (72) : آية 19]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
عَبْدُ اللَّهِ النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: هلا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلت:
لأن تقديره: وأوحى إلىّ أنه لما قام عبد الله. فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل. أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا. ومعنى قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ قام يعبده، يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أى يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. وقيل معناه: لما قام رسولا يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه: كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين لِبَداً جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها «لبدة الأسد» وقرئ: لبدا واللبدة في معنى اللبدة، ولبدا: جمع لا بد، كساجد وسجد. ولبدا بضمتين: جمع لبود، كصبور وصبر. وعن قتادة: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه. فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه. ومن قرأ: وإنه، بالكسر: جعله من كلام الجن: قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به.
[سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 28]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
__________
(1) . أخرجه البزار من حديث العباس بهذا اللفظ، لكن قال «الوجه عوض الجبهة والأنف» ورواه الأربعة في السنن من حديثه بلفظ «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وقدماء وركبتاه» وفي الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وفي لفظ «أعضاء» وعند أبى داود «أمرت» وقال «أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة آراب»(4/630)
قُلْ للمتظاهرين عليه «1» إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي يريد: ما أتيتكم بأمر منكر، إنما أعبد ربى وحده وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً وليس ذاك مما يوجب إطباقكم على مقتى وعداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضى الإشراك به بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكا. أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلا رَشَداً ولا نفعا. أو أراد بالضر: الغىّ، ويدل عليه قراءة أبىّ «غيا ولا رشدا» والمعنى: لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم، إنما الضارّ والنافع الله «2» . أو لا أستطيع أن أقسركم على الغىّ والرشد، إنما القادر على ذلك الله عز وجل:
وإِلَّا بَلاغاً استثناء منه. أى لا أملك إلا بلاغا من الله «3» . وقُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفى الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه، على معنى أنّ الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما: لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوى إليه:
والملتحد الملتجأ، وأصله المدّخل، من اللحد. وقيل: محيصا ومعدلا. وقرئ: قال لا أملك،
__________
(1) . قوله «قال للمتظاهرين عليه» هذه قراءة غير عاصم وحمزة، كذا في النسفي، وهو يفيد أن قراءتهما قُلْ بصيغة الأمر، كأنه سقط من كلام المصنف ذكر هذه القراءة فليحرر.
(2) . قال محمود: «معناه أى لا أستطيع أن أنفعكم أو أضركم إنما النافع والضار الله عز وجل ... الخ» قال أحمد: في الآية دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يملك لعباده الرشد والغى أى يخلقهما لا غير، فان النبي صلى الله عليه وسلم إنما سلب ذلك عن قدر» ليمحض إضافته إلى قدرة الله وحده، وفطن الزمخشري لذلك فأخذ يعمل الحبل، فتارة يحمل الرشد على مطلق النفع، فيضيف ذلك إلى الله تعالى، وتارة يكنع عنه لأن فيه إبطالا لخصوصية الرشد المنصوص عليه في الآية، فيثور له من تقليده الرأى الفاسد ثوائر تصرفه عن الحق وعن اعتقاد أن الله تعالى هو الذي يخلق الرشد لعبيده مقارنا لاختيارهم، فيدخل زيادة القسر، لأن معنى ما ورد من إضافة الرشد إلى قدرة انه تعالى عندهم أنه يخلق أن يخضع لها الرقاب، فيخلق العبد لنفسه عند ظهورها رشدا. فيضاف إلى قدرة الله تعالى، لأنه خلق السبب وهو في الحقيقة مخلوق بقدرة العبد «هذه قاعدة القدرية وعقيدتهم، وما الجن بعد هذا إلا أوفر منهم عقلا وأسد منهم نظرا، لأنهم قالوا: وأنا لا ندرى أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، فأضافوا الرشد نفسه إلى إرادة الله عز وجل وقدرته.
(3) . قال محمود: «هو اعتراض. وقوله إِلَّا بَلاغاً استثناء من قوله لا أَمْلِكُ أى لا أملك لكم إلا بلاغا.
وقيل بلاغا يدل من ملتحدا ... الخ» قال أحمد: فيكون تقدير الكلام: بلاغا من الله مستفادا من قوله قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً.(4/631)
أى قال عبد الله للمشركين أو للجن. ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. وقيل بَلاغاً بدل من مُلْتَحَداً أى: لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلنى به. وقيل: إِلَّا هي «إن لا» ومعناه: أن لا أبلغ بلاغا، كقولك: إن لا قياما فقعودا وَرِسالاتِهِ عطف على بلاغا، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات. والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله فأقول:
قال الله كذا، ناسبا لقوله إليه، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلنى بها من غير زيادة ولا نقصان.
فإن قلت: ألا يقال: بلغ عنه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «بلغوا عنى بلغوا عنى» ؟ «1» قلت: من ليست بصلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة من في قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ بمعنى بلاغا كائنا من الله. وقرئ: فأن له نار جهنم، على: فجزاؤه أنّ له نار جهنم، كقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أى:
فحكمه أنّ لله خمسه. وقال خالِدِينَ حملا على معنى الجمع في من. فإن قلت: بم تعلق «حتى» ، وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من يوم بدر وإظهار الله له عليهم. أو من يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ أنهم أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال: من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ قال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له، فقيل قُلْ إنه كائن لا ريب فيه، فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فما أدرى متى يكون، لأنّ الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. فإن قلت: ما معنى قوله أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً والأمد يكون قريبا وبعيدا ألا ترى إلى قوله تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدرى أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية أى: هو عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ فلا يطلع. ومِنْ رَسُولٍ تبيين لمن ارتضى، يعنى: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى. وفي هذا إبطال للكرامات «2» ، لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل «3» . وقد
__________
(1) . أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي بلفظ «بلغوا عنى ولو آية ... الحديث» .
(2) . قوله «وفي هذا إبطال للكرامات» إبطالها مذهب المعتزلة، وإثباتها مذهب أهل السنة، وهي لا تنحصر في الاخبار بالغيب. (ع)
(3) . قال محمود: «إبطال للكرامات، لأنه حصر ذلك في المرتضى من الرسل، والولي وإن كان من المرتضين ... الخ» قال أحمد: ادعى عاما واستدل خاصا، فان دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها، والمدلول عليه بالآية إبطال اطلاع الولي على الغيب خاصة، ولا يكون كرامة وخارق للعادة إلا الاطلاع على الغيب لا غير، وما القدرية إلا ولهم شبهة في إبطالها، وذلك أن الله عز وجل لا يتخذ منهم وليا أبدا وهم لم يحدثوا بذلك عن أشياعهم فط، فلا جرم أنهم يستمرون على الإنكار ولا يعلمون أن شرط الكرامة الولاية، وهي مسلوبة عنهم اتفاقا وأما سلب الايمان فمسألة خلاف، فما أطمع من يكون إيمانه مسألة خلاف وهو يريد الكرامة لأنه لم يؤتها والله الموفق.(4/632)
خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يدي من ارتضى للرسالة وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحى به إليه. وعن الضحاك: ما بعث نبىّ إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك لِيَعْلَمَ الله أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يعنى الأنبياء: وحد أولا على اللفظ في قوله مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ثم جمع على المعنى، كقوله فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي، محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ وقرئ:
ليعلم، على البناء للمفعول وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ بما عند الرسل من الحكم والشرائع، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفا، فهو مهيمن عليها حافظ لها وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً من القطر والرمل وورق الأشجار، وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه.
وعددا: حال، أى: وضبط كل شيء معدودا محصورا. أو مصدر في معنى إحصاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جنى صدق محمدا صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/633)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
سورة المزمل
مكية [إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية] وآياتها 19 وقيل 20 [نزلت بعد القلم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
الْمُزَّمِّلُ المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه: أى تلفف بها، بإدغام التاء في الزاى:
ونحوه: المدثر في المتدثر. وقرئ: المتزمّل على الأصل والمزمل بتخفيف الزاى وفتح الميم وكسرها. على أنه اسم فاعل أو مفعول، من زمله، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، فنبه ونودي بما يهجن إليه «1» الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن. ألا ترى إلى قول ذى الرمّة:
وكائن تخطّت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمّل «2»
__________
(1) . قال محمود: «هو المتلفف في ثيابه كالمدثر ونودي بما يهجن إليه ... الخ» قال أحمد: أما قوله الأول أن نداءه بذلك تهجين للحالة التي ذكر أنه كان عليها واستشهاده بالأبيات المذكورة. فخطأ وسوء أدب. ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والاحترام: علم بطلان ما تخيله الزمخشري، فقد قال العلماء: أنه لم يخاطب باسمه نداء، وأن ذلك من خصائصه دون سائر الرسل إكراما له وتشريفا، فأين تداؤه بصيغة مهجنة من نسائه، باسمه، واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذما في جفاة حفاة من الرعاء، فأنا أبرأ إلى الله من ذلك وأربأ به صلى الله عليه وسلم، ولقد ذكرت بقوله:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما وقعت عليه من كلام ابن خروف النحوي يرد على الزمخشري ويخطئ رأيه في تصنيفه المفصل، وإجحامه في الاختصار بمعاني كلام سيبويه، حتى سماه ابن خروف: البرنامج، وأنشد عليه:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وأما ما نقله أن ذلك كان في مرط عائشة رضى الله عنها فبعيد، فان السورة مكية، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضى الله عنها بالمدينة. والصحيح في الآية ما ذكره آخرا، لأن ذلك كان في بيت خديجة عند ما لقبه جبريل أول مرة، فبذلك وردت الأحاديث الصحيحة، والله أعلم. [.....]
(2) . لذي الرمة. وكائن: بمعنى كم الخيرية، والأكثر استعمالها مع «من» كقول: وكائن من كذا. والمتزمل المتلفف في ثيابه عند كثرة النوم، يقول: كثيرا من المفاوز تخطته ناقتي وسارته، وكثيرا من نائم وغافل عن ليلها- أى: المفازة أو الناقة- متكاسل عما فيه من عظائم الأمور، فالمتزمل كناية عن ذلك.(4/634)
يريد: الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب، ونحوه:
فأنت به حوش الفؤاد سبطّنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل «1»
وفي أمثالهم:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل «2»
__________
(1) .
ولقد سربت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقل
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
ومبرأ من كل غير حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
حملت به في ليلة مزؤدة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
لأبى كبير الهذلي يصف مأبط شرا، واسمه: جابر بن ثابت، تزوج الهذلي بأمه بعد جابر فخاف منه، فأغرته على قتله فخرج به متحيلا لذلك فلم يقدر، فمدحه بالشجاعة والفطنة: يقول: سرت ليلا في الظلمة بمغشم، أى مع فتى يقدم على الأمر بلا مبالاة ولا تدبير ولا خوف عاقبة، مع جراءة، جلد، أى: صلب صبور غير مثقل، أى: خفيف في السير منزه عن كل ما يوجب الضعف والثباطؤ، وبينه بقوله: ممن حملن. أى: هو ممن حملن، أى جنس النسوة به، أو هو بعض الفتيان الذين حملت بهم النسوة، وأفرد ضمير «به» مراعاة للفظ «من» وضمن العمل معنى العلوق، فعداه بالباء، وإلا فهو يتعدى بنفسه. والحبك: جمع حباك كخزام. أو جمع حبيك أو حبيكة، وهو الخيوط التي يحبك بها النطاق. والمهبل: المدعو عليه بالهبل، أى، الثكل والفقد. والغبر- بالضم فالتشديد-: بقية الحيض وغيره، وكذلك الغبر- بالضم وبالفتح مع السكون. والغابر: الباقي والذاهب. ويجوز أن غبر: جمع غابر، وغبر يغبر غبورا- كدخل-: بقي وذهب، أى: لم تحمل به أمه في زمن بقية الحيض. ومرضع: من الصفات المختصة بالمؤنث، والغالب تجريدها من التاء، فما هنا على خلاف الغالب. والغيلة: إحبال الرجل امرأته وهي ترضع ولدها: فيمرض، فالمغيل: الممرض بالغيلة. وفي حديث مسلم: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم، وكان القياس في مغيل إعلاله كمقيم ومبين ومعين، لكن جاء على الأصل شذوذا للضرورة، وروى معضل، أى معى ومعجز للأطباء. وزأده- كذعره: إذا خوفه، فهو مزؤود ومذعور فالمزءودة: المخوفة، وتخويف الليلة مجاز عقلى: كشربت الكوز. والخوف في الحقيقة المرأة. ويروى بالنصب على الحال، لكن يضيع ذكر ليلة، إلا أن يقدر وصفها بمظلمة، والنطاق: ما يشد به الوسط. وحوش الفؤاد بالضم وحشى القلب لحدته وتوقده ونفوره عن الناس. والرجل الحوش والحوشى: الذي يجانب الناس مبطنا خميص البطن منضمره: سهدا- بضمتين-: كثير السهاد أى السهر: وإسناد النوم إلى الليل مجاز عقلى، وإنما النائم الهوجل:
وهو الرجل الطويل الأحمق، ومن تجربة العرب: أن المرأة إذا حملت بولدها كارهة غير مستعدة للوطء: جاء ولدها نجيبا، حكى عن أم تأبط شرا أنها قالت فيه: والله إنه الشيطان، ما رأيته ضاحكا قط، ولا هم بشيء في صباء إلا فعله، ولقد حملت به في ليلة ظلماء، وإن نطاقى لمشدود، وذلك يدل على نجابته وشجاعته.
(2) . لمالك بن زيد مناة يخاطب أخاه، وكان قد بنى على امرأته فلم يحسن سعد القيام بأمر الإبل، فقال: أوردها سعد إلى الماء والحال أنه مشتمل متلفف بثيابه لا متشمر. وذكر الظاهر مكان المضمر: فيه نوع من التوبيخ.
ما هكذا تورد، أى: تساق إلى الماء، وكان معرضا عنه فالتفت إليه ونداؤه نداء البعيد: دلالة على أنه بليد.
وحق هاء التنبيه: الدخول على اسم الاشارة، لكن قدمت على كاف التشبيه مبادرة واهتماما بالتنبيه. ويروى بدل الشطر الثاني: يا سعد ما تروى بهذا كالإبل. وهذاك اسم إشارة، وصار هذا البيت يضرب مثلا لكل من لم يحسن القيام بشأن ما تولاه.(4/635)
فذمه بالاشتمال بكسائه، وجعل ذلك خلاف الجلد والكبس، وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمل التشمر، والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله، لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم، فخفف عنهم. وقيل: كان متزملا في مرط لعائشة «1» يصلى، فهو على هذا ليس بتهجين، بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. وعن عائشة رضى الله عنها: أنها سئلت ما كان تزميله؟
قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علىّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلى، فسئلت:
ما كان؟ قالت: والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزى «2» ولا إبريسما ولا صوفا: كان سداه شعرا ولحمته وبرا «3» . وقيل: دخل على خديجة، وقد جئث فرقا «4» أول ما أتاه جبريل وبوادره ترعد، فقال: زملوني زملوني، وحسب أنه عرض له، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: يا أيها المزمل «5» . وعن عكرمة: أنّ المعنى: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما، أى: حمله. والزمل:
الحمل. وازدمله: احتمله. وقرئ: قم الليل بضم الميم وفتحها. قال عثمان بن جنى: الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأى الحركات تحرّك فقد وقع الغرض نِصْفَهُ بدل من الليل. وإلا قليلا: استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف، والمعنى: التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. وإن شئت جعلت
__________
(1) . قوله «وقيل كان متزملا في مرط لعائشة» كيف والسورة مكية. (ع)
(2) . قوله «ولا مرعزى» المرعزى الزغب الذي تحت شعر العنز اه صحاح. (ع)
(3) . لم أره هكذا ومن قوله «ما كان خزا» رواه البيهقي في الدعوات من حديثها في ليلة النصف من شعبان «انسل النبي صلى الله عليه وسلم من مرطى. ثم قالت: والله ما كان مرطى من حرير ولا قز. ولا كتان ولا كرسف ولا صوف. فقلنا: من أى شيء كان؟ قالت: إن كان سداه لمن شعر وإن كانت لحمته لمن وبر» .
(4) . «قوله وقد جئث فرقا» أى أفزع، فهو مجؤوث: أى مذعور، كذا في الصحاح. وفيه البوادر من الإنسان وغيره: اللحمة التي بين المنكب والعنق. (ع)
(5) . لم أره هكذا. وأصله في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها.(4/636)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
نصفه بدلا من قليلا، وكان تخييرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه، وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل، وإن شئت قلت: لما كان معنى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ إذا أبدلت النصف من الليل، قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل. أو:
قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث.
ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسرته به أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف: وهو الربع، كأنه قيل. أو انقص منه قليلا نصفه. وتجعل المزيد على هذا القليل، أعنى الربع، نصف الربع كأنه قيل: أو زد عليه قليلا نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييرا بين النصف والثلث والربع. فإن قلت: أكان القيام فرضا أم نفلا؟ قلت: عن عائشة رضى الله عنها أنّ الله جعله تطوّعا بعد أن كان فريضة. وقيل: كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بهنّ إلا ما تطوّعوا به. وعن الحسن: كان قيام ثلث الليل فريضة، وكانوا على ذلك سنة. وقيل: كان واجبا، وإنما وقع التخيير في المقدار، ثم نسخ بعد عشر سنين. وعن الكلبي: كان يقوم الرجل حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين، ومنهم من قال: كان نفلا بدليل التخيير في المقدار، ولقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ.
ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل: وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وألا يهذه هذا ولا يسرده سردا «1» ، كما قال عمر رضى الله عنه: شر السير الحقحقة. وشر القراءة الهذرمة، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص «2» . وسئلت عائشة رضى الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. وتَرْتِيلًا تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه ما لا بد منه للقارئ.
[سورة المزمل (73) : آية 5]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
هذه الآية اعتراض، ويعنى بالقول الثقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي
__________
(1) . قوله «وأن لا يهذّه هذّا ولا يسرده» الهذ: الاسراع. والسرد: التتابع. والحقحقة: شدة السير.
والألص: متقارب الأسنان. أفاده الصحاح. وفيه «الهذرمة» سرعة القراءة. (ع)
(2) . لم أره عنه من رواية منصور، وإنما قال أبو عبيد بن قتيبة في الغريب قال عمر «شر القراءة الهزرمة» وأخرجه الخطيب في الجامع من رواية منصور بن جعفر قال: قرأت على أبى محمد بن درستويه. قال: قرأنا على ابن قتيبة بهذا وروى ابن المبارك في الزهد من رواية الحسن قال «كان يقال: شر السير الجعجعة» ورواه ابن عدى مرفوعا من رواية الحسن بن دينار عن الحسن بن أبى هريرة. والحسن بن دينار ضعيف.(4/637)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته، فهي أثقل عليه وأبهظ له، وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن، لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كان إذا نزل عليه الوحى ثقل عليه «1» وتربد له «2» جلده. وعن عائشة رضى الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليرفض عرقا «3» . وعن الحسن: ثقيل في الميزان. وقيل:
ثقيل على المنافقين. وقيل: كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف.
[سورة المزمل (73) : آية 6]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
ناشِئَةَ اللَّيْلِ النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة «4» ، أى: تنهض وترتفع، من نشأت السحابة: إذا ارتفعت. ونشأ من مكانه ونشز: إذا نهض، قال:
نشأنا إلى خوص برى نيّها السّرى ... وألصق منها مشرفات القماحد «5»
وقيام الليل، على أنّ الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة: كالعاقبة. ويدل عليه ما روى عن عبيد بن عمير: قلت لعائشة: رجل قام من أوّل الليل، أتقولين له قام ناشئة؟
قالت لا، إنما الناشئة القيام بعد النوم. ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع أو العبادة التي تنشأ بالليل، أى: تحدث، وترتفع. وقيل: هي ساعات الليل كلها، لأنها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل:
الساعات الأول منه. وعن على بن الحسين رضى الله عنهما أنه كان يصلى بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله تعالى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هذه ناشئة الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً هي خاصة دون ناشئة النهار، أشدّ مواطأة يواطئ قلبها لسانها: إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب
__________
(1) . أخرجه أحمد من حديث ابن عباس في قصة ابن أمية. قال «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى عرفوا ذلك في تربد جلده» وأبو نعيم في الدلائل «كان إذا نزل عليه الوحى تربد له وجهه وجسده» وفي الباب حديث عبادة بن الصامت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتربد وجهه.
(2) . قوله «وتربد» أى تعبس. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث عائشة.
(4) . قال محمود: «قيل الناشئة النفس القائمة بالليل التي تنشأ عن مضجعها ... الخ» قال أحمد: فان حملت الناشئة على النفس فاضافة المواطأة إليها حقيقة، وإن حملتها على الساعات أو المصدر فهو من الاتساع المجازى [.....]
(5) . نشأنا: نهضنا. والخوص- جمع خوصاء: الناقة المرتفعة الأعلى، الضخمة الأسفل. والى: الشحم.
والسرى: سير الليل. والقماحد: جمع قمحدوة: وهي أعلى عظم الرأس. يقول: نهضنا إلى نوق عظيمة أذاب شحمها سير الليل، وألصق عظام رأسها بعضها ببعض، كناية عن تمرنها على السير واعتيادها له.(4/638)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
القائم لسانه: إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. وعن الحسن: أشدّ موافقة بين السر والعلانية، لانقطاع رؤية الخلائق. وقرئ:
أشدّ وطأ بالفتح والكسر. والمعنى: أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل. أو أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار، من قوله عليه السلام «اللهم اشدد وطأتك على مضر» «1» وَأَقْوَمُ قِيلًا وأسد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات. وعن أنس رضى الله عنه أنه قرأ: وأصوب قيلا، فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: وأقوم، فقال: إنّ أقوم وأصوب وأهيأ واحد. وروى أبو زيد الأنصارى عن أبى سرار الغنوي أنه كان يقرأ: فحاسوا، محاء غير معجمة، فقيل له:
إنما هو فَجاسُوا بالجيم، فقال: وجاسوا وحاسوا واحد.
[سورة المزمل (73) : آية 7]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
سَبْحاً تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك، ولا تفرغ إلا بالليل، فعليك بمناجاة الله التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل. وأما القراءة بالخاء. فاستعارة من سبخ الصوف:
وهو نفشه ونشر أجزائه، لانتشار الهم وتفرّق القلب بالشواغل: كلفه قيام الليل، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه: وهو أن الليل أعون على المواطأة وأشد للقراءة، لهدوّ الرجل وخفوت الصوت: وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر الهم من النهار، لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد. وقيل: فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك. وقيل:
إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.
[سورة المزمل (73) : الآيات 8 الى 10]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ودم على ذكره في ليلك ونهارك، واحرص عليه. وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح، وتهليل، وتكبير، وتمجيد، وتوحيد، وصلاة، وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ وانقطع إليه. فإن قلت: كيف قيل تَبْتِيلًا مكان تبتلا؟ قلت: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرئ مرفوعا على المدح، ومجرورا على البدل من ربك. وعن ابن عباس: على القسم بإضمار حرف
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة، وقد تقدم في الأنبياء.(4/639)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
القسم، كقولك: الله لأفعلنّ، وجوابه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيد. وقرأ ابن عباس: رب المشارق والمغارب فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا مسبب على التهليلة، لأنه هو وحده هو الذي «1» يجب لتوحده بالربوبية أن توكل إليه الأمور. وقيل وَكِيلًا: كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار. الهجر الجميل: أن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء وترك المكافأة. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم «2» . وقيل: هو منسوخ بآية السيف.
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 14]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه، أو بعدوّ يشتهى أن ينتقم له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال: ذرني وإياه، أى: لا تحتاج إلى الظفر «3» بمرادك ومشتهاك، إلا أن تخلى بيني وبينه بأن تكل أمره إلىّ وتستكفينيه، فإنّ فىّ ما يفرغ بالك ويجلى همك، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل أمره إليه، فكأنه منعه منه، فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه. النعمة- بالفتح- التنعم، وبالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرة، يقال: نعم، ونعمة عين، وهم صناديد قريش، وكانوا أهل تنعم وترفه إِنَّ لَدَيْنا ما يضاد تنعمهم من أنكال: وهي القيود الثقال: عن الشعبي، إذا ارتفعوا استقلت بهم. الواحد: نكل ونكل. ومن جحيم: وهي النار الشديدة الحر والاتقاد. ومن طعام ذى غصة وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ يعنى الضريع وشجر الزقوم. ومن عذاب أليم من سائر العذاب فلا ترى موكولا إليه أمرهم موذورا بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق «4» . وعن
__________
(1) . قوله «هو الذي» لعله «الذي» بدون: هو. (ع)
(2) . أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا في الأدب: ويذكر عن أبى الدرداء. ووصله البيهقي في الشعب في السادس والخميسين من طريق أبى الأحوص يعنى ولد أحوص بن حكم عن أبى الزهراء قال قال أبو الدرداء. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى الدرداء من طريق سفيان عن خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء مثل رواية البيهقي.
(3) . قوله «لا تحتاج إلى الظفر» لعله: في الظفر. (ع)
(4) . أخرجه أحمد في الزهد والطبري من طريق وكيع عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين «أن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا» ورواه ابن عدى من رواية أبى يوسف عن حمزة عن حمدان عن أبى حرب بن أبى الأسود. وقال غيره: أن يوسف يرويه عن حمزة عن حسب عن حمران.(4/640)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
الحسن: أنه أمسى صائما، فأتى بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية، فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق يَوْمَ تَرْجُفُ منصوب بما في لدينا. والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة. والكثيب: الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله. ومنه الكثبة من اللبن، قالت الضائنة: أجز جفالا وأحلب كثبا «1» عجالا، أى: كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلا، أى: نثر وأسيل.
[سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
الخطاب لأهل مكة شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم. فإن قلت:
لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور بعينه وَبِيلًا ثقيلا غليظا، من قولهم:
كلأ وبيل وخم لا يستمرأ لثقله. والوبيل: العصا الضخمة. ومنه الوابل للمطر العظيم.
[سورة المزمل (73) : الآيات 17 الى 18]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
يَوْماً مفعول به، أى: فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له، إن بقيتم على الكفر.
ولم تؤمنوا وتعملوا صالحا. ويجوز أن يكون ظرفا، أى: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا. ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أى فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء: لأن تقوى الله خوف عقابه يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال. والأصل فيه: أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان. أسرع فيه الشيب. قال أبو الطيب:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصّبىّ ويهرم «2»
__________
(1) . قوله «وأجز جفالا وأحلب كثبا» الجفال: الصوف الكثير. والكثبة من اللبن: قدر حلبة، والجمع كثب، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . لأبى الطيب، يقول: ان الهم ينتقص الرجل الجسيم ويقتطعه شيئا فشيئا. ونحف نحافة: هزل هزالا، فنحافة مفعول مطلق، لأنها تلاقى الاحترام في المعنى. ويجوز أنها تمييز، أى: ينتقص الهم العظيم الجسيم من جهة النحافة الى تنشأ عنه. ويجوز جعلها مفعولا لأجله على مذهب من لم يشترط اتحاد الفعل والمصدر في الفاعل.
والناصية: مقدم الرأس، أى: يشيب رأس الصبى. وخص الناصية، لأنها التي تقابل الناظر عند التقابل، ولا شعر الصبى إلا في رأسه، ويهرم، أى: يصير الصبى هرما ضعيفا.(4/641)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
وقد مرّ بى في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول. وأنّ الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وصف لليوم بالشدّة أيضا. وأنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق. وقرئ: منفطر ومتفطر. والمعنى: ذات انفطار. أو على تأويل السماء بالسقف. أو على تأويل السماء شيء منفطر، والباء في بِهِ مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعنى: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهو له كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ويجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالا يؤدّى إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَعْدُهُ من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير لليوم. ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل وهو الله عز وعلا، ولم يجر له ذكر لسكونه معلوما.
[سورة المزمل (73) : آية 19]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
إِنَّ هذِهِ الآيات الناطقة بالوعيد الشديد تَذْكِرَةٌ موعظة فَمَنْ شاءَ اتعظ بها.
واتخذ سبيلا إلى الله بالتقوى والخشية. ومعنى اتخاذ السبيل إليه: التقرّب والتوسل بالطاعة.
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)(4/642)
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت: قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ: ونصفه وثلثه بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث: وهو مطابق لما مرّ في أوّل السورة: من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه- وهو الثلث- وبين قيام الزائد عليه- وهو الأدنى من الثلثين. وقرئ: ونصفه، وثلثه: بالجرّ، أى: تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف: وهو أدنى من الثلثين.
والثلث: وهو أدنى من النصف. والربع: وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ويقوم ذلك جماعة من أصحابك وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا الله وحده، وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنيا عليه يقدّر: هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير، والمعنى: أنكم لا تقدرون عليه، والضمير في لَنْ تُحْصُوهُ لمصدر يقدّر، أى علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط: وذلك شاق عليكم بالغ منكم فَتابَ عَلَيْكُمْ عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر، كقوله فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ والمعنى: أنه رفع التبعة في تركه عنكم، كما يرفع التبعة عن التائب. وعبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود. يريد: فصلوا ما تيسر عليكم، ولم يتعذر من صلاة الليل، وهذا ناسخ للأوّل، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس. وقيل هي قراءة القرآن بعينها، قيل: يقرأ مائة آية. ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقيل:
من قرأ مائة آية كتب من القانتين. وقيل: خمسين آية. وقد بين الحكمة في النسخ. وهي تعذر القيام على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله. وقيل: سوّى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: أيما رجل جلب شيأ إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه: كان عند الله من الشهداء «1» . وعن عبد الله بن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إلىّ من أن أموت بين شعبتى رحل: أضرب في الأرض أبتغى من فضل الله «2» . وعَلِمَ
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية فرقد السبخى عن إبراهيم عن ابن مسعود موقوفا. وفرقد ضعيف. ووصله ابن مردويه بذكر علقمة بن إبراهيم وعبد الله ورفعه أيضا. وزاد: ثم قرأ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ- الآية
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن عبد الله عن أبيه عن نافع عن ابن عمر به. وإسناده ضعيف. ورواه ابن معبد في الطاعة والمعصية عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن نافع أن عمر قال «ما خلق الله موتة أموتها إلا أن أموت مجاهدا في سبيل الله أحب إلى من أن أموت- إلى آخره» والبيهقي في الشعب في الثالث عشر من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الله ذكر عمر أو غيره قال «ما خلق الله إلى آخره» .(4/643)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى المفروضة والزكاة الواجبة وقيل: زكاة الفطر، لأنه لم يكن بمكة زكاة. وإنما وجبت بعد ذلك، ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يجوز أن يريد: سائر الصدقات وأن يريد: أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى المستحق، وأن يريد: كل شيء يفعل من الخيز مما يتعلق بالنفس والمال خَيْراً ثانى مفعولي وجد. وهو فصل. وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأنّ أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. وقرأ أبو السمال: هو خير وأعظم أجرا، بالرفع على الابتداء والخبر:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» «1» .
سورة المدثر
مكية، وهي ست وخمسون آية [نزلت بعد المزمل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
الْمُدَّثِّرُ لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار: وهو الثوب الذي يلي الجسد. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الأنصار شعار والناس دثار» «2» وقيل: هي أوّل سورة نزلت. وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى ويساري فلم أر شيأ، فنظرت فوقى فرأيت شيأ» «3» . وفي
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى رضى الله عنه.
(2) . تقدم في آل عمران.
(3) . متفق عليه من رواية أبى سلمة عنه وأتم منه.(4/644)
رواية عائشة: «فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض- يعنى الملك الذي ناداه- فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني، فنزل جبريل وقال: «يا أيها المدثر» »
وعن الزهري: أوّل ما نزل: سورة اقرأ باسم ربك إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال: إنك نبىّ الله، فرجع إلى خديجة وقال: دثروني وصبوا علىّ ماء باردا، فنزل: يا أيها المدثر «2» . وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم، فتغطي بثوبه مفكرا كما يفعل المغموم. فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه.
وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول. من دثره. وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك، كما قال في المزمّل: قم من مضجعك. أو قم قيام عزم وتصميم فَأَنْذِرْ فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ واختص ربك بالتكبير: وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحى، وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط. كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات، لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا. وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسات. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات. يقال: فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. وفلان دنس الثياب للغادر، وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فكنى به عنه. ألا ترى إلى قولهم: أعجبنى زيد ثوبه، كما يقولون: أعجبنى زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عنى بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء وَالرُّجْزَ قرئ بالكسر والضم، وهو العذاب، ومعناه: اهجر ما يؤدى إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى: الثبات على هجره، لأنه كان بريئا منه.
__________
(1) . لم أره عن عائشة. وإنما هو قصة حديث جابر. ولعل الزمخشري قصد بقوله «وفي رواية عائشة لفظة منه وإلا فالجميع من حديث جابر رضى الله عنه قلت: يوجد ما ذكره الزمخشري من رواية النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة عند الطبري. [.....]
(2) . أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر عن الزهري قال «كان أول شيء نزل على النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ- فذكره وأتم منه. رواه الحاكم من طريق محمد بن سيرين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله عنها.(4/645)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
[سورة المدثر (74) : الآيات 6 الى 7]
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قرأ الحسن: ولا تمنّ. وتستكثر، مرفوع منصوب المحل على الحال، أى: ولا تعط مستكثرا رائيا لما تعطيه كثيرا، أو طالبا للكثير: نهى عن الاستغزار: وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث «المستغزر يثاب من هبته» «1» وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون نهيا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم:
لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق. والثاني: أن يكون نهى تنزيه لا تحريم له ولأمّته. وقرأ الحسن: تستكثر، بالسكون. وفيه ثلاثة أوجه، الإبدال من تمنن. كأنه قيل: ولا تمنن لا تستكثر، على أنه من المنّ في قوله عز وجل ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لأنّ من شأن المنان بما يعطى أن يستكثره، أى: يراه كثيرا ويعتدّ به، وأن يشبه ثرو بعضد، فيسكن تخفيفا، وأن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار «أن» كقوله:
ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى «2»
وتؤيده قراءة ابن مسعود: ولا تمنن أن تستكثر. ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها، كما روى: أحضر الوغى بالرفع، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ولوجه الله، فاستعمل الصبر. وقيل:
على أذى المشركين. وقيل: على أداء الفرائض. وعن النخعي: على عطيتك، كأنه وصله بما قبله، وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار. والوجه أن يكون أمرا بنفس الفعل، وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه، ويراد الصبر على أذى الكفار، لأنه أحد ما يتناوله العام.
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 10]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
والغاء في قوله فَإِذا نُقِرَ للتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في فَذلِكَ للجزاء. فإن قلت:
بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع يَوْمَئِذٍ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دلّ
__________
(1) . تقدم في الروم من قول شريح.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 159 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/646)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
عليه الجزاء، لأنّ المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع يَوْمَئِذٍ ظرفا ليوم عسير: أنّ المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأنّ يوم القيامة يأتى ويقع حين ينقر في الناقور. واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية. ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل، بدلا من فَذلِكَ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. فإن قلت: فما فائدة قوله غَيْرُ يَسِيرٍ وعَسِيرٌ مغن عنه؟ قلت: لما قال عَلَى الْكافِرِينَ فقصر العسر عليهم قال: غَيْرُ يَسِيرٍ ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم.
ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 25]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
وَحِيداً حال من الله عز وجل على معنيين، أحدهما. ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو حال من المخلوق على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد، كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية، فإن كان ملقبا به قبل فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه- من مدحه، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا- إلى وجه الذم والعيب: وهو أنه خلق وحيدا لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا: أو ممدّا بالنماء، من مدّ الهر ومدّ نهره آخر. قيل: كان له الزرع والضرع والتجارة. وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وقيل: كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفا وشتاء.
وقيل: كان له ألف مثقال. وقيل: أربعة آلاف. وقيل تسعة آلاف. وقيل: ألف ألف. وعن ابن(4/647)
جريج: غلة شهر بشهر وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم. ويجوز أن يكون معناه: أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل. أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه. وعن مجاهد: كان له عشرة بنين. وقيل: ثلاثة عشر. وقيل:
سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس:
أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه، فأتممت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما: هو الكمال عند أهل الدنيا. ومنه قول الناس: أدام الله تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش ثُمَّ يَطْمَعُ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه «1» ، يعنى أنه لا مزيد على ما أوتى سعة وكثرة. وقيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي كَلَّا ردع له وقطع لرجائه وطمعه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد: ويروى: أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد: وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت «2» ، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت» وعنه عليه السلام: الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا «3» ، إِنَّهُ فَكَّرَ تعليل الوعيد، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقب في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحرا. ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
__________
(1) . قال محمود: «دخلت ثم استبعادا لطمعه وحرصه على الزيادة، واستنكارا لذلك فرد الله طمعه خائبا ... الخ» قال أحمد: لأن الكلمة الشنعاء لما خطرت بباله بعد إمعانه النظر: لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
(2) . أخرجه البزار والطبرانى في الأوسط والبيهقي في الشعب والطبري وابن أبى حاتم. كلهم من طريق شريك عن عمار الدهني عن عطية عن أبى سعيد مرفوعا. قال البزار: لا نعلمه رفعه إلا شريك. وبه جزم الطبراني.
ورواه البزار والبيهقي من رواية ابن عيينة عن عمارة مرفوعا.
(3) . أخرجه الترمذي من طريق أبى لهيعة عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد مرفوعا انتهى. وقد رواه الحاكم والطبري والبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن الحارث عن دراج. ورواه ابن مردويه من رواية رشدين ابن سعد عن دراج أيضا.(4/648)
ردّا لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له، وإخبارا بأنه من أشدّ أهل النار عذابا، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله إِنَّهُ فَكَّرَ بدلا من قوله إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً بيانا لكنه عناده. ومعناه فكر ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ في نفسه ما يقول وهيأه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز. ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هي حكاية لما كرروه من قولهم. قتل كيف قدّر تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله. ومعنى قول القائل: قتله الله ما أشجعه. وأخزاه الله ما أشعره: الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. روى أنّ الوليد قال لبنى مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط، وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب، فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمَّ نَظَرَ في وجوه الناس «1» ، ثم قطب وجهه «2» ، ثم زحف مدبرا، وتشاوس مستكبرا لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء، وهمّ بأن يرمى بها وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط، استهزاء به. وقيل: قدّر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ عنه فقال ما قال. وثُمَّ نَظَرَ عطف على فَكَّرَ وَقَدَّرَ والدعاء: اعتراض بينهما. فإن قلت: ما معنى ثُمَّ الداخلة في تكرير الدعاء؟
قلت، الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى. ونحوه قوله.
ألا يا أسلمي ثمّ أسلمي ثمّت أسلمي
__________
(1) . قوله «ثم نظر في وجوه الناس، أى نظر بمؤخر عينه تكبرا أو تغيظا، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ثم قطب وجهه» في الصحاح: قطب وجهه تقطيبا: عبس. وفيه أيضا: عبس عبوسا كلح، وبسر بسورا: كلح. يقال: عبس وبسر اه. (ع)(4/649)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت، الدلالة على أنه قد تأتى في التأمّل وتمهل، وكأنّ بين الأفعال المنناسقة تراخ وتباعد. فإن قلت: فلم قيل فَقالَ إِنْ هذا بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد.
[سورة المدثر (74) : الآيات 26 الى 31]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. لا تُبْقِي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد. أو لا تبقى على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة لَوَّاحَةٌ من لوح الهجير. قال:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمّى لاحنى الهواجر «1»
قيل. تلفح الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل. والبشر: أعالى الجلود. وعن الحسن.
تلوح للناس، كقوله ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ وقرئ: لواحة، نصبا على الاختصاص للتهويل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أى يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكا. وقيل: صنفا من الملائكة.
وقيل: صفة. وقيل: نقيبا. وقرئ: تسعة عشر، بسكون العين لتوالى الحركات في ما هو في حكم
__________
(1) . لاحه الحر لوحا: غيره وسوده. والهاجرة: شدة الحر. وأهجر القوم وهجروا بالتشديد وتهجروا: ساروا في الهاجرة، وفيه النفات، كأنه خاطب غيرها أولا. وعجبه من استفهامها عن الشيء الظاهر سببه وهو السفر، بل هي معترفة أنه مسافر كما قالت، ومن قساوة قلبها عليه، ثم التفت إليها بجواب سؤالها. وفي ندائها معنى التنبيه والإيقاظ والاستعطاف.(4/650)
اسم واحد. وقرئ: تسعة أعشر، جمع عشير، مثل: يمين وأيمن. جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد الخلق بأسا وأقواهم بطشا. عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، «1» يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار ويرمى بالجبل عليهم» «2» . وروى أنه لما نزلت عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل لقريش. ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش. أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أى ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون. فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سببا لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، «3» فما وجه صحة ذلك؟ قلت. ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا موضع تِسْعَةَ عَشَرَ لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين. أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفى عليه وجه الحكمة، كأنه قيل.
ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان
__________
(1) . قوله «الصياصي» هي الحصون، واحدها صيصية. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . لم أجده.
(3) . قال محمود: «إن قلت قد جعل افتتان الكافرين بعدة الزبانية سببا ... الخ» قال أحمد: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، لأن المراد: وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا موضع ذلك، لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من العشرين: أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ولا يذعن، وإن خفى عليه وجه الحكمة كأنه قيل: لقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب. قال أحمد: السائل جعل الفتنة التي هي في تقدير الصفة العدة، إذ معنى الكلام ذات فتنة سببا فيما بعدها، والمجيب جعل العدة التي عرضت لها هذه الصفة سببا لا باعتبار عروض الصفة لها. ويجوز أن يكون لِيَسْتَيْقِنَ راجعا إلى ما قبل الاستثناء، كأنه قيل: جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكافرين وسببا ليقين المؤمنين، وهذا الوجه أقرب مما ذكره الزمخشري، وإنما ألجأه إليه اعتقاد أن الله تعالى ما فتنهم ولكنهم فتنوا أنفسهم، بناء على قاعدة التبعيض في المشيئة وبئست القاعدة فاحذرها.(4/651)
أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله، وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك. فإن قلت: لم قال وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟ قلت. لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفى الشك. كان آكد وأبلغ لوصفهم «1» بسكون النفس وثلج الصدر، ولأن فيه تعريضا بحال من عداهم، كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر. فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة وَالْكافِرُونَ بمكة ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضا؟ قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضا، ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد لمخافة الشر، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك. مَثَلًا تمييز لهذا، أو حال منه، كقوله هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. فإن قلت: لم سموه مثلا؟ قلت: هو استعارة من المثل المضروب. لأنه مما غرب من الكلام وبدع، استغرابا منهم لهذا العدد واستبداعا له. والمعنى: أى شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأى غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص.
الكاف في كَذلِكَ نصب، وذلك: إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أى:
مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدى المؤمنين، يعنى: يفعل فعلا حسنا مبنيا على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيمانا، وينكره الكافرون ويشكون. فيه فيزيدهم كفرا وضلالا
__________
(1) . قال محمود: «وقوله تعالى وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بعد قوله لِيَسْتَيْقِنَ ليحصل لهم فائدة الجمع بين إثبات اليقين ... الخ» قال أحمد: أطلق الغرض على الله عز وجل، مع أنه موهم ولم يرد فيه سماع.
وأورده السؤال على قاعدته بعد ذلك كله في أن الله لم يرد من المنافقين والكافرين أقوالهم، وإنما قالوا على خلاف «ما أراد، وقد عرفت فساد القاعدة فأرح فكرك من هذا السؤال. فالكل مراد، وحسبك تتمة الآية كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.(4/652)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ وما عليه. كل جدد من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة إِلَّا هُوَ ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة. أو: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها. وقيل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار- إلى قوله- إلا هو: اعتراض. وقوله وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى متصل بوصف سقر وهي ضميرها، أى: وما سقر وصفتها إلا تذكرة لِلْبَشَرِ أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 37]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
كَلَّا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون. أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا. و «دبر» بمعنى أدبر «1» ، كقبل بمعنى أقبل. ومنه صاروا كأمس الدابر. وقيل: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. وقرئ: إذ أدبر إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب القسم. أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد. والكبر: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائها «2» ، فلما جمعت فعلة على فعل: جمعت فعلى عليها، ونظير ذلك:
السوافي في جمع السافياء، والقواصع في جمع القاصعاء، كأنها جمع فاعلة، أى: لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهنّ: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. ونَذِيراً تمييز من إحدى، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذارا، كما تقول: هي إحدى النساء عفافا. وقيل: هي حال. وقيل: هو متصل بأوّل السورة، يعنى: قم نذيرا، وهو من بدع التفاسير. وفي قراءة أبى: نذير بالرفع
__________
(1) . قوله «ودبر بمعنى أدبر» يعنى في قراءة: والليل إذ أدبر. وعبارة النسفي: والليل إذ أدبر: نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف وغيرهم إذا دبر. ودبر بمعنى أدبر. وقوله الآتي: وقرئ: إذ أدبر، يفيد أن قراءة «دبر» هي المشهورة. (ع) [.....]
(2) . قوله «جعلت ألف التأنيث كتائها» لعله كتائه. (ع)(4/653)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
خبر بعد خبر «لأن» أو بحذف المبتدإ أَنْ يَتَقَدَّمَ في موضع الرفع بالابتداء. ولمن شاء: خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضأ أن يصلى، ومعناه مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخر أن يتقدّم أو يتأخر، والمراد بالتقدّم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ويجوز أن يكون لِمَنْ شاءَ بدلا من لِلْبَشَرِ على أنها منذرة للمكلفين الممكنين: الذين إن شاءوا تقدّموا ففازوا، وإن شاءوا تأخروا فهلكوا.
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 48]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
رَهِينَةٌ ليست بتأنيث رهين «1» في قوله كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الّذى بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذى تراب وجندل «2»
__________
(1) . قال محمود: «وليست بتأنيث رهين ... الخ» قال أحمد: لأنه فعيل بمعنى مفعول، يستوي مذكره ومؤنثه، كقتيل وجديد.
(2) .
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذى تراب وجندل
أأذكر بالبقيا على من أصابنى ... وبقياى أنى جاهد غير مؤتل
لمسور بن زيادة الحارثي. وقيل: لعبد الرحمن بن زيد، قتل أبوه زيادة فعرض عليه فيه سبع ديات، فأبى إلا الثأر.
والاستفهام إنكارى. والنعف- بالفتح-: الجبل والمكان المرتفع. وقيل: ما يستقبلك من الجبل. وكويكب:
جبل بعينه. وفي هذا الاندال من التفصيل بعد الإجمال: ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال، أى: أبعد قتل أبى المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس. وقيل: رهينة بالجر، بدل من الذي، فهو اسم ملحق بالجوامد بمعنى الرهن. ويقال: رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب، فأطلق المصدر وأريد مكانه، وهو القبر. والجندل: الحجارة، وكررت همزة الاستفهام في قوله «أأذكر» توكيدا للأولى. لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا. ويحتمل أنها داخلة على مقدر، أى: أبعد أبى أفرح بالدية. وروى «أذكر» بالتشديد والبناء للمجهول، فالهمزة الأولى داخلة عليه، ولا شاهد فيه حينئذ. والبقيا: الإبقاء على الشيء، أى: لا أذكر بين الناس بأنى أبقيت على قاتل أبى، والحال أن إبقائى عليه كوني جاهدا ومصمم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك، لأنى لا أحتاج إلى الحلف في تنفيذ أمورى. أو غير مقصر في الاجتهاد، لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير،(4/654)
كأنه قال: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. وعن على رضى الله عنه أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هم الملائكة فِي جَنَّاتٍ أى هم في جنات لا يكتنه وصفها يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يسأل بعضهم بعضا عنهم «1» . أو يتساءلون غيرهم عنهم، كقولك: دعوته وتداعيناه. فإن قلت: كيف طابق قوله ما سَلَكَكُمْ وهو سؤال للمجرمين: قوله يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم قلت: ما سلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم، لأنّ المسئولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم ما سلككم فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. الخوض: الشروع في الباطل وما لا ينبغي. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت: توبيخا لهم وتحسيرا، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال: أنهم «2» إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار. فإن قلت: أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا. فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيما للتكذيب. كقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والْيَقِينُ الموت ومقدماته، أى: لو شفع لهم الشافعون جميعا من الملائكة والتبيين وغيرهم لم تنفعهم شفاعتهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم. وفيه دليل على أنّ الشفاعة تنفع يومئذ، لأنها تزيد في درجات المرتضين.
__________
(1) . قال محمود: «يتساءلون يعنى يسأل بعضهم بعضا عنهم ... الخ» قال أحمد: إنما أورد السؤال ذريعة وحيلة لتحميل الآية الدلالة على أن فساق المسلمين تاركي الصلاة مثلا، يسلكون في النار مخلدين مع الكفار، فجعل كل واحدة من الخلال الأربع توجب ما توجب الأخرى من الخلود. والصحيح في معنى الآية أنها خاصة بالكفار.
ومعنى قولهم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ: لم نك من أهل الصلاة، وكذلك إلى آخرها، لأنهم يكذبون بيوم الدين، والمكذب لا يصح منه طاعة من هذه الطاعات، ولو فعلها لم تنفعه وقدرت كالعدم، وإنما يتأسفون على ترك فعل هو نافع لهم.
(2) . قوله «أنهم» لعله: بأنهم. (ع)(4/655)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
[سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 56]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
عَنِ التَّذْكِرَةِ عن التذكير وهو العظة، يريد: القرآن أو غيره من المواعظ.
ومُعْرِضِينَ نصب على الحال، كقولك: مالك قائما. والمستنفرة: الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه «1» . وقرئ بالفتح: وهي المنفرة المحمولة على النفار: والقسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها. وقيل: الأسد. يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر: وهو القهر والغلبة، وفي وزنه «الحيدرة» من أسماء الأسد. وعن ابن عباس: ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه، بحمر جدت في نفارها مما أفزعها. وفي تشبيههم بالحمر:
مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، كما في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص صُحُفاً مُنَشَّرَةً قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها. أو كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتى كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتباعك. ونحوه قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ وقال: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ... الآية وقيل: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن الرجل من بنى إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل. إلا أن براد بالصحف المنشرة:
الكتابات الظاهرة المكشوفة. وقرأ سعيد بن جبير: صحفا منشرة بتخفيفهما، على أن أنشر الصحف ونشرها: واحد، كأنزله ونزله. ردعهم بقوله كَلَّا عن تلك الإرادة، وزجرهم عن اقتراح الآيات، ثم قال بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء
__________
(1) . قوله «في جمعها له وحملها عليه» متعلق بكأنها، لأنه وجه الشبه. (ع)(4/656)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
الصحف، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يعنى تذكرة بليغة كافية، مبهم أمرها في الكفاية فَمَنْ شاءَ أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه. والضمير في إِنَّهُ وذَكَرَهُ للتذكرة في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى: إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه. لأنهم مطبوع على قلوبهم. معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا. وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه» «1» وقرئ: يذكرون. بالياء والتاء مخففا ومشددا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة» «2» .
سورة القيامة
مكية، وآياتها 40 [نزلت بعد القارعة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)
__________
(1) . أخرجه لترمذى والنسائي وابن ماجة والطبراني في الأوسط وابن عدى والحاكم وأحمد وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية سهل بن إبراهيم العطفى عن ثابت عن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية «قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى- إلى آخره» قال الترمذي والطبراني وابن عدى: تفرد به سهل. ورواه الحكيم الترمذي في السابع والسبعين بعد المائة، بلفظ «قال: هو أهل أن يتقى. فمن اتقى فهو أهل أن يغفر له» وله شاهد من رواية عبد الله قال سمعت ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة وابن عمر وابن عباس رضى الله عنه يقولون: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى فذكره.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.(4/657)
إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك أبنة العامرىّ ... لا يدّعى القوم أنّى أفرّ «1»
وقال غوثة بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزننى فلا بك ما أبالى «2»
وفائدتها توكيد القسم، وقالوا إنها صلة مثلها في لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وفي قوله:
في بئر لا حور سرى وما شعر «3»
واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله، وأجابوا بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح، لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد. ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته. والوجه أن يقال: هي للنفي. والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إنّ إعظامى له بإقسامى به كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل إن «لا» نفى لكلام
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 692 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
إذا نادت أمامة باحتمال ... لتحزننى فلا بك ما أبالى
فسيرى ما بدا لك أو أقيمي ... فأيا ما أتيت ففي نقالى
لغوثة بن سلمى بن ربيعة، يقول: إذا أظهرت أمامة محبوبتى أمارات الارتحال عنى لتحزننى، فأطلق النداء على ذلك مجازا. ويروى «ألا» بدل «إذا» ولا زائدة قبل القسم، لأن المعنى فبحقك وحياتك ما أبالى ولا أحزن، وحسن زيادتها: أنها في الغالب مسلطة على دعوى الخصم نافية لها، وفي القسم بمحبوبته على عدم المبالاة ببعدها عنه نوع تهكم بها. وقيل: المعنى فلا يقع ما أبالى على الدعاء، وهذا إنما يظهر على رواية: فلا بك ما أبالى، وأصله يكن، أى: يحصل، فحذفت النون عند الجزم تخفيفا. وما موصولة. ويروى: فآبك، أى: أبعدك الله: دعاء أيضا. والتقالى: التباغض، أى: فسيرى ما دام يظهر لك المسير، أو أقيمى، فهما منك سواء، وأى شيء تفعلينه فهو ناشئ عن تباغض بيني وبينك، ومع ذلك لا أعتنى بشأنك لأنى مشغول بأهم منك: وهو موت أقاربه، والتفت إليها بالخطاب ليصدعها بالجواب.
(3) .
في بئر لا حور سرى وما شعر ... بافكه حتى إذا الصبح حشر
«لا» زائدة بين المضاف والمضاف إليه شذوذا. والحور- بالضم-: الهلكة جمع حائر أى هالك، كبزل وبازل، ونزل ونازل. وقيل: الحور بمعنى الهلاك، وجمعه: أحور، أى: سرى في بئر هلاك وما درى بذلك. وقوله «بافكه» يجوز تعلقه بشعر، ويجوز تعلقه بسرى، وشبه سبب الهلاك بالبئر على طريق التصريح التحير والضرر بالوقوع في كل، ولذلك قال: سرى، وهو يناسب الظلمة والحيرة، لأنه بمعنى سار ليلا. والافك: الباطل، واستعار الصبح الحق على طريق التصريحية، وحشر: أضاء واتضح، فحينئذ تبين كذبه، أى: دام على كذبه حتى ظهر الحق(4/658)
وردّ له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أى ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل:
أقسم بيوم القيامة. فإن قلت: قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ والأبيات التي أنشدتها: المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة النفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا، كقولك لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لا تتركون سدى؟
قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول ماغ، ولكنه لم يقصر. ألا ترى كيف لقى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ بقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وكذلك فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ بقوله إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وقرئ: لأقسم، على أنّ اللام للابتداء. وأقسم خبر مبتدإ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه أى في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن الحسن: إن المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وإنّ الكافر يمضى قدما لا يعاتب نفسه «1» . وقيل: هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة.
وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو لتبعثن. وقرأ قتادة: أن لن نجمع عظامه، على البناء للمفعول. والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا مختلطا بالتراب، وبعد ما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل إن عدى ابن أبى ربيعة ختن الأخنس بن شريق «2» وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جارى السوء» «3» قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به أو يجمع الله العظام، فنزلت بَلى أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل بَلى نجمعها. وقادِرِينَ حال من الضمير في نجمع، أى: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول، إلى أن نسوى بنانه أى: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه. أو على أن نسوى بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام. وقيل: معناه بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه
__________
(1) . قوله: «وأن الكافر يمضى قدما لا يعاتب» في الصحاح مضى قدما- بضم الدال-: لم يعرج ولم ينثن اه. (ع)
(2) . قوله «ختن الأخنس بن شريق» في الصحاح «الختن» بالتحريك: كل من كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ، وعند العامة: ختن الرجل زوج ابنته. (ع)
(3) . ذكره الثعلبي والبغوي، والواحدي بغير إسناد. [.....](4/659)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
ورجليه، أى نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار لا تفرق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبسط والقبض، والتأتى لما يريد من الحوائج. وقرئ قادرون، أى: نحن قادرون، بَلْ يُرِيدُ عطف على أَيَحْسَبُ فيجوز أن يكون مثله استفهاما، وأن يكون إيجابا على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر. أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. يقول: سوف أتوب، سوف أتوب: حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوإ أعماله يَسْئَلُ سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ونحوه: ويقولون متى هذا الوعد.
[سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 15]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا، وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرئ:
برق من البريق، أى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال: بلق إذا انفتح وانفرج. يقال:
بلق الباب وأبلقته وبلقته: فتحته وَخَسَفَ الْقَمَرُ وذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه. وقرئ:
وخسف على البناء للمفعول وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله من المغرب. وقيل:
وجمعا في ذهاب الضوء «1» وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار. وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى الْمَفَرُّ بالفتح المصدر، وبالكسر:
المكان. ويجوز أن يكون مصدرا كالمرجع. وقرئ بهما كَلَّا ردع عن طلب المفرّ لا وَزَرَ لا ملجأ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك إِلى رَبِّكَ
خاصة يَوْمَئِذٍ
مستقرّ العباد، أى استقرارهم، يعنى: أنهم لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره وينصبوا إليه. أو إلى حكمه «2» ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره، كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أو إلى ربك مستقرّهم، أى: موضع قرارهم من جنة أو نار، أى: مفوض ذلك إلى مشيئته، من شاء أدخله
__________
(1) . قوله «وقيل وجمعا في ذهاب الضوء» لعله: وقيل جمعا. (ع)
(2) . قوله «وينصبوا إليه أو إلى حكمه» في الصحاح «نصب القوم» : ساروا يومهم، وهو سير لين، ونصب الرجل- بالكسر- نصبا: تعب. (ع)(4/660)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
الجنة ومن شاء أدخله النار بِما قَدَّمَ
من عمل عمله
وَبما أَخَّرَ
منه لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به، أو بما أخره فخلفه. وبما قدم من عمل الخير والشر، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد: بأوّل عمله وآخره. ونحوه: فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه بَصِيرَةٌ
حجة بينة وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أو عين بصيرة. والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ، ففيه ما يجزئ عن الإنباء، لأنه شاهد عليها بما عملت، لأنّ جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها. وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحوه: المناكير في المنكر.
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
الضمير في بِهِ
للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحى نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرّك لسانك بقراءة الوحى ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ لِتَعْجَلَ بِهِ
لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهى عن العجلة بقوله إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك وإثبات قراءته في لسانك فَإِذا قَرَأْناهُ
جعل قراءة جبريل قراءته: والقرآن: القراءة فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فكن مقفيا له فيه ولا تراسله، وطأ من نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم، ونحوه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، كَلَّا ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله(4/661)
بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قال: بل أنتم يا بنى آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وقرئ بالياء وهو أبلغ. فإن قلت: كيف اتصل قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلى آخره، بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه: عبارة عن الجملة «1» . والناضرة:
من نضرة النعيم إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول. ألا ترى إلى قوله إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ، إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا «2» إليه:
محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء. ومنه قول القائل:
وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما «3»
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم. تقول:
عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه، والباسر: الشديد العبوس، والباسل: أشد
__________
(1) . قال محمود: «الوجوه كناية عن الجملة، وقدم إلى ربها ليفيد الحصر ... الخ» قال أحمد: ما أقصر لسانه عند هذه الآية، فكم له يدندن ويطبل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق، فلما فغرت هذه الآية فاه:
صنع في مصادمتها بالاستدلال، على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول، لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى، وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه، ولا يؤثر عليه غيره، ولا يعدل به عز وعلا منظورا سواه، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظه، ولم يؤثر عليه، فكيف بالمحب لله عز وجل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنا وجهه، وأن يعيذنا عن مزالق البدعة ومزلات الشبهة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(2) . قوله «لو كان منظورا إليه» عدم كونه منظور إليه تعالى مبنى على مذهب المعتزلة، وهو عدم جواز رؤيته تعالى. ومذهب أهل السنة جوازها. ويجوز أن يكون تقديم المفعول هنا للاهتمام بذكر المنظور إليه، الذي يقتضى النظر إليه نضرة وجوه الناظرين، لا للاختصاص. (ع)
(3) . يقول: وإذا رجوت مكارمك زدتني نعما فالنظر إليه كناية عن ذلك. ويجوز أن المعنى: بمجرد نظري إليك تجيبني فوق مسئولى، ولا تحتاج إلى التصريح بالطلب. ومن ملك: تمييز مقترن بمن. والبحر دونك: جملة اعتراضية أو حالية، أى: أقل منك في الخيرات والمكارم.(4/662)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه تَظُنُّ تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدّته وفظاعته فاقِرَةٌ داهية تقصم فقار الظهر، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير.
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 30]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في بَلَغَتِ للنفس وإن لم يجر لها ذكر، لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها، كما قال حاتم:
أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر «1»
وتقول العرب: أرسلت، يريدون: جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء التَّراقِيَ العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال. ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها: وقال حاضر وصاحبها- وهو المحتضر- بعضهم لبعض مَنْ راقٍ
أيكم يرقيه مما به؟ وقيل: هو من كلام ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه؟
ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وَظَنَّ المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة وَالْتَفَّتِ ساقه بساقه والتوت عليها عند علز «2» الموت. وعن قتادة:
ماتت رجلاء فلا تحملانه، وقد كان عليهما جوالا. وقيل: شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال
__________
(1) .
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوى إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر
لحاتم الطائي، والهمزة النداء ومأوى: مرخم، أصله: ماوية، اسم أمه وهي بنت عفير، وكانت تلومه. وأصله:
نسبة للماء، لأنها تشبهه في اللين والرقة والصفاء والثراء. والثروة: الغنى. والحشرجة: تردد صوت النفس في الصدر. والضمير النفس وإن لم تذكر ادعاء لشهرتها. روى أنه لما احتضر أبو بكر رضى الله عنه قالت له عائشة لعمرك ما يغنى ... البيت» فقال: لا تقولي هذا يا بنية وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وهي قراءة منسوبة إليه وكرر نداء ماوية التقريع، وغاد ورائح: آت وذاهب. وقوله «من المال» أى من آثاره، ولو كفت «علم» عن العمل في المفعول وعبر عن نفسه بالظاهر، لأن هذا الكلام تتحدث به نفوس الأقوام، فاعتبر صدوره منهم.
وثراه المال: الغنى به، أو جمعه. والوفر: الزيادة والمال الكثير.
(2) . قوله «علز الموت» هو كالرعدة تأخذ المريض. (ع)(4/663)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
الآخرة، على أن الساق مثل في الشدّة. وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه الْمَساقُ أى يساق إلى الله وإلى حكمه.
[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 35]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى يعنى الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ألا ترى إلى قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً وهو معطوف على يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أى: لا يؤمن بالبعث، فلا صدق بالرسول والقرآن، ولا صلى. ويجوز أن يراد: فلا صدق ماله، بمعنى: فلا زكاه. وقيل: نزلت في أبى جهل يَتَمَطَّى يتبختر. وأصله يتمطط، أى:
يتمدد، لأنّ المتبختر يمدّ خطاه. وقيل: هو من المطا وهو الظهر، لأنه يلويه. وفي الحديث:
«إذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم» «1» يعنى: كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه وأعرض، ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخارا بذلك أَوْلى لَكَ بمعنى ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.
[سورة القيامة (75) : الآيات 36 الى 40]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
فَخَلَقَ فقدر فَسَوَّى فعدل مِنْهُ من الإنسان الزَّوْجَيْنِ الصنفين أَلَيْسَ ذلِكَ الذي أنشأ هذا الإنشاء بِقادِرٍ على الإعادة. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) . أخرجه الترمذي وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى. وابن عدى من رواية موسى بن عبيدة عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر. وموسى ضعيف. وروى الترمذي أيضا والبزار عن محمد بن إسماعيل عن أبى معاوية عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار نحوه. قال الترمذي: ليس له أصل. وإنما المعروف حديث موسى بن عبيدة.
وقال البزار: لا نعلم أحدا تابع عليه محمد بن إسماعيل وإنما يعرف عن موسى. واختلف فيه على يحيى بن سعيد.
فرواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عنه عن عبيد عن خولة بنت قيس. ورواه الطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن عمارة بن خزيمة عن يحيى بن بخنس مولى الزبير عن أبى هريرة. ورواه الأصبهانى في الترغيب من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن بخنس مرسلا.(4/664)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
وسلم كان إذا قرأها قال سبحانك بلى «1» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة» «2» .
سورة الإنسان
مدنية، وآياتها 31 [نزلت بعد الرحمن] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)
هل بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل، بدليل قوله:
أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم «3»
فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعا، أى: أتى على الإنسان قبل زمان قريب حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ فيه شَيْئاً مَذْكُوراً أى كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان: جنس بنى آدم، بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طائفة من الزمن الطويل الممتد. فإن قلت: ما محل لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟ قلت: محله النصب على الحال من الإنسان، كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف لحين، كقوله يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وعن بعضهم: أنها تليت عنده فقال:
ليتها تمت، أراد: ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئا غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.
__________
(1) . أبو داود: من رواية موسى بن أبى عائشة عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم من رواية إسماعيل بن أمية عن أبى اليسع عن أبى هريرة نحوه «قلت» راويه عن إسماعيل عند الحاكم يزيد بن عياض متروك. ولكن أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن رجل عن أبى هريرة. واختلف فيه على إسماعيل على أوجه أخرى ذكرتها في حاشية الأطراف.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 342 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/665)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
[سورة الإنسان (76) : آية 2]
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ كبرمة أعشار «1» ، وبرد أكياش: وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا: نطفة مشج، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين «2»
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له، بل هما مثلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما.
ومشجه ومزجه: بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد: أنها تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة نَبْتَلِيهِ في موضع الحال، أى: خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا. ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة. وقيل: هو في تقدير التأخير، يعنى: فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، وهو من التعسف.
[سورة الإنسان (76) : آية 3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
شاكرا وكفورا: حالان من الهاء في هديناه «3» ، أى: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا.
أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوما منه «4» أنه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أى: عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة
__________
(1) . قوله «كبرمة أعشار» في الصحاح «برمة أعشار» إذا انكسرت قطعا قطعا وقلب أعشار: جاء على بناء الجمع، كما قالوا: رمح أقصاد اه، ولم يذكر أكباش ولا مادته فيه، فلينظر في غيره. (ع)
(2) . للشماخ. ورتجت الباب وأرتجته: إذا أغلقته. والرتاج: الباب. ومشج الشيء: مزجه. والمشج- كسبب-: الممزوج. ومثله: أمشاج، فهو مفرد على صورة الجمع كأخلاق. وقيل: جمع مشج. والسلالة- في الأصل: ما ينسل من بين الأصابع من الطين المائع. والمهين: الحقير، يصف امرأة قبلت المنى في فرجها وطوت قبلها عليه. ومرتجة صفة للأحشاء: أى مغلقة إلى وقت تمام الحمل. على منى مختلط من منى الرجل ومنيها، سلالته:
أى ما انسل وتدفق منه: مهين: حقير. وفعيل: يوصف به المذكر والمؤنث، والواحد والمتعدد.
(3) . قال محمود «هما حالان من الهاء في هديناه ... الخ» قال أحمد: هذا من تحريفه المنكر وهو عند أهل السنة على ظاهره. [.....]
(4) . قال محمود: «أو يكون معناه إنا دعوناه إلى الايمان كان معلوما منه ... الخ» قال أحمد: واستحسانه لقراءة أبى السمال لتخيله أن في التقسيم إشعارا بغرضه الفاسد، وليس كذلك، فان التقسيم يحتمل الجزاء إما شاكرا فمناب، وإما كفورا فمعاقب، ويرشد إليه ذكر جزاء الفريقين بعد.(4/666)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
في إِمَّا وهي قراءة حسنة. والمعنى: أما شاكرا فبتوفيقنا، وأما كفورا فبسوء اختياره «1»
[سورة الإنسان (76) : آية 4]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ: سلاسل، غير منون. وسلاسلا، بالتنوين «2» . وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق، ويجرى الوصل مجرى الوقف. والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 10]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
الْأَبْرارَ جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ «3» . والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها: كأسا مِزاجُها ما تمزج به كافُوراً ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور «4» ورائحته
__________
(1) . قوله «فيسوء اختياره» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يخلق الشر، أما عند أهل السنة فهو خالق الخير والشر، كالشكر والكفر. (ع)
(2) . قال محمود: «قرئ بتنوين سلاسل فوجهه أن تكون هذه النون بدلا من ألف الإطلاق ... الخ» قال أحمد: وهذا من الطراز الأول لأن معتقده أن القراءة المستفيضة غير موقوفة على النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفاصيلها، وأنها موكولة إلى اجتهاد القراء واختيارهم بمقتضى نظرهم كما مر له، وطم على ذلك هاهنا فجعل تنوين سلاسل من قبيل الغلط الذي يسبق إليه اللسان في غير موضعه لتمرنه عليه في موضعه، والحق أن جميع الوجوه المستفيضة منقولة تواترا عنه صلى الله عليه وسلم، وتنوين هذا على لغة من يصرف في نثر الكلام جميع ما لا ينصرف إلا أفعل، والقراآت مشتملة على اللغات المختلفة، وأما قوارير قوارير: فقرئ بترك تنوينهما وهو الأصل، وتنوين الأول خاصة بدلا من ألف الإطلاق لأنها فاصلة، وتنوين الثانية كالأولى اتباعا لها، ولم يقرأ أحد بتنوين الثانية وترك تنوين الأولى، فانه عكس أن يترك تنوين الفاصلة مع الحاجة إلى المجانسة، وتنوين غيرها من غير حاجة.
(3) . قوله «لا يؤذون الذر» في الصحاح «الذر» النمل. (ع)
(4) . قال محمود: «كافورا عين في الجنة اسمها كذلك في لون الكافور ورائحته وبرده ... الخ» قال أحمد: هذا الجواب على القولين الأولين، وأما على القولين الآخرين وهو أن العين بدل من الكأس. ومعنى مزاجها بالكافور:
إما اشتمالها على أوصافه، وإما أن يكون الكافور المعهود كما تقدم، فلا يتم الجواب المذكور، فيجاب عن السؤال بأنه لما ذكر الشراب أولا باعتبار الوقوع في الوجود، ذكره ثانيا مطمئنا للالتذاذ به، وكأنه قال: فيشربون منها فيلتذون بها، وعليه حمله أبو عبيدة.(4/667)
وبرده. وعَيْناً بدل منه. وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقيل: تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده. فكأنها مزجت بالكافور. وعَيْناً على هذين القولين:
بدل من محل مِنْ كَأْسٍ على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص. فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلا، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت: لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل يُفَجِّرُونَها يجرونها حيث شاءوا من منازلهم تَفْجِيراً سهلا لا يمتنع عليهم يُوفُونَ جواب من عسى، يقول:
ما لهم يرزقون ذلك، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأنّ من وفي بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أو في مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من طار، بمنزلة استنفر من نفر عَلى حُبِّهِ الضمير للطعام، أى: مع اشتهائه والحاجة إليه. ونحوه وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وعن الفضيل بن عياض: على حب الله وَأَسِيراً عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبى سعيد الخدري:
هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم الغريم:
أسيرا، فقال «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» إِنَّما نُطْعِمُكُمْ على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، وأن يكون قولهم لهم لطفا وتفقيها وتنبيها، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ويجوز أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا. وعن مجاهد:(4/668)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدران كالشكر والكفر إِنَّا نَخافُ يحتمل إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة.
ووصف اليوم بالعبوس. مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم:
نهارك صائم: روى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل: والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها «1» ، فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة «2»
واصطليت الحروب في كلّ يوم ... باسل الشّرّ قمطرير الصّباح «3»
[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 22]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
__________
(1) . قوله «وجمعت قطريها وزمت بأنفها» القطر: الناحية والجانب. وزق الطائر فرخه: أطعمه بفيه.
والزقرة: ترقيص الطفل، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «قال أسد بن ناعصة» من النعص: وهو التمايل. (ع)
(3) . لأسد بن ناعصة. وصلى النار واصطلاها إذا ذاق شدة حرها وتدفأ بها، فشبه الحرب بالنار على طريق المكنية، والاصطلاء تخييل، والباسل: الشجاع إذا اشتد كلوحه. والقمطرير: الشديد العيوس الذي يجمع ما بين عينيه، يقال: اقمطرت الناقة، إذا جمعت قطريها فرفعت ذنبها وزمت بأنفها، فهو من القطر، والميم زائدة، ووصف الشر والصياح بذلك مجاز.(4/669)
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أى: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك «1» ، فنذر علىّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما: أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علىّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال:
السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعمونى أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ على رضى الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها. فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنىّ، وحريرا فيه ملبس بهىّ. يعنى: أن هواءها معتدل، لا حرّ شمس يحمى ولا شدّة برد تؤذى. وفي الحديث: هواء الجنة سجسج «2» ، لا حرّ ولا قرّ. وقيل: الزمهرير القمر.
وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ. وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزّمهرير ما زهر «3»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن ابن عباس ومن رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس في قوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ- الآية فذكر تمامه. وزاد في أثنائه أشعارا لعلى وفاطمة. قال الحكيم الترمذي في الرابع والأربعين: ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن مجاهد عن ابن عباس فذكره بشعره. ثم قال: هذا حديث مزوق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أبى عبد الله السمرقندي. عن محمد بن كثير عن الأصبغ بن نباتة. قال: مرض الحسن والحسين. إلى آخره فذكره بشعره وزيادة ألفاظ. ثم قال: وهذا لا نشك في وضعه.
(2) . قوله «هواء الجنة سجسج» تفسيره ما بعده، كما يفيده الصحاح. (ع)
(3) . أى: ورب ليلة ظلامها قد تراكم واختلط وكثر، قطعتها وأمضيتها بالسير، والحال أن الزمهرير ما زهر أى: ما ظهر وأضاء. والزمهرير في لغة طيئ: القمر، وهذه الحال مؤكدة لاعتكار الظلام.(4/670)
والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ: ودانية، بالرفع، على أن ظلالها مبتدأ، ودانية خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى:
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية عليهم، ويجوز أن تجعل مُتَّكِئِينَ ولا يَرَوْنَ ودانِيَةً كلها صفات لجنة. ويجوز أن يكون وَدانِيَةً معطوفة على جنة، أى:
وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ لأنهم وصفوا بالخوف: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا. فإن قلت: فعلام عطف وَذُلِّلَتْ؟
قلت: هي- إذا رفعت وَدانِيَةً-: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من دانية، أى: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها، وإذا نصبت وَدانِيَةً على الوصف، فهي صفة مثلها، ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها: كان صحيحا، وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا قَوارِيرَا قَوارِيرَا قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأوّل، ومعنى قوارير من فِضَّةٍ أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. فإن قلت: ما معنى كانت؟ قلت: هو من «يكون» في قوله كُنْ فَيَكُونُ أى: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله: كان مزاجها كافورا. وقرئ: قوارير من فضة، بالرفع على: هي قوارير قَدَّرُوها صفة لقوارير من فضة. ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله وَيُطافُ عَلَيْهِمْ على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: قدّروها، على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر، منقولا من قدر. تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادرا له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.(4/671)
قال الأعشى:
كأنّ القر نفل والزّنجبيل ... باتا بفيها وأريا مشورا «1»
وقال المسيب بن علس «2»
وكأنّ طعم الزّنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر «3»
وسَلْسَبِيلًا لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعنى: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة. يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة. قال الزجاج:
السلسبيل في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. وقرئ: سلسبيل، على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث، وقد عزوا إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره. إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلا، جعلت علما للعين، كما قيل: تأبط شرا، وذرّى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل على رضى الله عنه أبدع.
وفي شعر بعض المحدثين:
سل سبيلا فيها إلى راحة النّفس ... براح كأنّها سلسبيل «4»
وعَيْناً بدل من زَنْجَبِيلًا وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها.
وعَيْناً على هذا القول: مبدلة من كَأْساً كأنه قيل: ويسقون فيها كأسا كأس عين. أو منصوبة على الاختصاص. شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور
__________
(1) . للأعشى، شبه رائحة فمها وطعمه بالقرنفل والزنجبيل، لأن العرب تستطبيهما وتستلذهما، وشبه طعم ريقها بطعم الأرى: وهو العسل. والمشور: اسم مفعول، من شاره شورا إذا جناه. والشور: موضع تعسل فيه النحل.
(2) . قوله «المسيب بن علس» العلس في الأصل: القراد الضخم. وبه سمى الرجل، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . للمسيب بن علس، وإجراء التشبيه هنا في طعم الزنجبيل يفيد أنه في البيت السابق كذلك، وضمير به للفم وإذ ذقته: أى حين ذقت ريقه، فهو مجاز، وسلافة الخمر: أول ما يعصر من العنب ويتخمر، وتشبه طعم الريق بهما في مطلق الاستلذاذ لا يفيد أن فيه حرافة كما فيهما. وسلافة: عطف على طعم. ويجوز أن ضمير «به» للريق وهو المذوق، ومعنى كون السلافة به: أنها ممزوجة فيه. [.....]
(4) . اطلب طريقا فيها إلى راحة نفسك، براح: أى بخمر. والسلسبيل والسلسال والسلسل: عين في الجنة سهلة الانحدار في الحلق، سلسة المساغ. وزيدت الباء مبالغة في الدلالة على السلاسة والسهولة. وشبه الخمر بها لما هو معلوم وثابت بين الناس أن شراب الجنة أعلى الشراب.(4/672)
وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ. فنظر إليه منثورا على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: لله درّ أبى نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب «1»
وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء رَأَيْتَ ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية، ثم. ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير. وثَمَّ في موضع النصب على الظرف، يعنى في الجنة ومن قال: معناه «ما ثم» فقد أخطأ، لأن «ثم» صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة كَبِيراً واسعا وهنيئا. يروى: أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل لا زوال له. وقيل: إذا أرادوا شيأ كان. وقيل: يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ: عاليهم، بالسكون، على أنه مبتدأ خبره «2» ثِيابُ سُندُسٍ أى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وعاليهم. بالنصب، على أنه حال من الضمير في يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أو في حَسِبْتَهُمْ أى يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب. أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. وعاليتهم: بالرفع والنصب على ذلك. وعليهم. وخضر. وإستبرق: بالرفع، حملا على الثياب بالجر على السندس.
وقرئ: وإستبرق، نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمى، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ: وإستبرق، بوصل الهمزة والفتح: على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأنّ أصله: استبره وَحُلُّوا عطف على وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ. فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من
__________
(1) . لأبى نواس، يصف الخمر بأن حبابها الذي يعلوها كالقوارير يشبه الدر، وبأنها تشبه الذهب، وهو من التشبيه المركب. وحكى أنه لما زفت بوران بنت الحسن بن سهل للمأمون بن الرشيد كان على بساط منسوج بالذهب ونثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه وقال: لله در أبى نواس حيث قال: كأن صغرى ... البيت، وقد عيب عليه استعمال صغرى وكبرى مجردتين من أل والاضافة، مع أنهما عن أفعل التفضيل، وهو إذا جرد وجب تذكيره.
(2) . قال محمود: «قرئ بالسكون على أنه مبتدأ خبره ثياب ... الخ» قال أحمد: في هذا الوجه الآخر نظر، فانه يجعله داخلا في مضمون الحسبان، وكيف يكون ذلك وهم لابسون السندس حقيقة، لا على وجه التشبيه باللؤلؤ، بخلاف كونهم لؤلؤا، فانه على طريق التشبيه المقتضى لقرب شبههم باللؤلؤ إلى أن يحسبوا لؤلؤا. ويحتمل أن يصحح هذا الوجه لكن بعد تكلف مستغنى عنه بالأول.(4/673)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
ذهب. قلت: هب أنه قيل: وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسوّرون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة شَراباً طَهُوراً ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة «1» ، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. أى: يقال لأهل الجنة إِنَّ هذا وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ: تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل إلا حكمة وصوابا، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما إلا أنا لا غيرى، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعى الحكمة، ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدا قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فإن قلت: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله آثِماً أَوْ كَفُوراً؟ قلت: معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه. أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل: الآثم عتبة، والكفور:
الوليد، لأنّ عتبة كان ركابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غالبا في الكفر
__________
(1) . قوله «فتمسه الأبدى الوضرة» من الوضر: وهو الدرن والدسم. أفاده الصحاح. (ع)(4/674)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت: معنى أو: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل: ولا تطعهما، جاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل:
لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعا أنهى. كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ودم على صلاة الفجر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وبعض الليل فصل له. أو يعنى صلاة المغرب والعشاء، وأدخل مِنَ على الظرف للتبعيض، كما دخل على المفعول في قوله لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له هزيعا طويلا «1» من الليل:
ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يؤثرونها على الآخرة، كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَراءَهُمْ قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به يَوْماً ثَقِيلًا استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الأسر: الربط والتوثيق. ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق. وترس مأسور بالعقب «2» . والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته وَإِذا شِئْنا أهلكناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بإن، لا بإذا، كقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
__________
(1) . قوله «وتهجد له هزيعا طويلا» في الصحاح: مضى هزيع من الليل، أى: طائفة. (ع)
(2) . قوله «وترس مأسور بالعقب» في الصحاح: العقب- بالتحريك-: العصب: الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة، تقول منه: عقبت السهم والقدح والقوس: إذا لويت شيئا منه عليه. (ع)(4/675)
هذِهِ إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة فَمَنْ شاءَ فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة وَما تَشاؤُنَ الطاعة «1» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بقسرهم عليها «2» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: تشاؤن، بالتاء. فإن قلت: ما محل أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟ قلت النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: إلا ما يشاء الله. لأنّ ما مع الفعل كأن معه يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ هم المؤمنون ونصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعود: وللظالمين، على: وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير: والظالمون على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» «3» .
__________
(1) . قال محمود: «معناه وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله ... الخ» قال أحمد: وهذا من تحريفاته للنصوص وتسوره على خزائن الكتاب العزيز، كدأب الشطار واللصوص، فلنقطع يد حجته التي أعدها، وذلك حكم هذه السرقة وحدها، فنقول: الله تعالى نفى وأثبت على سبيل الحصر الذي لا حصر ولا نصر أوضح منه. ألا ترى أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي والإثبات، لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر وأدله عليه، فنفى الله تعالى أن يفعل العبد شيئا له فيه اختيار ومشيئة، إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل، فمقتضاه ما لم يشأ الله وقوعه من العبد لا يقع من العبد، وما شاء منه وقوعه وقع، وهو رديف: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وانظر إدخاله القسر في تعطيل الآية لا تأويلها كيف ناقض به، فان معنى الآية عنده: أن مشيئة العبد الفعل لا تكون إلا إذا قسره الله عليها، والقسر مناف للمشيئة، فصار الحاصل أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت، فإذا لا مشيئة للعبد البتة ولا اختيار، وما هو إلا فر من إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة ومشيئة غير خالقة، ليتم له إثبات قدرة ومشيئة مؤثرين، فوقع في سلب القدرة والمشيئة أصلا ورأسا، وحيث لزم الحيد عن الاعتزال: انحرف بالكلية إلى الطرف الأقصى متحيزا إلى الجبر، فيا بعد ما توجه بسوء نظره. والله الموفق.
(2) . قوله «إلا أن يشاء الله أن بقسرهم عليها» إرادته تعالى تستلزم وجود المراد، ولكن لا تستلزم كون العبد مقسورا ومجبورا على الفعل إلا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فقد أثبتوا للعبد للكسب، مع كون الله هو الخالق لفعل عندهم، وتفصيل ذلك في التوحيد. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.(4/676)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
سورة المرسلات
مكية، [إلا آية 48 فمدنية] وآياتها 50 [نزلت بعد الهمزة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6)
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح، تخففا في امتثال أمره، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرّقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عُذْراً للمحقين أَوْ نُذْراً للمبطلين. أو أقسم برياح عذاب أرسلهن. فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرّقن بينه، كقوله: وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أو بسحائب نشرن الموات، ففرّقن بين هن يشكر لله تعالى وبين من يكفر، كقوله لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فألقين ذكرا إمّا عذرا للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذارا الذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت. فإن قلت: ما معنى عرفا؟ قلت: متتابعة كشعر العرف «1» . يقال: جاءوا عرفا واحدا، وهم عليه كعرف الضبع: إذا تألبوا عليه، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر، وانتصابه على أنه مفعول له، أى: أرسلن للإحسان والمعروف، والأول على الحال. وقرئ: عرفا على التثقيل، نحو نكر في نكر. فإن قلت:
قد فسرت المرسلات بملائكة العذاب، فكيف يكون إرسالهم معروفا؟ قلت: إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم. فإن قلت: ما العذر والنذر، وبما انتصبا؟ قلت: هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على
__________
(1) . قوله «كشعر العرف» في الصحاح «العرف» : عرف الفرس. وقوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً يقال: هو مستعار من عرف الفرس، أى: يتتابعون كعرف الفرس. وفيه «تألبوا» : تجمعوا. (ع)(4/677)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
فعل، كالكفر والشكر، ويجوز أن يكون جمع عذير، بمعنى المعذرة، وجمع نذير بمعنى الإنذار.
أو بمعنى العاذر والمنذر. وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا على الوجهين الأوّلين. أو على المفعول له. وأما على الوجه الثالث فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرئا: مخففين ومثقلين.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 7 الى 15]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائن نازل لا ريب فيه، وهو جواب القسم.
وعن بعضهم: أن المعنى: ورب المرسلات طُمِسَتْ محيت ومحقت. وقيل: ذهب بنورها ومحق ذواتها، موافق لقوله انْتَثَرَتْ وانْكَدَرَتْ ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور فُرِجَتْ فتحت فكانت أبوابا. قال الفارجى: باب الأمير المبهم نُسِفَتْ كالحب إذا نسف بالمنسف. ونحوه وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا وقيل: أخذت بسرعة من أماكنها، من انتسفت الشيء إذا اختطفته. وقرئت: طمست: وفرجت ونسفت مشدّدة. قرئ: أقتت. ووقتت، بالتشديد والتخفيف فيهما. والأصل: الواو. ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. والتأجيل: من الأجل، كالتوقيت: من الوقت لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق. والوجه أن يكون معنى وقتت: بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره: وهو يوم القيامة. وأجلت: أخرت. فإن قلت: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه. ونحوه سَلامٌ عَلَيْكُمْ ويجوز: ويلا، بالنصب، ولكنه لم يقرأ به. يقال: ويلا له ويلا كيلا.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
قرأ قتادة: نهلك، بفتح النون، من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج:(4/678)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
ومهمه هالك من تعرّجا «1»
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ بالرفع على الاستئناف، وهو وعيد لأهل مكة. يريد: ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويها قراءة ابن مسعود. ثم سنتبعهم. وقرئ بالجزم للعطف على نهلك. ومعناه: أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب ولوط وموسى كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الشنيع نَفْعَلُ بكل من أجرم إنذارا وتحذيرا من عاقبة الجرم وسوء أثره.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به: وهو تسعة الأشهر، أو ما دونها، أو ما فوقها فَقَدَرْنا فقدّرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ فنعم المقدّرون له نحن. أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن، والأوّل أولى لقراءة من قرأ: فقدّرنا بالتشديد، ولقوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 28]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
الكفات: من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه: وهو اسم ما يكفت، كقولهم: الضمام والجماع لما يضم ويجمع، يقال: هذا الباب جماع الأبواب، وبه انتصب أَحْياءً وَأَمْواتاً كأنه قيل: كافتة أحياء وأمواتا. أو بفعل مضمر يدل عليه وهو تكفت. والمعنى: تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها. وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات، فكان بطنها حرزا لهم، فالنباش سارق من الحرز.
فإن قلت: لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير، وهي كفات الأحياء والأموات جميعا؟ قلت:
__________
(1) .
ومهمه هالك من تعرجا ... لا يرتجى الخريت منها مخرجا
العجاج. والمهمه: المفازة القفرة. ويقال: أهلكه وهلكه. ومنه: هالك من تعرج. وعرج وتعرج: إذا نزل في المكان. والخريت: الدليل العارف بالطرق الضيقة، ولو مثل خرت الابرة، أى: لا يرجو الدليل مخرجا منها إذا ولجها، فما بال غيره، وهو مع ذلك قطعه بالسير.(4/679)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياء لا يعدون وأمواتا لا يحصرون، على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم أحياء وأمواتا، فينتصبا على الحال من الضمير، لأنه قد علم أنها كفات الإنس. فإن قلت:
فالتنكه في رَواسِيَ شامِخاتٍ وماءً فُراتاً؟ قلت: يحتمل إفادة التبعيض، لأنّ في السماء جبالا قال الله تعالى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وفيها ماء فرات أيضا، بل هي معدنه ومصبه، وأن يكون للتفخيم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 37]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
أى يقال لهم: انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب، وانطلقوا الثاني تكرير. وقرئ:
انطلقوا على لفظ الماضي إخبارا بعد الأمر عن عملهم بموجبه، لأنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعا منه إِلى ظِلٍّ يعنى دخان جهنم، كقوله: وظل من يحموم ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ بتشعب لعظمه ثلاث شعب، وهكذا الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب. وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش لا ظَلِيلٍ تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي في محل الجر، أى: وغير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا بِشَرَرٍ وقرئ:
بشرار كَالْقَصْرِ أى كل شررة كالقصر من القصور في عظمها. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة قصرة، نحو: جمرة وجمر. وقرئ: كالقصر، بفتحتين: وهي أعناق الإبل، أو أعناق النخل، نحو شجرة وشجر. وقرأ ابن مسعود: كالقصر بمعنى القصور، كرهن ورهن. وقرأ سعيد ابن جبير: كالقصر في جمع قصرة، كحاجة وحوج جِمالَتٌ جمع جمال. أو جمالة جمع جمل، شبهت بالقصور، ثم بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل «1» .
وقرئ: جمالات، بالضم: وهي قلوس الجسور. وقيل: قلوس سفن البحر، الواحدة جمالة.
__________
(1) . قوله «بالأفدان والمجادل» جمع فدن وجمع مجدل، وكلاهما بمعنى القصر، كذا في الصحاح. وفيه أيضا «الجسر» بالفتح: الفطيم من الإبل. وفيه «القلس» : حبل ضخم من قلوس السفن. (ع)(4/680)
وقرئ: جمالة، بالكسر، بمعنى: جمال: وجمالة بالضم: وهي القلس. وقيل صُفْرٌ لإرادة الجنس. وقيل صُفْرٌ: سود تضرب إلى الصفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي:
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى «1»
وقال أبو العلاء:
حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى ... ترمى بكلّ شرارة كطراف «2»
فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه: أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمى: جمع الله له عمى الدارين عن قوله عز وعلا، كأنه جمالات صفر، فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس:
تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم والطول والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه.
قرئ بنصب اليوم، ونصبه الأعمش، أى: هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، ويوم القيامة طويل ذو مواطن ومواقيت: ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمران في القرآن. أو جعل نطقهم كلا نطق، لأنه لا ينفع ولا يسمع فَيَعْتَذِرُونَ عطف
__________
(1) . لعمرو بن حطان يصف جهنم. وشبهها في اختطافها للكفار بلهيبها وكلاليبها بعاقل يصح منه الدعاء على سبيل المكتبة، فالدعاء والرمي: تخييل، والصوت ترشيح. ويجوز أنها تفعل ذلك حقيقة، كقولها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وقال ابن عباس: تدعو الناس بأسمائهم بلسان فصيح وتقول: إلىّ إلىّ، تلتقطهم كما يلقط الطير الحب، ثم قال:
ورمتهم بشرر مثل الجبال الصفر. والمراد التي يرهق سوادها صفرة. ونزاعة للشوى: فاعل. والشوى: اسم جمع شواة، وهي الشواية: البقية القليلة من اللحم ونحوه، وتصغر شواية على شوية لزيادة التحقير. ويحتمل أن «شوية» تصغير شيء، قلبت ياؤه واوا وقلبت همزته ياء وألحق التاء المثناة. وقيل الشوى: الأطراف والجلد. وقيل:
كل ما ليس مقتلا للإنسان، يعنى أنها تنزع جلود أهلها وأطرافهم، لكن يبدلون غيرها، والألف في قافية البيت للإطلاق.
(2) .
الموقدى نار القرى الأصال ... والاسحار بالأهضام والاشعاف
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمى بكل شرارة كطراف
لأبى العلاء المعرى يصف قوما بالكرم، والموقدى حذفت نوته بالاضافة لمفعوله. والآصال: جمع أصيل، نصب على الظرفية، أى: يوقدن النار في الآصال العشاء. وفي الأسحار لتعجيل الغذاء. والأهضام: المواضع المطمئنة.
والأشعاف: أعالى الجبل، حمراء: حال من النار. وذوائبها: أطراف لهبها في الدجى، أى: الظلم، ترمى: جملة حالية. وشبه الشرارة بالطراف: وهو بيت من أدم في العظم والحمرة، وإذا كانت الشرارة كذلك فكيف النار كلها؟ [.....](4/681)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
على يُؤْذَنُ منخرط في سلك النفي. والمعنى: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الإذن. ولو نصب لكان مسببا عنه لا محالة.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 45]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ كلام موضح لقوله هذا يَوْمُ الْفَصْلِ لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم. فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين، حتى يقع ذلك الفصل بينهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة كُلُوا وَاشْرَبُوا في موضع الحال من ضمير المتقين، في الظرف الذي هو في ظلال، أى: هم مستقرّون في ظلال، مقولا لهم ذلك.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 50]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وكُلُوا وَتَمَتَّعُوا حال من المكذبين، أى الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم كلوا وتمتعوا فإن قلت: كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ قلت: يقال لهم ذلك في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيرا بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد. وفي طريقته قوله:
إخوتى لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا «1»
يريد: كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك، وعلل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ماله إلا الأكل والتمتع أياما قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبدا. ويجوز أن يكون كُلُوا وَتَمَتَّعُوا كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا ارْكَعُوا اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 405 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/682)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
وحيه واتباع دينه. واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويصرون على استكبارهم. وقيل: ما كان على العرب أشدّ من الركوع والسجود: وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نجي «1» فإنها مسبة «2» علينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود بَعْدَهُ بعد القرآن، يعنى أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأى كتاب بعده يُؤْمِنُونَ وقرئ: تؤمنون، بالتاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والمرسلات كتب له أنه ليس من المشركين» «3»
سورة عمّ يتساءلون
مكية، وتسمى سورة النبإ، وهي أربعون، أو إحدى وأربعون آية [نزلت بعد المعارج] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
عَمَّ أصله عما، على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية، وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر. قال حسان رضى الله عنه:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد «4»
__________
(1) . قوله «فقالوا لا نجى» نجبى من التجبية: وهي الانحناء اه. (ع)
(2) . هكذا ذكره الثعلبي. وأخرجه أبو داود وأحمد وابن أبى شيبة والطبراني من رواية الحسن عن عثمان بن أبى العاص به وأتم منه.
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه عن أبى بن كعب.
(4) .
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
وتلقاه على ما كان فيه ... من الهفوات أو نوك الفؤاد
جبين الغى لا يغبى عليه ... ويغبى بعد عن سيل الرشاد
لحسان بن المنذر. وقيل: ابن ثابت، يهجو أحد بنى عائذ بن عمرو بن مخزوم. وما استفهام إنكارى وكان حقها حذف الألف لدخول حرف الجر عليها، وثبوتها قليل، أى: على أى شيء يسبني لئيم مثل الخنزير المتمرغ في الرماد لذله. ويروى: في دمان كرماد وزنا ومعنى. أو بمعنى الدمنة وهي الكناسة المختلطة بالبعر، ولعل ابن ثابت غيره وإلا فقصيدة ابن المنذر دالية لا نونية. والنوك: الحمق والهوج. والفؤاد: القلب والعقل، أى: وتلقاه مع ما ثبت فيه من الخلل لا يخفى عليه الغى المبين، أى: يرتكب طريقه ولا يعرف سبل الرشاد. ومعنى البعدية: تفاوت ما بين الخبرين. وغبا عليه الشيء- كرضى-: خفى عليه. وغبي هو عن الشيء- كرضى أيضا-: عجز عن معرفته.
وفي قوله «لا يغبى ... الخ» طباق الإيجاب والسلب.(4/683)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
والاستعمال الكثير على الحذف، والأصل: قليل. ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال: عن أى شأن يتساءلون. ونحوه ما في قولك: زيد ما زيد «1» ؟ جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفى عليك جنسه فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد: أى شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم «2» ، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا. أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. نحو: يتداعونهم ويتراءونهم. والضمير لأهل مكة: كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للشأن المفخم. وعن ابن كثير أنه قرأ: عمه، بهاء السكت، ولا يخلو: إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف وإما أن يقف ويبتدئ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على أن يضمر يَتَساءَلُونَ لأنّ ما بعده يفسره، كشيء يبهم ثم يفسر. فإن قلت: قد زعمت أنّ الضمير في يتساءلون للكفار، فما تصنع بقوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ؟ قلت: كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، ومنهم من يشك. وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعا، وكانوا جميعا يسألون عنه. أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا، وأما الكافر فليزداد استهزاء. وقيل: المتساءل عنه القرآن. وقيل: نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرئ: يسّاءلون بالإدغام، وستعلمون بالتاء.
[سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
كَلَّا ردع للمتسائلين هزؤا. وسَيَعْلَمُونَ وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق، لأنه واقع لا ريب فيه. وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك.
ومعنى ثُمَّ الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشد.
__________
(1) . قال محمود: «معنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن، كأنه قيل: عن أى شيء يتساءلون ونحوه ما في قولك ... الخ» قال أحمد: وقد أكثرت أم زرع من هذا التفخيم في قولها: وأبو زرع ما أبو زرع، إلى آخر حديثها.
(2) . قال محمود: «هذا أصله، ثم جرد الدلالة على التفخيم ... الخ» قال أحمد. لان بعضهم يشك في البعث، وبعضهم يبت النفي، ومن ثم قيل الضمير للمسلمين والكافرين، فسؤال المسلمين ليزدادوا خشية، وإنما سؤال الكفار لزيادة الاستهزاء والكفر.(4/684)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
[سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 16]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
فإن قلت: كيف اتصل به قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً «1» قلت: لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة، فما وجه إنكار قدرته على البعث، وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات. أو قيل لهم: ألم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة. والحكيم لا يفعل فعلا عبثا، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابث في كل ما فعل مِهاداً فراشا. وقرئ: مهدا. ومعناه: أنها لهم كالمهد للصبي: وهو ما يمهد له فينوّم عليه، تسمية للممهود بالمصدر، كضرب الأمير. أو وصفت بالمصدر. أو بمعنى: ذات مهد، أى: أرسيناها بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد سُباتاً موتا. والمسبوت: الميت، من السبت وهو القطع، لأنه مقطوع عن الحركة. والنوم: أحد التوفيين، وهو على بناء الأدواء.
ولما جعل النوم موتا، جعل اليقظة معاشا، أى: حياة في قوله وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أى:
وقت معاش تستيقظون فيه وتتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم. وقيل: السبات الراحة لِباساً يستركم عن العيون إذا أردتم هربا من عدوّ، أو بياتا له. أو إخفاء مالا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور.
وكم لظلام اللّيل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب «2»
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: كيف اتصال قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً بما قبله ... الخ» قال أحمد:
جوابه الأول سديد، وأما الثاني فغير مستقيم، فانه مقرع على المذهب الأعوج في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح، واعتقاد أن الجزاء واجب على الله تعالى عقلا ثوابا وعقابا بمقتضى إيجاب الحكمة. وقد فرغ من إبطال هذه القاعدة
(2) .
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
ووقاك ردى الأعداء تسرى إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب
لأبى الطيب. وكم خبرية للتكثير. واليد: النعمة. وتخبر: تدل مجازا مرسلا. والمانوية طائفة تنسب الخير للنور والشر للظلام، فكذبهم في البيت الأول، واستدل على ذلك، وبنى اليد في الثاني. والدلال: تمنع المحجوب مع رضاه. وتسرى: حال، والمحجب: نعت ذى الدلال، وإيضاح مسألة المانوية. أنه لم يخالف في أن الله واحد إلا الثنوية. قالوا: تجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا، والواحد لا يكون خيرا شريرا، فلكل من الخير والشر فاعل مستقل، فالمانوية والديصانية عن الثنوية قالوا: فاعل الخير هو النور، وفاعل الشر هو الظلمة، واعتقموا أنهما جسمان قديمان حساسان سميعان بصيران. والمجوس من الثنوية أيضا قالوا: إن فاعل الخير هو: يزوان.
وفاعل الشر هو: أهرمن، يعنون به الشيطان، وكل ذلك ظاهر البطلان.(4/685)
سَبْعاً سبع سماوات شِداداً جمع شديدة، يعنى: محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الأزمان وَهَّاجاً متلألئا وقادا، يعنى: الشمس: وتوهجت النار: إذا تلمظت «1» فتوهجت بضوئها وحرها. المعصرات: السحائب إذا أعصرت، أى: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا حان له أن يجز. ومنه: أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وقرأ عكرمة: بالمعصرات، وفيه وجهان: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب، لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها، كما تقول: أعطى من يده درهما، وأعطى بيده. وعن مجاهد: المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السماوات.
وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السماوات يعصرن، أى: يحملن على العصر ويمكنّ منه. فإن قلت: فما وجه من قرأ مِنَ الْمُعْصِراتِ وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطر لا ينزل من الرياح؟ قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه «2» ، فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال وقد جاء أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر. فإن قلت: ذكر ابن كيسان «3» أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر. يقال: عصره فاعتصر. قلت:
وجهه أن يريد اللاتي أعصرن، أى حان لها أن تعصر، أى: تغيث ثَجَّاجاً منصبا بكثرة. يقال: ثجه وثج نفسه وفي الحديث: «أفضل الحج: العجّ والثجّ» «4» أى رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدى. وكان ابن عباس مثجا يسبل غربا، يعنى يثج الكلام ثجا في خطبته. وقرأ الأعرج:
ثجاجا. ومثاجج الماء: مصابه، والماء ينثجج في الوادي حَبًّا وَنَباتاً يريد ما يتقوّت من الحنطة والشعير وما يعتلف من التبن والحشيش، كما قال كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ،
__________
(1) . قوله «وتوهجت النار إذا تلمظت» في الصحاح «توهجت النار» توقدت. وتوهج الجوهر: تلألأ، فقوله: فتوهجت ... الخ: يعنى جمعت بين التلألؤ بضوئها، والتوقد بحرها، فتدير. (ع)
(2) . قوله «وتدر أخلافه» واحدها خلف: وهو ثدي الناقة، كما يفيده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فان قلت ذكر ابن كيسان» لعله «ذكر عن ابن كيسان» . (ع)
(4) . أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر بمعناه. وضعفه إبراهيم بن يزيد الخرزي. وأخرجه هو وابن ماجة من روآية محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن ابن يربوع عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه مرفوعا نحوه.
وقال لم يسمع ابن المنكدر عن عبد الرحمن بن يربوع.(4/686)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ. أَلْفافاً ملتفة ولا واحد له، كالأوزاع والأخياف «1» . وقيل:
الواحد لف. وقال صاحب الإقليد: أنشدنى الحسن بن على الطوسي:
جنّة لفّ وعيش مغدق ... وندامى كلّهم بيض زهر «2»
وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف، ثم ألفاف: وما أظنه واجدا له نظيرا من نحو خضر وأخضار وحمر وأحمار، ولو قيل: هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد، لكان قولا وجيها.
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
كانَ مِيقاتاً كان في تقدير الله وحكمه حدّا توقت به الدنيا وتنتهي عنده، أو حدا للخلائق ينتهون إليه يَوْمَ يُنْفَخُ بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان فَتَأْتُونَ أَفْواجاً من القبور إلى الموقف أمما كل أمّة مع إمامهم. وقيل: جماعات مختلفة. وعن معاذ رضى الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتى: بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون: أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عميا، وبعضهم صما بكما، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم: يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير: فأهل السحت.
وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم
__________
(1) . قوله كالأوزاع والأضياف» في الصحاح «أوزاع من الناس» أى: جماعات. والأوزاع: بطن من همدان. وفيه «الناس أضياف» أى: مختلفون. وإخوة أضياف، إذا كانت أمهم واحدة، والآباء شتى. (ع) [.....]
(2) . للحسن بن على الطوسي. واللف- بالكسر: - الملتف أريد به الملتفة لتكاثف أشجارها وأوراقها. والمغدق الكثير الواسع. والبيض: مجاز عن الأخبار. ويجوز أنه على ظاهره. ورجل أزهر: مشرق الوجه، فالزهر:
المشرقو الوجوه، كأحمر وحمر، يعنى: أن ندماءه خبار حسان الخصال. أو بيض حسان الوجوه. والمطرد في جمع أفعل وفعلاء على فعل: سكون العين. ويجوز في الشعر ضمها فيما صحت عينه ولامه ولم يضعف كما هنا، وكما في قوله:
وأنكرتنى ذوات الأعين النجل
على أنه يجوز للشاعر تحريك الساكن بحركة ما قبله للوزن، ويجوز تحريكه بحركة ما بعده إذا سكن للوقف، فيكون بفتح الهاء، كغرفة وغرف.(4/687)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» «1» وقرئ: وفتحت، بالتشديد والتخفيف. والمعنى: كثرة أبوابها المفتحة لنزول الملائكة، كأنها ليست إلا أبوابا مفتحة، كقوله وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً كأن كلها عيون تتفجر. وقيل:
الأبواب الطرق والمسالك، أى. تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقا لا يسدّها شيء فَكانَتْ سَراباً كقوله فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا يعنى أنها تصير شيئا كلا شيء، لتفرّق أجزائها وانبثات جواهرها.
[سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 30]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
المرصاد: الحدّ الذي يكون فيه الرصد. والمعنى: أن جهنم هي حدّ الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم. أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها، لأن مجازهم عليها، وهي مآب للطاغين. وعن الحسن وقتادة نحوه، قالا: طريقا وممرّا لأهل الجنة.
وقرأ ابن يعمر: أنّ جهنم، بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأنّ جهنم كانت مرصادا للطاغين، كأنه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء. قرئ: لابثين ولبثين، واللبث أقوى، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال «لبث» إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه أَحْقاباً حقبا «2» بعد حقب، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها، والاشتقاق يشهد لذلك. ألا ترى إلى
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من رواية محمد بن زهير عن محمد بن الهندي عن حنظلة الدوسي عن أبيه عن البراء بن عازب عنه بطوله.
(2) . قوله «أحقابا» في الصحاح «الحقب» بالضم: ثمانون سنة. والحقبة- بالكسر-: واحدة الحقب، وهي السنون. والحقب: الدهر، والأحقاب: الدهور. (ع)(4/688)
حقيبة الراكب، والحقب الذي وراء التصدير «1» وقيل: الحقب ثمانون سنة، ويجوز أن يراد:
لابثين فيها أحقابا غير ذائقين فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من «حقب عامنا» إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان: إذا أخطأه الرزق، فهو حقب، وجمعه أحقاب، فينتصب حالا عنهم، يعنى لابثين فيها حقيبين «2» جحدين. وقوله لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً تفسير له والاستثناء منقطع، يعنى: لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حرّ النار، ولا شرابا يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا وقيل «البرد» النوم، وأنشد:
فلو شئت حرّمت النّساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا «3»
وعن بعض للعرب: منع البرد البرد «4» . وقرئ: غساقا، بالتخفيف والتشديد: وهو ما يغسق، أى: يسيل من صديدهم وِفاقاً وصف بالمصدر. أو ذا وفاق. وقرأ أبو حيوة:
وفاقا، فعال من وفقه كذا كِذَّاباً تكذيبا، وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعنى بعضهم أفسر آية فقال لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله.
وقرئ بالتخفيف، وهو مصدر كذب، بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه «5»
وهو مثل قوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً يعنى: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا. أو تنصبه بكذبوا، لأنه يتضمن معنى كذبوا، لأنّ كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة. أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر، فيبلغ فيه أقصى جهده. وقرئ: كذابا، وهو جمع كاذب، أى: كذبوا
__________
(1) . قوله «والحقب الذي وراء التصدير» في الصحاح «التصدير» : الحزام، وهو في صدر البعير، والحقب عند الثيل. وفيه «الثيل» : وعاء قضيب البعير. (ع)
(2) . قوله «لابثين فيها حقيبين» لعله حقبين من حقب بالكسر كجحدين من جحد: إذا كان ضيقا قليل الخير فيهما، أفاده الصحاح. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 294 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . قوله «منع البرد البرد» أى: منع البرد النوم. (ع)
(5) . الكذاب- ككتاب-: مصدر مضاف لفاعله. وصدقتها وكذبتها- بتخفيفها- بمعنى: قلت لها قولا صادقا تارة، وقولا كاذبا تارة أخرى. أو قلت لها: أنت صادقة تارة، وأنت كاذبة تارة. والضمير لنفسه أو صاحبته مثلا. وعلل ذلك بأن الكذب قد ينفع.(4/689)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
بآياتنا كاذبين، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، وبخال، فيجعل صفة لمصدر كذبوا، أى: تكذيبا كذابا مفرطا كذبه، وقرأ أبو السمال: وكل شيء أحصيناه، بالرفع على الابتداء كِتاباً مصدر في موضع إحصاء وأحصينا في معنى كتبنا، لالتقاء الإحصاء، والكتبة في معنى الضبط والتحصيل. أو يكون حالا في معنى: مكتوبا في اللوح وفي صحف الحفظة. والمعنى: إحصاء معاصيهم، كقوله: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وهو اعتراض. وقوله فَذُوقُوا مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، وهي آية في غاية الشدّة، وناهيك بلن نزيدكم، وبدلالته على أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة. وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهدا على أنّ الغضب قد تبالغ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار» «1» .
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
مَفازاً فوزا وظفرا بالبغية. أو موضع فوز. وقيل: نجاة مما فيه أولئك. أو موضع نجاة. وفسر المفاز بما بعده. والحدائق: البساتين فيها أنواع الشجر المثمر. والأعناب:
الكروم. والكواعب: اللاتي فلكت ثدييهن «2» ، وهن النواهد. والأتراب. اللدات:
والدهاق: المترعة. وأدهق الحوض: ملأه حتى قال قطني. وقرئ: ولا كذابا، بالتشديد والتخفيف، أى: لا يكذب بعضهم بعضا. ولا يكذبه. أولا يكاذبه. وعن على رضى الله عنه أنه قرأ بتخفيف الاثنين جَزاءً مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً كأنه قال: جازى المتقين بمفاز. وعَطاءً نصب بجزاء نصب المفعول به. أى: جزاهم عطاء.
وحِساباً صفة بمعنى: كافيا. من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي. وقيل. على حسب أعمالهم. وقرأ ابن قطيب: حسابا، بالتشديد، على أنّ الحساب بمعنى المحسب، كالدرّاك بمعنى المدرك.
[سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 39]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم والثعلبي من رواية جسر بن فرقد السبخى عن الحسن سألت أبا برزة الأسلمي فذكره وجسر ضعيف. ورواه الطبراني والبيهقي في الشعب موقوفا.
(2) . قوله «فلكت ثديهن» في الصحاح: «فلك ثدي الجارية تفليكا» وتفلك: استدار. (ع)(4/690)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قرئ: رب السماوات. والرحمن: بالرفع، على: هو رب السماوات الرحمن. أو رب السماوات مبتدأ، والرحمن صفة، ولا يملكون: خبر. أو هما خبران. وبالجر على البدل من ربك، وبجر الأوّل ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره لا يَمْلِكُونَ. أو هو الرحمن لا يملكون.
والضمير في لا يَمْلِكُونَ لأهل السماوات والأرض، أى: ليس في أيديهم مما يخاطب به الله ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب، إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه. ويَوْمَ يَقُومُ متعلق بلا يملكون، أو بلا يتكلمون.
والمعنى: إنّ الذين هم أفضل الخلائق «1» وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه وهم الروح والملائكة لا يملكون التكلم بين يديه، فما ظنك بمن عداهم من أهل السماوات والأرض؟
والروح: أعظم خلقا من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين. وقيل: هو ملك عظيم ما خلق الله بعد العرض خلقا أعظم منه. وقيل: ليسوا بالملائكة، وهم يأكلون. وقيل:
جبريل. هما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذونا له في الكلام. وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى «2» ، لقوله تعالى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى.
[سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
مَرْءُ
هو الكافر لقوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
والكافر: ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم، ويعنى اقَدَّمَتْ يَداهُ
من الشر، كقوله وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ،
__________
(1) . قوله «إن الذين هم أفضل الخلائق» تفضيلهم على البشر مذهب المعتزلة، ومذهب أهل السنة تفضيل البشر عليهم: والظاهر أن الروح كالملك في هذا الخلاف، فتدبر. (ع)
(2) . قال محمود: «وقف الشفاعة على شرطين ... الخ» قال أحمد: يعرض بأن الشفاعة لا تحل على مرتكبي الكبائر من الموحدين، وقد صرح بذلك في مواضع تقدمت له، ويتلقى ذلك من أنها مخصوصة بالمرتضين، وذوو الكبائر ليسوا مرتضين. ومن ثم أخطأ فان الله عز وجل ما خصهم بالايمان والتوحيد وتوفاهم عليه، إلا وقد ارتضاهم لذلك، بدليل قوله تعالى وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ فجعل الشكر بمعنى الايمان المقابل للكفر، مرضيا لله تعالى، وصاحبه مرتضى.(4/691)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ و «ما» يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت، أى ينظر أى شيء قدّمت يداه، وموصولة منصوبة بينظر، يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه، والراجع من الصلة محذوف، وقيل: المرء عام، وخصص منه الكافر. وعن قتادة: هو المؤمن الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف. أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. وقيل يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء، ثم يردّه ترابا، فيودّ الكافر حاله.
وقيل: الكافر إبليس، يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة عم يتساءلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة «1» .
سورة النازعات
مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية [نزلت بعد النبإ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/692)
أى تخرجها. من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أى:
تسرع فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمرا من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم غَرْقاً إغراقا في النزع، أى: تنزعها من أقاصى الأجساد من أناملها وأظفارها.
أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزغ في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها، لأنها عراب.
والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك «ثور ناشط» إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها، لأنها من أسبابه. أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب. وإغراقها في النزع:
أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمرا من علم الحساب. وقيل النازعات أيدى الغزاة، أو أنفسهم تنزع القسىّ بإغراق السهام، والتي تنشط الأوهاق «1» والمقسم عليه محذوف، وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة. ويَوْمَ تَرْجُفُ منصوب بهذا المضمر. والرَّاجِفَةُ الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى:
وصفت بما يحدث بحدوثها تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أى الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية. ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أى القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعادا لها، وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل الرَّاجِفَةُ الأرض والجبال، من قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ والرادفة: السماء والكواكب، لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك. فإن قلت: ما محل تتبعها؟ قلت:
الحال، أى: ترجف تابعتها الرادفة. فإن قلت: كيف جعلت يَوْمَ تَرْجُفُ ظرفا للمضمر الذي هو لتبعثن، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ قلت: المعنى: لتبعثنّ في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى. ودلّ على ذلك أنّ قوله تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جعل حالا عن الراجفة. ويجوز أن ينتصب يَوْمَ تَرْجُفُ بما دلّ عليه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أى يوم ترجف وجفت القلوب واجِفَةٌ شديدة الاضطراب، والوجيب والوجيف: أخوان خاشِعَةٌ ذليلة. فإن قلت: كيف جاز الابتداء بالنكرة؟
قلت: قُلُوبٌ مرفوعة بالابتداء، وواجِفَةٌ صفتها، وأَبْصارُها خاشِعَةٌ خبرها فهو كقوله:
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ. فإن قلت: كيف صح إضافة الأبصار إلى القلوب؟ قلت:
معناه أبصار أصحابها بدليل قوله يَقُولُونَ. فِي الْحافِرَةِ في الحالة الأولى، يعنون: الحياة بعد الموت. فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت: يقال: رجع فلان في حافرته، أى: في
__________
(1) . قوله «تنشط الأوهاق» هي حبال المواشي، أفاده الصحاح. (ع) [.....](4/693)
طريقه التي جاء فيها فحفرها، أى: أثر فيها بمشيه فيها: جعل أثر قدميه حفرا، كما قيل: حفرت أسنانه حفرا: إذا أثر الآكال في أسناخها «1» . والخط المحفور في الصخر. وقيل: حافرة، كما قيل: عيشة راضية، أى: منسوبة إلى الحفر والرضا، أو كقولهم: نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أى طريقته وحالته الأولى. قال:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار «2»
يريد: أرجوعا إلى حافرة. وقيل: النقد عند الحافرة، يريدون عند الحالة الأولى: وهي الصفقة.
وقرأ أبو حيوة: في الحفرة. والحفرة بمعنى: المحفورة. يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا، وهي حفرة، وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفورة. يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر، كقولك طمع فهو طمع وطامع، وفعل أبلغ من فاعل، وقد قرئ بهما:
وهو البالي الأجوف الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخير. وإِذاً منصوب بمحذوف، تقديره:
أئذا كنا عظاما نرد ونبعث كَرَّةٌ خاسِرَةٌ منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها. والمعنى:
أنها إن صحت فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم. فإن قلت: بم تعلق قوله فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ؟ قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها، فإنما هي زجرة واحدة، يعنى: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل، فإنها سهلة هينة في قدرته، ما هي إلا صيحة واحدة «3» ، يريد النفخة الثانية فَإِذا هُمْ أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في جوفها، من قولهم: زجر البعير، إذا صاح عليه. والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأنّ السراب يجرى فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية الماء، وفي ضدها: نائمة. قال الأشعث بن قيس:
__________
(1) . قوله «أثر الآكال في أسناخلها» في الصحاح «أسناخ الأسنان» : أصولها. (ع)
(2) . أنشده ابن الأعرابى. والهمزة للإنكار. والحافرة في الأصل: الطريق المحفور بالسير، فتسميته حافرة مجاز عقلى. أو على معنى النسب، أى: ذات حفر، ثم استعملت في كل حال كنت فيه، ثم رجعت إليه. وهي نصب بمحذوف، أى: أأرجع حافرة، أى في طريقتي الأولى من الشباب والصبا. أو على نزع الخافض، أى:
أأرجع إليها. والصلع: انحسار شعر الجبهة، ويغلب في الهرم. ومعاذ: مصدر نصب بمحذوف. والسفه:
الجهل والطيش.
(3) . قال محمود: «إن قلت: كيف اتصل بما قبله؟ وأجاب أنهم أنكروا الاعادة ... الخ» قال أحمد:
وما أحسن تسهيل أمر الاعادة بقوله زَجْرَةٌ عوضا من صيحة، لأن الزجرة أخف من الصيحة، وبقوله واحِدَةٌ أى غير محتاجة إلى مثنوية، وهو يحقق لك ما أجبت به من السؤال الوارد عند قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ حيث قيل: كيف وحدها وهما نفختان، فجدد به عهدا.(4/694)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
وساهرة يضحى السّراب مجلّلا ... لأقطارها قد جبتها متلثّما «1»
أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة. وعن قتادة: فإذا هم في جهنم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
اذْهَبْ على إرادة القول. وفي قراءة عبد الله: أن اذهب، لأنّ في النداء معنى القول.
هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا، كما تقول: هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه إِلى أَنْ تَزَكَّى إلى أن تتطهر من الشرك، وقرأ أهل المدينة: تزكى، بالإدغام وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه فَتَخْشى لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أى العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله: أتى منه كل خير. ومن أمن: اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله عليه السلام «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» «2» بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. الْآيَةَ الْكُبْرى قلب العصاحية لأنها كانت المقدمة والأصل، والأخرى كالتبع لها، لأنه كان يتقيها بيده، فقيل
__________
(1) . للأشعث بن قيس، والساهرة: الأرض البيضاء، لأن السراب يجرى فيها فتشبه العين الساهرة، لظهور بياضها وجريان مائها، بخلاف الناعسة. أو وصفت بالسهر، لأن السائر فيها ساهر لا ينام خوف الهلكة، فهو مجاز عقلى. مجللا: خير «يضحى» أى: ساترا لأقطارها وجوانبها. يقول: رب مفازة يسترها النهار بسراب يشبه جل الفرس، ويطلق النهار على السراب، وعلى فرخ الحبارى، وتصح إرادة كل منهما. قد أتيتها لا بسا اللثام خوف الحر والريح.
(2) . أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية من رواية الثوري عن أبى عقيل عن الطفيل بن أبى عن أبيه بهذا. قال أبو نعيم تفرد به وكيع. قاله في ترجمته وهو ضعيف برواية الحاكم من طريق عبد الله بن الوليد عن الثوري ورواه الترمذي والحاكم والعقيل عن رواية يزيد بن سنان سمعت بكر بن فيروز. سمعت أبا هريرة- فذكره.(4/695)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
له: أدخل يدك في جيبك. أو أرادهما جميعا، إلا أنه جعلهما واحدة، لأن الثانية كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها فَكَذَّبَ بموسى والآية الكبرى، وسماهما ساحرا وسحرا وَعَصى الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر، وأنّ الطاعة قد وجبت عليه ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أى لما رأى الثعبان أدبر مرعوبا «1» ، يسعى: يسرع في مشيته. قال الحسن. كان رجلا طياشا خفيفا. أو تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته، وأريد: ثم أقبل يسعى، كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا، بمعنى: أنشأ يفعل، فوضع أَدْبَرَ موضع: أقبل، لئلا يوصف بالإقبال فَحَشَرَ فجمع السحرة، كقوله فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. فَنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه. أو أمر مناديا فنادى في الناس بذلك. وقيل قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة. وعن ابن عباس: كلمته الأولى: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي والآخرة: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. نَكالَ هو مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله، كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم. يعنى الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة «2» ، وعن ابن عباس: نكال كلمتيه الآخرة، وهي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى وهي قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة.
وقيل عشرون.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
الخطاب لمنكري البعث، يعنى أَأَنْتُمْ أصعب خَلْقاً وإنشاء أَمِ السَّماءُ ثم بين كيف خلقها فقال بَناها ثم بين البناء فقال رَفَعَ سَمْكَها أى جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدا رفيعا مسيرة خمسمائة عام فَسَوَّاها فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور. أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها، من قولك: سوى فلان أمر فلان. غطش الليل وأغطشه الله، كقولك: ظلم وأظلمه. ويقال أيضا: أغطش الليل، كما يقال أظلم
__________
(1) . قال محمود: «أى لما رأى الثعبان ولى هاربا مذعورا ... الخ» قال أحمد: وهذا الوجه الأخير حسن لطيف جدا، وهو على هذا من أفعال المقاربة.
(2) . قال محمود: «وقوله نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعنى الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة ... الخ» قال أحمد: فعلى الأول يكون قريبا من إضافة الموصوف إلى الصفة، لأن الآخرة والأولى صفتان للكلمتين، وعلى الثاني لا يكون كذلك.(4/696)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وَأَخْرَجَ ضُحاها وأبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها يريد وضوئها. وقولهم:
وقت الضحى، للوقت الذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء، لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها «1» ماءَها عيونها المتفجرة بالماء وَمَرْعاها ورعيها، وهو في الأصل موضع الرعي. ونصب الأرض والجبال بإضمار «دحا» و «أرسى» وهو الإضمار على شريطة التفسير. وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء. فإن قلت: هلا أدخل حرف العطف على أخرج «2» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى دَحاها بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتى سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتادا لها حتى تستقر ويستقر عليها. والثاني: أن يكون أَخْرَجَ حالا بإضمار «قد» كقوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وأراد بمرعاها: ما يأكل الناس والأنعام. واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وقرئ: نرتع، من الرعي، ولهذا قيل:
دلّ الله سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح، لأنه من الماء مَتاعاً لَكُمْ فعل ذلك تمتيعا لكم وَلِأَنْعامِكُمْ لأن منفعة ذلك التمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 36]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
الطَّامَّةُ الداهية التي تطم على الدواهي، أى: تعلو وتغلب. وفي أمثالهم: جرى الوادي فطمّ على القرى، وهي القيامة لطمومها على كل هائلة. وقيل: هي النفخة الثانية. وقيل: الساعة التي تساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار يَوْمَ يَتَذَكَّرُ بدل من إذا جاءت، يعنى: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها، كقوله أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ.
وما في ما سَعى موصولة، أو مصدرية وَبُرِّزَتِ أظهرت وقرأ أبو نهيك: وبرزت
__________
(1) . قوله «هي السراج المثقب في جوها» في الصحاح «ثقبت النار» : إذا اتقدت. وأثقبتها أنا. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت هلا أدخل العاطف على أخرج ... الخ» قال أحمد: والأول أحسن، وهو مناسب لقوله السَّماءُ بَناها، لأنه لما قال أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ تم الكلام، لكن مجملا، ثم بين التفاوت ففسر كيف خلقها فقال. بَناها، بغير عاطف: ثم فسر البناء فقال رَفَعَ سَمْكَها، بغير عاطف أيضا(4/697)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
لِمَنْ يَرى للرائين جميعا، أى: لكل أحد، يعنى: أنها تظهر إظهارا بينا مكشوفا «1» ، يراها أهل الساهرة كلهم، كقوله: قد بين الصبح لذي عينين، يريد: لكل من له بصر، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد. وقرأ ابن مسعود: لمن رأى. وقرأ عكرمة: لمن ترى. والضمير للجحيم، كقوله إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وقيل: لمن ترى يا محمد.
[سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 39]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
فَأَمَّا جواب فَإِذا أى: فإذا جاءت الطامّة فإنّ الأمر كذلك. والمعنى: فإنّ الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد: طرفك، وليس الألف واللام بدلا من الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره: تركت الإضافة، ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف للتعريف، لأنهما معروفان، وهِيَ فصل أو مبتدأ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 40 الى 41]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
وَنَهَى النَّفْسَ الأمارة بالسوء عَنِ الْهَوى المردي وهو اتباع الشهوات وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير. وقيل: الآيتان نزلتا في أبى عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص «2» في جوفه «3» .
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها، أى إقامتها، أرادوا: متى يقيمها الله ويثبتها ويكوّنها؟
__________
(1) . قال محمود: «يعنى أظهرت إظهارا بينا مكشوفا ... الخ» قال أحمد: وفائدة هذا النظم الاشعار بأنه أمر ظاهر لا يتوقف إدراكه إلا على البصر خاصة، أى: لا شيء يحجبه ولا بعد يمنع رؤيته، ولا قرب مفرط، إلى غير ذلك من موانع الرؤية.
(2) . قوله «حتى نفذت المشاقص» جمع مشقص: وهو السهم الطويل العريض. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . لم أجده.(4/698)
وقيل أيان منتهاها ومستقرّها «1» ، كما أنّ مرسى السفنية مستقرّها، حيث تنتهي إليه فِيمَ أَنْتَ في أى شيء أنت «2» من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به، يعنى: ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضى الله عنها، لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة يسأل عنها حتى نزلت «3» ، فهو على هذا تعجب «4» من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أى شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها. والمعنى: أنهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها، ثم قال إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أى منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه. وقيل: فِيمَ إنكار لسؤالهم «5» ، أى: فيم هذا السؤال، ثم قيل:
أنت عن ذكراها، أى: إرسالك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في نسم الساعة «6» ذكر من ذكرها وعلامة من علاماتها، فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أى: لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون من إنذارك لطفا له في الخشية منها. وقرئ: منذر بالتنوين، وهو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذر زيد أمس، أى: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، وقيل: في القبور إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها. فإن قلت: كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد. فإن قلت: فهلا قيل: إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: الدلالة على أن مدّة لبثهم كأنها لم تبلغ يوما كاملا، ولكن
__________
(1) . قال محمود: «مرساها أى مستقرها ... الخ» قال أحمد: وفيه إشعار بثقل اليوم، كقوله وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا ألا تراهم لا يستعملون الارساء إلا فيما ثقل كمرسى السفينة وإرساء الجبال.
(2) . قال محمود: «ومعنى فِيمَ أَنْتَ أى: في أى شيء أنت من أن تذكر وقتها ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه نظر، فان الآية الأخرى ترده، وهي قوله يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أى: أنك لا تحتفى بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك، وهم يسئلونك كما يسئل الحفي عن الشيء، أى: الكثير السؤال عنه، فالوجه الأول أصوب. [.....]
(3) . أخرجه إسحاق في مسنده وابن مردويه من طريقه أخبرنا ابن عتبة عن الزهري عن عروة عنها بهذا.
ورواه الطبري عن يعقوب عن إبراهيم عن ابن عتبة مثله. قال الحاكم بعد أن أخرجه من طريق ابن عتبة: لم يخرجاه لأن ابن عتبة كان يرسله. وقال ابن أبى حاتم عن أبى زرعة: الصحيح مرسل. وأخرجه عبد الرازق عن ابن عتبة مرسلا وقال الدارقطني أسنده ابن عتبة مرة وأرسله أخرى.
(4) . قوله «فهو على هذا تعجب» لعله: تعجيب. (ع)
(5) . قال محمود: «وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم، أى: فيم هذا السؤال ... الخ» قال أحمد: فعلى هذا ينبغي أن يوقف على قوله فِيمَ ليفصل بين الكلامين.
(6) . قوله «في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» : أولها حين تقبل بلين قيل أن تشتد. ومن الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. (ع)(4/699)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته، فهو كقوله لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة «1» » .
سورة عبس
مكية، وآياتها 42 وقيل 41 [نزلت بعد النجم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أمّ مكتوم «2» - وأمّ مكتوم أمّ أبيه، واسمه عبد الله بن شريح ابن مالك بن ربيعة الفهري من بنى عامر بن لؤي- وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام. والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة:
يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم «3» . فقال: يا رسول الله، أقرئنى وعلمني مما
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
(2) . ذكر الزمخشري سبب نزول الآية، وهو أن ابن أم مكتوم الأعمى ... الخ» قال أحمد: وإنما أخذ الاختصاص من تصدير الجملة بضمير المخاطب وجعله مبتدأ مخبرا عنه وهو كثيرا ما يتلقى الاختصاص من ذلك، ولقد غلط في تفسير الآية، وما كان له أن يبلغ ذلك.
(3) . ذكره الثعلبي بلا إسناد، وأخرجه ابن أبى حاتم من رواية العوفى عن ابن عباس نحوه دون قوله «صناديد قريش» ودون سياق نسب ابن أم مكتوم. وكذا أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال: ذكر لنا فذكره. وبهذا الاسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك على المدينة مرتين يصلى بأهلها. ورواه الترمذي والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها نحوه «تنبيه» النسب الذي ساقه في غاية التخليط، يظهر لمن له أدنى إلمام بالأخبار والأنساب. قال ابن سعد: أما أهل المدينة فيقولون اسمه عبد الله. وأما أهل العراق وهشام الكلبي فيقولون اسمه عمرو ثم أجمعوا على نسبه. فقالوا: ابن قيس بن زياد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لؤي. وأمه عاتكة هي أم مكتوم بنت عبد الله بن عامر بن مخزوم. وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا جويبر عن الضحاك. قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم تصدى لرجل من قريش يدعوه إلى الإسلام فأقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض عنه ويعبس في وجهه، ويقبل على الآخر. فعاتب الله رسوله فقال عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى - الآيات فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرمه واستخلفه على المدينة مرتين» .(4/700)
علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربى، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين، وقال أنس: رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء «1» . وقرئ: عبس، بالتشديد للمبالغة ونحوه: كلح في كلح أَنْ جاءَهُ منصوب بتولي، أو بعبس، على اختلاف المذهبين. ومعناه: عبس، لأن جاءه الأعمى. أو أعرض لذلك. وقرئ: آأن جاءه بهمزتين وبألف بينهما، ووقف على عَبَسَ وَتَوَلَّى ثم ابتدئ، على معنى: ألأن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكارا عليه. وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدى لغنى. وفي الإخبار عما فرط منه، ثم الإقبال عليه بالخطاب: دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانبا جنى عليه، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجها له بالتوبيخ وإلزام الحجة. وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك، كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا، ولقد تأدّب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا، فقد روى عن سفيان الثوري رحمه الله أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء وَما يُدْرِيكَ وأى شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى؟ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أى يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم أَوْ يَذَّكَّرُ أو يتعظ فَتَنْفَعَهُ ذكراك، أى: موعظتك، وتكون له لطفا في بعض الطاعات. والمعنى: أنك لا تدرى ما هو مترقب منه، من تزكّ أو تذكر، ولو دريت لما فرط ذلك منك. وقيل: الضمير في لَعَلَّهُ للكافر. يعنى أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام، أو يتذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن.
وقرئ: فتنفعه، بالرفع عطفا على يذكر. وبالنصب جوابا للعلّ، كقوله فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، تَصَدَّى تتعرض بالإقبال عليه، والمصاداة. المعارضة، وقرئ: تصدى، بالتشديد، بإدغام
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أخبرنى أنس بهذا وكذا رواه أبو يعلى والطبري من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.(4/701)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
التاء في الصاد. وقرأ أبو جعفر: تصدى، بضم التاء، أى: تعرّض. ومعناه: يدعوك داع إلى التصدي له: من الحرص والتهالك على إسلامه، وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ، يَسْعى يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى الله أو يخشى الكفار، وأذاهم في إتيانك. وقيل: جاء وليس معه قائد، فهو يخشى الكبوة تَلَهَّى تتشاغل، من لهى عنه. والتهى. وتلهى. وقرأ طلحة بن مصرف: تتلهى. وقرأ أبو جعفر: تلهى، أى:
يلهيك شأن الصناديد. فإن قلت: قوله فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كأن فيه اختصاصا. قلت، نعم، ومعناه: إنكار التصدي والتلهي عليه، أى: مثلك خصوصا لا ينبغي له أن يتصدى للغنىّ ويتلهى عن الفقير.
[سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
كَلَّا ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله إِنَّها تَذْكِرَةٌ أى موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أى كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ فِي صُحُفٍ صفة لتذكرة، يعنى: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح مُكَرَّمَةٍ عند الله مَرْفُوعَةٍ في السماء. أو مرفوعة المقدار مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدى الشياطين، لا يمسها إلا أيدى ملائكة مطهرين سَفَرَةٍ «1» كتبة ينتسخون الكتب من اللوح بَرَرَةٍ أتقياء. وقيل: هي صحف الأنبياء، كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وقيل السفرة: القرّاء. وقيل: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 23]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم «2» ، لأنّ القتل قصارى شدائد
__________
(1) . قوله «سفرة» في الصحاح: واحدهم سافر، ككافر وكفرة. (ع)
(2) . قال محمود: «دعاء عليه وهو من أشنع دعائهم ... الخ» قال أحمد: ما رأيت كاليوم قط عبدا ينازع ربه، الله تعالى يقول ثُمَّ شَقَقْنَا فيضيف فعله إلى ذاته حقيقة، كما أضاف بقية أفعاله من عند قوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ وعلم جرا. والزمخشري يجعل الاضافة مجازية من باب إسناد الفعل إلى سببه، فيجعل إضافة الفعل إلى الله تعالى من باب إضافة الشق إلى الحراث، لأنه السبب. قتل القدري ما أكفره على قول، وما أضله على آخر، وإذا جعل شق الأرض مضافا إلى الحراث حقيقة، وإلى الله مجازا، فما يمنعه أن يجعل الحراث هو الذي صبب الماء وأنبت الحب، والعقب والقضب: حقيقة، وهل هما إلا واحد.(4/702)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
الدنيا وفظائعها. وما أَكْفَرَهُ تعجب «1» من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه. ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط «2» وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ من أى شيء حقير «3» مهين خلقه، ثم بين ذلك الشيء بقوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. نصب السبيل بإضمار «يسر» وفسره بيسر والمعنى: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمّه. أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه، كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بين له سبيل الخير والشر فَأَقْبَرَهُ فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان.
يقال: قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحا أَنْشَرَهُ أنشأه النشأة الأخرى. وقرئ: نشره كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه لَمَّا يَقْضِ لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أَمَرَهُ الله حتى يخرج عن جميع أوامره، يعنى: أنّ إنسانا لم يخل من تقصير قط.
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
__________
(1) . قوله «تعجب من إفراطه» لعله: تعجيب. (ع)
(2) . قوله «من الكفران والغمط» بطر النعمة وتحقيرها. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «من أى شيء خلقه من أى شيء حقير» لعله: أى من شيء ... الخ» . (ع)(4/703)
ولما عدد النعم في نفسه: أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ يعنى الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن على رضى الله عنهما. أنى صببنا، بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. وشققنا: من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على «1» البقر، وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. والقضب: الرطبة «2» .
والمقضاب: أرضه، سمى بمصدر قضبه إذا قطعه، لأنه يقضب مرّة بعد مرّة وَحَدائِقَ غُلْباً يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا، أى: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب:
يمشى بها غلب الرّقاب كأنّهم ... بزل كسين من الكحيل جلالا «3»
والأب: المرعى، لأنه يؤبّ أى يؤم وينتجع. والأبّ والأمّ: أخوان. قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأبّ به والمكرع «4»
وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أىّ سماء تظلني، وأىّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به «5» . وعن عمر رضى الله عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال:
__________
(1) . قوله «من شقها بالكراب» في الصحاح: كربت الأرض، إذا قلبتها للحرث. (ع) [.....]
(2) . قوله «والقضب الرطبة» في الصحاح «القضبة، والقضب» الرطبة. وفيه أيضا «الرطبة» بالفتح:
القضب اه وفيه دور. وقال بعض الفضلاء «القضب» : هو المسمى في مصر بالبرسيم الحجازي. (ع)
(3) . لعمرو بن معديكرب. ويقال: أسد أغلب، أى: غليظ العنق، والغلب: جمعه، ثم استعير لكل غليظ والبزل: جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نأيه، وذلك في السنة التاسعة: والكحيل: القطران.
والجلال: جمع جل: يصف مفازة تمشى فيها أسود غلاظ الأعناق، كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال، فكسين: استعارة مصرحة، والجلال: ترشيح. ويروى: كأنهم، باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.
(4) . الجذم- بالكسر وقد يفتح: الأصل الذي يقتطع منه غيره. والأب والأم- بالفتح والتشديد- بمعنى المرعى، لأنه يؤب ويؤم، أى: يقصد. والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس ونجد هي ديارنا، ولنا به أى في نجد المرعى والمروي. وفيه تمدح بالشرف والشجاعة على غيره.
(5) . أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن. حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر رضى الله عنه سئل عنه فذكره ورواه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد من هذا الوجه. وهذا منقطع.
ورواه يحيى الحماني وابن عبد البر في العلم من طريقه من رواية إبراهيم النخعي عن أبى معمر عن أبى بكر فذكره.(4/704)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده «1» وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. قلت:
لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله- على ما تبين لك ولم يشكل- مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
[سورة عبس (80) : الآيات 32 الى 41]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41)
يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازا، لأنّ الناس يصخون لها يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا، وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وقيل: يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات.
يقول الأخ: لم تواسنى بمالك. والأبوان: قصرت في برنا. والصاحبة: أطعمتنى الحرام وفعلت وصنعت. والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه:
إبراهيم ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح يُغْنِيهِ يكفيه في الاهتمام به. وقرئ:
يعنيه أى يهمه مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة، من أسفر الصبح: إذا أضاء. وعن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . أخرجه الطبري والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن وهب عن يونس وعمرو بن الحارث. ورواه الحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من طريق صالح بن كيسان: وابن مردويه من رواية شعيب كلهم عن الزهري «أن إنسانا أخبره أنه سمع عمر فذكره. وله طريق أخرى من رواية حميد عن أنس أخرجها الحاكم. وروى الحاكم أيضا من وجه آخر عن عمر رضى الله عنه أنه سأل ابن عباس رضى الله عنهما عن الآية فقال: هو نبت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام. ولا يأكله الناس.(4/705)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
عنهما: من قيام الليل، لما روى في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار «1» ، وعن الضحاك: من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله غَبَرَةٌ غبار يعلوها قَتَرَةٌ سواد كالدخان، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت، وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر «2» » .
سورة التكوير
مكية، وآياتها 29 [نزلت بعد المسد] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
في التكوير وجهان: أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها، أى: يلف ضوءها لفا فيذهب
__________
(1) . تقدم في سورة الفتح.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/706)
انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها، لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف. أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها، لأنّ الثواب إذا أريد رفعه لف وطوى، ونحوه قوله يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره: إذا ألقاه، أى: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كوّرت، لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط انْكَدَرَتْ انقضت. قال:
أبصر خربان فضاء فانكدر «1»
ويروى في الشمس والنجوم: أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها، كما قال إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. سُيِّرَتْ أى على وجه الأرض وأبعدت. أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. والعشار في جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء:
وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها عليهم عُطِّلَتْ تركت مسيبة مهملة. وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ: عطلت، بالتخفيف حُشِرَتْ جمعت من كل ناحية. قال قتادة:
يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضى بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبنى آدم وإعجاب بصورته، كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: حشرها موتها.
يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة. وقرئ: حشرت، بالتشديد سُجِّرَتْ قرئ بالتخفيف والتشديد، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب، أى: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود مجرا واحدا. وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن الحسن:
يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة زُوِّجَتْ قرنت كل نفس بشكلها. وقيل: قرنت الأرواح
__________
(1) .
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر ... تقضى البازي إذا البازي كسر
«انى جناحيه من الطود فمر ... أبصر خربان فضاء فانكدر
العجاج يمدح عمر بن عبيد الله التميمي. والباع بالمهملة: قدر مد اليدين، والمراد به الكرم مجازا. وبدر: أسرع وغلب الكرام، وتقضى: نصب به، وأصله: تقضض، أبدل الثاني حرف علة وكسر الأول، أى: أمال جناحيه وداناهما من الجبل العظيم، ومر: سار على وجه الجبل. وخربان- جمع خرب-: طائر يقال له الحبارى، وهو مضاف لفضاء، فانكدر: أى انقض وسقط عليها فيأكلها. ويروى صدر هذا الرجز:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر ... مغزى بعيدا من بعيد وضبر
تقضى البازي ... الخ. واعتمر: أى زار. والمغزى: مكان الغزو. وضبره ضبرا: جمعه جمعا. يقول: ارتفع قدره حين غزا موضعا بعيدا من الشام، وجمع لذلك جيشا عظيما، وأسرع كاسراع البازي إلى الحبارى: بالغ في وصف البازي تصويرا لحال المشبه، ومبالغة في مدحه.(4/707)
بالأجساد. وقيل بكتبها وأعمالها. وعن الحسن: هو كقوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً وقيل:
نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين. وأد يئد مقلوب من آد يئود: إذا أثقل. قال الله تعالى وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما لأنه إثقال بالتراب: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها: ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها، حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنا حبسته. فإن قلت:
ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ. أو الخوف من الإملاق، كما قال الله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهنّ. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد، فبه افتخر الفرزدق في قوله:
ومنّا الّذى منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد «1»
فإن قلت: فما معنى سؤال الموؤدة عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت: سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ... إلى قوله ... سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ وقرئ: سألت، أى:
خاصمت عن نفسها، وسألت الله أو قاتلها، وإنما قيل قُتِلَتْ بناء على أن الكلام إخبار عنها، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت. فقيل: قتلت. أو كلامها حين سئلت لقيل: قتلت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: قتلت، على الحكاية. وقرئ: قتلت، بالتشديد. وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤدة من الذنب: فما أقبح به، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّة أن يكرّ
__________
(1) . للفرزدق، يفتخر يجده صعصعة: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال: يا رسول الله، عملت أعمالا في الجاهلية فهل لي فيها من أجر؟ فقال: وما عملت؟ قال: قد أحييت ثلاثا وستين من الموؤدة أشترى الواحدة منهن بناقتين عشراويتين وجمل، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا من باب البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام. ويقال: وأد بنته إذا دفنها وهي حية، وكانت كندة تفعل ذلك خوف العار والفقر. ويروى: فأحيا الوئيد وهي أوقع. والوئيد يقال للمفرد والجمع مذكرا أو مؤنثا. ويروى: وجدي، أى: هو الذي منع الجماعات الدافنات بناتهن حيات وفداهن من الموت، فكأنه أحياهن، فأطلق الوئيد على المشرفات على الموت مجازا، والأحياء ترشيح.(4/708)
عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن ذلك، فاحتجّ بهذه الآية نُشِرَتْ قرئ بالتخفيف والتشديد، يريد: صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب. عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك، ثم تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته.
وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس عراة حفاة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أمّ سلمة» قالت: وما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل «1» ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أى فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أى مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال كُشِطَتْ كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعود: قشطت. واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور سُعِّرَتْ أو قدت إيقادا شديدا. وقرئ: سعرت بالتشديد للمبالغة. قيل: سعرها عضب الله تعالى وخطايا بنى آدم أُزْلِفَتْ أدنيت من المتقين، كقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قيل: هذه اثنتا عشرة خصلة. ست منها في الدنيا، وست في الآخرة.
وعَلِمَتْ: هو عامل النصب في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وفيما عطف عليه. فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً لا نفس واحدة. فما معنى قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما بعكس عنه. ومنه قوله عز وجل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ومعناه: معنى كم وأبلغ منه. وقول القائل:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله «2»
وتقول لبعض قوّاد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندي. أولا تعدم عندي فارسا، وعنده المقانب «3» ، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه، ولكنه أراد
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن أبى موسى عن عطاء بن يسار عن أم سلمة بهذا. وأصله في الصحيحين عن عائشة، وأخرجه الحاكم من حديث سودة.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 202 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «وعنده المقانب في الصحاح «المقنب» : ما بين لثلاثين إلى الأربعين من الخيل. (ع)(4/709)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده، فضلا أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنّ قارئا قرأها عنده، فلما بلغ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال: وانقطاع ظهرياه.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 18]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
بِالْخُنَّسِ الرواجع، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوله. والْجَوارِ السيارة. والْكُنَّسِ «1» الغيب من كنس الوحشي: إذا دخل كناسه. قيل: هي الدراري
__________
(1) . تعرض الزمخشري في تفسيره العامل الخ. قال أحمد: هذا الجواب لا يستمر، لأجل ظهور الفعل الثاني في قوله فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ولما أعضل الجواب عن هذا السؤال في سورة التكوير: التزم الشيخ أبو عمرو بن الحاجب إجازة التعطف على عاملين، واتخذ هذه الآية وزره ومعضده في مخالفة سيبويه، ورد على الزمخشري جوابه في سورة والشمس وضحاها، لأنه لم يطرد له هاهنا، وكان على رده يستحسن تيقظ فطنته في استنباطه، ونحن والله الموفق نلتزم مذهب سيبويه في امتناع العطف على عاملين في جعل الواو الثانية عاطفة، ويجرى جواب الزمخشري هاهنا وينفصل عن هذه الآية فتقول: قوله وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ هذه الواو الأولى ابتداء قسم، والواو في قوله وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ عاطفة فيطرد ما قال الزمخشري. فان قيل: فقد خالفتم سيبويه، فانه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل عاطفة، وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا: إنما تكلم سيبويه في الواو المتعقبة للقسم بالواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل، فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا، وهو أبلغ، كأنه أقسم قسمين بشيئين مختلفين. فان قبل: أجل. إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم بالواو، فما الفرق بين المتعقبة للقسم بالواو والمتعقبة للقسم بالباء؟ وما هما إلا سواء، فان كل واحد منهما آلة له، والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد؟ قلنا: ليستا سواء فان القسم منى صدر بالواو ولم يله واو أخرى، فجعلها قسما آخر فيه تكرار منكره، إذ الآلة واحدة، ولا كذلك إذا اختلفت الآلة، فان عاملة التكرار مأمونة إذا، ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو، ثم تلاه قسم بالباء، لتحتم جعلهما قسمين مستقلين، فكذلك لو حولف هذا الترتيب. وأيضا، فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا مجيء الجواب واحدا، واحتياج الواو الأولى إلى محذوف، فالعطف يغنى عن تقدير محذوف، فيتعين، فلا يلزم اطراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا، فان في مجموع ذلك ما يغنى عن إفراده بجواب مذكور، ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في باب القسم بالنسبة إلى الباء، فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح، وأختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة فأقول: إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها. ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين، لأنك نجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا، فتصير بمثابة قولك: مررت بزيد وعمرو اليوم، فاليوم منصوب بالفعل مباشرة، وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف، وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية، فان الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد القسم بالليل، لا للقسم بالخنس.(4/710)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
الخمسة: بهرام «1» ، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشترى: تجرى مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها: وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل:
أى تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها. عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر. قال العجاج:
حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا «2»
وقيل: عسعس: إذا أقبل ظلامه. فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح:
أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسا له على المجاز. وقيل: تنفس الصبح.
[سورة التكوير (81) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
إِنَّهُ الضمير للقرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هو جبريل صلوات الله عليه «3» ذِي قُوَّةٍ
__________
(1) . قوله «بهرام» : ليس بعربي، والمراد به: المريخ. (ع) [.....]
(2) . العجاج. وتنفس الصبح: اتساع ضوئه، أو إقباله بضوء ونسيم. وضمير «لها» الشمس، وقيل:
للمفازة. وانجاب: انقطع وانفصل عنها ظلام الليل. وعسعس: ولى مدبرا وزال ظلامه، فهو توكيد لما قبله.
ويجوز أن الضمير لبقرة وحشية مثلا.
(3) . قال محمود: «المراد بالرسول الكريم: جبريل عليه السلام. وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ليدل على عظم منزلته ومكانته، وثم إشارة إلى الظرف المذكور يعنى عند ذى العرش الخ» قال أحمد: ما كان جبريل صلوات الله عليه يرضى منه هذا التفسير المنطوى على التقصير في حق البشير النذير عليه أفضل الصلاة والسلام، ولقد اتبع الزمخشري هواه في تمهيد أصول مذهبه الفاسد، فأخطأ على الأصل والفرع جميعا، ونحن فبين ذلك بحول الله وقوته فنقول: أولا اختلف أهل التفسير، فذهب منهم الجم الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت:
محمد صلى الله عليه وسلم. فإن يكن كذلك والله أعلم فذلك فضل الله المعتاد على نبيه، وإن كان المراد جبريل عليه السلام فقد اختلف الناس في المفاضلة بين الملائكة والرسل، والمشهور عن أبى الحسن: تفضيل الرسل. ومذهب المعتزلة: تفضيل الملائكة، إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل، لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول، وعليه حمل الحذاق قوله صلى الله عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى» أى لا تعينوا مفضولا على التخصيص، لأن التفضيل على لتعميم ثابت بإجماع المسلمين، أى تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على النبيين أجمعين، وكان جدي رحمه الله يوضح ذلك بمثال فيقول: لو قلت بحضرة جماعة من الفقهاء: فلان أفضل أهل عصره، لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين، ولو عينت واحدا منهم وقلت: فلان أفضل منك وأتقى لله، لأسرع به الأذى إلى بعضك. وإذا تقرر لك أنه لا يلزم من اعتقاد التفضيل على التعميم جواز إطلاق التفضيل على التخصيص، علمت أن الزمخشري أخطأ على أصله لأنه بتقدير أن تكون الملائكة أفضل كما يعتقد، لا يجوز أن يقال أحد من الملائكة على التخصيص أنه أفضل من أحد الأنبياء على التخصيص، لا سيما في سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم يعود الكلام على الآية بعد تسليم أن المراد جبريل، وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلى الله عليه وسلم وعده مفضولا إلى الله فنقول: لم يذكر فيها نعت إلا والنبي صلى الله عليه وسلم مثله، أولها: رسول كريم، فقد قال في حقه صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وقد قيل أيضا: إن المراد جبريل، إلا أنه يأباه قوله وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم، فهذا أول النعوت وأعظمها. وأما قوله ذِي قُوَّةٍ فليس محل الخلاف، إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه، لا مراء في فضل قوته على قوة البشر. وقد قيل هذا في تفسير قوله ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ فقد ثبت طاعة الملائكة أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ورد أن جبريل عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئك السلام، وقد أمر ملك الجبال أن يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال: إن أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسب.
وأعظم من ذلك وأشرف: مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد، إذ يقول الله تعالى له: ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. وأما أمين فقد قال وهو الصادق المصدوق: والله إنى لأمين في الأرض أمين في السماء، وحسبك قوله: وما هو على الغيب بظنين. إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم، وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم، فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء، وما لي مباحثة في أصل المسألة، ولكن الرد عليه في خطئه على كل قول يتعين، وإلا فالمسئلة في غير هذا الكتاب. فنسأل الله أن يثبتنا على الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يعمر قلوبنا بحبهم، وأن يجعل توسلنا إليه بهم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(4/711)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
كقوله تعالى شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن، قال:
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ليدل على عظم منزلته ومكانته ثَمَّ إشارة إلى الظرف المذكور، أعنى:
عند ذى العرش، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ: ثم، تعظيما للأمانة، وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.
[سورة التكوير (81) : آية 22]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
وَما صاحِبُكُمْ يعنى: محمدا صلى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة «1» ، وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة، ومباينة منزلته «2» أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم: إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما، وقايست بين قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وبين قوله وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.
__________
(1) . قوله «كما تبهته الكفرة» أى تتهمه بما ليس فيه. (ع)
(2) . قوله «ومباينة منزلته ... الخ» يعنى ارتفاع منزلته على منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مبنى على مذهب المعتزلة من تفضيل الملك على البشر. ومذهب أهل السنة: تفضيل رؤساء البشر. وإنما ذكر جبريل بتلك الصفات واقتصر على نفى الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن جبريل مجهول لهم، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فاقه صاحبهم، ولذا اقتصر على نفى ما بهتوه به. (ع)(4/712)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
[سورة التكوير (81) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
وَلَقَدْ رَآهُ ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ بمطلع الشمس الأعلى وَما هُوَ وما محمد على ما يخبر به من الغيب من رؤية جبريل والوحى إليه وغير ذلك بِضَنِينٍ بمتهم من الظنة وهي التهمة. وقرئ: بضنين، من الضنّ وهو البخل أى: لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبىّ بالضاد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما.
وإتقان الفصل بين الضاد والظاء: واجب. ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقا غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت: فإن وضع المصلى أحد الحرفين مكان صاحبه. قلت: هو كواضع الذال مكان الجيم، والثاء مكان الشين، لأن التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما وَما هُوَ وما القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أى بقول بعض المسترقة للسمع، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكينة.
[سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق «1» :
أين تذهب، مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعا وَما تَشاؤُنَ الاستقامة يا من
__________
(1) . قوله «في بنيات الطريق» في الصحاح «بقيات الطريق» : هي الطرق الصحار تتشعب من الجادة. (ع)(4/713)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
يشاؤها إلا بتوفيق الله «1» ولطفه. أو: وما تشاؤنها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا الشمس كورت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته» «2» .
سورة الانفطار
مكية، وآياتها 19 [نزلت بعد النازعات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
انْفَطَرَتْ انشقت فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحرا واحدا. وروى أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن، وقرئ: فجرت، بالتخفيف. وقرأ مجاهد: فجرت على البناء للفاعل والتخفيف، بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظرا إلى قوله تعالى لا يَبْغِيانِ لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى، وهما مركبان من البعث والبحث
__________
(1) . قوله «يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله» تأويل المشيئة بذلك مبنى على أن فعل العبد بخلق العبد وإرادته.
لا بخلق الله تعالى ولا بإرادته: وهو مذهب المعتزلة. ومذهب أهل السنة: أنه يخلق الله تعالى وإرادته كظاهر الآيات. وقوله بقسر الله، أى بجبره العبد على الفعل، لكن الجبر ينافي الاختيار المصحح للتكليف واستحقاق الثواب والعقاب، ويمكن أنه أراد بقسر الله إرادته المستلزمة لوجود المراد، كما سبق له في الكتاب غير مرة التعبير بارادة القسر، لكن استلزام الارادة للمراد لا يستلزم قسر العبد وجبره عند أهل السنة، وإن كان الله هو الخالق لفعل العبد، لأنهم أثبتوا العبد الكسب، خلافا للمعتزلة. وتفصيل المقام في علم التوحيد. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/714)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
مع راء مضمومة إليهما. والمعنى: يحثت وأخرج موتاها. وقيل: لبراءة المبعثرة، لأنها بعثرت أسرار المنافقين.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
فإن قلت: ما معنى قوله: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به «1» ، وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن على رضى الله عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه»
. وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. قلت:
معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه، حيث خلقه حيا لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغترارا بالتفضل الأوّل، فإنه منكر خارج من حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها. «غرّه جهله» «3» وقال عمر رضى الله عنه: غرّه حمقه وجهله.
وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث، أى: زين له المعاصي وقال له: افعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخرا، حتى ورطه. وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ماذا تقول؟ قال أقول: غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر، وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويطن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم: إنما قال بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر صفاته، ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّنى كرم الكريم. وقرأ سعيد بن جبير:
ما أغرّك، إما على التعجب، وإما على الاستفهام، من قولك: غرّ الرجل فهو غارّ: إذا غفل،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: قوله ما غرك بربك الكريم ما معناه وكيف يطابق الوصف بالكرم ... الخ» ؟
قال أحمد: حجة الزمخشري هاهنا فارغة، فان الآية إنما وردت في الكفار، بدليل قوله كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ونحن نوافقه على خلودهم وانقطاع معاذيرهم، لا على أن تخليدهم واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، فان الله لا يجب عليه شيء. ويجوز عقلا أن يثيب الكافر ويخلده في الجنة، وبالعكس في المؤمن، ولولا ورود السمع باثابة المؤمنين وعذاب الكافرين فيتعين المصير إليه، لكان ما ذكرناه في الجواز والاحتمال، فان الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
(2) . لم أجده.
(3) . أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فذكره.(4/715)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
من قولك: بيتهم العدوّ وهم غارّون. وأغرّه غيره: جعله غارا فَسَوَّاكَ فجعلك سويا سالم الأعضاء فَعَدَلَكَ فصيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحما وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشى قائما لا كالبهائم. وقرئ: فعدلك بالتخفيف. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أى: عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت. والثاني فَعَدَلَكَ فصرفك. يقال: عدله عن الطريق يعنى: فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات. ما في ما شاءَ مزيدة، أى: ركبك في أىّ صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه.
فإن قلت: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ قلت: لأنها بيان لعدلك. فإن قلت: بم يتعلق الجار؟ قلت: يجوز أن يتعلق بركبك. على معنى: وضعك في بعض الصور ومكنك فيه، وبمحذوف: أى ركبك حاصلا في بعض الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك، ويكون في «أى» معنى التعجب «1» ، أى فعدلك في صورة عجيبة، ثم قال: ما شاء ركبك. أى. ركبك ما شاء من التراكيب، يعنى تركيبا حسنا.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
كَلَّا ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به، وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية، ثم قال بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أصلا وهو الجزاء.
أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثوابا ولا عقابا وهو شر من الطمع المنكر وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ تحقيق لما يكذبون به من الجزاء، يعنى أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم: تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازى به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة «2» ولطف للمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين.
__________
(1) . قوله «معنى التعجب» لعله: التعجيب. (ع)
(2) . قوله «وتشوير العصاة» أى إخجال اه كذا بهامش وفي الصحاح «الشوار» الفرع. ومنه قيل:
شور به أى كأنه أبدى عورته. (ع)(4/716)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 16]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ كقوله وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ويجوز أن يراد: يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك، يعنى: في قبورهم. وقيل: أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة التي يجازى فيها، وحال البرزخ وهو قوله وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 17 الى 19]
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يعنى أن أمر يوم الدين بحيث لا ندرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول في وصفه فقال يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أى لا تستطيع دفعا عنها ولانفعالها بوجه ولا أمر إلا لله وحده. من رفع فغلى البدل من يوم الدين، أو على: هو يوم لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون، لأنّ الدين يدل عليه. أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.(4/717)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سورة المطففين
مكية، وآياتها 36 [نزلت بعد العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
التطفيف: البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل «1» وقيل: قدمها وبها رجل يعرف بأبى جهينة ومعه صاعان: يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر «2» .
وقيل: كان أهل المدينة تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها «3» عليهم. وقال: «خمس بخمس» : قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر «4» » وعن على رضى الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين: بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما. [.....]
(2) . نقله الثعلبي عن السدى.
(3) . لم أجده.
(4) . أخرجه الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه «ما نقض قوم العهد ... الحديث» وفيه بشر ابن المهاجر. وفيه مقال، ومن طريق عطاء بن أبى رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا نحوه.(4/718)
وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار، فقيل له: انّ ابنك كيال أو وزان، فقال: أشهد أنه في النار.
وعن أبىّ رضى الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين. لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم «1» ويتحامل فيه عليهم: أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أى:
يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها: وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ضمير منصوب راجع إلى الناس. وفيه وجهان: أن يراد: كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال،
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن نبات الأوبر «2»
والحريص يصيدك لا الجواد، بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر
__________
(1) . قال محمود: «لما كان اكتيالهم على الناس اكتيالا يضرهم ... الخ» قال أحمد: لا منافرة فيه، ولا يجعل هذا القائل الضمير دالا على مباشرة ولا إشعار أيضا فيه بذلك، إنما يكون نظم الكلام على هذا الوجه: إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه، وإذا كان الكيل من جهتهم خاصة أخسروه، سواء باشروه أولا، وهذا أنظم كلام وأحسنه والله أعلم، والذي يدلك على أن الضمير لا يعطى مباشرة الفعل أن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة، ولست تعنى أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم، وإنما معناه أن فعل ذلك من جهتهم خاصة.
(2) . «جنى لا يتعدى إلا لواحد والثاني باللام، فالأصل: جنيت لك، فحذف الجار وأوصل الضمير.
أو ضمنه معنى: أبحتك، فعداه لهما. والأكمؤ: جمع كمأ، كأفلس وفلس، وهو واحد الكمأة، وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض، سمى كمأة لاشتهاره بها. والعساقل: جمع عسقول كعصفور، وكان حقه: عساقيل، فحذفت الياء الوزن. وقيل: إنه جمع عسقل، وهو نوع صغير منها جيد أبيض، ونبات أوبر: نوع ردىء منها أسود مزغب، كأن عليه وبر. وقيل: هو جنس آخر يشبه القلقاس أو اللفت. ونبات أوبر: جمع ابن أوبر، لأنه علم لما لا يعقل. وأل فيه زائدة. وقال المبرد: هو اسم جنس، قال فيه معرفة، والبيت من باب التمثيل مثال؟؟؟ من أغرى على الطيب، فعدل إلى الخبيث، ثم يرجع يتندم على عاتبته.(4/719)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إيطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيك، لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أنى رأيت في الكتب المخطوطة بأيدى الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعا، لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو، فمن لم يثبتها قال: المعنى كاف في التفرقة بينهما. وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أى يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا. فإن قلت:
هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون «1» ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا يُخْسِرُونَ ينقصون. يقال: خسر الميزان «2» وأخسره أَلا يَظُنُّ إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.
وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر، ونصب يَوْمَ يَقُومُ بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلا من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 9]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
__________
(1) . قوله «يدعدعون ويحتالون» في الصحاح الدعدعة تحريك المكيال ونحوه ليسعه الشيء. ودعدعت الشيء:
ملأته. (ع)
(2) . قوله «يقال خسر الميزان» عبارة الصحاح: خسرت الشيء وأخسرته: نقصته. (ع)(4/720)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلَّا ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. وكتاب الفجار: ما يكتب من أعمالهم. فإن قلت: قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين، وفسر سجينا بكتاب مرقوم، فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم، فما معناه: قلت: سِجِّينٍ كتاب جامع هو ديوان الشر: دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والانس، وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمى سجينا: فعيلا من السجن، وهو الحبس والتضييق، لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح- كما روى تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة «1» ، وليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. فإن قلت: فما سجين، أصفة هو أم اسم؟ قلت: بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف
[سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 17]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ مما وصف به للذم لا للبيان، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث كَلَّا ردع للمعتدى الأثيم عن قوله رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها:
وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه.
وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه، رينا وغينا، والغين: الغيم، ويقال: ران فيه النوم رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت كَلَّا ردع عن
__________
(1) . قوله «استهانة به وإذالة» أى: إهانة. كما في الصحاح. (ع)(4/721)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
الكسب الرائن على قلوبهم. وكونهم محجوبين عنه: تمثيل «1» للاستخفاف بهم «2» وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال:
إذا اعتروا باب ذى عبية رجبوا ... والنّاس من بين مرجوب ومحجوب «3»
عن ابن عباس وقتادة وابن أبى مليكة: محجوبين عن رحمته. وعن ابن كيسان:
عن كرامته:
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
كَلَّا ردع عن التكذيب. وكتاب الأبرار: ما كتب من أعمالهم. وعليون: علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع «علىّ» فعيل من العلو كسجين من السجن، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالى الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون، تكريما له وتعظيما. روى «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدى وأنا الرقيب على ما في قلبه، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على
__________
(1) . قال محمود: «كونهم محجوبين عنه تمثيل ... الخ» قال أحمد: هذا عند أهل السنة على ظاهره من أدلة الرؤية، فان الله تعالى لما خص الفجار بالحجاب دل على أن المؤمنين الأبرار مرفوع عنهم الحجاب، ولا معنى لرفع الحجاب إلا الإدراك بالعين، وإلا فالحجاب على الله تعالى بغير هذا التفسير محال، هذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال، وما أرى من جحد الرؤية المدلول عليها بقواطع الكتاب والسنة يحظي بها. والله المسئول في العصمة.
(2) . قوله «تمثيل للاستخفاف بهم» مبنى على مذهب المعتزلة: وهو عدم جواز الرؤية عليه تعالى. وذهب أهل السنة إلى جوازها. وفي النسفي: قال الزجاج: في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم، وإلا لا يكون التخصيص مفيدا، وقال الحسن بن الفصل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في العقبى عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه. وكذا في الخازن. وفيه أيضا: قال الشافعي: في الآية دلالة على أن أولياء الله يرون الله جل جلاله.
(3) . غزوا: قصدوا. وروى: اعتروا، أى: نزلوا به وأصابوه. والعبية: الكبر والفخر. قال صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية بالآباء» الناس رجلان: مؤمن تقى وكافر شقى» . ورجبة الرجل: عظمته. يقول إنهم يلجون أبواب العظماء لا تمنعهم الحجاب، بخلاف غيرهم فإنهم تارة وتارة.(4/722)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
عبدى وأنا الرقيب على ما في قلبه. وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين «1» »
[سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 28]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
الْأَرائِكِ الأسرة في الحجال «2» يَنْظُرُونَ إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وماءه ورونقه، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه. وقرئ: تعرف، على البناء للمفعول. ونضرة النعيم- بالرفع. الرحيق الشراب الخالص الذي لا غش فيه مَخْتُومٍ تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقيل خِتامُهُ مِسْكٌ مقطعه رائحة مسك إذا شرب. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم مزاجه بالمسك. وقرئ: خاتمه، بفتح التاء وكسرها، أى: ما يختم به ويقطع فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرتغب المرتغبون تَسْنِيمٍ علم لعين بعينها: سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه:
إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق، على ما روى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وعَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال.
وقيل: هي للمقربين، يشربونها صرفا. وتمزج لسائر أهل الجنة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
هم مشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم: كانوا يضحكون
__________
(1) . أخرجه ابن المبارك في الزهد: أخبرنا أبو بكر ابن أبى مريم عن حمزة بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
(2) . قوله «الأسرة في الحجال» في الصحاح: الحجلة- بالتحريك-: واحدة حجال العروس: وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور. (ع)(4/723)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم. وقيل: جاء على ابن أبى طالب رضى الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم فَكِهِينَ ملتذين بذكرهم والسخرية منهم، أى: ينسبون المسلمين إلى الضلال وَما أُرْسِلُوا على المسلمين حافِظِينَ موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهداتهكم بهم. أو هو من جملة قول الكفار، وإنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكارا لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك.
[سورة المطففين (83) : الآيات 34 الى 36]
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من يَضْحَكُونَ أى: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر. ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه: وهم على الأرائك آمنون. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم. ثوّبه وأثابه: بمعنى، إذا جازاه. قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عنّى مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي «1»
وقرئ بإدغام اللام في التاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة «2» » .
__________
(1) . لأوس بن حجر. ويقال: ثوبه وأثابه: إذا جازاه. فالمثوب المجازى أى: سأجزيك يا فرسي بنفسي، أو يجزيك بدلا عنى مجاز غيرى. أو مجازاة ناشئة عنى، وكافيك من الناس أن يثنوا عليك ويحمدوك، فعليك:
نائب الفاعل. ويجوز أن يكون المثوب المنادى للحرب مشيرا بطرف ثوبه، ليرى من بعيد فيغاث. [.....]
(2) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي سندهم إلى أبى بن كعب.(4/724)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
سورة الانشقاق
مكية، وآياتها 25 [نزلت بعد الانفطار] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
حذف جواب إذا ليذهب المقدّر كل مذهب. أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار. وقيل: جوابها ما دلّ عليه فَمُلاقِيهِ أى إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. ومعناه:
إذا انشقت بالغمام، كقوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وعن على رضى الله عنه: تنشق من المجرّة. أذن له: استمع له «1» . ومنه قوله عليه السلام: «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن «2» . وقول جحاف بن حكيم:
أذنت لكم لمّا سمعت هريركم «3»
والمعنى: أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله أَتَيْنا طائِعِينَ. وَحُقَّتْ من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به، يعنى: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع. ومعناه الإيذان بأنّ القادر الذات «4» يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك مُدَّتْ من مدّ الشيء فامتدّ:
__________
(1) . قال محمود: «معنى أذنت استمعت ... الخ» قال أحمد: نغص تفسير الآية بقوله: القادر بالذات وما باله لا يقول: القادر الذي عمت قدرته الكائنات، حتى لا يكون إلا بقدرته: حقيق أن يسمع له ويطاع، فيثبت لله صفة الكمال، ويوحده حق توحيده: وهو خير من سلب صفة الكمال عن الله تعالى وإشراك مخلوقاته به- جل ربنا وعز-
(2) . متفق عليه، وقد تقدم في سورة إبراهيم.
(3) .
أذنت لكم لما سمعت هريركم ... فأسمعتمونى بالخنا والفواحش
لجحاف بن حكيم. وأذنت: أصخت وأصغيت بأذنى لكلامكم حين سمعت صوتكم، وضمن أسمعتمونى معنى:
أعلتمونى، فعداه بالباء. ويجوز أنها زائدة. والخنا: الزنا وتوابعه مما يتعلق بالنساء، والفواحش: أعم من ذلك
(4) . قوله «الإيذان بأن القادر بالذات» هذا التعبير مبنى على مذهب المعتزلة من أنه تعالى قادر بذاته لا بقدرة زائدة على ذاته، عالم بذاته لا بعلم زائد على ذاته. ومذهب أهل السنة: أنه قادر بقدوة زائدة: هل ذاته، عالم بعلم زائد على ذاته وهكذا، كما في الحوادث(4/725)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها، حتى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها، كما قال تعالى قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً وعن ابن عباس رضى الله عنهما: مدّت مدّ الأديم العكاظي، لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى أو من مدّه بمعنى أمدّه، أى: زيدت سعة وبسطة وَأَلْقَتْ ما فِيها ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم: إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في إلقاء ما في بطنها وتخليها.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 15]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10)
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
الكدح: جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه.
ومعنى كادِحٌ إِلى رَبِّكَ جاهد إلى لقاء ربك، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء فَمُلاقِيهِ فملاق له لا مجالة لا مفرّ لك منه، وقيل: الضمير في ملاقيه للكدح يَسِيراً سهلا هينا لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوءه ويشق عليه، كما يناقش أصحاب الشمال. وعن عائشة رضى الله عنها: هو أن يعرّف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«من يحاسب يعذب» فقيل يا رسول الله: فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال «ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذب» «1» إِلى أَهْلِهِ إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين. أو إلى فريق المؤمنين.
أو إلى أهله في الجنة من الحور العين وَراءَ ظَهْرِهِ قيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره.
يَدْعُوا ثُبُوراً يقول: يا ثبوراه. والثبور: الهلاك. وقرئ: ويصلى سعيرا، كقوله وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ويصلى: بضم الياء والتخفيف، كقوله وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ. فِي أَهْلِهِ فيما بين ظهرانيهم:
أو معهم، على أنهم كانوا جميعا مسرورين، يعنى أنه كان في الدنيا مترفا بطرا مستبشرا كعادة
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة.(4/726)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب، ولم يكن كئيبا حزينا متفكرا كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أى: لا يرجع ولا يتغير.
قال لبيد:
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع «1»
وعن ابن عباس: ما كنت أدرى ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حورى، أى: ارجعي بَلى إيجاب لما بعد النفي في لَنْ يَحُورَ أى: بلى ليحورنّ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه، فلا بدّ أن يرجعه ويجازيه عليها. وقيل: نزلت الآيتان في أبى سلمة بن عبد الأشدّ وأخيه الأسود بن عبد الأشد.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 19]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
الشفق: الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء، إلا ما يروى عن أبى حنيفة رضى الله عنه في إحدى الروايتين:
أنه البياض. وروى أسد بن عمرو: أنه رجع عنه، سمى لرقته. ومنه الشفقة على الإنسان:
رقة القلب عليه وَما وَسَقَ وما جمع وضم، يقال: وسقه فاتسق واستوسق. قال:
مستوسقات لو يجدن سائقا «2»
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين: اتسع واستوسع. ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها إِذَا اتَّسَقَ إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. قرئ:
لتركبن، على خطاب الإنسان في يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ولتركبن، بالضم على خطاب الجنس، لان النداء للجنس، ولتركبن بالكسر على خطاب النفس، وليركبن بالياء على: ليركبن
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الرابع صفحة 13 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
القلائص: جمع قلوص وهي الفتية من الإبل. والحقائق: جمع حقة، التي استحقت الحمل عليها، أو استحقت ضراب الفحل. ويقال: وسقه فاتسق واستوسق، أى: جمع عليه الأحمال فتحمل، أو جمعه فاجتمع ومستوسقات:
محملات أو مجتمعات، وأو بمعنى إلى، أى: واقفات إلى أن يجدن من يسوقهن فيسرن. ويروى: لو يجدن.
وفيه معنى التمني. ويجوز أن جوابه مقدر، أى: لأسرعن:(4/727)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الإنسان. والطبق: ما طابق غيره. يقال: ما هذا بطبق لذا، أى: لا يطابقه. ومنه قيل للغطاء الطبق. وإطباق الثرى: ما تطابق منه، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق. ومنه قوله عز وعلا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أى حالا بعد حال: كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول:
ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات. ومنه: طبق الظهر لفقاره الواحدة: طبقة، على معنى: لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض. وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. فإن قلت: ما محل عن طبق؟ قلت:
النصب على أنه صفة لطبقا، أى: طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في لتركبن، أى:
لتركبن طبقا مجاوزين لطبق. أو مجاوزا. أو مجاوزة، على حسب القراءة: وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 20 الى 25]
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
لا يَسْجُدُونَ لا يستكينون ولا يخضعون. وقيل. قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر «1» ، فنزلت. وبه احتج ابو حنيفة رضى الله عنه على وجوب السجدة. وعن ابن عباس ليس في المفصل سجدة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أنه سجد فيها وقال: والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد «2» فيها. وعن أنس: صليت خلف أبى بكر وعمر وعثمان فسجدوا. وعن الحسن: هي غير واجبة الَّذِينَ كَفَرُوا إشارة إلى المذكورين بِما يُوعُونَ بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء. أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا استثناء منقطع.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره» «3» .
__________
(1) . لم أجده.
(2) . متفق عليه بمعناه.
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بإسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/728)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
سورة البروج
مكية، وآياتها 22 [نزلت بعد الشمس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
هي البروج الاثنا عشر، وهي قصور السماء على التشبيه. وقيل: الْبُرُوجِ النجوم التي هي منازل القمر. وقيل: عظام الكواكب. سميت بروجا لظهورها. وقيل: أبواب السماء وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ يعنى وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه.
والمراد بالشاهد: من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود: ما في ذلك اليوم من عجائبه.
وطريق تنكيرهما: إما ما ذكرته في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. وإما الإبهام في الوصف، كأنه قيل: وشاهد مشهود لا يكتنه وصفهما. وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما، فقيل: الشاهد والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة. وقيل: عيسى. وأمّته. لقوله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ وقيل:
أمّة محمد، وسائر الأمم: وقيل: يوم التروية، ويوم عرفة. وقيل: يوم عرفة، ويوم الجمعة.
وقيل. الحجر الأسود، والحجيج. وقيل: الأيام والليالي، وبنو آدم. وعن الحسن: ما من يوم إلا وينادى: إنى يوم جديد وإنى على ما يعمل فىّ شهيد، فاغتمنى، فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة: وقيل: الحفظة وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد عليه السلام.
[سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 9]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
فإن قلت: أين جواب القسم؟ قلت: محذوف يدل عليه قوله قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون، يعنى كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك(4/729)
أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم: من التعذيب على الإيمان. وإلحاق أنواع الأذى، وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود وقتل: دعاء عليهم، كقوله قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ وقرئ: قتل، بالتشديد. والأخدود:
الخدّ في الأرض وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق. ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان «1» . روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب: فسمع منه، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس. فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفى من الأدواء، وعمى جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال: من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربى، فغضب فعذبه. فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقدّ بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجب بالقوم، فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور «2» فلججوا به ليغرقوه، فدعا فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا، فقال للملك:
لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول:
بسم الله رب الغلام، ثم ترميني به. فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك. نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأو قدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبى فتقاعست «3» أن تقع فيها، فقال الصبى:
يا أماه، اصبري فإنك على الحق، فاقتحمت. وقيل: قال لها قعى ولا تنافقى. وقيل: قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت «4» . وعن على رضى الله عنه: أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس، إنّ الله أحل نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله حرّمه، فخطب فلم يقبلوا منه
__________
(1) . قوله «جرذان» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر والجمع: الجرذان. (ع)
(2) . قوله «قرقور» في الصحاح «القرقور» : السفينة الطويلة. (ع)
(3) . قوله «فتقاعست» في الصحاح «تقاعس» : إذا تأخر عن الأمر ولم يتقدم. (ع) [.....]
(4) . أخرجه مسلم. والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري والطبراني وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية ابن أبى ليلى من طرق وأقربها إلى لفظ الكتاب سياق الطبري. تفرد به ثابت البناني عن عبد الرحمن.(4/730)
فقالت له: ابسط فيهم السوط، فلم يقبلوا، فقالت له: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله بقوله قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ «1» وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا، فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفا «2» ، وذكر أنّ طول الأخدود: أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا «3» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ من جهد البلاء «4» النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، وقرئ: الوقود، بالضم إِذْ ظرف لقتل، أى لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها. ومعنى عَلَيْها على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كقوله:
وبات على النّار النّدى والمحلّق «5»
وكما تقول: مرت عليه، تريد: مستعليا لمكان يدنو منه، ومعنى شهادتهم على إحراق المؤمنين:
أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهودا يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنّ أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب. ويجوز أن يراد: أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، يؤدّون شهادتهم يوم القيامة يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان، كقوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم «6»
قال ابن الرقيات:
ما نقموا من بنى أميّة إلّا ... أنّهم يحلمون إن غضبوا «7»
__________
(1) . أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى. والطبري والطبراني. وأحمد وإسحاق والبزار كلهم من رواية عبد الرحمن بن حميد والطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن عبد الرحمن بن أيزى قال «لما هزم المسلمون أهل الاسفيذيان انصرفوا فجاءهم يعنى عمر رضى الله عنه. فاجتمعوا فقالوا. أى شيء يجرى على المجوس من الأحكام؟
نهم ليسوا أهل كتاب. وليسوا من مشركي العرب. فقال: هم أهل الكتاب. فذكره. وسياق الطبري أتم منه
(2) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة، حدثني يزيد بن أبى زياد عن محمد بن كعب. فذره مطولا.
(3) . نقله الثعلبي عن الكلبي.
(4) . أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى أسامة عن عوف عن الحسن بهذا.
(5) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 53 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(6) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 142 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(7) . لقيس الرقيات. ونقموا كرهوا: وحلم- كظرف-: صفح. يقول: إنهم جعلوا أحسن الأشياء وهو الحلم عند الغضب قبيحا. ويجوز أن فاعل الفعلين ضمير بنى أمية. ويجوز أن الأول لهم، والثاني: الناقمين. وفيه استتباع المدح بما يشبه الذم للمبالغة في المدح، حيث جعل الحلم عند الغضب ذما، مع أنه غاية في المدح. ويروى ما نقم الناس، وعليها فالصواب إسقاط «بين» لأجل الوزن.(4/731)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
وقرأ أبو حيوة: نقموا، بالكسر، والفصيح: هو الفتح. وذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه حميدا منعما. يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديرا، لأن ما نَقَمُوا مِنْهُمْ هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغىّ، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يعدله عذاب وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعيد لهم، يعنى أنه علم ما فعلوا، وهو مجازيهم عليه.
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
ويجوز أن يريد بالذين فتنوا: أصحاب الأخدود خاصة، وبالذين آمنوا: المطروحين في الأخدود. ومعنى فتنوهم: عذبوهم بالنار وأحرقوهم فَلَهُمْ في الآخرة عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ويجوز أن يريد: الذين فتنوا المؤمنين، أى: بلوهم بالأذى على العموم، والمؤمنين: المفتونين، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة: لكفرهم، ولفتنتهم.
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
البطش: الأخذ بالعنف، فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم: وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذهم بالعذاب والانتقام إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أى يبدئ البطش ويعيده، يعنى: يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة. أو دل باقتداره على الإبداء والاعادة على شدة بطشه.
وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالاعادة.(4/732)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
وقرئ: يبدأ الْوَدُودُ الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود: من إعطائهم ما أرادوا.
وقرئ: ذى العرش، صفة لربك. وقرئ: المجيد، بالجر صفة للعرش. ومجد الله: عظمته.
ومجد العرش: علوه وعظمته فَعَّالٌ خبر مبتدأ محذوف. وإنما قيل: فعال، لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة «1» .
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من الجنود. وأراد بفرعون إياه وآله، كما في قوله مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ والمعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك فِي تَكْذِيبٍ أىّ: تكذيب واستيجاب للعذاب، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه. والاحاطة بهم من ورائهم: مثل لأنهم لا يفوتونه، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به. ومعنى الاضراب: أن أمرهم أعجب من أمر أولئك، لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا، وكذبوا أشد من تكذيبهم بَلْ هُوَ أى بل هذا الذي كذبوا به قُرْآنٌ مَجِيدٌ شريف عالى الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه. وقرئ: قرآن مجيد، بالاضافة، أى: قرآن رب مجيد. وقرأ يحيى بن يعمر:
في لوح. واللوح: الهواء «2» ، يعنى: اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح مَحْفُوظٍ من وصول الشياطين إليه. وقرئ: محفوظ، بالرفع صفة القرآن.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات «3» » .
__________
(1) . قال محمود: «إنما يقال فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة» قال أحمد: ما قدر الله حق قدره، هلا قال: إنه لا فاعل إلا هو، وهل المخالف لذلك إلا مشرك، وكم أراد الله تعالى على معتقد القدرية من فعل فلم يفعله، وهب أنا طرحنا النظر في مقتضى مبالغة الصيغة، أليس قد دل بقوله لِما يُرِيدُ على عموم فعله في جميع مراده، فما رده إلى الخصوص إلا نكوص عن النصوص.
(2) . قوله «واللوح الهواء» في الصحاح «اللوح» بالضم: الهواء بين السماء والأرض. (ع)
(3) . أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه باسنادهم إلى بن كعب.(4/733)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
سورة الطارق
مكية، وآياتها 17 [نزلت بعد البلد] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: درّىء، لأنه يدرؤه، أى: يدفعه. ووصف بالطارق، لأنه يبدو بالليل، كما يقال للآتى ليلا: طارق: أو لأنه يطرق الجنى، أى يصكه. والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها. فإن قلت: ما يشبه قوله وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي أى فائدة تحته؟
قلت: أراد الله عز من قائل: أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو الطارق، ثم قال: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ ثم فسره بقوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ كل هذا إظهار لفخامة شأنه، كما قال فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ روى أنّ أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانحط نجم، فامتلأ ما ثم نورا. فجزع أبو طالب وقال: أى شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمى به، وهو آية من آيات الله، فعجب أبو طالب «1» ، فنزلت.
[سورة الطارق (86) : آية 4]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فإن قلت: ما جواب القسم؟ قلت إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ لأنّ «إن» لا تخلو فيمن قرأ لما مشددة، بمعنى: إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة على أن «ما» صلة تكون مخففة من الثقيلة، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم، حافظ مهيمن عليها رقيب، وهو الله عز وجل وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً وقيل: ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين «2» » .
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير إسناد.
(2) . أخرجه الطبراني من رواية عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبى أمامة به وأتم منه. وعفير ضعيف.(4/734)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 7]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
فإن قلت: ما وجه اتصال قوله فَلْيَنْظُرِ بما قبله؟ قلت: وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته، ومِمَّ خُلِقَ استفهام جوابه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ والدفق: صبّ فيه دفع. ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق، كاللابن والتامر. أو الاسناد المجازى. والدفق في الحقيقة لصاحبه، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ من بين صلب الرجل وترائب المرأة: وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. وقرئ: الصلب- بفتحتين، والصلب بضمتين. وفيه أربع لغات: صلب، وصلب،
وصلب وصالب. قال العجاج: ... في صلب مثل العنان المؤدم «1»
وقيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة.
[سورة الطارق (86) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
إِنَّهُ الضمير للخالق، لدلالة خلق عليه. ومعناه: إنّ ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة عَلى رَجْعِهِ على إعادته خصوصا لَقادِرٌ لبين القدرة لا يلتاث «2» عليه ولا يعجز عنه. كقوله: إننى لفقير «3» يَوْمَ تُبْلَى منصوب برجعه، ومن جعل الضمير في رَجْعِهِ للماء
__________
(1) .
ريا العظام فخمة المخدم ... في صلب مثل العنان المؤدم
العجاج. والريا: تأنيث الريان، أى: لينة العظام، سمينة محل الخدام وهو الخلخال. والمخدم- بالتشديد- على اسم المفعول. والصلب- بضمتين، وبفتحتين، وبضم فسكون-: عظام الظهر، والمراد هنا: الخصر. وفي بمعنى مع، أى: وصفت بهذه الصفات، مع أن لها خصرا رقيقا لينا، مثل العنان المؤدم، على اسم المفعول، أى:
المؤلف بالفتل، يقال: أدم بينهما- بقصر الهمزة وبمدها-: بمعنى ألف وأصلح. أو المجعول له أدمة. أو لين الأدمة- بفتحتين، وهي الجلدة المدبوغة المصلحة، من أدمه بالمد: جعل له أدمة. والفخمة بالضم: الضخامة واسترخاء الرجلين. والفخمة- بالفتح-: وصف منه. [.....]
(2) . قوله «لا يلتاث عليه» في الصحاح «التاث في عمله» : أى أبطأ. (ع)
(3) . قوله «كقوله إننى لفقير» أى الشاعر، حيث قال:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلى ... لأفقر منى إننى لفقير (ع)
وقد تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 23 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/735)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل. أو إلى الحالة الاولى نصب الظرف بمضمر السَّرائِرُ ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال.
وبلاؤها. تعرّفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر «1»
فقال: ما أغفله عما في وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ؟ فَما لَهُ فما للإنسان مِنْ قُوَّةٍ من منعة في نفسه يمتنع بها وَلا ناصِرٍ ولا مانع يمنعه.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 14]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
سمى المطر رجعا، كما سمى أوبا. قال:
ربّاء شمّاء لا يأوى لقلتها ... إلّا السّحاب وإلّا الأوب والسّبل «2»
تسمية بمصدرى: رجع، وآب، وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض. أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعا. وأوبا، ليرجع ويؤب. وقيل: لأنّ الله يرجعه وقتا فوقتا. قالت الخنساء: كالرجع في المدجنة السارية.
والصدع: ما يتصدّع عنه الأرض من النبات إِنَّهُ الضمير للقرآن فَصْلٌ فاصل بين
__________
(1) .
إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر
سيقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
لمجنون بنى عامر صاحب ليلى العامرية. وسلا عنه سلوة وسلوا: صد عنه وأعرض، وشبه بعث الحب إياه وحمله على دوام المودة بقول القائل على طريق التصريحية، وتسمية الحب شافعا: ترشيح. ومن بيانية. ويحتمل أنها تجريدية دلالة على أن الحب بلغ نهاية اللذة حتى حمل على دوام المودة فانتزع منه غيره وأسند له الفعل. ويجوز أنها تبعيضية دالة على أن بعضه يكفى في الشفاعة. وقوله «المقابر» أى دخولها، كناية عن الموت. والمراد: التأبيد، بدليل ما بعده. ومضمر القلب: المضمر في القلب. أو مضمر هو القلب. وتبلى: مبنى للفاعل، أى: تفنى.
ويحتمل بناءه للمفعول، أى: تختبر. والحشا- بالفتح-: عطف على القلب أعم منه، دلالة على أن الحب في غير قلبه أيضا.
(2) . للمنتخل الهذلي يرثى ابنه. وقيل: يصف رجلا بأنه رباء، أى طلاع من ربأ وارتبأ: إذا طلع لينظر إلى أمر. ومنه الربيئة، وإضافته إلى شماء من إضافة الوصف لمفعوله: وهي القلعة المرتفعة من الشمم وهو الارتفاع.
وقلة الجبل وقنته: رأسه وأعلاه. والأوب: النحل، لأنه يذهب ويؤوب إلى بيته. أو المطر، لأن أصله من بحار الأرض على زعم العرب، ثم يؤوب إليها. والسبيل- بالتحريك-: المطر من أسبلت الستر إذا أرسلته وأرخيته، وعلى أن الأوب بمعنى النحل لا مناسبة بينه قرينية، وعلى أنه بمعنى المطر، فالسبل مرادف له.(4/736)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
الحق والباطل، كما قيل له فرقان وَما هُوَ بِالْهَزْلِ يعنى أنه جدّ كله لا هوادة فيه. ومن حقه- وقد وصفه الله بذلك- أن يكون مهيبا في الصدور، معظما في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السماوات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده وبوعده، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، وَالْغَوْا فِيهِ.
[سورة الطارق (86) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
إِنَّهُمْ يعنى أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق، وأنا أقابلهم بكيدى: من استدراجى لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ يعنى لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أى إمهالا يسيرا، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» «1» .
سورة الأعلى
مكية، وآياتها 19 [نزلت بعد التكوير] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
تسبيح اسمه عز وعلا: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه، كالجبر
__________
(1) . أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/737)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
والتشبيه ونحو ذلك، مثل أن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، وأن يصان عن الابتذال والذكر، لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الْأَعْلَى صفة للرب، والاسم، وقرأ على رضى الله عنه: سبحان ربى الأعلى. وفي الحديث لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال: «اجعلوها في سجودكم» «1» وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود:
اللهم لك سجدت خَلَقَ فَسَوَّى أى خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم قَدَّرَ فَهَدى قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به. يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوى تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله. وهدايات الله للإنسان إلى مالا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض:
باب واسع، وشوط بطين «2» ، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربى الأعلى. وقرئ:
قدر، بالتخفيف أَحْوى صفة لغثاء، أى أَخْرَجَ الْمَرْعى أنبته فَجَعَلَهُ بعد خضرته ورفيفه غُثاءً أَحْوى دربنا «3» أسود. ويجوز أن يكون أَحْوى حالا من المرعى، أى:
أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة والري، فجعله غثاء بعد حوّيه.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي: أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى وهو أمى لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته، كقوله أَوْ نُنْسِها وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل، فقيل: لا تعجل، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه، ثم لا تنساه إلا ما شاء الله، ثم تذكره بعد النسيان. أو قال: إلا ما شاء الله، يعنى: القلة والندرة، كما روى أنه أسقط آية في
__________
(1) . أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وأحمد من رواية إياس بن عامر عن عقبة بن عامر به.
(2) . قوله «وشوط بطين» أى بعيد أفاده الصحاح. (ع)
(3) . الدرين: حطام المرعى إذا قدم، كذا في الصحاح. (ع)(4/738)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
قراءته في الصلاة، فحسب أبى أنها نسخت، فسأله فقال: نسيتها «1» . أو قال: إلا ما شاء الله، الغرض نفى النسيان رأسا كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ولا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وقيل: قوله فَلا تَنْسى على النهى، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله السَّبِيلَا يعنى: فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعنى أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، فلا تفعل، فأنا أكفيك ما تخافه. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وبطن من أحوالكم، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه، فينسى من الوحى ما يشاء، ويترك محفوظا ما يشاء.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 8 الى 13]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12)
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معطوف على سَنُقْرِئُكَ وقوله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعتراض ومعناه: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعنى: حفظ الوحى «2» . وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفقك لعمل الجنة. فإن قلت: كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع، فما معنى اشتراط النفع؟
قلت: هو على وجهين، أحدهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفا، ويزداد جدا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. والثاني: أن يكون ظاهره شرطا، ومعناه ذمّا للمذكرين، وإخبارا عن حالهم، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكاسين إن سمعوا منك. قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون سَيَذَّكَّرُ فيقبل التذكرة
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والنسائي والبخاري في جزء القراءة. والطبري من رواية زر عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبيه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فقرأ آية فذكر الحديث» وأخرجه أبو بشر الدولابي من هذا الوجه فقال: عن سعيد عن أبيه عن أبى بن كعب ... فذكره.
(2) . قوله «يعنى حفظ الوحي» لعله: يعنى في حفظ الوحي. (ع)(4/739)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
وينتفع بها مَنْ يَخْشى الله وسوء العاقبة، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى اتباع الحق:
فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك يَتَجَنَّبُهَا
ويتجنب الذكرى ويتحاماهاَْشْقَى
الكافر، لأنه أشقى من الفاسق. أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة النَّارَ الْكُبْرى السفلى من أطباق النار «1» وقيل الْكُبْرى نار جهنم. والصغرى: نار الدنيا. وقيل ثُمَّ لأنّ الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلى، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة: والمعنى: لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 17]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)
تَزَكَّى تطهر من الشرك والمعاصي. أو تطهر للصلاة. أو تكثر من التقوى، من الزكاء وهو النماء. أو تفعل من الزكاة، كتصدق من الصدقة فَصَلَّى أى الصلوات الخمس، نحو قوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وعن ابن مسعود: رحم الله امرأ تصدق وصلى. وعن على رضى الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال: لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها «2» ، لقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أى أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى، فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا تفعلون ما تفلحون به. وقرئ:
__________
(1) . قال محمود: «الأشقى: الكافر، لأنه أشقى من الفاسق. والبار الكبرى: السفلى من أطباق النار» قال أحمد: يشير إلى خلود الفاسق مع الكافر في أسافل النار، والفاسق أعلى منه، كما تقدم له التصريح بذلك كثيرا.
(2) . قال محمود: «وعن على أنه قال هو التصدق بصدقة الفطر وقال لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها ... الخ» قال أحمد: في تلقى هذين الحكمين الأخيرين من الآية تكلف: أما الأول، فلأن العطف وإن اقتضى المغايرة فيقال بموجبها: فنحن إن قلنا إن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة، فالجزء مغاير للكل، فلا غرو أن يعطف عليه، والمغايرة مع الجزئية ثابتة والحالة هذه. وأما الثاني، فلأن الاسم معرف بالاضافة، وتعريف الاضافة عهدى عند محققي الفن، حتى إن القائل إذا قال: جاءني غلام زيد، ولزيد غلامان، فإنما تفهم من قوله معينا منهم بسابق عهد بينك وبينه، هذا مهيع تعريف الاضافة، والمعهود في افتتاح الصلاة: ما استمر النبي صلى الله عليه وسلم على العمل به قولا وفعلا: وهو التكبير المعروف، ولو تنزلنا على أنه في الآية مطلق، فالحصر في قوله: تحريمها التكبير قيد إطلاقه.(4/740)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
يؤثرون، على الغيبة. ويعضد الأولى قراءة ابن مسعود: بل أنتم تؤثرون خَيْرٌ وَأَبْقى أفضل في نفسها وأنعم وأدوم. وعن عمر رضى الله عنه: ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب «1» .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
هذا إشارة إلى قوله قَدْ أَفْلَحَ إلى أَبْقى يعنى أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها. وروى عن أبى ذر رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم: عشر صحف، وعلى شيث: خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس: ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم: عشر صحائف والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان «2» . وقيل إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد «3» وكان إذا قرأها قال: سبحان ربى الأعلى «4» وكان على وابن عباس يقولان ذلك، وكان يحبها «5» وقال: أول من قال «سبحان ربى الأعلى» ميكائيل «6» .
سورة الغاشية
مكية، وآياتها 26 [نزلت بعد الذاريات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)
الْغاشِيَةِ الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها. يعنى القيامة، من قوله
__________
(1) . قوله «إلا كنفجة أرنب» في الصحاح «نفجت الأرنب» إذا ثارت. (ع)
(2) . هو مختصر من حديث طويل أخرجه ابن حبان والحاكم. وقد تقدمت الاشارة اليه في الحج «تنبيه» وقع فيه «على آدم عشر صحائف» والذي عند المذكورين على موسى قبل التوراة عشر صحائف. [.....]
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
(4) . أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سعد بن جبير عن ابن عباس بهذا.
(5) . أخرجه البزار عن يوسف بن موسى: ووكيع عن إسرائيل عن ثور بن ابى فاختة عن أبيه عن على بهذا ورواه الواحدي من طريق أحمد بن حنبل ووكيع.
(6) . ذكره الثعلبي عن على بغير إسناد.(4/741)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ وقيل: النار، من قوله وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ يَوْمَئِذٍ يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل في النار عملا تتعب فيه، وهو جرها السلاسل والأغلال «1» ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت، فهي في نصب منها في الآخرة. وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدى عليها في الآخرة. من قوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وقيل: هم أصحاب الصوامع. ومعناه: أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب، «2» والتهجد الواصب. وقرئ: عاملة ناصبة على الشتم. قرئ: تصلى بفتح التاء. وتصلى بضمها. وتصلى بالتشديد. وقيل: المصلى عند العرب: أن يحفروا حفيرا فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور، فلا يسمى مصليا آنِيَةٍ متناهية في الحرّ، كقوله وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. الضريع.
يبيس الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا «3» ، فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل. قال أبو ذؤيب:
رعى الشيرق الرّيّان حتّى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بان عنه النّحائص «4»
وقال:
وحبسن في هزم الضّريع فكلّها ... حدباء دامية اليدين حرود «5»
__________
(1) . قال محمود: «ذليلة تعمل في النار عملا تنصب منه وهو جرها السلاسل ... الخ» قال أحمد: الوجه الأول متعين لأن الظرف المذكور وهو قوله يَوْمَئِذٍ مقطوع عن الجملة المضاف إليها، تقديرها: يوم إذ عشيت، وذلك في الآخرة بلا إشكال، وهو ظرف لجميع الصفات المخبر بها، أعنى: خاشعة عاملة ناصبة، فكيف يتناول أعمال الدنيا.
(2) . قوله «من الصوم الدائب، الدائب والواصب كلاهما بمعنى الدائم. (ع)
(3) . قال محمود: «الضريع: يبيس الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا ... الخ» قال أحمد: فعلى الوجه الأول يكون صفة مخصصة لازمة. ذكرت شارحة لحقيقة الضريع. وعلى الثاني: تكون صفة مخصصة.
(4) . أى: رعى البعير الشبرق الريان، أى: الشوك الرطب. وذوى يذوى ذويا: ذبل ذبولا. وذوى كرضى أنكرها الجوهري، وأثبتها أبو عبيدة، أى: حتى إذا جف وصار ضريعا يابسا يتفتت بان عنه، أى: بعد عنه النحائص: جمع نحوص وهي الناقة الحائل، لعلها أنه لا يسمن ولا يغنى من جوع.
(5) . لقيس بن عيزارة، وهزمه- بالزاي-: صدعه «ومنه: الهزم، أى: المنكسر. وناقة هزماء: بدا عظم وركيها من الهزال. وأما الهرم بالراء فهو الحمض، وبعير عارم: يرعى الحمض. والضريع: نبت سيئ ذو شوك. والحدب: الانحناء. والحدباء: المنحنية. وحرد حردا: يبس وشح، يقول: حبست النوق في مرعى غث متفتت، فكلها منحنية الظهور أو الأرجل من الهزال، دامية اليدين من الشوك، قليلة اللبن.(4/742)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
فإن قلت: كيف قيل لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي الحاقة وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ؟
قلت: العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم. أكلة الزقوم. ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ. لا يُسْمِنُ مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام. أو ضريع، يعنى: أنّ طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس، وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به. وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه. ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه: وهما إماطة الجوع، وإفادة القوّة والسمن في البدن. أو أريد: أن لا طعام لهم أصلا، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل. كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس، تريد: نفى الظل على التوكيد. وقيل: قالت كفار قريش: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يُسْمِنُ فلا يخلو إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر، فيردّ قولهم بنفي السمن والشبع، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 2 الى 16]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
ناعِمَةٌ ذات بهجة وحسن، كقوله تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أو متنعمة لِسَعْيِها راضِيَةٌ رضيت بعملها لما رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب عالِيَةٍ من علو المكان أو المقدار لا تَسْمَعُ يا مخاطب. أو الوجوه لاغِيَةً أى لغوا، أو كلمة ذات لغو. أو نفسا تلغو، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. وقرئ:
لا تسمع: على البناء للمفعول بالتاء والياء «1» فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يريد عيونا في غاية الكثرة،
__________
(1) . قوله «على البناء للمفعول بالتاء والياء» أى: ولاغية: بالرفع فيهما. (ع)(4/743)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ. مَرْفُوعَةٌ من رفعة المقدار أو السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربه من الملك والنعيم. وقيل: مخبوءة لهم، من رفع الشيء إذا خبأه مَوْضُوعَةٌ كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو موضوعة على حافات العيون معدّة للشرب. ويجوز أن يراد: موضوعة عن حد الكبار، أوساط بين الصغر والكبر، كقوله قَدَّرُوها تَقْدِيراً. مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض. مساند ومطارح، «1» أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى وَزَرابِيُّ وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. جمع زربية مَبْثُوثَةٌ مبسوطة.
أو مفرقة في المجالس.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ نظر اعتبار كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا عجيبا، دالا على تقدير مقدر، شاهدا بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة «2» فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها: لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء. أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش، حتى إن أظماءها «3» لترتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحا القاضي فقلت: أين تريد؟ قال:
__________
(1) . قوله «مسائد ومطارح» عبارة النسفي. وسائدة وقوله. على مسوره عبارة النسفي. على موسدة. (ع)
(2) . «قوله إلى البلاد الشاحطة» أى البعيدة. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «حتى إن أظماءها» في الصحاح. «الظمء» ما بين الوردين: وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد، والجمع: الأظماء. (ع)(4/744)
أريد الكناسة: قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت. فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت: قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله، إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين، وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيرا في أشعارهم، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز كَيْفَ رُفِعَتْ رفعا بعيد المدى بالإمساك وبغير عمد. وكَيْفَ نُصِبَتْ نصبا ثابتا، فهي راسخة لا تميل ولا تزول. وكَيْفَ سُطِحَتْ سطحا بتمهيد وتوطئة، فهي مهاد للمتقلب عليها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: خلقت، ورفعت، ونصبت، وسطحت: على البناء للفاعل وتاء الضمير، والتقدير:
فعلتها. فحذف المفعول. وعن هرون الرشيد أنه قرأ: سطحت بالتشديد، والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه. أى: لا ينظرون، فذكرهم ولا تلح عليهم، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ كقوله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمتسلط، كقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ وقيل: هو في لغة تميم مفتوح الطاء، على أن «سيطر» متعد عندهم. وقولهم: تسيطر، يدل عليه إِلَّا مَنْ تَوَلَّى استثناء منقطع، أى: لست بمستول عليهم، ولكن من تولى وَكَفَرَ منهم، فإن لله الولاية والقهر. فهو يعذبه الْعَذابَ الْأَكْبَرَ الذي هو عذاب جهنم. وقيل. هو استثناء من قوله فَذَكِّرْ أى: فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى، فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض. وقرئ: إلا من تولى، على التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود: فإنه يعذبه:
وقرأ أبو جعفر المدني: إيابهم، بالتشديد. ووجهه أن يكون «فيعالا» مصدر «أيب» فيعل من الإياب. أو أن يكون أصله أوابا: فعالا من أوّب، ثم قيل: إيوابا كديوان في دوّان، ثم فعل به ما فعل بأصل: سيد وميت. فإن قلت. ما معنى تقديم الظرف؟ قلت: معناه التشديد في الوعيد، «1» وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حسابا يسيرا» «2» .
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى تقديم الظرف؟ وأجاب بأن معناه التشديد في الوعيد ... الخ» قال أحمد: ومعنى ثُمَّ الدلالة على أن الحساب أشد من الإياب، لأنه موجب العذاب وبادرته. [.....]
(2) . أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه بالإسناد إلى أبى بن كعب.(4/745)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
سورة الفجر
مكية، وآياتها 30 وقيل 29 [نزلت بعد الليل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ. وقيل:
بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر: عشر ذى الحجة. فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي: العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية. وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك «1» .
وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهى عنه، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم إِذا يَسْرِ إذا يمضى، كقوله وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وقرئ: والوتر بفتح الواو، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد، وفي الترة: الكسر وحده «2» . وقرئ: الوتر بفتح الواو وكسر التاء: رواها يونس عن أبى عمرو، وقرئ: والفجر، والوتر، ويسر: بالتنوين، وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق. وعن ابن عباس: وليال عشر، بالإضافة. يريد: وليال أيام عشر. وياء يَسْرِ تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة. وأما في الوقف فتحذف مع
__________
(1) . قلت: التعليل من كلام الزمخشري. وأصله عند النسائي وأحمد والبزار والحاكم والبيهقي في الشعب الثالث والعشرين من رواية خير بن نعيم عن أبى الزبير عن جابر. قال: لا نعلمه إلا بهذا الاسناد.
(2) . قوله «وفي الترة الكسر وحده» في الصحاح «الموتور» الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول:
وتره وترا وترة، وكذلك: وتره حقه، أى: نقصه. (ع)(4/746)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
الكسرة. وقيل: معنى «يسرى» يسرى فيه هَلْ فِي ذلِكَ أى فيما أقسمت به من هذه الأشياء قَسَمٌ أى مقسم به لِذِي حِجْرٍ يريد: هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو: هل في إقسامى بها لذي حجر، أى: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر: العقل، لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سمى عقلا ونهية، لأنه يعقل وينهى. وحصاة: من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال: إنه لذو حجر، إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها، والمقسم عليه محذوف وهو «ليعذبن» يدل عليه قوله أَلَمْ تَرَ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد، كما يقال لبنى هاشم: هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم، تسمية لهم باسم جدّهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوّله ... أدرك عادا وقبلها إرما «1»
فإرم في قوله بِعادٍ إِرَمَ عطف بيان لعاد، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل إِرَمَ بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير: بعاد إرم، على الإضافة. وتقديره:
بعاد أهل إرم، كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضا للتعريف والتأنيث.
وقرأ الحسن: بعاد أرم، مفتوحتين. وقرئ: بعاد إرم، بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ:
بورقكم. وقرى: بعاد إرم ذات العماد، بإضافة إرم إلى ذات العماد، والإرم: العلم، يعنى: بعاد أهل أعلام ذات العماد. وذاتِ الْعِمادِ اسم المدينة. وقرئ: بعاد إرمّ ذات العماد، أى جعل الله ذات العماد رميما بدلا من فعل ربك، وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. ومنه قولهم: رجل معمد وعمدان: إذا كان طويلا. وقيل: ذات البناء الرفيع، وإن كانت صفة
__________
(1) . لابن الرقيات، يصف رجلا بأنه حاز مجدا تليدا. أى: قديما. وشبهه بالحصن المبنى على طريق المكنية وبناه تخييل، أى شرعه وجدده أوله، أى: آباؤه الأولون: أدرك هذا المجد من جدود الممدوح عادا وإرما قبله أى: قبل عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فعقب عاد هذا: هم عاد الأولى، ومن بعدهم:
عاد الثانية.(4/747)
للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين. وروى أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال:
أبنى مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة: وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد «1» ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها مثل عاد فِي الْبِلادِ عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتى الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم، أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير: لم يخلق مثلها، أى: لم يخلق الله مثلها جابُوا الصَّخْرَ قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا، كقوله وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. قيل له: ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد، كما فعل بماشطة بنته وبآسية الَّذِينَ طَغَوْا أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا. أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط: إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وعن عمر بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. المرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد «مفعال» من رصده، كالميقات من وقته. وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال: إنّ ربك لبالمرصاد يا فلان، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة، فلله درّه أىّ أسد
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبى صالح عن أبى لهيعة عن خالد بن أبى عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطولا. قلت: آثار الوضع عليه لائحه.(4/748)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
فرّاس كان بين ثوبيه، يدق الظلمة بإنكاره، ويقصع أهل الأهواء «1» والبدع باحتجاجه.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
فإن قلت: بم اتصل قوله «2» فَأَمَّا الْإِنْسانُ؟ قلت: بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعى للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. فإن قلت: فكيف توازن قوله، فأما الإنسان، إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ وقوله وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ «3» وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما، تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور.
أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه، وذلك أن قوله فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربى أكرمن وقت الابتلاء، فوجب أن يكون فَيَقُولُ الثاني خبرا لمبتدإ واجب تقديره. فإن قلت: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت: لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. ونحوه قوله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. فإن قلت:
هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت: لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة «4» ، وأما التقدير فليس بإهانة له، لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركا للكرامة، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمنى بالهدية، ولا تقول: أهاننى
__________
(1) . قوله «ويقصع أهل الأهواء» في الصحاح «قصعت الرجل» صغرته وحقرته. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف اتصل قوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ بما قبله ... الخ» قال أحمد: قوله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة ولا يأمره إلا بها: فاسد الصدر، مبنى على أصله الفاسد، سليم العجز.
(3) . قال محمود: «فان قلت كيف توازن قوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ وقوله وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ قال أحمد: يريد أنه صدر ما بعد أما الأولى بالاسم، وما بعد أما الثانية بالفعل. ومقصود السائل أن يكونا مصدرين: إما باسمين أو بفعلين.
(4) . قال محمود: «فان قلت هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ وأجاب بأن البسط إكرام من الله تعالى العبد من غير سابقة» قال أحمد: «قيد زائد تفريعا على أصله الفاسد، والحق أن كل نعمة من الله كذلك.(4/749)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
ولا أكرمنى إذا لم يهد لك. فإن قلت: فقد قال فَأَكْرَمَهُ فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله رَبِّي أَكْرَمَنِ وذمّه عليه، كما أنكر قوله أَهانَنِ وذمّه عليه. قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنه إنما أنكر قوله ربى أكرمن وذمّه عليه، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا مستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «1» وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
والثاني: أن ينساق الإنكار والذّمّ إلى قوله رَبِّي أَهانَنِ يعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله فَأَكْرَمَهُ «2» وقرئ: فقدر بالتخفيف والتشديد. وأكرمن، وأهانن: بسكون النون في الوقف، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
كَلَّا ردع للإنسان عن قوله. ثم قال: بل هناك شرّ من القول «3» . وهو: أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة، وحض أهله
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: فقد قال فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله ربى أكرمن وذمه عليه كما أنكر قوله ربى أهانن وذمه عليه، وأجاب بأمرين، أحدهما أن المنكر عليه اعتقاده أن إكرام الله تعالى له عن استحقاق لمكان نسبه وحسبه وجلالة قدره، كما كانوا يعتقدون الاستحقاق بذلك على الله، كما قال: إنما أوتيته على علم» قال أحمد: والقدري لا يبعد عن ذلك، لأنه يرى أن النعيم الأعظم في الآخرة حق العبد على الله واجب له عليه ليس بتفضل ولا ممنون.
(2) . قال محمود: «الثاني أن سياق الإنكار والذم إلى قوله رَبِّي أَهانَنِ بمعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير اعترف بتفضل الله تعالى، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هو انا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله فأكرمه» قال أحمد: كأنه يجعل قوله فَأَكْرَمَهُ توطئة لذمه على قوله أَهانَنِ لا أنه مذموم معه.
(3) . قال محمود: «إنما أضرب عن الأول للاشعار بأن هنا ما هو أشر من القول الأول ... الخ» قال أحمد:
وفي هذه الآية إشعار بابطال الجواب الثاني من جوابي الزمخشري، فانه جعل قوله أَكْرَمَنِ غير مذموم، ودلت هذه الآية على أن المعنى أن للمكرم بالبسط بالرزق حالتين، إحداهما: اعتقاده أن إكرام الله له عن استحقاق، الثانية أشد من الأولى: وهي أن لا يعترف بالإكرام أصلا، لأنه يفعل أفعال جاحدى النعمة، فلا يؤدى حق الله الواجب عليه في المال من إطعام اليتيم والمسكين.(4/750)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام، ويحبونه فيشحون به وقرئ: يكرمون، وما بعده بالياء والتاء. وقرئ: تحاضون، أى: يحض بعضكم بعضا: وفي قراءة ابن مسعود: ولا تحاضون بضم التاء، من المحاضة أَكْلًا لَمًّا ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام. قال الحطيئة:
إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه ... فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا «1»
يعنى: أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم. وقيل: كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون تراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنقاقه، ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الورّاث البطالون حُبًّا جَمًّا كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، ويومئذ بدل من إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ وعامل النصب فيهما يتذكر دَكًّا دَكًّا دكا بعد دك. كقوله: حسبته بابا بابا، أى: كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثا.
فإن قلت: ما معنى إسناد المجيء إلى الله، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة قلت: هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه: مثلت حاله في ذلك محال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم صَفًّا صَفًّا ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقوله وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وروى أنها لما
__________
(1) . للحطيئة. واللم: الجمع بين الحلال والحرام من غير فرق. وروى «ربه» بدل «أهله» والطواحن:
الأضراس. وتسمى: الأرحاء جمع وحى، يقول: إذا كان الأكل جمعا، أى: ذا جمع بين الخبيث والطيب يتبع صاحبه الذم، فلا طهر الله تلك الأضراس التي تطحن ذلك المأكول، والدعاء عليها: دعاء على صاحبها.(4/751)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليا رضى الله عنه، فجاء فاحتضنه من خلفه وقبله بين عاتقيه، ثم قال: يا نبىّ الله، بأبى أنت وأمى ما الذي حدث اليوم، وما الذي غيّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال على: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع «1» . أى يتذكر ما فرّط فيه، أو يتعظ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ومن أين له منفعة الذكرى، لا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين: يوم يتذكر، وبين وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى تناف وتناقض قَدَّمْتُ لِحَياتِي هذه، وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لعشر ليال خلون من رجب، وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقا بقصدهم وإرادتهم، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء «2» والبدع، وإلا فما معنى التحسر؟ قرئ: بالفتح، يعذب ويوثق. وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبى عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره. والضمير للإنسان الموصوف. وقيل هو أبىّ بن خلف أى لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه، لتناهيه في كفره وعناده، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقرئ بالكسر، والضمير لله تعالى، أى: لا يتولى عذاب الله أحد، لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم. أو للإنسان، أى: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ على إرادة القول، أى: يقول الله للمؤمن يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ إمّا أن يكلمه إكراما له كما كلم موسى صلوات الله عليه، أو على لسان ملك. والْمُطْمَئِنَّةُ الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك، ويشهد للتفسير الأوّل: قراءة أبىّ بن كعب: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. فإن قلت:
متى يقال لها ذلك؟ قلت: إمّا عند الموت. وإمّا عند البعث، وإمّا عند دخول الجنة. على معنى:
ارجعي إلى موعد ربك راضِيَةً بما أوتيت مَرْضِيَّةً عند الله فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمى في سلكهم وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم، وقيل: النفس الروح.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طريق عطية عن أبى سعيد به وأتم منه. [.....]
(2) . قوله «كمذهب أهل الأهواء» إن كان المراد بهم أهل السنة لقولهم بأن الله هو الخالقى لفعل العبد فهم يثبتون له الاختيار فيه لأنهم يثبتون له الكسب فيه وإن كان المراد بهم من قال بالجبر المحض وهم القائلون بأن العبد لا دخل له في فعله أصلا، بل هو كالريشة المعلقة في الهواء، فكلامه مسلم لظهور بطلان مذهبهم. (ع)(4/752)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
ومعناه: فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ ابن عباس: فادخلي في عبدى. وقرأ ابن مسعود: في جسد عبدى. وقرأ أبى: ائتى ربك راضية مرضية. ادخلى في عبدى، وقيل: نزلت في حمزة ابن عبد المطلب. وقيل: في خبيب بن عدى الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهى نحو قبلتك، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. والظاهر العموم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة» «1» .
سورة البلد
مكية، وآياتها 20 [نزلت بعد ق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يعنى: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم.
عن شرحبيل: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى رضى الله عنه.(4/753)
ببلده، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه. فقال: وأنت حل بهذا البلد، يعنى: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء. قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرّم دار أبى سفيان «1» ، ثم قال: إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقيوننا «2» وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر «3» » . فإن قلت: أين نظير قوله وَأَنْتَ حِلٌّ في معنى الاستقبال؟ قلت:
قوله عز وجل إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ابراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أى بأى شيء وضعت، يعنى موضوعا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل:
كل والد وولد.
والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه.
وأصله: كبده، إذا أصاب كبده. قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد «4»
__________
(1) . تقدم. وقتل ابن خطل: متفق عليه، وقتل مقيس بن صبابة عند أبى داود والنسائي من رواية مصعب ابن سعد عن أبيه وقتل غيرهما تقدم أيضا. ومنهم الحويرث بن نفيل. رواه الواقدي في المغازي. والمراد بقوله «حرم دار أبى سفيان قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» وقد رواه إسحاق وغيره
(2) . قوله «فانه لقيوننا» القيون: جمع قين، وهو الحداد. كذا في الصحاح. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى سلمة عن أبى هريرة وله طرق وألفاظ.
(4) . للبيد برثى أخاه أريد. وكبد كبدا كتعب: وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى صار كتعب في المعنى أيضا. يقول: يا عين هلا بكيت أخى وقت قيامنا للحرب وقيام الخصوم معنا فيه. والعاملان تنازعا قوله فِي كَبَدٍ ونزل عينه منزلة من يعقل، فخاطبها. وهلا: حرف تحضيض.(4/754)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
أى: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
والضمير في أَيَحْسَبُ لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، وأنه يقول أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالى ومفاخر أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارا بينهم، يعنى: أن الله كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان، على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أى في مرض: وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد: هو أبو الأشد، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالنى عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة لُبَداً قرى بالضم والكسر:
جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة: وقرئ: لبدا بضمتين: جمع لبود. ولبدا:
بالتشديد جمع لا بد.
[سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 16]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما المرئيات وَلِساناً يترجم به عن ضمائره وَشَفَتَيْنِ يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أى طريقى الخير والشر. وقيل: الثديين فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعنى: فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان(4/755)
الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير، بل غمط النعم «1» وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضى النافع عند الله، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخار، فيكون مثله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ...
الآية. فإن قلت: قلما تقع «إلا» الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله:
فأىّ أمر سيّئ لأفعله
لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت: هي متكررة في المعنى، لأن معنى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك.
وقال الزجاج قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على معنى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، ولا آمن.
والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبة، وعملها: اقتحاما لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقة: تخليصها من رق أو غيره.
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال:
تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها:
أن تعين في تخليصها من قود أو غرم «2» . والعتق والصدقة: من أفاضل الأعمال. وعن أبى حنيفة رضى الله عنه: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه: الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبى حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذى قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار «3» . قرئ: فك رقبة، أو إطعام على: هي فك رقبة، أو إطعام. وقرئ: فك رقبة، أو أطعم، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة، والمقربة، والمتربة: مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي.
وذو مقربتى. وترب: إذا افتقر، ومعناه. التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أى: صار
__________
(1) . قوله «بل غمط النعم» أى: استحقرها. (ع)
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في الشعب، والثعلبي وابن مردويه والواحدي من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب وليس عند أحد منهم قوله «من قود أو غرم» وكأنه من كلام الزمخشري.
(3) . أخرجه الحاكم من حديث عقبة بن عامر بلفظ «من أعتق رقبة» .(4/756)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ذا مال كالتراب في الكثرة، كما قيل: أثرى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ذا مَتْرَبَةٍ الذي مأواه المزابل «1» ، ووصف اليوم بذي مسعبة نحو ما يقول النحويون في قولهم: هم ناصب:
ذو نصب. وقرأ الحسن: ذا مسغبة نصبه بإطعام. ومعناه: أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.
[سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 20]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة: الرحمة، أى: أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدى إلى رحمة الله. الميمنة والمشأمة: اليمين والشمال. أو اليمن والشؤم، أى: الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ. قرئ: موصدة، بالواو والهمزة، من وصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته وأغلقته. وعن أبى بكر بن عياش: لنا إمام يهمز مؤصدة، فأشتهى أن أسدّ أذنى إذا سمعته.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» «2» .
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه من رواية مجاهد عن عبد الله بن عمر بهذا. وعند الحاكم عن ابن عباس: قال «هو الذي لا يقيه من التراب شيء» موقوف.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/757)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
مكية، وآياتها 15 [نزلت بعد القدر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
ضحاها: ضوؤها إذا أشرقت وقام سلطانها، ولذلك قيل: وقت الضحى، وكأن وجهه شمس الضحى. وقيل: الضحوة ارتفاع النهار. والضحى فوق ذلك. والضحاء بالفتح والمد: إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف إِذا تَلاها طالعا عند غروبها آخذا من نورها، وذلك في النصف الأوّل من الشهر. وقيل: إذا استدار فتلاها في الضياء والنور إِذا جَلَّاها عند انتفاخ النهار «1» وانبساطه، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل: الضمير للظلمة، أو للدنيا، أو للأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة: يريدون الغداة، وأرسلت: يريدون السماء إذا يغشاها، فتغيب وتظلم الآفاق، فإن قلت: الأمر في نصب «إذا» معضل، لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: مررت أمس بزيد، واليوم عمرو. وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت: الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحا كليا، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل والباء سادّة مسدهما معا، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحققن أن يكون عوامل على الفعل «2» والجار جميعا، كما تقول: ضرب زيد عمرا،
__________
(1) . قوله «عند انتفاخ النهار» في الصحاح: انتفخ النهار، أى: علا. (ع)
(2) . قوله «عوامل على الفعل» لعله: عمل الفعل. (ع)(4/758)
وبكر خالدا، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما. جعلت «ما» مصدرية في قوله وَما بَناها وَما طَحاها وَما سَوَّاها وليس بالوجه لقوله فَأَلْهَمَها وما يؤدى إليه من فساد النظم. والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفس، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان ما سخركن لنا. فإن قلت: لم نكرت النفس؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يريد نفسا خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم، كأنه قال: وواحدة من النفوس. والثاني: أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ. ومعنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامهما وإعقالهما، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما «1» بدليل قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فجعله فاعل التزكية «2»
__________
(1) . قال محمود: «معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه ... الخ» قال أحمد: بين في هذا الكلام نوعين من الباطل، أحدهما في قوله: معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح، والذي يكنه في هذه الكلمات اعتقاد أن الحسن والقبح مدركان بالعقل. ألا ترى إلى قوله: إعقالهما، أى خلق العقل الموصل إلى معرفة حسن الحسن وقبح القبيح، وإنما اغتنم في هذا فرصة إشعار الإلهام بذلك، فانه ربما يظن أن إطلاقه على العلم المستفاد من السمع بعيد، والذي يقطع دابر هذه النزغة أنا وإن قلنا إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية التي ليست عندنا بصفات الأفعال، فانا لا نلغى حظ العقل من إدراك الأحكام الشرعية، بل لا بد في علم كل حكم شرعي من المقدمتين: عقلية، وهي الموصلة إلى العقيدة. وسمعية مفرعة عليها، وهي الدالة على خصوص الحكم. على أن تعلقه بظاهر لو سلم ظهوره في قاعدة قطعية بمعزل عن الصواب. النزغة الثانية: وهي التي كشف القناع في إبرازها أن التزكية وقسيمها ليس مخلوقين لله تعالى، بل لشركائه المعتزلة، وإنما نعارضه في الظاهر من فحوى الآية، على أنه لم يذكر وجها في الرد على من قال: إن الضمير لله تعالى، وإنما اقتصر على الدعوى مقرونة بسفاهته على أهل السنة، فنقول: لا مراء في احتمال عود الضمير إلى الله تعالى وإلى ذى النفس، لكن عوده إلى الله تعالى أولى لوجهين، أحدهما: أن الجمل سيقت سياقة واحدة من قوله وَالسَّماءِ وَما بَناها وهلم جرا، والضمائر فيما تقدم هذين الفعلين عائدة إلى الله تعالى بالاتفاق، ولم يجر لغير الله تعالى ذكر. وإن قيل بعود الضمير إلى غيره: فإنما يتمحل لجوازه بدلالة الكلام ضمنا واستلزاما، لا ذكرا ونطقا، وما جرى ذكره أولى أن يعود الضمير عليه. الثاني: أن الفعل المستعمل في الآية التي استدل بها في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى «تفعل» ، ولا شك أن «تفعل» مطاوع «فعل» فهذا بأن يدل لنا، أولى من أن يدل له، لأن الكلام عندنا نحن: قد أفلح من زكاه الله فتزكى، وعنده الفاعل في الاثنين واحد، أضاف إليه الفعلين المختلفين، ويحتاج في تصحيح الكلام إلى تعديد اعتبار وجهه، ونحن عنه في غنية، على أنا لا نأبى أن تضاف التزكية والتدسية إلى العبد، على طريقة أنه الفاعل، كما يضاف إليه الصلاة والصيام وغير ذلك من أفعال الطاعات، لأن له عندنا اختيارا وقدرة مقارنة، وإن منعنا البرهان العقلي الدال على وحدانية الله تعالى ونفى الشريك أن نجعل قدرة العبد مؤثرة خالقة، فهذا جوابنا على الآية تنزلا، وإلا فلم يذكر وجها من الرد، فيلزمنا الجواب عنه، وأما جوابنا عن سفاهته على أهل السنة، فالسكوت، والله الموفق. [.....]
(2) . قوله «فجعله فاعل التزكية» مبنى على مذهب المعتزلة: من أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. وذهب أهل السنة إلى أن الفاعل لها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)(4/759)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
والتدسية ومتوليهما والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى. والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور. وأصل دسى: دسس، كما قيل في تقضض: تقضى. وسئل ابن عباس عنه فقال: أتقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكى ودسى لله تعالى، وأنّ تأنيث الراجع إلى من، لأنه في معنى النفس: فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون «1» على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه. فإن قلت: فأين جواب القسم؟ قلت: هو محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله عليهم، أى: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا. وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فكلام تابع لقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
الباء في بِطَغْواها مثلها في: كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان: فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا:
امرأة خزيي وصديى، يعنى: فعلت التكذيب بطغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على الله. وقيل:
كذبت بما أوعدت به من عذابها ذى الطغوىّ كقوله، فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وقرأ الحسن:
بطغواها، بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر إِذِ انْبَعَثَ منصوب بكذبت. أو بالطغوى. وأَشْقاها قدار بن سالف. ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال: أشقوها، كما تقول: أفاضلهم. والضمير في لَهُمْ يجوز أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة، لأنّ من تولى الفقر وباشره كانت شقاوته أظهر وأبلغ. وناقَةَ اللَّهِ نصب على التحذير، كقولك الأسد الأسد، والصبى الصبى، بإضمار: ذروا أو احذروا عقرها وَسُقْياها فلا تزووها عنها، ولا
__________
(1) . قوله «الذين يوركون على الله قدرا» في الصحاح: ورك فلان ذنبه على غيره، إذا قرفه به اه، أى:
اتهمه. ومراده بالقدرية: أهل السنة، حيث قالوا: كل ما وقع في الكون هو بقضائه تعالى وقدره خيرا كان أو شرا، ويخلقه تعالى وإرادته، قبيحا كان أو حسنا، من أفعال العباد أو من غيرها، كما تقرر في التوحيد. (ع)(4/760)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
تستأثروا بها عليها فَكَذَّبُوهُ فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ فأطلق عليهم العذاب، وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة: إذا ألبسها الشجم بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم. وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب، فعلى كل مذنب أن يعتبر ويحذر فَسَوَّاها الضمير للدمدمة، أى: فسوّاها ببنهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم وَلا يَخافُ عُقْباها أى عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى: فسواها بالأرض. أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها. وفي مصاحف أهل المدينة والشأم: فلا يخاف. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ولم يخف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الشمس، فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» «1» .
سورة الليل
مكية، وآياتها 21 «نزلت بعد الأعلى» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
المغشى: إما الشمس من قوله وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وإما النهار من قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله إِذا وَقَبَ. تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل.
أو تبين وتكشف بطلوع الشمس وَما خَلَقَ والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد. وقبل: هما آدم عليه السلام وحواء. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: والذكر والأنثى. وقرأ ابن مسعود: والذي خلق الذكر والأنثى.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/761)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
وعن الكسائي: وما خلق الذكر والأنثى بالجر على أنه بدل من محل ما خَلَقَ بمعنى: وما خلقه الله، أى: ومخلوق الله الذكر والأنثى. وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم لانفراده بالخلق. إذ لا خالق سواه. وقيل: إنّ الله لم يخلق خلقا من ذوى الأرواح ليس بذكر ولا أنثى. والخنثى، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل، معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرا ولا أنثى، ولقد لقى خنثى مشكلا: كان حانثا، لأنه في الحقيقة إمّا ذكرا أو أنثى، وإن كان مشكلا عندنا لَشَتَّى جمع شتيت، أى: إنّ مساعيكم أشتات مختلفة، وبيان اختلافها فيما فصل على أثره.
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 7]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)
أَعْطى يعنى حقوق ماله وَاتَّقى الله فلم يعصه وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى بالخصلة الحسنى:
وهي الإيمان. أو بالملة الحسنى: وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى: وهي الجنة فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيؤه لها من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومنه قوله عليه السلام:
«كل ميسر لما خلق «1» له» والمعنى: فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها «2» ، من قوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
[سورة الليل (92) : الآيات 8 الى 11]
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
وَاسْتَغْنى وزهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة، لأنه في مقابلة وَاتَّقى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فسنخذله ونمنعه الألطاف، حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه، من قوله يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أو سمى طريقة الخير باليسرى، لأنّ عاقبتها اليسر، وطريقة الشر العسرى، لأن عاقبتها العسر. أو أراد بهما طريقى الجنة والنار، أى: فسنهديهما في الآخرة للطريقين. وقيل: نزلتا في أبى بكر رضى الله عنه، وفي أبى سفيان بن حرب وَما يُغْنِي عَنْهُ
استفهام في معنى الإنكار، أو نفى تَرَدَّى تفعل من الردى وهو الهلاك، يريد: الموت. أو تردّى في الحفرة إذا قبر.
أو تردى في قعر جهنم.
__________
(1) . متفق عليه من حديث عمران بن حصين، ومن حديث على رضى الله عنه.
(2) . قال محمود: «التيسير لليسرى خلق الألطاف ... الخ» قال أحمد: ألا يطيل لسانه هاهنا على أهل السنة ولكن قصره الحق فتراه يؤول الكلام بل يعطله، لأنه يحمله مالا يحتمله، وعلى كلامه في أمثالها روعة السارق الخائف.(4/762)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 13]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل «1» وبيان الشرائع وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أى ثواب الدّارين للمهتدى، كقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
[سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 21]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
وقرأ أبو الزبير: تتلظى. فإن قلت: كيف قال لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى...... وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى وقد علم أن كل شقىّ يصلاها «2» ، وكل تقىّ يجنبها، لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة
__________
(1) . قوله «له واجب علينا بنصب الدلائل» وجوب شيء على الله تعالى: مذهب المعتزلة. ولا يجب عليه شيء عند أهل السنة، ولكن شأن الكريم تأكيد الوعد. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: كيف قال لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى، وقد علم أن كل شقى يصلاها ... الخ» قال أحمد: لا شك أن السائل بنى سؤاله على التمسك بمفهوم الآية لورودها بصيغة التخصيص، فحاصل جواب الزمخشري أن التخصيص هاهنا لفائدة أخرى غير النفي عما عدا المخصص، وتلك الفائدة المقابلة، وحيث تمحض لك السؤال والجواب، فهو يلاحظ نظر الشافعي رحمه الله في قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ فانه لم يقل بمفهوم حصرها، وحملها على أن الحصر لفائدة المقابلة بالرد لأحكام الجاهلية، لا لنفى ما عدا المحصور.
على أن الزمخشري إنما ضيق عليه الخناق في هذه الآية حتى التزم ورود السؤال المذكور، التفاته إلى قاعدته الفاسدة وحذره أن تنقض، ويأبى الله إلا نقضها ورفضها، وإذا نزلت الآية على قواعد أهل السنة وضع لك ما قلته، فنقول: المصلى في اللغة أن يحفروا حفيرا فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو على التنور فليس بمصلى، وهذا التفسير بعينه نص عليه الزمخشري ونقطة عن أهل اللغة في سورة الغاشية أيضا، وأنا وقفت عليه في كتبهم، فإذا عرفت معنى التصلية لغة وأنها أشد أنواع الإحراق بالنار، وفي علمك أن الناس عند أهل السنة ثلاثة أصناف: مؤمن صالح فائز، ومؤمن عاص، وكافر، وأن المؤمن الفائز يمر على النار فيطفئ نوره لهبها ولا يؤلم بمسها البتة، وإنما يردها تحلة القسم، والعاصي إن شاء الله تعذيبه ومجازاته فإنما يعذب على وجه النار في الطبقة الأولى باتفاق، حتى أن منهم من تبلغ النار إلى كعبه: وأشدهم من تبلغ النار إلى موضع سجوده فيحسه، ولا يعذب أحد من المؤمنين بين أطباقها ألبتة بوعد الله تعالى، والكافر هو المعذب بين أطباقها: تبين لك أن النار لا يصلاها أى يعذب بين أطباقها- كما علمت تفسيره في اللغة- إلا الكافر:
وهو الأشقى، لأن المؤمن العاصي لا يبلغ مبلغه في الشقاء، وأن المؤمن الفائز وهو الأتقى بالنسبة إلى المؤمن العاصي بجنب النار بالكلية، لأن وروده تحلة القسم لا يصل إليه مسها ولا ألمها، وأن المؤمن العاصي الذي ليس بالأتقى ولا بالأشقى لا يصلاها ولا يجنبها بالكلية، لأن وروده تحلة القسم بل يعذب فيها لا بالصلى، فهذا أحسن ما حملت الآية عليه، لكن إنما ينزل على جادة السنة. وأما الزمخشري فينحرف عنها، فلا جرم أنه في عهدة الجواب يفكر ويقدر. والله أعلم.(4/763)
أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فقد علم أن أفسق المسلمين «1» يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضى الله عنه يَتَزَكَّى من الزكاء. أى: يطلب أن يكون عند الله زاكيا، لا يريد به رياء ولا سمعة. أو يتفعل من الزكاة. فإن قلت: ما محل يتزكى؟ قلت: هو على وجهين: إن جعلته بدلا من يُؤْتِي فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها وإن جعلته حالا من الضمير في يُؤْتِي فمحله النصب ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أى: ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا وقرأ يحيى بن وثاب، إلا ابتغاء وجه ربه بالرفع: على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حمار وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبى حازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظّلمان تختلف «2»
وقول القائل:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «3»
__________
(1) . قوله «فقد علم أن أفسق المسلمين» لعله: وقد. (ع)
(2) .
أضحت خلايا قفارا لا أنيس بها ... إلا الجاذر والظلمان تختلف
رقفت فيها قلوصي كى تجاوبنى ... أو بخبر الرسم عنهم أية انصرفوا
لبشر بن أبى خازم. وخلايا: جمع خلية أى خالية، والجآذر والظلمان. استثناء منقطع، لأنها لا تدخل في الأنيس. ورويا بالنصب على الاستثناء، وبالرفع على الابدال من الضمير المستكن في الخير، كما هو لغة عند تميم. والجآذر: أولاد بقر الوحش. وروى: الجوازئ، رهى الظباء التي اجتزأت بأكل الربيع عن شرب الماء. والظلمان: أولاد النعام.
أو النعام نفسه. والقلوص. الفتية من الإبل المكتنزة اللحم، والضمير فيها عائد للديار. وضمير «تجاوبنى» لها أيضا. والرسم: آثار الديار. وأية: اسم استفهام منصوب بما بعده على الظرفية، لقطعه عن الاضافة، أى:
صرفهم عزمهم ونيتهم. وشبه الرسم بعاقل على طريق المكنية فأسند له الاخبار تخييلا، وكذلك الدار ومجاوبتها.
(3) .
قد ندع المنزل يا لميس ... يعيش فيه السبع الجروس
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
لعامر بن الحرث المشهور بجران العود. ولميس: امرأة. والجروس: كثير الصوت، وبلدة- بالجر برب المقدرة بعد الواو، أى: قد نترك المنزل خاليا من أهله بقتلنا إياهم، أو لارتحالنا عنهم. واليعافير- بالرفع-: بدل من أنيس على لغة تميم في الاستثناء المنقطع بعد النفي، وإلا الثانية توكيد للأولى. واليعافير- جمع يعفور-: دابة قدر السخلة على لون الرماد. وقيل: غزال كذلك. وقيل: ولد البقرة الوحشية. والعيس: البيض من الظباء أو الإبل:
جمع أعيس أو عيساء. والعيساء أيضا: أنثى الجراد، يخالط بياضها شقرة.(4/764)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
ويجوز أن يكون ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مفعولا له على المعنى، لأنّ معنى الكلام: لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة وَلَسَوْفَ يَرْضى موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والليل، أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسر له اليسر» «1» .
سورة الضحى
مكية، وآياتها 11 «نزلت بعد الفجر» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
المراد بالضحى: وقت الضحى، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقى شعاعها. وقيل:
إنما خص وقت الضحى بالقسم، لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام، وألقى فيها السحرة سجدا، لقوله وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وقيل: أريد بالضحى: النهار، بيانه قوله أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في مقابلة بَياتاً. سَجى سكن وركد ظلامه. وقيل: ليلة ساجية ساكنة الريح. وقيل معناه: سكون الناس والأصوات فيه. وسجا البحر: سكنت أمواجه.
وطرف ساج: ساكن فاتر ما وَدَّعَكَ جواب القسم. ومعناه: ما قطعك قطع المودع.
وقرئ بالتخفيف، يعنى: ما تركك. قال:
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/765)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقّفة السّمر «1»
والتوديع: مبالغة في الودع، لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. روى أنّ الوحى قد تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما. فقال المشركون: إنّ محمدا ودعه ربه وقلاه «2» .
وقيل: إنّ أم جميل امرأة أبى لهب قالت له: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك «3» ، فنزلت.
حذف الضمير من قَلى كحذفه من الذَّاكِراتِ في قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ يريد: والذاكراته ونحوه: فَآوى ... فَهَدى ... فَأَغْنى وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف.
[سورة الضحى (93) : الآيات 4 الى 5]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
فإن قلت: كيف اتصل قوله وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى بما قبله؟ قلت: لما كان في ضمن نفى التوديع والقلى: أنّ الله مواصلك بالوحي إليك «4» ، وأنك حبيب الله ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجل منه: أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الفلج والظفر «5» بأعدائه يوم بدر ويوم فتح
__________
(1) . ثم إشارة لمكان الحرب أو زمانها، واختلف في «دع» بمعنى اترك، هل ينصرف فيأتى منه الماضي والمصدر، واسم الفاعل والمفعول. قال الجوهري: أميت ماضيه وغيره، وربما جاء في الضرورة اه، وهو المشهور، ولكن حيث جاء في القرآن ما وَدَّعَكَ بالتخفيف. وفي الحديث «لينتهين قوم عن ودعهم الجماعات» أى تركهم.
وجاء اسم المفعول وغيره في الشعر، فيجوز القول بقلة الاستعمال لا بالاماتة، كما قاله بعض المتقدمين. والفرائس:
مفعول ثان، وهو جمع فريسة: وهي صيد الأسد المفترس. والمثقفة: المقومة بالثقاف، وهو آلة تقويم الرماح.
والسمرة: لون بين البياض والأدمة. وشبه الرماح بالأسود على طريق المكنية، والفرائس تخييل، والأقرب تشبيه آل عمر وآل عامر بالفرائس تشبيها بليغا لذكر الأطراف، إلا أن يقال: إنها تجريد للمكنية، لأنها تلائم الرماح.
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية العوفى عن ابن عباس في قوله ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى قال أبطأ عليه جبريل- الحديث» .
(3) . متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله البجلي بلفظ «فجاءت امرأة فقالت يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك. فأنزل الله وَالضُّحى وفي المستدرك من حديث زيد بن أرقم «أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث أياما لا ينزل عليه. فأتته امرأة أبى لهب فقالت: يا محمد- فذكره نحوه. [.....]
(4) . قال محمود: «إن قلت: كيف اتصل بما قبله؟ وأجاب بأنه لما كان في ضمن التوديع وأقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ... الخ» قال أحمد: وإخراج أهل الكبائر من النار بشفاعته مضاف إلى ذلك.
(5) . قوله «من الفلج والظفر» الفلج: أى الظهور والفوز والقهر، كما بقيده الصحاح. (ع)(4/766)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام «1» ، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين، ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله. قال ابن عباس رضى الله عنهما: له في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف. تقديره: ولأنت سوف يعطيك، كما ذكرنا في:
لا أقسم، أن المعنى: لأنا أقسم، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم أو ابتداء، فلام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد، فبقى أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدإ والخبر، فلا بد من تقدير مبتدإ وخبر، وأن يكون أصله:
ولأنت سوف يعطيك. فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفى التوكيد والتأخير؟ قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر، لما في التأخير من المصلحة.
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
عدّد عليه نعمه وأياديه، وأنه لم يخله متها من أول تربيه وابتداء نشئه، ترشيحا لما أراد به، ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه، لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير والكرامة:
ولا يضيق صدره ولا يقل صبره. وأَ لَمْ يَجِدْكَ من الوجود الذي بمعنى العلم: والمنصوبان مفعولا وجد. والمعنى: ألم تكن يتيما، وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمّه، وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته» .
ومن بدع التفاسير: أنه من قولهم «درّة يتيمة» وأن المعنى: ألم يجدك واحدا في قريش عديم
__________
(1) . قوله «وتهيب الإسلام» أى: تخوف، كما في الصحاح، أى: تخوف الناس من أهل الإسلام. (ع)
(2) . لم أجد هذا. وقال السهيلي في الروض: أكثر العلماء على أنه عليه الصلاة والسلام توفى أبوه وهو في المهد، كما ذكره الدولابى وغيره. وقال ابن سعد: لا يثبت أنه مات أبوه وهو حمل. ورواه الحاكم من طريق ابن إسحاق: حدثني مطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده أنه ذكر ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال «توفى أبوه وأمه حلى به» وبذلك جزم ابن إسحاق. وأما سنه عند ما ماتت أمه. فجزم ابن إسحاق أنها ماتت وهو ابن ست سنين. وقال ابن حبيب: وهو ابن ثمان سنين. وأما كفالة عمه له فذكرها ابن إسحاق وغيره.(4/767)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
النظير فآواك. وقرئ: فأوى، وهو على معنيين: إما من أواه بمعنى آواه. سمع بعض الرعاة يقول:
أين آوى هذه الموقسة «1» وإما من أوى له: إذا رحمه ضَالًّا معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع، كقوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ. وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، فهداك: فعرفك القرآن والشرائع. أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك. ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلوهم عن العلوم السعية، لنعم، وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم، فمعاذ الله، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وكفى بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر عائِلًا فقيرا. وقرئ: عيلا، كما قرئ: سيحات. وعديما فَأَغْنى فأغناك بمال خديجة. أو بما أفاء عليك من الغنائم. قال عليه السلام: «جعل رزقي تحت ظل رمحي «2» » وقيل: قنعك وأغنى قلبك.
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه. وفي قراءة ابن مسعود: فلا تكبر: وهو أن يعبس في وجهه. وفلان ذو كهرورة: عابس الوجه. ومنه الحديث: فبأبى وأمى هو، ما كهرنى «3» .
النهر، والنهم: الزجر. عن النبي صلى الله عليه وسلم «4» «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع،
__________
(1) . قوله «يقول أين آوى هذه الموقسة» الموقسة: الإبل الجربي، من الوقس: وهو ابتداء الجرب اه من هامش، والذي في الصحاح: يقال وقسه وقسا، أى: قرفه، وإن بالبعير لوقسا: إذا قارفه شيء من الجرب، فهو موقوس. (ع)
(2) . هذا طرف من حديث. وأخرجه البخاري تعليقا وأحمد وأبو داود وابن أبى شيبة وعبد بن حميد. وأبو يعلى والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث. عبد الله بن عمر. وفي النسائي عن أبى هريرة أخرجه البزار من رواية صدقة ابن عبد الله عن الأوزاعى عن يحيى عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقال: لم يتابع صدقة على هذا. وغيره يرويه عن الأوزاعى مرسلا. وله طريق أخرى في ترجمة أحمد بن محمود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم بسنده إلى أنس.
وإسناده ساتط.
(3) . أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى في أثناء حديث.
(4) . أخرجه الدارقطني في الافراد من رواية الوليد بن الفضل عن عبد الله بن أبى حسين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به لكن قال «تزبره- بدل- وتنهره» والوليد اتهمه ابن حبان بالوضع لكن تابعه طلحة ابن عمرو عن عطاء أخرجه الثعلبي من طريق عقبة بن مجالد عن حبان بن على عن طلحة وهذا إسناد ضعيف.
وأخرجه ابن مردويه من رواية أحمد بن أبى طيبة عن حيان فقال: عن أبى هريرة- بدل ابن عباس. وله طريق أخرى. أخرجها عبد الغنى بن سعيد في إيضاح الاشكال من رواية وهب بن زمعة عن هشام بن وهب أبى البختري القاضي. وهو كذاب.(4/768)
فلا عليك أن تزبره» «1» وقيل: أما إنه ليس بالسائل المستجدي، ولكن طالب العلم: إذا جاء فلا تنهره. التحديث بنعمة الله: شكرها وإشاعتها. يريد: ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك. وعن مجاهد: بالقرآن، فحدث: أقرئه، وبلغ ما أرسلت به.
وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول: رزقني الله البارحة خيرا: قرأت كذا وصليت كذا، فإذا قيل له: يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا؟ قال: يقول الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وأنتم تقولون: لا تحدث بنعمة الله. وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف، وأن يقتدى به غيره، وأمن على نفسه الفتنة. والستر أفضل. ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة: لكفى به. وفي قراءة على رضى الله عنه: فخبر. والمعنى: أنك كنت يتيما، وضالا، وعائلا، فآواك الله، وهداك: وأغناك، فمهما يكن من شيء وعلى ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث. واقتد بالله، فتعطف على اليتيم وآوه، فقد ذقت اليتم وهو انه، ورأيت كيف فعل الله بك، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر، وحدّث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايته الضلال، وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتديا بالله في أن هداه من الضلال.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» «2» .
__________
(1) . قوله «فلا عليك أن تزبره» تزبره: أى تزجره وتمنعه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/769)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
سورة الشرح
مكية، وآياتها 8 «نزلت بعد الضحى» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل:
شرحنا لك صدرك، ولذلك عطف عليه: وضعنا: اعتبارا للمعنى. ومعنى: شرحنا صدرك:
فسحناه حتى وسع عموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعا. أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض «1» لك بها كفار قومك وغيرهم: أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وعن الحسن: مليء حكمة وعلما. وعن أبى جعفر المنصور أنه قرأ: ألم نشرح لك، بفتح الحاء. وقالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها، والوزر الذي أنقض ظهره- أى حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله- مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمه من فرطاته قبل النبوّة. أو من جهله بالأحكام والشرائع. أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه: أن غفر له، أو علم الشرائع، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ. وقرأ أنس:
وحللنا، وحططنا. وقرأ ابن مسعود: وحللنا عنك وقرك. ورفع ذكره: أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وفي تسميته رسول الله ونبى الله، ومنه ذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. فإن قلت: أى فائدة في زيادة لك، والمعنى مستقل بدونه «2» ؟ قلت: في زيادة لك ما في طريقة
__________
(1) . قوله «المكاره التي يتعرض لك» لعله تعرض بصيغة الماضي. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت ما قائدة لك مع أن الاضافة تغنى عنها ... الخ» ؟ قال أحمد: وقد تقدم عند الكلام على نظيرها في قوله: «قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمرى» قريب من هذا المعنى، والله أعلم.(4/770)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
الإبهام والإيضاح، كأنه قيل: ألم نشرح لك، ففهم أن ثم مشروحا، ثم قيل: صدرك، فأوضح ما علم مبهما، وكذلك لَكَ ذِكْرَكَ وعَنْكَ وِزْرَكَ.
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 6]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
فإن قلت: كيف تعلق قوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً بما قبله؟ قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه قال: خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا. فإن قلت: إِنَّ مَعَ للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت:
أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية وتقوية القلوب. فإن قلت: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين «1» وقد روى مرفوعا أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول «لن يغلب عسر يسرين» «2» ؟ قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوّة الرجاء، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك:
إن مع زيد مالا، إن مع زيد مالا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني متأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأوّل بغير إشكال. فإن قلت: فما المراد باليسرين؟ قلت: يجوز أن يراد بهما
__________
(1) . حديث ابن عباس: لم أجده. قلت: ذكره الفراء عن الكلبي عن ابن صالح عنه.
(2) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلا. ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب. ورواه الطبري من طريق أبى ثور عن معمر. وله طريق أخرى أخرجها ابن مردويه من رواية عطية عن جابر موصولا. وإسناده ضعيف. وفي الباب عن عمر رضى الله عنه ذكره مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن عمر بن الخطاب بلغه أن أبا عبيدة حضر بالشام فذكر القصة. وقال في الكتاب إليه: ولن يغلب عسر يسرين» ومن طريقه رواه الحاكم. وهذا أصح طرقه. [.....](4/771)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء «1» ، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة، كقوله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب. فإن قلت فما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيم، كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأىّ يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة. فإن قلت: فإذا ثبت في قراءته غير مكرر، فلم قال: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين «2» ؟ قلت: كأنه قصد باليسرين: ما في قوله يُسْراً من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدارين، وذلك يسران في الحقيقة.
[سورة الشرح (94) : الآيات 7 الى 8]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فإن قلت: فكيف تعلق قوله فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ بما قبله؟ قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتا من أوقاته منها. فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى. وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء. وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة. وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الشعبي: أنه رأى رجلا يشيل حجرا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، وقعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه: من سفه الرأى وسخافة العقل واستيلاء الغفلة، ولقد قال عمر رضى الله عنه: إنى لأكره أن أرى أحدكم فارغا سهلا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة «3» . وقرأ أبو السمال: فرغت- بكسر الراء- وليست بفصيحة. ومن البدع: ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصب بكسر الصاد، أى فانصب عليا للإمامة، ولو صح هذا للرافضى لصح الناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرا بالنصب «4» الذي هو بغض علىّ وعداوته وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ واجعل رغبتك إليه خصوصا، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه. وقرئ: فرغب أى: رغب الناس إلى طلب ما عنده.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألم نشرح، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عنى» «5»
__________
(1) . قوله «وما تيسر لهم في أيام الخلفاء» لعله: وما يتيسر، بصيغة المضارع. (ع)
(2) . حديث ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ميمون أبى حمزة عن ابراهيم عن ابن مسعود قال: «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يستخرجه: لن يغلب عسر يسرين» .
(3) . لم أجده، وقد روى أحمد وابن المبارك والبيهقي كلهم في الزهد وابن أبى شيبة من طريق المسيب بن رافع قال قال عبد الله بن مسعود «إنى لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة» .
(4) . قوله «بالنصب» في الصحاح: نصبت لفلان نصبا: إذا عاديته. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب. ورواه سليم الزهري في البر عنه مرسلا.(4/772)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التين
مكية، وآياتها 8 [نزلت بعد البروج] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة، وروى أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها. فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» «1» ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة «2» » وسمعته يقول «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي» وعن ابن عباس رضى الله عنه: هو تينكم هذا وزيتونكم. وقيل: جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية: طور تينا وطور زيتا، لأنهما منبتا التين والزيتون. وقيل «التين» جبال ما بين حلوان وهمدان. و «الزيتون» جبال الشام، لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وأضيف الطور: وهو الجبل، إلى سينين: وهي البقعة. ونحو سينون: يبرون، في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب. وللبلد: مكة حماها الله. والأمين: من أمن الرجل أمانة فهو أمين. وقيل: أمان، كما قيل: كرام في كريم. وأمانته: أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، من أمنه لأنه مأمون الغوائل،
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في الطب. والثعلبي من حديث أبى ذر. وفي إسناده من لا يعرف.
(2) . أخرجه الطبراني في الأوسط والثعلبي من حديث معاذ بن جبل، وإسناده واه.(4/773)
كما وصف بالأمن في قوله تعالى حَرَماً آمِناً بمعنى: ذى أمن. ومعى القسم بهذه الأشياء.
الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه. والطور: المكان الذي نودي منه موسى. ومكة: مكان البيت الذي هو هدى للعالمين، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه. ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية: أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا، يعنى: أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل: حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن «1» جلده وكان بضا، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه: فمشيه دليف «2» ، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف «3» وقرأ عبد الله:
أسفل السافلين. فإن قلت: فكيف الاستثناء على المذهبين؟ قلت: هو على الأول متصل ظاهر الاتصال، وعلى الثاني منقطع. يعنى: ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم. فإن قلت: فَما يُكَذِّبُكَ من المخاطب به؟ قلت: هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات، أى: فما يجعلك كاذبا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل، يعنى أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب، فأىّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء. والباء مثلها في قوله تعالى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ والمعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر: لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله: لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هم
__________
(1) . قوله «وتشنن جلده» في الصحاح التشنن: التشيخ واليبس في جلد الإنسان، والضاضة: رقة الجلد ورخوصته. (ع)
(2) . قوله «فمشبه دليف» أى مشى رويد متقارب الخطو. (ع)
(3) . قوله «وشهامته خوف» لعله: خوف. (ع)(4/774)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
أهله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها قال: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» «1» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والتين أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» «2» .
سورة العلق
مكية، وآياتها 19 [وهي أول ما نزل من القرآن] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
عن ابن عباس ومجاهد: هي أول سورة نزلت «وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم. محل بِاسْمِ رَبِّكَ النصب على الحال، أى: اقرأ مفتتحا باسم ربك قل بسم الله، ثم اقرأ. فإن قلت: كيف قال خَلَقَ فلم يذكر له مفعولا، ثم قال خَلَقَ الْإِنْسانَ؟
قلت: هو على وجهين: إما أن لا يقدر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه. وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق، لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض. ويجوز أن يراد: الذي خلق الإنسان، كما قال الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ فقيل: الَّذِي خَلَقَ مبهما، ثم فسره بقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ تفخيما لخلق الإنسان. ودلالة على عجيب فطرته. فإن قلت: لم قال مِنْ عَلَقٍ على الجمع، وإنما خلق من علقة، كقوله مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ؟ قلت: لأن
__________
(1) . أخرجه الحاكم عن أبى هريرة بالإسناد المتقدم في القيامة ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال:
ذكر لنا- فذكره.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.(4/775)
الإنسان في معنى الجمع، كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. الْأَكْرَمُ الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، حيث قال: الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم:
ورواقم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطا نيّالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجدّ مسيرها ... إلّا إذا لعبت بها بيض المدى «1»
__________
(1) . للزمخشري رحمه الله تعالى في صفة الأقلام، وكان حقه أن يذكر في حرف الدال، لأن حروف الإطلاق وهي الألف والواو والياء الساكنات غير معتبرة في هذه الأبواب، وإنما أخرناه ليكون جزاء للأقلام على عملها كما أن الأجير يوفى أجره بعد تمام عمله. والرواقم: جمع راقمة صفة للأقلام، وهو مجرور برب المقدرة. وخبره قوله: كمثل أراقم. أو قطف الخطى، والأظهر أن الخبر قوله: ما يجد مسيرها. وإسناد الرقم إليها مجاز عقلى، لأنها آلته. والرقش: جمع أرقش. أو رقشاء: الحية المنقوشة الظهر. والأراقم- جمع أرقم الشعبان الذي فيه سواد وبياض. والقطف: جمع أقطف: وهو الذي يقارب بين خطاه. والخطى: جمع خطوة بالضم. والمدى، بالفتح: يطلق على المسافة وعلى غايتها. والسود: جمع أسود أو سوداء. والقوائم: الأرجل. والجد بمعنى الاجتهاد أو ضد الهزل. والبيض: جمع بيضاء. والمدى، بالضم: جمع مدية، وهي الشفرة، ثم إنه شبه انتقاش الأقلام بانتقاش الحيات، فاستعار له الرقش على سبيل الاستعارة التصريحية، وشبهها بالأراقم بجامع التلون والامتداد يمينا وشمالا وانشقاق لسان كل شعبتين وإلقائه اللعاب، فالجامع مركب حسى. وقيل: إنه من قبيل تشبيه المركب المحسوس بالمركب المحسوس بجامع الهيئات التي تقع عليها الحركة. وكرر أداة التشبيه التوكيد، ثم شبهها بالدواب السائرة على طريق المكنية، بجامع التلون والتردد، والذهاب والإياب، والتوصل بكل إلى المراد، وإثبات القطف والخطو والقوائم: تخييل. وقيل: يجوز أن هذا من قبيل تشبيه المركب بالمركب أيضا، وهي وإن كان سيرها قليلا: تبلغ صاحبها مراده، وإن كان بعيدا فنسبة النيل إليها مجاز عقلى، لأنها آلته. وشبه المراد المعقول بالمقصد المحسوس، وهو آخر المسافة بجامع الاحتياج في إدراك كل إلى أسباب، فأقصى المدى: استعارة تصريحية: وهي ترشيح لتلك المكفية، وقوائم الأقلام: ما دق وطال من أطرافها، وهي سود دائما، وإثبات الجد للمسير مبالغة كجد جده. وشبه المدى بما يصح منه اللعب على سبيل المكنية، وإثبات اللعب تخييل هذا بيانه. وفيه من البديع بين الرواقم والأراقم شبه الاشتقاق، وبين «قطف الخطى» «ونيالة أقصى المدى» شبه التضاد، وبين السود والبيض، وبين الجد واللعب: طباق التضاد، وبين المسير ولعب المدى: شبه التضاد بحسب الظاهر، لأن المدى تبطل سير الحيوان إذا لعبت بقوائمه، لكنه مناسب للأقلام. وبين المدى والمدى: الجناس المحرق، وهذا مما يدل على أن المصنف رحمه الله وعمه برضاه: كان من مفلقى سحرة البيان، الحائزين قصيات السبقى في هذا الميدان.(4/776)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وقرأ ابن الزبير: علم الخط بالقلم.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
كَلَّا ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه أَنْ رَآهُ أن رأى نفسه. يقال في أفعال القلوب: رأيتنى وعلمتني، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. واسْتَغْنى هو المفعول الثاني إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان، تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان. والرجعى: مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع. وقيل: نزلت في أبى جهل، وكذلك أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى وروى أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاة إبقاء عليهم «1» . وروى عنه لعنه الله أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فو الذي يحلف به، لئن رأيته توطأت عنقه، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة، فنزلت أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ومعناه: أخبرنى عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله. أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما بأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح، كما نقول نحن أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى
__________
(1) . لم أجده. قلت: وآخره تقدم في الاسراء بغير هذا السياق. [.....](4/777)
ويطلع على أحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد. فإن قلت:
ما متعلق أرأيت؟ قلت: الذي ينهى مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت:
فأين جواب الشرط؟ قلت: هو محذوف، تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن الله يرى. وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت: فكيف صح أن يكون أَلَمْ يَعْلَمْ جوابا للشرط؟ قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول أرأيت؟
قلت: هي زائدة مكرّرة للتوكيد. وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة كَلَّا ردع لأبى جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات، ثم قال لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما هو فيه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار.
والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب:
قوم إذا يقع الصّريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع «1»
وقرئ: لنسفعنّ، بالنون المشدّدة. وقرأ ابن مسعود، لأسفعا. وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، ولما علم أنها ناصية المذكور: اكتفى بلام العهد عن الإضافة ناصِيَةٍ بدل من الناصية، وجاز بدلها عن المعرفة، وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. وقرئ: ناصية، على: هي ناصية. وناصية بالنصب. وكلاهما على الشتم.
ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازى. وهما في الحقيقة لصاحبها. وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطئ. والنادي: المجلس الذي ينتدى فيه القوم. أى يجتمعون. والمراد: أهل النادي. كما قال جرير:
لهم مجلس صهب السّبال أذلّة «2»
__________
(1) . لحميد بن ثور الهلالي الصحابي، أى: هم قوم إذا نفع الصريخ، أى: ارتفع الصياح للحرب أسرعوا إليها فتراهم دائرين بين ملجم مهره وسافع، أى: قابض بناصية مهره، ويجذبه إليه بسرعة. ومن زائدة، ولو كانت في الإثبات. وأو بمعنى الواو. ويروى: إذا يقع بالياء، أى: يحصل. ويروى: إذا هتف، أى: صاح، فيكون كجد جده. ويجوز أن الصريخ بمعنى الصارخ. ويروى: إذا سمعوا الصريخ فهو مفعول. ويروى: ما بين ملجم.
وهذا مما يؤيد أن «من» في تلك الرواية زائدة.
(2) .
لهم مجلس صهب السبال أذلة ... على من يعاديهم أشداء فاعلم
يقول: لهم مجلس يجتمعون فيه. أو لهم قوم مجتمعون جالسون، ولا ترى ذلك إلا في الرؤساء الأشراف. وصهب للسبال: صفة لمرجع الضمير في لهم على الأول، وصفة لمجلس على الثاني، لأنه بمعنى الجالسين. والصهبة: حمرة ترهق السواد. والصهب: جمع أصهب. والسال: طرف الشارب جانب الفم، وتلك الصهبة من خواص الروم، وهو كناية عن الغلظة والشدة، وأذلة: أى فيما بينهم أشداء على من يعاديهم. وقدم المعمول للحصر، فاعلم ذلك وتيقنه فهو حق. ويروى بدل الشطر الثاني:
سواسية أحرارها وعبيدها
وسواسية كطواعية جمع سواء على غير قياس. وقيل: اسم جمع بمعنى مستوين. يعنى: أنهم مستوون في الشرف وكمال الأخلاق، ولولا مقام المدح لكان من قبيل التوجيه، لاحتماله لوجه الذم أيضا. وأما إن قرئ بالكسر والتشديد، فهو منسوب السواس وهو التمرين على حسن السير، يعنى أن جميعهم رؤساء، ولكن الأول أوجه. ومنه الحديث: «الناس سواسية لا فضل لعربي على عجمى إلا بالتقوى» كما في ترجمة شرح القاموس.(4/778)
وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
والمقامة: المجلس. روى أن أبا جهل من برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدنى وأنا أكثر أهل الوادي ناديا «1» ، فنزلت. وقرأ ابن أبى عبلة: سيدعى الزبانية، على البغاء للمفعول، والزبانية في كلام العرب: الشرط، الواحد: زبنية، كعفرية، من الزبن: وهو الدفع. وقيل: زبنى، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم أمسى، وأصله: زبانى، فقيل. زبانية على التعويض، والمراد: ملائكة العذاب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا «2» » كَلَّا ردع لأبى جهل لا تُطِعْهُ أى اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَاسْجُدْ ودم على سجودك، يريد: الصلاة وَاقْتَرِبْ وتقرّب إلى ربك. وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» «3» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قرأ سورة العلق أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله «4» »
__________
(1) . أخرجه الطبري وابن مردويه بهذا وأتم منه. وهو عند الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والبزار كلهم من رواية أبى خالد الأحمر عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما. قلت:
وأصله في صحيح البخاري.
(2) . أخرجه البخاري والنسائي من رواية معمر عن عبد الكريم الحريري عن عكرمة عن ابن عباس به. وهو الذي قبله من قول ابن عباس رضى الله عنهما.
(3) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «وهو ساجد» .
(4) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.(4/779)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
مكية، وقيل مدنية، وآياتها 5 [نزلت بعد عبس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
عظم القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره:
والثاني. أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. روى أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة. وعن الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها، وأكثر القول أنها السابعة منها، ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة:
طلبا لموافقتها، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها. ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وقيل سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يعنى: ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم بين ذلك بأنها خير من ألف شهر، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها:
من تنزل الملائكة والروح، وفصل كل أمر حكيم، وذكر في تخصيص هذه المدّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بنى إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي «1» . وقيل: إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر، فأعطوا
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم وغيره من طريق ابن خالد عن ابن أبى نجيح عن مجاهد به مرسلا دون قوله «وتقاصرت إليهم أعمالهم» .(4/780)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد تَنَزَّلُ إلى السماء الدنيا، وقيل: إلى الأرض وَالرُّوحُ جبريل. وقيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أى تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. وقرئ: من كل امرئ، أى: من أجل كل إنسان. قيل: لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة سَلامٌ هِيَ ما هي إلا سلامة، أى: لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير، ويقضى في غيرها بلاء وسلامة. أو: ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين. وقرئ: مطلع، بفتح اللام وكسرها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر «1» » .
سورة البينة
مكية، وقيل: مدنية، وآياتها 8 [نزلت بعد الطلاق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.(4/781)
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق: إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار: يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما.
وانفكاك الشيء من الشيء. أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى:
أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة. والْبَيِّنَةُ الحجة الواضحة «1» . ورَسُولٌ بدل من البينة. وفي قراءة عبد الله: رسولا، حالا من البينة صُحُفاً قراطيس مُطَهَّرَةً من الباطل فِيها كُتُبٌ مكتوبات قَيِّمَةٌ مستقيمة ناطقة بالحق والعدل والمراد بتفرقهم:
تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه. أو تفرقهم فرقا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر وقال: ليس به، ومنهم من عرف وعاند. فإن قلت: لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلا ثم أفرد أهل الكتاب في قوله وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ؟ قلت: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف وَما أُمِرُوا يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، ولكنهم حرفوا وبدلوا وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أى دين الملة القيمة. وقرئ: وذلك الدين القيمة، على تأويل الدين بالملة. فإن قلت: ما وجه قوله وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ؟ قلت: معناه: وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة. وقرأ ابن مسعود: إلا أن يعبدوا، بمعنى: بأن يعبدوا. قرأ نافع: البريئة
__________
(1) . قوله «والبينة الحجة الواضحة» في نسخة بدل «والبينة» : القرآن، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ورسول من الله: جبريل صلوات الله عليه، وهو التالي للصحف المطهرة المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بد من مضاف محذوف وهو الوحى. ويجوز أن يراد النبي صلى الله عليه وسلم. فان قلت: كيف نسبة تلاوة الصحف المطهرة إليه وهو أمى؟ قلت: إذا تلا مثل المذكور فيها كان تاليا لها.... (ع)(4/782)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بالهمز، والقرّاء على التخفيف. والنبىّ، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل وقرئ: خيار البرية: جمع خير، كجياد وطياب: في جمع جيد وطيب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقبلا «1» » .
سورة الزلزلة
مدنية وقيل مكية، وآياتها 8 [نزلت بعد النساء] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
زِلْزالَها قرئ بكسر الزاى وفتحها، فالمكسور مصدر، والمفتوح: اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف. فإن قلت: ما معنى زلزالها بالإضافة؟ قلت: معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده. ونحوه قولك: أكرم التقىّ إكرامه، وأهن الفاسق إهانته، تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه. الأثقال: جمع «2» ثقل. وهو متاع البيت، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياء، فيقولون ذلك
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.
(2) . قوله «جمع ثقل وهو متاع» في الصحاح «الثقل» : واحد الأثقال، مثل حمل وأحمال. والثقل- بالتحريك متاع المسافر وحشمه. (ع)(4/783)
لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا. وقيل: هذا قول الكافر، لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. فإن قلت: ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها؟ قلت: هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث بالنسيان، حتى ينظر من يقول مالها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه.
وقيل: ينطقها الله على الحقيقة. وتخبر بما عمل عليها من خير وشر. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها «1» . فإن قلت: إِذا، ويَوْمَئِذٍ: ما ناصبهما؟ قلت:
يَوْمَئِذٍ: بدل من إِذا، وناصبهما تُحَدِّثُ. ويجوز أن ينتصب إِذا بمضمر، ويَوْمَئِذٍ بتحدث. فإن قلت: أين مفعولا تُحَدِّثُ؟ قلت: قد حذف أوّلهما، والثاني أخبارها، وأصله تحدث الخلق أخبارها، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما لليوم. فإن قلت: بم تعلقت الباء في قوله بِأَنَّ رَبَّكَ؟ قلت، بتحدّث، معناه: تحدّث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها: تحديث بأخبارها، كما تقول:
نصحتني كل نصيحة، بأن نصحتني في الدين. ويجوز أن يكون بِأَنَّ رَبَّكَ بدلا من أَخْبارَها كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا. وأَوْحى لَها بمعنى أوحى إليها، وهو مجاز كقوله أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال:
أوحى لها القرار فاستقرّت «2»
وقرأ ابن مسعود: تنبئ أخبارها، وسعيد بن جبير: تنبئ، بالتخفيف. يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف أَشْتاتاً بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار، ليروا جزاء أعمالهم. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: ليروا بالفتح. وقرأ ابن عباس وزيد بن على: يره، بالضم. ويحكى أنّ أعرابيا أخر خَيْراً يَرَهُ فقيل له، قدّمت وأخرت، فقال:
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية ابن أيوب عن يحيى عن أبى سليمان المنقري عن أبى هريرة. وسعيد ثقة. وخالفه رشدين بن سعد وهو ضعيف فقال: عن يحيى بن أبى سليمان عن أبى حازم بالسندين المذكورين عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن مردويه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 75 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/784)
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق «1»
والذرّة: النملة الصغيرة، وقيل «الذرّ» ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. فإن قلت حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوّة باجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشر «2» ؟ قلت: المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا: من فريق السعداء. ومن يعمل مثقال ذرّة شرا: من فريق الأشقياء، لأنه جاء بعد قوله يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ سورة إذا زلزلت أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله» «3» .
__________
(1) . روى أن أعرابيا أخر قوله تعالى خَيْراً يَرَهُ عما بعده، فقيل: قدمت وأخرت، فضرب ذلك البيت مثلا. وهرشى- كسكرى: ثنية في طريق مكة عند الجحفة، أى: اسلكا أما تلك الثنية أو خلفها، فانه أى:
الحال والشأن كل من جانبيها طريق للإبل التي تطلبانها، وتكرير لفظ «هرشى» لتقريرها في ذهن السامع خوف غفلته عنها، والمقام كان مقام هداية، فحسن فيه ذلك. [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت حسنات الكافر محبطة بالكفر ... الخ» قال أحمد: السؤال مبنى على قاعدتين، إحداهما: أن حسنات الكافر محبطة بالكفر، وهذه فيها نظر، فان حسنات الكافر محبطة، أى: لا يثاب عليها ولا ينعم. وأما تخفيف العذاب بسببها، فغير منكر، فقد وردت به الأحاديث الصحيحة. وقد ورد أن حاتما يخفف الله عنه لكرمه ومعروفه، وورد ذلك في حق غيره كأبى طالب أيضا، فحينئذ لحسنات الكافر أثر ما في تخفيف العذاب، فيمكن أن يكون المرئي هو ذلك الأثر، والله أعلم. وأما القاعدة الثانية: وهي القول بأن اجتناب الكبائر يوجب تمحيص الصغائر ويكفرها عن المؤمن، فمردود عند أهل السنة فان الصغائر عندهم حكمها في التكفير في حكم الكبائر: تكفر بأحد أمرين: إما بالتوبة النصوح المقبولة، وإما بالمشية لا غير ذلك. وأما اجتناب الكبيرة عندهم فلا يوجب التكفير للصغيرة، فالسؤال المذكور إذا ساقط عن أهل السنة، ولكن الزمخشري التزم الجواب عنه الزموه على قاعدته الفاسدة، والله الموفق.
(3) . أخرجه الثعلبي من حديث على بإسناد أهل البيت، لكنه من رواية أبى القاسم الطائي. وهو ساقط وشاهده عند ابن أبى شيبة والبزار من رواية سلمة بن وردان عن أنس مرفوعا: إذا زلزلت تعدل ربع القرآن» وأخرجه ابن مردويه والواحدي باسناديهما إلى أبى بن كعب بلفظ «من قرأ إذا زلزلت أعطى من الأجر كمن قرأ القرآن.(4/785)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
سورة العاديات
مكية، وقيل مدنية، وآياتها 11 [نزلت بعد العصر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح. والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح. قال عنترة:
والخيل تكدح حين تضبح في حياض الموت ضبحا «1» وانتصاب ضبحا على: يضبحن ضبحا، أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو «2» . أو على الحال، أى: ضابحات فَالْمُورِياتِ تورى نار الحباحب «3»
__________
(1) . الكدح: الجد في العدو، والضبح: إخراج النفس بصوت غير الصهيل والحمحمة. وحكاه ابن عباس في التفسير فقال: أح أح، وشبه الموت بالسيل على طريق المكنية، والحياض تخييل لذلك.
(2) . قال محمود: «أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح والضبح صوت أنفاسها ... الخ» قال أحمد: ولم يذكر حكمة الإتيان بالفعل معطوفا على الاسم، فنقول: إنما عطف فَأَثَرْنَ على الاسم الذي هو الْعادِياتِ
وما بعده لأنها أسماء فاعلين، تعطى معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلا عن اسم فاعل: تصوير هذه الأفعال في النفس، فان التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم، لما بينهما من التخالف: وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة، وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي، وقد تقدمت له شواهد أقربها قول ابن معديكرب:
بأنى لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فاضربها بلا دهش فخرت ... صريعا اليدين والجران
(3) . قوله «توري نار الحباحب» الحباحب: اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان، فضربوا به المثل حتى قالوا: نار الحباحب: لما تقدحه الخيل بحوافرها. اه من الصحاح. (ع)(4/786)
وهي ما ينقدح من حوافرها قَدْحاً قادحات صاكات بحوافرها الحجارة. والقدح. الصك.
والإيراء. إخراج النار. تقول. قدح فأورى، وقدح فأصلد «1» ، وانتصب قدحا بما انتصب به ضبحا فَالْمُغِيراتِ تغير على العدو صُبْحاً في وقت الصبح فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فهيجن بذلك الوقت غبارا فَوَسَطْنَ بِهِ بذلك الوقت، أو بالنقع، أى وسطن النقع الجمع.
أو فوسطن ملتبسات به جَمْعاً من جموع الأعداء، ووسطه بمعنى توسطه. وقيل: الضمير لمكان الغارة. وقيل: للعدو الذي دلّ عليه وَالْعادِياتِ ويجوز أن يراد بالنقع: الصياح، من قوله عليه السلام «ما لم يكن نقع ولا لقلقة «2» » وقول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق «3»
أى: فهيجن في المغار عليهم صياحا وجلبة «4» . وقرأ أبو حيوة: فأثرن بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غبارا، لأن التأثير فيه معنى الإظهار. أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة. وقرئ:
فوسطن بالتشديد للتعدية. والباء مزيدة للتوكيد، كقوله وَأُتُوا بِهِ وهي مبالغة في وسطن.
وعن ابن عباس: كنت جالسا في الحجر فجاء رجل فسألنى عن الْعادِياتِ ضَبْحاً ففسرتها بالخيل، فذهب إلى علىّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر،
__________
(1) . قوله «فأصلد» في الصحاح: صلد الزند، إذا صوت ولم يخرج ثارا، وأصلد الرجل: أى صلد زنده اه. (ع)
(2) . لم أجده مرفوعا. وإنما ذكره البخاري في الجنائز تعليقا عن عمر. قال «دعهن يبكين على أبى سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة» قال: والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت. ووصله عبد الرزاق والحاكم وابن سعد وأبو عبيد والحربي في الغريب كلهم من طريق الأعمش عن أبى وائل قال «وقيل لعمر: إن نسوة من بنى المغيرة قد اجتمعن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه. وإنا نكره أن يؤذينك. فلو نهيتهن فقال: ما عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبى سليمان- سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة» وفي رواية ابن سعد قال: وكيع: النقع الشق. واللقلقة الصوت. وقال بعضهم: رفع التراب على الرأس وشق الجيوب. وأما اللقلقة فهي شدة الصوت.
ولم أسمع فيه خلافا. وقال الحربي عن الأصمعي. النقع الصياح. وعن أبى سلمة هو وضع التراب على الرأس.
(3) .
فمتى ينقع صراخ صادق ... جلبوه ذات جرس وزجل
للبيد بن ربيعة. وجلب على فرسه وأجلب: إذا صاح به وحثه على السبق. وجلب بالتشديد-: صوت. والجرس الصوت الخفي. والزجل: صوت كدوي النحل. يقول: فمنى يرتفع صراخ للحرب صادق صرخوه ذات جرس، أى: كتيبة ذات جرس، وهو بدل من فاعل جلبوه. أو جاء على لغة أكلونى البراغيث. والمعنى: أن الصوت المنخفض ملازم لها، بخلاف المرتفع. ويجوز أن «جلبوه» جواب الشرط. ويجوز أنه صفة صراخ، وجواب الشرط فيما بعده، وهو أقرب من الأول.
(4) . قوله «صباحا وجلبة» في الصحاح: الجلب والجلبة: الأصوات. (ع)(4/787)
وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد الْعادِياتِ ضَبْحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى «1» ، فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والثفر للثورة «2» وما أشبه ذلك. وقيل الضبح لا يكون إلا للفرس والكلب والثعلب. وقيل: الضبح بمعنى الضبع، يقال: ضبحت الإبل وضبعت: إذا مدت أضباعها في السير، وليس بثبت. وجمع: هو المزدلفة. فإن قلت: علام عطف فَأَثَرْنَ؟ قلت: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى: واللاتي عدون فأورين، فأغرن فأثرن. الكنود: الكفور. وكند النعمة كنودا. ومنه سمى: كندة، لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بنى مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور، يعنى: أنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران، لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه، ثم إن عظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة وَإِنَّهُ وإنّ الإنسان عَلى ذلِكَ على كنوده لَشَهِيدٌ يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره. وقيل:
وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد الْخَيْرِ المال من قوله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً والشديد: البخيل الممسك. يقال: فلان شديد ومتشدّد. قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد «3»
يعنى: وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه: لبخيل ممسك. أو أراد بالشديد: القوى، وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوى مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. تقول: هو شديد لهذا الأمر، وقوىّ له: إذا كان مطيقا له ضابطا. أو أراد: أنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض بُعْثِرَ بعث. وقرئ: بحثر، وبحث. وبحثر، وحصل: على بنائهما للفاعل. وحصل: بالتخفيف. ومعنى حُصِّلَ جمع في
__________
(1) . أخرجه الطبري والحاكم من رواية أبى صخر عن أبى معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وأخرجه الثعلبي وابن مردويه من هذا الوجه.
(2) . قوله «للمهر والثفر الثورة» الثفر السباع كالحياء للناقة، وربما استعير بغيرها. والثورة: تأنيث الثور.
قال الأخطل:
جزى الله عنا الأعورين ملاحة ... وفروة ثفر الثور المتضاجم
وفروة: اسم رجل. والمتضاجم: المعوج الفم اه من هامش. (ع)
(3) . لطرفة بن العبد في معلقته. واعتام يعتام اعتياما: اختار اختيارا. والعقيلة من كل شيء: أكرمه. يقول:
أرى الموت يختار الكرام فيأخذها، ويصطفى أعز مال البخيل الشديد الإمساك فيبقيه. وقيل: فيأخذه أيضا.(4/788)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
الصحف، أى: أظهر محصلا مجموعا. وقيل: ميز بين خيره وشره. ومنه قيل للمنخل: المحصل.
ومعنى علمه بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم، لأنّ ذلك أثر خبره بهم. وقرأ أبو السمال: إنّ ربهم بهم يومئذ خبير.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قرأ سورة والعاديات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» «1» .
سورة القارعة
مكية، وآياتها 11 [نزلت بعد قريش] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة، أى: تقرع يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار. قال جرير:
إنّ الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.
(2) . لجرير. وما علمت: أى مدة علمى، أو في علمى. وهذا من الانصاف في المحاورة. والفراش: ما يتطاير إلى السراج، وربما مات فيه لحمقه. والمصطلى: المتدفئ بالنار: شبههم به في الذل والجهل والتطفل على الغير، كما يغشى الفراش رأس المصطلى ويحوم حولها. وربما ألقى بنفسه إلى النار، مهم مثله. [.....](4/789)
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة وأذل وأجهل. وسمى فراشا: لتفرّشه وانتشاره. وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوانا، لأنها ألوان، وبالمنفوش منه، لتفرق أجزائها.
وقرأ ابن مسعود: كالصوف. الموازين: جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله.
أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها. ومنه حديث أبى بكر لعمر رضى الله عنهما في وصيته له:
«وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف «1» » فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة «2» : هوت أمّه، لأنه إذا هوى أى سقط وهلك، فقد هوت أمّه ثكلا وحزنا قال:
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يردّ اللّيل حين يئوب «3»
فكأنه قيل. وأما من خفت موازينه فقد هلك. وقيل هاوِيَةٌ من أسماء النار، وكأنها النار العميقة لهوى أهل النار فيها مهوى بعيدا، كما روى «يهوى فيها سبعين خريفا «4» » أى فمأواه النار. وقيل للمأوى: أمّ، على التشبيه، لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه. وعن قتادة: فأمّه هاوية، أى فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم، لأنه يطرح فيها منكوسا هِيَهْ ضمير الداهية التي
__________
(1) . وهذا منقطع مع ضعف ليث. وهو ابن أبى سليم. وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى بكر من رواية إسماعيل بن أبى خالد عن زيد بن الحرث «أن أبا بكر لما حضره الموت أرسل إلى عمر. فلما اتى قال له: إنى موصيك بوصية، إن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار وحقا بالنهار لا يقبله في الليل. وإنه ليس لأحدنا نافلة حتى يؤدى الفريضة. إنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل- الحديث» .
(2) . قال محمود: «إذا دعوا على الرجل بالهلكة قالوا: هوت أمه ... الخ» قال أحمد: والأول أظهر، لأنه مثل معروف كقولهم، لأمه الهبل.
(3) . لكعب في مرثية أخيه. وهوت أمه دعاء لا يراد به الوقوع بل التعجب. وما مبتدأ، وما بعده خبر.
والمعنى: أى شيء يبعثه الصبح منه، وأى شيء يرده الليل، كما روى: وماذا يرد الليل، يعنى: أنه شيء عظيم.
ومنه تجريد مقدر فيه، يعنى: أنه كان يغدو في طلب الغارة ويرجع في الليل ظافرا. وما في الموضعين من الاستفهام، معناه التعجب والاستعظام. وإسناد الفعل الصبح والليل مجاز.
(4) . هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي في صفة جهنم من رواية الحسن عن عتبة بن غزوان «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما ما تقضى إلى قعرها» وقال غريب لا نعرف الحسن سماعا. من عتبة وهذا منقطع. وقد رواه مسلم من حديث عتبة بلفظ «وذكر لنا» وهو في حكم المرفوع «وروى الحاكم من طريق عيسى بن طلحة عن أبى هريرة مرفوعا «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها في النار سبعين خريفا» وأصله في البخاري من رواية أبى صالح عن أبى هريرة بلفظ «يهوى بها في جهنم» حسب. وروى البزار من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رفعه، يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف على شفير جهنم فان أمر به فدفع فهوى فيها سبعين خريفا» .(4/790)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
دلّ عليها قوله فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ في التفسير الأوّل. أو ضمير هاوية والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها. وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج، لأنها ثابتة في المصحف.
وقد أجيز إثباتها مع الوصل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة «1» »
سورة التكاثر
مكية، وآياتها 8 «نزلت بعد الكوثر» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
ألهاه عن كذا وأقهاه: إذا شغله «2» . والتَّكاثُرُ التبارى في الكثرة والتباهي بها، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر. روى أن بنى عبد مناف وبنى سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنوسهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثرتهم بنوسهم. والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات: عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم: وقيل كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم.
والمعنى: ألهاكم ذلك- وهو مما لا يعنيكم ولا يجدى عليكم في دنياكم وآخرتكم- عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم. أو أراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.
(2) . قوله «وأقهاه إذا شغله» مضروب عليه بخط المصنف في نسخة اه من هامش. وفي الصحاح: أقهى الرجل من الطعام إذا احتواه. والقهوة: الخمر. يقال: سميت بذلك لأنها تقهى، أى تذهب بشهوة الطعام. (ع)(4/791)
متم وقبرتم، منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها، عما هو أولى بكم من السعى لعاقبتكم والعمل لآخرتكم. وزيارة القبور:
عبارة عن الموت. قال:
لن يخلص العام خليل عشرا ... ذاق الضّماد أو يزور القبرا «1»
وقال: زار القبور أبو مالك ... فأصبح الأمّ زوّارها»
وقرأ ابن عباس: أألهاكم؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير كَلَّا ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي الناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه سَوْفَ تَعْلَمُونَ إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم. والتكرير: تأكيد للردع والإنذار عليهم. وثُمَّ دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل. والمعنى:
سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضا وقال لَوْ تَعْلَمُونَ محذوف الجواب، يعنى:
لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، أى: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم: لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلال جهلة، ثم قال لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه، وهو جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدوا به مالا مدخل فيه للريب، وكرره معطوفا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ: لترؤن بالهمز، وهي مستكرهة. فإن قلت: لم استكرهت والواو المضمومة قبلها همزة قياس مطرد؟ قلت:
ذاك في الواو التي ضمتها لازمة، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ: لترون، ولترونها: على البناء للمفعول عَيْنَ الْيَقِينِ أى الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته. ويجوز أن يراد بالرؤية:
__________
(1) .
إنى رأيت الضمد هيئا نكرا ... لن يخلص العام حليل عشرا
ذاق الضماد أو يزور القبرا
للأخطل. وضمد رأسه: عصبه. وضمد جرحه: ألصق عليه الدواء. والضمد والضماد: الحقد، لكتمه في القلب والتزوج لضم المرأة إلى الرجل. والنكر: المنكر، ولن يخلص: بيان لوجه إنكار الضمد أى التزوج. والعام:
نصب على الظرفية. ويروى، حليل بالمهملة وبالمعجمة. وعشرا- بالكسر: أى معاشرة، وبفتحها: أى عشر ليال. وذاق الضماد: صفة حليل، فصلت عنه بالمفعول. وشبه الضماد بالمطعوم المكروه بحسب ما رأى على طريق الكناية، والذوق تخييل. وزيارة القبر: كناية عن الموت، أى: لن يخلص إلى أن يموت، ولا ينافيه التقييد بالعام لإمكان الموت فيه، ولعله كان جدبا.
(2) . زار القبور، أى: مات. وفيه نوع تهكم به حيث كنى عن الموت المكروه عادة بالزيارة المحبوبة، وألأم: أفعل تفضيل من اللؤم، أى: الحسة. والزوار: جمع زائر، أى: كان ألأم الأحياء، فأصبح ألأم الأموات.(4/792)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
العلم والإبصار عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه.
فإن قلت: ما النعيم الذي يسئل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلا وله نعيم؟ قلت:
هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقهما، فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضا بالشكر: فهو من ذاك بمعزل، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى: أنه أكل هو وأصحابه تمرا وشربوا عليه ماء فقال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» «1» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية» «2» .
سورة العصر
مكية، وآياتها 3 «نزلت بعد الشرح» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
أقسم بصلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر، في مصحف
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفيه تخليط لعله من الناسخ. وهو يخرج من حديثين: أحدهما أخرجه النسائي وابن حبان والطبري وابن مردويه من حديث جابر قال «أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم رطبا وشربوا ماء. فقال: هذا من النعيم الذي تسألون عنه» وروى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث أبى سعيد الخدري قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.(4/793)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
حفصة. وقوله عليه الصلاة والسلام «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «1» ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم.
أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعا من دلائل القدرة. أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. والإنسان: للجنس. والخسر: الخسران، كما قيل: الكفر في الكفران. والمعنى: أن الناس في خسران من تجارتهم إلا الصالحين وحدهم، لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم، فوقعوا في الخسارة والشقاوة وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله: من توحيد الله وطاعته، واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبلو الله به عباده.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والعصر غفر الله له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» «2» .
سورة الهمزة
مكية، وآياتها 9 [نزلت بعد القيامة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الهمز: الكسر، كالهزم. واللمز: الطعن. يقال: لمزه ولهزه طعنه، والمراد: الكسر من
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(2) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/794)
أعراض الناس والغض «1» منهم، واغتيابهم، والطعن فيهم «2» وبناء «فعلة» يدل على أنّ ذلك عادة منه قد ضرى بها. ونحوهما: اللعنة والضحكة. قال:
وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه «3»
وقرئ: ويل للهمزة اللمزة. وقرئ: ويل لكل همزة لمزة، بسكون الميم: وهو المسخرة الذي يأتى بالأوابد «4» والأضاحيك فيضحك منه ويشتم. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة. وقيل: في أمية بن خلف. وقيل: في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه. ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإنّ ذلك أزجر له وأنكى فيه الَّذِي بدل من كل. أو نصب على الذم. وقرئ: جمع بالتشديد، وهو مطابق لعدده. وقيل عَدَّدَهُ جعله عدة لحوادث الدهر. وقرئ: وعدده أى جمع المال وضبط عدده وأحصاه. أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه، من قولك: فلان ذو عدد وعدد: إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. وقيل وَعَدَّدَهُ معناه: وعدّه على فك الإدغام، نحو: ضننوا أَخْلَدَهُ وخلده بمعنى، أى طوّل المال أمله، ومناه الأمانى البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالدا في الدنيا لا يموت. أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض: عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا. أو هو تعريض بالعمل الصالح. وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأما المال فما أخلد أحدا فيه. وروى أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار. وقيل: عشرة آلاف. وعن الحسن: أنه عاد موسرا
__________
(1) . قوله «أعراض الناس والغض منهم» في الصحاح: غض منه، إذا وضعه ونقص من قدره. (ع)
(2) . قال محمود: «قال المراد بالهمزة المكثر من الطعن على الناس والقدح فيهم ... الخ» قال أحمد: وما أحسن مقابلة الهمزة اللمزة بالحطمة، فانه لما وسمه بهذه السمة بصيغة أرشدت إلى أنها راسخة فيه ومتمكنة منه أتبع المبالغة بوعيده بالنار التي سماها بالحطمة لما يلقى فيها، وسلك في تعيينها صيغة مبالغة على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب، حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء، فهذا الذي ضرى بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضارية بحطم كل ما يلقى إليها. [.....]
(3) .
إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
لزياد الأعجم. والشحط- بالفتح: البعد. وكثر عن أسنانه: أبداها في الضحك وغيره، لكن اشتهر في لسان العرب في الأول. والهمز: الكسر. واللمز: الطعن. روى أن أعرابيا سئل: أتهمز الفأرة؟ فقال: نعم تهمزها الهرة، أى: تأكلها، والهامز هنا: المغتاب الغياب، الذي يملأ فمه بما يخرم عرض غيره. والهمزة: من اعتاد ذلك. واللامز: الرامي لغيره بالمسبة. واللمزة: من اعتاد ذلك. يقول: إذا لقيتك على بعد المسافة بيننا تضاحكنى، وإذا غبت عنك كنت المغتاب المكثر من الطعن في عرضي. وروى: وإن أغيب فأنت الهامز، على البناء للمجهول.
(4) . قوله «الذي يأتى بالأوابد» في الصحاح: جاء فلان بآبدة، أى: بداهية يبقى ذكرها على الأبد. (ع)(4/795)
فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم، ولا تفضلت على كريم؟ قال: ولكن لماذا؟
قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان، ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك كَلَّا ردع له عن حسبانه. وقرئ: لينبذان، أى: هو وماله. ولينبذن، بضم الذال، أى: هو وأنصاره. ولينبذنه فِي الْحُطَمَةِ في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. ويقال للرجل الأكول: إنه الحطمة. وقرئ: الحاطمة، يعنى أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه. ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها. أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها مُؤْصَدَةٌ مطبقا. قال:
تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة «1»
وقرئ: في عمد، بضمتين. وعمد، بسكون الميم. وعمد. بفتحتين. والمعنى: أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى: أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممدّدة مثل المقاطر «2» التي تقطر فيها اللصوص. اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزا بمحمد وأصحابه» «3» .
__________
(1) . يقول: تحنّ ناقتي شوقا إلى أجبال مكة، جمع جبلي، كأسباب وسبب، لأنها وطنها، والحال أن أبواب صنعاء مدينة من اليمن، مؤصدة: أى مغلقة أمامها، والمراد: تحزنه وتشوقه إلى وطنه، ونسبه الناقة مبالغة.
(2) . قوله «مثل المقاطر التي تقطر فيها» في الصحاح «المقطرة» : الفلق» وهي خشبة فيها خروق تدخل فيما أرجل المحبوسين. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.(4/796)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
مكية، وآياتها 5 «نزلت بعد الكافرون» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
روى أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس «1» ، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا «2» ، فأغضبه ذلك. وقيل: أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود، وكان قويا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ثمانية.
وقيل: كان معه ألف فيل، وكان وحده، فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله طيرا سودا. وقيل خضرا وقيل: بيضا. مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل، ودوى أبرهة «3» فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه. وقيل: كان أبرهة جدّ
__________
(1) . قوله «وسماها القليس» بالتشديد، مثل القبيط: بيعة كانت بصنعاء للحبشة: بناها أبرهة، وهدمها حمير، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «فقعد فيها ليلا» كناية عن التغوط. وفي الخازن فتغوط فيها ولطخ قبلتها بالعذرة. (ع)
(3) . قوله «ودوى أبرهة» أى مرض. وآرابه، أى: أعضاؤه. (ع)(4/797)
النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل: بثلاث وعشرين سنة «1» . وعن عائشة رضى الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه فيها، فجهره «2» وكان رجلا جسيما وسيما.
وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عينى، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر، فألهاك عنه ذود أخذ لك، فقال أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول:
لاهمّ إنّ المرء يمنع ... أهله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فأمر ما بدا لك «3»
__________
(1) . قوله «بأربعين سنة، وقيل بثلاث وعشرين» لعله وكان قبله بأربعين سنة. وفي الخازن: اختلفوا في عام الفيل، فقيل: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة اه. (ع)
(2) . قوله «فجهره» في القاموس «جهر الرجل» : عظم في عينه وراعه جماله، كأجهره انتهى. (ع)
(3) .
لاهم إن المرء يمنع ... أهله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
جروا جميع بلادهم ... والفيل كى يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فأمر ما بدا لك
لعبد المطلب حين أراد أبرهة بن الصباح هدم الكعبة وأغار على مائتي بعير له، فخرج إليه عبد المطلب في طلب الإبل، وقد قيل لأبرهة: إنه سيد قريش، يطعم الناس في السهل، والوحوش في رءوس الجبال، فلما طلب الإبل قال له: سقطت من عيني، جئت لأهدم- شرفكم فألهاك عنه طلب المال، فقال: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، ثم رجع وأخذ بحلقة الباب وقال ذلك. ولاهم: أصله اللهم، فخفف. إن المرء يمنع، أى: يحفظ أهله، وأنت الله فاحفظ حلالك، أى: سكان حرمك الذين حلوا فيه. يقال: حى حلال، أى: نزول، وفيهم كثرة.
أو الذين هم في حل منك. ويجوز على بعد أنه أطلق الحلال على البيت، أو أهله على سبيل المشاكلة التقديرية للأهل، على أن معناه الزوجة. وروى: إن المرء يمنع حله فامنع حلالك. والحل والحلال: ما يحل التصرف فيه. وروى:
إن العبد يمنع وحله فامنع وحالك، وهو يؤيد الأول. والآل لا يضاف إلا لذي شرف، فاضافته للصليب ليشاكل ما بعده. أو على زعمهم أنه ذو شرف. وعابديه: جمع مضاف الضمير إضافة الوصف لمفعوله. واليوم: ظرف النصر. والمحال: مصدر ماحله إذا كايده يمكروه. والعدو: العدوان والظلم: وهو نصب على التمييز. أو على المفعول المطلق. ويروى: غدوا، أى: في الغد، فهو ظرف. ويروى: أبدا. ويروى: جموع، بدل جميع، وكان معهم اثنا عشر فيلا فيها فيل جسيم عظيم اسمه محمود، فمراده بالفيل: الجنس، أو المعهود. والعيال: مفرده عيل، وجمعه عيائل، كجيد وجياد وجيائد، من قوله وتتعهد شأنه عمدوا: قصدوا، حماك، أى: حرمك الذي حميته لجهلهم. أو جاهلين وما خافوا عظمتك، إن كنت تاركهم مع كعبتنا يفعلون بها ما شاءوا فأمر عظيم ظهر لك منا الآن من معاصينا. أو أمر تعلمه أنت ولا نعلمه من الحكمة والمصلحة. وفيه تفويض إلى الله وتسليم إليه.(4/798)
يا ربّ أرجو لهم سوا كا ... يا ربّ فامنع منهم حما كا «1»
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية «2» . وفيه: أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور «3» ، وكان سبب يساره. وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها. وقيل جاءت عشية ثم صبحتهم. وعن عكرمة: من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر. وقرئ: ألم تر، بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم: والمعنى:
أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة.
وكَيْفَ في موضع نصب بفعل ربك، لا بألم تر، لما في كَيْفَ من معنى الاستفهام فِي تَضْلِيلٍ في تضييع وإبطال. يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالا ضائعا. ومنه قوله تعالى وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنه ضلل ملك أبيه، أى. ضيعه، يعنى: أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القليس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلل بإرسال الطير عليهم أَبابِيلَ حزائق، الواحدة: إبالة. وفي أمثالهم: ضغث على إبالة، وهي: الحزمة الكبيرة، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة. وقيل: أبابيل مثل عباديد، وشماطيط لا واحد لها وقرأ أبو حنيفة رحمه الله، يرميهم، أى الله تعالى أو الطير، لأنه اسم جمع مذكر، وإنما يؤنث على المعنى. وسجيل: كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال، لأنّ العذاب موصوف بذلك، وأرسل عليهم طيرا، فأرسلنا عليهم
__________
(1) .
يا رب لا أرجو لهم سوا كا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عادا كا ... امنعهم أن يخربوا فنا كا
لعبد المطلب أيضا، أى: لا أرجو لمنع الأعداء عنا غيرك، وألف القوافي للإطلاق، وتكرير النداء للاستعطاف.
والعدو: يطلق على الواحد والمتعدد، أى: من كان عدوا لأهل بيتك فهو المعادى لك البالغ في العداوة. والفناء:
رحبة البيت. وروى بدله «قرا كا» جمع قرية، وبده المصراع الثاني بألف الوصل جائز، لأنه محل ابتداء في الجملة، كما نبه عليه الخليل.
(2) . قوله «ما هي ببحرية ولا تهامية» ببحرية: في أبى السعود: بنجدية. (ع)
(3) . قوله «وذهبهم الجور» لعله الجرب: جمع جراب، مثل: كتب، جمع كتاب. (ع) [.....](4/799)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
الطوفان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر. وقيل: هو معرب من سنككل. وقيل: من شديد عذابه، ورووا بيت ابن مقبل:
ضربا تواصت به الأبطال سجّيلا «1»
وإنما هو سجينا، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه، وشبهوا بورق الزرع إذا أكل، أى:
وقع فيه الأكال: وهو أن يأكله الدود. أو بتبن أكلته الدواب وراثته، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن، كقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أو أريد: أكل حبه فبقى صفرا منه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ «2» » .
سورة قريش
مكية، وآياتها 4 «نزلت بعد التين» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ متعلق بقوله لْيَعْبُدُوا
أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم،
__________
(1) .
ورجلة يضربون البيض عن عرج ... . ضربا تواصت به الأبطال سجيلا
لابن مقبل. والرجلة: جماعة الرجال. والبيض- بالكسر-: كناية عن السيوف، أى: يضربون بها، وإن قرئ بالفتح فهي المغافر على رؤس الفرسان. والعرج: الميل والاعوجاج. ويروى: عن عرض، ولعله تحريف.
والمراد: اختلاف أحوال الضرب. والبطل: لشجاع. والسجيل: الشديد، ولكن الرواية بالنون، لأن القصيدة نونية، وسنذكر بعضها في أواخر حرف النون.
(2) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي بالسند إلى أبى بن كعب.(4/800)
على معنى: أنّ نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقيل المعنى: عجبوا لإيلاف قريش. وقيل: هو متعلق بما قبله، أى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر: وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبىّ سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر: أنه قراهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى: والتين «1» . والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ أحد عليهم. وكانت لقريش رحلتان: يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يتعرّض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم. والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافا: إذا ألفته، فأنا مؤلف. قال:
من المؤلفات الرّهو غير الأوارك «2»
وقرئ: لئلاف قريش، أى: لمؤالفة قريش. وقيل: يقال ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر: لإلف قريش، وقد جمعهما من قال:
زعمتم أنّ إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف «3»
__________
(1) . هكذا وقع في الثعلبي. وقال عمرو بن ميمون: صليت خلف عمر المغرب. فذكر الحديث. وكذا وصله عبد الرزاق وابن أبى شيبة من رواية أبى إسحاق عن عمرو بن ميمون قال «صلى بنا عمر المغرب. فقرأ في الأولى بالتين. وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش» .
(2) .
شددت إليك الرحل فوق شملة ... من المؤلفات الرهو غير الأوارك
الشملة بالتشديد. والشملال والشميل: الخفيفة السريعة السير، أى: شددت الرحل فوق نافة سريعة السير ذاهبا إليك، وتلك الناقة من النوق المؤلفات المعتادات الرهو، أى: السير السهل المستقيم. ويروى: الزهو، بالزاي وهو سيرها بعد ورودها الماء. والأوارك: جمع آركة: المقيمات موضع الأراك، ترعاه. أو ترعى نبتا يقال له الحمض، أى: ليست كذلك يلي معلوفة ومكرمة السفر.
(3) .
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
لمساور بن هند بن قيس يخاطب بنى أسد. وقريش خبر. وقولهم «لهم إلف» استئناف لبيان كذبهم. والالف والالاف: مصدر ألفه، إذا أحبه واعتاده ولم ينفر منه. وآلف إيلافا بينهما: جعل بينهما إلفا. وقد جمعت قريش بين رحلة الشتاء والصيف، فتارة فرحل هذه وتارة هذه بلا خوف ولا فزع «أولئك» إشارة لقريش «أومنوا» مبنى للمجهول، أى آمنهم ربهم عن الجوع والخوف، وقد جاعت وخافت بنو أسد: التفت إلى الغيبة دلالة على الاعراض عنهم، وتعجيب غيرهم من شأنهم.(4/801)
وقرأ عكرمة: ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وقريش: ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش: وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار. وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضى الله عنهما: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى. وأنشد:
وقريش هي الّتي تسكن البحر ... بها سمّيت قريش قريشا «1»
والتصغير للتعظيم. وقيل: من القرش وهو الكسب: لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد. أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين، تفخيما لأمر الإيلاف، وتذكيرا بعظيم النعمة فيه، ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولا به، كما نصب يَتِيماً بإطعام، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله.
كلوا في بعض بطنكم.... «2» ..
__________
(1) .
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك ... يوما لذي جناحين ريشا
هكذا في الكتاب نالت قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا
ولهم آخر الزمان نبى ... يكثر القتل فيهم والخموشا
يملأ الأرض خيلة ورجالا ... يحشرون المطر حشرا كميشا
لتبع. وقريش: تصغير قرش. قال ابن عباس: اسم دابة في البحر تأكل ولا تؤكل اه فصغر وسمي به النضر بن كنانة، ثم سمى به أولاده. والمحدثون على أنه اسم لفهر بن مالك بن النضر، وقال الروافض: هو اسم لقصي بن كلاب، وتوصلوا بذلك إلى نفى إمامة أبى بكر وعمر لكونهما ليسا قرشيين، لأنهما يجتمعان معه صلى الله عليه وسلم بعد قصي، والامامة من قريش، وقريش مبتدأ، والجملة بعدها مستأنفة مبينة لها، وبها سميت خبر، أى: بسببها، سميت هذه القبيلة قريشا تأكل، أى قريش البحرية. ويؤيده ما روى قبل هذا البيت وهو:
سلطت بالعلو في لجة البحر ... على سائر البحور جيوشا ... تأكل
ويحتمل أنها الضبيلة. والغث الخبيث. والسمين، الطيب وصاحب الجناحين، كناية عن الطير. أو استعارة الغنى، وبالغ في أنها لا تبقى ولا تذر شيئا مما تظفر به بقوله: إنها لا تترك ريش ذى الجناحين. ويروى «فيه» بدل يوما وهو يعنى قريش البحرية. وهكذا: إشارة لحال دابة البحر، أو لما قاله هو. والكتاب: التوراة أو الإنجيل.
أو كتب التاريخ. وقريش هنا: القبيلة، ويروى:
هكذا في البلاد حى قريش ... يأكلون البلاد......
أى: يأخذون أموالها. والكشيش في الأصل: الصوت الخفي، أى: أكلا بسهولة، بلا إرهاب ولا إنعاب، فهو مجاز، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وخمشه خمشا: خدشه. والخموش: الخدوش. والخيلة: الشبح البعيد.
والخيل: الخيالة. والرجال: المشاة على أرجلهم. ويحشرون: صفة لرجال، ويبعد رجوعه لقريش، والكميش:
السريع. والمنضم: القاطع، أى: يجمعونها بسرعة، لكن المراد بالخموش هنا: الجروح.
(2) . قوله «كلوا في بعض بطنكم» بقيته: «تعفوا» وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 479 فراجعه إن شئت اه مصححه. (ع)(4/802)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
وقرئ: رحلة، بالضم: وهي الجهة التي يرحل إليها: والتنكير في جُوعٍ وخَوْفٍ لشدتهما، يعنى: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقيل: كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. وقيل ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه. ومن بدع التفاسير: وآمنهم من خوف، من أن تكون الخلافة في غيرهم. وقرئ: من خوف، بإخفاء النون.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» «1» .
سورة الماعون
مكية ثلاث آيات الأول، مدنية البقية، وآياتها 7 «نزلت بعد التكاثر» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قرئ: أريت، بحذف الهمزة، وليس بالاختيار، لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب: ريت، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام. ونحوه:
صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ الضّرع ما قرى في الحلاب «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
(2) . لإسماعيل بن بشار، وفي حياة الحيوان ما هو صريح في أنه لنفيلة بن عبد المدان بن خرشم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان ابن هود عليه السلام وصاح مرخم، فان كان أصله يا صاحبي، فترخيمه شاذ من وجهين، لأن فيه حذف المضاف إليه وحذف بعض المضاف وكلاهما شاذ وإن كان أصله يا صاحب بلا إضافة. فهو شاذ من جهة أنه ليس علما ولا مؤنثا بالهاء. وقيل: ترخيم النكرة المقصودة جائز، وريت: أصله رأيت، فخفف بحذف الهمزة للضرورة، وكان قياس تخفيفها جعلها بين بين. لعدم سكون ما قبلها. وقرى يقرى قريا: جمع جمعا. ويروى: ثوى، أى تمكن واستقر.
والحلاب: إناء الحلب، وروى: العلاب، جمع علبة، وهي محلب من جلد. يقول: يا صاحبي هل رأيت أو سمعت أن راعيا رجع في الضرع ما جمع في المحلب من اللبن. وعدى لفعلين، أو بأحدهما بالباء، لتضمين معنى المعلم ويجوز أن الباء زائدة. وحسن حذف همزة رأيت أن «هل» بمعنى «قد» في الأصل وهمزة الاستفهام منوية قبله وورد ذكرها قبلها قليلا، بل قيل إنها مقدرة أيضا قيل أسماء الاستفهام كلها، والبيت من باب التمثيل، والمعنى:
أن الماضي لا يعود، والواقع لا يرتفع.(4/803)
وقرأ ابن مسعود: أرأيتك، بزيادة حرف الخطاب، كقوله أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ إن لم تعرفه فَذلِكَ الَّذِي يكذب بالجزاء، هو الذي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أى: يدفعه دفعا عنيفا بجفوة وأذى، وبردّه ردّا قبيحا بزجر وخشونة. وقرئ: يدع، أى: يترك ويجفو وَلا يَحُضُّ ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، يعنى: أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه:
علم أنه مكذب، فما أشده من كلام، وما أخوفه من مقام، وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين، ثم وصل به قوله فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ كأنه قال: فإذا كان الأمر كذلك، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرأ من غير خشوع وإخبات، ولا اجتناب لما يكره فيها: من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدرى الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السور، كما ترى صلاة أكثر من ترى الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم.
والمعنى: أنّ هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة- التي هي عماد الدين، والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام- علما على أنهم مكذبون بالدين. وكم ترى من المتسمين بالإسلام، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة، فيا مصيبتاه. وطريقة أخرى: أن يكون فَذلِكَ عطفا على الَّذِي يُكَذِّبُ إمّا عطف ذات على ذات، وصفة على صفة، ويكون جواب أَرَأَيْتَ محذوفا لدلالة ما بعده عليه، كأنه قيل: أخبرنى، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء؟ وفيمن يؤذى اليتيم ولا يطعم المسكين؟ أنعم ما يصنع؟ ثم قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أى إذا علم أنه مسيء، فويل للمصلين، على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف(4/804)
إليهم ساهين عن الصلاة مرائين، غير مزكين أموالهم. فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع، لأنّ المراد به الجنس. فإن قلت:
أىّ فرق بين قوله عَنْ صَلاتِهِمْ وبين قولك فِي صَلاتِهِمْ؟ قلت: معنى عَنْ: أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين.
ومعنى فِي: أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره «1» ، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس رضى الله عنه: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم. وقرأ ابن مسعود: لاهون. فإن قلت: ما معنى المراءاة؟ قلت: هي مفاعلة من الإراءة، لأنّ المرائى يرى الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه الصلاة والسلام «ولا غمة في فرائض «2» الله، لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا، فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فيثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة، على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح.
الأسود «3» » الْماعُونَ الزكاة، قال الراعي:
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا «4»
__________
(1) . قال المخرج: ورد في ذلك خمسة أحاديث «الأولى» قصة ذى اليدين. متفق عليها من حديث أبى هريرة من طرق عنه ومحصله أنه صلى ركعتين في الظهر أو العصر ثم سلم سهوا «الثاني» حديث عبد الله بن بحينة. متفق عليه أيضا في قيامه بغير تشهد أول وسجوده للسهو قبل السلام. وفيه عن سعد عن أبى يعلى «الثالث» حديث ابن مسعود متفق عليه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا. فقيل له في ذلك. فسجد سجدتين بعد ما سلم» «الرابع» حديث عمران بن حسين «أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثلاث ركعات فقام رجل يقال له الخرباق- الحديث» «الخامس» حديث معاوية بن خديج قال «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب. فسها فيها. فسلم في ركعتين ثم انصرف» الحديث أخرجه ابن خزيمة وأبو داود وابن حبان وجزم بأن هذه القصة مغايرة لقصة عمران. وأنهما مغايرتان لقصة أبى هريرة: قلت وقد بسط العلائى القول فيه في جزء مفرد.
(2) . هو في الحديث المتقدم في سورة يونس.
(3) . لم أجده.
(4) . يقول: هم قوم ثابتون على الإسلام، أو مع إسلامهم وزيادة عليه، لم يمنعوا الزكاة ولا غيرها من الخيرات، فلما لاستغراق النفي في الماضي، وإما ترقب حصول المنفي بها فهو غالب وليس مرادا هنا، ولم يضيعوا التهليلا: أى الصلاة، لاشتمالها على لا إله إلا الله.(4/805)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وعن ابن مسعود: ما يتعاون في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها. وعن عائشة الماء والنار والملح، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، وقبيحا في المروءة في غير حال الضرورة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا «1» »
سورة الكوثر
مكية، وآياتها 3 «نزلت بعد العاديات» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أعطيناك، بالنون «2» . وفي حديثه صلى الله عليه وسلم «3» : «وأنطوا الثبجة» «4» والكوثر: فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. وقال:
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا «5»
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي باسنادهم إلى أبى بن كعب. [.....]
(2) . أخرجه الطبراني والدارقطني في المؤتلف والحاكم وابن مردويه والثعلبي من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة وعمرو بن عبيد واهى الحديث.
(3) . هو في الحديث المتقدم في سورة يونس.
(4) . قوله «وأنطوا الثبجة» في القاموس «الشبجة» محركة: المتوسطة بين الخيار والرذال اه. (ع)
(5) . للكميت. وأنت كثير: أى كثير الخير والبر. ويروى بدله: كوثر. وفي الهداء تنويه باسمه وتعظيم لقدره. واستعار الطيب لحسن السيرة. ويجوز أنه ضد الخبيث. والعقائل: خيار النساء، والمراد جنسهن أو ما يشمل الجدات. والكوثر: بليغ النهاية في الخير.(4/806)
وقيل الْكَوْثَرَ نهر في الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال:
«أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربى، فيه خير كثير «1» » وروى في صفته:
أحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء «2» . وروى: لا يظمأ من شرب منه أبدا: أول وارديه:
فقراء المهاجرين: الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرّه» «3» وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إن ناسا يقولون: هو نهر في الجنة! فقال: هو من الخير الكثير. والنحر: نحر البدن، وعن عطية: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقيل: صلاة العيد والتضحية. وقيل. هي جنس الصلاة. والنحر: وضع اليمين على الشمال، والمعنى: أعطيت مالا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطى ذلك كله أنا إله العالمين، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان «4» : إصابة أشرف عطاء وأوفره، من أكرم معط وأعظم منعم، فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك من منن الخلق، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفا لهم في النحر للأوثان إِنَّ من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هُوَ الْأَبْتَرُ لا أنت، لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويثنى بذكرك، ولك في الآخرة مالا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له أبتر: وإنما الأبتر هو شانئك المنسى في
__________
(1) . أخرجه مسلم من رواية المختار بن فلفل عن أنس في أثناء حديث ذكره في أوائل الصلاة.
(2) . أخرجه الحاكم من حديث أبى برزة رفعه «حوضي ما بين أيلة إلى صنعاء: عرضه كطوله. فيه ميزابان يصبان من الجنان أحلى من العسل، وأبرد من الثلج وأشد بياضا من اللبن، وألين من الزبد فيه أباريق عدد نجوم السماء- الحديث» وفي ابن مردويه من حديث ابن عباس في قصة الاسراء- فذكر حديثا طويلا جدا. وفيه ذكر الكوثر وحافتاه من زبرجد.
(3) . أخرجه ابن ماجة وأحمد والطبراني من حديث ثوبان. وفيه «أن حوضي ما بين عدن إلى أيلة. أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، أكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا وأول من يدخل عليه فقراء المهاجرين الدنس ثيابا الشعث رءوسا الذين لا ينكحون المنعمات ولا يفتح لهم السدد»
(4) . قال محمود: «أى جمعنا لك الغبطتين السنيتين أحدهما إصابة أشرف عطاء وهو الكوثر ... الخ» قال أحمد» جعل الزمخشري توسط الضمير بين الجزءين مقيد للاختصاص لأن إفادته هاهنا لذلك بيتة مكشوفة.(4/807)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن. وكانوا يقولون: إنّ محمدا صنبور «1» : إذا مات مات ذكره. وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقد سماه الأبتر، والأبتر: الذي لا عقب له. ومنه:
الحمار الأبتر الذي لا ذنب له.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه «2» » .
سورة الكافرون
مكية، وهي ست آيات «نزلت بعد الماعون» ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أى المبرئتان من النفاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روى أنّ رهطا من قريش قالوا: يا محمد، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال معاذ الله أن أشرك بالله غيره: فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم، فأيسوا. لا أَعْبُدُ أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن «ما» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، ألا ترى أن «لن» تأكيد فيما تنفيه «لا»
__________
(1) . قوله «إن محمدا صنبور» ذكر في القاموس معانيه: الرجل الفرد الضعيف الذليل بلا أهل وعقب وناصر اه. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.(4/808)
وقال الخليل في «لن» : أنّ أصله «لا أن» والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أى:
وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم «1» فيه، يعنى لم تعهد منى عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى منى في الإسلام وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أى: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلا قيل: ما عبدت، كما قيل: ما عبدتم؟ قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت. فإن قلت: فلم جاء على «ما» دون «من» ؟
قلت، لأن المراد الصفة، كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق. وقيل: إن «ما» مصدرية، أى: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ لكم شرككم، ولى توحيدي. والمعنى: أنى نبىّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعوني، فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة الشياطين، وبريء من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» «2» .
__________
(1) . قال محمود: «معناه في المستقبل، لأن «لا» تنفى المستقبل، ولا أنتم عابدون ما أعبد: كذلك، ولا أنا عابد ما عبدتم: أى فيما سلف ... الخ» قال أحمد: هذا الذي قاله خطأ على الأصل والفرع جميعا: أما على أصله القدري، فانه وان كان مقتضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل البعث على دين نبى قبله، لاعتقاد القدرية أن ذلك غميزة في منصبه، ومنفر من اتباعه، فيستحيل وقوعه للمفسدة، إلا أنهم يعتقدون أن الناس كلهم متعبدون بمقتضى العقل بوجوب النظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده ومعرفته، وأن وجوب النظر بالعقل لا بالسمع فتلك عبادة قبل البعث يلزمهم ألا يظنوا به صلى الله عليه وسلم الإخلال بها، فحينئذ يقتضى أصلهم أنه كان قبل البعث يعبد الله تعالى، فالزمخشرى حافظ على الوفاء بأصله في عدم اتباعه لنبي سابق، فأخل بالتفريع على أصله الآخر في وجوب العبادة بالعقل. والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعبد قبل الوحى ويتحنث في غار حراء، فان كان مجيء قوله أعبد- لأن الماضي لم يحصل فيه هذه العبادة المرادة في الآية- فيحمل الأمر فيها والله أعلم على مجموع العبادات الخاصة التي لم تعلم إلا بالوحي، لا على مجرد توحيد الله تعالى ومعرفته فإن ذلك لم يزل ثابتا له صلى الله عليه وسلم قبل البعث، والله أعلم. أو يكون مجيئه مضارعا لقصد تصوير عبادته في نفس السامع وتمكينها من فهمه، كقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً والأصل: فأصبحت، وإنما عدل عنه للمعنى المذكور، وهو وجه حسن، فتأمله، والله أعلم.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بسندهم إلى أبى بن كعب. قلت: وصدره رواه الترمذي.
حديث أنس رضى الله عنه.(4/809)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
سورة النصر
نزلت بمنى في حجة الوداع، فتعد مدنية، وهي آخر ما نزل من السور وآياتها 3 «نزلت بعد التوبة» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
إِذا جاءَ منصوب بسبح، وهو لما يستقبل. والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة. روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع. فإن قلت: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ قلت: النصر الاغاثة والاظهار على العدوّ. ومنه: نصر الله الأرض غاثها. والفتح: فتح البلاد. والمعنى: نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب. أو على قريش وفتح مكة. وقيل: جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن، وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام فِي دِينِ اللَّهِ في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. أَفْواجاً جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة. وروى البخاري عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة في رمضان- الحديث، قال: فصبحها لثلاث عشرة خلت من رمضان» وفي الدلائل من طريق ابن إسحاق عن الزهري وغيره قال: فتحت لعشر بقين» .(4/810)
بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أنه بكى ذات يوم، فقيل له «1» . فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا «2» » وقيل: أراد بالناس أهل اليمن. قال أبو هريرة:
لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن: قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية» «3» » وقال أجد نفير ربكم من قبل اليمن» «4» وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. وقرأ ابن عباس: فتح الله والنصر: وقرئ: يدخلون، على البناء للمفعول. فإن قلت: ما محل يدخلون؟ قلت: النصب إما على الحال، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت. أو هو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فقل سبحان الله: حامدا له، أى: فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، واحمده على صنعه. أو: فاذكره مسبحا حامدا، زيادة في عبادته والثناء عليه، لزيادة إنعامه عليك. أو فصل له. روت أمّ هانئ: أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات «5» وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك» «6» والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين: من الجمع بين الطاعة والاحتراس
__________
(1) . قوله «فقيل له» لعله: فقيل له في ذلك. (ع) [.....]
(2) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن مردويه والثعلبي من رواية الأوزاعي: حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر ابن عبد الله قال «قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله فسلم علىّ فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا.
فجعل يبكى. ثم قال: سمعت- فذكره» وله شاهد عن أبى هريرة في العين من المستدرك.
(3) . أخرجه ابن مردويه من طريق عبد الرازق أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عنه. وأصله في مسلم دون ما في أوله. وله شاهد في ابن حبان والنسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(4) . أخرجه الطبراني في الأوسط ومسند الشاميين من طريق جرير بن عثمان عن شبيب بن روح عن أبى هريرة به في حديث أوله «الايمان يمان» ولا بأس بإسناده. وله شاهد من حديث سلمة بن نفيل السكوني في مسند البزار والطبراني الكبير والبيهقي في الأسماء. وفي إسناده إبراهيم بن سليمان الأفطس. قال البزار: إنه غير مشهور.
(5) . لم أجده هكذا: فان ظاهره يوهم أنه صلاها داخل الكعبة وفي الصحيحين من حديث أم هانئ «أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيتها وصلى ثمان ركعات» ورواه أبو داود بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم في كل ركعتين» إسناده صحيح، وأخرجه أحمد وابن أبى شيبة والطبراني وابن حبان وأبو يعلى والبيهقي والحاكم والطبري من طرق كثيرة تزيد على ثلاثين وجها، لم يذكر أحد منهم هذه الزيادة.
(6) . متفق عليه واللفظ لمسلم.(4/811)
من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة «1» » وروى أنه لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه استبشروا وبكى العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عم» ؟ قال:
نعيت إليك نفسك. قال: «إنها لكما تقول» «2» فعاش بعدها سنتين لم يرفيهما ضاحكا مستبشرا.
وقيل: إن ابن عباس هو الذي قال ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لقد أوتى هذا الغلام علما كثيرا» «3» وروى أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء الله» فعلم أبو بكر رضى الله عنه، فقال:
فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا «4» . وعن ابن عباس أن عمر رضى الله عنهما كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟
«فقال إنه ممن قد علمتم «5» » قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن قول الله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ ولا أراه سألهم إلا من أجلى، فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت: ليس كذلك، ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر:
ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعد ما ترون؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فاطمة رضى الله عنها فقال: «يا بنتاه إنه نعيت إلىّ نفسي، فبكت، فقال: لا تبكى، فإنك أوّل أهلى لحوقا بي «6» » وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع كانَ تَوَّاباً أى كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين توابا عليهم إذا استغفروا، فعلى كل مستغفر، أن يتوقع مثل ذلك.
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث الأغر المزني.
(2) . ذكره الثعلبي عن مقاتل وسنده إليه دون الكتاب.
(3) . لم أجده.
(4) . متفق عليه أصله من حديث أبى سعيد الخدري دون أوله من كونه كان عند نزول السورة. نعم فيه ما يشعر بأن ذلك كان في أواخر عمره ونزولها كان في أواخر عمره بلا نزاع.
(5) . أخرجه البخاري من حديث ابن عباس معناه. وليس فيه تعيين عبد الرحمن بن عوف. واستدركه الحاكم فوهم. وأخرجه البزار وآخر لفظه موافق لآخر لفظ المصنف.
(6) . أخرجه البيهقي في أواخر الدلائل وابن مردويه من رواية هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال لها إنه قد نعبت إلى نفسي فبكت فقال لها: اصبري فإنك أول أهلى لحوقا بى. فقال لها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث وشاهده في الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها من رواية مسروق عنها مطولا.(4/812)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطى من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» «1» .
سورة المسد
مكية، وآياتها 5 [نزلت بعد الفاتحة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
التباب: الهلاك. ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أى: هالكة من الهرم والتعجيز. والمعنى:
هلكت يداه، لأنه فيما يروى: أخذ حجرا ليرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَتَبَّ وهلك كله. أو جعلت يداه هالكتين. والمراد: هلاك جملته، كقوله تعالى بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ومعنى وَتَبَّ: وكان ذلك وحصل، كقوله:
جزانى جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
(2) . كأن قد فعل به خيرا فجزاء شرا، فدعا عليه بقوله: جزاه الله شر جزائه. جزاء الكلاب: بدل من «شر جزائه» وضمير «جزائه» لله. أو للرجل المدعو عليه. وجزاء الكلاب العاويات: رجمها. ويروى «العاديات» بالدال، بدل الواو. وقد فعل: أى فعل الله ذلك الجزاء في الواقع، حيث أوقعه. وفيه من أنواع البديع:
الرجوع، وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة، لأن مقتضى الدعاء أن المدعو به لم يحصل، فنقضه بقوله «وقد فصل» . ويروى بدل الشطر الأول: جزى ربه عنى عدى بن حاتم. وضمير «ربه» لحاتم، وإن تأخر لفظا ورتبة للضرورة، وأجازه الأخفش وابن جنى وابن مالك في السعة، لأن المفعول به كان متقدما لشدة اقتضاء الفعل إياه. وقيل عائد الجزاء المعلوم من جزى. ويروى بدل الشطر الأول أيضا: جزى الله عبسا عبس آل بغيض. وهي قبيلة معروفة، ولعل شاعر متعدد، وما حكاه بعض شراح شواهد الجامى من أن عدى بن حاتم رجل روى بنى قصرا النعمان بن امرئ القيس بظهر الكوفة، فأعجبه فسأله: هل بنيت مثله فقال: لا، وبنيته على حجر لو سقط سقط القصر، فألقاه من أعلاه فخر ميتا: فهو خطأ. والصواب أن هذه الحكاية إنما وقعت لسنمار المذكور في قوله:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
لأن عدى بن حاتم صحابى من لب العرب، وضمير «بنوه» : لأبى الغيلان بالكسر. وسنمار بكسرتين فتشديد.
و «عن» متعلقة بجزى، أى: جزاء ناشئا عن كبر، وفيه معنى التهكم. ويجوز أنها بمعنى البدل، والأوجه أنها بمعنى بعد. وقيل: إنها بمعنى في، وليس بشيء، وعبر بالمضارع بدل الماضي استحضارا لما مضى، لأنه عجيب.(4/813)
ويدل عليه قراءة ابن مسعود: وقد تب، وروى أنه لما نزل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ رقى الصفا وقال. يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقىّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدي الساعة، فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا «1» ؟ فنزلت. فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهرا بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفا بأحدهما، ولذلك تجرى الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ، يدا أبو لهب «2» ، كما قيل، على بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان، لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله- بالجرّ، والآخر عبد الله- بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله- بجرّة الدال، لا يعرف إلا هكذا. والثاني: أنه كان اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى كنيته. والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته، فكان جديرا بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به، وبافتخاره بذلك. وقرئ أبى لهب، بالسكون. وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم ما أَغْنى استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفى وَما كَسَبَ مرفوع. وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعنى: رأس المال والأرباح. أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها، وكان ذا سابياء «3» . أو ماله الذي ورثه
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما. [.....]
(2) . قال محمود: «ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب» قال أحمد: وفي هذا دليل لأن الرفع أسبق وجوه الاعراب وأولها. ألا تراهم إنما حافظوا على صيغته التي بها اشتهر الاسم، وكانت أول أحواله.
(3) . قوله «وكان ذا سابياء» ذكر في القاموس من هاتبها: المال الكثير والنتاج، والإبل النتاج والغنم التي كثر نسلها. «التالد» القديم. والطارق المستحدث (ع)(4/814)
من أبيه والذي كسبه بنفسه. أو ماله التالد والطارف. وعن ابن عباس: ما كسب ولده.
وحكى أن بنى أبى لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب، فقال: أخرجوا عنى الكسب الخبيث: ومنه قوله عليه السلام «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعنى كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ وروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخى حقا فأنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدى سَيَصْلى قرئ بفتح الياء وبضمها: مخففا ومشددا، والسين للوعيد، أى: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته وَامْرَأَتُهُ هي أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك «1» والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة: ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أى: يوقد بينهم النائرة ويورّث الشر. قال:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحىّ بالحطب الرّطب «2»
جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر، ورفعت عطفا على الضمير في سَيَصْلى أى: سيصلى هو وامرأته. وفِي جِيدِها في موضع الحال. أو على الابتداء، وفي جيدها:
الخبر. وقرئ: حمالة الحطب، بالنصب على الشتم، وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: حمالة للحطب. وحمالة للحطب: بالتنوين، والرفع والنصب. وقرئ: ومريته بالتصغير. المسد: الذي فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. قال:
__________
(1) . قوله «من الشوك والحسك» في الصحاح «الحسك» : حسك السعدان. وفيه «السعدان» : نبت شوك، ولهذا النيت شوك يقال: حسك السعدان. (ع)
(2) . أنشده يعقوب. والبياض: مجاز عن الخلوص من أسباب الذم. وتصطد من الصيد، أى: الوجدان والإدراك، وزنه يفتعل: فلبت تاء الافتعال طاء على القياس. ورواه بعضهم يضدد. وبعضهم: يضطد، بالضاد المعجمة فيهما، على أنه من الضد، ولينظر وجه الثاني، لأن الدال فيه حقها التشديد، فلعله خففها للضرورة. واللامة:
اللوم وسببه: شبهها بالمطية التي اعتاد صاحبها ركوبها على طريق المكنية، فأثبت لها الظهر تخييلا لذلك. وروى، بالخطر، بدل الحطب: وهو الخشب، والحطب الذي يحظر به، والمراد النميمة: استعير لها ذلك بجامع ثوران المكروه من كل، لأن الحطب الرطب إذا أوقدت فيه النار كثر دخانه. وروى: لم يضدد، ولم يمش بالياء على أنها صفة لمذكر.(4/815)
ومسد أمرّ من أيانق «1»
ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون: تخسيسا لحالها، وتحقيرا لها، وتصويرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن، لتمتعض «2» من ذلك ويمتعض بعلها، وهما في بيت العز والشرف. وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبى لهب بحمالة الحطب، فقال:
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي ... أم ما تعيّر من حمّالة الحطب
غرّاء شادخة في المجد غرّتها ... كانت سليلة شيخ ناقب الحسب «3»
__________
(1) .
إن سرك الارواء غير سائق ... فاعجل بغرب مثل غرب طارق
ومسد أمر من أيانق ... ليس بأنياب ولا حقائق
ولا ضعاف مخهن زاهق
لعمارة بن طارق. يقول: إن سرك الاستسقاء حال كونك غير سائق للإبل التي يسقى عليها، فأسرع إلى ماء بئر بدلو عظيمة مثل دلو طارق أبى. وبحبل أمر: بالبناء للمجهول، أى: فتل فتلا شديدا. من أيافق، أى: من أوبارها، أو من جلودها. والأيانق: جمع أينق. والأينق: جمع نوق والنوق: جمع ناقة، ليس ذلك الحبل أنيابا، أى، نوقا مسنة، ولا حقائق: أى فتيات، ولا ضعافا: أى ليس من هذه الأنواع التي تساق بمشقة ففي هذا التنويع تتغير عنها. ويروى: لسن، أى: النوق التي يفتل منها. والأشبه: أن حق الرواية مع أيانق، أى: أعجل بحبل مفتول من الليف الأبيض. ونوق شداد: لا تحتاج إلى السوق. ومخهن زاهق: قال الفراء: هو مرفوع، والشعر مكفا. يقول: بل مخهن مكتنز سمين على الابتداء، وهذا مما يؤيد رواية: لسن بالنوق. وقال غيره: الزاهق هنا الذاهب، وهو مجرور بالعطف، أى: ولا ضعاف مخهن. وزاهق بالجر ردا على ضعاف، فكأنه رفع مخهن بضعاف.
(2) . قوله «من المواهن لتمتعض» جمع ماهن وهي الخادم. والامتعاض: الغضب. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . هو تعبير الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب. وحمالة الحطب: زوجة أبى لهب، فهي جدته. والغراء البيضاء. والشادخة: المتسعة، وذلك مجاز عن الظهور وارتفاع المقدار. والسليلة من سل من غيره، والمراد بالشيخ: أبوها حرب، لأنها أم جميل أخت أبى سفيان بن حرب، كانت عوراء، وماتت مخنوقة بحبلها الذي كانت تحمل فيه الحطب. وقيل: حمل الحطب مجاز عن إثارة الفتنة، لأنها كانت نمامة. وإلى شتمي: متعلق بمحذوف أو بأردت على طريق التضمين، أى: أى شيء أردته مائلا أنت إلى شتمي، أو منضما هو إلى شتمي. أو ما الذي أردته من شتمي أو مع شتمي؟ هل أردت أنك شريف لا عيب فيك. ويحوز أن إلى بمعنى من كما قال النحاة، واشتشهدوا عليه بقوله:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها ... السقي فلا يروى إلى ابن أحمرا
ويمكن أنها للمصاحبة، كما قالوه أيضا في قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ وتعير: أصله تتعير، فحذف منه إحدى التائين. أما تتعير من جدتك التمامة لا ينبغي عدم ذلك. وروى: ثاقب الحسب. والمعنى: أن حسبه أصيل، فكأنه داخل في أجداد السابقين «أو سائر بين الناس، وذمها الآن مع رفعة شأنها فيما كان: أشد في الامتهان.(4/816)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع، وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار: كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبى لهب في دار واحدة «1» » .
سورة الإخلاص
مكية، وقيل مدنية، وآياتها 4 «نزلت بعد الناس» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
هُوَ ضمير الشأن، واللَّهُ أَحَدٌ هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه قيل:
الشأن هذا، وهو أنّ الله واحد لا ثانى له. فإن قلت: ما محل هو؟ قلت: الرفع على الابتداء والخبر الجملة. فإن قلت: فالجملة الواقعة خبرا لا بد فيها من راجع إلى المبتدإ، فأين الراجع؟ قلت:
حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك «زيد غلامك» في أنه هو المبتدأ في المعنى، وذلك أن قوله اللَّهُ أَحَدٌ هو الشأن الذي هو عبارة عنه، وليس كذلك «زيد أبوه منطلق» فإنّ زيدا والجملة يدلان على معنيين مختلفين، فلا بد مما يصل بينهما. وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت: يعنى: الذي سألتمونى وصفه هو الله، وأحد: بدل من قوله، الله. أو على: هو أحد، وهو بمعنى واحد، وأصله وحد. وقرأ عبد الله وأبىّ: هو الله أحد، بغير قُلْ وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحد، بغير قُلْ هُوَ وقال من
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.(4/817)
قرأ: الله أحد، كان بعدل القرآن. وقرأ الأعمش: قل هو الله الواحد. وقرئ: أحد الله، بغير تنوين: أسقط لملاقاته لام التعريف. ونحوه
ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1»
والجيد هو التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين. والصَّمَدُ فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج. والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه، وهو الغنى عنهم لَمْ يَلِدْ لأنه لا يجانس، حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا. وقد دل على هذا المعنى بقوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ. وَلَمْ يُولَدْ لأنّ كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس يجسم ولم يكافئه أحد، أى: لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيا للصاحبة: سألوه أن يصفه لهم، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته، فقوله هُوَ اللَّهُ إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها، وفي طىّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم، لأن الخلق يستدعى القدرة والعلم، لكونه واقعا على غاية إحكام واتساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنه حى سميع بصير. وقوله أَحَدٌ وصف بالوحدانية ونفى الشركاء. وقوله الصَّمَدُ وصف بأنه ليس إلا محتاجا إليه، وإذا لم يكن إلا محتاجا إليه: فهو غنى. وفي كونه غنيا مع كونه عالما:
أنه عدل غير فاعل للقبائح «2» ، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله لَمْ يُولَدْ وصف بالقدم والأوّلية. وقوله لَمْ يَلِدْ نفى للشبه والمجانسة. وقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ تقرير لذلك وبت للحكم به: فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه «3» ، فما باله مقدّما في أفصح كلام وأعربه؟ قلت هذا الكلام إنما سيق لنفى المكافأة عن ذات الباري سبحانه، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 448 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «إنه عدل غير فاعل للقبائح» هذا مذهب المعتزلة، وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى هو الخالق لجميع الأشياء خيرها وشرها قبيحها وحسنها. قال تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وعلمه بقبح القبيح لا يمنعه من خلقه، لأنه لحكمة وإن لم يعلمها غيره. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف وقد نص سيبويه على ذلك» قال أحمد:
نقل سيبويه أنه سمع بعض الجفاة من العرب يقرأ: ولم يكن أحدا كفوا له، وجرى هذا الجلف على عادته فجفا طبعه عن لطف المعنى الذي لأجله اقتضى تقديم الظرف مع الخبر على الاسم، وذلك أن الغرض الذي سيقت له الآية نفى المكافأة والمساواة عن ذات الله تعالى، فكان تقديم المكافأة المقصود بأن يسلب عنه أولى، ثم لما قدمت لتسلب ذكر معها الظرف ليبين الذات المقدسة بسلب المكافأة، والله أعلم.(4/818)
الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه، وأحقه بالتقدم وأحراه. وقرئ: كفؤا، بضم الكاف والفاء. وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء: فإن قلت. لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر متنها وتقارب طرفيها؟ قلت: لأمر ما يسود من يسود، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى دليلا من اعترف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم: يشرف بشرفه، ويتضع بضعه، ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله، وإنافته على كل علم، واستيلائه على قصب السبق دونه، ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه، وقلة تعظيمه له، وخلوه من خشيته، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، القائلين بعدلك وتوحيدك، الخائفين من وعيدك. وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين. وروى أبىّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» «1» يعنى ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد فقال: «وجبت» . قيل: يا رسول الله وما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة» «2»
__________
(1) . لم أجده مرفوعا «وأخرجه ابن أبى شيبة في فضائل القرآن من رواية عبد الله بن غيلان الثقفي عن العب الأحبار موقوفا.
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث عبيد بن حنين عن أبى هريرة. وله شاهد في الطبراني الكبير من حديث أبى أمامة.(4/819)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
سورة الفلق
مكية، وقيل مدنية، وآياتها 5 «نزلت بعد الفيل» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
الفلق والفرق: الصبح، لأن الليل يفلق عنه ويفرق: فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل:
هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم: سطع الفرقان، إذا طلع الفجر.
وقيل: هو كل ما يفلقه الله، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقيل: هو واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض: الفلق. والجمع: فلقان. وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالى، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من شر خلقه. وشرهم «1» : ما يفعله المكلفون «2» من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضا من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنهس واللدغ والعض كالسباع والحشرات، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. والغاسق: الليل
__________
(1) . قوله «من شر خلقه وشرهم» لعله وشره، أى: شر خلقه حيوانا أو مواتا. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «معناه من شر خلقه» أى من شر ما يفعله المكلفون ... الخ» قال أحمد: لا يسعه على قاعدته الفاسدة التي هي من جملة ما يدخل تحت هذه الاستعاذة إلا صرف الشر إلى ما يعتقده خالقا لأفعاله، أو لما هو غير فاعل له البتة كالموات: وأما صرف الاستعاذة إلى ما يفعله الله تعالى بعباده من أنواع المحن والبلايا وغير ذلك، فلا، لأنه يعتقد أن الله لا يخلق أفعال الحيوانات، وإنما هم يخلقونها لأنها شر، والله تعالى لا يخلقه لقبحه: كل ذلك تفريع على قاعدة الصلاح والأصلح التي وضح فسادها، حتى حرف بعض القدرية الآية، فقرأ: من شر ما خلق بتنوين شر وجعل ما نافية.(4/820)
إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ومنه: غسقت العين امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة امتلأت دما. ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء. ويقال: وقبت الشمس إذا غابت.
وفي الحديث: لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها، يعنى صلاة المغرب «1» . وقيل:
هو القمر إذا امتلأ، وعن عائشة رضى الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذى بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب «2» . ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده. ويجوز أن يراد بالغاسق: الأسود من الحيات: ووقبه: ضربه ونقبه.
والوقب: النقب. ومنه: وقبة الثريد، والتعوّذ من شر الليل لأن انبثاثه فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب. ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. وقولهم: أغدر الليل، لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه النَّفَّاثاتِ النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها «3» ويرقين: والنفث النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك «4» ، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شيء ضار، أو سقيه، أو إشمامه. أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكنّ الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشو والرعاع «5» إليهنّ وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به. فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن «6» ؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك. والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن. والثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن، ويجوز أن يراد
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث من طريق عبيد الله بن عقبة مرسلا.
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى كلهم من طريق ابن أبى ذئب عن خالد الحرث بن عبد الرحمن عن أبى سلمة عنها.
(3) . قال محمود: «هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن عليها ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم أن قاعدة القدرية إنكار حقيقة السحر، على أن الكتاب والسنة قد وردا بوقوعه والأمر بالتعوذ منه. وقد سحر صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر. والحديث مشهور، وإنما الزمخشري استفزه الهوى حتى أنكر ما عرف، وما به إلا أن يتبع اعتزاله ويغطى بكفه وجه الغزالة»
(4) . قوله «ولا تأثير لذلك» مبنى على مذهب المعتزلة من أنه لا حقيقة للسحر ولا تأثير له. وذهب أهل السنة إلى إثباته وإثبات تأثيره لظاهر الكتاب والسنة. (ع)
(5) . قوله «فينسب الحشوية والرعاع» في الصحاح «الرعاع» : الأحداث الطغام. وفيه «الطغام» : أو غاد الناس وفيه «الوغد» : الرجل الدنى. الذي يخدم بطعام بطنه. (ع)
(6) . قال محمود: «فان قلت: ما معنى الاستعاذة من شرهن، وأجاب ... الخ» قال أحمد: وهذا من الطراز الأول قعد عنه جانبا، ولو فسر غيره التفاثات في العقد بالمتخيلات من النساء ولسن ساحرات حتى يتمم إنكار وجود السحر: لعده من يدع التفاسير.(4/821)
بهن النساء الكيادات، من قوله إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد.
أو اللاتي يفتن الرجال بتعرّضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك إِذا حَسَدَ إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه: من بغى الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره. وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد. ويجوز أن يراد بشر الحاسد: إثمه وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهاره أثره. فإن قلت: قوله مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ قلت: قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به. وقالوا: شر العداة المداجى الذي يكيدك من حيث لا تشعر. فإن قلت: فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ قلت: عرفت النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضرّ. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلا في اثنتين «1» » وقال أبو تمام:
وما حاسد في المكرمات بحاسد «2»
وقال:
إنّ العلا حسن في مثلها الحسد «3»
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها» «4» .
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عمر رضى الله عنهما والبخاري من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(2) .
وإنى لمحسود وأعذر حاسدي ... وما حاسدي في المكرمات بحاسد
لأبى تمام. يقول: إنى جامع للخصال الحميدة، فالحسد كناية عن ذلك. وعذر يعذر كضرب يضرب، أى: أن حاسدي معذور لحسن صفاتي وعظمها، وليس الحاسد في الخصال الحميدة بحاسد مذموم، بل مغتبط ممدوح.
(3) .
فافخر فما من سماء للعلا ارتفعت ... إلا وأفعالك الحسنى لها عمد
واعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إن العلا حسن في مثلها الحسد
لأبى تمام. وشبه القدر المرتفع بالسماء، واستعارها له على طريق التصريح، والارتفاع ترشيح، لأنه خاص بالمحسوسات وشبه الأفعال الجميلة بأعمدة السماء تشبيها بليغا، لأن بها الارتفاع المعنوي.
(4) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب، وقد مضى غير مرة أنها واهنة، وأن الحديث المرفوع في ذلك موضوع، والله أعلم.(4/822)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة الناس
مكية، وقيل مدنية، وآياتها 6 [نزلت بعد الفلق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قرئ: قل أعوذ، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، ونحوه. فخذ أربعة. فإن قلت: لم قيل «1» بِرَبِّ النَّاسِ مضافا إليهم خاصة؟ قلت: لأنّ الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس. فكأنه قيل، أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالى أمرهم.
فإن قلت: مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ ما هما من رب الناس؟ قلت: هما عطف بيان، كقولك:
سيرة أبى حفص عمر الفاروق. بين بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره:
رب الناس، كقوله اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إِلهِ النَّاسِ فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. فإن قلت: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ قلت: لأنّ عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار الْوَسْواسِ اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال. والمراد به الشيطان، سمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه. أو أريد ذو الوسواس. والوسوسة: الصوت الخفي. ومنه: وسواس الحلي.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم أضاف اسمه تعالى إليهم خاصة وهو رب كل شيء ... الخ» قال أحمد: وفي التخصيص جرى على عادة الاستعطاف، فانه معه أتم. عاد كلامه قال: واله الناس عطف بيان لملك الناس. أو كلاهما عطف بيان للأول، والثاني أبين: لأن ملك الناس قد يطلق لغير الله تعالى، وأما إله الناس فلا يطلق إلا له عز وجل، فجعل غاية للبيان، وزبد البيان بتكرار ظاهر غير مضمر، والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا ما يسر الله من القول» وإنى أبرأ إلى الله تعالى من القوة والحول، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/823)
والْخَنَّاسِ الذي عادته أن يخنس، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات «1» لما روى عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه الَّذِي يُوَسْوِسُ يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الْخَنَّاسِ ويبتدئ الَّذِي يُوَسْوِسُ على أحد هذين الوجهين مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان الذي يوسوس، على أن الشيطان ضربان: جنى وإنسى، كما قال شياطين الإنس والجن. وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال لرجل: هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون مِنَ متعلقا بيوسوس، ومعناه: ابتداء الغاية، أى:
يوسوس في صدورهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس، وقيل: من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة، واستدلوا بنفر ورجال: في سورة الجن. وما «2» أحقه، لأن الجن سموا «جنا» لاجتنانهم، والناس «ناسا» لظهورهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سموا بشرا، ولو كان يقع الناس على القبيلين، وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع. وأجود منه أن يراد بالناس: الناسي، كقوله يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ كما قرئ مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ثم يبين بالجنة والناس، لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أنزلت علىّ سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما «3» » يعنى المعوذتين. ويقال للمعوذتين: المقشقشتان.
__________
(1) . قوله «كالعواج والبتات» بائع العاج، وبائع البتوت: وهي ضرب من الثياب. (ع)
(2) . قوله «وما أحقه» في الصحاح: حققت الأمر: واحتققته: إذا تحققته وصرت منه على يقين. (ع) [.....]
(3) . لم أجده بهذا اللفظ. وأوله في مسلم بمعناه من حديث عقبة بن عامر رضى الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له. ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وآخره في ابن حبان من حديث عقبة بمعناه. وأيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لأن يقرأ سورة أحب إلى الله ولا أبلغ من قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، فان استطعت أن لا تدعهما في صلاة فافعل» .(4/824)
قال عبد الله الفقير إليه: وأنا أعوذ بهما وبجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة، من كل ما يكلم الدين، ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم «1» ، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخدّ لجلاله الأعظم الأكبر، مستشفعا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلا بالتوبة الممحصة للآثام، وبما عنيت به من مهاجرتى إليه ومجاورتي، ومرابطتى بمكة ومصابرتى، على تواكل من القوى، وتخاذل من الخطا، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين وعرق الجبين، في عمل الكشاف عن حقائقه، المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه. الملخص لنكته ولطائف نظمه، المنقر عن فقره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنة التي لا توجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه «2» ومعانيه، مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول، ولو لم يكن في مضمونه إلا إيراد كل شيء على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأحبار، وجوهرة يتمنى العثور عليها غاصة البحار، وبما شرفني به ومجدنى، واختصني بكرامته وتوحدني: من ارتفاعه على يدي في مهبط بشاراته ونذره، ومتنزل آياته وسوره، من البلد الأمين بين ظهراني الحرم، وبين يدي البيت المحرم، حتى وقع التأويل، حيث وجد التنزيل: أن يهب لي خاتمة الخير، ويقينى مصارع السوء، ويتجاوز عن فرطاتى يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤس الأشهاد، ويحلني دار المقامة من فضله، بواسع طوله وسابغ نوله، إنه الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم.
(في نسخة ما نصه:) في أصل المصنف بخطه رحمه الله تعالى: وهذه النسخة هي نسخة الأصل الأولى التي نقلت من السواد، وهي أم الكشاف الحرمية المباركة المتمسح بها، المحقوقة أن تستنزل بها بركات السماء ويستمطر بها في السنة الشهباء، فرغت منها يد المصنف تجاه الكعبة في جناح داره السليمانية، التي على باب أجياد الموسومة بمدرسة العلامة: ضحوة يوم الاثنين لثالث والعشرين من ربيع الآخر في عام ثمانية وعشرين وخمسمائة، وهو حامد لله على باهر كرمه، ومصل على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) . قوله «المسوط باللحم والدم» أى: المخلوط. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «من بدع ألفاظه» في الصحاح «شيء بدع» بالكسر: أى مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر، أى: بديع (ع)(4/825)