وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
وأخبر بحال لوط وحال قومه، وامتيازه منهم الامتياز البين، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب. وقرئ لَنُنَجِّيَنَّهُ بالتشديد والتخفيف، وكذلك منجوك.
[سورة العنكبوت (29) : آية 33]
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)
أَنْ صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث «1» ، خيفة عليهم من قومه وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أى طاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع: عبارة عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا، إذا كان مطيقا له، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 34 الى 35]
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
الرجز والرجس: العذاب، من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب. وقرئ مُنْزِلُونَ مخففا ومشدّدا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً هي آثار منازلهم الخربة. وقيل: بقية الحجارة. وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض. وقيل: الخبر عما صنع بهم لِقَوْمٍ متعلق بتركنا أو ببينة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
وَارْجُوا وافعلوا ما ترجون به العاقبة. فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا بالرجاء:
والمراد: اشتراط ما يسوّغه من الإيمان، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط. وقيل:
هو من الرجاء بمعنى الخوف. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وعن الضحاك: صيحة جبريل عليه السلام، لأنّ القلوب رجفت لها فِي دارِهِمْ في بلدهم وأرضهم. أو في ديارهم، فاكتفى بالواحد
__________
(1) . قوله «من غير ريث» أى بطء. (ع)(3/453)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
لأنه لا يلبس جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين.
[سورة العنكبوت (29) : آية 38]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
وَعاداً منصوب بإضمار «أهلكنا» لأن قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يدل عليه، لأنه في معنى الإهلاك وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ذلك: يعنى ما وصفه من إهلاكهم مِنْ جهة مَسْكَنِهِمْ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ عقلاء متمكنين من النظر والافتكار، ولكنهم لم يفعلوا. أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، ولكنهم لجوا حتى هلكوا.
[سورة العنكبوت (29) : آية 39]
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39)
سابِقِينَ فائتين، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه.
[سورة العنكبوت (29) : آية 40]
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
الحاصب: لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء. وقيل: ملك كان يرميهم. والصيحة:
لمدين وثمود. والخسف: لقارون. والغرق: لقوم نوح وفرعون.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 42]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة. وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ؟ فإن قلت: ما معنى قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وكل(3/454)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت: معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. ووجه آخر: وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت يتخذ بيتا، بالإضافة إلى رجل يبنى بيتا بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون.
قرئ: تدعون، بالتاء والياء. وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلا، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا بحكمة وتدبير.
[سورة العنكبوت (29) : آية 43]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنّ ربّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أى لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه «1» » :
[سورة العنكبوت (29) : آية 44]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
بِالْحَقِّ أى بالغرض الصحيح «2» الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته: ألا ترى إلى قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ونحوه قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ثم قال ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) . أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحارث بن أبى أسامة في مسنده عنه من حديث جابر، وأخرجه من طريق الحارث الثعلبي والواحدي: والبغوي، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
(2) . قال محمود: «أى بالغرض الصحيح» قال أحمد: لفظة قدرية ومعتقد ردىء قد تقدم إنكاره على القدرية، ولو كان ما قالوه حقا من حيث المعنى، لوجب اجتناب هذه العبارة التي لا تليق بالأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/455)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
الصلاة تكون لطفا في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب: أن يدخل فيها مقدّما للتوبة النصوح، متقيا، لقوله تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح، فقد روى عن حاتم: كأنّ رجلي على الصراط والجنة عن يمينى والنار عن يساري وملك الموت من فوقى، وأصلى بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا «1» . وعن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. وقيل: من كان مراعيا للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهى عن السيئات يوما ما، فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ فلانا يصلى بالنهار ويسرق بالليل، فقال «إنّ صلاته لتردعه» «2» وروى أنّ فتى من الأنصار كان يصلى معه الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له فقال «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب «3» . وعلى كل حال إنّ المراعى للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وأيضا فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضى أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إنّ زيدا ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها
__________
(1) . أخرجه الطبراني من رواية العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس بهذا موقوفا. ورواه الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق ليث عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وفي الباب عن ابن عمر. أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفي إسناده محمد بن الحسن البصري. قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. يروى عن مالك ما لا أصل له. وأخرجه أحمد في الزهد من قول ابن مسعود. وأخرجه عبد الرزاق والطبري والبيهقي في الشعب من مرسل الحسن
(2) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والبزار وأبو يعلى من طريق عيسى بن يونس ووكيع ومجاهد عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة. قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن فلانا يصلى بالليل فإذا أصبح سرق.
فقال إن صلاته ستنهاه ورواه البزار من طريق زياد البكائى وأبو يعلى من طريق أبى إسحاق الفزاري كلاهما عن الأعمش عن أبى صالح عن جابر. قال البزار: اختلف فيه عن الأعمش فقيل عنه أيضا عن أبى سفيان عن جابر
(3) . لم أجده(3/456)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
بذكر الله كما قال فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وإنما قال: ولذكر الله: ليستقلّ بالتعليل، كأنه قال:
وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب.
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة التي هي أحسن: وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم.
والسورة بالأناة، كما قال. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة.
وقيل: معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ولا مجادلة أشدّ من السيف: وقوله قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من جنس المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدّقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم «1» .
[سورة العنكبوت (29) : آية 47]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)
ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أى: أنزلناه مصدّقا لسائر الكتب السماوية، تحقيقا لقوله آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم. وقيل: كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا
__________
(1) . أخرجه أبو داود، وابن حبان وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني، من طريق الزهري أخبرنى ابن أبى نملة الأنصارى أن أباه أبا نملة الأنصارى أحبره. قال «بينا هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فذكر قصة هذا فيها» هذا هو المعروف في إسناد هذا الحديث وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين من رواية بقية عن الزبير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة به. وأصل الحديث في البخاري من حديث أبى هريرة باختصار(3/457)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
إليك الكتاب فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه وَمِنْ هؤُلاءِ من أهل مكة وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، ومن هؤلاء ممن في عهده منهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 الى 49]
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
وأنت أمىّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط إِذاً لو كان شيء من ذلك، أى، من التلاوة والخط لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمى لا يكتب ولا يقرأ وليس به. أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده. فإن قلت:
لم سماهم مبطلين، ولو لم يكن أمّيا وقالوا: ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين؟
ولكان أهل مكة أيضا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارئ كاتب؟ قلت: سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمىّ بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّيا لارتابوا أشدّ الريب، فحين ليس «1» بقارئ كاتب فلا وجه لارتيابهم. وشيء آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين «2» ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذا هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى.
فان قلت: ما فائدة قوله بيمينك؟ قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات، رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته، فكذلك النفي بَلْ القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ العلماء به وحفاظه، وهما من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهرا: بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات،
__________
(1) . قوله «فحين ليس» لعله فحين كان ليس. (ع)
(2) . قوله «على أن المنزلين ليسا بمعجزين» لعله: المنزلين عليهما. (ع)(3/458)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» «1» وَما يَجْحَدُ بآيات الله الواضحة، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 الى 52]
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
قرئ: آية، وآيات. أرادوا: هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول، أنزل علىّ آية كذا دون آية كذا، مع علمى أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية مغنية عن سائر الآيات- إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ، كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان. إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة لا تشكر. وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وقيل: أو لم يكفهم، يعنى اليهود: أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. وقيل: إنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، فنزلت «2» . والوجه ما ذكرناه كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وأنكم قابلتمونى بالجحد والتكذيب يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
__________
(1) . أخرجه الطبراني من روآية سنان بن الحارث عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعا في أثناء حديث وروى الواقدي في الردة عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبى ربيعة عن أبيه أن يهوديا من أهل سبأ يقال له نعمان، وكان أعلم أحبار يهود فذكر قصة فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم في سفر عندهم مختوم وفيه هذا. [.....]
(2) . أخرجه الطبري وأبو داود في المراسيل من طريق يحيى بن جعدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم من المسلمين بكتاب في كتف» فذكر نحوه ولفظ الطبري كالأصل.(3/459)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
فهو مطلع على أمرى وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ منكم وهو ما تعبدون من دون الله وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وآياته أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف، كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وكقول حسان:
فشر كما لخير كما الفداء «1»
وروى أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد، من يشهد لك بأنك رسول الله، فنزلت.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيبا، والنضر بن الحرث هو الذي قال: اللهم أمطر علينا حجارة من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: فأسقط علينا كسفا من السماء وَلَوْلا أَجَلٌ قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روى أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة «2» .
وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم لَمُحِيطَةٌ أى ستحيط بهم يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ أو هي محيطة بهم في الدنيا: لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم. ويَوْمَ يَغْشاهُمُ على هذا منصوب بمضمر، أى: يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كقوله تعالى لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، وَيَقُولُ قرئ بالنون والياء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى جزاءه.
[سورة العنكبوت (29) : آية 56]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
معنى الآية: أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . لم أجده.(3/460)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جرّبنا وجرّب أوّلونا، فلم نجد فيما درنا وداروا: أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة- من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم «1» ومحمد» وقيل: هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
في المتكلم، نحو: إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير: فإياى فاعبدوا: فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في فَاعْبُدُونِ
وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.
[سورة العنكبوت (29) : آية 57]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت «2» ، أتبعه قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أى واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ومعناه: إنكم ميتون فواصلون الى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 الى 59]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ علالي. وقرئ: لنثوّينهم، من الثواء وهو النزول للإقامة.
يقال: ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى: غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن وقد تقدم في النساء.
(2) . قوله «أوفق البلاد وإن شعست» أى بعدت. (ع)(3/461)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا، نحو: ذهب، وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم. أو حذف الجار وإيصال الفعل: أو تشبيه الظرف المؤقت «1» بالمبهم. وقرأ يحيى بن وثاب: فنعم، بزيادة الفاء الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله.
[سورة العنكبوت (29) : آية 60]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة، فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أى لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تدّخره، إنما تصبح فيرزقها الله. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة.
وعن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم: نخشى الفقر والضيعة الْعَلِيمُ بما في ضمائركم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 61]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
الضمير في سَأَلْتَهُمْ لأهل مكة فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض.
[سورة العنكبوت (29) : آية 62]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه. فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله وَيَقْدِرُ لَهُ هو من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد. قلت: يحتمل الوجهين جميعا:
أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع من يشاء، لأن لِمَنْ يَشاءُ مبهم غير معين، فكان الضمير مبهما مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
__________
(1) . قوله «الظرف المؤقت» أى المحدد، وهو الغرف. (ع)(3/462)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)
استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقرارا عاطلا كاقرار المشركين، وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم، ثم قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟
[سورة العنكبوت (29) : آية 64]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
هذِهِ فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة. يريد: ما هي- لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها- إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أى ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت «1» فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان: مصدر حي، وقياسه حييان، فقلبت الياء الثانية واوا، كما قالوا: حيوة، في اسم رجل، وبه سمى ما فيه حياة: حيوانا. قالوا: اشتر من الموتان، ولا تشتر من الحيوان «2» . وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنغصان واللهبان «3» ، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها.
__________
(1) . قال محمود: «إنما عدل عن الحياة إلى هذا البناء تنبيها على تعظيم حياة الآخرة ودوامها» قال أحمد:
والذي يخص هذا البناء به إفادة ما لا يخلو من الحركة، كالنزوان والجولان. والحيوان من ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «اشتر من الموتان ... الخ» الذي في الصحاح: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان. أى: اشتر الأرض والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب اه (ع)
(3) . قوله «كالنزوان والنغضان واللهبان» في الصحاح «اللهبان» بالتحريك: اتقاد النار. (ع)(3/463)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 66]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
فإن قلت: بم اتصل قوله فَإِذا رَكِبُوا؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلها آخر. وفي تسميتهم مخلصين: ضرب من التهكم فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ وآمنوا عادوا إلى حال الشرك: واللام في لِيَكْفُرُوا محتملة أن تكون لام كى، وكذلك في وَلِيَتَمَتَّعُوا فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا- بالعود إلى شركهم- كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية. ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى إلى ضرر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم، حردت «1» عليه وقلت:
أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر. وكيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة، فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت وتبعث عليه، ليتبين لك- إذا فعلت- صحة رأى الناصح وفساد رأيك.
[سورة العنكبوت (29) : آية 67]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا، ويتغاورون، ويتناهبون، وأهل مكة قارّون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة
__________
(1) . قوله «حردت عليه» أى غضبت. أفاده الصحاح. (ع)(3/464)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده مكفورة عندهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 68]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
افتراؤهم على الله كذبا: زعمهم أن لله شريكا. وتكذيبهم بما جاءهم من الحق: كفرهم بالرسول والكتاب. وفي قوله لَمَّا جاءَهُ تسفيه لهم، يعنى: لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور: يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر، ويستأنون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه أَلَيْسَ تقرير لثوائهم في جهنم، كقوله:
ألستم خير من ركب المطايا «1»
قال بعضهم: ولو كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل. وحقيقته: أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير، فهما وجهان، أحدهما: ألا يثوون في جهنم، وألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟.
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول، ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين فِينا في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا، كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وعن أبى سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ لناصرهم ومعينهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين «2» » .
__________
(1) .
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
لجرير: في عبد الملك بن مروان. والاستفهام للإنكار، يعنى: لا تنتفى زيادتكم في الفضل والكرم على جميع الناس ومن ركب المطايا: كناية عنهم، لأن الركوب من خواصهم. والراح: اسم جمع واحده راحة، وهي ما عدا الأصابع من الكف، وذلك كناية عن الكرم، لأن بها بذل المعروف في العادة. قيل: لما بلغ جرير هذا البيت في القصيدة، كان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا فرحا وقال: هكذا مدحنا. وأعطاه مائة من الإبل.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب.(3/465)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
سورة الروم
مكية، إلا آية 17 فمدنية وآياتها 60 [نزلت بعد الانشقاق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
القراءة المشهورة الكثيرة غُلِبَتِ بضم الغين. وسيغلبون بفتح الياء. والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أى: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال مجاهد: هي أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الأردن وفلسطين. وقرئ: في أدانى الأرض. والبضع ما بين الثلاث إلى العشر عن الأصمعى. وقيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين «1» ، لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنّ نحن عليكم، فنزلت. فقال لهم
__________
(1) . أخرجه سنيد بن أبى داود في تفسيره: حدثني حجاج هو ابن محمد الأعور عن أبى بكر بن عبد الله عن عكرمة قال «كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الأبطال فدعاها كسرى فقال إنى أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيرى علىّ: أيهم أستعمل؟ فأشارت عليه بولد لها يدعي شهرابرز. فاستعمله. قال أبو بكر بن عبد الله فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم فالتقيا بأذرعات وبصرى فغلبتهم فارس فذكر القصة قلت ولها طرق جمعتها في أول شرحي الكبير على البخاري، وقصة أبى بكر في المراهنة رواها الترمذي وغيره من حديث نيار بن مكرم الأسلمى وسياقها مخالف لسياق هذه القصة.(3/466)
أبو بكر رضى الله عنه: لا يقرّر الله أعينكم، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبى بن خلف. كذبت يا أبا فصيل، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه. والمناحبة: المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل. فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. ومات أبىّ من جرح رسول الله، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبى، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدّق به. وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وقرئ: غلبهم، بسكون اللام. والغلب والغلب.
مصدران كالجلب والجلب، والحلب والحلب. وقرئ: غلبت الروم، بالفتح. وسيغلبون، بالضم. ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين. وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم، وإضافة غلبهم تختلف باختلاف القراءتين، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول. وفي الثانية إضافته إلى الفاعل. ومثالهما مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ. فإن قلت: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت: عن قتادة رحمه الله أنه كان ذلك قبل تحريم القمار. ومن مذهب أبى حنيفة ومحمد: أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار. وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبىّ بن خلف مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أى في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين. ومن بعد كونهم مغلوبين، وهو وقت كونهم غالبين، يعنى أن كونهم مغلوبين أوّلا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله وقضائه وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وقرئ: من قبل ومن بعد، على الجرّ من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه. كأنه قيل: قبلا وبعدا، بمعنى أوّلا وآخرا وَيَوْمَئِذٍ ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله عزّ وجل من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. وقيل:
نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم وقيل نصر الله. أنه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمهم، حتى تفانوا وتناقصوا، وفل «1» هؤلاء شوكة هؤلاء وفي ذلك قوّة للإسلام. وعن أبى سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر، وفي هذا اليوم نصر المؤمنون وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ينصر عليكم تارة وينصركم أخرى.
__________
(1) . قوله «وقل هؤلاء شوكة هؤلاء» أى كسرها. أفاده الصحاح. (ع) [.....](3/467)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
[سورة الروم (30) : الآيات 6 الى 7]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، كقولك: لك علىّ ألف درهم عرفا، لأنّ معناه: أعترف لك بها اعترافا، ووعد الله ذلك وعدا، لأنّ ما سبقه في معنى وعد. ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا، بله في أمر الدين، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب. وعن الحسن.
بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بإصبعه، فيعلم أرديء هو أم جيد. وقوله يَعْلَمُونَ بدل من قوله لا يَعْلَمُونَ وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم «1» بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة: يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر: أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة الظواهر. و «هم» الثانية يجوز أن يكون مبتدأ. وغافِلُونَ خبره، والجملة خبر «هم» الأولى، وأن يكون تكريرا للأولى، وغافلون خبر الأولى. وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
فِي أَنْفُسِهِمْ يحتمل أن يكون ظرفا، كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أى:
في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك:
تفكر في الأمر وأجال فيه فكره. وما خَلَقَ متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه: فيعلموا، لأنّ في الكلام دليلا عليه إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
__________
(1) . قال محمود: «يعلمون بدل من الأول، وفي البدل نكتة وهي الاشعار بأنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين العلم بظاهر الدنيا، حتى كأنهما شيء واحد، فأبدل أحدهما من الآخر. وفائدة تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها» قال أحمد: وفي التنكير تقليل لمعلومهم وتقليله يقربه من النفي حتى يطابق المبدل منه. وروى عن الحسن أنه قال في تلاوته هذه الآية: بلغ من صدق أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم ردى.(3/468)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
أى ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة: وإنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا. والباء في قوله إِلَّا بِالْحَقِّ مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت: إذا جعلت فِي أَنْفُسِهِمْ صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت: معناه: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.
[سورة الروم (30) : آية 9]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وحرثوها قال الله تعالى لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وقيل لبقر الحرث: المثيرة. وقالوا: سمى ثورا لإثارته الأرض وبقرة، لأنها تبقرها أى تشقها وَعَمَرُوها يعنى أولئك المدمّرون أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكة. وأهل مكة: أهل واد غير ذى زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلا، ولا عمارة لها رأسا فما هو إلا تهكم بهم، وبضعف حالهم في دنياهم، لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة «1» ، وهم أيضا ضعاف القوى، فقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أى عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل، كقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وإن كان هذا أبلغ، لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلما لهم، لأنّ حاله منافية للظلم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم.
__________
(1) . قوله «أمر الدهقنة» أي الزراعة (ع)(3/469)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
[سورة الروم (30) : آية 10]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قرئ عاقبة بالنصب والرفع. والسُّواى تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم سوأى إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أى: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين. وأَنْ كَذَّبُوا بمعنى لأن كذبوا. ويجوز أن يكون أن بمعنى: أى، لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول، نحو: نادى. وكتب، وما أشبه ذلك. ووجه آخر: وهو أن يكون أَساؤُا السُّواى بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا، وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو، إرادة الإبهام.
[سورة الروم (30) : آية 11]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أى إلى ثوابه وعقابه. وقرئ بالتاء والياء.
[سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 13]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13)
الإبلاس: أى يبقى بائسا ساكنا متحيرا. يقال: ناظرته فأبلس، إذا لم ينبس «1» ويئس من أن يحتجّ. ومنه الناقة المبلاس: التي لا ترغو. وقرئ: يبلس، بفتح اللام، من أبلسه إذا أسكته مِنْ شُرَكائِهِمْ من الذين عبدوهم من دون الله وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أى يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها. أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. وكتب «شفعواء» في المصحف بواو قبل الألف، كما كتب «علمؤا بنى إسرائيل» وكذلك كتبت «السوأى» بألف قبل الياء إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.
[سورة الروم (30) : الآيات 14 الى 16]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
__________
(1) . قوله «إذا لم ينبس» أى لم يتكلم. أفاده الصحاح. (ع)(3/470)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
الضمير في يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضى الله عنه:
هو تفرّق المسلمين والكافرين: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين- وعن قتادة رضى الله عنه: فرقة لا اجتماع بعدها فِي رَوْضَةٍ في بستان، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء. وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون: بيضة النعامة يُحْبَرُونَ يسرون. يقال: حبره إذا سرّه سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره. ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسارّ، فعن مجاهد رضى الله عنه:
يكرمون. وعن قتادة: ينعمون. وعن ابن كيسان: يحلون. وعن أبى بكر بن عياش: التيجان على رءوسهم. وعن وكيع: السماع في الجنة. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم «1» ، وفي آخر القوم أعرابىّ فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟
قال: «نعم يا أعرابى، إنّ في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء، بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروى «إنّ في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة» فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا «2» » مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، كقوله:
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ.
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجى من الوعيد. والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة. وقيل: الصلاة. وقيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء تُصْبِحُونَ صلاة
__________
(1) . في طريق سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله الجنبي عن عمه أبى مشجعة عن أبى الدرداء قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها ... الحديث» وسليمان منكر الحديث.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية عبد الله بن عرادة الشيباني أحد الضعفاء عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم بهذا. وروى إسحاق في مسنده من رواية مجاهد قيل لأبى هريرة «هل في الجنة من سماع؟ قال نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من الفضة وثمرها الياقوت والزبرجد يبعث لها ريح فيحرك بعضها بعضا. فما سمع شيء قط أحسن منه» .(3/471)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر. وتُظْهِرُونَ صلاة الظهر. وقوله وَعَشِيًّا متصل بقوله حِينَ تُمْسُونَ وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض بينهما. ومعناه: إنّ على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. فإن قلت: لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت: لأنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. والقول الأكثر أنّ الخمس إنما فرضت بمكة. وعن عائشة رضى الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين «1» فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ... الآية «2» » وعنه عليه السلام «من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ- إلى قوله- وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه. ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته في ليلته «3» » وفي قراءة عكرمة:
حينا تمسون وحينا تصبحون. والمعنى: تمسون فيه وتصبحون فيه، كقوله يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً بمعنى فيه الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الطائر من البيضة، والْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ
البيضة من الطائر. وإحياء الأرض: إخراج النبات منها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون. والمعنى: أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحىّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي. وقرئ: الميت، بالتشديد «4» . وتخرجون، بفتح التاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ لأنه خلق أصلهم منه. وإِذا للمفاجأة. وتقديره: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، كقوله وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لأن حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الألف والسكون،
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة واللفظ لأحمد وسياقه أتم
(2) . أخرجه الثعلبي من حديث أنس وفي إسناده بشر بن الحسين وهو ساقط.
(3) . أخرجه أبو داود والعقيلي وابن عدى من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف. وقال البخاري: لا يصح.
(4) . قوله «وقرئ الميت بالتشديد» يفيد أن القراءة المشهورة بالتخفيف. (ع)(3/472)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وما بين الجنسين المختلفين من التنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ التوادّ والتراحم بعصمة الزواج، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم وعن الحسن رضى الله عنه: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال وَرَحْمَةً مِنَّا وقال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ. ويقال: سكن إليه، إذا مال إليه، كقولهم: انقطع إليه، واطمأن إليه- ومنه السكن. وهو الإلف المسكون إليه. فعل بمعنى مفعول. وقيل: إن المودة والرحمة من قبل الله وإن الفرك من قبل الشيطان «1» .
[سورة الروم (30) : آية 22]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
الألسنة: اللغات. أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحلىّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد، وفرّعوا من أصل فذ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون. وقرئ: للعالمين بفتح اللام وكسرها، ويشهد للكسر قوله تعالى وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.
[سورة الروم (30) : آية 23]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
هذا من باب اللفّ وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين. لأنهما زمانان. والزمان والواقع فيه كشيء واحد، مع إعانة اللفّ على الاتحاد. ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين، وابتغاءكم فيهما، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية.
__________
(1) . قوله «وإن الفرك من قبل الشيطان» في الصحاح «الفرك» بالكسر: البغض. (ع)(3/473)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
[سورة الروم (30) : آية 24]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
في يُرِيكُمُ وجهان: إضماران، وإنزال الفعل منزلة المصدر، وبهما فسر المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقول القائل:
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذى أثير «1»
خَوْفاً من الصاعقة أو من الإخلاف وَطَمَعاً في الغيث. وقيل: خوفا للمسافر، وطمعا للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له. فإن قلت: من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن المفعولين فاعلون في المعنى، لأنهم راءون، فكأنه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوف وإرادة طمع «2» ، فحذف المضاف وأقيم المضاف
__________
(1) .
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير
سقونى الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذى أثير
لعروة بن الورد العبسي، وأرقت: سهرت. والواو للمعية. والمضيق المكان الضيق. وعمق- بكسر فسكون-:
شجر ببلاد الحجاز، وبضم ففتح: موضع منخفض عند مكة، ولعله سكن هنا للوزن، ولبرق: متعلق بأرقت، أى سهرت في هذا الموضع لأجل برق من تهامة جهة محبوبتى، ويحتمل أن الواو حالية، وصحبتي مبتدأ خبره بمضيق عمق، وإذا كان أصحابه فيه فهو فيه، فرجع إلى الأول، ومستطير: منتشر. وروى: سقونى النسيء. ونسأت اللبن: خلطته بماء، فالنسىء: هو اللبن المخلوط بماء، وتكنفوني: أحاطوا بى، وعداة: جمع عاد بمعنى عدو.
وقيل: جمع عدو، أى: هم أعداء الله من أجل كذبهم وزورهم، وهي جملة اعتراضية، ويحتمل أن «عداة» بدل من ضمير الفاعل. أو فاعل على لغة من قال: أكلونى البراغيث، أى: أحاطوا بى وقالوا: ما الذي تريده، فقلت: ألهو، أى: هو أن ألهو، فأن: مقدرة معنى، وإن لم ينصب الفعل لفظا. وقال الجوهري: يقال افعل هذا آثر ذى أثير، أى: أول كل شيء، فأشار إلى أن آثر: نصب على الظرفية المجازية أو الحالية، أى افعله حال كونه أول كل شيء يؤثر، فهو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، ونص ابن الحاجب على جواز ذلك ووروده قليلا، وأثره بقصر الهمزة ومدها: إذا قدمه على غيره، وأثير: اسم مفعول بمعنى مأثور. أو حقيق بالتقدم، فالمعنى: أول كل شيء صاحب شيء مأثور، فيكون هو الأثير المقدم. أو التقدير: لهوى طول الليل هو المقدم عندي.
(2) . قال محمود: فان قلت: أينصب خوفا وطمعا مفعولا لهما وليسا فعلى فاعل الفعل المعلل، فما وجه ذلك؟ قلت:
المفعولون هنا فاعلون لأنهم راءون، فتقديره: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. أو على حذف مضاف، تقديره: إرادة خوفكم وطمعكم» قال أحمد: الخوف والطمع من جملة مخلوقات الله تعالى وآثار قدرته، وحينئذ يلزم اجتماع شرائط النصب فيهما وهي كونهما مصدرين ومقارنين في الوجود، والفاعل الخالق واحد، فلا بد من التنبيه على تخريج النصب على غير هذا الوجه، فنقول: معنى قول النحاة في المفعول له لا بد وأن يكون فعل الفاعل، أى: ولا بد أن يكون الفاعل متصفا به، مثاله إذا قلت: جئتك إكراما لك، فقد وصفت نفسك بالإكرام فقلت في المعنى: جئتك مكرما لك، والله تعالى- وإن خلق الخوف والطمع لعباده- إلا أنه مقدس عن الاتصاف بهما، فمن ثم احتيج إلى تأويل النصب على المذهبين جميعا. والله أعلم.(3/474)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
إليه مقامه. ويجوز أن يكونا حالين، أى: خائفين وطامعين. وقرئ: ينزل بالتشديد «1» .
[سورة الروم (30) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)
وَمِنْ آياتِهِ قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد بِأَمْرِهِ أى بقوله:
كونا قائمتين. والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال. وقوله إِذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله: يريكم، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور اخرجوا.
والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه، كما قال القائل:
دعوت كليبا دعوة فكأنّما ... دعوت به ابن الطّود أو هو أسرع «2»
يريد بابن الطود: الصدى، أو الحجر إذا تدهدى، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر» كما قال تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. قولك: دعوته من مكان كذا، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك، تقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل علىّ، ودعوته من أسفل
__________
(1) . قوله «وقرئ ينزل بالتشديد» يفيد أن المشهور بالتخفيف. (ع)
(2) . يقول: دعوت كليبا. ويروى: خليدا، دعوة واحدة فأجابني بسرعة كأنى دعوت به ابن الطود: وهو الجبل العظيم، وابنه الصدى: الذي يحاكى صوت الصائح عقب صياحه. أو: الحجر إذا هوى منه متدحرجا متدحرجا إلى أسفل. وسمى ابنه على سبيل الاستعارة التصريحية، لأنه ناشئ منه وملازم له، ثم إن فيه تجريدا حيث انتزع من كليب أمرا آخر يشبه ابن الطود في السرعة، والباء للملابسة، أى كأنى دعوت ابن الطود ملابسا له. ويحتمل أنها للبدل، أى: دعوت بدله ابن الطود. أو بمعنى من، أى: دعوت منه ابن الطود. وقوله: أو هو، أى: كليب أسرع من ابن الطود في الاجابة. [.....](3/475)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الوادي فطلع إلىّ. فإن قلت: بم تعلق مِنَ الْأَرْضِ أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. فإن قلت: ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت: الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وقرئ: تخرجون، بضم التاء وفتحها قانِتُونَ منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه.
[سورة الروم (30) : آية 27]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم، لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أوّل الغزو أخرق، وتسمون الماهر في صناعته معاودا، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى، حتى مرن عليها وهانت عليه. فإن قلت: لم ذكر الضمير في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ والمراد به الإعادة؟ قلت: معناه: وأن يعيده أهون عليه. فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقدّمت في قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ «1» ؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو علىّ هين، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم «2» وعاقر، وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره «3» ، ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم أخرت الصلة هاهنا وقد قدمت في قوله تعالى هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ؟ قلت: لأن المقصود مما نحن فيه خلاف المقصد هناك، فانه اختصاص الله تعالى بالقدرة على إيلاد الهم والعاقر، وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه، كيف والأمر مبنى على ما يعتقدونه في الشاهد من أن الاعادة أسهل من الابتداء، فالاختصاص بغير المعنى» قال أحمد: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر، وقد علمت مذهبه في مثل ذلك.
(2) . قوله «أن يولد بين همّ وعاقر» في الصحاح «الهم» بالكسر. الشيخ الفاني. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما بال الاعادة استعظمت في قوله ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض؟ قلت: الاعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء» قال أحمد: إنما يلقى في السؤال تعظيم الاعادة من عطفها بثم، إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها. وقوله في الجواب: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء لا يخلص، فان الاعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره. وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الاعادة، فيلزم تعظيم الاعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه عن الإنشاء ويعود الاشكال، والمخلص- والله أعلم- جعل ثم على بابها لتراخى الزمان لا لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا. وذلك نادر في مجيئها لتراخى المراتب، فان المعطوف حينئذ في أكثر المواضع أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم.(3/476)
الإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل الضمير في عليه للخلق.
ومعناه: أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام، والتمام أهون عليه وأقل تعبا وكبدا، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ. وقيل:
الأهون بمعنى الهين. ووجه آخر: وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله، لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب «1» ، والأفعال: إما محال والمحال ممتنع أصلا «2» خارج عن المقدور، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح، وهو رديف المحال، لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة. وإما تفضل والتفضل حالة بين بين، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله. وإما واجب لا بدّ من فعله، ولا سبيل إلى الإخلال به، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول. فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب، كانت أبعد الأفعال من الامتناع.
وإذا كانت أبعدها من الامتناع، كانت أدخلها في التأنى والتسهل، فكانت أهون منها «3» . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به. ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات، ويدل عليه قوله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى القاهر لكل مقدور، الحكيم الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن مجاهد: المثل الأعلى: قول لا إله إلا الله، ومعناه: وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية. ويعضده قوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وقال الزجاج: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، أى: قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل. يريد: التفسير الأوّل.
__________
(1) . قوله «وجزاؤها واجب ... الخ» هذا عند المعتزلة، ولا يجب على الله شيء عند أهل السنة كما تقدم في محله. (ع)
(2) . عاد كلامه: قال في تقرير معنى قوله وهو أهون عليه: الأفعال إما ممتنع عقلا لذاته، وإما ممتنع لصارف يصرف الحكيم عن فعله. وإما تفضل يتخير الحكيم فيه بين أن يفعل وأن لا. وإما واجب على الحكيم أن يفعله فالانشاء الأول من قبيل التفضل، وأما الاعادة فواجبة على الله تعالى لأجل الجزاء، فلما كانت واجبة كانت أبعد الأفعال عن الممتنع، فلذلك وصفت بالتسهيل وكانت أهون من الإنشاء» قال أحمد: لقد ضل وصد عن السبيل، فلا نوافقه ولا ترافقه، والحق: أن لا واجب على الله تعالى، وكل ما ذكره في هذا الفصل نزغات قدرية، على أنها أيضا غير مستقيمة على أصولهم المجتثة، فان مقتضاها وجوب الإنشاء في الحكمة، إذ لولا مصلحة اقتضت الإنشاء لما وقع، وتلك المصلحة توجب متعلقها، فقد وضح أن المصنف لا إلى معالى السنة رقى، ولا في حضيض الاعتزال بقي، فلله العصمة.
(3) . قوله فكانت أهون منها» أى من بقية الأفعال. (ع)(3/477)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
[سورة الروم (30) : آية 28]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
فإن قلت: أى فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِكُمْ، مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، مِنْ شُرَكاءَ؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب.
شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم- وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد- أن يشارككم بعضهم فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفصلة بين حرّ وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ كَذلِكَ أى مثل هذا التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ أى نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها.
ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟
[سورة الروم (30) : آية 29]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
الَّذِينَ ظَلَمُوا أى أشركوا، كقوله تعالى: إنّ الشرك لظلم عظيم بِغَيْرِ عِلْمٍ أى اتبعوا أهواءهم جاهلين، لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه. وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من خذله «1» ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له، فمن يقدر على هداية مثله. وقوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
__________
(1) . قوله «من أضل الله: من خذله» تأويل الإضلال بذلك مبنى على أنه تعالى لا يخلق الشر، وهو مذهب المعتزلة، وذهب أهل السنة إلى أنه يخلق الشر كالخير، فالآية على ظاهرها. (ع)(3/478)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ فقوّم وجهك له وعدّله، غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلا به عليه. وحَنِيفاً حال من المأمور. أو من الدين فِطْرَتَ اللَّهِ أى الزموا فطرة الله. أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ومنيبين: حال من الضمير في: الزموا. وقوله وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا ... وَلا تَكُونُوا معطوف على هذا المضمر. والفطرة: الخلقة. ألا ترى إلى قوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ والمعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، مساوقا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين «1» عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بى غيرى «2» » وقوله عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه» «3» لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أى ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير. فإن قلت: لم وحد الخطاب أولا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص مِنَ الَّذِينَ بدل من المشركين فَرَّقُوا دِينَهُمْ تركوا دين الإسلام. وقرئ: فرّقوا دينهم بالتشديد، أى: جعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم وَكانُوا شِيَعاً فرقا، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها كُلُّ حِزْبٍ منهم فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقا- ويجوز أن يكون مِنَ الَّذِينَ منقطعا مما قبله، ومعناه: من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل، كقوله:
وكل خليل غير هاضم نفسه «4»
__________
(1) . قوله «فاجتالتهم الشياطين» أدارتهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث عياض بن حمار به وأتم منه.
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.
(4) .
وكل خليل غير هاضم نفسه ... فبالصد والاعراض عنه جدير
للشماخ. ويروى: بدل الشطر الثاني: بوصل خليل صارم أو مصادر. وغير هاضم- بالرفع-: صفة كل. أو بالجر: صفة خليل، أى: من لم يخفض نفسه لصاحبه فهو حقيق بالصد والاعراض عنه لا بالمودة. وزادت الفاء، لأن المبتدأ فيه معنى الشرط. والصارم: القاطع. والمصادر: المجانب، أى: من لم يهضم نفسه لوصل خليله، أدى به ذلك إلى القطيعة، فان لم تكن فالى المجانبة، فكأنه مقاطع، أو مجانب بالفعل.(3/479)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 34]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
الضر: الشدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك. والرحمة: الخلاص من الشدّة.
واللام في لِيَكْفُرُوا مجاز مثلها في لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا. فَتَمَتَّعُوا نظير اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم. وقرأ ابن مسعود: وليتمتعوا.
[سورة الروم (30) : آية 35]
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
السلطان: الحجة، وتكلمه. مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن.
ومعناه: الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. وما في بِما كانُوا مصدرية أى: بكونهم بالله يشركون. ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها. ومعناه: فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون. ويحتمل أن يكون المعنى: أم أنزلنا عليهم ذا سلطان، أى:
ملكا معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون.
[سورة الروم (30) : آية 36]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أى نعمة من مطر أو سعة أو صحة فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أى بلاء من جدب أو ضيق أو مرض- والسبب فيها شؤم معاصيهم- قنطوا من الرحمة.
[سورة الروم (30) : آية 37]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته.
[سورة الروم (30) : آية 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
حق ذى القربى: صلة الرحم. وحق المسكين وابن السبيل: نصيبهما من الصدقة المسماة لهما.(3/480)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. وعند الشافعي رحمه الله: لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين: قاس سائر القرابات على ابن العم، لأنه لا ولاد بينهم. فإن قلت: كيف تعلق قوله فَآتِ ذَا الْقُرْبى بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت: لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه، أى: يقصدون بمعروفهم إياه خالصا وحقه، كقوله تعالى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهة أخرى، والمعنيان متقاربان، ولكن الطريقة مختلفة.
[سورة الروم (30) : آية 39]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
هذه الآية في معنى قوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ سواء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أى صدقة تبتغون به وجهه خالصا، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الإضعاف من الحسنات. ونظير المضعف:
المقوي والموسر، لذي القوّة واليسار: وقرئ بفتح العين. وقيل: نزلت في ثقيف، وكانوا يربون. وقيل: المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدى له، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى، فليست تلك الزيادة بحرام، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة. وقالوا: الربا ربوان:
فالحرام: كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه: أو يجرّ منفعة. والذي ليس بحرام: أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها. وفي الحديث «المستغزر يثاب من هبته» «1» وقرئ: وما أتيتم من ربا، بمعنى: وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا. وقرئ: لتربوا، أى: لتزيدوا في أموالهم، كقوله تعالى وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أى يزيدها. وقوله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم: هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. والمعنى: المضعفون به، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره: فمؤتوه أولئك هم المضعفون.
والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذا، والأوّل أملأ بالفائدة.
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من وجهين عن ابن سيرين عن شريح بهذا موقوفا.(3/481)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
اللَّهُ مبتدأ وخبره الَّذِي خَلَقَكُمْ أى الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره، ثم قال هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها مَنْ يَفْعَلُ شيئا قط من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه، ثم استبعد حاله من حال شركائهم. ويجوز أن يكون الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للمبتدإ، والخبر: هل من شركائكم، وقوله مِنْ ذلِكُمْ هو الذي ربط الجملة بالمبتدإ، لأن معناه: من أفعاله. ومن الأولى والثانية والثالثة: كل واحدة منهنّ مستقلة بتأكيد، لتعجيز شركائهم، وتجهيل عبدتهم.
[سورة الروم (30) : آية 41]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نحو: الجدب، والقحط، وقلة الريع في الزراعات والريح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق، وإخفاق الصيادين «1» والغاصة، ومحق البركات من كل شيء، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارّ. وعن ابن عباس:
أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر. وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أنّ المراد بالبحر: مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة: العرب تسمى الأمصار البحار. وقرئ في البر والبحور بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بسبب معاصيهم وذنوبهم، كقوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وعن ابن عباس ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل ابن آدم أخاه. وفي البحر بأن جلندى كان يأخذ كل سفينة غصبا: وعن قتادة: كان ذلك قبل البعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت: ما معنى قوله لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه. وأمّا على الثاني فاللام مجاز، على معنى أنّ ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك. وقرئ: لنذيقهم، بالنون.
__________
(1) . قوله «وإخفاق الصيادين» في الصحاح: أخفق الصائد، إذا رجع ولم يصطد. (ع)(3/482)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
[سورة الروم (30) : آية 42]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله: حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، ودل بقوله كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك.
[سورة الروم (30) : آية 43]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
القيم: البليغ الاستقامة «الذي لا يتأتى فيه عوج مِنَ اللَّهِ إمّا أن يتعلق بيأتى، فيكون المعنى: من قبل أن يأتى من الله يوم لا يردّه أحد، كقوله تعالى فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أو بمردّ، على معنى: لا يردّه هو بعد أن يجيء به، ولا ردّ له من جهته. والمردّ: مصدر بمعنى الردّ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون: أى: يتفرّقون، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ، لأنّ من كان ضاره كفره، فقد أحاطت به كلّ مضرّة فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أى يسؤون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغض عليه مرقده: من نتوء أو قضض «1» أو بعض ما يؤذى الراقد. ويجوز أن يريد: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أمّ فرشت فأنامت. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه. ومنفعة الإيمان والعمل الصالح: ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه لِيَجْزِيَ متعلق بيمهدون تعليل له مِنْ فَضْلِهِ مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له: أو أراد من عطائه وهو ثوابه، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. وتكرير الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تقرير بعده تقرير، على الطرد والعكس.
__________
(1) . قوله «من نتوء أو قضض» النتوء: الارتفاع. والقضض: صغار الحصى. أفاده الصحاح. (ع) [.....](3/483)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
الرِّياحَ هي الجنوب والشمال والصبا، وهي رياح الرحمة. وأما الدبور، فريح العذاب.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا «1» » وقد عدد الأغراض في إرسالها، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض «2» » وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر عند هبوبها. وإنما زاد بِأَمْرِهِ لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية «3» ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت فأغرقتها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يريد تجارة البحر، ولتشكروا نعمة الله فيها. فإن قلت: بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت:
فيه وجهان: أن يكون معطوفا على مبشرات على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم. وأن يتعلق بمحذوف تقديره: وليذيقكم، وليكون كذا وكذا: أرسلناها.
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين، وقد أخلى الكلام أوّلا عن ذكرهما. وقوله كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم، وقد يوقف على قًّا
. ومعناه:
وكان الانتقام منهم حقا، ثم يبتدأ: لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة «4» » . ثم
__________
(1) . أخرجه الشافعي: أخبرنى من لا أنهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه، ومن طريقه. أخرجه في المعرفة وفي الدعوات. وهذا المبهم: هو إبراهيم بن أبى يحيى وهو ضعيف. وله طريق أخرى عند أبى يعلى والطبراني وابن عدى من رواية حسين بن قيس عن عكرمة به وحسين ضعيف أيضا
(2) . لم أجده.
(3) . قوله «ولا تكون مؤاتية» في الصحاح: آتيته على ذلك الأمر هؤاتاة، إذا وافقته. والعامة تقول:
وأتيته. (ع)
(4) . أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث أبى الدرداء وقال حسن. ورواه إسحاق والطبراني وأبو يعلى وابن عدى من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا نحوه وإسناده ضعيف. واختلف فيه على شهر ابن حوشب: فقال العلاج عنه هكذا، وقال ليث بن أبى سليم عنه عن أبى هريرة، أخرجه ابن مردويه.(3/484)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
تلا قوله تعالى كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 49]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أى قطعا تارة فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين جميعا. والمراد بالسماء. سمت السماء وشقها، كقوله تعالى وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، وبإصابة العباد: إصابة بلادهم وأراضيهم مِنْ قَبْلِهِ من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم «1» فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
[سورة الروم (30) : آية 50]
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قرئ: أثر وآثار، على الوحدة والجمع. وقرأ أبو حيوة وغيره: كيف تحيى، أى: الرحمة إِنَّ ذلِكَ يعنى إنّ ذلك القادر الذي يحيى الأرض بعد موتها، هو الذي يحيى الناس بعد موتهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المقدورات قادر، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
فَرَأَوْهُ فرأوا أثر رحمة الله. لأنّ رحمة الله هي الغيث، وأثرها: النبات. ومن قرأ بالجمع: رجع الضمير إلى معناه لأنّ معنى آثار الرحمة النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. ولئن: هي اللام الموطئة للقسم، دخلت على حرف الشرط، ولَظَلُّوا جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين، أعنى: جواب القسم وجواب الشرط، ومعناه: ليظلنّ ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم
__________
(1) . قوله «إبلاسهم» الإبلاس: اليأس من الخير، والسكوت، والانكسار غما وحزنا. أفاده الصحاح. (ع)(3/485)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر: استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل ريحا فضرب زروعهم بالصفار، ضجوا وكفروا بنعمة الله. فهم في جمع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله، فقنطوا. وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار. وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. والريح التي اصفرّ لها النبات: يجوز أن تكون حرورا وحرجفا، فكلتاهما مما يصوح «1» له النبات ويصبح هشيما. وقال: مصفرّا: لأنّ تلك صفرة حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرا، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر.
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قرئ: بفتح الضاد وضمها، وهما لغتان، والضم أقوى في القراءة، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف، فأقرأنى من ضعف «2» .
قوله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يعنى أنّ أساس أمركم وما عليه؟؟؟ بلتكم وبنيتكم الضعف وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أى ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافا، وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الاشدّ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم. وقيل: من ضعف من؟؟؟ النطف، كقوله تعالى مِنْ ماءٍ مَهِينٍ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة، والتغيير من هيئة إلى؟؟؟ الهيئة وصفة إلى صفة: أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر.
[سورة الروم (30) : آية 55]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
السَّاعَةُ القيامة، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا. أو لأنها تقع؟؟؟ بغتة وبديهة. كما تقول: «في ساعة» لمن تستعجله، وجرت علما لها كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة. وأرادوا: لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث:
__________
(1) . قوله «وحرجفا ... الخ» في الصحاح «الحرجف» : الريح الباردة. وفيه أيضا «صوحته الريح» :
؟؟؟ أيبسته. (ع)
(2) . أخرجه أبو داود والترمذي وإسحاق والبزار من حديث عطية عن ابن عمر دون التفسير ورواه ابن مردويه من رواية أبى عمرو بن العلاء عن نافع عن ابن عمر لكن في إسناده سلام بن سليمان.(3/486)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
«ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» «1» قالوا: لا نعلم أهى أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أى مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق. أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة.
[سورة الروم (30) : الآيات 56 الى 57]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
القائلون: هم الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح. أو في علم الله وقضائه. أو فيما كتبه، أى: أوجبه بحكمته. ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه، وأطلعوهم على الحقيقة تم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. فإن قلت: ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:
فقد جئنا خراسانا «2»
وحقيقتها: أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان، وآن لنا أن نخلص، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث، أى فقد تبين بطلان قولكم. وقرأ الحسن يوم البعث، بالتحريك لا يَنْفَعُ قرئ بالياء والتاء يُسْتَعْتَبُونَ من قولك: استعتبني فلان فأعتبته. أى: استرضانى فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله:
غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم «3»
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما بين النفختين» أربعون قالوا: يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت قالوا: أربعون يوما؟ قال: أبيت» .
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 271 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.(3/487)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
كيف جعلهم غضابا، ثم قال: فأعتبوا، أى: أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى:
لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.
فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها، وهو قوله وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين: فهذا معناه. وأما كونهم غير معتبين، فمعناه: أنهم غير راضين بما هم فيه، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه، فإن يستعتبوا الله: أى يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته.
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
وَلَقَدْ وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم- لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة- إذا جئتهم بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور وباطل، ثم قال: مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله: منع الألطاف «1» التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغنى عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدإ والرين إياها، فكأنه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله «2» في تلك الصفة فَاصْبِرْ على عداوتهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله حَقٌّ لا بدّ من إنجازه والوفاء به، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق
__________
(1) . قوله «ومعنى طبع الله منع الألطاف» أوله بذلك بناء على أنه تعالى لا يخلق الشر وهو مذهب المعتزلة.
وذهب أهل السنة إلى أنه يخلقه كالخير، فالآية على ظاهرها. (ع)
(2) . قوله «وهم أعرق خلق الله» في الصحاح: أعرق الرجل، أى: صار عريقا، وهو الذي له عرق في الكرم. (ع)(3/488)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
ويعقوب: ولا يستحقنك، أى: لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» «1» .
سورة لقمان
مكية [إلا الآيات 27 و 28 و 29 فمدنية] وآياتها 34 وقيل 33 [نزلت بعد الصافات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذى الحكمة. أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازى. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها:
ما في تلك من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف لِلْمُحْسِنِينَ للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس:
الألمعى الّذى يظن بك الظّنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
(2) .
أيتها النفس احملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة و ... النجدة والبر والتقى جمعا
الألمعى الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
أودى فلا تنفع الاشاحة من ... أمر لمن يحاول البدعا
لأوس بن حجر، يرثى فضالة بن كلدة. يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما، إن الذي تخافين منه قد حصل، وبينه بقوله: إن الذي جمع المكارم كلها أودى، أى: هلك. وجمع- بالضم-: توكيد للصفات قبله. والألمعى:
نصب على الصفة للذي، وفسره بأنه الذي يظن بك، يعنى كل مخاطب، أى: يظن الظن الحق، كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب، كأنه قد رآه إن كان فعلا، أو سمعه إن كان قولا. وفيه نوع من البديع يسمى التفسير، وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته بدون تفسيره، ذكره السيوطى في شرح عقود الجمان. والاشاحة:
الشجاعة والجد في القتال. وضمن «تنفع» معنى «تحفظ» فعداه بمن، أى: فلا تحفظ الشجاعة من مكروه أحدا.
وعداه باللام، نظرا للفظه. والأقرب أن من واللام زائدتان لتوكيد الكلام، أى: فلا تنفع الاشاحة شيئا من النفع أحدا من الناس يحاول ويطلب بدائع الأمور وعظائمها، يعنى: أن فضالة كان كذلك فمات، وفيه نوع تسل. [.....](3/489)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
حكى عن الأصمعى: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها.
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى ولَهْوَ الْحَدِيثِ نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار «1» ، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشترى المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ «2» «وعنه صلى الله عليه وسلم «ما من رجل
__________
(1) . قوله «وتعلم الموسيقار» يونانية. ومعناه: علم الغناء، وبغير راء: ذات الغناء، كذا قيل. (ع)
(2) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة بهذا. وهو عند أحمد وابن أبى شيبة والترمذي وأبى يعلى من هذا الوجه وهو ضعيف، ورواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم نحوه. وله طريق آخر عند ابن ماجة من رواية عبيد الله الأفريقى عن أبى أمامة، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن، وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن وفي الباب عن عمر. أخرجه الطبراني وابن عدى من رواية يزيد بن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن خصيف عن السائب بن يزيد عن عمر نحوه، ويزيد بن عبد المطلب ضعيف وعن على أخرجه أبو يعلى وابن عدى.
وفيه الحارث بن نهان وهو ضعيف، وعن عائشة أخرجه البيهقي وفيه ليث بن أبى سليم وهو ضعيف.(3/490)
يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت «1» «وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت:
معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز، وباب ساج «2» . والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «3» » ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله يَشْتَرِي إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أى استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه:
استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: لِيُضِلَّ بضم الياء وفتحها.
وسَبِيلِ اللَّهِ دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه.
والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.
ونحوه قوله تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أى: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ وَيَتَّخِذَها بالنصب والرفع عطفا على يشترى. أو ليضل، والضمير للسبيل، لأنها مؤنثة، كقوله تعالى وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً.
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبى أمامة وهو عند الطبراني من رواية يحيى بن الحارث عن القاسم في الحديث الذي قبله.
(2) . قوله «كقولك صفة خز وباب ساج» لعله محرف. وأصله جبة خز، ثم رأيت في الصحاح: صفة الدار والسرج: واحدة الصفف اه، فلعل صفة السرج تكون من خز. (ع)
(3) . تقدم في براءة.(3/491)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
وَلَّى مُسْتَكْبِراً زاما «1» لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أى ثقلا ولا وقر فيهما، وقرئ: بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من مستكبرا والثانية من لم يسمعها: ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في كأن المخففة: كأنه، والضمير: ضمير الشأن.
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكدان، الأوّل: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حَقًّا فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو الْحَكِيمُ لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل تَرَوْنَها الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها، غير معمودة على قوله بِغَيْرِ عَمَدٍ كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أى: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. والَّذِينَ مِنْ دُونِهِ آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش
__________
(1) . قوله «زاما لا يعبأ بها» في الصحاح: زم بأنفه، أي: تكبر، فهو زام. (ع)(3/492)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا. ولكن كان راعيا أسود، فرزقه الله العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا. وقيل: خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة «1» . وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطا، وعن مجاهد: كان عبدا أسود غليظ الشفتين متشفق «2» القدمين. وقيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال ما بلغ بك ما أرى؟
قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. وروى أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان. أَنِ هي المفسرة، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر غَنِيٌّ غير محتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.
[سورة لقمان (31) : آية 13]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قيل: كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي: «أشكم» وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال
__________
(1) . ذكر محمود في ذلك اختلاف العلماء في نبوته، وذكر أثناء ذلك أنه خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. قال أحمد: وفي هذا بعد بين، وذلك أن الحكمة داخلة في النبوة، وقطرة من بحرها، وأعلى درجات الحكماء تنحط عن أدنى درجات الأنبياء بما لا يقدر قدره. وليس من الحكمة اختيار الحكمة المجردة من النبوة،
(2) . قوله «متشفق» في الصحاح: «الشفق» : الرديء من الأشياء. يقال: غطاء مشفق، أى: مقلل اه والظاهر أنه متشقق بقافين. (ع)(3/493)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
بهما حتى أسلما لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه-: ظلم لا يكتنه عظمه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
أى حَمَلَتْهُ تهن وَهْناً عَلى وَهْنٍ كقولك رجع عودا على بدء، بمعنى، يعود عودا على بدء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أى: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا. وقرئ: وهنا على وهن، بالتحريك عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن. ووهن يهن. وقرئ: وفصله أَنِ اشْكُرْ تفسير لوصينا ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أراد بنفي العلم به نفيه، أى: لا تشرك بى ما ليس بشيء «1» ، يريد الأصنام، كقوله تعالى ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. مَعْرُوفاً صحابا، أو مصاحبا معروفا حسنا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه- وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا- ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها «2» بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت:
فقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما
__________
(1) . قال محمود: «معناه: ما ليس بشيء، وعبر بنفي العلم عن نفى المعلوم» قال أحمد: هو من باب قوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: ما ليس باله فيكون لك علم بالالهية، وليس كما ذكره في قول فرعون ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقد مر معناه فيما تقدم.
(2) . قوله «حتى شجروا فاها بعود» في الصحاح: شجرة بالرمح، أى: طعنه. (ع)(3/494)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا «1» . وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك «2» » . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه:
أحمل أمّى وهي الحمّاله ... ترضعنى الدرّة والعلالة
ولا يجازى والد فعاله «3»
فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وبه استشهد الشافعي رضى الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رضى الله عنه.
فمدة الرضاع ثلاثون شهرا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعا. وإن أكل أكلا ضعيفا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم.
[سورة لقمان (31) : آية 16]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
قرئ مِثْقالَ حَبَّةٍ بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة «4» من الإساءة أو الإحسان،
__________
(1) . قال محمود: «فيه تخصيص حق الأم، وهو مطابق لبدايته، فذكرها في وجوب البر في الحديث المأثور» قال أحمد: وهذا من قبيل ما يقوله الفقهاء: إن اللأم من عمل الولد قبل الحلم جله، وهو مما يفيد تأكيد حقها، والله أعلم.
(2) . أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال «قلت يا رسول الله من أبر؟
الحديث» وله شاهد في الصحيحين من حديث أبى زرعة عن أبى هريرة قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق بصحابتى؟ - الحديث»
(3) . لعربي يحمل أمه إلى الحج، وهي الحمالة: جملة حالية، أى: كثيرة الحمل بحسب ما كان. أو من عادتها ذلك، وترضع: حال متداخلة، والدرة- بالضم: كثرة اللبن وسيلانه، والمراد بها: اللبن الكثير. والعلالة- بالضم-:
بقية اللبن، والحلبة بين الحلبتين، وتطلق على بقية جرى الفرس. والعلل: الشرب الثاني، والشرب الأول النهل:
وروى ترضعنى الدرة. والفعال- بالفتح-: فعل الخير وأراد بالوالد: الأم، أو ما يشمل الأب والأم.
(4) . قوله «للهنة من الاساءة» في الصحاح «هن» : على وزن أخ: كلمة كناية. ومعناه: شيء، ومؤنثه:
هنة. والقماءة: الصغر والحقارة. كذا في الصحاح (ع) [.....](3/495)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
أى: إن كانت مثلا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة «1» أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب بها عاملها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يتوصل علمه إلى كل خفى خَبِيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة، كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدّم «2»
وروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر- أى: في مغاصه- يعلمها الله؟ فقال: إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ: فتكن، بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا.
[سورة لقمان (31) : آية 17]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر إِنَّ ذلِكَ مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل «3» » أى لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام «لمن لم يبيت السيام» «4» ومنه «إنّ الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» «5»
__________
(1) . قال محمود: «هذا من البديع الذي يسمى التتميم» قال أحمد: يعنى أنه تمم خلفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادى قولها كأنه علم في رأسه نار.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . تقدم في البقرة.
(4) . تقدم أيضا.
(5) . أخرجه ابن أبى شيبة وابن عدى من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رجلا قال يا رسول الله، أقصر الصلاة في سفري؟ قال: نعم، إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بفريضته» وفيه عمر بن عبد الله بن أبى خشعم اليمامي وهو منكر الحديث: قاله ابن عدى، وأخرجه أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبى سعيد، حدثني أخى عبد الله عن أبيه. أن أبى هريرة مرفوعا نحوه، ورواه ابن حبان وأحمد والبزار، وأبو يعلى من رواية حرب ابن قيس عن نافع عن ابن عمر بلفظ «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في الحلية من رواية هشام بن حسان عن عكرمة عنه بلفظ ابن عمر وعن ابن مسعود أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو نعيم من رواية معمر بن عبد الله الأنصارى عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عنه تفرد برفعه معمر، ووقفه غندر وروح بن عبادة وغيرهما عن شعبة. أخرجه ابن أبى شيبة وغيره. وعن عائشة: أخرجه ابن عدى من رواية الحكم بن عبد الله الأيلى عن القاسم عن عائشة ومن رواية عمر بن عبيد البصري عن هشام عن أبيه عنها والحكم وعمر ضعيفان. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا عمر بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن زيد بن آدم عن أبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة وأنس به وقال: لا يروى إلا بهذا الاسناد تفرد به إسماعيل. قلت: والاسناد مجهول. قوله «وقولهم عزمة من عزمات ربنا» هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، في أثناء حديثه قال فيه «ومن منعها يعنى الزكاة فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء وإسناده حسن.(3/496)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك. وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده:
عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه.
وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أى: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل. أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ كقولك: جد الأمر، وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها.
[سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
تصاعر، وتصعر: بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خدّه، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد:
وَلا تَمْشِ تمرح مَرَحاً أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ. والمختال: مقابل للماشي مرحا، وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرا وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» «1» وأما قول
__________
(1) . جاء من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وابن عمر، وأخرجه ابن عدى من رواية عمار بن مطرد وهو لتروك، وقد تابعه الوليد بن سلمة وهو أو هي منه، لكنه قال: عن ابن أبى ذئب عن المغيرة عن أبى سعيد والوليد بن سلمة. وفيه إسناد آخر أخرجه ابن عدى من روايته عن عمرو بن صهبان عن نافع عن ابن عمر، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبى معشر عن سعيد عن أبى هريرة وإسناده ضعيف أيضا(3/497)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» «1» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ: وأقصد، بقطع الهمزة، أى: سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه واقصر، من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة «2» ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة- وإن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا- ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.
[سورة لقمان (31) : آية 20]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
ما فِي السَّماواتِ الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك وَما فِي الْأَرْضِ البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى وَأَسْبَغَ وقرىّ بالسين والصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ، صلخ، وفي سقر: صقر، وفي سالغ: صالغ «3»
__________
(1) . ذكره ابن الأثير في النهاية، قلت: لعله أخذه عن الفائق، وفي الطبقات لابن سعد من رواية سليمان ابن أبى حثمة قال قالت الشفاء بنت عبد الله، وهي أم سليمان: كان عمر إذا مشى ... فذكره.
(2) . قوله «منه الرجلة» أى: المشي برجله، يعنى: وإن أتعبه المشي وعدم الركوب. وفي الصحاح «الرجل» بالتحريك: مصدر قولك: رجل- بالكسر- أى: بقي راجلا. (ع)
(3) . قوله «وفي سالغ صالغ» في الصحاح: سلغت البقرة والشاة، إذا أسقطت السن التي خلفت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف: بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف. (ع)(3/498)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
وقرئ: نعمه، ونعمة، ونعمته. فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمة، لأنه إما حيوان، وإما غير حيوان. فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حيا نعمة عليه. لأنه لولا إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثا، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع، لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الأمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة الستر. وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة. وتسوية الأعضاء. والباطنة:
المعرفة. وقيل: الظاهرة البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة:
القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى: أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس «1» .
[سورة لقمان (31) : آية 21]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
معناه أَيتبعونهم وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أى في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.
[سورة لقمان (31) : آية 22]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: ومن يسلم بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ماله عدّى بإلى، وقد عدّى باللام في قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ؟ قلت:
معناه مع اللام: أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله. أى خالصا له. ومعناه- مع إلى-:
__________
(1) . لم أجده.(3/499)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أى هي صائرة إليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 23 الى 24]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
قرئ: يحزنك، ويحزنك: من حزن، وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله إِنَّ اللَّهَ يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه نُمَتِّعُهُمْ زمانا قَلِيلًا بدنياهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك «1» منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد الشدّة والثقل على المعذب.
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 27]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه.
__________
(1) . قال محمود: «شبه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه» قال أحمد:
وتفسير هذا الاضطرار في الحديث في أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد، فيرسل الله عليهم الزمهرير.
فيكون عليهم كشدة اللهب، فيتمنون عود اللهب اضطرارا، فهو إخبار عن اضطرار. وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث يقول:
يرون الموت قداما وخلفا ... فيختارون والموت اضطرار(3/500)
قرئ: والبحر، بالنصب عطفا على اسم إنّ، وبالرفع عطفا على محل إن، ومعمولها على.
ولو ثبت «1» كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء والواو للحال، على معنى. ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا، وفي قراءة ابن مسعود:
وبحر يمدّه على التنكير، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ: يمدّه، ويمدّه. وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام، والبحر مداد. قلت:
أغنى عن ذكر المداد قوله: يمدّه، لأنه من قولك: مدّ الدواة وأمدّها، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. والمعنى:
ولو أنّ أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر. وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي. فإن قلت: زعمت أنّ قوله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:
وقد اغتدى والطّير في وكناتها «2»
و: جئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل مِنْ شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل. فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا يعنون الوحى- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء حَكِيمٌ لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.
__________
(1) . قوله «ومعمولها على: ولو ثبت» لعله: على معنى ولو ... الخ. (ع)
(2) .
وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
لامرئ القيس من معلقته. وقد: للتكثير. والوكنات: جمع وكنة بضمتين، وبتثليث أوله وسكون ثانيه:
موضع الطير الذي يبيت فيه، والباء للملابسة، والمجرد: دقيق الشعر قصيره. أو سريع الجري. وشبه الفرس بالقيد تشبيها بليغا: أى: لا تنفك منه الأوابد: وهي الوحوش، ولا تفوته هيكل: عظيم الجسم.(3/501)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
[سورة لقمان (31) : آية 28]
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلا كخلقها وبعثها، أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد:
أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث.
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 30]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة. لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ. دلّ أيضا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجل مسمى، ويجرى إلى أجل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن «1» . ولكن المعنيين. أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى إليه. وقولك: يجرى لأجل مسمى: تريد يجرى لإدراك أجل مسمى، تجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أن جرى الشمس مختص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه ذلِكَ الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته. وأنّ من دونه باطل الإلهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الشأن الْكَبِيرُ السلطان. أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق، وأنّ إلها غيره باطل، وأنّ الله هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به.
__________
(1) . قوله «إلا بليد الطبع ضيق العطن» في الصحاح: أنه مبرك الإبل عند الماء، لتشرب عللا بعد نهل. (ع) [.....](3/502)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
[سورة لقمان (31) : آية 31]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
قرئ: الفلك، بضم اللام. وكل فعل: يجوز فيه فعل، كما يجوز في كل فعل فعل، على مذهب التعويض. وبنعمات الله: بسكون العين. وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه ورحمته صَبَّارٍ على بلائه شَكُورٍ لنعمائه، وهما صفتا المؤمن، فكأنه قال: إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن.
[سورة لقمان (31) : آية 32]
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يرتفع الموج ويتراكب، فيعود مثل الظلل، والظلة: كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ: كالظلال، جمع ظلة، كقلة وقلال فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعنى أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف، لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر: أشدّ الغدر. ومنه قولهم: إنك لا تمدّ لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من ختر، قال:
وإنّك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر «1»
[سورة لقمان (31) : آية 33]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
لا يَجْزِي لا يقضى عنه شيئا. ومنه قيل للمتقاضى: المتجازى. وفي الحديث في جذعة
__________
(1) . الغدر: أشد الختر. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عد بأصابع يده اليمنى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وبأصابع اليسرى: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأت يديك خيرا، شبه المعقول بالمحسوس على سبيل المكنية. وملء اليدين: تخييل، وذكرهما لأن الرجل عد بهما، فضربه الشاعر مثلا لحال أبى عمير ومن يراه على سبيل الاستعارة التمثيلية التهكمية، فان من رآه وعد معايبه، كأنه ملأ يديه شرا لا خيرا، وحذف العد إشارة إلى أنه بمجرد الرؤية يحصل ذلك.(3/503)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
ابن نيار: تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك «1» . وقرئ: لا يجزئ: لا يغنى «2» . يقال:
أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى: لا يجزى فيه، فحذف الْغَرُورُ الشيطان. وقيل: الدنيا وقيل: تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرّة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرّة.
وقرئ بضم الغين وهو مصدر غره غرورا، وجعل الغرور غارّا، كما قيل: جدّ جدّه، أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت: قوله وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف «3» عليه. قلت: الأمر كذلك، لأنّ الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله هُوَ وقوله مَوْلُودٌ والسبب في مجيئه على هذا السنن: أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم «4» : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم: أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك.
[سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
روى أنّ رجلا من محارب وهو الحرث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنى عن الساعة متى قيامها، وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد
__________
(1) . تقدم في أوائل البقرة.
(2) . قوله «وقرئ لا يجزئ لا يغنى» لعله: أى لا يغنى. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: لم أكد الجملة الثانية دون الأولى؟ قلت: لأن أكثر المسلمين كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر، فلما كان إغناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج تأكيدا، ولما كان إغناء المسلم عن الكافر قد يقع في الأوهام أكد نفيه» قال أحمد: وهذا الجواب تتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ، والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، فالجواب المعتبر- والله أعلم- أن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء، وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكتفى والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع هاهنا وهم الوالد في ان يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع- لأن الله حضه عليه في الدنيا- كان جديرا بتأكيد النفي لازالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس، فهذا جواب كاف شاف للعليل، إن شاء الله تعالى.
(4) . قوله «وعليتهم» أى أشرافهم وعظماؤهم. (ع)(3/504)
أبطأت عنا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟
وإنى علمت ما علمت أمس، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت «1» ؟ فنزلت وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس» «2» وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره، فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأوّلوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أيان مرساها وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال وَما تَدْرِي نَفْسٌ برّة أو فاجرة ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا، وعازمة على شر فعملت خيرا وَما تَدْرِي نَفْسٌ أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحها وأقبر فيها، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدّثتها به ظنونها. وروى أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك «3» . وجعل العلم لله والدراية للعبد، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف- وإن أعملت حيلها- ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ: بأية أرض. وشبه سيبويه تأنيث «أىّ» بتأنيث «كل» في قولهم: كلتهنّ.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر «4» .
__________
(1) . هكذا ذكره الواحدي والثعلبي بغير سند. وأخرجه الطبري وابن أبى حاتم من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد، قال «جاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد إن امرأتى حبلى فأخبرنى متى تلد؟ فذكره»
(2) . أخرجه البخاري من حديث ابن عمر
(3) . موقوف. رواه أحمد في الزهد وابن أبى شيبة قالا حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن خيثمة عن شهر بن حوشب قال «دخل ملك الموت، فذكره»
(4) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.(3/505)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سورة السجدة
مكية [إلا من آية 16 إلى غاية آية 20 فمدنية] وآياتها 30 وقيل 29 [نزلت بعد المؤمنون] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الم على أنها اسم السورة مبتدأ خبره تَنْزِيلُ الْكِتابِ وإن جعلتها تعديدا للحروف ارتفع تَنْزِيلُ الْكِتابِ بأنه خبر مبتدإ محذوف: أو هو مبتدأ خبره لا رَيْبَ فِيهِ والوجه أن يرتفع بالابتداء، وخبره مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ولا رَيْبَ فِيهِ: اعتراض لا محل له. والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أى في كونه منزلا من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أوّلا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور أمره: في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم افْتَراهُ؟ قلت: معنى لا رَيْبَ فِيهِ أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله، لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزا(3/506)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب. وأما قولهم افْتَراهُ فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
كقوله: ما أنذر آباؤهم، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا «1» قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.
[سورة السجده (32) : آية 4]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
فإن قلت: ما معنى قوله ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ؟ قلت: هو على معنيين، أحدهما: أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا، أى: ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم. والثاني: أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم أى ناصركم على سبيل المجاز، لأن الشفيع ينصر المشفوع له، فهو كقوله تعالى وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فإذا خذلكم لم يبق لكم ولىّ ولا نصير.
[سورة السجده (32) : آية 5]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
الْأَمْرَ المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص
__________
(1) . قال محمود: «يعنى قريشا لأنها لم يبعث لها نبى قط. فان قلت: إن لم يتقدم بعث نبى إليهم فيما قامت عليهم الحجة. قلت: قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل لا سبيل إليه. وأما قيامها بمعرفة الله تعالى وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل معهم في كل زمان» قال أحمد: مذهب أهل السنة: أنه لا يدرك علم شيء من أحكام الله تعالى التكليفية إلا بالشرع وما ذكره الزمخشري تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وقد مجها السمع فلم يبح بها القلم، فأعرض عنه حتى يخوض في حديث غيره. وإنما قامت الحجة على العرب يمن تقدم من الرسل إليهم كأبيهم إسماعيل وغيره، والمراد بقوله تعالى ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ يعنى ذرية العرب في زمانه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يبعث إليهم نذير معاصر، فلطف الله تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم.(3/507)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
ودل عليه قوله على أثره قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض: لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، كما قال وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أى يصير إليه، ويثبت عنده، وبكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة: ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. وقيل: ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أى يصير إليه ليحكم فيه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة: يعرج، على البناء للمفعول. وقرئ: يعدون، بالتاء والياء.
[سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 9]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ حسنه، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن، كما قال لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقيل: علم كيف يخلقه من قوله: قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته، يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وقرئ: خلقه: على البدل، أى: أحسن، فقد خلق كل شيء «1» وخلقه: على الوصف، أى: كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه، أى: تنفصل منه وتخرج من صلبه «2» ونحوه قولهم للولد: سليل ونجل، وسَوَّاهُ قوّمه،
__________
(1) . قوله «أى أحسن فقد خلق كل شيء» لعل لفظ «فقد» مزيدة من قلم الناسخ. وعبارة النسفي: على البدل، أى: أحسن خلق كل شيء ويمكن أنه ليس مزيدا، بل هذا حاصل المعنى على البدل، كما أن عكسه الآتي هو حاصل المعنى على الوصف. (ع)
(2) . قوله «وتخرج من صلبه» لعل قبله سقطا تقديره: كما سميت النطفة سلالة، لأنها تسل منه. وفي الصحاح «النجل» : النسل. ونجله أبوه، أى: ولده. (ع)(3/508)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
كقوله تعالى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... الآية كأنه قال: ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته.
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
وَقالُوا قيل القائل أبى بن خلف، ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعا. وقرئ: أئنا.
وأنا، على الاستفهام وتركه ضَلَلْنا صرنا ترابا، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا فِي الْأَرْضِ بالدفن فيها، من قوله:
وآب مضلّوه بعين جليّة «1»
وقرأ على وابن عباس رضى الله عنهما: ضللنا، بكسر اللام. يقال: ضل يضل وضل يضل. وقرأ الحسن رضى الله عنه: صللنا، من صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن. وقيل: صرنا من جنس الصلة وهي الأرض. فإن قلت: بم انتصب الظرف في أَإِذا ضَلَلْنا؟ قلت: بما يدل عليه إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث. أو يجدد خلقنا. لقاء ربهم: هو الوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت وما وراءه، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالإنشاء وحده: ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح. قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وقال: أخرجوا أنفسكم، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء. من قولك: توفيت حقي من فلان، واستوفينه إذا أخذته وافيا كاملا من غير نقصان. والتفعل والاستفعال: يلتقيان في مواضع: منها: تقصيته واستقصيته، وتعجلته واستعجلته. وعن مجاهد رضى الله عنه: حويت لملك الموت الأرض، وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن قتادة: يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة.
وقيل: ملك الموت: يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها.
__________
(1) .
وآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
يرثى ميتا. والإياب: الرجوع. والإضلال: الدفق والتغيب. وجولان: جبل بالشام. والنائل: العطاء يعنى: بترك ذلك الموصوف بالحزم والكرم، فقد ترك الوصفات هناك.(3/509)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وَلَوْ تَرى يجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أن يراد به التمني، كأنه قال: وليتك ترى، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة: «لو نظرت إليها» «1» والتمني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الترجي له في لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمرا فظيعا. أو: لرأيت أسوأ حال ترى. ويجوز: أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم، إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا تريد به مخاطبا بعينه، فكأنك قلت:
إن أكرم وإن أحسن إليه، ولو وإذ: كلاهما للمضى، وإنما جاز ذلك، لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود المقطوع به في تحققه، ولا يقدر لترى ما يتناوله، كأنه قيل: ولو تكون منك الرؤية، وإذ ظرف له. يستغيثون بقولهم رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فلا يغاثون، يعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك. أو كنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا فَارْجِعْنا هي الرجعة إلى الدنيا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها على طريق الإلجاء والقسر، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار «2» دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء. ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم: من نسيان العاقبة،
__________
(1) . هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي، والنسائي وابن ماجة وابن أبى شيبة وابن حبان. والحاكم.
وأحمد والبزار. وغيرهم من حديث المغيرة «أنه خطب امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما» ورواه أبو عبيد في الغريب بلفظ أنه قال للمغيرة وقد خطب امرأة «لو نظرت إليها» الحديث. [.....]
(2) . قوله «ولكننا بنينا الأمر على الاختيار» لما أوجب المعتزلة على الله الصلاح قالوا: إنه قد شاء الهدى للكل، ولكن مشيئة تخيير، لا مشيئة إجبار، فلذا لم يهتد الكل بل البعض، ولو شاء مشيئة قسر لاهتدى الكل.
وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا، وقالوا: كل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، خيرا كان أو شرا. واستلزام الارادة لوقوع المراد لا يستلزم القسر والإجبار للعباد، لما لهم من الكسب في أفعالهم، وإن كانت في الحقيقة مخلوقة لله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)(3/510)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعنى: أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها، ثم قال إِنَّا نَسِيناكُمْ على المقابلة، أى: جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، أى: تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم والمعنى فذوقوا هذا أى ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم «1» من المعاصي والكبائر الموبقة «2» .
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
إِذا ذُكِّرُوا بِها أى وعظوا: سجدوا تواضعا لله وخشوعا، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه، وأثنوا عليه حامدين له وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمعها، ومثله قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا: تَتَجافى ترتفع وتتنحى عَنِ الْمَضاجِعِ عن الفرش ومواضع النوم، داعين ربهم عابدين له، لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وهم المتهجدون. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل» «3» وعن الحسن رضى الله عنه: أنه التهجد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء
__________
(1) . قال محمود: «معناه بما كنتم تعملون من الكفر والكبائر الموبقة» قال أحمد: قد تمهد من مذاهب أهل السنة أن المقتضى لاستحقاق الخلود في العذاب هو الكفر خاصة. وأما ما دونه من الكبائر فلا يوجب خلودا، والمسألة سمعية، وأدلتها من الكتاب والسنة قطعية، خلافا للقدرية.
(2) . قوله «والكبائر الموبقة» أى: المهلكة. (ع)
(3) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم من رواية أبى وائل عن معاذ في أثناء حديث مرفوع قال «وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع»(3/511)
والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» «1» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فنزلت فيهم «2» . وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها ما أُخْفِيَ لَهُمْ على البناء للمفعول. ما أخفى لهم على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وما أخفى لهم. وما نخفى لهم. وما أخفيت لهم: الثلاثة للمتكلم، وهو الله سبحانه. وما: بمعنى الذي، أو بمعنى أى «3» . وقرئ: من قرّة أعين. وقرات أعين. والمعنى: لا تعلم النفوس- كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ لا ملك مقرب ولا نبىّ مرسل- أىّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو مما تقر به عيونهم، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها، ثم قال جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فحسم أطماع المتمنين «4» : وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين «5» ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،
__________
(1) . أخرجه إسحاق وأبو يعلى من رواية شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مطولا وهو عند الحاكم باختصار
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية الحرث بن رحبة عن مالك بن دينار «سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- الآية فقال: كان ناس- فذكره» ورواه أبو داود من حديث سعيد عن قتادة عن أنس نحوه، قال: وكان الحسن يقول «هو قيام الليل» والبزار من طريق زيد بن أسلم عن أبيه. قال قال بلال «كنا نجلس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية» قال: ولا نعلم له طريقا إلا هذه. ولا روى أسلم عن بلال غيره
(3) . قوله «أو بمعنى أى» لعله: أى شيء (ع)
(4) . قال محمود: «هذا حسم لأطماع المتمنين» قال أحمد: يشير إلى أهل السنة لاعتقادهم أن المؤمن العاصي موعود بالجنة، ولا بد من دخوله إياها وفاء بالوعد الصادق، وأن أحدا لا يستحق على الله بعمله شيئا، فلما وجد قوله تعالى جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اغتنم الفرصة في الاستشهاد على معتقد القدرية في أن الأعمال أسباب موجبة للجزاء، ولا دليل في ذلك لمعتقدهم مع قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فهذا الحديث يوجب حمل الآية على وجه يجمع بينها وبينه، وذلك إما أن تحمل الآية على أن المراد منها قسمة المنازل بينهم في الجنة فانه على حسب الأعمال، وليس بذاك فان المذكور في الآية مجرد دخول الجنة لا اقتسام درجاتها. وإما أن تحمل- وهو الظاهر، والله أعلم- على أن الله تعالى لما وعد المؤمن جنته- ووعده يجب أن يكون حقا وصدقا، تعالى وتقدس- صارت الأعمال بالوعد كأنها أسباب موجبات، فعوملت في هذه العبارة معاملتها، والمقصود من ذلك: تأكيد صدق الوعد في النفوس، وتصوره بصورة المستحق بالعمل، كالأجرة المستحقة شاهدا على العمل من باب مجاز التشبيه، والله أعلم. وذكر الزمخشري الحديث المشهور وهو «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وكان جدي رحمه الله يستحسن أن تقرأ الآية تلو الحديث المذكور بسكون الياء من أخفى، ورده إلى المتكلم، وهي من القراآت المستفيضة. والسبب في اختيار ذلك مطابقة صدر الحديث وهو: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ليكون الكل راجعا إلى الله تعالى، مسندا إلى ضمير اسمه عز وجل صريحا، والله الموفق.
(5) . متفق عليه من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه.(3/512)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
بله «1» ما أطلعتهم عليه، اقرؤا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وعن الحسن رضى الله عنه: أخفى القوم أعمالا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 21]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
كانَ مُؤْمِناً وكانَ فاسِقاً محمولان على لفظ من، ولا يَسْتَوُونَ محمول على المعنى، بدليل قوله تعالى أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ونحوه قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ. وجَنَّاتُ الْمَأْوى نوع من الجنان: قال الله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى سميت بذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: تأوى إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرئ: جنة المأوى، على التوحيد نُزُلًا عطاء بأعمالهم. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاما فَمَأْواهُمُ النَّارُ أى ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أى النار لهم، مكان جنة المأوى للمؤمنين:
كقوله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، الْعَذابِ الْأَدْنى عذاب الدنيا من القتل والأسر، وما محنوا به من السنة «2» سبع سنين. وعن مجاهد رضى الله عنه: عذاب القبر. والْعَذابِ الْأَكْبَرِ عذاب الآخرة، أى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أى يتوبون «3» عن الكفر، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه، كقوله تعالى
__________
(1) . قوله «بله ما أطلعتهم عليه» في الصحاح «بله» : كلمة مبنية على الفتح مثل كيف، ومعناها: دع، كما أجازه، الأخفش في قول كعب بن مالك:
تذر الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق
ويقال: معناها سوى. وفي الحديث: «أعددت لعبادي ... الخ» . (ع)
(2) . قوله «وما محنوا به من السنة» أى المجدية. أو المراد بها الجدب، كما يؤخذ من الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه لعلهم يتوبون. فان قلت: من أبن صح تفسير الرجوع بالتوبة ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان، وتوبتهم مما لا يكون، لأنهم لو تابوا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. قلت: إرادة الله تعالى تتعلق بأفعاله وأفعال عباده فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده فاما أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرون إليها بقسره، فان أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك:
إرادتك أن يختار عبدك الطاعة لك وهو لا يختارها، لأن اختيارها لا يتعلق بقدرتك فلا يكون فقده عجزا منك» قال أحمد: هذا الفصل ردىء جدا مفرع على الإشراك الجلى لا على الاشراك الخفي، فاعتصم بدليل الوحدانية على رده واجتنابه من أصله، والله المستعان. وإنما جره في تفسير لعل إلى الارادة، والحق في تفسيرها أنها لترجى المخاطبين امتناع الترجي على الله تعالى، كذا فسرها سيبويه فيما تقدم، والله أعلم.(3/513)
فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً وسميت إرادة الرجوع رجوعا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ويدل عليه قراءة من قرأ: يرجعون، على البناء للمفعول. فإن قلت:
من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و «لعل» من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت:
إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده: فإما أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره «1» ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالا على عجزك. وروى في نزولها: أنه شجر بين على بن أبى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبىّ: أنا أشبّ منك شبابا، وأجلد منك جلدا، وأذرب منك لسانا، وأحدّ منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة. فقال له على رضى الله عنه: اسكت، فإنك فاسق «2» ، فنزلت عامّة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما «3» . وعن الحسن بن على رضى
__________
(1) . قوله «لم يقدح ذلك في اقتداره» أى عدم وقوعها وعدم اختيارهم إياها، فهذا على مذهب المعتزلة:
من أنه قد يريد الشيء ولا يكون، ومذهب أهل السنة: أن كل ما أراده الله كان. (ع)
(2) . أخرجه ابن مردويه والواحدي من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة بن أبى معيط لعلى: أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ منك للكتيبة. فقال له على: اسكت يا فاسق، فإنما أنت فاسق.
فنزلت» وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما «تنبيه» قوله: أن ذلك شجر بينهما يوم بدر، غلط فاحش. فما كان الوليد حينئذ رجلا [.....]
(3) . قال محمود: «سبب نزولها أنه شجر بين على بن أبى طالب كرم الله وجهه والوليد ابن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد اسكت فإنك صبى أنا أشب منك شبابا وأجلد جلدا وأذرب لسانا وأحد منك سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له على: اسكت فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والكافرين تتناولهما معا» قال أحمد: ذكر للسبب المحقق: لأن المراد بالفاسق وبالذين فسقوا: الذين كفروا، لأنها نزلت في الوليد وهو كافر حينئذ، ثم أدرج فيه المؤمن تعصبا لمذهبه في وجوب خلود فساق المؤمنين كفساق الكافرين.
فلم يزل يورد هذه العقائد الفواسد، ولقد اتسع الخرق على الراقع.(3/514)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
الله عنهما: أنه قال للوليد: كيف تشتم عليا وقد سماه الله مؤمنا في عشر آيات، وسماك فاسقا؟
[سورة السجده (32) : آية 22]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
ثم في قوله ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها للاستبعاد. والمعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه ثم في بيت الحماسة:
لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة ... يرى غمرات الموت ثمّ يزورها «1»
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها. فإن قلت: هلا قيل:
إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
__________
(1) .
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
لجعفر بن علبة الحارثي، شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشى الناس ويغطيهم على طريق المكنية، والكشف تخييل وقال «ابن حرة» أى كريم، ليكون تهييجا للسامع وبعثا له على الهيجاء. والغمرة: الشدة. وغمرات الموت:
شدائده وأهواله، كأحوال المعركة الشديدة. وقوله «ثم يزورها» أى يلاقيها برغبة، كلقاء المحبوب، وعطفه بثم، لأن بين رؤية الأهوال المفزعة، وبين الانحدار إليها برغبة بون بعيد في العادة والتعقل. وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجرى فيه المقاسمة، وتقاسمهم تخييل لذلك، ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها، أى ما يغشاهم منها وهي مقابضها. أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه «صدورها» أى أطرافها المتقدمة منها. وصدر كل شيء: مقدمه. وعبر بفي دون اللام، لأن «في» تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم، واللام تفيد التملك وليس مرادا، وإن كان مقتضى القسمة، فلعله دفع توهمه بالعدول إلى «في» وذكرها أولا تمهيدا للثانية.(3/515)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
الْكِتابَ للجنس والضمير في لِقائِهِ له. ومعناه: إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ونحو قوله مِنْ لِقائِهِ قوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وقوله وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، لصبرهم وإيقانهم بالآيات. وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونورا، ولنجعلنّ من أمّتك أثمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين.
وقيل: من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل: من لقاء موسى عليه السلام الكتاب، أى: من تلقيه له بالرضا والقبول. وقرئ: لما صبروا، ولما صبروا، أى لصبرهم. وعن الحسن رضى الله عنه: صبروا عن الدنيا. وقيل: إنما جعل الله التوراة هدى لبنى إسرائيل خاصة، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضى، فيميز المحق في دينه من المبطل.
[سورة السجده (32) : آية 26]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
الواو في أَوَلَمْ يَهْدِ للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف، والضمير في لَهُمْ لأهل مكة. وقرئ بالنون والياء، والفاعل ما دلّ عليه كَمْ أَهْلَكْنا لأنّ كم لا تقع فاعلة، لا يقال: جاءني كم رجل، تقديره: أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون. أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه، كقولك: يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة بالنون. والْقُرُونِ عاد وثمود وقوم لوط يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعنى أهل مكة، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم. وقرئ: يمشون: بالتشديد.
[سورة السجده (32) : آية 27]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
الْجُرُزِ الأرض التي جرز نباتها أى قطع، إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز. ويدل عليه قوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وعن ابن عباس(3/516)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
رضى الله عنه: إنها أرض اليمن. وعن مجاهد رضى الله عنه: هي أبين»
. بِهِ بالماء تَأْكُلُ من الزرع أَنْعامُهُمْ من عصفه وَأَنْفُسُهُمْ من حبه. وقرئ: يأكل، بالياء.
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
الفتح: النصر، أو الفصل بالحكومة، من قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين. ويفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون قالوا مَتى هذَا الْفَتْحُ أى في أىّ وقت يكون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه كائن. ويَوْمَ الْفَتْحِ يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم، ويوم نصرهم عليهم. وقيل: هو يوم بدر. وعن مجاهد والحسن رضى الله عنهما: يوم فتح مكة. فإن قلت: قد سألوا عن وقت الفتح، فكيف ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم. قلت: كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالا منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأنى بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. فإن قلت: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. قلت: المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق وَانْتَظِرْ النصرة عليهم وهلاكهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليكم وهلاككم، كقوله تعالى فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وقرأ ابن السميقع رحمه الله:
منتظرون، بفتح الظاء. ومعناه: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعنى أنهم هالكون لا محالة. أو وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ الم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك، أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر «2» » وقال: «من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» «3» .
__________
(1) . قوله «هي أبين» في الصحاح «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن، فيقال: عدن أبين. اه فتدبر. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي عن أبى وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية أبى عصمة عن زيد العمي عن أبى بصرة عن ابن عباس عن أبى. وعند ابن مردويه مزوجه آخر عن نافع عن ابن عمر. وفي إسناده داود بن معاذ: وهو ساقط.
(3) . لم أجده.(3/517)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
سورة الأحزاب
مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية [نزلت بعد آل عمران] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
عن زرّ قال: قال لي أبىّ بن كعب رضى الله عنه: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول.
ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم «1» . أراد أبىّ رضى الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض «2» . جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم. يا موسى، يا عيسى.
يا داود: كرامة له وتشريفا، وربئا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار،
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وابن مردويه كلهم من هذا الوجه.
(2) . قلت: بل راويها ثقة غير متهم. قال إبراهيم الحربي في الغريب: حدثنا هرون بن عبد الله أن الرجم أنزل في سورة الأحزاب مكتوبا في خوصة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها» وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة انتهى. وكأن المصنف فهم أن ثبوت هذه الزيادة يقتضى ما تدعيه الروافض:
أن القرآن ذهب منه أشياء. وليس ذلك بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ(3/518)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ. اتق الله: واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ لا تساعدهم على شيء. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبنى قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم. وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم «1» فنزلت. وروى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للنبىّ صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم «2» ، فنزلت: أى اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع. فنزلت إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب من الخطإ، والمصلحة من المفسدة حَكِيماً لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ الذي يوحى إليك خبير بِما تَعْمَلُونَ فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ: يعملون، بالياء، أى: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل أمر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
__________
(1) . لم أجده.
(2) . هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.(3/519)
ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل.
والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك، فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها. عالما ظانا، موقنا شاكا في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان، وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية «1» لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبى صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد «2» ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب، فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما
__________
(1) . قال محمود: «أسد ما ذكر فيه من التأويلات أنهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين، فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة، كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات. قال: وهذه الأمور الثلاثة متنافية: أما الأول فلأنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر، وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك. وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام، فنافى أن تكون الزوجة أما. وأما الثالث فلأن النبوة أصالة وعراقة، والدعوة لاصقة عارضة، فهما متنافيان، وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار.
(2) . هكذا ذكره ابن إسحاق وابن أبى خيثمة من طريقه. وزاد في آخره «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منه بعشر سنين فتبناه» وعن سالم عن أبيه قال «ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى أنزل الله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انتهى. وهذه الزيادة في الصحيحين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «ما كنا ندعو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ- الآية(3/520)
في رجلىّ، فأكذب الله قوله وقولهم، وضربه مثلا في الظهار والتبني. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الله. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول:
نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في رجل، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار. وقرئ: اللايئ «1» ، بياء وهمزة مكسورتين. واللائي. بيا. ساكنة بعد الهمزة: وتظاهرون: من ظاهر. وتظاهرون.
من اظاهر، بمعنى تظاهر. وتظهرون: من أظهر، بمعنى تظهر. وتظهرون: من ظهر، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد. وتظهرون: من ظهر، بلفظ فعل من الظهور. ومعنى ظاهر من امرأته:
قال لها: أنت علىّ كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم، إذا قال لبيك. وأفف الرجل: إذا قال: أف وأخوات لهنّ. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت: كان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية. فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها. وظاهر منها:
حاذر منها، وظهر منها: وحش منها «2» . وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدّى بمن، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه.
فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت علىّ كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت علىّ حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن. ومنه حديث عمر رضى الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه: أراد على ظهره. ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّما عندهم محظورا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر ثم لم يقنع
__________
(1) . قوله «وقرئ اللايئ بياء وهمزة مكسورتين» لعل مراد، قراءتان إحداهما بياء مكسورة والأخرى بهمزة مكسورة، لكن الياء ليست ياء صرفة، بل هي همزة مسهلة ينطق بها بين الهمزة والياء والحاصل: أنه قرئ اللائي بياء ساكنة بعد الهمزة. وقرئ اللاء بهمزة مكسورة من غير ياء. وقرئ: اللايى بشبه الياء مكسورة وهي الهمزة التي ينطق بها بين بين. وقرئ: اللاى بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، فهذه أربع قراآت في لفظ اللائي أينما كان في القرآن، كما في شرح الشاطبية. (ع)
(2) . قوله «وحش منها» أى خلا منها أفاده الصحاح. (ع)(3/521)
بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك. فإن قلت: الدعىّ فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يدعى ولدا فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقىّ وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى. قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي ذلِكُمْ النسب هو قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقا. والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها «1» : من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة:
وهو الذي يهدى السبيل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه: ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا لهم آباء تنسبونهم إليهم «فهم» فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخى وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي: يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه ما تَعَمَّدَتْ في محل الجرّ عطفا على ما أخطأتم. ويجوز أن يكون مرتفعا على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى.
أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنىّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام «ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» «2» وقوله عليه الصلاة والسلام وضع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه «3» » ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده.
فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب وأصغر سنا من المتبنى ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم
__________
(1) . قوله «وفي فصل هذه الجمل ووصلها» أى: فصل ما فصل منها ووصل ما وصل. (ع) [.....]
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبى هريرة مرفوعا أتم منه. وأخرجه الطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين من رواية ثابت بن عجلان حدثني عطاء عن عائشة رضى الله عنها.
(3) . أخرجه ابن عدى من رواية حسن بن برقة حدثني أبى عن الحسن عن أبى بكرة رفعه «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ والنسيان والأمر المكرهون عليه» هذه من منكرات جعفر. وأخرجه ابن ماجة وابن حبان من حديث ابن عباس. فأما ابن حبان فقال: عن عطاء عن عبيد بن عمير عنه، بلفظ «إن الله تجاوز» وأما ابن ماجة فقال عن الأوزاعى «إن الله وضع»(3/522)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند صاحبيه لا يعتق. وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبدا عتق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد «1» .
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ في كل شيء من أمور الدين والدنيا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ولهدا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبدلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه، لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم «2» لئلا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أو هو أولى بهم، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن هلك وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فإلىّ» «3» وفي قراءة ابن مسعود: النبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أب لهم. وقال مجاهد: كل نبىّ فهو أبو أمّته. ولذلك صار المؤمنون إخوة لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن، وتحريم نكاحهن: قال الله تعالى وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات، ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: لسنا أمهات النساء «4» . تعنى أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال، لكونهنّ
__________
(1) . قوله «وعن العمد إذا تاب العامد» هذا عند المعتزلة، وقد يغفر بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)
(2) . قوله «فأخذ يحجزهم» في الصحاح «حجزة الإزار» : معقده. وحجزة السراويل: التي فيها التكة. (ع)
(3) . أخرجه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبى عمرة عن أبى هريرة رضى الله عنه بمعناه.
(4) . أخرجه الدارقطني من رواية مضر الأعتق حدثني حرفاء قالت: قلت لعائشة «يا أم. فقالت: لست أم النساء، إنما أنا أم الرجال» وفي الطبقات من طريق مسروق قال «قالت امرأة لعائشة: يا أم. فقالت عائشة إنى لست بأمك إنما أنا أم الرجال» .(3/523)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
محرّمات عليهم كتحريم أمّهاتهم. والدليل على ذلك: أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات. كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام «1» وعزّ أهله، وجعل التوارث بحق القرابة فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح. أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية. أو في آية المواريث. أو فيما فرض الله كقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يجوز أن يكون بيانا لأولى الأرحام، أى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أى: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
فإن قلت: مم استثنى أَنْ تَفْعَلُوا؟ قلت: من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول:
القريب أولى من الأجنبى إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية. والمراد بفعل المعروف: التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى، لأنه في معنى: تسدوا وتزلوا «2» والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعا. وتفسير الكتاب: ما مر آنفا، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
وَاذكر حين أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ جميعا مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم وَمِنْكَ خصوصا وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى وإنما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى عَنْ صِدْقِهِمْ عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين. أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم، لأن من قال للصادق: صدقت، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم. وتأويل مسألة الرسل: تبكيت الكافرين بهم، كقوله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
__________
(1) . قوله «دجا الإسلام» في الصحاح: دجا الإسلام، أى: قوى وألبس كل شيء. (ع)
(2) . قوله «لأنه في معنى تسدوا وتزلوا» في الصحاح: أزلت إليه نعمة، أى: أسديتها. وفي الحديث:
«من أزلت إليه نعمة فليشكرها» اه. (ع)(3/524)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
فإن قلت: لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده «1» قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم «2» ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين: قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه. فإن قلت:
فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية، وهي قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثم قدم على غيره. قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ؟ قلت: على أخذنا من النبيين، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو على ما دل عليه لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
__________
(1) . قال محمود: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم على نوح لأنهم ذكروا تخصيصا بعد التعميم تفضيلا لهم فقدم أفضل المخصوصين» قال أحمد: وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... على ومنهم أحمد المتخير
فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له، وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام على نوح ومن بعده في الذكر: أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك، ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام: جرى ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم، والله أعلم.
(2) . قوله «هم مشاهيرهم وذراريهم» لعله «دراريهم» بالدال المهملة، والدراري: الكواكب العظام، كما أفاده الصحاح. (ع)(3/525)
اذْكُرُوا ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور «1» وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا: بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «2» وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «3» واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر «4» تَعْمَلُونَ قرئ بالتاء والياء مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا.
وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد: ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا خطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام،
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(2) . قوله «فأخصرتهم» في الصحاح «الخصر» بالتحريك: البرد. وقد خصر الرجل: إذا آلمه البرد في أطرافه اه، فأخصرتهم: أوقعتهم في الخصر أى البرد. (ع)
(3) . قوله «فرفعوا في الآطام» أى الحصون، وهو جمع أطم كعنق. (ع)
(4) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي. ومن طريقه الطبري عن زيد بن رومان عن عروة عن عبد الله بن أبى بكر ومحمد بن كعب وغيرهم من علمائنا، فذكر القصة بطولها وأتم مما هاهنا. وهو في السيرة لابن هشام من قول إسحاق. [.....](3/526)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
والضعاف القلوب: الذين هم على حرف، والمنافقون: الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. وعن الحسن: ظنوا ظنونا مختلفة: ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون، وظنّ المؤمنون أنهم يبتلون. وقرئ: الظنون، بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة، كما زادها في القافية من قال:
أقلّى الّلوم عاذل والعتابا «1»
وكذلك الرسولا والسبيلا. وقرئ بزيادتها في الوصل أيضا، إجراء له مجرى الوقف. قال أبو عبيد: وهنّ كلهنّ في الإمام بألف. وعن أبى عمرو إشمام زاى زلزلوا. وقرئ زلزالا بالفتح. والمعنى: أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 14]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
إِلَّا غُرُوراً قيل قائله: معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا «2» ، ما هذا إلا وعد غرور طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظى ومن وافقه على رأيه. وعن السدى عبد الله بن أبىّ وأصحابه. ويثرب: اسم
__________
(1) .
أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
إذا غضبت على بنو تميم ... وجدت الناس كلهم غضابا
لجرير، وزاد الألف في القافية للإطلاق، وبنو تميم ينشدون مثل ذلك بتنوين الترنم بدل حرف الإطلاق. قال الزمخشري: إذا وصل المنشد ولم يقف، وظاهر كلام النحويين: أنه إنما يجيء في الوقف. وعاذل: منادى، مرخم عاذلة. يقول: اتركي ملامى وعتابى، وإن فعلت صوابا فاعترفى به، ويروى بكسر التاء، فالمعنى: أن لومك خطأ فإذا أردت الصواب فقولي: لقد أصاب، وجعل غضب بنى تميم غضب كل الناس، لأن ما عداهم تبع. أو كالمعدوم.
ويروى: إذا غضبت عليك، والخطاب لكل سامع.
(2) . قوله «فرقا» أى خوفا. (ع)(3/527)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
المدينة. وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها لا مُقامَ لَكُمْ قرئ بضم الميم وفتحها، أى لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون فَارْجِعُوا إلى المدينة: أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا، وإلا فليست يثرب لكم بمكان. قرئ: عورة، بسكون الواو وكسرها، فالعورة: الخلل، والعورة: ذات العورة، يقال: عور المكان عورا إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق.
ويجوز أن تكون عَوْرَةٌ تخفيف: عورة، اعتذروا أنّ بيوتهم معرّضة للعدو ممكنة للسراق، لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة. وقيل: بيوتهم، من قولك: دخلت على فلان داره مِنْ أَقْطارِها من جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفا منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها. وانثالت «1» على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة الْفِتْنَةَ أى الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لأتوها: لجاؤها وفعلوها. وقرئ: لآتوها: لأعطوها وَما تَلَبَّثُوا بِها وما ألبثوا إعطاءها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا، فإن الله يهلكهم. والمعنى: أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤهم هولا ورعبا، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا «2» عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام. وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 16]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)
عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. وعن محمد بن إسحاق عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعد ما نزل فيهم ما نزل مَسْؤُلًا مطلوبا مقتضى حتى يوفى به لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل. وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم
__________
(1) . قوله «وانثالت» في الصحاح: انثال عليه الناس من كل وجه، أى: انصبوا. (ع)
(2) . قوله «لو كبسوا» في الصحاح: كبسوا دار فلان: أغاروا عليها فجأة. (ع)(3/528)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
بالتأخير: لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا. وعن بعض المروانية: أنه مرّ بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب.
[سورة الأحزاب (33) : آية 17]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:
متقلّدا سيفا ورمحا «1»
أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 20]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
الْمُعَوِّقِينَ المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون: كانوا يقولون لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «2» ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم وهَلُمَّ إِلَيْنا أى قربوا
__________
(1) .
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
«يا ليت زوجك قد غدا» أى: ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.
(2) . قوله «ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس» أى قليلون يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل، والالتهام:
الابتلاع، كذا في الصحاح. (ع)(3/529)
أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز: يسؤون فيه بين الواحد والجماعة. وأمّا تميم فيقولون:
هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعدّ مثل احضر وقرب قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ إِلَّا قَلِيلًا إلا إتيانا قليلا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطرّوا إليه، كقوله ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولو إذا بك، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير- وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليه. ونصب أَشِحَّةً على الحال أو على الذمّ. وقرئ: أشحة، بالرفع. وصلقوكم بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا. فإن قلت: ما معنى قوله وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف يَحْسَبُونَ أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرّة ثانية، تمنوا لخوفهم مما منوا «1» به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال- لم يقاتلوا إلا تعلة «2» رياء وسمعة. وقرئ: بدّى، على فعّل جمع باد كغاز وغزّى. وفي رواية صاحب الإقليد: بدىّ، بوزن عدىّ. ويساءلون، أى: يتساءلون. ومعناه. يقول بعضهم لبعض:
ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه: كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في
__________
(1) . قوله «مما منوا به» أى ابتلوا به. (ع)
(2) . قوله «إلا تعلة» في الصحاح: علله بالشيء، أى: لهاه به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يتجزأ به عن اللبن. يقال: فلان يعلل نفسه بتعلة. (ع)(3/530)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب «1» . حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 21]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
فإن قلت: فما حقيقة قوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقرئ: أسوة، «2» بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أى: قدوة، وهو الموتسى، أى: المقتدى به، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أى: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع. وهي المواساة بنفسه لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من لكم، كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ يرجو الله واليوم الآخر: من قولك رجوت زيدا وفضله، أى: فضل زيد. أو يرجو أيام الله. واليوم الآخر خصوصا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك.
[سورة الأحزاب (33) : آية 22]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا، أى:
في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك «3» . وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء إِيماناً بالله وبمواعيده وَتَسْلِيماً لقضاياه وأقداره،
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
__________
(1) . قوله «في مرحى الحرب» أى مكان إدارة رحاها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وقرئ أسوة بالضم» يفيد أن قراءة الكسر هي المشهورة. (ع)
(3) . لم أجده(3/531)
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى الله عنهم فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعنى حمزة ومصعبا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» «1» فإن قلت: ما قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت، لأنّ كل حى لا بدّ له من أن يموت. فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أى:
نذره. وقوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يحتمل موته شهيدا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ؟
قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني، إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: صدقنى سنّ بكره. فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل، فلا يخلو ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوبا وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة «2» وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب: جعل
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم من طريق الصلت بن دينار عن أبى نصرة عن جابر. والصلت ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق أولاد طلحة عن طلحة.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية حرير بن حازم عن عروة في قوله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا- الآية» منهم طلحة بن عبيد الله فذكره. وقد روى مفرقا من غير هذا الوجه. فقضيته أن يده أصيبت. أخرجها البخاري من رواية قيس بن أبى حازم «رأيت بد طلحة شلاء، وفي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد» والنسائي من طريق عمارة بن غزية عن أبى الزبير عن جابر قال «لما كان يوم أحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية في اثنى عشر رجلا من الأنصار. فذكر القصة مطولة قوله أوجب طلحة» أخرجها الترمذي وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى والبزار من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه به.(3/532)
المنافقون، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إذا تابوا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الأحزاب بِغَيْظِهِمْ مغيظين، كقوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ. لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصية ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى:
صيصية، ولشوكة الديك، وهي مخلبه التي في ساقه، لأنه يتحصن بها. روى أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال:
ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس: أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلى العصر إلا في بنى قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمى؟
فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «1» ثم استزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير «2» . وقرئ: الرعب، بسكون
__________
(1) . قوله «من فوق سبعة أرقعة» في الصحاح «الرقيع» سماء الدنيا. وكذلك سائر السماوات. وفي الحديث «من فوق سبعة أرقع» على لفظ التذكير، كأنه ذهب إلى السقف. (ع) [.....]
(2) . هو في سيرة ابن هشام في غزوة بنى قريظة عن ابن إسحاق إلى القدر الأخير فأسنده ابن إسحاق عن عاصم ابن عمر عن عبد الرحمن أن عمر بن سعد بن معاذ عن علقمة بن وقاص الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره. وروى أبو نعيم في الدلائل من طريق معاذ بن رفاعة عن أبى الزبير عن جابر رضى الله عنه قال «لما رابطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يغسل رأسه»(3/533)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
العين وضمها. وتأسرون، بضم السين. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضى الله عنه:
أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله «1» وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها عن الحسن رضى الله عنه: فارس والروم.
وعن قتادة رضى الله عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضى الله عنه: هي خيبر. وعن عكرمة:
كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
أردن شيئا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فبدأ بعائشة رضى الله عنها- وكانت أحبهنّ إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك، فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «2» . روى أنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ، فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة «3» . وروى أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا «4» . فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لا بد من ذكر النفس في
__________
(1) . أخرجه الواقدي من رواية حارثة بن زيد عن أم العلاء قالت «لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير- الحديث» ومن طريق المسور بن رفاعة قال قال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت من بنى النضير الخ؟»
(2) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة عن الحسن نحو هذا
(3) . متفق عليه من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عائشة: وزاد ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت»
(4) . أخرجه سالم من رواية أبى الزبير عن جابر في قصة التخيير. وفي آخره «وأسألك أن تخيير امرأة من نسائك. فانه لا تسألنى امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» وفي الصحيحين من رواية معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس- فذكر القصة مطولا. وفي آخره عند مسلم قال معمر فأخبرنا أيوب أن عائشة قالت له لا تخبر نساءك أنى اخترتك. قال: إن الله أرسلنى مبلغا ولم يرسلني متعنتا» .(3/534)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
قول الخير أو المخيرة- وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى الله عنها: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقا «1» . وروى: أفكان طلاقا. وعن علىّ رضى الله عنه. إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء. أصل تعال: أن يقوله من في المكان المرتفع، لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى تعالين: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ، كما تقول: أقبل. يخاصمني، وذهب يكلمني. وقام يهددنى أُمَتِّعْكُنَّ أعطكنّ متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضى الله عنه: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية. حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: المتعة حق مفروض. وعن الحسن رضى الله عنه: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا تنقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: أمتعكنّ وأسرحكنّ بالرفع؟ قلت:
وجهه الاستئناف سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار طلاقا بالسنة مِنْكُنَّ للبيان لا للتبعيض.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
الفاحشة: السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهرة فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنّ، وطلبهن منه
__________
(1) . متفق عليه باللفظين.(3/535)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل: الزنا، والله عاصم رسوله من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابا يتبع كون الفعل قبيحا، فمتى ازداد قبحا. ازداد عقابه شدّة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم: أشدّ منه للعاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه. قرئ: يأت، بالتاء والياء. مبينة: بفتح الياء وكسرها، من بين بمعنى تبين. يضاعف، ويضعف: على البناء للمفعول. ويضاعف، ونضعف: بالياء والنون.
وقرئ: تقنت، وتعمل: بالتاء والياء. ونؤتها: بالياء والنون. والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة والقناعة، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى.
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «1» يريد بين
__________
(1) . قال محمود: «معناه لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله: ولم يفرقوا بين أحد منهم» قال أحمد: إنما بعثه على جعل التفضيل بين نساء النبي عليه الصلاة والسلام وبين جماعات النساء لا آحادهن: أن يطابق بين المتفاضلين، لأن الأول جماعة، وقد كان مستغنيا عن ذلك بحمل الكلام على واحدة، ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء، أى: كواحدة من النساء، ويلزم من تفضيل كل واحدة منهن على كل واحدة من آحاد النساء تفضيل جماعتهن على كل جماعة، ولا يلزم ذلك في العكس، فتأمله والله أعلم وجاء التفضيل هاهنا كمجيئه في قوله تعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وقوله وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في تقديم الأفضل عند التفضيل، وقد مضت في ذلك نكتة حسنة، والله الموفق.(3/536)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين إِنِ اتَّقَيْتُنَّ إن أردتن التقوى، وإن كنتن «1» متقيات فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجبن بقولكن خاضعا، أى: لينا خنثا مثل كلام المربيات والمومسات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أى ريبة وفجور. وقرئ بالجزم، عطفا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول. ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول، أى: فيطمع القول المريب قَوْلًا مَعْرُوفاً بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
وَقَرْنَ بكسر القاف، من وقر يقر وقارا. أو من قرّ يقرّ، حذفت الأولى من رائى:
أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، وقرن: بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان:
وجها آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع. ومنه. القارة، لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش «2» : اجتمعوا فكونوا قارة. والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام: كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى الدرداء رضى الله عنه «إن فيك جاهلية» قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال «بل جاهلية كفر» «3»
__________
(1) . قوله «وإن كنتن متقيات» لعله «أو إن» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «إلى قول عضل والديش» في الصحاح «عضل» : قبيلة، وهو عضل بن الهون بن خزيمة أخو الديش، وهما القارة. وفيه أيضا «الديش بن الهون بن خزيمة» وربما قالوه بفتح الدال، وهو أحد القارة، والآخر عضل ابن الهون، يقال لهما جميعا: القارة. (ع)
(3) . لم أجده عن أبى الدرداء، وإنما هو في الصحيحين عن أبى ذر. ولم يقل جاهلية كفر ... إلى آخره.(3/537)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاما في جميع الطاعات، لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات: من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن، لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات، فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء. أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته.
[سورة الأحزاب (33) : آية 34]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
ثم ذكرهن أنّ بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات تدل على صدق النبوّة، لأنه معجزة بنظمه. وهو حكمة وعلوم وشرائع إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم.
أو علم من يصلح لنبوّته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته. أو حيث جعل الكلام الواحد جامعا بين الغرضين.
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
يروى أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة «1» . وقيل: السائلة أم سلمة «2» .
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية ابن ظبيان عن ابن عباس: «قال النساء: يا رسول الله، ما لنا لا نذكر في القرآن ... الحديث» .
(2) . أخرجه النسائي من رواية شريك عن محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أم سلمة قالت «يا رسول الله مالى أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرن. فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وأخرجه الطبراني والطبري من وجه آخر عن محمد بن عمر. ورواه أحمد وابن راهويه والنسائي من رواية عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن ابن شيبة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد عن أم سلمة وروى الترمذي عن أم عمارة نحوه.(3/538)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
وروى أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ «1» فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله. والمؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به.
والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر:
الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله ولا يخل بالنوافل. وقيل:
من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين. ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين.
والذاكر الله كثيرا: من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما. وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» «2» والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف، لأنّ الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أى فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت: العطف الأوّل نحو قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد الله، فنزلت، فقال: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر «3» . وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أوّل من
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «دخل نساء من المؤمنات على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكرنا الله في القرآن- الحديث» وأخرجه ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن قتادة.
(2) . أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من رواية الأغر عن أبى سعيد وأبى هريرة مرفوعا. [.....]
(3) . لم أجده موصولا. وأوله في الدارقطني من رواية الكميت بن زيد الأسدى الشاعر عن مذكور بن زيد الأسدى مولى زينب بنت جحش عن زينب بنت جحش «قالت: خطبنى عدة من قريش. فأرسلت أختى حمنة تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها: أين هي من بعلها؟ كتاب الله- الحديث وإسناده ضعيف.
وليس فيه ذكر مقدار المهر. نعم أخرجه ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان مقطوعا.(3/539)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت، وزوّجها زيدا.
فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجنا عبده «1» والمعنى وما صح لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى رسول الله أو لأنّ قضاء رسول الله هو قضاء الله أَمْراً من الأمور: أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم ولكنهما وقعا تحت النفي، فعما كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ: يكون، بالتاء والياء. والْخِيَرَةُ ما يتخير.
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك الله فيه، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش رضى الله عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك: أرابك منها شيء؟ قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب علىّ زينب. قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بهذا بغير سند وروى الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من قوله ذلك.(3/540)
إليها، حين علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن «1» زَوَّجْناكَها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار. فإن قلت: ما أراد بقوله وَاتَّقِ اللَّهَ؟ قلت: أراد: واتق الله فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم، لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها.
وقيل: مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها وسينكحها، لأن الله قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية «2» . فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته، لأن الله يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة، كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلىّ فأقتله، فقال: إن الأنبياء لا تومض، «3» ظاهرهم وباطنهم واحد «4» . فإن قلت:
__________
(1) . ذكره الثعلبي بغير سند. وأخرج الطبري معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله، وفي الصحيحين عن أنس قصة زينب وزيد مختصرة. وليس فيه مما في أوله.
(2) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(3) . قوله «لا تومض» في الصحاح: أو مضت المرأة، إذا سارقت النظر. (ع)
(4) . لم أجده، وفي الدلائل للبيهقي من رواية الحسن بن بشر عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال «أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس- فذكر الحديث قال «ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد إذا رآه فأتى به عثمان فشفع له، فجعل الأنصارى يتردد ويكره أن يقدم عليه. فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للأنصارى: قد انتظرتك. قال: يا رسول الله أفلا أرمضت إلى؟ قال: إنه ليس للنبي أن يومض» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة مرسلا. وروى عبد الرزاق من طريق مقسم مولى ابن عباس قال «لما كانت المدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش- فذكر الحديث بطوله وفيه «وأمن الناس إلا أربعة. وفيه فجاء عثمان بابن أبى سرح. فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاء فبايعه فقال لقد أعرضت عنه ليقتله بعضكم فقال رجل من الأنصار هلا أومضت إلينا يا رسول الله؟ قال:
إن النبي لا يومض» وهذا مرسل أيضا وأخرجه أبو داود وغيره من حديث سعد بن أبى وقاص نحو الأول، لكن في آخره «ثم أقبل على أصحابه فقال: أفما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله؟
قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.(3/541)
كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ولا يستهجن النبىّ صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن، وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟
ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة، «1» فهذا من ذاك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها، ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمّهات المسلمين. إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً فبالحرى أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات
__________
(1) . قوله «ولكان بعض المقالة» لعله: القالة. (ع)(3/542)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
في مواطن الحق، حتى يقتدى به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرا. فإن قلت: الواو في وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ ما هي؟ قلت: واو الحال، أى: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشيا قالة الناس وتخشى الناس، حقيقا في ذلك بأن تخشى الله، أو واو العطف، كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك. أمسك، وإخفاء خلافه، وخشية الناس. والله أحق أن تخشاه، حتى لا تفعل مثل ذلك.
إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها وقراءة أهل البيت: زوّجتكها. وقيل لجعفر بن محمد رضى الله عنهما: أليس تقرأ علىّ غير ذلك، فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن علىّ على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كذلك وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه، مفعولا مكونا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء «1» أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. ويجوز أن يراد بأمر الله: المكون، لأنه مفعول بكن، وهو أمر الله.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 39]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا. ومنه فروض العسكر لرزقاتهم سُنَّةَ اللَّهِ اسم موضوع موضع المصدر- كقولهم: تربا، وجندلا-:
مؤكد لقوله تعالى ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ كأنه قيل: سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة وسبعمائة فِي الَّذِينَ خَلَوْا في الأنبياء الذين مضوا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ يحتمل
__________
(1) . قوله «ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء» لعله في عدم إجراء، ويمكن أن المراد: الحرج الذي يكون في الاجراء والتسوية لو حصل ذلك الاجراء. (ع)(3/543)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
وجوه الاعراب: الجرّ، على الوصف للأنبياء. والرفع والنصب، على المدح على هم الذين يبلغون. أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: رسالة الله. قدرا مقدورا: قضاء مقضيا، وحكما محكوما؟؟؟، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا الله: تعريض بعد التصريح في قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. حَسِيباً كافيا للمخاوف، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون حقّ الخشية من مثله.
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أى لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول أبو أمّته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم. ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وَكان خاتَمَ النَّبِيِّينَ يعنى أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبيا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى أنه قال في إبراهيم حين توفى. لو عاش لكان نبيا «1» . فإن قلت: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله مِنْ رِجالِكُمْ من وجهين، أحدهما: أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ، وهما أيضا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده، لقوله تعالى وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما «2» على الأربعين والآخر على الخمسين. قرئ. ولكن رسول الله بالنصب، عطفا على أَبا أَحَدٍ وبالرفع على: ولكن هو رسول الله. ولكنّ، بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكنّ رسول الله من عرفتموه، أى: لم يعش له ولد ذكر. وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم. وتقوّيه قراءة ابن مسعود: ولكنّ نبيا ختم النبيين. فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة من طريق مقسم عن ابن عباس في أثناء حديث. وللبخاري من حديث ابن أبى أوفى «ولو قضى أن يكون بعد محمد نبى لعاش ابنه، ولكن لا نبى بعده» .
(2) . قوله «نيف أحدهما» أى: زاد. والنيف- بالتشديد والتخفيف-: الزيادة، كذا في الصحاح. (ع)(3/544)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعة محمد، مصليا إلى قبلته، كأنه بعض أمّته.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
اذْكُرُوا اللَّهَ أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك بُكْرَةً وَأَصِيلًا أى في كافة الأوقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذكر الله على فم كل مسلم «1» . وروى في قلب كل مسلم. وعن قتادة: قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم، وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان، أعنى اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة، والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات، فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين، لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 43 الى 44]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤفا. كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم: صلى الله عليك، أى ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ. وروى الدارقطني والبيهقي وابن عدى من حديث أبى هريرة قال «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى؟ قال: اسم الله على فم كل مسلم» وفيه مروان بن سالم.
وهو ضعيف جدا.(3/545)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف «1» ، فما تصنع بقوله: وَمَلائِكَتُهُ وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك الله، أى أحياك وأبقاك، وحييتك، أى:
دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك الله، وعمرتك، وسقاك الله، وسقيتك، وعليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أى ادعوا الله بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف: حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة لِيُخْرِجَكُمْ من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر رضى الله عنه: ما خصك يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزلت تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أى: يحيون يوم لقائه بسلام، فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ والأجر الكريم: الجنة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 46]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
شاهِداً على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أى: مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة، كمسئلة الكتاب:
مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أى: مقدرا به الصيد غدا، فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله بِإِذْنِهِ؟ قلت: لم يرد
__________
(1) . قال محمود: «إن جعلت يصلى بمعنى يرحم فما بال عطف الملائكة عليه، فأجاب بأنهم لما كانوا يدعون الله بالرحمة ويستجيب دعاءهم بذلك، جعلوا كأنهم فاعلون الرحمة، كما تقول: حياك الله، بمعنى أحياك، ثم تقول حييته، بمعنى دعوت الله له بالحياة، والمقصد بذلك جعل الحياة محققة له، كأنك قلت: دعوت له بالحياء فاستجيبت الدعوة» قال أحمد: كثيرا ما يفر الزمخشري من اعتقاد إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد، وقد التزمه هاهنا، ولكن جعل الصلاة من الله حقيقة، ومن الملائكة مجازا، لأنه حملها على الرحمة. وأما غيره فحملها على الدعاء، وجعلها من الملائكة حقيقة، ومن الله مجازا، والله أعلم.(3/546)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارا للتسهيل والتيسير، لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلا لما تعذر من ذلك، وضع موضعه، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل: بإذنه، للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله الله ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذون له في الإنفاق، أى: غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقا عليه داخلا في حكم التعذر. جلى به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليا سراجا منيرا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف أَرْسَلْناكَ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 47]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)
الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب. ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أنّ لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة الله، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.
[سورة الأحزاب (33) : آية 48]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه. أو التهييج أَذاهُمْ يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول. يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي منسوخة بآية السيف وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوّضا إليه، ولقائل أن يقول: وصفه الله بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له، قابل الشاهد بقوله: وبشر المؤمنين، لأنه يكون شاهدا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر- والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى الله(3/547)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
بتيسيره بقوله وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأنّ من توكل على الله يسر عليه كل عسير، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا، لأن من أناره الله برهانا على جميع خلقه، كان جديرا بأن يكتفى به عن جميع خلقه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له، من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما، لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابه «1»
سمى الماء بأسنمة الآبال، لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشى والإتيان. فإن قلت: لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به: أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب.
وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة ثم في قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم: بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها: فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟
__________
(1) .
أقبل كالمستن من ربابه ... كأنما الوابل في مصابه
أسنمة الآبال في سحابه
يصف مطرا بالكثرة والثروة. ويقال: استن الفرس، إذا قمص ولعب، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما تارة ورجليه أخرى على التعاقب. وقمص البحر بالسفينة: إذا حركها، فرفع مقدمها تارة ومؤخرها أخرى، فالمستن:
اسم فاعل منه، واستعير للسحاب: إذ أقبل يتحرك وفيه المطر. والرباب: السحاب الأبيض المتلاصق. وضمير «أقبل» و «ربابه» للمطر. والوابل: إظهار في مقام الإضمار، للدلالة على الكثرة. وفي مصابه: حال له. وأسنمة الآبال: مبتدأ. وفي سحابه: خبر، والجملة خبر الوائل، وأطلق الأسنمة على الماء لأنه سبب سمنها، والمصاب:
مصدر على زنة المفعول. الوابل: المطر الشديد الوقع. والأسنمة: جمع سنام. والآبال- بمد الهمزة-: جمع الإبل(3/548)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قلت، نعم عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك. كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ: تعتدونها، مخففا، أى: تعتدون فيها «كقوله:
ويوم شهدناه «1»
والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا. فإن قلت: ما هذا التمتيع أواجب أم مندوب إليه؟ قلت إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها، فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة. وبعض على الوجوب سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار ولا منع واجب.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 51]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
أُجُورَهُنَّ مهورهنّ، لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلا. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ومِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ واللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزا، وله أن
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....](3/549)
يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره، وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب. والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة:
ما سبى من أهل الحرب. وأما من كان له عهد فالمسبى منهم سبى خبثة، ويدل عليه قوله تعالى مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام «1» ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانى بنت أبى طالب: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحلّ له، لأنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء «2» . وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك، فعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة. وقيل الموهوبات أربع:
ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم- رضى الله عنهن. قرئ إِنْ وَهَبَتْ على الشرط. وقرأ الحسن رضى الله عنه إِنْ بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرا محذوفا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، بمعنى وقت دوامه جالسا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير أن. فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة: إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت:
للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة: لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعا لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعى
__________
(1) . قوله «كما أن رزق الله يجب إطلاقه على الحلال» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيطلقونه على القسمين. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق والطبري والطبراني وابن أبى حاتم كلهم من رواية السدى عن أبى صالح عنها(3/550)
للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وقال أبو بكر الرازي: لا يصح، لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان خالِصَةً مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله، أى: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج والقاعد، والعافية والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بعد قوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وهي جملة اعتراضية، وقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متصل بخالصة لك من دون المؤمنين، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أى حدّ وصفة يجب أن يفرض عليهم ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ففعل ومعنى لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ لئلا يكون عليك ضيق في دينك:
حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك: حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: خالصة، بالرفع، أى: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للواقع في الحرج إذا تاب رَحِيماً بالتوسعة على عباده. روى أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهنّ شهرا، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت «1» . وروى أن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله إنى أرى ربك يسارع في هواك «2» تُرْجِي بهمز وغير همز: تؤخر وَتُؤْوِي تضمّ، يعنى: تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء. أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء.
__________
(1) . هذا ملفق من أحاديث. فأوله عند مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر قال «دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم والناس على الباب جلوس ... الحديث» وفيه قول أبى بكر وعمر قال «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألننى النفقة- فذكر الحديث- وفيه: فأنزل الله آية التخيير» وقوله «وهجرهن شهرا» هذا هو من حديث عائشة في الصحيحين. وقوله «تأشفقن أن يطلقهن- إلى آخره» أخرجه ابن أبى شيبة من رواية رزين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يفارق نساءه فقلن له: اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا» وهذا مرسل. وروى ابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن مجاهد قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة وخشين أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا. فنزلت تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية
(2) . متفق عليه من حديث هشام عن أبيه عن عائشة في أثناء حديث ووهم الحاكم فاستدركه(3/551)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
أولا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت. أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوّج من شئت. وعن الحسن رضى الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. روى أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضى الله عنهن أرجى خمسا وآوى أربعا «1» . وروى أنه كان يسوّى مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك «2» ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا، لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء. وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى. وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه- اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا وقرّت العيون، وسلت القلوب وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبر الله من ذلك وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على تواطئ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه. وقرئ: تقرّ أعينهنّ، بضم التاء ونصب الأعين. وتقرّ أعينهن، على البناء للمفعول وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر، كُلُّهُنَّ تأكيد لنون يرضين، وقرأ ابن مسعود: ويرضين كلهن. بما آتيتهنّ. على التقديم. وقرأ: كلهن، تأكيدا ل «هن» في آتَيْتَهُنَّ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
لا يَحِلُّ وقرئ بالتذكير، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة عن جرير وعبد الرزاق عن معمر كلاهما عن منصور عن أبى رزين وهذا مرسل.
(2) . أما كونه كان يسوى فمن حديث عائشة رضى الله عنها «كان يقسم فيعدل» وأما قصة سودة فروى الترمذي عن ابن عباس «أن سودة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل» وفي الطيراني من رواية ابن أبى الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل بعضنا على بعض في القسم. وكان قل يوم إلا وهو يطيف بنا ويدنو من كل واحدة منا من غير مسيس حتى ينتهى إلى التي هي يومها فيبيت عندها، ولقد قالت له سودة بنت زمعة وقد أراد أن يفارقها: يومى منك وتصيبى لعائشة. فقبل ذلك منها، وفيها نزلت وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية» .(3/552)
وَقالَ نِسْوَةٌ كان مع الفصل أجوز مِنْ بَعْدُ من بعد التسع، لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهنّ أو بعضهن، أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر النبىّ صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وهي التسع «1» اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر. حفصة بنت عمر. أمّ حبيبة بنت أبى سفيان. سودة بنت زمعة. أمّ سلمة بنت أبى أمية. صفية بنت حيي الخيبرية. ميمونة بنت الحرث الهلالية. زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى الله عنهن «2» . من في مِنْ أَزْواجٍ لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل معناه: لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى أنّ عيينة بن حصن دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة، أين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أمّ المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قد حرّم ذلك. فلما خرج قالت عائشة رضى الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه- على ما ترين- لسيد قومه «3» . وعن عائشة رضى الله عنها:
ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء، يعنى: أنّ الآية قد نسخت «4» ،
__________
(1) . قوله «وهي التسع» لعله «وهن» . (ع)
(2) . هذا مجمع عليه كما قال الواقدي وغيره، لكن اختلف في ريحانة وروى ابن أبى خيثمة عن الزهري وعن قتادة وقال أبو عبيد: صح عندنا وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة فلم يتزوج عليها حتى ماتت، ثم تزوج سودة، ثم عائشة، ثم أم سلمة. ثم حفصة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية، ثم أم حبيبة، ثم صفية ثم ميمونة، ثم فاطمة بنت سريج، ثم زينب بنت خزيمة، ثم هند بنت يزيد، ثم اسماء بنت النعمان، ثم هيلة بنت قيس أخت الأشعث. ثم أسماء بنت سبأ» وقال الواحدي: والمجمع عليه أنه تزوج أربع عشرة: التسع التي مات عنهن وتزوج أيضا خديجة وزينب بنت خزيمة وريحانة ومتن عنده، وتزوج أيضا فاطمة بنت الضحاك وأسماء بنت النعمان ولم يدخل بهما.
(3) . أخرجه البزار من حديث أبى هريرة بهذا وأتم منه وفيه إسحاق بن عبد الله القروي وهو متروك. وله شاهد من حديث جرير أخرجه الطبراني، وآخر عن عائشة أخرجه ابن سعد.
(4) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق والنسائي وأبو يعلى والطبري والبزار وابن حبان والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها بالحديث دون التفسير وأخرجه ابن أبى حاتم وابن سعد من حديث أم سلمة رضى لله عنها.(3/553)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف وَلَوْ أَعْجَبَكَ في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في تَبَدَّلَ لا من المفعول الذي هو مِنْ أَزْواجٍ لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضا إعجابك بهنّ. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ، واستثنى ممن حرم عليه: الإماء رَقِيباً حافظا مهيمنا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم. وغَيْرَ ناظِرِينَ حال من لا تَدْخُلُوا وقع الاستثناء على الوقت والحال معا. كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه:
لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام، إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يؤذن له إذنا خاصا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة أنه قرأ: غير ناظرين، مجرورا صفة لطعام، وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وإنى الطعام: إدراكه.
يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى. ومنه قوله بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ بالغ إناه. وقيل إِناهُ:
وقته، أى: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم على زينب بتمر وسويق وشاة، وأمر أنسا أن يدعو بالناس، فترادفوا أفواجا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال:
ارفعوا طعامكم وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا: فقام رسول الله صلى الله(3/554)
عليه وسلم ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له، ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع «1» ونزلت: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به. أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور معطوف على ناظرين. وقيل:
هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لا بد في قوله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من تقدير المضاف، أى: من إخراجكم، بدليل قوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعنى أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قيل لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وعن عائشة رضى الله عنها: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فإذا طعمتم فانتشروا «2» . وقرئ:
لا يستحى، بياء واحدة. الضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن مَتاعاً حاجة فَسْئَلُوهُنَّ المتاع. قيل: إن عمر رضى الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، «3» فنزلت. وروى أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد «4» فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى الله عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس وله طرق عندهما وألفاظ.
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق العلاء سمعت عائشة بهذا. قلت: كذا بخط المخرج. وهو غلط واضح جدا.
فان العلاء إنما يروى عن ابن عائشة صاحب النوادر ولم يدرك أصحاب أصحابه عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فضلا عنها ولعله كان في الأصل ابن عائشة فسقط ابن
(3) . متفق عليه من حديثين هذا أحدهما. أخرجه النسائي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني في الصغير من طريق مجاهد عن عائشة قالت «كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قصعة فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه أصبعى، فقال عمر: أواه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب» ورواه ابن أبى شيبة والطبري من طريق مجاهد مرسلا وصوبه الدارقطني في العلل والثاني أخرجه النسائي أيضا من طريق أنس عن عمر رضى الله عنه قال «قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب وأصله في الصحيح.
(4) . أخرجه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي قال «مر عمر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم» فذكره [.....](3/555)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
إلا يسيرا حتى نزلت. وقيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، «1» فنزلت آية الحجاب.
وذكر أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم الله أن ذلك محرم «2» وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده. وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيا وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا، «3» فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها، تصورا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة، فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك.
[سورة الأحزاب (33) : آية 54]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من نكاحهن على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ يعلم ذلك فيعاقبكم به، وإنما جاء به على أثر ذلك عاما لكل باد وخاف، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل.
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
__________
(1) . وهو في حديث النسائي الذي قدمناه أولا.
(2) . أخرجه ابن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن ابن أبى عون عن ابن بكر بن حزام في هذه الآية نزلت في طلحة قال: إذا توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة» وقال عبد الرزق أخبرنا معمر عن قتادة أن رجلا قال «لو قد مات محمد لأتزوجن عائشة رضى الله عنها» فأنزل الله تعالى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية» وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية داود عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال «نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم- الحديث» من طريق السدى أن الذي عزم على ذلك عائشة رضى الله عنها.
(3) . قوله «لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا» في الصحاح: فلان مستهتر بالشراب، أى: مولع به، لا يبالى ما قيل فيه. (ع)(3/556)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب، فنزلت لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ أى لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبا.
قال الله تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وإسماعيل عم يعقوب. وقيل. كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد. فقيل وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه وفيما استثنى منه ما قدرتن. واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات، ليفضل سركن علنكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه شَهِيداً لا يتفاوت في علمه الأحوال.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
قرئ: وملائكته بالرفع، عطفا على محل إن واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين. أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا أى قولوا الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها. فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل علىّ فدخل النار فأبعده «1» الله» ويروى أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله وكل بى ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين قال: إن جبريل أتانى فذكر الحديث وفيه «ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله» وفي الباب عن مالك بن الحويرث عند ابن حبان والطبراني. وعن ابن عباس في الطبراني وكذلك عن جابر بن سمرة وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وعن بريدة عند إسحاق بن راهويه وعن عمار بن ياسر عند البزار وعن جابر بن عبد الله عند البيهقي في الشعب.(3/557)
لذينك الملكين: آمين» «1» ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط. الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار «2» . فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطا. وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك- يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وقوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبى أوفى» «3» ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك: وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى الله على النبي وآله، فلا كلام فيها. وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأن ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم «4»
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن مردويه والثعلبي من حديث الحسن بن على. وفيه الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك.
(2) . ومنها حديث أبى هريرة رفعه «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي وابن حبان، وفي الباب عن كعب بن عجزة أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب. وعن جابر في الأدب المفرد للبخاري، وفي الطبراني الأوسط. وعن عبد الله بن الحارث بن جزء في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لابن أبى عاصم ومنها حديث على رضى الله عنه «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي من طريق عمارة بن غزية عن عبد الله بن على بن حسين عن أبيه عن حسين بن على عن على رضى الله عنه، وأخرجه النسائي وابن حبان من هذا الوجه بغير ذكر على. وأخرجه الحاكم من هذا الوجه فقال عن عبد الله بن على بن الحسين عن أبى هريرة ومنها حديث أنس رفعه «من ذكرت عنده فليصل على فمن صلى على مرة صلى الله عليه عشرا» أخرجه النسائي. ومنها حديث ابن عباس- رفعه- «من نسى الصلاة علىّ خطئ طريق الجنه» أخرجه ابن ماجة. وله طريق أخرى عن الحسين بن على عند الطبراني. وأخرى عند البيهقي في القضايا من المعرفة عن أبى هريرة وأخرى عند ابن إسحاق وابن يعلى عن أبى ذر بلفظ «إن أضل الناس من ذكرت عنده فلم يصل على، ومنها حديث عمر رضى الله عنه قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم» أخرجه الترمذي والبيهقي في الشعب عن على نحوه ومنها حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه- رفعه «من صلى على صلت عليه الملائكة ما صلى على، فليقل من ذلك أو ليكثر، أخرجه ابن ماجة، والأحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا.
(3) . متفق عليه. وقد تقدم في سورة براءة
(4) . تقدم في يوسف(3/558)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيه وجهان، أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه:
من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوّة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازا فيهما جميعا. وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة. والثاني: أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في أذى الله: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه «شتمني ابن آدم ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني. فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدا. وأما أذاه فقوله: إن الله لا يعيدني بعد أن بدأنى» وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله «1» ، وقيل في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي، وأطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا.
وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه. ومعنى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية واستحقاق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا رضى الله عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى الله عنها. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات.
وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف «2» وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمّة، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول.
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل.
__________
(1) . أخرجه الطبري من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. ومن حديث ابن عباس رضى الله عنهما نحوه.
(2) . «فكيف» عبارة النسفي: فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات. (ع)(3/559)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد:
مجلبب من سواد اللّيل جلبابا «1»
ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يرخينها عليهنّ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ. يقال:
إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهنّ في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرّضوا للحرّه بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أى أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى مِنْ في مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهنّ من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين.
وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهنّ، أراد بالانضمام معنى الإدناء وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط مع التوبة «2» ، لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
__________
(1) .
أهلا بضيف أنى ما استفتح البابا ... مجلبب من سواد الليل جلبابا
لأبى زبيد. وأهلا: مفعول لمحذوف وجوبا، أى: أتيت أهلا. وبضيف: متعلق بمحذوف، أى. أرحب بضيف:
ويجوز تعلقه بأهلا، لأن فيه معنى الترحيب. وما: مصدرية، أى: مدة استقامة الباب. والمراد منه التعميم، أى: في أى وقت يطلب فتح الباب: وصفه بالآتى في سواد الليل، مبالغة في التمدح بالكرم. ويجوز؟؟؟ أن الضيف محبوبته، فيكون الليل استزلها؟؟؟. وشبه استتار ضيفه بظلام الليل يلبس اللباس، والتجوز في الجلببة أو في الجلباب على طريق التصريحية، ويجوز لأن ما نافية، وعلى هذا فيصح أن يكون خطابا لملك الموت، حيث دخل ولم يطلب فتح الباب، وإن كان الضيف والحبيب قد يفعلان ذلك أيضا
(2) . قوله «لما سلف لعنهن من التفريط مع التوبة» هذا عند المعتزلة. أو بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)(3/560)
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَالْمُرْجِفُونَ ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا، إذا أخبر به على غير حقيقة، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء:
لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم «1» ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إِلَّا زمنا قَلِيلًا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم «2» ، فسمى ذلك إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز مَلْعُونِينَ نصب على الشتم أو الحال، أى: لا يجاورونك إلا ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مرّ في قوله إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا يصح أن ينتصب عن أُخِذُوا لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في قَلِيلًا وهو منصوب على الحال أيضا. ومعناه. لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع لا يجاورونك؟ قلت:
لا يجاورونك عطف على لنغرينك، لأنه يجوز أن يجاب به القسم. ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. فإن قلت: أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابا آخر للقسم معطوفا على الأوّل، وإنما عطف بثم، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه سُنَّةَ اللَّهِ في موضع مصدر مؤكد، أى: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل: يعنى كما قتل أهل بدر وأسروا.
__________
(1) . قوله «الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم» في الصحاح، يقال: له عندي ما ساءه وناءه، أى أثقله، وما يسوؤه وينوؤه، وقال بعضهم أراد ساءه وناءه وإنما قال ناءه وهو لا يتعدى لأجل ساءه، ليزدوج الكلام. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد بقوله تعالى إِلَّا قَلِيلًا ريثما يلتقطون عيالاتهم وأنفسهم لا غير» قال أحمد: وفيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي، يمهل ربّما؟؟؟ ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان، حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد، والله أعلم. [.....](3/561)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
[سورة الأحزاب (33) : آية 63]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)
كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، وإسكانا للممتحنين قَرِيباً شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 65]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)
السعير: النار المسعورة الشديدة الإيقاد.
[سورة الأحزاب (33) : آية 66]
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)
وقرئ: تقلب، على البناء للمفعول. وتقلب، بمعنى تتقلب. ونقلب، أى: نقلب نحن.
وتقلب، على أن الفعل للسعير «1» . ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها. أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف يَقُولُونَ أو محذوف. وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان يَقُولُونَ حالا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 الى 68]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
وقرئ: سادتنا وساداتنا: وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضلّ السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت: جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ: كثيرا، تكثيرا لإعداد اللعائن. وكبيرا، ليدل على أشد اللعن وأعظمه ضِعْفَيْنِ ضعفا لضلاله وضعفا لإضلاله: يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك.
__________
(1) . قوله «على أن الفعل للسعير، يعنى: وجوههم، بالنصب. (ع)(3/562)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل: في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها، وقيل: اتهامهم إياه بقتل هرون، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيب «1» في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم الله على أنه بريء منه وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة. وكان عبد الله وجيها. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله، كقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله مِمَّا قالُوا معناه: من قولهم، أو من مقولهم، لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فكيف تصح البراءة منه؟ قلت المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه، وهو الأمر المعيب. ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة «2» ، والقالة بمعنى القول؟
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا
__________
(1) . قوله «وقيل قرفوه بعيب» في الصحاح: قرفت الرجل، أى: عبته، ويقال: هو يقرف بكذا، أى:
ترمى برؤيتهم. (ع)
(2) . قوله «ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة» في الصحاح: صار هذا الأمر سبة عليه- بالضم، أى: عارا (ع)(3/563)
فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعث على أن يسد قولهم «1» في كل باب لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وعلق بالطاعة الفوز العظيم، أتبعه قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان، أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها- وهو ما يتأتى من الجمادات- وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها- حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وأما الإنسان فلم تكن حاله- فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد:
أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل:
أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه ... وترفضّ عند المحفظات الكتائف «2»
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه،
__________
(1) . قوله «على ان يسد قولهم» في الصحاح: سد قوله يسدّ- بالكسر-: أى صار سديدا. (ع)
(2) . للقطامى. وقبل: لذي الرمة. وحس له حسا: رق له وعطف. والحس أيضا: العقل والتدبير والنظر في العواقب، والارفضاض من الترشرش والتناثر، وأحفظه إحفاظا: أغضبه، فالمحفظات: المغضبات. والكتائف:
جمع كتيفة، وهي الضغينة والحقد. يقول: أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة، بل يبذلها لك. أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأنى، بل يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك، لأنها تغضبه أيضا.(3/564)
فمعنى: فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه: أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس «1» بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟
لقال: أسوى العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله- في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما- بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب.
وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات: مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في لِيُعَذِّبَ لام التعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ: ويتوب الله «2» . ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر، والله أعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر «3» » .
__________
(1) . قوله «ثم خاس بضمانه فيها» في الصحاح: خاس به يخيس ويخوس، أى: غدر به يقال: خاص بالعهد، إذ نكث. (ع)
(2) . قوله «ويتوب» أى بالرفع، كما في النسفي. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.(3/565)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبإ
مكية، [إلا آية 6 فمدنية] وآياتها 54 [نزلت بعد لقمان] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه.
ولما قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت:
ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب، لأنه على نعمة متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب «1» ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها «2» ، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم:
يلتذون به كما يلتذ من به العطاش «3» بالماء البارد وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته الْخَبِيرُ بكل كائن يكون. ثم ذكر مما يحيط به علما ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من
__________
(1) . قال محمود: «الحمد الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها، والثاني: ليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة على المنعم» قال أحمد: والحق في الفرق بين الحمدين: أن الأول عبادة مكلف بها، والثاني غير مكلف به ولا متكلف، وإنما هو في النشأة الثانية كالجليات في النشأة الأولى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» وإلا فالنعمة الأولى كالثانية بفضل من الله تعالى على عباده، لا عن استحقاق. والله الموفق.
(2) . قوله «نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها» مبنى على مذهب المعتزلة، أما أهل السنة فلا يوجبون على الله شيئا، ولا يجب الحمد في الآخرة، لأنها ليست دار تكليف. (ع)
(3) . قوله «كما يلتذ من به العطاش» في الصحاح «العطاش» : داء يصيب الإنسان: يشرب الماء فلا يروى. (ع)(3/566)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
الغيث كقوله فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ومن الكنوز والدفائن والأموات، وجميع ما هي له كفات وَما يَخْرُجُ مِنْها من الشجر والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب، وغير ذلك وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير، كما قال تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة وأعمال العباد وَهُوَ مع كثرة نعمه وسبوغ فضله الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: ننزّل، بالنون والتشديد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 4]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قولهم لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ نفى للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية، كقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ. أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكدا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أنبع المقسم به من الوصف بما وصف به، إلى قوله لِيَجْزِيَ لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة، كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ.
فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأوّلها مسارعة إلى القلب: إذا قيل عالم الغيب، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا. فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبا كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة والبينة الساطعة وهي قوله لِيَجْزِيَ فقد وضع الله في العقول وركب في(3/567)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
الغرائز وجوب الجزاء «1» ، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب. وقوله لِيَجْزِيَ متصل بقوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ تعليلا له. قرئ: لتأتينكم بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء: أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند إلى عالم الغيب، أى ليأتينكم أمره كما قال تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ وقال وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
. وقرئ:
عالم الغيب، وعلام الغيب: بالجر، صفة لربي. وعالم الغيب، وعالم الغيوب: بالرفع، على المدح.
ولا يعزب: بالضم والكسر في الزاى، من العزوب وهو البعد. يقال: روض عزيب: بعيد من الناس مِثْقالُ ذَرَّةٍ مقدار أصغر نملة ذلِكَ إشارة إلى مثقال ذرّة. وقرئ: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بالرفع على أصل الابتداء. وبالفتح على نفى الجنس، كقولك: لا حول ولا قوّة إلا بالله، بالرفع والنصب. وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت: هل يصح عطف المرفوع على مثقال ذرّة، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة، لا لتأكيد النفي. وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عَنْهُ للغيب، وجعلت الْغَيْبِ اسما للخفيات، قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء، ولا يزل عنه إلا مسطورا في اللوح.
[سورة سبإ (34) : آية 5]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وقرئ معجزين، وأليم، بالرفع والجر. وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب.
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
وقرئ معجزين. فأليم: بالرفع والجر، وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب. ويرى في موضع الرفع، أى: ويعلم أولو العلم، يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمّته. أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب الأحبار وعبد الله ابن سلام رضى الله عنهما. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... الْحَقَّ هما مفعولان ليرى، وهو فصل من قرأ الْحَقَّ بالرفع: جعله مبتدأ والْحَقَّ خبرا، والجملة في موضع المفعول الثاني. وقيل يَرَى في موضع النصب معطوف على لِيَجْزِيَ أى: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق. علما
__________
(1) . قوله «وركب في الغرائز وجوب الجزاء» هذا مقتضى الحكمة وإن لم يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة، فتدبر. (ع)(3/568)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
لا يزاد عليه في الإيقان، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا. ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 8]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)
الَّذِينَ كَفَرُوا قريش. قال بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم: يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب: أنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق، أى: يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد. أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو مبرأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث: واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك. وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقا على عقولهم: جعل وقوعهم في العذاب رسيلا لوقوعهم في الضلال، كأنهما كائنان في وقت واحد: لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته: جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان. وقرأ زيد بن علىّ رضى الله عنه: ينبيكم.
فإن قلت: فقد جعلت الممزق مصدرا، كبيت الكتاب:
ألم تعلم مسرّحى القوافي ... فلاعيّا بهنّ ولا اجتلابا «1»
فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم. معناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح. فإن قلت: ما العامل في إذا؟ قلت: ما دلّ عليه إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وقد سبق نظيره. فإن قلت: الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت: هو عند البصريين بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جديد، كحد فهو حديد، وقلّ فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى: مفعول، من جده إذا قطعه. وقالوا: هو
__________
(1) . لجرير، وهو من أبيات الكتاب. والمسرح: مصدر على زنة المفعول، فهو بمعنى التسريح، أى:
الإرسال أو التسوية. وسرحت الجارية شعرها: مشطته، فاسترسل وحسن، وهو مضاف لباء الفاعل. والقوافي:
مفعول، ونصب العي لشبهه بالمضاف، أو نونه للضرورة، أى: لا أعيى بها، ولا أعجز عنها، ولا أجتلبها، ولا أسرقها، ويجوز أن العي ركاكة المعنى. والاجتلاب: الاستتار، من جلبة الجرح، وهي قشرته الساترة له، فيهن:
بمعنى فيهن.(3/569)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
الذي جده الناسج الساعة في الثوب، ثم شاع. ويقولون: ولهذا قالوا «1» ملحفة جديد، وهي عند البصريين كقوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ ونحو ذلك. فإن قلت: لم أسقطت الهمزة في قوله أَفْتَرى دون قوله «السحر» ، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت: القياس الطرح، ولكن أمرا اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو «آلسحر» وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام. فإن قلت: ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت هو من الإسناد المجازى، لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة، وكلما ازداد عنها بعدا كان أضل.
فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قوله هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره.
[سورة سبإ (34) : آية 9]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجلّ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة إِنَّ فِي ذلِكَ النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله لَآيَةً ودلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وهو الراجع إلى ربه المطيع له، لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به. قرئ يشأ ويخسف ويسقط: بالياء، لقوله تعالى أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وبالنون لقوله وَلَقَدْ آتَيْنا وكسفا: بفتح السين وسكونه. وقرأ الكسائي: يخسف بهم، بالإدغام وليست بقوية.
__________
(1) . قوله «ولهذا قالوا» أى العرب. (ع) [.....](3/570)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
يا جِبالُ إمّا أن يكون بدلا من فَضْلًا، وإمّا من آتَيْنا بتقدير: قولنا يا جبال.
أو: قلنا يا جبال. وقرئ: أوّبى، وأوبى: من التأويب. والأوب: أى رجعي معه التسبيح.
أو ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه، لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه: ومعنى تسبيح الجبال:
أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح: معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها «1» والطير بأصواتها. وقرئ: والطير، رفعا ونصبا، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولا معه، وأن يعطف على فضلا، بمعنى وسخرنا له الطير. فإن قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا تأويب الجبال معه والطير؟
قلت: كم بينهما. ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى: من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا: إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وجعلناه له لينا كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة. وقيل: لان الحديد في يده لما أوتى من شدّة القوّة. وقرئ صابغات، وهي الدروع الواسعة الضافية، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح. وقيل:
كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدّق على الفقراء. وقيل:
كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا، فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟
فيثنون عليه، فقيض الله له ملكا في صورة آدمى فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود، فسأله؟ فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع وَقَدِّرْ لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق، ولا غلاظا فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع وَاعْمَلُوا الضمير لداود وأهله وَسخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فيمن نصب: ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع، وكذلك فيمن قرأ:
__________
(1) . قوله «بأصدائها» جمع صدى، وهو الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها، كذا في الصحاح. (ع)(3/571)
الرياح، بالرفع غُدُوُّها شَهْرٌ جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ:
غدوتها وروحتها. وعن الحسن رضى الله عنه: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأى مكتوبا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله. القطر: النحاس المذاب من القطران. فإن قلت: ماذا أراد بعين القطر؟ قلت: أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله «1» كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وقيل: كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ ومن يعدل عَنْ أَمْرِنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرئ. يزغ من أزاغه. وعذاب السعير: عذاب الآخرة، عن ابن عباس رضى الله عنهما وعن السدى: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى.
المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال: سميت محاريب لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد. والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت:
كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب، وعن أبى العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها، لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرؤوس. وروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى: الحياض الكبار، قال:
تروح على آل المحلّق جفنة ... كجابية السّيح العراقىّ تفهق «2»
لأنّ الماء يجبى فيها، أى: يجمع. جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة. قيل:
كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ.
__________
(1) . قوله «ولكنه أساله كما ألان الحديد» لعله: أساله له (ع)
(2) . للأعشى في مدح المحلق. وروى «تلوح» بدل تروح، لأنها تظهر عند خروجها من البيت أول النهار مستعلية عليهم. والجفنة: قصعة الثريد. والجابية: الحوض يجبى الماء، أى: يجمعه إلى الحوض. والسيح:
الماء الكثير الجاري. وفهق يفهق، كفرح يفرح: اتسع وامتلأ وتدفق. ومنه الحديث: أنه قام إلى باب الجنة فانفهقت له، أى: انفتحت واتسعت، والمتفيهق: المكثر من الكلام، فقوله «تفهق» أى تمتلئ مع اتساعها حتى تكاد تتدفق(3/572)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
راسِياتٍ ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب شُكْراً على أنه مفعول له، أى: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال، أى:
شاكرين. أو على تقدير اشكروا شكرا، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولا به. ومعناه: إنا سخرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة الشَّكُورُ المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه: قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادا واعترافا وكدحا، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول: اللهم اجعلنى من القليل، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنى سمعت الله يقول وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر «1» .
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
قرئ: فلما قضى عليه الموت. ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها، فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضا. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء، من أرضت الخشبة أرضا، وهو من باب فعلته ففعل، كقولك: أكلت القوادح الأسنان أكلا، فأكلت أكلا. والمنسأة: العصا. لأنه ينسأ بها، أى: يطرد ويؤخر وقرئ بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلبا وحذفا وكلاهما ليس بقياس، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. ومنسأته على مفعالة. كما يقال في الميضأة ميضاءة. ومن سأته، أى: من طرف عصاه، سميت بسأة «2» القوس على الاستعارة. وفيها لغتان، كقولهم: قحة وقحة «3» . وقرئ. أكلت منسأته تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى. وأَنْ مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال، كقولك: تبين زيد جهله: والظهور له في المعنى، أى: ظهر أنّ الجن لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ أو علم الجن كلهم علما بينا- بعد التباس الأمر
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد من رواية التيمي قال قال عمر- فذكره نحوه
(2) . قوله «سميت بسأة القوس» في الصحاح «سية القوس» : ما عطف من طرفيها، وكان رؤبة يهمز: سية القوس، وسائر العرب لا يهمزونها. (ع)
(3) . قوله «كقولهم قحة وقحة» كسعة وكمدة، بمعنى الوقاحة: وهي الصلابة. (ع)(3/573)
على عامّتهم وضعفتهم وتوهمهم- أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب. أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعى الباطل إذا دحضت حجته «1» وظهر إبطاله بقولك: هل تبينت أنك مبطل.
وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا. وقرئ: تبينت الجن، على البناء للمفعول، على أن المتبين في المعنى هو أَنْ مع ما في صلتها، لأنه بدل. وفي قراءة أبىّ: تبينت الإنس. وعن الضحاك:
تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعالمت. والضمير في كانُوا للجن في قوله وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أى علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب، ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب.
روى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله، فيسألها: لأى شيء أنت؟ فتقول لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة، فسألها، فقالت: نبت لخراب هذا المسجد:
فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حىّ، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له وقال: اللهم عم عن الجن موتى، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون العيب، وقال لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى متكئا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا. ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة، وروى أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه، وليبطل دعواهم علم الغيب. روى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه، وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة: ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقى في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.
__________
(1) . قوله «إذا دحضت حجته» في الصحاح: بطلت. (ع)(3/574)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
قرئ لِسَبَإٍ بالصرف ومنعه، وقلب الهمزة ألفا. ومكنهم: بفتح الكاف وكسرها، وهو موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها، أو مسكن كل واحد منهم.
وقرئ: مساكنهم. وجَنَّتانِ بدل من آية. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره: الآية جنتان.
وفي الرفع معنى المدح، تدل عليه قراءة من قرأ: جنتين، بالنصب على المدح. فإن قلت: ما معنى كونهما آية؟ قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية، وإنما جعل قصتهما، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما، وأبدلهم عنهما لخمط والأثل: آية، وعبرة لهم، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية، أى:
علامة دالة على الله، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها. كأنها جنة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها. أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال:
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال. أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ولما قال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ أتبعه قوله بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ يعنى: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتمل فتعمل بيديها وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر طَيِّبَةٌ لم تكن سبخة. وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ: بلدة طيبة وربا غفورا، بالنصب على المدح. وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد الْعَرِمِ الجرذ «1»
__________
(1) . قوله «العرم الجرذ» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر. وفيه: سكرت النهر سكرا، إذا شددته. (ع)(3/575)
الذي نقب عليهم السكر. ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا قيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم، فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخلد، «1» فنقبه من أسفله فغرقهم. وقيل: العرم جمع عرمة، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس؟؟؟ من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة «2» التي عقدوها سكرا: وقيل: العرم اسم الوادي: وقيل: العرم المطر الشديد. وقرئ: العرم، بسكون الراء. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقرئ:
أكل، بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة. والأكل: الثمر. والخمط: شجر الأراك: وعن أبى عبيدة: كل شجر ذى شوك. وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة، حتى لا يمكن أكله. والأثل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودا. ووجه من نون: أن أصله ذواتي أكل أكل خمط. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو وصف الأكل بالخمط، كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. ومن أضاف وهو أبو عمرو وحده، فلأن أكل الخمط في معنى البرير، «3» كأنه قيل: ذواتي برير. والأثل والسدر: معطوفان على أكل، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له. وقرئ وأثلا. وشيئا: بالنصب، عطفا على جنتين. وتسمية البدل جنتين، لأجل المشاكلة وفيه: ضرب من التهكم. وعن الحسن رحمه الله. قال السدر، لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ:
وهل يجازى. وهل نجازى، بالنون. وهل يجازى والفاعل الله وحده. وهل يجزى، والمعنى:
أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر، وهو العقاب العاجل، وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء، ووجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بمعنى: عاقباهم بكفرهم. قيل: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ بمعنى: وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح، وليس لقائل أن يقول: لم قيل:
وهل يجازى إلا الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للكافر والمؤمن، لأنه لم يرد الجزاء العام، وإنما أراد الخاص وهو العقاب، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا، وهل يجازى إلا الكافر والمؤمن:
__________
(1) . قوله «سلط الله على سدهم الخلد فنقبه» في الصحاح «الخلد» : ضرب من الجرذان أعمى. وفيه «المكدس» بالضم: واحد أكداس الطعام. (ع)
(2) . قوله «والمراد المسناة التي عقدوها» في الصحاح: المسناة: العرم وفيه: العرم المسناة. وفي ذلك دور. (ع)
(3) . قوله «فلأن أكل الخمط في معنى البرير» في الصحاح «البرير» : ثمر الأراك. (ع)(3/576)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
لم يصح ولم يسد كلاما، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق: ظاهرة للسابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ قيل: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء سِيرُوا فِيها وقلنا لهم: سيروا: ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه، كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله لَيالِيَ وَأَيَّاماً؟ قلت: معناه سيروا فيها، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين لا تخافون، وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي. أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حين وزمان، لا تلقون فيها إلا الأمن. قرئ: ربنا باعد بين أسفارنا. وبعد. ويا ربنا، على الدعاء، بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش «1» ، وملوا العافية، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. وقرئ ربنا بعد بين أسفارنا، وبعد بين أسفارنا على النداء، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به، كما تقول: سير فرسخان، وبوعد بين أسفارنا. وقرئ: ربنا باعد بين أسفارنا. وبين سفرنا. وبعد، برفع ربنا على الابتداء، والمعنى خلاف الأوّل، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم كانوا يتشاجون «2» على ربهم
__________
(1) . قوله «وبشموا من طيب العيش» بشموا، أى: سئموا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «كأنهم كانوا يتشاجون» في الصحاح «الشجو» : الهم والحزن. (ع)(3/577)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
ويتحازنون عليه أَحادِيثَ يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم، وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا، يقولون: ذهبوا أيدى سبا، وتفرقوا أبادى سبا. قال كثير:
أيادى سبا يا عزّ ما كنت بعدكم ... فلم يحل بالعينين بعدك منظر «1»
لحق غسان بالشأم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قرئ: صدّق، بالتشديد والتخفيف، ورفع إبليس ونصب الظن، فمن شدّد فعلى: حقق عليهم ظنه، أو وجده صادقا، ومن خفف فعلى: صدق في ظنه أو صدّق يظن ظنا، نحو: فعلته جهدك، وبنصب إبليس ورفع الظن، فمن شدّد فعلى: وجده ظنه صادقا ومن خفف فعلى: قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، يقولون: صدقك ظنك، وبالتخفيف ورفعهما على: صدق عليهم ظن إبليس، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق، كقوله: صدقت فيهم ظنوني،
__________
(1) . لكثير صاحب عزة. وسبأ: بلدة كانت كثرة الخصب طيبة البساتين، فكفر أهلها نعمة الله فأرسل عليهم السيل، وبدلهم بالخصب جديا؟؟؟، وبالرغد ضيقا، وبالسمن غثا، فصاروا لا ينالون الأفوات إلا من جهات بعيدة. والمراد بالأيادى: النعم، وأيادى سبا: استعارة لأحوال نفسه التي تشبه أحوال سبأ في التشتت والتنغص.
أو تشبيه بلغ على الخلاف. وفيه مجاز بالحذف، أى: أيادى أهل سبأ ما كنته بعدكم، أى: ما كنت متصفا به من الأحوال كأحوال سبأ. ويجوز ان ما مصدرية، أى: أكوانى وأحوالى بعدكم كأحوال سبأ. أو المراد بأيادى سبأ: أصحابها الذين كانوا يعمرونها، ففرقوا أنفسهم بأيديهم فشبه نفسه بهم لعدم استقراره. وتطلق سبأ على قبيلة كانت تسكنها. ويحتمل أنها المراد هنا، بل هو أظهر. ويجوز أن المراد أبوها، وهو سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان: كان ذا مال وبنين، فتفرق بنوه بعضهم إلى اليمن وبعضهم إلى الشام إلى غير ذلك، فأطلق الأيادى عليهم، لأن بهم قوته كالأيادى، ثم شبه نفسه بهم في الشتات. وعن: مرخم، وفي ندائها معنى التوجع والاستعطاف، وخاطبها بضمير جمع المذكر تعظيما، ولذلك لا تجده في مواضع ذمهن، وجملة النداء معترضة بين الخبر والمبتدأ ويحتمل أن التقدير: أنا كأيادى سبأ مدة كوني بعدكم، فهي معترضة بين الجملة والظرف المتعلق بها، وحلا يحلو كدعا يدعو وغيره قليل، شبه الحسن بالحلاوة بجامع اللذة. وقيل: حلى يحلى، كرضى يرضى في المنظر. وحلا يحلو في الطعم، وما هنا من الأول فلا مجاز، والمنظر مصدر بمعنى النظر، ويجوز أن الحلاوة الحسن والمنظر- بالفتح-: مكان النظر. ويجوز أنه النظر. أى: فلم يحسن لعيني غيرك، ويجوز أن المراد بعدكم بعد ارتحالك أنت وأهلك، فالخطاب لها ولحيها! ولكن موارد الاستعمال يعضدها ما تقدم، وروى: فلن يحل، فزعم بعضهم أن «لن» قد تجزم كما هنا، وعلى المنع فحذف آخر الفعل للضرورة أو التخفيف. [.....](3/578)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
ومعناه: أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إنّ ذرّيته أضعف عزما منه، فظنّ بهم اتباعه وقال: لأضلنهم، لأغوينهم. وقيل: ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها. والضمير في عَلَيْهِمْ وفَاتَّبَعُوهُ إمّا لأهل سبأ، أو لبنى آدم. وقلل المؤمنين بقوله إِلَّا فَرِيقاً لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار، كما قال لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلا لغرض صحيح وحكمة بينة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم. وقرئ: ليعلم على البناء للمفعول حَفِيظٌ محافظ عليه، وفعيل ومفاعل: متآخيان.
[سورة سبإ (34) : آية 22]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
قُلِ لمشركي قومك ادْعُوا الَّذِينَ عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه، وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون أن يستجيب لكم ويرحمكم، ثم أجاب عنهم بقوله لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر، أو نفع أو ضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك، كقوله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه، يريد: أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية، فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى، فإن قلت: أين مفعولا زعم؟
«قلت» : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول. وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ أو لا يَمْلِكُونَ أو محذوفا فلا يصح الأول، لأنّ قولك: هم من دون الله، لا يلتئم كلاما، ولا الثاني، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم، وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقى أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا استخفافا، لطول الموصول لصلته، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته مِنْ دُونِ اللَّهِ والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما، فإذا مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين.
[سورة سبإ (34) : آية 23]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)(3/579)
تقول: الشفاعة لزيد، على معنى أنه الشافع، كما تقول: الكرم لزيد: وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يكون على أحد هذين الوجهين، أى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له.
أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له، أى: لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أى لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فإن قلت: بما اتصل قوله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ولأى شيء وقعت حتى غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أنّ ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عز وجلّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون كليا فزعين وهلين، حتى إذا فزع عن قلوبهم، أى: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن: تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا قال الْحَقَّ أى القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة «1» » وقرئ أذن له، أى: أذن له الله، وأذن له على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: فزع، مخففا، بمعنى فزع. وقرئ فزع، على البناء للفاعل، وهو الله وحده، وفرّع، أى: نفى الوجل عنها وأفنى، من قولهم: فرغ الزاد، إذا لم يبق منه شيء، ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور، كما تقول: دفع إلىّ زيد، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف، وأصله: فرغ الوجل عنها، أى: انتفى عنها، وفنى ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور. وقرأ: افرنقع عن قلوبهم، بمعنى: انكشف عنها. وعن أبى علقمة أنه هاج به المرار «2» فالتف عليه الناس، فلما أفاق قال: ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنة؟ افرنقعوا عنى. والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط، مع زيادة الراء. وقرئ الحق بالرفع، أى: مقوله الحق وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبىّ أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
__________
(1) . لم أجده
(2) . قوله «أنه هاج به المرار» في الصحاح «المرار» بضم الميم: شجر مر، إذا أكلت منه الإبل قلصت عنه مشافرها. ومنه: بنو آكل المرار: وهم قوم من العرب. (ع)(3/580)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
[سورة سبإ (34) : آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
أمره بأن يقررهم بقوله مَنْ يَرْزُقُكُمْ ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله:
يرزقكم الله. وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم: لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ حتى قال: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ثم قال فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادا وضرارا وحذارا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عزّ وجلّ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ: دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أنضل «1» بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته «2» بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب «3» . ومنه بيت حسان:
__________
(1) . قوله «ولكن التعريض والتورية أفضل» في الصحاح «ناضله» : راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته اه، فالأنضل الأشد رميا، فلذا عدى بالي. (ع)
(2) . قوله «وفل شوكته» أى كسرها. (ع)
(3) . قال محمود: «لما ألزمهم الحجة في قوله قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وهلم جرا إلى الآية المذكورة- وهذا الإلزام إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه- أمره أن يقول وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة: لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موافق أو مخالف قال للمخاطب به: قد أنصفك صاحبك، والتعريض أنضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا. ونحوه قول الرجل لصاحبه: الله يعلم الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب ومنه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
قال أحمد: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد، واستعاذه الخاطر كأنى بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخر والفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم، وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله والله الموفق.(3/581)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء «1»
فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ: وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 26]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام: الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل: الكفر والمعاصي العظام «2» . وفتح الله بينهم: وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار.
[سورة سبإ (34) : آية 27]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
فإن قلت: ما معنى قوله أَرُونِيَ وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. وكَلَّا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قال محمود: «وهذا القول أدخل في الانصاف من الأول، حيث أسند الاجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر» قال أحمد: فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزاما للانصاف، وزيادة على ذلك أنه ذكر الاجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يعطى تحقيق المعنى، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطى ذلك، والله أعلم.(3/582)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
غلطهم وإن لم يقدروا الله حق قدره بقوله هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده. أو ضمير الشأن، كما في قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
[سورة سبإ (34) : آية 28]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالا من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدّما عليه فقد أخطأ، لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطإ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قرئ: ميعاد يوم. وميعاد يوم. وميعاد يوما. والميعاد: ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ: ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. فإن قلت: فما تأويل من أضافه إلى يوم، أو نصب يوما؟ قلت. أما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: سحق ثوب، وبعير سانية. وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد، أعنى يوما أو أريد يوما من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا، أعنى التعظيم. فإن قلت:
كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتا، لا استرشادا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم. فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدّما عليه.
[سورة سبإ (34) : آية 31]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)(3/583)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
الذي بين يديه: ما نزل قبل القرآن من كتب الله: يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب الله عز وجل في الكفر. فكفروا بها جميعا. وقيل: الذي بين يديه يوم القيامة. والمعنى: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب وَلَوْ تَرى في الاخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم، لرأيت العجيب «1» ، فحذف الجواب. والمستضعفون: هم الأتباع، والمستكبرون: هم الرءوس والمقدّمون.
[سورة سبإ (34) : الآيات 32 الى 33]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
أولى الاسم أعنى نَحْنُ حرف الإنكار، لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم، كأنهم قالوا:
أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت: إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية، فلم وقعت إذ مضافا إليها؟ قلت: قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليها الزمان، كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد، وحينئذ، ويومئذ، وكان ذلك أو ان الحجاج أمير، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من
__________
(1) . قوله «لرأيت العجيب» لعله: العجب، كعبارة النسفي. (ع)(3/584)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ: بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين. وبل مكرّ الليل والنهار بالرفع والنصب. أى تكرّون الإغواء مكرّا دائبا لا تفترون عنه. فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟ قلت: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم أو مكرّكم، أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك. والنصب على: بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار: فإن قلت: لم قيل: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، بغير عاطف، وقيل وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا؟ قلت: لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأوّل فإن قلت: من صاحب الضمير في وَأَسَرُّوا قلت: الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أى في أعناقهم، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة: أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل: أسروا الندامة أظهروها، وهو من الأضداد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى «1» به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والمفاخرة «2» وزخارفها، والتكبر بذلك على المؤمنين، والاستهانة بهم من أجله، وقولهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فعلى قياسهم ذلك قالوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم، نظرا إلى أحوالهم في الدنيا.
__________
(1) . قوله «مما منى به من قومه» أى ابتلى به. (ع)
(2) . قوله «والمفاخرة وزخارفها» لعله «والمفاخرة بالدنيا وزخارفها» . (ع)(3/585)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
[سورة سبإ (34) : آية 36]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس، وربما وسع عليهما وضيق عليهما، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق. وقدر الرزق: تضييقه. قال تعالى وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وقرئ يقدّر، بالتشديد والتخفيف.
[سورة سبإ (34) : الآيات 37 الى 38]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
أراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أى: ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب. وقرأ الحسن: باللاتى تقرّبكم، لأنها جماعات. وقرئ: بالذي يقرّبكم، أى: بالشيء الذي يقرّبكم. والزلفى والزلفة: كالكربى والكربة، ومحلها النصب، أى: تقرّبكم قربة، كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، إِلَّا مَنْ آمَنَ استثناء من «كم» في تُقَرِّبُكُمْ، والمعنى: أنّ الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة، جزاء الضِّعْفِ من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله:
فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم جزاء الضعف، ثم جزاء الضعف. ومعنى جزاء الضعف:
أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشرا. وقرئ: جزاء الضعف، على: فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على: أن يجازوا الضعف، وجزاء الضعف مرفوعان: الضعف بدل من جزاء. قرئ فِي الْغُرُفاتِ بضم الراء وفتحها وسكونها. وفي الغرفة.
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
فَهُوَ يُخْلِفُهُ فهو يعوّضه لا معوّض سواه: إما عاجلا بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز(3/586)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
لا ينفد. وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونه. وعن مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإنّ الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولن: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، فإن هذا في الآخرة. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه خَيْرُ الرَّازِقِينَ وأعلاهم رب العزة، بأن كل ما رزق غيره: من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله: فهو من رزق الله، أجراه على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدنى «1» وجعلني ممن يشتهى، فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر:
إيّاك أعنى واسمعي يا جاره «2»
ونحوه قوله تعالى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد علم سبحانه كون
__________
(1) . قوله «الحمد لله الذي أوجدنى» في الصحاح: وجد مطلوبه وأوجده الله مطلوبه، أى أظفره به وأوجده أى: أغناه. (ع)
(2) .
يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره ... إياك اعنى فاسمعي يا جاره
لسهل بن مالك الفزاري، يخاطب أخت حارثة بن لأم، وكان قد سألها على أخيها فلم يجده فأنزلته وأكرمته، فرآها في غاية الجمال والكمال، فأنشد ذلك، فأجابته بقولها:
إنى أقول يا فتى فزاره ... لا أبتغى الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هدى الحاره ... فارحل إلى أهلك باستحاره
فارتحل، ثم نزل عند أخيها مرة أخرى، وكان حسن الطلعة، فأرسلت إليه خفية أن يخطبها، ففعل، وتزوجها وارتحل بها. والبدو: هو البادية. والحضارة: هي الحاضرة. والمراد أهلهما، وكيف: اسم استفهام نصب على المفعولية بترين. والمعنى: أى حال ترين في فتى هذه القيلة؟ يعنى نفسه. وفيه تعريض ب خطبتها. والمعطارة:
كثيرة التعطر، ولحاق تاء التأنيث لمفعال شاذ- إن كانت للفرق بين المذكر والمؤنث كما هنا- ويمكن أنها لزيادة المبالغة، لا للتأنيث. والدعارة: الفسق والخبث والفساد. وهذى: اسم إشارة. وقولها: باستحارة، أى بكمال وعدم نقص. أو بتحير وعدم اهتداء. يقال: استحار الإناء، إذا امتلأ وتكامل. واستحار الرجل: إذا تحر في رأيه.(3/587)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشدّ. وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم:
وهو أنه ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتص عليه. والموالاة:
خلاف المعاداة. ومنها: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وهي مفاعلة من الولي وهو القرب، كما أنّ المعاداة من العدواء وهي البعد، والولي: يقع على الموالي والموالي جميعا. والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار: براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم، لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يريدون الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل:
صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت. فيعبدون بعبادتها. وقرئ: نحشرهم. ونقول، بالنون والياء.
[سورة سبإ (34) : آية 42]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلى بينهم، يتضارّون ويتنافعون. والمراد: أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا معطوفا على لا يَمْلِكُ.
[سورة سبإ (34) : آية 43]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
الإشارة الأولى: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية إلى القرآن. والثالثة: إلى الحق، والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو. وفي قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وفي أن لم يقل وقالوا، وفي قوله لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي لما من المبادهة بالكفر: دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فبتوا القضاء على أنه سحر، ثم بتوه على(3/588)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحرا.
[سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وما آتيناهم كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، كما قال عز وجل أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول كما قال أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ فليس لتكذيبهم وجه متشبث، ولا شبهة متعلق، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوّة الأجرام وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، فما بال هؤلاء؟ وقرئ: يدرّسونها، من التدريس وهو تكرير الدرس. أو من درّس الكتاب، ودرّس الكتب: ويدّرسونها، بتشديد الدال: يفتعلون من الدرس. والمعشار كالمرباع، وهما: العشر، والربع. فإن قلت: ما معنى فَكَذَّبُوا رُسُلِي وهو مستغنى عنه بقوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قلت: لما كان معنى قوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه: جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن ينعطف على قوله: وما بلغوا، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ «1» أى للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله.
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة، وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة
__________
(1) . قوله «فكيف كان نكير» وفي النسفي: أن يعقوب قرأ «نكيري» بالياء في الوصل والوقف. (ع)(3/589)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم: وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصا. متفرّقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أمّا الاثنان: فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسننه، وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقرّ عنده من عادات العقلاء ومجارى أحوالهم، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى: أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول، ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب. ولا يسمع إلا نصرة المذهب، وأراهم بقوله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعا، لا يتصدّى لا دعاء مثله إلا رجلان: إمّا مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإمّا عاقل راجح العقل مرشح للنبوّة، مختار من أهل الدنيا، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه، وقد علمتم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به، فكان مظنة لأن تظنوا به الخير، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت:
ما بِصاحِبِكُمْ ثم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون كلاما مستأنفا تنبيها من الله عز وجل على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ كقوله عليه الصلاة والسلام «1» : «بعثت في نسم الساعة «2» » .
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
فَهُوَ لَكُمْ جزاء الشرط الذي هو قوله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ تقديره: أىّ شيء سألتكم
__________
(1) . تقدم في الأنبياء. [.....]
(2) . قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» : أولها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسم أيضا: جمع نسمة وهي النفس. (ع)(3/590)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
من أجر فهو لكم، كقوله تعالى ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ وفيه معنيان، أحدهما: نفى مسألة الأجر رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتنى شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ولكنه يريد به البت، لتعليقه الأخذ بما لم يكن. والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وفي قوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودّة في القرابة، لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ حفيظ مهيمن، يعلم أنى لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.
[سورة سبإ (34) : آية 48]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)
القذف والرمي: تزجية «1» السهم ونحوه بدفع واعتماد، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ومعنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يلقيه وينزله إلى أنبيائه. أو يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه عَلَّامُ الْغُيُوبِ رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب صفة لربي، أو على المدح. وقرئ: الغيوب بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت. والغيوب كالصبور وهو الأمر الذي غاب وخفى جدا.
[سورة سبإ (34) : آية 49]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
والحىّ إمّا أن يبدئ فعلا أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك. ومنه قول عبيد:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد «2»
والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ وعن ابن مسعود
__________
(1) . قوله «القذف والرمي تزجية السهم» في الصحاح: زجيت الشيء تزجية إذا دفعته برفق. (ع)
(2) . لعبيد بن الأبرص. وأقفر: خلا أو هلك عبيد من أهله. والإبداء والاعادة من لوازمهما الحياة، فنفيهما كناية عن نفيها بالموت. كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه، وفي آخر فيقتل أول من يلقاه، فصادفه فيه عبيد، فقيل له: امدحه بشعر لعله يعفو عنك، فقال: حال الجريض دون القريض، أى منعت الغصة الشعر، فضرب ذلك مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا. وفي مجانى الأدب: أن المنذر قال له: أنشدنى: أقفر من أهله ملحوب، فقال: أفقر من أهله عبيد. وملحوب: اسم موضع، استنشده بيتا قديما فعلم أنه يريد هلاكه، فقال: لا قدرة لي على إبداء شعر جديد، ولا على إعادة شعر قديم، ودخل في حشو البيت الزحاف الطى، ومن العلل القطع، فصار مستفعلن على وزن مستعل بسكون اللام، وذلك في قوله «أهله» .(3/591)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
رضى الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة «1» ويقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «2» . والحق: القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: السيف. وقيل الباطل: إبليس لعنه الله، أى: ما ينشئ خلقا ولا يعيده، المنشئ والباعث: هو الله تعالى. وعن الحسن: لا يبدئ لأهله خيرا ولا يعيده، أى: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: أىّ شيء ينشئ إبليس ويعيده، فجعله للاستفهام. وقيل للشيطان: الباطل، لأنه صاحب الباطل، أو لأنه هالك كما قيل له: الشيطان، من شاط إذا هلك.
[سورة سبإ (34) : آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قرئ، ضللت أضلّ، بفتح العين مع كسرها. وضللت أضلّ، بكسرها مع فتحها، وهما لغتان، نحو: ظللت أظلّ، وظللت أظلّ. وقرئ اضلّ: بكسر الهمزة مع فتح العين. فإن قلت: أين التقابل بين قوله فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وقوله فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، وإنما كان يستقيم أن يقال: فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما أهتدى لها، كقوله تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. أو يقال: فإنما أضل بنفسي. قلت: هما متقابلان من جهة المعنى، لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها، أعنى: أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها: لأن الأمّارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عامّ لكل مكلف، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه، لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضالّ ومهتد، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء.
[سورة سبإ (34) : آية 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
وَلَوْ تَرى جوابه محذوف، يعنى: لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة. و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم: كلها للمضى. والمراد بها الاستقبال، لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه، ووقت الفزع: وقت البعث وقيام الساعة. وقيل: وقت الموت. وقيل: يوم بدر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت
__________
(1) . قوله «فجعل يطعنه بعود نبعة» لعله «معه» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . متفق عليه وقد تقدم في الاسراء.(3/592)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
في خسف البيداء، وذلك أنّ ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم فَلا فَوْتَ فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. وقرئ: فلا فوت. والأخذ من مكان قريب: من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من صحراء بدر إلى القليب. أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم. فإن قلت: علام عطف قوله وَأُخِذُوا؟
قلت: فيه وجهان: العطف على فزعوا، أى: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على لا فوت، على معنى: إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. وقرئ: وأخذ، وهو معطوف على محل لا فوت.
ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ.
[سورة سبإ (34) : الآيات 52 الى 54]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
آمَنَّا بِهِ بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ: والتناوش والتناول: أخوان إلا أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب، يقال ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال: تناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا: مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة «1» كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه وقرئ التناؤش: همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبى عمرو التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت إذا أبطأت وتأخرت. ومنه البيت:
تمنّى نئيشا أن يكون أطاعنى «2»
__________
(1) . قوله «أن يتناول الشيء من غلوة» في الصحاح: غلوت بالسهم غلوا، إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، والغلوة: الغاية مقدار رمية، وفيه: يقال بينهما قيس رمح وقاس رمح، أى: قدر رمح. (ع)
(2) .
ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع فيما أشار قصير
فلما رأى ما غب أمرى وأمره ... وناءت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشا أن يكون أطاعنى ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
لنهشل بن حرى» واستبد: انفرد واستغنى بأمره. وقصير: علم رجل كان حسن الرأى، وهو فاعل أشار.
ومفعول «يطع» محذوف لدلالة المذكور عليه. أو لأن الفعل منزل منزلة اللازم، والأوجه رواية لم يطع مبنيا للمجهول. وقصير: نائب الفاعل، وضميره فاعل أشار، وبالعكس على الخلاف في باب التنازع. رغب الأمر:
بلغ فيه بالكسر عاقبته. وناء- بالمد-: أصله نأى، فقلب: أى بعد، وشبه الأمر بشيء له صدر وعجز على طريق المكنية وإثباتهما له تخييل، كأن أوائل الأمور مضت بأواخرها، فلما مضت الأوائل ظهرت الأواخر بعد خفائها. ويقال: نأش بالهمز إذا تأخر. ونئيشا: نصب على الظرف، أى أخيرا، أى: تمنى في آخر الأمر أن يكون أطاعنى في نصيحتي لما رأى عاقبة أمرى حسنة وعاقبة أمره سيئة، والحال أنه قد حدثت بعد الأمور السهلة أمور صعبة كانت خفية أوجبت تمنيه، فهي حال مبينة للمراد من الظرف. أو حدثت بعد الأمور السهلة التي كان يمكنه معها مطاوعتى أمور صعبة تمنعه من التخلص من ربكته، كما نصحته بذلك أولا فلم يسمع ومضى على رأيه.(3/593)
أى أخيرا وَيَقْذِفُونَ معطوف على قد كفروا، على حكاية الحال الماضية، يعنى: وكانوا يتكلمون بِالْغَيْبِ ويأتون به مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر. ساحر. كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به: الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت: الكذب والزور: وقرئ: ويقذفون بالغيب، على البناء للمفعول، أى: يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه، وإن شئت فعلقه بقوله وَقالُوا آمَنَّا بِهِ على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا، والغيب: الشيء الغائب، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ وكانوا يقولون: وما نحن بمعذبين، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا، قايسين أمر الآخرة على أمر الدنيا: فهذا كان قذفهم بالغيب، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة، لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة. أو من الردّ إلى الدنيا، كما حكى عنهم فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً. بِأَشْياعِهِمْ بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم مُرِيبٍ إما من أرابه، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها، وكلاهما مجاز إلا أنّ بينهما فريقا: وهو أنّ المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من لأعيان إلى المعنى، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول:
شعر شاعر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبىّ إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا «1» »
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.(3/594)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة الملائكة
مكية، وهي خمس وأربعون آية [نزلت بعد الفرقان] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
فاطِرِ السَّماواتِ مبتدئها ومبتدعها. وعن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض، حتى اختصم إلىّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها «1» ، أى ابتدأتها. وقرئ: الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة. وقرئ: جاعل الملائكة، بالرفع على المدح رُسُلًا بضم السين وسكونها أُولِي أَجْنِحَةٍ أصحاب أجنحة، وأولو:
اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها. ذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل عمر عن عامر. وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول: مررت بنسوة أربع، وبرجال ثلاثة، فلا يعرج عليها، والمعنى: أن الملائكة «2» خلقا أجنحتهم اثنان اثنان، أى: لكل واحد منهم جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أى: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل الجناحان، لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه. فإن قلت: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه، فما صورة الثلاثة؟ قلت: لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران، فقد مرّبى في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه رأى جبريل عليه السلام
__________
(1) . تقدم في أول الأنعام
(2) . قوله «أن الملائكة خلقا» لعله: متنوعة خلقا ... الخ. (ع)(3/595)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
ليلة المعراج وله ستمائة جناح «1» ، وروى أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك. قال: «إنى أحب أن تفعل «2» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال: سبحان الله! ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا، فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل: له اثنا عشر جناحا:
جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب. وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع «3» وهو العصفور الصغير. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ: «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن» وقيل «الخط الحسن» وعن قتادة: الملاحة في العينين، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل «4» ، وجزالة في الرأى، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة»
في اللسان ولباقة في التكلم «6» ، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
استعير الفتح للإطلاق والإرسال. ألا ترى إلى قوله فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ مكان: لا فاتح له، يعنى: أى شيء يطلق الله من رحمة أى من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها، وأىّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. فإن قلت: لم أنث الضمير أوّلا، ثم ذكر آخرا؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت: هما لغتان: الحمل على المعنى وعلى اللفظ، والمتكلم على الخيرة
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» ولفظ ابن حبان «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينتشر في ريشه الدر والياقوت»
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. والثعلبي من طريقه أخبرنا الليث عن عقيل عن الزهري بهذا. وزاد «والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته» الوصع بفتح الصاد المهملة بعدها مهملة أيضا
(3) . قوله «مثل الوصع وهو العصفور» في الصحاح «الوصع» : طائر أصغر من العصفور. (ع)
(4) . قوله «وحصافة» أى: إحكام. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(5) . قوله «وذلاقة» أى: حدة وطلاقة، أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قوله «ولباقة في التكلم» أى حذق. أفاده الصحاح. (ع)(3/596)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
فيهما، فأنث على معنى الرحمة، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه، ولأنّ الأوّل فسر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرئ فلا مرسل لها.
فإن قلت: لا بد للثاني من تفسير، فما تفسيره؟ قلت: يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأوّل، ولكنه ترك لدلالته عليه، وأن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته، وإنما فسر الأوّل دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت: إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها- وهو الذي أراده ابن عباس رضى الله عنهما إن قاله- فمقبول، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب، فمردود لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبدا «1» ، ولا يجوز عليه أن لا يشاؤها مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه، كقوله تعالى فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أى من بعد هدايته وبعد آياته وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على الإرسال والإمساك الْحَكِيمُ الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.
[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن به وبالقلب، وحفظها من الكفران والغمط «2» وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادىّ عندك. يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها، والخطاب عام للجميع لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد: يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم، حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم، والناس يتخطفون من حولكم. وعنه: نعمة الله العافية. وقرئ: غير الله، بالحركات الثلاث فالجرّ والرفع على الوصف لفظا ومحلا، والنصب على الاستثناء. فإن قلت: ما محل يَرْزُقُكُمْ؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق «3» وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق، بإضمار يرزقكم، وأوقعت يرزقكم تفسيرا له، أو جعلته كلاما مبتدأ بعد قوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ.
__________
(1) . قوله «يشاء التوبة أبدا» هذا وما بعده على مذهب المعتزلة، من أنه تعالى يجب عليه الصلاح للعبد.
وعند أهل السنة: لا يجب عليه شيء، فالكلام على ظاهره، ورده مردود. (ع)
(2) . قوله «وحفظها من الكفران والغمط» أى: الاحتقار. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما محل يرزقكم؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق، وأن لا يكون له محل إذا جعلته تفسيرا وجعلت من خالق مرفوع المحل بفعل يدل عليه هذا، كأنه قيل: هل يرزقكم خالق غير الله، أو جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ» قال أحمد: والوجه المؤخر أوجهها(3/597)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله تعالى «1» ؟ قلت نعم إن جعلت يَرْزُقُكُمْ كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأمّا على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير. فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على اختصاصه، بالإطلاق، والرزق من السماء المطر، ومن الأرض النبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مفصولة لا محل لها، مثل: يرزقكم في الوجه الثالث، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى، لأنّ قولك: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق: غير مستقيم، لأن قولك: هل من خالق سوى الله إثبات لله، فلو ذهبت تقول ذلك: كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فمن أى وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟
[سورة فاطر (35) : آية 4]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله، ولتكذيبهم بها، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد: من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه. وقرئ: ترجع، بضم التاء وفتحها. فإن قلت: ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له. قلت: معناه: وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع: فتأس، استغناء بالسبب عن المسبب: أعنى بالتكذيب عن التأسى. فإن قلت: ما معنى التنكير في رسل؟ قلت:
معناه فقد كذبت رسل، أى رسل ذو وعدد كثير. وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم، وما أشبه ذلك. وهذا أسلى له، وأحث على المصابرة.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت: هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت: نعم إن جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماوات والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على نفيه مطلقا.
قال أحمد: القدرية إذا قرعت هذه الآية أسماعهم قالوا بجرأه على الله تعالى: نعم ثم خالق غير الله، لأن كل أحد عندهم يخلق فعل نفسه، فلهذا رأيت الزمخشري وسع الدائرة، وجلب الوجوه الشاردة النافرة، وجعل الوجهين يطابقان معتقده في إثبات خالق غير الله، ووجهها هو الحق والظاهر، وأخره في الذكر تأسيا له، والذي يحقق الوجه الثالث وأنه هو المراد: أن الآية خوطب بها قوم على أنهم مشركون، إذا سئلوا عن رازقهم من السماوات والأرض، قالوا: الله، فقرروا بذلك وقرعوا به، إقامة للحجة عليهم بإقرارهم، ولو كان على غير هذا الوجه قيد، لكان مفهومه إثبات خالق غير الله، لكنه لا يرزق وهؤلاء الكفرة قد تبرؤا عن ذلك، فلا وجه لتقريعهم بما يلائم قولهم هذا ترجيح الوجه الثالث من حيث مقصود سياق الآية. وأما من حيث النظم اللفظي، فلأن الجملتين اللتين هما قوله يَرْزُقُكُمْ وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سقتا سياقا واحدا. والثانية مفصولة اتفاقا مما تقدم، فكذلك وَزِينَتَها.(3/598)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
وعد الله الجراء بالثواب والعقاب فَلا تَغُرَّنَّكُمُ فلا تخدعنكم الدُّنْيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة «1» . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عز وجل أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عز وجل بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في عقائدكم وأفعالكم، ولا يوجدن منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته: هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء «2» ، ليقطع الأطماع الفارغة والأمانى الكاذبة، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما.
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا، قال لنبيه أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعنى: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين، كمن لم يزين له، فكأن رسول الله صلى
__________
(1) . قال محمود: «معناه: ولا يقولن لكم الشيطان: اعملوا ما شئتم فان الله غفور، يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة» قال أحمد: هو يعرض بأهل السنة في اعتقادهم جواز مغفرة الكبائر للموحد، وإن لم يكن توبة.
وهذا لا يناقض صدق وعده تعالى، لأن الله تعالى حيث توعد على الكبائر قرن الوعد بالمشيئة في مثل قوله لهم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فهم إذا مصدقون بوعد الله تعالى، موقنون به على حسب ما ورد.
(2) . قوله «وقشر اللحاء» في الصحاح: اللحاء- ممدود-: قشر الشجر. (ع)(3/599)
الله عليه وسلم قال «لا» فقال فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ومعنى تزيين العمل والإضلال: واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدى عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهى، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويقعد تحت قول أبى نواس:
اسقني حتّى تراني ... حسنا عندي القبيح «1»
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم، فإنّ على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقى بالا إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم: اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج أنّ المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه: أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ عليه. حسرات: مفعول له يعنى: فلا تهلك نفسك للحسرات.
وعليهم صلة تذهب، كما تقول: هلك عليه حبا، ومات عليه حزنا. أو هو بيان للمتحسر عليه.
ولا يجوز أن يتعلق بحسرات، لأنّ المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا، كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهنّ مع السرى ... حتّي ذهبن كلاكلا وصدورا «2»
يريد: رجعن كلا كلا وصدورا، أى: لم يبق إلا كلا كلها وصدورها. ومنه قوله:
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام «3»
وقرئ: فلا تذهب نفسك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
__________
(1) .
نحن نخفيها فتأتى ... طيب ريح فتفوح
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح
لأبى نواس. ونخفيها، أى: الخمر، فتفوح: أى رائحتها، ثم قال لساقى الخمر: اسقني حتى أسكر، فيحسن عندي القبيح، وحسنا: المفعول الثاني، والقبيح مرفوع به، واستحسانه: كناية عن اشتداد السكر.
(2) . لجرير يصف نوقا بالهزال. يقال: فرس ممشوق، أى: طويل مهزول. وجارية ممشوقة: رقيقة القوام.
والهاجرة: شدة الحر. والسرى- بالضم-: سير الليل. والكلكل والكلكال: الصدر، وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير، أى: صرن من شدة الحر والسير كأنهم عظام فقط لا لحم عليهن.
(3) . لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها، فكأنها هي. أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان وهو أوجه. وذكرهم: أى تذكرهم سقام لي، وهو بالفتح مصدر كالسقم.(3/600)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
وقرئ: أرسل الريح. فإن قلت: لم جاء فَتُثِيرُ على المضارعة دون ما قبله، وما بعده؟ قلت:
ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية، بحال تستغرب، أوتهمّ المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:
بأنىّ قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران «1»
لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدّة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها: لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا، معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه. والكاف في كَذلِكَ في محلّ الرفع، أى: مثل إحياء الموات نشور الأموات وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟
فقال «هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهزّ «2» خضرا» قال: نعم. قال: «فكذلك يحيى
__________
(1) .
فمن ينكر وجود الغول إنى ... أخبر عن يقين بل عيان
بأنى لقد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
لتأبط شرا. والغول: أثى الشياطين. والعيان: المشاهدة بالعين. والهوى: الهبوط. والمراد: سرعة العدو.
والسهب- بالفتح-: الفضاء المستوى البعيد الأطراف. والصحيفة: الكتاب. والصحصحان والصعصعان- بالفتح-:
المستوى من الأرض. والجران- ككتاب-: مقدم عظم العنق من الحلق إلى اللبة، وجمعه جرنة ككتبة، وأجرنة كأفئدة. يقول: فمن ينكر وجود الغول فقد كذب، فإنى أخبر عن يقين. ويجوز أن المعنى: فيا من تنكر وجود الغول، إنى أخبر إخبارا ناشئا عن يقين، وهو ما كان بدليل قاطع بل عيان ومشاهدة بالعين، بأنى قد لقيتها تسرع في مكان متسع مستو، وكرر الوصف بذلك توكيدا، وأظهر موضع الإضمار لزيادة تمكين الغول في ذهن السامع وللتهويل، وكان الظاهر أن يقول: فضربتها، لكن عدل إلى المضارع ليحكى الحال الماضية كأنها موجودة الآن مشاهدة فيتعجب منها، وتعلم شجاعته، أى: فجعلت أضربها بلا خوف فسقطت مطروحة على يديها وعنقها. وفعيل: يوصف به المذكر والمؤنث كما هنا.
(2) . قوله «ثم مررت به يهز خضرا» في الخازن: «يهتز» . (ع)(3/601)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
الله الموتى وتلك آيته في خلقه «1» وقيل يحيى الله الخلق» بماء يرسله من تحت العرش كمنى الرجال، تنبت منه أجساد الخلق.
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم: كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال تعالى الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه. وقال وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمعنى فليطلبها عند الله، فوضع قوله فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً موضعه، استغناء به عنه لدلالته عليه، لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد:
فليطلبها عندهم، إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه. ومعنى فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أنّ العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والكلم الطيب: لا إله إلا الله. عن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى أنّ هذه الكلم لا تقبل. ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عز وجل إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها. وقيل: الرافع الكلم، والمرفوع العمل، لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد. وقيل: الرافع هو الله تعالى، والمرفوع العمل. وقيل: الكلم الطيب: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل «2» منه» وفي الحديث «لا يقبل
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي في البعث كلهم من طريق حماد بن سلمة عن يعلى ابن عطاء عن وكيع بن عدى عن عمه أبى رزين العقيلي أنه قال «يا رسول الله أكلنا يرى ربه يوم القيامة. وما آية ذلك في خلقه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس كلكم ينظر إلى القمر مختليا به؟ قالوا بلى. قال: فالله أعظم. قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيى الله الموتى. وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك ممحلا؟ قال: بلى. قال ثم مررت به يهتز خضرا؟ قال: قلت: بلى. قال: فكذلك يحيى الله الموتى. وذلك آية في خلقه» وأوله في سنن أبى داود وابن ماجة دون مقصود الكتاب. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من رواية على بن عاصم عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة مرفوعا، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء والطبري مرفوعا عن ابن مسعود رضى الله عنه.(3/602)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا ولا عملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة «1» » وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر.
وقرئ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ على البناء للمفعول. وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ على تسمية الفاعل، من أصعد. والمصعد: هو الرجل أى يصعد إلى الله عز وجل الكلم الطيب، وإليه يصعد الكلام الطيب. وقرئ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عز وجل. فإن قلت: مكر: فعل غير متعدّ. لا يقال: مكر فلان عمله فبم نصب السَّيِّئاتِ؟
قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أصله والذين مكروا المكرات السيئات. أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأى في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ يعنى: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، أى: يكسد ويفسد، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وقوله. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
أَزْواجاً أصنافا، أو ذكرانا وإناثا، كقوله تعالى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وعن قتادة رضى الله عنه: زوج بعضهم بعضا بِعِلْمِهِ في موضع الحال، أى: إلا معلومة له.
فإن قلت: ما معنى قوله. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ؟ قلت: معناه وما يعمر من أحد. وإنما سماه معمرا بما هو صائر إليه. فإن قلت: الإنسان إما معمر، أى طويل العمر: أو منقوص العمر، أى قصيره. فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال، فكيف صح قوله وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
__________
(1) . أخرجه الخطيب في الجامع من روآية بقية بن إسماعيل بن عبد الله عن أبان عن أنس بهذا مرفوعا. وأبان متروك. وله طريق أخرى عن أبى هريرة مرفوعا أخرجه ابن عدى وابن حبان، كلاهما في الضعفاء عن خالد بن عبد الدائم عن نافع بن يزيد عن زهرة بن معبد عن سعيد بن المسيب عنه، بلفظ «قرآن في صلاة خير من قرآن في غير صلاة- الحديث. وفيه: ولا قول إلا بعمل إلى آخره. ورواه ابن حبان أيضا من روآية الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن مسعود. وفيه أحمد بن الحسن المصري. وهو كذاب.(3/603)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض. يقولون: لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق.
وما تنعمت بلدا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى «1» . وفيه تأويل آخر: هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار «2» » وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضى الله عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله، «3» فقيل لكعب: أليس قد قال الله إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال:
فقد قال الله وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك، وفسخ في مدتك وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتى على آخره. وعن قتادة رضى الله عنه: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب:
اللوح. عن ابن عباس رضى الله عنهما: ويجوز أن يراد بكتاب الله: علم الله، أو صحيفة الإنسان.
وقرئ: ولا ينقص، على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف.
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
ضرب البحرين: العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه وَمِنْ كُلٍّ أى: ومن كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وهي اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
__________
(1) . قوله «ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي» أى: كرهت المقام به، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أحمد من طريق القاسم عن عائشة، لكن قال «وحسن الخلق» بدل «الصدقة» ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه كذلك، وزاد وحسن الجوار» وله طريق أخرى عند الأصبهانى عن أبى سعيد بلفظ «صلة الرحم وحسن الخلق وبر الوالدين» وزاد «وإن كان القوم فجارا»
(3) . أخرجه إسحاق في آخر مسند ابن عباس رضى الله عنهما، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد.(3/604)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
في كل مَواخِرَ شواق للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب: بنات مخر، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره مِنْ فَضْلِهِ من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية، ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل، لدلالة المعنى عليه. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنما قيل: لتبتغوا، ولتشكروا. والفرات: الذي يكسر العطش. والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته. وقرئ: سيغ، بوزن سيد: وسيغ بالتخفيف. وملح: على فعل.
والأجاج: الذي يحرق بملوحته. ويحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ: وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم قال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
[سورة فاطر (35) : آية 13]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
ذلِكُمُ مبتدأ. واللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أخبار مترادفة. أو اللَّهُ رَبُّكُمْ خبران. وله الملك: جملة مبتدأة واقعة في قران قوله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة. أو عطف بيان. وربكم خبرا.
لولا أن المعنى يأباه. والقطمير: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها.
[سورة فاطر (35) : آية 14]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إن تدعوا الأوثان لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض والتمثيل ل مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية، ويتبرءون منها.
وقيل: ما نفعوكم يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «1» وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ولا يخبرك بالأمر مخبر هو
__________
(1) . قوله «يكفرون بشرككم» كأن تفسيره قد سقط، وفي النسفي: يكفرون بشرككم: باشراككم لهم وعبادتكم إياهم، ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، ولا ينبئك ... الخ. (ع)(3/605)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
مثل خبير عالم به. ويريد: أن الخبير بالأمر وحده، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأنى خبير بما أخبرت به.
وقرئ: يدعون، بالياء والتاء.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 17]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم، لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً وقال سبحانه وتعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل الفقراء بالغنى، فما فائدة الحميد؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم- وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغنىّ جوادا منعما، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد- ذكر الحميد ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه، الحميد على ألسنة مؤمنيهم بِعَزِيزٍ بممتنع، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أندادا، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئا.
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
الوزر والوقر: أخوان، ووزر الشيء إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته: لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا: الولي بالولى، والجار بالجار. فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟
ولم قيل وازرة؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها. فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين قوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في(3/606)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
قولهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ بقوله تعالى وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ.
فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين معنى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها، والثاني في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفسا قد أثقلها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: إلام أسند كان في وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى؟
قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ. فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت:
ليعمّ، ويشمل كل مدعوّ. فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى على كان التامّة، كقوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأنّ المعنى على أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه شيء، وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه «1» ، على أنّ هاهنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أى: يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائبا عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا، يعنى: إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم وَمَنْ تَزَكَّى ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي. وقرئ: ومن ازكى فإنما يزكى، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة، لأنهما من جملة التزكى وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وعد للمتزكين بالثواب. فإن قلت: كيف اتصل قوله إِنَّما تُنْذِرُ بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال إِنَّما تُنْذِرُ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل إِنَّما تُنْذِرُ أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 23]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
__________
(1) . قوله «وخرج من اتساقه والتئامه» أى: انتظامه. (ع)(3/607)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للكافر والمؤمن، كما ضرب البحرين مثلا لهما أو للصنم والله عزّ وجلّ، والظلمات والنور والظنّ والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر والحرور: السموم، إلا أنّ السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة. فإن قلت: لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي. فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعا إلى شفع، وبعضها وترا إلى وتر إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ يعنى أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدى الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفى عليك أمرهم، فلذلك تحرص وتنهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أى ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدى المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى.
[سورة فاطر (35) : آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
بِالْحَقِّ حال من أحد الضميرين، يعنى: محقا أو محقين، أو صفة للمصدر، أى: إرسالا مصحوبا بالحق. أو صلة لبشير ونذير على: بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق. والأمّة الجماعة الكثيرة. قال الله تعالى: وجد عليه أمّة من الناس، ويقال لأهل كل عصر: أمّة، وفي حدود المتكلمين: الأمّة هم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد هاهنا: أهل العصر. فإن قلت: كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة، دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما
[سورة فاطر (35) : الآيات 25 الى 26]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)(3/608)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
بِالْبَيِّناتِ بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات وَبِالزُّبُرِ وبالصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا، وإن كان بعضها في جميعهم: وهي البينات، وبعضها في بعضهم:
وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
أَلْوانُها أجناسها من الرّمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد:
أو مذهب جدد على ألواحه
ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه وَغَرابِيبُ معطوف على بيض أو على جدد، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب «1» . وعن عكرمة رضى الله عنه: هي الجبال الطوال السود. فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود. يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك: وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب. ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق «2» وما أشبه ذلك. قلت: وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطّير «3» ...
__________
(1) . قوله «ما هو على لون واحد غرابيب» لعله. غربيب. (ع)
(2) . قوله «وأبيض يقق» بفتح القاف الأولى، وحكى كسرها. أفاده الصحاح. (ع)
(3) .
فلا لعمر الذي طيفت بكعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير يرقبها ... ركبان مكة بين القيل والسند
ما إن أتيت بشيء أنت نكرهه ... إذا فلا رفعت سوطى إلى يدي
للنابغة، يعتذر للنعمان بن المنذر، ولا زائدة قبل القسم، لأنه في الغالب لنفى دعوى الخصم. والعمر: الحياة، وهو مبتدأ حذف خبره وجوبا، وطاف به يطيف طيفا. أتى عليه ونزل به، وطاف به يطوف طوافا وطوفانا، إذا دار حوله ومنه: طيفت، وهو مبنى للمجهول، ونائب الفاعل: الجار والمجرور، ولما كان مؤنثا لحقت التاء الفعل شذوذا، والفصيح تركها في مثله. والغيل والسند: أجمتان بجانب منى. وقيل: موضعا ماء بجانبي الحرم، وهو قريب مما قبله. أى: حياة الذي طاف الحجيج بكعبته قسمي، وما هريق، والمؤمن: بالرفع عطف على المبتدأ والعائذات منصوب بالمؤمن، والطير: عطف بيان للعائذات، ويجوز جعله بدلا منه، وكذا كل موصوف تبع صفته، وهريق: أصله أريق. والجسد: البدن، وجسد به الدم، إذا لصق به، فهو جاسد وجسد. فعلى الأول «أريق» بمعنى ذبح، وعلى الثاني على ظاهره، لكنه كناية عن الذبح، أى وما ذبح على الحجارة المنصوبة حول الكعبة من الهدى، والذي آمن الطير العائذات اللائذات بالحرم، حال كونها بنظرها الحجاج في منى ولا يؤذونها لاحرامهم. وروى: يمسحها وهو أبلغ في الأمن، وما أتيت جواب القسم، وإن زائدة. ويجوز أنها نافية مؤكدة ثم دعا على نفسه فقال: إذا كان ذلك منى فلا رفعت سوطى إلى يدي: بيان يدي، كناية عن أنه يضعف غاية الضعف، وروى «سوطا» ، بدل «سوطى» أى يضعف حتى لا يقدر على رفعه.(3/609)
وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقى الإظهار والإضمار جميعا، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بمعنى: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال: ثمرات مختلفا ألوانها وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعنى: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: ألوانها. وقرأ الزهري جدد، بالضم: جمع جديدة، وهي الجدّة، يقال:
جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبى ذؤيب يصف حمار وحش.
جون السّراة له جدائد اربع «1»
وروى عنه: جدد، بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ، والدواب مخففا ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ «ولا الضألين» لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين، فحرك ذاك أوّ لهما، وحذف هذا آخرهما. وقوله كَذلِكَ أى كاختلاف الثمرات والجبال. المراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث:
__________
(1) .
والدهر لا يبقى على حدثانه ... جون السراة له جدائد أربع
لأبى ذؤيب في مرثية بنيه. والجون: الأسود ويطلق على الأبيض، فهو من الأضداد. وسراة الظهر: أعلاه.
وسراة كل شيء: أعلاه. وجديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. والجدائد: الأتن التي جف لبنها.
والمرأة الجداء: التي لا ثدي لها: يسلى عن بنيه بأن لك عادة الدهر، فهو لا يبقى مع ما فيه من الحدثان أحدا، حتى أسود الظهر كناية عن حمار الوحش له أتن أربع يرعى معهن في البراري وينزو عليهن. وقيل: إنه يعيش مائتي سنة فربما يتوهم أنه لا يصيبه الدهر بشيء. ويجوز قراءة «يبقى» بالفتح. وجون بالرفع فاعل، وله جدائد: جملة حالية أى: لا بد أن تهلك أتنه واحدة بعد واحدة، أو يهلك هو.(3/610)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
«أعلمكم بالله أشدّكم له خشية» «1» وعن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل:
نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت:
هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بدّ من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى: إنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله تعالى وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك: ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم «2» به» . فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى:
إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس من بين جميع عباده إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب: حقه أن يخشى.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف رحمه الله:
هي آية القرّاء. وعن الكلبي رحمه الله: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به.
وعن السدى رحمه الله: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون يَرْجُونَ خبر إن، والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. ولِيُوَفِّيَهُمْ متعلق بلن تبور، أى: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق «3» عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أُجُورَهُمْ
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيح: «أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» .
(2) . أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد بن أسلم. ومالك في الموطأ والشافعي عنه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلا في أثناء حديث أوله «أن رجلا قبل امرأته وهو صائم»
(3) . قوله «وتنفق عند الله» أى تروج. أفاده الصحاح. (ع) [.....](3/611)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
وهي ما استحقوه من الثواب وَيَزِيدَهُمْ من التفضل على المستحق، وإن شئت جعلت يَرْجُونَ في موضع الحال على: وأنفقوا راجين ليوفيهم، أى فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض، وخبر إن قوله إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ على معنى: غفور لهم شكور لأعمالهم. والشكر مجاز عن الإثابة.
[سورة فاطر (35) : آية 31]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
الْكِتابِ القرآن. ومن للتبيين أو الجنس. ومن للتبعيض مُصَدِّقاً حال مؤكدة، لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدّمه من الكتب لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يعنى أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
فإن قلت: ما معنى قوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أى حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه وهو يريد نورثه، لما عليه أخبار الله الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم أمّته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله، ومقتصد: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولا وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاءوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ثم قال: إنّ الذين يتلون(3/612)
كتاب الله، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ثم قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا أى من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية، فإن قلت: فكيف جعلت جَنَّاتُ عَدْنٍ بدلا من الفضل الكبير «1» الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له «2» » فإنّ شرط ذلك صحة التوبة «3» لقوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وقوله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ سباق. ومعنى بِإِذْنِ اللَّهِ بتيسيره وتوفيقه فإن قلت: لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل. وقرئ: جنة عدن على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين. وجنات عدن:
__________
(1) . قال محمود: «يعنى بالمصطفين أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قسمتهم الآية إلى ظالم لنفسه: هو المرجأ لأمر الله، وإلى مقتصد: وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وإلى سابق، ثم قال لزمخشرى: فان قلت:
كيف جعل الجنات بدلا من الفضل الكبير، وذلك في تتمة الآية في قوله وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قلت: لأن الاشارة بالفضل إلى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» فان شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» قال أحمد: وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله، ثم قسمتهم إلى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحدين في المصطفين، وإنه لمنهم، وأى نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع، فما بال المصنف يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ، وقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الضمير فيه راجع إلى المصطفين عموما، والجنات جزاؤهم على توحيدهم جميعا، وإعرابها: جنات مبتدأ، ويدخلونها الخبر، وقوله يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ... إلى آخر الآية: خبر بعد خبر، وخبر على خبر، والله المستعان.
(2) . أخرجه البيهقي في الشعب من رواية ميمون بن سياه عن عمر رضى الله عنه مرفوعا. وهذا منقطع وأخرجه الثعلبي وابن مردويه من وجه آخر عن ميمون بن سياه عن أبى عثمان الهدى عن عمر. فيه الفضل بن عميرة: وهو ضعيف. ورواه سعيد بن منصور عن فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازى عمن سمع عمر فذكره موقوفا
(3) . قوله «فإن شرط ذلك صحة التوبة» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل. (ع)(3/613)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أى يدخلون جنات عدن يدخلونها، ويدخلونها، على البناء للمفعول. ويحلون: من حليت: المرأة، فهي حال وَلُؤْلُؤاً معطوف على محل من أساور، ومن داخلة للتبعيض، أى: يحلون بعض أساور من ذهب، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض، كما سبق المسوّرون به غيرهم: وقيل: إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ. وقرئ:
ولو لؤلؤا بتخفيف الهمزة الاولى، وقرى: الحزن، والمراد: حزن المتقين، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة، كقوله تعالى إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: حزن الاعراض والآفات. وعنه: حزن الموت.
وعن الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. وقيل: همّ المعاش. وقيل: حزن زوال النعم، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه: أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم، وكأنى بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن «1» » وذكر الشكور: دليل على أن القوم كثير والحسنات، المقامة: بمعنى الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقاما ومقامة مِنْ فَضْلِهِ من عطائه وإفضاله، من قولهم: لفلان فضول على قومه وفواضل، وليس من الفضل الذي هو التفضل، لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق، والتفضل كالتبرع. وقرئ: لغوب، بالفتح:
وهو اسم ما يلغب منه، أى: لا نتكلف عملا يلغبنا: أو مصدر كالقبول والولوغ، أو صفة للمصدر، كأنه «2» لغوب لغوب، كقولك: موت مائت، فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب: نفس المشقة والكلفة. واللغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 35 الى 37]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والبيهقي في أول الشعب والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر. وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني والنسائي في الكنى عن ابن عمر. وأخرى عند البيهقي في الشعب. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه تمام في فوائده والخطيب في ترجمة محمد بن سعيد الطائفي وعن أنس عند ابن مردويه
(2) . «كأنه» لعله: كأنه قال. (ع)(3/614)
فَيَمُوتُوا جواب النفي، ونصبه بإضمار أن: وقرئ: فيموتون، عطفا على يقضى، وإدخالا له في حكم النفي، أى: لا يقضى عليهم الموت فلا يموتون، كقوله تعالى وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء «يجزى» وقرئ: يجازى. ونجزى كُلَّ كَفُورٍ بالنون «1» يَصْطَرِخُونَ يتصارخون: يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة. قال
كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها «2»
واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته. فإن قلت: هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً وما فائدة زيادة غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ على أنه يؤذن أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به. وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم «3» كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة، كما قال الله تعالى وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقالوا. أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ توبيخ من الله يعنى: فنقول لهم. وقرئ: ما يذكر فيه، من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة «4» . وعن
__________
(1) . قوله «وتجزى كل كفور بالنون» ونصب كل في هذه القراءة ورفعه فيما قبلها. (ع)
(2) .
قصدت إلى عنس لأحدج رحلها ... وقد حان من تلك الديار رحيلها
فأنت كما أن الأسير وصرخت ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
للأعشى. وعنست المرأة عنسا: إذا لم تخرج من بيتها للزواج مع بلوغها من السن. والعنس: الناقة الصلبة الصعبة وحدج من باب ضرب: إذا شد الرحل على الناقة. والحدوج: الرحال والهوادج، وهو بتأخير الجيم. واما الجدح- بتأخير المهملة-: فهو اللت والخوض والمزج، أى: عمدت إلى ناقة صلبة لأشد رحلها عليها، والحال أنه جاء حين رحليها من تلك الديار. والأنين: الصوت المنخفض للتحزن، أى: أنت كأنين الأسير في الأول، وصرخت برفع صوتها ثانيا كصرخة حبلى عند الطلق أسلمتها وتركتها قبيلها التي تخدمها عند الولادة. والقبيل والقبول والقابلة:
التي تقوم بمصلحة المرأة عند الولادة وتتلقى الولد عند خروجه.
(3) . قوله «ولأنهم كانوا يحسبون» لعله: أو لأنهم كانوا. (ع)
(4) . أخرجه البزار من رواية سعيد المقبري عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في البخاري، بلفظ «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» ووهم الحاكم فاستدركه. ورواه ابن مردويه به من حديث سهل بن سعد(3/615)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشر وسبع عشر. والنَّذِيرُ الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشيب. وقرئ: وجاءتكم النذر. فإن قلت: علام عطف وجاءكم النذير؟
قلت: على معنى: أو لم نعمركم، لأن لفظه لفظ استخبار. ومعناه معنى إخبار، كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير.
[سورة فاطر (35) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
كالتعليل، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون، فقد علم كل غيب في العالم وذات الصدور: مضمراتها، وهي تأنيث ذو في نحو قول أبى بكر رضى الله عنه: ذو بطن خارجة جارية «1» وقوله:
لتغنى عنّى ذا إنائك أجمعا «2»
المعنى ما في بطنها من الحبل، وما في إنائك من الشراب، لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء. ألا ترى إلى قولهم: معها حبل، وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها.
وذو: موضوع لمعنى الصحبة.
[سورة فاطر (35) : آية 39]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
__________
(1) . أخرجه في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة «أن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا- الحديث» وفيه «إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية، فولدت جارية» وقد تقدم طرف منه في الاسراء
(2) .
وناولته من رسل كوماء جلدة ... وأغضبت عنه الطرف حتى تضلعا
إذا قال قدنى قلت بالله حلفة ... لتغنى عنى ذا إنائك أجمعا
لحريث بن عتاب الطائي. والرسل- بالكسر-: اللبن القليل. والكوماء: السمينة. والجلدة: الصلبة. والاغضاء الغض والإغماض. والتضلع: امتلاء البطن حتى يرتفع الجنبان والضلوع. وغض طرفه عن الضيف كى لا يستحى إذا قال الضيف: قدنى، أى حسبي من الشرب قلت: بالله. وروى: قال بالله، فكأنه عبر عن نفسه بطريق الغيبة.
ويروى: إذا قلت قدنى قال، على أن الشاعر الضيف وليس بذاك. وحلفة: نصب بمعنى القسم قبله، أى: أحلف بالله حلفة، ولتغنى: جواب القسم وفتح آخره لاتصاله تقديرا بنون التوكيد الخفيفة، أى: لتمنعنى عنى. وروى ثعلب لتغنن بنون التوكيد الثقيلة، أى: لتبعدن عنى، وكان حقه على اللغة المشهورة لتغنين، لكن حذفت ياؤه بعد الكسرة على لغة فزارة. وروى لتغنى بكسر اللام للتعليل، أى: اشرب لتغنى عنى صاحب إنائك وهو اللبن، وأضافه للاناء لأنه فيه، وأضاف الإناء لضمير الضيف لأنه في يده، وتبرأ من نسبته إلى نفسه دلالة على الكرم، وأجمع: توكيد للبن، أى لا ترد إلى ما في الإناء، بل أشربه كله.(3/616)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
يقال للمستخلف: خليفة وخليف، فالخليفة تجمع خلائف، والخليف: خلفاء، والمعنى:
أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فَمَنْ كَفَرَ منكم وغمط مثل هذه النعمة «1» السنية، فوبال كفره راجع عليه، وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزى وصغار وخسار الآخرة الذي ما بقي بعده خسار، والمقت: أشدّ البغض. ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتى، لكونه ممقوتا في كل قلب، وهو خطاب للناس. وقيل: خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلكم أمّة خلفت من قبلها، ورأت وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، فمن كفر منكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة، كما أنّ ذلك حكم من قبلكم.
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
أَرُونِي بدل من أرأيتم: لأنّ المعنى: أرأيتم أخبرونى، كأنه قال: أخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة أرونى أى جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات، أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. أو يكون الضمير في آتَيْناهُمْ للمشركين، كقوله تعالى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أم آتيناهم كتابا من قبله، بل إن يعد بعضهم وهم الرؤساء بَعْضاً وهم الأتباع إِلَّا غُرُوراً وهو قولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وقرئ: بينات.
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
أَنْ تَزُولا كراهة أن تزولا. أو يمنعهما من أن تزولا: لأن الإمساك منع إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا، لعظم كلمة الشرك كما قال تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ. وقرئ: ولو زالنا، وإن أمسكهما:
جواب القسم في وَلَئِنْ زالَتا سدّ مسدّ الجوابين، ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي، والثانية للابتداء. من بعده: من بعد إمساكه. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال لرجل مقبل من
__________
(1) . قوله «وغمط مثل هذه النعمة» أى: واحتقر. (ع)(3/617)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب. أما ترك يهوديته بعد «1» ثم قرأ هذه الآية.
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 44]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)
بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه. وفي إِحْدَى الْأُمَمِ وجهان، أحدهما: من بعض الأمم، ومن واحدة من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم.
والثاني: من الأمّة التي يقال لها إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة ما زادَهُمْ إسناد مجازى، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم. نفورا عن الحق وابتعادا عنه كقوله تعالى فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ. اسْتِكْباراً بدل من نفورا. أو مفعول له، على معنى: فما زادهم الا أن نفروا استكبارا وعلوّا فِي الْأَرْضِ أو حال بمعنى: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ويجوز أن يكون وَمَكْرَ السَّيِّئِ معطوفا على نفورا فإن قلت: فما وجه قوله وَمَكْرَ السَّيِّئِ؟ قلت: أصله: وأن مكروا السيئ، أى المكر السيئ، ثم ومكرا السيئ، ثم ومكر السيئ. والدليل عليه قوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ومعنى يحيق: يحيط وينزل. وقرئ: ولا يحيق المكر السيئ، أى: لا يحيق الله، ولقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا، «2» فإنّ الله تعالى يقول وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا، يقول الله تعالى: إنما بغيكم على
__________
(1) . لم أجده. وروى الطبري من رواية أبى وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام فذكره مثله، إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته»
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. وقد تقدم في أول يونس [.....](3/618)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
أنفسكم» . وعن كعب أنه قال لابن عباس رضى الله عنهما: قرأت في التوراة: من حفر مغواة «1» وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية. وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقرأ حمزة: ومكر السيئ، بإسكان الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظنّ سكونا أو وقف وقفة خفيفة، ثم ابتدأ وَلا يَحِيقُ وقرأ ابن مسعود: ومكرا سيئا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم، وبين أنّ عادته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها، أى: لا يغيرها، وأنّ ذلك مفعول له لا محالة، واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن: من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم لِيُعْجِزَهُ ليسبقه ويفوته.
[سورة فاطر (35) : آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
بِما كَسَبُوا بما اقترفوا من معاصيهم عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدب عليها، يريد بنى آدم. وقيل: ما ترك بنى آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم.
وعن ابن مسعود: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم، «2» ثم تلا هذه الآية. وعن أنس:
إن الضب ليموت هزالا في جحره بذنب ابن آدم «3» . وقيل: يحبس المطر فيهلك كل شيء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى يوم القيامة كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً وعيد بالجزاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة:
أن أدخل من أى باب شئت» «4»
__________
(1) . قوله «من حفر مغواة وقع فيها» في الصحاح: وقع الناس في أغوية، أى: في داهية. والمغويات- بفتح الواو مشددة-: جمع المغواة، وهي حفرة كالزبية، يقال: من حفر مغواة وقع فيها، والزبية: حفرة تحفر للأسد اه أى: لصيد الأسد. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم وقد تقدم في النحل،
(3) . لم أجده عن أنس وقد تقدم في النحل عن أبى هريرة. وعزاه إليه المصنف فيه على الصواب
(4) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.(3/619)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
الجزء الرابع
سورة يس
(بسم الله الرحمن الرحيم) مكية، [إلا آية 45 فمدنية] وآياتها 83 [نزلت بعد الجنّ]
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قرئ: يس، بالفتح «1» ، كأين وكيف. أو بالنصب على اتل يس، وبالكسر على الأصل كجير، وبالرفع على هذه يس. أو بالضم كحيث. وفخمت الألف وأميلت «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: معناه يا إنسان في لغة طيئ، والله أعلم بصحته، وإن صح فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله الْحَكِيمِ ذى الحكمة. أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي. أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر، أو صلة للمرسلين. فإن قلت: أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة، وقد علم أنّ المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: ليس الغرض
__________
(1) . قوله «قرئ يس بالفتح» يفيد أن السكون قراءة الجمهور، والحركات قراءات لبعضهم، فالفتح بناء أو نصب، والكسر بناء فقط، فتدبر (ع)
(2) . قوله «وأخفت الألف وأميلت» يعنى: قرأ الجمهور بالتفخيم. وقرأ بعضهم بالامالة، كما في النسفي. (ع)(4/3)
بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال:
إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه «1» ، وقرئ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على أعنى، وبالجرّ على البدل من القرآن قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوما غير منذر آباؤهم على الوصف «2» ونحوه قوله تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وقد فسر ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ على إثبات الإنذار.
ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية، لتنذر قوما إنذار آبائهم أو موصولة ومنصوبة على المفعول الثاني لتنذر «3» قوما ما أنذره آباؤهم من العذاب، كقوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
فإن قلت: أى فرق بين تعلقي قوله فَهُمْ غافِلُونَ على التفسيرين؟ قلت: هو على الأوّل متعلق بالنفي، أى: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل. أو فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت: لا مناقضة:
لأنّ الآي في نفى إنذارهم لا في نفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم «4» فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أنّ آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما سر قوله على صراط مستقيم وقد علم بكونه من المرسلين أنه كذلك؟ وأجاب بأن الغرض وصفه ووصف ما جاء به، فجاء بالوصفين في نظام واحد، فكأنه قال: إنك لمن المرسلين على طريق ثابت.
قال: وأيضا ففي تنكير الصراط أنه مخصوص من بين الصراط المستقيمة بصراط لا يكتنه وصفه. انتهى كلامه» قال أحمد: قد تقدم في مواضع أن التنكير قد يفيد تفخيما وتعظيما وهذا منه.
(2) . قال محمود: إنه على الوصف كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ قال: وقد فسر ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ على إثبات الانذار على أن ما مصدرية أو موصولة. قال: والفرق بين موقع الفاء على التفسيرين أنها على الأول متعلقة بالنفي معنى جوابا له، والمعنى أن نفى إنذارهم هو السبب في غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر، كما تقول: أرسلناك إلى فلان لتذره، فانه غافل أو فهو غافل انتهى» قال أحمد: يعنى أنها على التفسير الثاني تفهم أن غفلتهم سبب في إنذارهم.
(3) . قوله «على المفعول الثاني لتنذر» لعل بعده سقطا تقديره: أى لتنذر. (ع)
(4) . قال محمود: فان قلت كيف يكونون منذرين على هذا التفسير غير منذرين في قوله ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ وأجاب بأن الآية لنفى إنذارهم لا لنفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل، وقد كانت النذارة فيهم.
قال: فما تصنع بأحد التفسيرين الذي مقتضاه أن آباءهم لم ينذروا وهو التفسير الأول في هذه الآية مع التفسير الثاني، ومقتضاء أنهم أنذروا، وأجاب بأن آباءهم الأباعد هم المنذرون لا آباؤهم الأدنون. قال: ثم مثل تصميمهم على للكفر وأنهم لا يرعوون ولا يرجعون بأن جعلهم كالمغلولين لمقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يطأطئون رؤسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم قال والضمير للأغلال لأن طوق الغر يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحا. انتهى كلامه» قال أحمد: إذا فرقت هذا التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه، مشبها بالاقماح، لأن المقمح لا يطأطئ رأسه.
وقوله: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الاقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقلة مشبها بسد من قدامهم.(4/4)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد الْقَوْلُ قوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يعنى تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب، لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.
[سورة يس (36) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمخين:
في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم: في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرا «1» من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله «2» ، فلا يزال مقمحا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. يقال:
قمح البعير فهو قامح: إذا روى فرفع رأسه. ومنه شهرا قماح «3» ، لأن الإبل ترفع رءوسها عن الماء لبرده فيهما، وهما الكانونان. ومنه: اقتحمت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق- وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى «4» ؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه قوله
__________
(1) . قوله «رأس العمود نادرا» أى شاذا، كما يفيده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ويوطئ قذاله» في الصحاح «القذال» : جماع مؤخر الرأس، فتدبر. (ع)
(3) . قوله «ومنه شهرا قماح» بوزن كتاب وغراب، كما نقل عن القاموس. وفي الصحاح: سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء فقامحت. (ع)
(4) . قال محمود: فان قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة: كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى. وأجاب بأن الوجه هو الأول، واستدل على هذا التفسير الثاني بقوله فَهُمْ مُقْمَحُونَ لأنه جعل الاقماح نتيجة قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للأيدى لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا، وترك الحق الأبلج للباطل اللجلج. انتهى كلامه» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كالفاء الأولى في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الاقماح، فان اليد والعياذ بالله تعالى تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن دافعة بها ومانعة من وطأتها، ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فان اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة، فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والاتخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدى، فان اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. [.....](4/5)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
فَهُمْ مُقْمَحُونَ ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للايدى لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج «1» . فإن قلت: فقد قرأ ابن عباس رضى الله عنهما في أيديهم وابن مسعود في أيمانهم، فهل تجوّز على هاتين القراءتين أن تجعل الضمير للأيدى أو للايمان؟ قلت: يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للاغلال، وسداد المعنى عليه كما ذكرت. وقرئ:
سدا بالفتح والضم. وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله فبالضم فَأَغْشَيْناهُمْ فأغشينا أبصارهم، أى: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئى، وعن مجاهد: فأغشيناهم: فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين من العشا. وقيل: نزلت في بنى مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلى ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومى آخر: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله عينيه «2»
[سورة يس (36) : الآيات 10 الى 11]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
فإن قلت: قد ذكر ما دلّ على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار، ثم قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ «3» وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا. قلت: هو كما قلت، ولكن لما كان ذلك نفيا للايمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان، قفى بقوله إِنَّما تُنْذِرُ على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر: وهو القرآن أو الوعظ، الخاشون ربهم.
__________
(1) . قوله «إلى الباطل اللجلج» أى الذي يردد من غير أن ينفذ. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة في كلام طويل. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد بن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس «أن أبا جهل قال: إنى أعاهد الله لأجلسن غدا لمحمد بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. فذكر نحوه إلى قوله قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر بين يديه: وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3) . قال محمود: «إن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الانذار، ثم قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ وإنما كانت التقفية تصح لو كان الانذار منفيا، وأجاب بأن الأمر كذلك، ولكن لما بين أن البغية المرومة بالإنذار وهي الايمان منفية عنهم: قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ أى إنما تحصل بغية الانذار ممن اتبع الذكر. انتهى كلامه» قلت: في السؤال سوء أدب، وينبغي أن يقال: وما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول، مع أن الأول إثبات، والانذار الثاني كذلك.(4/6)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
[سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وَنَكْتُبُ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس حبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ، كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدث فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صدّ عن ذكر الله: من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها. ونحوه قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أى: قدّم من أعماله، وأخر من آثاره. وقيل: هي آثار المشاءين إلى المساجد. وعن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله «1» خالية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا وقال: يا بنى سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد، فقلنا نعم، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية، فقال:
عليكم دياركم. فإنما تكتب آثاركم. قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح.
والإمام: اللوح. وقرئ: ويكتب ما قدّموا وآثارهم على البناء للمفعول. وكل شيء: بالرقع
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 15]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ومثل لهم مثلا، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أى: من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد، أى على مثال واحد. والمعنى. واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أى: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية. والمثل الثاني بيان للأوّل.
وانتصاب إذ بأنه بدل من أصحاب القرية. والقرية أنطاكية. والْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه
__________
(1) . أخرجه ابن حبان في الأول من الأول عن طريق أبى نضرة عنه. وأصله في مسلم.(4/7)
السلام إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان. أرسل إليهم اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب يس، فسألهما فأخبراه، فقال:
أمعكما آية؟ فقالا: نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه، فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفى على أيديهما خلق كثير، ورقى حديثهما إلى الملك وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا، ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون، فدخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به، فقال له ذات يوم:
بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك، فدعاهما، فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال:
صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين، فدعوا الله حتى انشق له بصر، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إنّ إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلى ويتضرع ويحسبون أنه منهم، ثم قال:
إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إنى أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال شمعون، وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أنّ قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا فَعَزَّزْنا فقوّينا. يقال: المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدّها، وتعزز لحم الناقة. وقرئ بالتخفيف من عزه يعزه: إذا غلبه، أى: فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ وهو شمعون. فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأنّ الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عزّ الحق وذلّ الباطل، وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح.
ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق إليه: قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. إنما رفع بشر ونصب «1» في قوله ما هذا بَشَراً لأنّ إلا تنقض النفي، فلا يبقى لما المشبهة بليس شبه، فلا يبقى له عمل. فإن قلت: لم قيل: إنا إليكم
__________
(1) . قوله «إنما رفع بشر ونصب» عبارة النسفي: إنما رفع بشر هنا ونصب ... الخ. (ع)(4/8)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
مرسلون أوّلا «1» ، وإِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ آخرا؟ قلت: لأن الأوّل ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار.
[سورة يس (36) : الآيات 16 الى 17]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
وقوله رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قولهم: شهد الله، وعلم الله. وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أى الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته، وإلا فلو قال المدعى: والله إنى لصادق فيما أدعى ولم يحضر البينة كان قبيحا.
[سورة يس (36) : الآيات 18 الى 19]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منابكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، «2» وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. وعن مشركي مكة: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم طائِرُكُمْ مَعَكُمْ وقرئ: طيركم، أى سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم. أو أسباب شؤمكم معكم، وهي كفرهم ومعاصيهم. وقرأ الحسن: أطيركم أى تطيركم. وقرئ: أئن ذكرتم؟ بهمزة الاستفهام وحرف الشرط. وآئن بألف بينهما، «3» بمعنى: أتطيرون إن ذكرتم؟ وقرئ: أأن ذكرتم بهمزة الاستفهام وأن الناصبة، يعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرئ: أن، وإن، بغير استفهام لمعنى الإخبار، أى تطيرتم لأن ذكرتم، أو إن ذكرتم تطيرتم. وقرئ: أين ذكرتم: على التخفيف، أى شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في العصيان: ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم أسقط اللام هنا وأثبتها في الثانية عند قوله رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ قلت: الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب إنكار» قال أحمد: أى فلاق توكيده.
(2) . قوله «ونفرت منهم» لعله: منه كعبارة النسفي. (ع)
(3) . قوله «وآئن بألف بينهما» الذي في النسفي أن هذا وما قبله بياء مكسورة بدل الهمزة الثانية. (ع)(4/9)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 25]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا، فوثبوا عليه فقتلوه.
وقيل: توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه «1» من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم اهد قومي، وقبره في سوق أنطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سباق الأمم ثلاثة: لم يكفروا بالله طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون» «2» مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أى: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه، ولقد وضع قوله وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم. ألا ترى إلى قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ يريد فاسمعوا قولي وأطيعونى، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أنّ العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على
__________
(1) . قوله «حتى خرج قصبه» في الصحاح «القصب» بالضم: المتقى. والمعى: واحد الأمعاء. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه بهذا، وفيه عمرو بن جمع وهو متروك. ورواه العقيلي والطبراني وابن مردويه، من طريق حسين بن حسن الأشقر عن ابن عيينة عن ابن أبى تجيح عن مجاهد عن ابن عباس، بلفظ «السباق ثلاثة. فالسابق الى عيسى صاحب يس، والى محمد صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب(4/10)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذى عقل وتمييز. وقيل: لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أى اسمعوا إيمانى تشهدوا لي به. وقرئ: إن يردني الرحمن بضر، بمعنى: أن يوردني ضرا، أى يجعلني موردا للضر.
[سورة يس (36) : الآيات 26 الى 27]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
أى لما قتل قِيلَ له ادْخُلِ الْجَنَّةَ وعن قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حىّ يرزق أراد قوله تعالى بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ وقيل: معناه البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها. فإن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف، لأنّ هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأنّ قائلا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له، لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم، وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع: نصح قومه حيا وميتا «1» . وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في عمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة، لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأوّل أوجه. وقرئ: المكرّمين. فإن قلت:
ما في قوله تعالى بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أى الماءات هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة، أى: بالذي غفره لي من الذنوب. ويحتمل أن تكون استفهامية، يعنى بأى شيء غفر لي ربى، يريد به
__________
(1) . ورد هذا في قصة عروة بن مسعود أخرجه ابن مردويه من حديث المغيرة بن شعبة، فذكر القصة وفي آخرها «فكان يقول وهو في النزع: يا معشر ثقيف ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا منه الأمان، قبل أن يبلغه موتى فيغزوكم. فلم يزل كذلك حتى مات، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد نصح قومه حبا وميتا، وشبهه يصاحب يس.(4/11)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل، إلى أنّ قولك بِما غَفَرَ لِي بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا، يقال: قد علمت بما صنعت هذا، أى: بأى شيء صنعت وبم صنعت.
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
المعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء، كما فعل يوم بدر والخندق، فإن قلت: وما معنى قوله وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ؟ قلت: معناه:
وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، وذلك لأنّ الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة. ألا ترى إلى قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا. فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ قال تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ؟
قلت: إنما كان يكفى ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه، ولكنّ الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاده من أسباب الكرامة والإعذار ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله:
وَما أَنْزَلْنا، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامّة، أى: ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل، لأنّ المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن: فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وبيت ذى الرمّة:
وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع «1»
__________
(1) .
برى لحمها سير الفيافي وحرها ... وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
للبيد. يصف ناقته بأنها أذهب لحمها سير الأراضى القفرة، أى السير فيها وحرها الشديد، برما بقيت فيها إلا الضلوع.
وكان الأفصح حذف التاء، لأن المعنى: ما بقي فيها شيء إلا الضلوع، لكنه أنث نظرا للضلوع. والجراشع: جمع جرشع كقنفذ، وهو الغليظ المرتفع. ويروى: بدل الشطر الأول
طوى الحر والأجراز ما في عروضها
والأجراز: جمع جرز، وهي المفازة القفرة، والعروض: جمع عرض- بضم فسكون-: أى جنوبها. ويروى:
النحز، بدل الحر، وهو بنون فمهملة فزاى: النخس والدفع. ويروى «غروض» بغين معجمة: جمع غرض، كقفل: وهو حزام الرحل، أراد به الصدر لعلاقة المجاورة. أو هو على حذف مضاف، أى محل غروضها. ويجوز أنه أراد بما في غروضها الصدر ذاته لا الشحم واللحم. ومعنى الطي التضمير أو الاذهاب على طريق المجاز.(4/12)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
وقرأ ابن مسعود: الأزقية: واحدة، من زقا الطائر يزقو ويزقى، إذا صاح. ومنه المثل:
أثقل من الزواقى خامِدُونَ خمدوا كما تخمد النار، فتعود رمادا، كما قال لبيد:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو مناطع «1»
[سورة يس (36) : آية 30]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضرى فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون. أوهم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه، وقراءة من قرأ: يا حسرتا، تعضد هذا الوجه لأن المعنى: يا حسرتى. وقرئ: يا حسرة العباد، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم، من حيث أنها موجهة إليهم. ويا حسرة على العباد: على إجراء الوصل مجرى الوقف.
[سورة يس (36) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في كَمْ لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك:
ألم يروا إن زيدا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه. وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنا على المعنى، لا على اللفظ، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم
__________
(1) .
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
للبيد العامري، أى: ليس حال المرء وحياته وبهجته ثم موته وفناؤه بعد ذلك إلا مثل حال شهاب النار وضوئه حال كونه يصير رمادا بعد إضاءته. ويمكن أن قوله «يحور رمادا» استئناف مبين لوجه للشبه، وذلك تشبيه هيئة ولا يصح تشبيه المرء بالشهاب وضوئه، وشبه مال الشخص وأقاربه بالودائع تشبيها بليغا، يجامع أنه لا بد من أخذ كل، وبين ذلك بقوله: ولا بد أن ترد الودائع في يوم من الأيام.(4/13)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
غير راجعين إليهم. وعن الحسن: كسر إنّ على الاستئناف. وفي قراءة ابن مسعود: ألم يروا من أهلكنا، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، وهذا مما يردّ قول أهل الرجعة. ويحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قيل له: إن قوما يزعمون أنّ عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن إذن نكحنا: نساءه وقسمنا ميراثه «1» . قرئ: لما، بالتخفيف، على أن «ما» صلة للتأكيد، وإن: مخففة من الثقيلة، وهي متلقاة باللام لا محالة. ولما بالتشديد، بمعنى: إلا، كالتي في مسألة الكتاب. نشدتك بالله لما فعلت، وإن نافية. والتنوين في كُلٌّ هو الذي يقع عوضا من المضاف إليه، كقولك: مررت بكل قائما. والمعنى أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. وقيل محضرون معذبون. فإن قلت: كيف أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد «2» ؟ قلت: ليس بواحد: لأن كلا يفيد معنى الإحاطة، وأن لا ينفلت منهم أحد، والجميع: معناه الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال حى جميع، وجاءوا جميعا.
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
القراءة بالميتة على الخفة أشيع، لسلسها على اللسان. وأَحْيَيْناها استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ: ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض «3» وليل بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما
__________
(1) . أخرجه الحاكم في تفسير البقرة نحوه باختصار. وأخرجه من حديث الحسن في فضائل الصحابة أتم منه.
وليس فيه: بئس القوم نحن إذن [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت لم أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد وأجاب بأن كلا تفيد الاحاطة لا ينلفت عنهم أحد وجميع تفيد الاجتماع وهو فعيل بمعنى مفعول وبينهما فرق انتهي كلامه، قال أحمد: ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا لكل، لأنه أخص منه وأزيد معنى
(3) . قال محمود: «يجوز أن يكون أحييناها صفة للأرض وصح ذلك لأن المراد بالأرض الجنس ولم يقصد بها أرض معينة وأن يكون بيانا لوجه الآية فيها» قال أحمد: وغيره من النحاة يمنع وقوع الجملة صفة للمعرف وإن كان جنسيا وليس الغرض منه معينا ويراعي هذا المانع المطابقة اللفظية في الوصفية ومنه
ولقد أمر على اللئيم يسبني.(4/14)
بالأفعال، ونحوه:
ولقد امر على اللّئيم يسبني «1»
وقوله فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووقع الضرّ، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء. قرئ وَفَجَّرْنا بالتخفيف والتثقيل، والفجر والتفجير، كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى. وقرئ ثَمَرِهِ بفتحتين وضمتين وضمة وسكون، والضمير لله تعالى: والمعنى:
ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر وَمن ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ من الغرس والسقي والآبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله، يعنى أنّ الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بنى آدم، وأصله من ثمرنا كما قال: وجعلنا، وفجرنا، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها، لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره. ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات، كما قال رؤبة:
فيها خطوط من بياض وبلق ... كأنّه في الجلد توليع البهق «2»
فقيل له، فقال: أردت كأن ذاك: ولك أن تجعل «ما» نافية على أنّ الثمر خلق الله ولم تعمله أيدى الناس ولا يقدرون عليه. وقرئ على الوجه الأوّل، وما عملت من غير راجع، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير الْأَزْواجَ الأجناس والأصناف وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به، لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم، ولو كانت بهم اليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسمهم. وفي الحديث «ما لا عين رأت «3» ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتهم عليه» فأعلمنا بوجوده وإعداده ولم يعلمنا به ما هو، ونحوه فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دلّ على عظم قدرته واتساع ملكه.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 16 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 149 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «في الحديث ما لا عين رأت» أوله: «أعددت لعبادي الصالحين» كما مر في تفسير السجدة. (ع)(4/15)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
[سورة يس (36) : آية 37]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
سلخ جلد الشاة: إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية لخرشائها «1» ، فاستعير لازالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا، كما تقول: أعتمنا وأدجينا «2» لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ لها مؤقت مقدّر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب، لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرّها، لأنها لا تعدوه أو لحدّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب. وقيل: مستقرّها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه وهو آخر السنة. وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة.
[سورة يس (36) : الآيات 38 الى 40]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وقرئ: تجرى إلى مستقر لها. وقرأ ابن مسعود: لا مستقرّ لها، أى: لا تزال تجرى لا تستقر. وقرئ: لا مستقر لها، على أنّ لا بمعنى ليس ذلِكَ الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه. ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم. قرئ: والقمر رفعا على الابتداء، أو عطفا على الليل. يريد: من آياته القمر، ونصبا بفعل يفسره قدرناه، ولا بدّ في قَدَّرْناهُ مَنازِلَ من تقدير مضاف، لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل. والمعنى: قدرنا مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها كل ليلة من المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة، وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوّا، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم،
__________
(1) . قوله «ومنه سلخ الحية لخرشائها» في الصحاح «الخرشاء» : مثل الحرباء: جلد الحية. (ع)
(2) . قوله «أعتمنا وأدجينا» الدجى: وجع في حافر الفرس أو خف البعير. أفاده الصحاح وغيره. (ع)(4/16)
فرغ الدلو المؤخر، الرشا. فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس، وعادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وهو عود العذق، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج: هو «فعلون» من الانعراج وهو الانعطاف. وقرئ: العرجون، بوزن الفرجون «1» ، وهما لغتان، كالبزيون والبزيون، والقديم المحول، وإذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبه به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل مدّة الموصوف بالقدم الحول، فلو أنّ رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر. أو كتب ذلك في وصيته: عتق منهم من مضى له حول أو أكثر. وقرئ: سابق النهار. على الأصل، والمعنى:
أنّ الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان، وضرب له حدا معلوما، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس: أى لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على المعاقبة، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله «2»
__________
(1) . قوله «وقرئ العرجون بوزن الفرجون» في الصحاح «الفرجون» : المحسة، وقد فرجنت الدابة إذا فرجنتها. ومنه قول بعضهم: ادفنوني في ثيابي ولا تحسوا عتى ترابا، أى: لا تتفضوه. وفيه «البزيون» :
السندس. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه فيطمس نوره بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى. قال: فان قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك، والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق انتهى كلامه» قال أحمد: يؤخذ من هذه الآية أن النهار تابع لليل وهو المذهب المعروف للفقهاء، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل، وإنما نفى الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعى تقدم القمر وتبعية الشمس، فانه لا يقال: أدرك السابق اللاحق، ولكن أدرك اللاحق السابق، وبحسب الإمكان توقيع النفي، فالليل إذا متبوع والنهار تابع.
فان قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار؟ وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا، فالجواب: أن هذا مشترك الإلزام، وبيانه أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء. أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة. أو اجتماعهما، فهذا القسم الثالث منفي باتفاق «فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه، وهذا السؤال وارد عليهما جميعا، لأن من قال: إن النهار سابق الليل، لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال: ولا الليل يدرك النهار، فان المتأخر إذا نفى إدراكه كان أبلغ من نفى سابقه، مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ، فان الله تعالى نفى أن تكون مدركة فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك فالجواب المحقق عنه أن المنفي السبقية الموجبة لتراخى النهار عن الليل وتخلل زمن آخر بينهما، وحينئذ يثبت التعاقب وهو مراد الآية. وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما فانه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هم أولاء على أثرى، فقد قريهم منه عذرا عن قوله تعالى وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره، فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة؟ فذاك لو اتفق لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا، فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل، فان بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية وبين السبق بونا بعيدا ومخالفا أيضا لبقية الآية، فانه لو كان الليل تابعا ومتأخرا لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك ولا يبلغ به عدم السبق، ويكون القول بتقدم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده.(4/17)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره، ولا يسبق الليل النهار يعنى آية الليل آية النهار وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر، ويطلع الشمس من مغربها. فإن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأنّ الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطئ سيرها عن سير القمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره وَكُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، والمعنى: وكلهم، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره.
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء، لأنهنّ مزارعها وفي الحديث أنه نهى عن قتل الذراري يعنى النساء مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ سفينة نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. ومِنْ مِثْلِهِ من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق فَلا صَرِيخَ لا مغيث. أولا إغاثة. يقال: أتاهم الصريخ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ لا ينجون من الموت بالغرق إِلَّا رَحْمَةً إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إِلى حِينٍ «1» إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق. ولقد أحسن من قال:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام «2»
وقرأ الحسن رضى الله عنه: نغرقهم،
__________
(1) . قال أحمد: من هنا أخذ أبو الطيب:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
لأنه تعالى أخبر أنهم إن سلموا من موت الغرق فتلك السلامة متاع إلى حين، أى: إلى أجل يموتون فيه، ولا بد.
(2) . للمتنبي يقول: ولم أسلم من حوادث الدهر ومكاره الحرب لأجل أن أخلد، وإنما سلمت من الحمام- ككتاب-: أى الموت ببعض الأسباب إلى أن أموت ببعضها الآخر. أو منقلب إلى الموت ببعضها الآخر، لأنه لا خلود في الدنيا.(4/18)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 46]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ كقوله تعالى أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وعن مجاهد: ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من الوقائع التي خلت، يعنى من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، وما خلفكم من أمر الساعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فكأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا. ثم قال:
ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.
[سورة يس (36) : آية 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
كانت الزنادقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله. ومعناه: أنطعم المقول فيه هذا القول بينكم، وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله، لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع: وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله، يعنون قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم.
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 50]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قول الله لهم. أو حكاية قول المؤمنين لهم. أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين. قرئ: وهم يخصمون بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر. ويختصمون على الأصل. ويخصمون، من خصمه. والمعنى: أنها تبغتهم(4/19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
وهم في أمنهم وغفلتهم عنها، لا يخطرونها ببالهم مشتغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون. ومعنى خصمون: يخصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون فَلا يَسْتَطِيعُونَ أن يوصوا في شيء من أمورهم تَوْصِيَةً ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم، بل يموتون بحيث تفجؤهم الصيحة.
[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 52]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
قرئ الصور، بسكون الواو وهو القرن، أو جمع صورة، وحرّكها بعضهم. والْأَجْداثِ القبور. وقرئ بالفاء «1» يَنْسِلُونَ يعدون بكسر السين وضمها، وهي النفخة الثانية. قرئ:
يا ويلتنا. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: من أهبنا، من هب من نومه إذا انتبه، وأهبه غيره وقرئ: من هبنا بمعنى أهبنا: وعن بعضهم: أراد هب بنا، فحذف الجار وأوصل الفعل:
وقرئ: من بعثنا، ومن هبنا، على من الجارة والمصدر، وهذا مبتدأ، وما وَعَدَ خبره، وما مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد، وما وعد: خبر مبتدإ محذوف، أى: هذا وعد الرحمن، أى: مبتدأ محذوف الخبر، أى ما وعد الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حق. وعن مجاهد: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قالوا: من بعثنا، وأما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فكلام الملائكة. عن ابن عباس. وعن الحسن:
كلام المتقين. وقيل: كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا. فإن قلت: إذا جعلت ما مصدرية: كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إذا جعلتها موصولة؟ قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون، بمعنى:
والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال. ومنه صدقنى سن بكره.
فإن قلت: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ذلك جوابا؟ قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، إلا أنه جيء به على طريقة: سيئت بها قلوبهم، ونعيت إليهم أحوالهم، وذكروا كفرهم وتكذيبهم، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده، حتى يهمكم السؤال عن
__________
(1) . قوله «وقرئ بالفاء» في الصحاح «الجدف» : القبر، وهو إبدال الجدث. قال الفراء: العرب تعقب بين الفاء والثاء في اللغة، فيقولون: جدث وجدف، وهي الأجداث والأجداف. (ع)(4/20)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
الباعث، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين.
[سورة يس (36) : الآيات 53 الى 58]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57)
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قرئت منصوبة ومرفوعة فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ... إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ «1» حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره فِي شُغُلٍ في أى شغل وفي شغل لا يوصف، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم، ووقع في تلك الملاذ التي أعدّها الله للمرتضين من عباده، ثوابا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم، وذلك بعد الوله والصبابة، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية، وتخطى الأهوال، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط. ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب، وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار.
وعنه: في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان: في التزاور. وقيل: في ضيافة الله. وعن الحسن:
شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم: لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ: في شغل، بضمتين وضمة وسكون، وفتحتين، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ: ومنه الفاكهة، لأنها مما يتلذذ به. وكذلك الفكاهة، وهي المزاحة. وقرئ فاكهون، وفكهون، بكسر الكاف وضمها، كقولهم: رجل حدث وحدث «2» ، ونطس ونطس. وقرئ: فاكهين وفكهين،
__________
(1) . قال أحمد: هذا مما التنكير فيه للتفخيم، كأنه قيل: في شغل أى شغل، وكذا قوله تعالى: سلام قولا من رب رحيم.
(2) . قوله «كقولهم رجل حدث وحدث» أى حسن الحديث، والنطس البالغ في التطهر والمدقق في العلم.
أفاده الصحاح. (ع) [.....](4/21)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
على أنه حال والظرف مستقر هُمْ يحتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون تأكيدا للضمير في فِي شُغُلٍ وفي فاكِهُونَ على أنّ أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال. وقرئ: في ظلل، والأريكة: السرير في الحجلة «1» . وقيل: الفراش فيها. وقرأ ابن مسعود: متكين يَدَّعُونَ يفتعلون من الدعاء، أى: يدعون به لأنفسهم، كقولك: اشتوى واجتمل، إذا شوى «2» وجمل لنفسه. قال لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل «3»
ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه، كقولك: ارتموه، وتراموه. وقيل: يتمنون، من قولهم: ادّع علىّ ما شئت، بمعنى تمنه علىّ، وفلان في خير ما ادّعى، أى في خير ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أى: ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وسَلامٌ بدل مما يدعون، كأنه قال لهم: سلام يقال لهم قَوْلًا مِنْ جهة رَبٍّ رَحِيمٍ والمعنى: أنّ الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه.
قال ابن عباس: فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل: ما يَدَّعُونَ، مبتدأ وخبره سلام، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. وقَوْلًا مصدر مؤكد لقوله تعالى وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ أى: عدة من رب رحيم. والأوجه: أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. وقرئ: سلم، وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود: سلاما نصب على الحال، أى لهم مرادهم خالصا.
[سورة يس (36) : آية 59]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
وَامْتازُوا وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى
__________
(1) . قوله «السرير في الحجلة» هي بيت العروس يزين بالثياب والستور، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله و «اجتمل إذا شوى» في الصحاح: جملت الشحم أجمله جملا، واجتملته: إذا أذبته. (ع)
(3) .
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل
أرسلته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريح واحتمل
للبيد بن ربيعة. والألوك: الرسالة، أى: ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال، فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله، وبين ذلك بقوله: أرسلته فأتاه رزقه، وفيه دلالة على أنه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم العلام، أى: فأتاه رزقه من الصيد، فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود، واحتمل: أى حمل كثيرا منه بنفسه لنفسه، ولأمه التي أرسلته. ويروى: اجتمل، بالجيم: وفي الصحاح: جملت الشحم واجتملته إذا أذبته، وهذه الروآية أنسب وأفيد.(4/22)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية يقال: مازه فانماز وامتاز.
وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يرى ولا يرى. ومعناه: أنّ بعضهم يمتاز من بعض.
[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 61]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ:
اعهد، بكسر الهمزة. وباب «فعل» كله يجوز في حروف مضارعته الكسر «1» ، إلا في الياء.
وأعهد، بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب. وأحهد:
بالحاء. وأحد: وهي لغة تميم. ومنه قولهم: دحا محا «2» هذا إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن، إذا لا صراط أقوم منه، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا ... لأفقر منى إنّنى لفقير «3»
أراد: إننى لفقير بليغ الفقر، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه فىّ، وإلا لم يستقم معنى البيت، وكذلك قوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه. ويجوز أن يراد: هذا بعض الصراط المستقيمة،
__________
(1) . قوله «في حروف مضارعته الكسر» لعله مضارعه. (ع)
(2) . قوله «ومنه قولهم دحا محا» أى: دعها معها. (ع)
(3) .
دعوت إلهى دعوة ما جهلتها ... وربى بما تخفى الصدور بصير
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا ... لأفقر منى إننى لفقير
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتينى بالطلاق بشير
لكثير عزة. وقيل: لمجنون ليلى. وقوله «ما جهلتها» معناه: أنها عن قصد وحضور قلب. وقوله: لئن كان يهدى، بيان للدعوة، وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر، أى: لئن كان يعطى برد أسنانها العليا، خصها لأنها التي تبدو كثيرا. وقيل: العلا الشريفة، لأحوج منى إننى لبليغ في الفقر فأنا أحق بها من كل محتاج، لأنى أحوج الناس إليها. ويجوز أن يرد أنيابها: كناية عن ذاتها كلها، وإننى لفقير: خبر بمعنى الإنشاء مجازا مرسلا، لأن إظهار شدة الاحتياج يلزمه الطلب. ويجوز أنه كناية عنه وهو جواب القسم المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف وجوبا لدلالة المذكور عليه، وما تعجبية، وأكثر فعل تعجب، والأخبار مفعوله، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهي على تقدير حرف الجر، أى: أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها، وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب، أى: أتمني ذلك أو أتعجب من عدمه.(4/23)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
توبيخا لهم على العدول عنه، والتفادى عن سلوكه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدى إلى الضلالة والتهلكة، كأنه قيل: أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق: أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك، كما بقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده: هذا فيما أظنّ قول نافع غير ضار، توبيخا له على الإعراض عن نصائحه.
[سورة يس (36) : الآيات 62 الى 64]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قرئ: جبلا، بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديدة، وكسرتين، وكسرة وسكون، وكسرتين وتشديدة. وهذه اللغات في معنى الخلق. وقرئ: جبلا، جمع جبلة، كفطر وخلق.
وفي قراءة على رضى الله عنه: جيلا واحدا، لا أجيال.
[سورة يس (36) : الآيات 65 الى 66]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
يروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «1» «يقول العبد يوم القيامة: إنى لا أجيز علىّ شاهدا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقى فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا. فعنكن كنت أناضل» «2» وقرئ: يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم. وقرئ: ولتكلمنا أيديهم وتشهد، بلام كى والنصب على معنى: ولذلك تختم على أفواههم: وقرئ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام الأمر والجزم على أنّ الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
[سورة يس (36) : آية 67]
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)
الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل: فاستبقوا إلى الصراط. أو يضمن معنى ابتدروا.
__________
(1) . أخرجه مسلم والنسائي من طريق الشعبي عن أنس، ووهم الحاكم فاستدركه،
(2) . قوله «كنت أناضل» أى أجادل. (ع)(4/24)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه. أو ينتصب على الظرف. والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع «1» الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي تردّدوا إليها كثيرا- كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين «2» في أمور دنياهم- لم يقدروا، وتعايى عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره.
أو لو شاء لأعماهم، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف- كما كان ذلك هجيراهم- لم يستطيعوا. أو لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا، يعنى أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا «3» به من المقاصد دون غيرها عَلى مَكانَتِهِمْ وقرئ، على مكاناتهم. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أى:
لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضىّ ولا رجوع واختلف في المسخ، فعن ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة:
لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ: مضيا بالحركات الثلاث، فالمضىّ والمضي كالعتىّ والعتي. والمضىّ كالصبىّ.
[سورة يس (36) : آية 68]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقى من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبىّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عزّ وجلّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ وهذه دلالة على أنّ من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوّة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه- قادر على أن يطمس على
__________
(1) . قوله «إلى الطريق المهيع» الهيوع: الجبن، والهيعة: الذوبان والسيلان وكل ما أفزعك من صوت، كذا في الصحاح. ولعل المراد الذي سهله كثرة سلوكه. (ع)
(2) . قوله «موضعين» في الصحاح: وضع البعير وغيره: أسرع من سيره وأوضعه راكبه. (ع)
(3) . قوله «وضروا به» أى: مرنوا. (ع)(4/25)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد: وقرئ بكسر الكاف «1» . وننكسه وننكسه، من التنكيس والإنكاس أَفَلا يَعْقِلُونَ بالياء والتاء.
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، وروى أنّ القائل: عقبة بن أبى معيط، فقيل وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أى: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء. وأين هو عن الشعر، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى، يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت، اللهمّ إلا أنّ هذا لفظه عربى، كما أنّ ذاك كذلك وَما يَنْبَغِي لَهُ وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أى: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، كما جعلناه أمّيا لا يتهدّى للخط ولا يحسنه، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت: فقوله:
أنا النّبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب «2»
وقوله: «3»
هل أنت إلّا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت «4»
__________
(1) . قوله «وقرئ بكسر الكاف» يفيد أن القراءة المشهورة بضم الكاف، وهما من النكس. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث البراء بن عازب في حديث.
(3) . متفق عليه من حديث جندب بن سفيان في حديث. [.....]
(4) .
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس لا تقنطى بموتى ... هذى حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
لعبد الله بن رواحة حين حمل اللواء بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب فأصيبت أصبعه في الحرب فدميت وروى البخاري عن جندب أنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشى إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت أصبعه فقال «هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» فأفاد أنه صلى الله عليه وسلم يتمثل بشعر غيره، وهو بكسر التاء على وفق القافية، وقال الكرماني: التاء في الرجز مكسورة، وفي الحديث ساكنة. وقال عياض غفل بعض الناس فروى: دميت: ولقيت، بغير مد وخالف الرواية. وروى أحمد والطيالسي أنه صلى الله عليه وسلم قاله حين كان خارجا إلى الصلاة، ودميت: صفة أصبع، والمعنى: لم يحصل لك شيء من الأذى إلا أنك دميت ولم يكن ذلك هدرا بل كان في سبيل الله ومرضاته لا غير، أى: الذي لقيته من الأذى في سبيل الله، فلا تحزني، ونزلها منزلة العاقل فخاطبها بذلك تسلية وتثبيتا لها، وهو في الحقيقة لنفسه «ثم صرح بخطاب النفس مثبتا لها. بقوله إن لم تقتلي في الحرب فلا بد لك من الموت وهذه حياضه فلا تفرى منها لأن الوقوع في البلاء أهون من انتظاره وشبه الموت بسيل على سبيل المكنية، فأثبت له الحياض تخييلا، وشبهه بالنار كذلك، فأثبت له الصلى وهو اقتحام النار، ولا مانع من تشبيه الشيء بأمرين مختفين مع الرمز لكل منهما بما يلائمه، ويجوز استعارة الحياض للمعرفة تصريحا، والذي تمنيته من الحرب المؤدى إلى الشهادة فقد لقيته، إن تفعلي كفعل زيد وجعفر، هديت إلى طريق الخير.(4/26)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على السليقة، من غير صنعة ولا تكلف، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزونا، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعدّ المشطور من الرجز شعرا، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ يعنى: ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ، كما قال إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وما هو إلا قرآن كتاب سماوي، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول وقرئ: لتنذر، بالتاء. ولينذر: من نذر به إذا علمه مَنْ كانَ حَيًّا أى عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت. أو معلوما منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان وَيَحِقَّ الْقَوْلُ وتجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ الذين لا يتأمّلون ولا يتوقع منهم الإيمان.
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها، التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدى: استعارة من عمل من يعملون بالأيدى فَهُمْ لَها مالِكُونَ أى خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون، من قوله:(4/27)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا «1»
أى لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها، كما قال القائل:
يصرفه الصّبى بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير «2»
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وقرئ: ركوبهم. وركوبتهم. وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. وقيل:
الركوبة جمع. وقرئ: ركوبهم، أى ذو ركوبهم. أو فمن منافعها ركوبهم مَنافِعُ من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك وَمَشارِبُ من اللبن، ذكرها مجملة، وقد فصلها في قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ... الآية والمشارب: جمع مشرب وهو موضع الشرب، أو الشرب
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
__________
(1) .
أصبح متى الشباب مبتكرا ... إن ينأ عنى فقد ثوى عصرا
فارقنا قبل أن نفارقه ... لما قضى من جماعنا وطرا
أصبحت لا أملك السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
للربيع بن منيع، قاله حين بلغ مائة وأربعين عاما، عاش بعده مائة وستين. والمبتكر: المسافر أول النهار، فهو تشبيه بليغ، ثم تسلى بقوله: إن ينأ، أى بعد عنى فقد أقام عندي أزمنة طويلة فارقنا، أى: ذهب عنا قبل أن نموت، فقوله «نفارقه» مجاز عن ذلك، أو كناية عنه، أو مجاز عن البغض، والجماع: معناه الاجتماع والمصاحبة، والوطر: الحاجة، وهذا كله ترشيح للتشبيه أول الكلام، ولا يخفى ما في البيت من إبهام ما كان ينبغي الاحتراس منه، فان قضاء الوطر من الجماع اشتهر استعماله في مقام الوطء، ثم قال: صرت لا أضبط السلاح بيدي ولا رأس البعير إن ندمنى ولا أقدر عليهما. ويروى: لا أحمل السلاح، أى: لا أقدر على حمله، وأخشاه: أى أخافه، إن مررت به وحدي وأخاف الرياح والمطر ولو مع غيرى، وكل هذا كناية عن بلوغه غاية الضعف والهرم.
(2) .
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبى بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير
لكثير عزة حين رآه عبد الملك بن مروان قصيرا حقيرا، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقيل: للعباس ابن مرداس. وقيل: لمعاوية بن مالك الكلابي، وعظم: ضخم وطال. واللب: العقل، وأتى بالظاهر موضع المضمر للتهويل في الطول والجسامة، بكل وجه: في كل جهة. والخسف: الذل. والجرير: حبل غير الزمام يربط به. والهراوى: جمع هراوة وهي العصا، وجمعها دلالة على كثرة الضرب. والغير- بالتحريك- الغيرة.
والنكير: الإنكار، يعنى أن العبرة بالألباب والعقول، لا بالغلظ والطول.(4/28)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
اتخذوا الآلهة طمعا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدّروا، حيث هم جند لآلهتهم معدّون مُحْضَرُونَ يخدمونهم ويذبون عنهم، ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا، حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلون وقودا للنار. وقرئ: فلا يحزنك، بفتح الياء وضمها، من حزنه وأحزنه. والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بما يسرون لك من عداوتهم وَما يُعْلِنُونَ وإنا مجازوهم عليه، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن. فإن قلت: ما تقول فيمن يقول: إن قرأ قارئ: أنا نعلم، بالفتح: انتقضت صلاته، وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى: كفر؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يكون على حذف لام التعليل، وهو كثير في القرآن وفي الشعر، وفي كل كلام وقياس مطرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الحمد والنعمة «1» لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي، وكلاهما تعليل. والثاني: أن يكون بدلا من قَوْلُهُمْ كأنه قيل: فلا يحزنك، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها، وإنما يدوران على تقديرك، فتفصل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر البدل، كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية، ثم إن قدّرته كاسرا أو فاتحا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل، فما فيه إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم، وليس النهى عن ذلك مما يوجب شيئا. ألا ترى إلى قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر في أثناء حديث.(4/29)
قبح الله عزّ وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ، وأدل على تمادى كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادى، وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة «1» ، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته «2» لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به، وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها، وروى أن جماعة من كفار قريش منهم أبىّ بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بزوائل والوليد ابن المغيرة تكلموا في ذلك، فقال لهم أبىّ: ألا ترون إلى ما يقول محمد، إنّ الله يبعث الأموات، ثم قال: واللات والعزى لأصيرنّ إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول:
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ، قال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم «3» وقيل: معنى قوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطبق قادر على الخصام، مبين: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ. فإن قلت: لم سمى قوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا؟ قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى، فإذا قيل:
__________
(1) . قوله «وتغلغله في القحة» في الصحاح: وقح الرجل قحة ووقاحة، إذا صار قليل الحياء. (ع)
(2) . قوله «وشرز صفحته ... الخ» في الصحاح «الشرز» الشرس، وهو الغلظ. والمحك: اللجاج. (ع)
(3) . هكذا ذكره الحلبي عن قتادة بغير سند، وأخرجه الحاكم من رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء، ففتته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، يميتك الله- الحديث» وروى البيهقي في الشعب من طريق حصين عن أبى مالك.
قال: جاء أبى بن خلف بعظم نخر- الحديث» وروى ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: «جاء أبو جهل بعظم حائل» .(4/30)
من يحيى العظام على طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف الله تعالى بكونه قادرا عليه، كان تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول: إن عظام الميتة نجسة لأنّ الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها. وأما أصحاب أبى حنيفة فهي عندهم طاهرة، وكذلك الشعب والعصب، ويزعمون أنّ الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون: المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حىّ حساس وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم كيف يخلق، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات ومن أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراض وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم: في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر، على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب «1» . قالوا:
ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ: الأخضر، على اللفظ. وقرئ: الخضراء، على المعنى. ونحوه قوله تعالى مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسى أقدر، وفي معناه قوله تعالى لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وقرئ: يقدر، وقوله أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة «2» بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم، لأن المعاد مثل للمبتدإ وليس به وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير المخلوقات الْعَلِيمُ الكثير المعلومات. وقرئ: الخالق إِنَّما أَمْرُهُ إنما شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه ولا صارف أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أن يكونه من غير توقف فَيَكُونُ فيحدث، أى: فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت: ما حقيقة قوله أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؟ قلت:
هو مجاز من الكلام وتمثيل، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت: فما وجه القراءتين في فيكون؟ قلت: أما الرفع فلأنها جملة من مبتدإ وخبر، لأن تقديرها: فهو يكون، معطوفة على مثلها، وهي أمره أن يقول له كن. وأما النصب فللعطف على يقول، والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «والقماءة» الصغر والذلة. أفاده الصحاح. (ع)(4/31)
إذا فعلت شيئا مما تقدر عليه، من المباشرة بمحال القدرة، واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب إنما أمره وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل، فيتكون فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ فَسُبْحانَ تنزيه له مما وصفه به المشركون، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وقرئ: ملكة كل شيء. وملك كل شيء.
والمعنى واحد تُرْجَعُونَ بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كنت لا أعلم ما روى في فضائل يس وقراءتها كيف خصت، بذلك، فإذا أنه لهذه الآية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن يس، من قرأ يس يريد بها وجه الله، غفر الله تعالى له، وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان «1» . وقال عليه الصلاة والسلام «إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها. ألا وهي سورة يس» «2» .
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي من حديث أبى بن كعب، وأوله في الترمذي من رواية هرون أبى محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس. وقال: غريب. وهرون مجهول «وفي الباب عن أبى بكر وأبى هريرة. فأما حديث أبى هريرة فأخرجه البزار وفيه حميد المكي مولى آل علقمة. وهو ضعيف. وحديث أبى بكر: أخرجه الحكيم الترمذي.
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها.(4/32)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
سورة الصافات
مكية، وهي مائة وإحدى وثمانون آية، وقيل: واثنتان وثمانون [نزلت بعد الأنعام] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة، من قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله فَالزَّاجِراتِ السحاب سوقا فَالتَّالِياتِ لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل الصَّافَّاتِ: الطير، من قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ والزاجرات: كل ما زجر عن معاصى الله. والتاليات: كل من تلا كتاب الله. ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه. أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر «1» مع ذلك لا تشغلها
__________
(1) . قال محمود: «المقسم به طوائف الملائكة أو نفوسهم، والمراد صفهم في الصلاة وزجرهم السحاب أى سوقهم وتلاوتهم ذكر الله أو العلماء والمراد تصافف أقدامهم في الصلاة وزجرهم بالمواعظ عن المعاصي وتلاوتهم الذكر...... إلى أن قال: ... «ويكون التفاصل بين الطوائف إما على أن الأول هو الأفضل أو على العكس» قال أحمد: قد جوز أن يكون ترتيبها في التفاضل على أن الأول وهو الأفضل وعلى العكس، ولم يبين وجه كل واحد منهما من حيث صنعة البديع، ونحن نبينه فنقول: وجه البداءة بالأفضل الاعتناء بالأهم. فقدم، ووجه عكس هذا الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ومنه قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... على ومنهم أحمد المنخير
ولا يقال: إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة، فان هذا غايته أنه عذر، وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة، وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف، وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم، فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم.(4/33)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
عنه تلك الشواغل، كما يحكى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله:
يا لهف زيّابة للحرث الصّابح ... فالغانم فالآيب «1»
كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك، كقوله:
رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أى هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها، فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل: إما إن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل، أعنى أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا، أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات:
الطير، وبالزاجرات: كل ما يزجر عن معصية. وبالتاليات: كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة. وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاى والذال رَبُّ السَّماواتِ خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف. والْمَشارِقِ ثلاثمائة وستون مشرقا، وكذلك المغارب: تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. فإن قلت:
فماذا أراد بقوله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ؟ قلت: أراد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)
الدُّنْيا القربى منكم. والزينة: مصدر كالنسبة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة، ويحتملهما قوله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فإن أردت المصدر، فعلى إضافته إلى الفاعل، أى: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب: أو على إضافته إلى المفعول، أى: بأن زان الله الكواكب وحسنها، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها، وأصله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وهي قراءة أبى بكر والأعمش وابن وثاب، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان:
أن تقع الكواكب بيانا للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، وأن يراد
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 41 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/34)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
ما زينت به الكواكب. وجاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: بزينة الكواكب: بضوء الكواكب: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وقرئ على هذا المعنى: بزينة الكواكب، بتنوين زينة وجر الكواكب على الإبدال. ويجوز في نصب الكواكب: أن يكون بدلا من محل بزينة وَحِفْظاً مما حمل على المعنى لأنّ المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين، كما قال تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ويجوز أن يقدر الفعل المعلل، كأنه قيل: وحفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ زيناها بالكواكب، وقيل: وحفظناها حفظا. والمارد:
الخارج من الطاعة المتملس «1» منها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 8 الى 10]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
الضمير في لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان، لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد، فإن قلت: لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان، أو استئنافا فلا تصحّ الصفة لأنّ الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يستمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف لأنّ سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟
فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم، فبقى أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا، لما عليه حال المسترقة للسمع «2» ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة. أو يتسمعوا وهم
__________
(1) . قوله «من الطاعة المتملس منها» في الصحاح: يقال: انملس من الأمر، إذا أقلت منه. (ع) [.....]
(2) . أبطل الزمخشري أن يكون لا يَسَّمَّعُونَ صفة لأن الحفظ من شيطان لا يسمع لا معنى له وأبطل أن يكون أصله لئلا يسمعوا، فحذف اللام وحذفها كثير، ثم حذف أن وأهدر عملها مثل:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
واستبعد اجتماع هذين الحذفين، وإن كان كل واحد منهما بانفراده سائغا، ولما أبطل هذين الوجهين تعين عنده أن يكون ابتداء كلام اقتصاصا لما عليه أحوال المسترقة للسمع» قال أحمد: كلا الوجهين مستقيم، والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول: أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه، فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع، وإحدى الحالين لازمة للأخرى، فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه، وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسيمه، ونظير هذه الآية على هذا التقدير قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ فقوله تعالى مُسَخَّراتٌ حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر. ومعناه مستقيم، لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة، فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة، لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك، وما أشار له الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير، إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه، فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزق، وجعل المعنى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير، وفيما ذكرناه كفاية، ومن هذا النمط ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال، وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ. وأما الجواب عن إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وأصله لئلا تضلوا، فحذف اللام و «لا» جميعا من محليهما.(4/35)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله:
لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقى أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها، كما في قول القائل:
ألا أيها ذا الزّاجرى أحضر الوغى «1»
قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أى فرق بين سمعت فلانا يتحدّث، وسمعت إليه يتحدّث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟ قلت: المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك، والملأ الأعلى: الملائكة، لأنهم يسكنون السماوات. والإنس والجن: هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء من أى جهة صعدوا للاستراق دُحُوراً مفعول له، أى: ويقذفون للدحور وهو الطرد، أو مدحورين على الحال. أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل:
يدحرون أو قذفا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بفتح الدال على: قذفا دحورا طرودا. أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبا، يعنى أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع مَنْ في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون، أى: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الْخَطْفَةَ وقرئ: خطف بكسر الخاء والطاء وتشديدها، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: فأتبعه، وفاتبعه.
[سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها، فلذلك قيل
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 159 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/36)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
فَاسْتَفْتِهِمْ أى استخبرهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ولم يقل: فقرّرهم، والضمير لمشركي مكة. قيل:
نزلت في أبى الأشد بن كلدة، وكنى بذلك لشدّة بطشه وقوته أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولى العقل على غيرهم، فقال: من خلقنا، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء: فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا، بالفاء المعقبة. وقوله: أم من خلقنا، مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الذي خلقناه من ذلك، ويقطع به قراءة من قرأ: أم من عددنا، بالتخفيف والتشديد. وأشدّ خلقا: يحتمل أقوى خلقا من قولهم:
شديد الخلق. وفي خلقه شدّة، وأصعب خلقا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم مِنْ طِينٍ لازِبٍ إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: من خلقنا من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم. وقرئ: لازب ولاتب، والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 12 الى 14]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
بَلْ عَجِبْتَ من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة وَهم يَسْخَرُونَ منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وقرئ بضم التاء، أى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام: والثاني: أن يتخيل العجب ويفرض.
وقد جاء في الحديث: عجب ربكم من ألكم «1» وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم «2» . وكان شريح
__________
(1) . قوله «من ألكم وقنوطكم» الأل: يأتى بمعنى السرعة والأنين والفساد. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمرو يرفعه، ثم قال: فقال: الأل رفع الصوت بالدعاء. وقال بعضهم: يرويه الأول، وهو الشدة.(4/37)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
يقرأ بالفتح ويقول: إنّ الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم، فقال إبراهيم النخعي:
إنّ شريحا كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم، يريد عبد الله بن مسعود، وكان يقرأ بالضم. وقيل معناه: قل يا محمد بل عجبت. وَإِذا ذُكِّرُوا ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به وَإِذا رَأَوْا آيَةً من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية. أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 15 الى 19]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
وَآباؤُنَا معطوف على محل إِنْ واسمها. أو على الضمير في مبعوثون، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام. والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ أو آباؤنا قُلْ نَعَمْ وقرئ: نعم بكسر العين وهما لغتان. وقرئ: قال نعم، أى الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون فَإِنَّما جواب شرط مقدّر تقديره: إذا كان ذلك فما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضحها خبرها. ويجوز:
فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم: إذا صاح عليها فريعت لصوته. ومنه قوله:
زجر أبى عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم «1»
يريد تصوينه بها فَإِذا هُمْ أحياء بصراء يَنْظُرُونَ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 21]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
يحتمل أن يكون هذا يَوْمُ الدِّينِ إلى قوله احْشُرُوا من كلام الكفرة بعضهم مع بعض
__________
(1) . للنابغة الجعدي. وأبو عروة: كنية العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يزعمون أنه يصيح بالسباع فينفق مرارة الأسد في جوفه، وروى أن غارة أتتهم يوم حنين فصاح: يا صباحاه فأسقطت الحوامل، وكان يسمع صوته من مسافة ثمانية أميال. وزجره يزجره، إذا صاح بمنعه، أى: كزجر أبى عروة السباع عن الغنم إذا خاف اختلاطهن بها في البادية.(4/38)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ كلام الكفرة. وهذا يَوْمُ الْفَصْلِ من كلام الملائكة جوابا لهم. ويوم الدين: اليوم الذي ندان فيه، أى نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل: يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلالة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 26]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
احْشُرُوا خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض وَأَزْواجَهُمْ وضرباءهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم فَاهْدُوهُمْ فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز، فكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ: لا تتناصرون ولا تناصرون، بالإدغام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 35]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سموها: الشؤمى،(4/39)
كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، «1» وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء «2» . وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله:
استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أى: من قبل الخير وناحيته، فصدّه عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك، ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً مختارين الطغيان فَحَقَّ عَلَيْنا فلزمنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ يعنى: وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قلّ مالى «3»
__________
(1) . قوله «وتيمنوا بالسانح» السانح: المار من اليسار إلى اليمين. والبارح عكسه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها أتم من هذا.
(3) .
ألا زعمت هوازن قل مالى ... وهل لي غير ما أنفقت مال
أسربه نعم ونعم قديما ... على ما كان هن مال وبال
ألا استفتاحية، وهوازن: امرأته، وضمن زعمت معنى قالت، فعداه إلى الجملة، ولو حكى قولها بلفظه لقال: قل مالك، ولكن جاء بياء المتكلم لجواز الحكاية بالمعنى، وهل: استفهام إنكارى، وغير: حال مقدمة، أى: ليس لي مال غير ما أنفقته في المكارم، وأسربه. مبنى للمجهول صفة لمال، أى: لا يسرني غير ما أنفقته، وبين جهة الإنفاق بقوله: نعم ونعم، أى جوابي للسائلين بذلك من قديم الزمان: هو وبال ومضرة على ما كان لي من مال، ويجوز أن أسر مبنى للفاعل. ونعم الأولى مفعوله، أى: هل لي مال أسربه من يجاب بنعم، والحال أن نعم وبال على المال، ومهلكة له قديما، حيث أخيب السائل بها.(4/40)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
ولو حكى قولها لقال: قل مالك. ومنه قول المحلف للحالف: احلف لأخرجنّ، ولتخرجنّ:
الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغى دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستحبابكم الغىّ على الرشد إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فَإِنَّهُمْ فإنّ الأتباع والمتبوعين جميعا يَوْمَئِذٍ يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية إِنَّا مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بكل مجرم، يعنى أنّ سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها إِنَّهُمْ كانُوا إِذا سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك.
[سورة الصافات (37) : الآيات 36 الى 39]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ رد على المشركين وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ كقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وقرئ: لذائقو العذاب، بالنصب على تقدير النون، كقوله:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1»
بتقدير التنوين. وقرئ على الأصل: لذائقون العذاب إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم جزاء سيئا بعمل سيئ.
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 49]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 448 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/41)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع. فسر الرزق المعلوم بالفواكه:
وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوّت لحفظ الصحة، يعنى أنّ رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وعن قتادة: الرزق المعلوم الجنة. وقوله فِي جَنَّاتِ يأباه، وقوله وَهُمْ مُكْرَمُونَ هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوى الهمم، كما أنّ من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هو ان أهل النار وصغارهم.
التقابل: أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال:
وكاس شربت على لذّة «1»
وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس مِنْ مَعِينٍ من شراب معين. أو من نهر معين، وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون: وصف بما يوصف به الماء، لأنه يجرى في الجنة في أنهار كما يجرى الماء، قال الله تعالى وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ.
بَيْضاءَ صفة للكأس لَذَّةٍ إمّا أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها: أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ. ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال:
ولذ كطعم الصّرخدى تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان «2»
__________
(1) .
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
للأعشى، والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر، وعلى الخمر فيها: مجازا مشهورا، وهي مؤنثة بدليل تأنيث صفتها وضميرها. يقول: ورب كأس شربتها مع لذة، أو لأجل لذة فضرتنى، فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها، ليعلم الناس أنى مجرب للأمور، وكنى عن ذلك بقوله: أتيت المعيشة من بابها، وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على طريق المكنية وإثبات الباب تخييل، أى: كما داويت الداء من بابه أدرك المعيشة وأحصلها من الأسباب التي تناسبها. ويروى: بدل الشطر الثاني من البيت الأول
دهاق يرنح من ذاقها
ودهقه:
كسره وغمزه غمزا شديدا، وكأس داهق: ممتلئة، ودهاق: مملوءة. وترنح: تميل، لكن هذا من قافية أخرى.
(2) . اللذ: وصف، واللذة: مؤنثة، وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس، واسم للشيء اللذيذ. والصرخد:
موضع من الشام ينسب إليه الشراب. والحدثان: مصدر كالحدث، إلا أنه يدل على التجدد والتكرر، يقول:
ورب شيء لذيذ يعنى النوم، طعمه كطعم الشراب الطيب، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بى. ويروى بدل الشطر الثاني
عشية خمس القوم والعين عاشقة
وخمست القوم أخمسهم- بالضم-: أخذت خمس أموالهم.(4/42)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
يريد النوم. الغول: لمن غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده. ومنه: الغول الذي في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم: الغضب غول الحلم، ويُنْزَفُونَ على البناء للمفعول، من نزف الشارب «1» إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ويقال للمطعون: نزف فمات إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية حتى نزفتها: إذا لم تترك فيها ماء. وفي أمثالهم: أجبن من المنزوف ضرطا. وقرئ: ينزفون، من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه. قال:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو ... لبئس النّدامى كنتمو آل أبجرا «2»
ومعناه: صار ذا ترف. ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكبيته.
وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: وينزفون: بضم الزاى، من نزف ينزف كقرب يقرب، إذا سكر. والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار «3» أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك، ولا هم يسكرون «4» ، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، لا يمددن طرفا إلى غيرهم، كقوله تعالى عُرُباً «5» والعين:
النجل العيون «6» شبههنّ يبيض النعام المكنون في الأداحى، وبها تشبه العرب النساء وتسميهنّ بيضات الخدور.
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 57]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
__________
(1) . قوله «من نزف الشارب في الصحاح: نزفت ماء البئر نزفا، إذا نزحته كله. ونزفت هي: يتعدى ولا يتعدى ... ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله. (ع)
(2) . للأبيرد. ونزف دمه: خرج منه حتى ضعف وانقطعت حركته. ونزف الرجل في الخصومة: انقطعت حجته، وأنزف: صار ذا نزف، فنزف وأنزف لا زمان. وقوله: لئن أنزفتم، أى سكرتم وبطلت حركتكم، أو انقطع شرابكم، ولبئس الندامى: جواب القسم، وجواب الشرط مثله محذوف، وأنتم: هو المخصوص بالذم.
وآل أبجر: منادى، وفيه نوع من التهكم والاستخفاف بهم.
(3) . قوله «في الصحاح: الخمار: بقية السكر. (ع) [.....]
(4) . قوله «ولا هم يسكرون» لعله: ولا هم عنها يسكرون. (ع)
(5) . قوله «كقوله تعالى: عربا» أى متحببات إلى أزواجهن كما يأتى. (ع)
(6) . قوله «النجل العيون» في الصحاح: النجل- بالتحريك: كشف العين. والرجل أنجل، والعين نجلاء، والجمع نجل. وفيه: مدحى النعامة: موضع بيضها. وأدحيها موضعها، وهو أفعول من دحوت، لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض فيه اه والأداحى: جمعه. (ع)(4/43)
فإن قلت: علام عطف قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؟ قلت: على يطاف عليهم. والمعنى:
يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب «1» ، قال:
وما بقيت من اللّذّات إلّا ... أحاديث الكرام على المدام «2»
فيقبل بعضهم على بعض يَتَساءَلُونَ عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره. قرئ: من المصدّقين، من التصديق. ومن المصّدّقين مشدّد الصاد، من التصدّق، وقيل: نزلت في رجل تصدّق بماله لوجه الله، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضنى الله به في الآخرة خيرا منه، فقال:
أإنك لمن المصدّقين بيوم الدين. أو من المتصدّقين لطلب الثواب. والله لا أعطيك شيئا لَمَدِينُونَ لمجزيون، من الدين وهو الجزاء. أو لمسوسون مربوبون. يقال: دانه ساسة.
ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه، «3» . قالَ يعنى ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل:
القائل هو الله عز وجل: وقيل بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرئ. مطلعون، فاطلع. وفأطلع بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب: ومطلعون فاطلع، وفأطلع بالتخفيف، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب. يقال: طلع علينا فلان، واطلع، وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضا. أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك.
وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، وهو من
__________
(1) . قوله «كعادة الشرب» جمع شارب، كالصحب جمع صاحب، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . الفرزدق، يقول: وما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام، أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر، وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه، وكان الظاهر: وما بقي من اللذات، لكن أنث الفعل لأنه مفرغ لما بعد إلا، أو للتأويل المتقدم.
(3) . أخرجه الترمذي وابن ماجة، والحاكم وأحمد والبزار وأبو يعلى والحرث والطبراني كلهم من رواية أبى بكر ابن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس.(4/44)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
آداب المجالسة. أن لا يستبد بشيء دون جلسائه، فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: مطلعون بكسر النون، أراد: مطلعون إياى، فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:
هم الفاعلون الخير والآمرونه «1»
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائى، وعن أبى عبيدة:
قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائى إِنْ مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على «كاد» كما تدخل على «كان» ونحوه إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: لتغوينّ نِعْمَةُ رَبِّي هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء. أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.
[سورة الصافات (37) : الآيات 58 الى 59]
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
وقرئ بمائتين. والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء:
ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.
[سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له يزيد به تعذبا، وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزاجرا. ويجوز أن يكون قولهم جميعا، وكذلك قوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من قول الله عزّ وجلّ تقريرا لقولهم وتصديقا له. وقرئ: لهو الرزق العظيم، وهو ما رزقوه من السعادة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
__________
(1) .
هم الفاعلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من حادث الدهر معظما
الخير: نصب على المفعولية. ويقال: أمرتك الخير وأمرتك به، فالآمرونه: اسم فاعل متعد للمفعول الثاني بنفسه، وكان حقه الفصل فوصل، وربما كان في البيت أوقع منه في اسم الفاعل المجرد من اللام، وما زائدة: أى إذا خافوا من حادث الدهر أمرا معظما. ويروى: مفظعا، أى: مخيفا فحقه في حرف العين.(4/45)
تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال أَذلِكَ الرزق خَيْرٌ نُزُلًا أى خير حاصلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وأصل النزل: الفضل والربع في الطعام، يقال:
طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم، وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا، كما تقول:
أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا؟ يعنى أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة. وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلا. والنزل: ما يقال «1» للنازل بالمكان من الرزق. ومنه إنزال الجند لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن «2» . ومعنى الأوّل: أنّ للرزق المعلوم نزلا، ولشجر الزقوم نزلا، فأيهما خير نزلا. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم في الآخرة. أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، فكذبوا. وقرئ:
نابتة فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها: والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها: إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان. وإذا صوّره المصورون: جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله، كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وهذا تشبيه تخييلى. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا. وقيل: إنّ شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة، يسمى ثمره:
__________
(1) . قوله «ما يقال للنازل بالمكان» لعله «ما يقام» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «لساكن الدار السكن» في الصحاح «السكن» : كل ما سكنت إليه. (ع)(4/46)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
رؤوس الشياطين. وما سمت العرب هذا الثمر برءوس الشياطين إلا قصدا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به مِنْها من الشجرة، أى من ظلعها فَمالِؤُنَ بطونهم، لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها، ليكون بابا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابا من غساق أو صديد، شوبه: أى مزاجه مِنْ حَمِيمٍ يشوى وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وقرئ: لشوبا، بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأوّل تسمية بالمصدر. فإن قلت:
ما معنى حرف التراخي في قوله ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً وفي قوله ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ؟ قلت:
في الأوّل وجهان، أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملىّ تعذيبا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو احرّ وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين: وقرئ: ثم إن منقلبهم، ثم إن مصيرهم، ثم إن منفذهم إلى الجحيم: علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثا. وقيل:
إسراع فيه شبه بالرعدة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش. مُنْذِرِينَ أنبياء حذروهم العواقب. الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا وحذروا، أى أهلكوا جميعا إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)(4/47)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فو الله لنعم المجيبون نحن، والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى:
إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون هُمُ الْباقِينَ هم الذين بقوا وحدهم وقد فنى غيرهم، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم هذه الكلمة، وهي: سَلامٌ عَلى نُوحٍ يعنى يسلمون عليه تسليما، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت سورة أنزلناها. فإن قلت: فما معنى قوله فِي الْعالَمِينَ؟ قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا، وأن لا يخلو أخد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان:
هود، وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟
قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعنى: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم. أو بمحذوف وهو: اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من جميع آفات القلوب. وقيل:
من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها.
فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب(4/48)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
المجيء مثلا لذلك أَإِفْكاً مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون الله إفكا، وإنما قدّم المفعول على الفعل للعناية، وقدّم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إفكا مفعولا، يعنى: أتريدون به إفكا.
ثم فسر الإفك بقوله آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك في أنفسها. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين فَما ظَنُّكُمْ بمن هو الحقيق بالعبادة، لأنّ من كان ربا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام: والمعنى: أنه لا يقدّر في وهم ولا ظنّ ما يصدّ عن عبادته. أو فما ظنكم به أى شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادا. أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟
[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 90]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
فِي النُّجُومِ في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ إنى مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرّض وورّى، والذي قاله إبراهيم عليه السلام: معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم.
ومنه المثل: كفى بالسلامة داء. وقول لبيد:
فدعوت ربى بالسّلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السّلامة داء «1»
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابى: أصحيح من الموت في عنقه. وقيل: أراد: إنى سقيم النفس لكفركم.
__________
(1) .
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
فدعوت ربى بالسلامة جاهدا ... ليصحنى فإذا السلامة داء
للبيد بن ربيعة العامري، والقناة: الرمح، استعارها لاقامته أو قوته على طريق التصريح، والليونة والغمز:
ترشيح. والغمزى: الحبى باليد ويجوز أن الاستعارة تمثيلية في المركب، يصف قوته زمن الشباب، ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه، وأنه تطلب فسحة الأجل، فكانت سبب اضمحلاله.(4/49)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
[سورة الصافات (37) : الآيات 91 الى 93]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، إلى آلهتهم: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله تعالى: أين شركائى؟ أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها فَراغَ عَلَيْهِمْ فأقبل عليهم مستخفيا، كأنه قال: فضربهم ضَرْباً لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم. أو فراغ عليهم يضربهم ضربا. أو فراغ عليهم ضربا بمعنى ضاربا. وقرئ: صفقا وسفقا، ومعناهما: الضرب. ومعنى ضربا بِالْيَمِينِ ضربا شديدا قويا، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما. وقيل: بالقوّة والمتانة: وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
[سورة الصافات (37) : آية 94]
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
يَزِفُّونَ يسرعون، من زفيف النعام. ويزفون: من أزفّ، إذا دخل في الزفيف. أو من أزفه، إذا حمله على الزفيف، أى: يزفّ بعضهم بعضا. ويزفون، على البناء للمفعول، أى:
يحملون على الزفيف. ويزفون، من وزف يزف إذا أسرع. ويزفون: من زفاه إذا حداه «1» ، كأن بعضهم يزفوا بعضا لتسارعهم إليه، فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ كالتناقض حيث ذكر هاهنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر، ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. قلت:
فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية «2» من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم «سمعنا فتى يذكرهم» لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر. وقولهم: قالوا فأتوا به على أعين الناس.
__________
(1) . قوله «إذا حداه» أى ساقه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والعلية» أى العظماء. (ع)(4/50)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
[سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 96]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ يعنى خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أى فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟
قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب «1» والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعاملو أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت «2» أن تكون ما مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى:
والله خلقكم وعملكم، كما تقول المجبرة «3» ؟ قلت: أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه
__________
(1) . قال محمود: «يعنى خلقكم وما تعملون من الأصنام، كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ فان قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله تعالى معمولا لهم؟ وأجاب بأن هذا كما يقال: عمل النجار الباب ... إلى أن قال: ... وفي ذلك فك للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية» اه كلامه. قال أحمد: إذا جاء سيل الله ذهب سيل معقل، فنقول: يتعين حملها على المصدرية، وذلك أنهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة، فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها، ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر، فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم، ففي الحقيقة أنهم عبدوا عملهم، وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله، مع أن المعبود كسب العابد وعمله، فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه، فإذا أثبت ذلك فليتتبع كلامه بالابطال. أما قوله أنها موصولة، وأن المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر، فانه مفتقر إلى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره: والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته، بخلاف توجيه أهل السنة فانه غير مفتقر إلى حذف البتة، ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر، فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد، مع موافقته على أن جواهر الأصنام ليست من عملهم؟ فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل، وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم، فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد، وعلى ما قررناه يتضح. وأما قوله: إن المطابقة تنفك على تأويل أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح، فان لنا أن نحمل الأولى على أنها مصدرية وأنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم، لأن هذه الأصنام وهي حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها، فلما عملوا فيها النحت عبدوها، ففي الحقيقة ما عبدوا سوى تحتهم الذي هو عملهم، فالمطابقة إذا حاصلة، والإلزام على هذا أبلغ وأمتن، ولو كان كما قال لقامت لهم الحجة، ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ بأن يقولوا: لا ولا كرامة، ولا يخلق الله ما نعمل نحن، لأنا إنما عملنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله، وكانوا يجدون الذريعة إلى اقتحام الحجة، ويأبى الله إلا أن تكون لنا الحجة البالغة ولهم الأكاذب الفارغة، فهذا إلزام بل إلجام لمن خالف السنة، وغل بعنقه، وعقر بكتفه، وضرب على يده، حتى يرجع إلى الحق آئبا، ويعترف بخطئه تائبا.
(2) . قوله «فان قلت فما أنكرت» ؟ لعله: لم أنكرت. (ع) [.....]
(3) . قوله «كما تقول المجبرة» يريد أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه لا خالق إلا الله، فهو الخالق لعمل العبد والمعتزلة يقولون: إن العبد هو الخالق لعمل نفسه، فجعلوا العبد شريكا لله في الخالقية، مع أنهم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، قالوا: لو كان الله هو الخالق لفعل العبد لكان تعذيبه للعبد على المعاصي ظلما لا عدلا، قال أهل السنة:
يعذبه عليها كما يثيبه على الطاعة، لما له فيهما من الكسب والاختيار، فلا ظلم، لكن المعتزلة لم ينظروا في التوحيد تمام النظر، ولم يتبصروا في أدلته تمام التبصر. (ع)(4/51)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
بحجج العقل والكتاب: أن معنى الاية يأباه إباء جليا، وينبو عنه نبوّا ظاهرا، وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعا خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها، ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم، ولم يكن محتجا عليهم «1» ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر: وهو أن قوله ما تَعْمَلُونَ ترجمة عن قوله ما تَنْحِتُونَ وما في ما تَنْحِتُونَ موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن. فإن قلت: اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم. قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين، كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضا فإنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون، حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بما تنحتون: الأعيان التي هي الأصنام، وبما تعملون: المعاني التي هي الأعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية.
[سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
الْجَحِيمِ النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم.
والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعا، وأذلهم بين يديه: أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 101]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام، كما قال:
__________
(1) . قوله «لم يكن محتجا عليهم» يكفى في الاحتجاج أن الله هو الخالق لهم ولأعمالهم في الأصنام وغيرها، والأصنام لا تخلق شيئا، بل الانفراد بالخالقية أدل على الانفراد بالالهية. (ع)(4/52)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
إنى مهاجر إلى ربى. سَيَهْدِينِ سيرشدنى إلى ما فيه صلاحي في دينى ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ كأن الله وعده وقال له: سأهديك، فأجزى كلامه على سنن موعد ربه. أو بناء على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده.
أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى عليه السلام عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا قال عزّ وجل وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وقال على بن أبى طالب لابن عباس رضى الله عنهم- حين هنأه بولده علىّ أبى الأملاك-: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما، وأى حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، ثم استسلم لذلك. وقيل: ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت الله به إبراهيم في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لأنّ الحادثة شهدت بحلمهما جميعا.
[سورة الصافات (37) : آية 102]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: مَعَهُ بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلفه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعى، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: فلما بلغ السعى أى الحدّ الذي يقدر فيه على السعى قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، فلهذا قال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح(4/53)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
ابنك هذا، فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟
فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل: إنّ الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له: أوف بنذرك فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ: ماذا ترى «1» ، أى: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وماذا ترى، على البناء للمفعول، أى: ماذا تريك نفسك من الرأى افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أى ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به «2»
أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ: ما تؤمر به. فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله: ولأنّ المغافصة «3» بالذبح مما يستسمج، وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين، لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
[سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 111]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
__________
(1) . قوله «وقرئ ماذا ترى» لعله بضم التاء وكسر الراء، من أراه يريه، فليحرر. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 590 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «المغافصة» في الصحاح: غافصت الرجل، أى: أخذته على غرة. (ع)(4/54)
يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. وقد قرئ بهنّ جميعا إذا تنقاد له، وخضع، وأصلها من قولك: سلم هذا لفلان إذا خلص له. ومعناه: سلم من أن ينازع فيه، وقولهم: سلم لأمر الله، وأسلم له منقولان منه، وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى: استسلم: استخلص نفسه لله. وعن قتادة في أَسْلَما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقه، فوقع أحد جبينيه على الأرض تواضعا «1» على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما، من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب، وقوله إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة، والظفر بالبغية بعد اليأس الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. الذبح: اسم ما يذبح. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. وعن الحسن: فدى بو على «2» أهبط عليه من ثبير. وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم»
عَظِيمٍ ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحى. وقوله عليه السلام «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتّى أخذه، فبقيت سنة في الرمي. وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده: وروى أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم عليه السلام: الله أكبر ولله الحمد «4» ، فبقى سنة: وحكى في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه وقال: يا بنى خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر، فقال: اشدد رباطى لا أضطرب، واكفف عنى ثيابك
__________
(1) . قوله «تواضعا على مباشرة الأمر» أى توافقا. (ع)
(2) . قوله «بو عل» في الصحاح: الوعل: الأروى اه، ويقال: التيس الجبلي. (ع)
(3) . لم أجده.
(4) . لم أجده.(4/55)
لا ينتضح عليها شيء من دمى فينقص أجرى وتراه أمى فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقى حتى تجهز علىّ، ليكون أهون فإنّ الموت شديد، واقرأ على أمى سلامى، وإن رأيت أن تردّ قميصي على أمى فافعل، فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بنىّ على أمر الله، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل. لأنّ الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهى فإنك إذا نظرت وجهى رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه، وأتى المنحر من منى فذبحه: وقيل: لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج. وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده: أنه يلزمه ذبح شاة، فإن قلت: من كان الذبيح من ولديه؟ قلت: قد اختلف فيه، فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من النابعين: أنه إسماعيل. والحجة فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابى: يا ابن الذبيحين، فتبسم، فسئل عن ذلك فقال: إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله: لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له أفد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل» «1» وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان مجتهد بنى إسرائيل يقول إذا دعا: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، فقال موسى عليه السلام: يا رب، ما لمجتهد بنى إسرائيل إذا دعا قال: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، وأنا بين أظهرهم فقد أسمعتنى كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال: يا موسى، لم يحبني أحد حب إبراهيم قط، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني. وأمّا إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه. وأمّا إسرائيل، فإنه لم ييأس من روحي في شدّة نزلت به قط، ويدل عليه أنّ الله تعالى لما أتم قصة الذبيح قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا وعن محمد بن كعب أنه قال لعمر بن عبد العزيز:
هو إسماعيل، فقال عمر: إنّ هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإنى لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودى قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدى بنى إسماعيل إلى أن احترق البيت. وعن الأصمعى قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعى أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
__________
(1) . أخرجه الحاكم والثعلبي من رواية الصنابحى عن معاوية رضى الله عنه وفيه قصة.(4/56)
ومما يدل عليه أنّ الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به، ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفا للموعد في يعقوب. وعن على بن أبى طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين: أنه إسحاق. والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به. ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله «1» . فإن قلت: قد أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: قد صدقت الرؤيا، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح «2»
__________
(1) . أخرجه الترمذي في النوادر في الحادي والعشرين بعد المائتين: حدثنا عمر بن أبى عمر حدثنا عصام بن المثنى الحمصي عن أبيه عن وهب بن منبه قال «كتب يعقوب كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من يعقوب نبى الله إلى آخره» وأخرج الدارقطني في غرائب مالك من رواية إسحاق بن وهب الطوسي عن ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه «أوحى إلى ملك الموت أن ائت يعقوب فسلم عليه فذكر الحديث- وفيه فقال:
اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فانا أهل بيت فذكره مطولا. قال الدارقطني: هذا موضوع. وإسحاق كان يضع الحديث على ابن وهب. وقد تقدم في يوسف من وجه آخر.
(2) . قال محمود: «فان قلت قد أوحى إلى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: قد صدقت الرؤيا وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح. فأجاب بأنه قد بذل وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه منع الشفرة أن تمضى فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ولا قل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام عليه. انتهى كلامه» قال أحمد: كل ما ذكر دندنة حول امتناع النسخ قبل التمكن من الفعل، وتلك قاعدة المعتزلة. وأما أهل السنة فيثبتون جوازه، لأن التكليف ثابت قبل التمكن من الفعل، فجاز رفعه كالموت. وأيضا فكل نسخ كذلك، لأن القدرة على الفعل عندنا مقارنة لا متقدمة، ثم يثبتون وقوعه بهذه الآية. ووجه الدليل منها أن إبراهيم عليه السلام أمر بالذبح بدليل افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ونسخ قبل التمكن بدليل العدول إلى الفداء، فمن ثم تحوم الزمخشري على أنه فعل غاية وسعه من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، وإنما امتنعت بأمر من الله تعالى، وغرضه بذلك أحد أمرين: إما أن يكون الأمر إنما توجه عليه بمقدمات الذبح وقد حصلت لا بنفس الذبح، أو توجه الأمر بنفس الذبح وتعاطيه، ولكن لم يتمكن. وكلا الأمرين لا يخلصه. أما قوله: أمر بمقدمات الذبح فباطل بقوله إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
وقوله افْعَلْ ما تُؤْمَرُ وأما قوله: لم يتمكن لأن الشفرة منعت بأمر من الله تعالى بعد تسليم الأمر بالذبح، فحاصله أنه لم يتمكن من الذبح المأمور به، فكان النسخ إذا قبل التمكن، وهو عين ما أنكره المعتزلة، ولما لم يكن في هذين الجوابين لهم خلاص: لجأ بعضهم إلى تسليم أنه أمر بالذبح، ودعوى أنه ذبح ولكنه كان يلتحم، وهو باطل لا ثبوت له. وسياق الآية يخل دعواه ويفل ثنياه.(4/57)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قلت. قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح: من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضى فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا، بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام، حتى يشتغل بالكلام فيه. فإن قلت: الله تعالى هو المفتدى منه: لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فاديا حتى قال وَفَدَيْناهُ؟ قلت: الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل وهب له الكبش ليفدى به وإنما قال وَفَدَيْناهُ إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته. فإن قلت: فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح. فما معنى الفداء، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت: قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فرى الأوداج وانهار الدم، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل، ولكن في نفس الكبش بدلا منه. فإن قلت: فأى فائدة في تحصل تلك الحقيقة، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت: الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه. فإن قلت: لم قيل هاهنا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وفي غيرها من القصص: إنا كذلك؟ قلت: قد سبقه في هذه القصة: إنا كذلك، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية.
[سورة الصافات (37) : الآيات 112 الى 113]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
نَبِيًّا حال مقدرة، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ وذلك أنّ المدخول موجود مع وجود الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت مقدرين الخلود فكان مستقيما، وليس كذلك المبشر به، فإنه معدوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة، لأنّ الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوّة أيضا بوجوده، بل تراخت عنه مدّة متطاولة، فكيف يجعل نبيا حالا مقدّرة، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به، فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها «1» صفتهم، لأنّ المعنى مقدّرين
__________
(1) . قوله «فتقديرها صفتهم» لعله: فتقديره. (ع)(4/58)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
الخلود، وليس كذلك النبوّة، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدّرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق. قلت: هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال:
أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك قولك: وبشرناه بوجود إسحاق نبيا، أى بأن يوجد مقدّرة نبوّته، فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. مِنَ الصَّالِحِينَ حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأنّ كل نبى لا بد أن يكون من الصالحين. وعن قتادة: بشره الله بنبوّة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه، وهذا جواب من يقول الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ قالوا: ولا يجوز أن يبشره الله بمولده ونبوّته معا، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبيا وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وقرئ: وبركنا، أى: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، كقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بنى إسرائيل من صلبه. وقوله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ نظيره: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأنّ المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق. أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم «1» وَنَصَرْناهُمْ الضمير لهما ولقومهما في قوله وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما. الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وهو التوراة، كما قال إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ وقال: من جوز أن تكون التوراة
__________
(1) . قوله «وغشمهم» في الصحاح «الغشم» : الظلم. (ع) [.....](4/59)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
عربية أن تشتق «1» من ورى الزند «فوعلة» منه، على أنّ التاء مبدلة من واو الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط أهل الإسلام، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قرئ إلياس، بكسر الهمزة، والياس: على لفظ الوصل: وقيل: هو إدريس النبي. وقرأ ابن مسعود: وإنّ إدريس، في موضع إلياس. وقرئ: إدراس: وقيل: هو إلياس بن ياسين، من ولد هرون أخى موسى أَتَدْعُونَ بَعْلًا أتعبدون بعلا، وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل.
وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف- بعل- ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقيل: البعل الرب، بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار، أى: من ربها؟
والمعنى: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ قرئ بالرفع على الابتداء، وبالنصب على البدل، وكان حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع: وقرئ:
على الياسين. وإدريسين. وادراسين. وإدرسين، على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. وقرئ: على الياسين بالوصل، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه، كقولهم: الخبيبون والمهلبون. فإن قلت: فهلا حملت على هذا إلياسين على القطع وأخواته؟ قلت: لو كان جمعا لعرف بالألف واللام. وأما من قرأ: على آل ياسين، فعلى أنّ ياسين اسم أبى الياس، أضيف إليه الآل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
__________
(1) . قوله «أن تشتق» لعله: يجوز أن تشتق. (ع)(4/60)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح، يعنى: تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلا ونهارا، فما فيكم عقول تعتبرون بها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
قرئ: يونس، بضم النون وكسرها. وسمى هربه من قومه بغير إذن ربه: إباقا على طريقة المجاز. والمساهمة: المقارعة. ويقال: استهم القوم، إذا اقترعوا. والمدحض: المغلوب المقروع.
وحقيقته: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روى أنه حين ركب في السفينة وقفت، فقالوا: هاهنا عبد أبق من سيده، وفيما يزعم البحارون أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في الماء فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة. يقال: ربّ لائم مليم، أى يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ: مليم، بفتح الميم، من ليم فهو مليم، كما جاء: مشيب في مشوب، مبنيا على شيب. ونحوه: مدعى، بناء على دعى مِنَ الْمُسَبِّحِينَ من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس. وقيل: هو قوله في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقيل: من المصلين. وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة «1» . وعن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. قال:
وكان يقال: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع وجد متكأ. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله، وإقباله على عبادته، وجمع همه لتقييد
__________
(1) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما- قوله ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة موقوفا(4/61)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ الظاهر لبثه فيه حيا إلى يوم البعث. وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة. وروى أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت: إنى جعلت بطنك له سجنا، ولم أجعله لك طعاما. واختلف في مقدار لبثه، فعن الكلبي: أربعون يوما، وعن الضحاك: عشرون يوما.
وعن عطاء سبعة. وعن بعضهم: ثلاثة. وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلا، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروى أنّ الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا: وروى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. والعراء: المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه وَهُوَ سَقِيمٌ اعتلّ مما حلّ به. وروى أنه عاد بدنه كبدن الصبى حين يولد. واليقطين: كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل، وهو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل: هو الدباء. وفائدة الدباء أن الذباب لا يجتمع عنده- وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال «أجل هي شجرة أخى يونس» «1» وقيل: هي التين، وقيل: شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظلّ بأغصانها، وأفطر على ثمارها.
وقيل: كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة «2» تختلف إليه، فيشرب من لبنها. وروى أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحى الله إليه: بكيت على شجرة ولا تبكى على مائة ألف في يد الكافر، فإن قلت: ما معنى وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً؟ قلت: أنبتناها فوقه مظلة له، كما يطنب البيت على الإنسان وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين. أو إلى غيرهم وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبىّ إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر أى. إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر، والغرض: الوصف بالكثرة إِلى حِينٍ إلى أجل مسمى وقرئ: ويزيدون، بالواو. وحتى حين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 157]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
__________
(1) . لم أجده. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود في قصة يونس قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم ... واليقطين القرع.
(2) . قوله «وكانت وعلة» يقال: هي شاة جبلية. (ع)(4/62)
فَاسْتَفْتِهِمْ معطوف على مثله في أوّل السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة: أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أوّلا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهنّ، ووأدهم، واستنكافهم من ذكرهنّ.
ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر، أحدها: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، كما قال وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة. أو شكلك شكل النساء، للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه «1» وذلك في أهاجيهم بين مكشوف، فكرّر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرّات، ودل على فظاعتها في آيات: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. فإن قلت. لم قال وهُمْ شاهِدُونَ فخصّ علم المشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل، وكذلك قوله أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ونحوه قوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر.
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وقرئ: ولد الله، أى الملائكة ولده. والولد
__________
(1) . قوله «ولانقلبت حماليقه» في الصحاح «حملاق العين» : باطن أجفانها الذي يسوده الكحل اه. (ع)(4/63)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
«فعل» بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. تقول: هذه ولدى، وهؤلاء ولدى. فإن قلت: أَصْطَفَى الْبَناتِ بفتح الهمزة: استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبى جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم وَلَدَ اللَّهُ وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضى الله عنهما. وهذه القراءة- وإن كان هذا محملها- فهي ضعيفة، والذي أضعفها: أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. وقرئ تذكرون، من ذكر أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ أى حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم في ذلك، كقوله تعالى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، وإنكار فظيع، واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش، وتجهيل نفوسها، واستركاك عقولها، مع استهزاء وتهكم وتعجيب، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدّث به نفسا، فضلا أن يجعله معتقدا ويتظاهر به مذهبا.
[سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 160]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
وَجَعَلُوا بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة نَسَباً وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى:
وجعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت:
لم سمى الملائكة جنة؟ قلت: قالوا الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك، فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم. وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله: أن تسوّى بين الملك وبين بعض خواصه ومقرّبيه، فيقول لك: أتسوّي بيني وبين عبدى. وإذا ذكره في غير هذا المقام وقره وكناه. والضمير في إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للكفرة. والمعنى: أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب. حيث أضيف إلى علم الذين ادّعوا لهم تلك النسبة.
وقيل: قالوا إنّ الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل: قالوا. إنّ الله والشيطان أخوان.(4/64)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
وعن الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله. ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين: أن يكون الضمير في إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ لهم، والمعنى أن الشياطين عالمون بأنّ الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين: معناه ولكن المخلصين ناجون. وسبحان الله: اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون، أى: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به.
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
والضمير في عَلَيْهِ لله عز وجلّ ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت. يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم، من قولك يفتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن يكون الواو في وَما تَعْبُدُونَ بمعنى مع، مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، وأنّ كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ لأن قوله وَما تَعْبُدُونَ سادّ مسدّ الخبر، لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أى: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال: ما أنتم عليه، أى على ما تعبدون بِفاتِنِينَ بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال إِلَّا مَنْ هُوَ ضال مثلكم. أو يكون في أسلوب قوله:
فإنّك والكتاب إلى علىّ ... كدا بغة وقد حلم الأديم «1»
وقرأ الحسن: صال الجحيم، بضم اللام. وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون جمعا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف «فإن قلت» كيف استقام الجمع مع قوله مَنْ هُوَ؟ قلت من موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالحون على معناه كما حمل في مواضع من التنزيل
__________
(1) . لعمرو بن العاص. وقيل للوليد بن عقبة بن أبى معيط، يحرض معاوية على حرب على بن أبى طالب، وحلم الجلد حلما، كتعب تعبا: إذا فسد ودود وتنقب. وحلم بالضم، حلما بالكسر: عفى مع القدرة. وحلم بالفتح، حلما بالضم: رأى في منامه شيئا. يقول: فإنك وكتابك الواصل إلى على ترجو به استقامته، كرجل كثير الدبغ للجلد، أو كامرأة دابغة له والحال أنه قد فسد ولم ينفع فيه الدبغ. والمقصود: تشبيه حالة بأخرى. ويجوز أن الواو للمعية لا للعطف، فالمعنى تشبيه معاوية بالدابغة.(4/65)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
على لفظ من ومعناه في آية واحدة. والثاني أن يكون أصله صائل على القلب، ثم يقال صال في صائل، كقولهم شاك في شائك. والثالث أن تحذف لام صال تخفيفا ويجرى الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالة، وأصلها بالية من بالي، كعافية من عافى. ونظيره قراءة من قرأ:
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ بإجراء الإعراب على العين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
وَما مِنَّا أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا «1»
بكفّى كان من أرمى البشر «2»
مقام معلوم في العبادة، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روى: فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه لَنَحْنُ الصَّافُّونَ نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء. منتظرين ما نؤمر. وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل: إنّ المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين الْمُسَبِّحُونَ المنزهون أو المصلون. والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ كأنه قيل: ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه، وقالوا للكفرة فإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه وتضلوه، إلا من كان مثلكم ممن علم الله- لكفرهم، لا لتقديره وإرادته «3» ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- أنهم من أهل النار، وكيف نكون مناسبين لرب العزة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرا، خشوعا لعظمته
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 305 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 616 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «لا لتقديره وإرادته تعالى» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يقدر الشر ولا يريده. وقال أهل السنة: إن كل كائن فهو بقضاء الله وقدره كما بين في علم التوحيد. (ع)(4/66)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
وتواضعا لجلاله، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين، وكما يجب على العباد «1» لربهم. وقيل: هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى: وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه.
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 170]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
هم مشركو قريش كانوا يقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أى كتابا مِنَ كتب الْأَوَّلِينَ الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ولما خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب، فكفروا به. ونحوه فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. وإن: هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادّين فيه، فكم بين أوّل أمرهم وآخره.
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 173]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)
الكلمة: قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة. وقرئ: كلماتنا: والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يلزم انهزامهم «2» في بعض المشاهد، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة، وكفى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلا يحتذى عليها وعبرا يعتبر بها. وعن الحسن رحمه الله: ما غلب نبىّ في حرب ولا قتل فيها، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه: الظفر والنصرة- وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة- والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . قوله «وكما يجب على العباد لربهم» لعله كما يجب. كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «ولا يلزم انهزامهم» أى لا يرد نقضا للغلبة والنصر. (ع)(4/67)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وفي قراءة ابن مسعود: على عبادنا، على تضمين سبقت معنى حقت.
[سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 175]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم وأغض «1» على أذاهم حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدى: إلى يوم بدر. وقيل إلى الموت. وقيل: إلى يوم القيامة وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأنّ كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك.
وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ للوعيد كما سلف لا للتبعيد.
[سورة الصافات (37) : الآيات 176 الى 179]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة، فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا، فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، وقرأ ابن مسعود: فبئس صباح. وقرئ: نزل بساحتهم، على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك: ذهب بزيد ونزل، على:
ونزل العذاب. والمعنى: فساء صباح المنذرين صباحهم، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا، لأنّ ساء وبئس يقتضيان ذلك. وقيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة.
وعن أنس رضى الله عنه: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر- وكانوا خارجين إلى مزارعهم وممهم المساحي- قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه الصلاة والسلام:
«الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «2» وإنما ثنى وَتَوَلَّ عَنْهُمْ ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف
__________
(1) . قوله «وأغض على أذاهم» في الصحاح «الاغضاء» : إدناء الجفون. (ع)
(2) . متفق عليه(4/68)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 180 الى 182]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق، لاختصاصه بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه، وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما قيض لهم من حسن العواقب، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد. وعن علىّ رضى الله عنه: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه:
سبحان ربك رب العرة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبريء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» «2» .
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والثعلبي من رواية الأصبغ بن نباتة عن على موقوفا. ورواه ابن أبى حاتم من رواية الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرف عن أبى بن كعب رضى الله عنه.(4/69)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
سورة ص
مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل ثمان وثمانون آية [نزلت بعد القمر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)
ص على الوقف وهي أكثر القراءة. وقرئ بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: الله لأفعلنّ، كذا بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجرّ، كقولهم: الله لأفعلنّ، بالجرّ وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ ص بالجرّ والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل:
وقيل: فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة. ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت: قوله: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ كلام ظاهره متنافر غير منتظم، فما وجه انتظامه؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّى والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّى عليه، كأنه قال وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون ص خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعنى: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذى الذكر، كما تقول:
هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذى الذكر إنه لمعجز، ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسما بها وعطفت عليها وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذى الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر: الشرف والشهرة، من قولك: فلان مذكور، وإنه(4/70)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
لذكر لك ولقومك. أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد. والتنكير في عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للدّلالة على شدّتهما وتفاقمهما.
وقرئ: في غرّة، أى: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.
[سورة ص (38) : آية 3]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
كَمْ أَهْلَكْنا وعيد لذوي العزة والشقاق فَنادَوْا فدعوا واستغاثوا، وعن الحسن.
فنادوا بالتوبة وَلاتَ هي لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب، وثم للتوكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضيها: إمّا الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما جميعا، وهذا مذهب الخليل وسيبويه. وعند الأخفش:
أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. وحِينَ مَناصٍ منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم. وعنه: أنّ ما ينتصب بعده بفعل مضمر، أى: ولا أرى حين مناص، ويرتفع بالابتداء: أى ولا حين مناص كائن لهم، وعندهما أنّ النصب على: ولات الحين حين مناص أى وليس حين مناص، والرفع على ولات حين مناص حاصلا لهم.
وقرئ: حين مناص، بالكسر، ومثله قول أبى زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء «1»
فإن قلت: ما وجه الكسر في أوان؟ قلت: شبه بإذ في قوله: وأنت إذ صحيح، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين: لأنّ الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت:
فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص، لأنّ
__________
(1) .
بعثوا حربنا عليهم وكانوا ... في مقام لو أبصروا ورخاء
ثم لما تشذرت وأنافت ... وتصلوا منها كريه الصلاء
طلبوا صلحتا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء
لأبى زبيد الطائي، استعار البعث للتسبب. وتنوين مقام ورخاء للتعظيم. والتشذر: التهيؤ للقتال، والتشمر بأطراف الثوب، والتطاول، والوعيد، والركوب من خلف المركوب. والانافة: الارتفاع، وكل هذا ترشيح لاستعارة البعث. ويجوز أنه شبه الحرب بفارس على طريق المكنية. والبعث والتشذر والانافة: تخييل. وشبهها بالنار أيضا فأثبت لهاء التصلى وهو التدفؤ بالنار تخييلا. أو استعار التصلى لاقتحام المكاره تصريحية، وطلبوا: جواب لما، أى: لما ذاقوا بأسنا طلبوا صلحنا، والحال أنه ليس الأوان أوان صلح، فأجبناهم بأن هذا ليس وقت بقاء، بل وقت فناء. وأوان: منى على الكسر لنية الاضافة. وقيل: إنه مبنى على الكسر أيضا لنية الاضافة، ونون للضرورة. وشبهه بنزال في الوزن. وقيل: مجرور على إضمار «من» الاستغراقية الزائدة. وزعم الفراء أن لات هنا حرف جر، وعليها فتنوين أوان للتمكين. وزعم الزمخشري أنه على البناء تنوين عوض، ورد بأنه لو كان كذلك لأعرب، وحين نصب على أنه خبر لات في بقاء، ثم تنزيلها منزلة نيتها في حين، لأن التقدير: أن لات حين بقائكم، وهو بعيد عن المعنى الجزل.(4/71)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
أصله حين مناصهم منزلة قطعه من حين، لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضا من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن. وقرئ: ولات بكسر التاء على البناء، كجير. فإن قلت: كيف يوقف على لات؟ قلت: يوقف عليها بالتاء، كما يوقف على الفعل الذي يتصل به تاء التأنيث. وأمّا الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة.
وأمّا قول أبى عبيد: إنّ التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأنّ التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص: المنجا والفوت. يقال: ناصه ينوصه إذا فاته. واستناص: طلب المناص. قال حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه ... بيدي استناص ورام جري المسحل «1»
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 5]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم وَقالَ الْكافِرُونَ ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغىّ الذين قال فيهم أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وهل ترى كفرا أعظم وجهلا أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذبا، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الذي لا يصح غيره، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته. روى أنّ إسلام عمر رضى الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحا شديدا، وشق على قريش وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبى طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا «2» ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الذين دخلوا في الإسلام، وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخى، هؤلاء قومك يسألونك السؤال «3» فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يسألوننى؟ قالوا ارفضنا
__________
(1) . لحارثة بن بدر، يصف فرسا بأنه كثير المجاراة لغيره من الأفراس، إذا قصرت: أى جذبت عنانه، استناص: أى طلب النوص والهرب والنجاء من الأعداء. وشبه الفرس بمن تصح منه الارادة على طريق المكنية، والروم تخييل، أى: أراد جريا كجرى السحل وهو حمار الوحش، سمي به لكثرة سحاله، أى شهيقه.
(2) . ذكره الثعلبي بغير سند. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم....... الحديث نحوه» وليس فيه أوله.
(3) . قوله «يسألونك السؤال فلا تمل» لعله السواء، كما في عبارة النسفي. (ع)(4/72)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال عليه السلام: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطىّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقالوا: نعم وعشرا، أى نعطيكها وعشر كلمات معها، فقال: قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أى: بليغ في العجب. وقرئ: عجاب، بالتشديد، كقوله تعالى مَكْراً كُبَّاراً وهو أبلغ من المخفف. ونظيره: كريم وكرام وكرام: وقوله أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً مثل قوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم، كأنه قال: أجعل الجماعة واحدا في قوله، لأنّ ذلك في الفعل محال.
[سورة ص (38) : الآيات 6 الى 7]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
الْمَلَأُ أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض امْشُوا وَاصْبِرُوا فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد إِنَّ هذا الأمر لَشَيْءٌ يُرادُ أى يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه: أو أن دينكم لشيء يراد، أى: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. وأَنِ بمعنى أى، لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول. ويجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أى أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها. ومنه: الماشية، للتفاؤل، كما قيل لها: الفاشية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» «ضموا فواشيكم» «2» ومعنى وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ: واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها، وقرئ:
وانطلق الملأ منهم امشوا، بغير أَنِ على إضمار القول. وعن ابن مسعود: وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأنّ النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل في الملة الآخرة حالا من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين.
والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أى: افتعال وكذب.
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من حديث جابر رضى الله عنه بلفظ «كفوا» وأصله في مسلم.
(2) . قوله «ضموا فواشيكم» بقيته في الصحاح: «حتى تذهب فحمة العشاء» (ع)(4/73)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 11]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوّة من بينهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد «1» حينئذ، يعنى: أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعنى ما هم بما لكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها: العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا ثم رشح هذا المعنى فقال أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال:
وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خساءة «2» عن ذلك بقوله
__________
(1) . قال محمود: «معناه لم يذوقوه بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم ... الخ» قلت: ويؤخذ منه أن لما لائقة بالجواب، وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده، كما يقول سيبويه، وفرق بينها وبين لم بأن لم نفى لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد، ولما نفى لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته قد، وإنما ذكرت ذلك لأنى حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام «الشفعة فيما لم يقسم» فانى استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة، فقيل لي:
إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة، فاما أنها لا تقبل قسمة، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة «لم» ومقتضاها قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم» ولو قلت: الحجر لم يتكلم، لكان ركيكا من القول، لافهامه قبوله للكلام،
(2) . قوله «ثم خسأهم خسأة» في الصحاح: خسأت الكلب خسأ: طردته. وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)(4/74)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله، مهزوم مكسور عما قريب «1» فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون. وما مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره «2»
إلا أنه على سبيل الهزء، وهُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك.
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
ذُو الْأَوْتادِ أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال:
والبيت لا يبتنى إلّا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد «3»
__________
(1) . قال محمود: «ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة فكانت عندهم المعرفة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا يستحق، فليرتقوا في المعارج والطرق الموصلة إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى، وينزلوا الوحى على من يختارونه.
قال: ثم خسأهم بقوله جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ معناه: إن هؤلاء إلا جند متحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم عما قليل يهزمون ويولون الأدبار» قال أحمد: الاستواء المنسوب لله: ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج والوصول إلى العرش والاستقرار عليه والتمكن فوقه، لأن الاستواء المنسوب إلى الله تعالى ليس استواء استقرار بجسم- تعالى الله عن ذلك- وإنما هو صفة فعل، أى فعل فيه فعلا سماء استواء، هذا تأويل القاضي أبى بكر.
وليست عبارة الزمخشري في هذا الفصل مطابقة للمفصل على جارى عاداته في تحرير العبارة على مراده.
(2) .
جد بالوفاق لمشتاق إلى سهره ... إن لم تجد فحديث ما على قصره
المراد بالوفاق: الوصال. وضمير «سهره» للمشتاق أو للوفاق. وحديث: مبتدأ خبره محذوف، أى: تجود به.
وما زائدة التعميم. ويجوز أنها للتعظيم. لكن الأول أوفق بالمقام. وعلى بمعنى مع، وضمير «قصره» : للحديث.
(3) .
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فان تجمع أسباب وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
للرافدة الأودى، يقول: لا ينال الأمر إلا بتوافر أسبابه، فالبيت من باب التمثيل: شبه توقف الأمر على أسبابه وتوقف أسبابه على أسبابها، يتوقف ضرب الخيمة على انتصاب الأعمدة، وتوقف انتصابها على إثبات الأوتاد المشدودة بالحبال، ثم قال: فان اجتمعت الحبال المشدودة بالأوتاد الثابتة وانتصبت الأعمدة ووجد الساكن بلغ مراده، وهو بمعنى الجمع، فصح جمع ضميره، وكاده كيدا عالجه علاجا، أى: بلغوا الأمر الذي كادوه، أي عالجوه لتحصيله.(4/75)
فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد «1»
وقيل: كان يشبح «2» المعذب بين أربع سوار: كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه أُولئِكَ الْأَحْزابُ قصد بهذه لإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب «3» .
ولقد ذكر تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها:
بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلا وبالاستثنائية ثانيا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه، ثم قال فَحَقَّ عِقابِ أى فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم هؤُلاءِ أهل مكة. ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب
__________
(1) .
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد أياد
جرت الرياح على مقر ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهي به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
للأسود بن يعفر. يقول: لا أتمنى شيئا بعدهم من الدنيا. ومحرق: هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدى اللخمي.
والاياد- في الأصل-: تراب يجمع حول الحوض والبيت، يحفظه عن المطر والسيول، من الأيدى: وهو القوة.
وإياد: علم على ابن نزار بن معد، فهو أخو مضر وربيعة. والمراد به هنا القبيلة. وروى: وآل إياد، عطفا على آل محرق. وغنى بالمكان، كرضى: أقام به. والبلى: الانمحاق. والنفاد: الفناء. يقول: تركوا منازلهم:
جملة مستأنفة لبيان نفى التأميل، واعتراضية بين المتعاطفين. وقوله «جرت الرياح» مستأنف لبيان حال القبيلتين، يقول: تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم، وجريان الرياح على مقر الديار، لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح، وذلك كناية عن موتهم، وأفاد أن فناءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله: فكأنهم كانوا على ميعاد واحد، ولقد أقاموا بأرغد عيشة، وشبه الملك الذي به عزهم وصونهم بخيمة مضروبة عليهم، والظل: الترشيح، والأوتاد تخييل. وإذا معناها المفاجأة. أى فظهر بغتة أن كل نعيم لا محالة زائل، أى: فأدركهم المحاق والفناء.
(2) . قوله «وقيل كان يشبح المعذب» أى يمده، أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «قصد بهذه الاشارة الاعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم الذين وجد التكذيب منهم» قال أحمد: وفي تكرار تكذيبهم فائدة أخرى: وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلي قوله تعالى فَحَقَّ عِقابِ على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام وهو كما قدمته في قوله وَكُذِّبَ مُوسى حيث كرر الفعل ليقترن بقوله فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ.(4/76)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
لاستحضارهم بالذكر. أو لأنهم كالحضور عند الله. والصيحة: النفخة ما لَها مِنْ فَواقٍ وقرئ بالضم: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع. يعنى: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وعن ابن عباس: مالها من رجوع، وترداد، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة: ساعة ترجع الدرّ إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.
[سورة ص (38) : آية 16]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
القط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة:
قط، لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أى نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وقيل: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين الجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها. أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.
[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 20]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
فإن قلت: كيف تطابق قوله اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وقوله وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبىّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك، لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب «1» ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلة اليسيرة فلقى من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقى ذَا الْأَيْدِ ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه، كان على نهوضه بأعباء
__________
(1) . قوله «وغمه الواصب» أى: الدائم. (ع)(4/77)
النبوّة والملك يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشدّ الصوم، ويقوم نصف الليل. يقال: فلان أيد، وذو أيد، وذو آد. وأياد كل شيء: ما يتقوّى به أَوَّابٌ توّاب رجاع إلى مرضاة الله فإن قلت: ما ذلك على أنّ الأيد القوّة في الدين؟ قلت: قوله تعالى إِنَّهُ أَوَّابٌ لأنه تعليل لذي الأيد وَالْإِشْراقِ وقت الإشراق، وهو حين تشرق الشمس، أى: تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق «1» . وعن أمّ هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أمّ هانئ هذه صلاة الإشراق «2» . وعن طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقال: كانت صلاة يصليها داود عليه السلام. وعنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.
وعنه: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وكان لا يصلى صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب أنه قال لابن عباس: إنى لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى، يعنى هذه الآية. ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق، ومنه قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ وقول أهل الجاهلية: أشرق «3» ثبير، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق. ويسبحن: في معنى ومسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات «4» ؟ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك، وهو الدلالة
__________
(1) . قال محمود: «الاشراق حين تشرق الشمس، أى يصفو نورها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها.
يقال: شرقت الشمس ولما تشرق. ومنه أخذ ابن عباس صلاة الضحى. قال: ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في وقت الشروق، ويكون المراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بشروق الشمس» قال أحمد: الوجه الثاني يفرق بين العشى والاشراق، فان العشى ظرف بلا إشكال، فلو حمل الاشراق على الدخول في وقت الشروق لكان مصدرا، مع أن المراد به الظرف، لأنه فعل الشمس وصفتها التي تستعمل ظرفا كالطلوع والغروب وشبههما.
(2) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي والبغوي والطبراني كلهم من رواية أبى بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس: حدثتني أم هانئ. ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس «كان لا يصلى الضحى حتى أدخلناه على أم هانئ فقلت لها: أخبرى ابن عباس قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فصلى صلاة الضحى ثمان ركعات. قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: هذه صلاة الاشراق» هذا موقوف وهو أصح.
(3) . قوله «أشرق ثبير» كانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، كما في الصحاح. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت لم اختار يسبحن على مسبحات وأيهما وقع كان حالا، وأجاب بأن اختيارهما لمعنى وهو الدلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء كأن السامع محاضر لها فيسمعها تسبح. ومنه قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق
ولو قال: محرقة لم يكن شيئا. قال أحمد: ولهذه النكتة فرق سحنون من أصحابنا بين: أنا محرم يوم أفعل كذا «بصيغة اسم الفاعل. وبين أحرم بصيغة المضارع. فرأى أن المعلق بصيغة اسم الفاعل يكون محرما بوجود صيغة التعليق، ولا كذلك المعلق بصيغة الفعل المضارع، فانه لا يكون محرما حتى يحرم ويقال له أحرم، فكأنه رأى أن صيغة الفعل خصوصية في الدلالة على حدوثه، ولا كذلك اسم الفاعل وإن كان متأخرا. وأصحابنا اختلفوا في معنى قول سحنون في اسم الفاعل يكون محرما يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد الفور فينشئ إحراما، ومنهم من قال: يكون محرما في الحال بالتعليق الأول ولا يجدد شيئا. ومذهب مالك: التسوية بين صيغتي اسم الفاعل والفعل في هذا المقام والله أعلم. وحقق الزمخشري هذا الفرق بين اسم الفاعل والفعل في قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ فقال:
لما كان الواقع حشر الطير دفعة واحدة، وكان ذلك أدل على القدرة، لم يكن لاستعمال الفعل الدال على الحدوث شيئا فشيئا معنى، فاستعمل فيه اسم المفعول على خلاف استعمال الفعل في الأول.(4/78)
على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق «1»
ولو قال: محرقة، لم يكن شيئا. وقوله مَحْشُورَةً في مقابلة: يسبحن: إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا.
وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن- على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء.
والحاشر هو الله عز وجل- لكان خلفا، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: والطير محشورة. بالرفع كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أى: لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح: إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب- وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أى: كل من داود والجبال والطير لله أؤاب، أى مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قوّيناه، قال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ وقرئ شددنا على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم «2» يحرسونه وقيل:
الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فقتله،
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثالث صفحة 63 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «مستلئم» أى: لا بس اللأمة، وهي الدرع. أفاده الصحاح. (ع)(4/79)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
فهابوه الْحِكْمَةَ الزبور وعلم الشرائع. وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة. الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل، بمعنى المفصول كضرب الأمير، لأنهم قالوا: كلام ملتبس، وفي كلامه لبس. والملتبس: المختلط، فقيل في نقيضه: فصل، أى مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه: أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ إلا موصولا بما بعده، ولا وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ حتى يصله بقوله لا تَعْلَمُونَ ونحو ذلك، وكذلك مظانّ العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وأردت بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. هو قوله: البينة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله «أمّا بعد» لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه: فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أمّا بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ. ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل لا نذر ولا هذر «1» .
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 22]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)
كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوّجها وهي أمّ سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك: لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر
__________
(1) . هو حديث أم معيد. وقد تقدم في سورة الأعراف، وفي الأدب لأبى داود من حديث عائشة «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلا يفهمه من سمعه» .(4/80)
على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأمّا ما يذكر أنّ داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلى ابراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا، فاحترس، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتدّ إليها، فطارت فوقعت في كوّة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء، «1» فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء. أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد، ففتح الله على يده وسلم، فأمر بردّه مرة أخرى، وثالثة، حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، «2» فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد ابن المسيب والحرث الأعور: أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء «3» . وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك.
وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر:
لسماعى هذا الكلام أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطإ فيه من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا
__________
(1) . قوله «من غزاة البلقاء» في الصحاح: مدينة بالشام. (ع)
(2) . قوله «من أفناء المسلمين» في الصحاح: يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو. وعبارة النسفي بدل قوله: فهذا ونحوه ... الخ: فلا يليق من المتسمين ... الخ. (ع)
(3) . لم أجده(4/81)
وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله ومقياسا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟
قلت: ليحكم بما حكم به من قوله لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم:
الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع، كالضيف. قال الله تعالى حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصما، كما تقول: ضافه ضيفا. فإن قلت:
هذا جمع. وقوله خَصْمانِ تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: خصمان بغى بعضهم على بعض: ونحوه قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فإن قلت: فما تصنع بقوله إِنَّ هذا أَخِي وهو دليل على اثنين؟
قلت: هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت: فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعا خصما في قوله نَبَأُ الْخَصْمِ وخَصْمانِ؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب إِذْ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبإ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك، لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبإ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبإ: القصة في نفسها لم يكن ناصبا، فبقى أن ينتصب بمحذوف، وتقديره:
وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية: تسنمه، إذ علا سنامه، وتذرّاه: إذا علا ذروته. روى أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان فَفَزِعَ مِنْهُمْ قال ابن عباس: إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بنى إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم، ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه خَصْمانِ(4/82)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
خبر مبتدإ محذوف، أى: نحن خصمان وَلا تُشْطِطْ ولا تجر. وقرئ: ولا تشطط، أى:
ولا تبعد عن الحق. وقرئ: ولا تشطط. ولا تشاطط، وكلها من معنى الشطط: وهو مجاوزة الحدّ وتخطى الحق. وسَواءِ الصِّراطِ وسطه ومحجته: ضربه مثلا لعين الحق ومحضه.
[سورة ص (38) : آية 23]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
أَخِي بدل من هذا أو خبر لإنّ. والمراد أخوّة الدين، أو أخوّة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ كل واحدة من هذه الأخوات تدلى بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ: تسع وتسعون، بفتح التاء. ونعجة، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات، نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة «1» أَكْفِلْنِيها ملكنيها.
وحقيقته: اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي وغلبني. يقال: عزه يعزه. قال:
قطاة عزّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح «2»
يريد: جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أردّه به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل:
أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا، أى: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث زوّجها دوني. وقرئ: وعازني، من المعازة وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: وعزنى، بتخفيف الزاى طلبا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلا وكلامهم تمثيلا، لأنّ التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا، وللتنبيه على أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما يستسمج الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته. ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ
__________
(1) . قوله «نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة» في الصحاح: «النطع» فيه أربع لغات. وفيه «اللقوة» : داء في الوجه، والناقة السريعة اللقاح، والعقاب: الأنثى، واللقوة- بالكسر-: مثله. (ع)
(2) .
كأن القلب ليلة قيل يفدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
لقيص بن الملوح مجنون ليلى العامرية، وقطاة: خبر كأن. وعزها: بمهملة فمعجمة، بمعنى: غلبها وحبسها، يقال:
عز يعز بالكسر: تعظم، وبالفتح: قوى. وعزه يعزه- بالضم-: غلبه، وما هنا من الثالث: شبه قلبه حين سمع برحيلها بحمامة أمسك الشرك جناحها في كثرة الخفقان والاضطراب. [.....](4/83)
مراده، والدليل عليه قوله وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وإنما خص هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة. فإن قلت: إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم. قلت: الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له «1»
فرميت غفلة عينه عن شاته «2»
وشبهها بالنعجة من قال:
كنعاج الملا تعسّفن رملا «3»
__________
(1) .
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علىّ وليتها لم تحرم
لعنترة من معلقته يتذكر محبوبته بعد وقوع الحرب بينه وبين قبيلتها، فلذلك حرمت عليه. وقيل: كان تزوجها أبوه فحرمت عليه، شبهها بالشاة الوحشية في الحسن والجمال والفرة عن الرجال، وأن كلا يصطاد بالاحتيال على طريق الاستعارة التصريحية، وذكر القنص ترشيح، لأنه يلائم الشاة. وما زائدة، أى يا شاة القنص تعالى، فهذا وقت التفكر في شأنك. وقيل: المنادى محذوف، أى: يا قوم أحضروا شاة قنص، وتعجبوا من حالها. والقنص:
الصيد، والقنص- بالتحريك- والقنيص: المصيد. ويروى: يا شاة من قنص، فقيل: من زائدة، بناء على مذهب الكوفيين، من جواز زيادة الأسماء. وقيل: نكرة موصوفة. وقنص صفتها من باب الوصف بالمصدر، أى:
يا شاة إنسان قابص. ولمن حلت: متعلق بمحذوف صفة لها، وحرمت على: التفات على القول بندائها، وهو صفة لها، أو استئناف بين به شأنها، وتمنى عدم حرمتها: ندم على ما وقع من سبب الحرمة.
(2) .
قد كنت رائدها وشاة محاذر ... حذر يقل بعينه إغفالها
فظللت أرعاها وظل يحوطها ... حتى دنوت إذا الظلام دنا لها
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلها وطحالها
للأعشى. وقيل: لعمر بن أبى ربيعة. وضمير رائدها مرجعه في البيت قبله كامرأة أو مفازة، ثم قال: ورب شاة رجل محاذر، فاستعار الشاة للمرأة الجميلة على طريق التصريحية. والمحاذر: الذي يحاذر غيره ويخاف مكره. والحذر:
كثير الحذر مستمره، يقل: بضم أوله، من أقل الرباعي. وإغفالها، أى: إغفال عينه، فظللت أراقب الشاة وظل هو يحفظها، حتى قربت لها حين قرب الظلام ودخل الليل، فرميت شاته حين غفلة عينه عن شاته التي كان يحفظها وفيه نوع تهكم به، وأضاف الغفلة إلى العين دون الشخص لأنها المذكورة أولا، وللدلالة على قصر الزمن وسرعة الظفر، ولأن القلب لا يغفل عنها لعزتها عنده، بل يذكرها في النوم. وأما العين فتغفل، فأصبت حبة ملبها أى وسطه، وأصبت طحالها، والرمي ترشيح للاستعارة، لأنه من ملائمات الشاة. ويصح أن يكون هذا البيت استعارة تمثيلية، حيث شبه حالة ظفره بمراده على حين غفلة من الرقيب وإصابة أحشاء المرأة بالحب، بحال من ظفر برمي الشاة بالسهم على غفلة من الراعي، بل يصح أن يكون قوله: وشاة محاذر ... إلى آخر الأبيات: استعارة تمثيلية لتلك الحال، ولا استعارة في الشاة وحدها على هذا.
(3) .
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الفلا تعسفن رملا
وتنقبن بالحرير وأبدين ... عيونا حور المداعج نجلا
لعمر بن أبى ربيعة. وزهر: عطف على ضمير الفاعل المتصل، ومجيئه بلا فصل قليل. وتهادى: أصله تتهادى، حذف منه إحدى التاءين، وهو صفة زهر. وشبههن بالنعاج الوحشية في حسن المشية وسعة العيون وسوادها.
والزهر: جمع زهراء، أى: بيضاء، والفلا: القفر الخالي. والتعسف: الميل عن سواء السبيل، وهو حال من النعاج. ورملا: نصب على نزع الخافض، أى: تمايلن في رمل. وتنقبت المرأة: لبست النقاب. وحور: جمع حوراء، أى: صافيات. والمداعج: الحدقات، من الدعج وهو اتساع سواد العين. والنجل: جمع نجلاء، أى: واسعات.(4/84)
لولا أنّ الخلطاء تأباه، إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلا لهم ولقصتهم «1» . فإن قلت.
الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسى، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد «2» وتقول أيضا في تصويرها: لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها. وما لكما من الأربعين أربعة ولاربعها فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى «3» ؟ قلت: يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله:
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة، فان كان من الخطبة فما وجهه؟ قال: الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة، كما استعاروا لها الشاة في قوله:
يا شاة ما قنص لمن حلت له
إلا أن لفظ الخلطاء يأباه: اللهم إلا أن يكون ابتداء مثل من داود عليه السلام» قال أحمد: والفرق بين التمثيل والاستعارة: أنه على التمثيل، يكون الذي سبق إلى فهم داود عليه السلام: أن التحاكم على ظاهره، وهو التخاصم في النعاج التي هي الهائم، ثم انتقل بواسطة التنبيه إلى فهم أنه تمثيل لحاله. وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما: التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية، ثم استشعر أنه هو المراد بذلك.
(2) . قوله «وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد» في الصحاح: ما له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير.
والسبد: من الشعر، واللبد: من الصوف. (ع)
(3) . قال محمود: «فان قلت: فما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى. وأجاب بأنه يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، ومعناه: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم إياها بالكسول والمكسال، كقوله:
فتور القيام قطيع الكلام
قال أحمد: ولكن قوله وَلِيَ نَعْجَةٌ إنما أورده على سبيل التقليل لما عنده والتحقير، ليستجل على خصمه بالبغي لطلبه هذا القليل الحقير وعنده الجم الغفير، فكيف يليق وصف ما عنده والمراد تقليله بصفة الحسن التي توجب إقامة عذر ما لخصمه، ولذلك جاءت القراءة المشهورة على الاقتصار على ذكر النعجة، وتأكيد قلتها بقوله واحِدَةٌ فهذا إشكال على قراءة ابن مسعود، يمكن الجواب عنه بأن القصة الواقعة لما كانت امرأة أوريا الممثلة بالنعجة فيها مشهورة بالحسن، وصف مثالها في قصة الخصمين بالحسن زيادة في التطبيق، لتأكيد التنبيه على أنه هو المراد بالتمثيل.(4/85)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
فتور القيام قطيع الكلام «1»
وقوله:
تمشى رويدا تكاد تنغرف «2»
[سورة ص (38) : الآيات 24 الى 25]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
لَقَدْ ظَلَمَكَ جواب قسم محذوف. وفي ذلك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه.
والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله تعالى مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وقد ضمن معنى الإضافة فعدّى تعديتها، كأنه قيل بإضافة نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ على وجه السؤال والطلب. فإن قلت:
كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه «3» ؟ قلت: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم. ويروى أنه قال: أنا أريد أن
__________
(1) .
فتور القيام قطوع الكلام ... لعوب العشاء إذا لم تنم
تبذ النساء بحسن الحديث ودل رخيم وخلق عمم
الفترة: ضعف حركة الأعضاء في العمل، فهي كثيرة الفترة في القيام. وقطوع الكلام: أى قليلته، أو كأنها لا تقدر على إتمام الألفاظ للينها واستحيائها، فكأنها تقطعها تقطيعا، كثيرة اللعب في وقت العشاء مع زوجها، وإذا لم تنم: إشارة إلى أنها قد تنام من أول الليل، وهو وصف لها بالكسل الذي هو من توابع اللين والأنوثة.
وبذ الرجل: إذا ساء خلقه ورث حاله وبذه الرجل: إذا غلبه، أى تغلبهن بحسن الحديث، والدل والدلال، والتيه، والتغنج، والتشكل، والتكسر، والرخاوة، والرخامة، ورقة الصوت ولينه، والتمنع مع الرضاء. واعتم النبت: طال، واعتم الشيء: تم، وجسم عميم: تام، والجمع عمم، كسرير وسرر، ورجل عمم- بالافراد-:
أى تام، فالمراد أن خلقها أى جسمها تام حسن.
(2) .
ما أنس سلمى غداة تنصرف ... تمشى رويدا تكاد تنغرف
حذف ألف أنس للوزن، أى: لا أنساها، بل أتذكرها وقت انصرافها، وتمشى: بدل مما قبله. وعبر بالمضارع لاستحضار الصورة المستحسنة. ورويدا: نصب بتمش، أى: مشيا بتؤدة وأناة، تكاد تنغرف: أى تنقطع وتنكسر.
وغرفته فانغرف. قطعته فانقطع، أو تكاد تؤخذ من الأرض، كما يغرف الماء باليد، فكأنها ماء لتنكلها وتقطعها في تبخترها. وفرس غروف: كثير الأخذ من الأرض بقوائمه.
(3) . قال محمود: «فان قلت كيف سارع بتصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، وأجاب بأن ذلك كان بعد اعتراف خصمه ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم» قال أحمد: ويحتمل أن يكون ذلك من داود على سبيل الفرض والتقدير، أى: إن صح ذلك فقد ظلمك.(4/86)
آخذها منه وأكمل نعاجى مائة، فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة، فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما وقع فيه والْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد: خليط، وهي الخلطة، وقد غلبت في الماشية، والشافعي رحمه الله يعتبرها، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة، أو لكل واحد منهما ماشية على حدة إلا أنّ مراحهما ومساقهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة: فهما يزكيان زكاة الواحد فإن كان لهما أربعون شاة فعليهما شاة. وإن كانوا ثلاثة ولهم مائة وعشرون لكل واحد وأربعون، فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد. وعند أبى حنيفة: لا تعتبر الخلطة، والخليط والمنفرد عنده واحد، ففي أربعين بين خليطين: لا شيء عنده، وفي مائة وعشرين بين ثلاثة: ثلاث شياه. فإن قلت: فهذه الخلطة ما تقول فيها؟ قلت: عليهما شاة واحدة، فيجب على ذى النعجة أداء جزء من مائة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله، وعند أبى حنيفة لا شيء عليه، فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكرّه إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأنّ له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ: ليبغى بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة، وحذفها كقوله:
اضرب عنك الهموم طارقها «1»
وهو جواب قسم محذوف. وليبغ: بحذف الياء، اكتفاء منها بالكسرة، وما في وَقَلِيلٌ ما هُمْ للإبهام. وفيه تعجب من قلتهم. وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها، من قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره «2»
__________
(1) .
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس
لطرفة بن العبد، وقال أبو حاتم وابن برى: هو مصنوع عليه. واضرب فعل أمر بنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة تقديرا، وحذفها لغير وقف ولالتقاء الساكنين قليل. وقيل ضرورة كما هنا. والمعنى: ادفع عنك الهموم، فهو استعارة مضرحة. وضربك بالسوط، أى: كضربك به ترشيح، وطارقها: بدل من الهموم، أى الفاشي لك منها، والسوط: معمول من جلد تساق به الفرس. ويروى: بالسيف، لكنه غير ملائم للفرس، بل للفارس. وقونسها: أعلى رأسها. وقيل: شعر عنقها. ويجوز تشبيه الهموم بحيوان يصح ضربه على طريق المكنية، والضرب تخييل، والطروق ترشيح.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 75 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/87)
وانظر هل بقي له معنى قط. لما كان الظنّ الغالب يدانى العلم، استعير له. ومعناه: وعلم داود وأيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا، هل يثبت أو يزل؟ وقرئ: فتناه، بالتشديد للمبالغة. وأفتناه، من قوله:
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت «1»
وفتناه وفتناه، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحنى ويخضع كالساجد. وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أنّ الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى: وخرّ للسجود راكعا أى مصليا، لأنّ الركوع يجعل عبارة عن الصلاة وَأَنابَ ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل. وروى أنه بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بدّ منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها. وقيل: إنّ الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدّق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته «2»
__________
(1) .
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلى كل مسلم
وألقى مصابيح القراءة واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
للأعشى الهمداني. وفتنته المرأة- بالتخفيف والتشديد- وأفتنته: دلهته وحيرته. و «لهى بالأمس أفتنت» جواب القسم المدلول عليه باللام في قوله: لئن فتنتني. وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. والمعنى: إن فتنتني فلا أحزن ولا أتعجب، فان تلك عادتها من قبل، فالمراد بالأمس: الزمن الماضي. وسعيد: هو ابن جبير، كان عالما تقيا. وقلى كل مسلم، أى: بغض كل مسلم سواها. وعبر بالمسلم، لأنه يبعد بغضه. والمصابيح: يجوز أنها حقيقة، وأنها مجاز عن الكتب. والغواني: الجميلات. والمنمنم: المحسن بنقوش الكتابة.
(2) . قال محمود: «ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهاتر والسراري والثاني معسرا وماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وفزع داود، وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه إلى الظلم قبل مسألته» قال أحمد: مقصود هذا القائل تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة في نسبة الظلم إلى المدعى عليه، لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون الباعث عليه الشهوة والهوى، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس، وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: داود وغيره- منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤن من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى.(4/88)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
[سورة ص (38) : آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أى استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه. وجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أنّ حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أى بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته وَلا تَتَّبِعِ هوى النفس في قضائك وغيره مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا فَيُضِلَّكَ الهوى فيكون سببا لضلالك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها.
ويَوْمَ الْحِسابِ متعلق بنسوا، أى: بنسيانهم يوم الحساب، أو بقوله لهم، أى: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله. وعن بعض خلفاء بنى مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجرى عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.
[سورة ص (38) : آية 27]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
باطِلًا خلقا باطلا، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو مبطلين عابثين، كقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وتقديره: ذوى باطل.
أو عبثا، فوضع باطلا موضعه، كما وضعوا هنيئا موضع المدر، وهو صفة، أى ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أن خلقناها نفوسا «1» أودعناها العقل
__________
(1) . قوله «وهو أن خلقنا نفوسا» عبارة النسفي: وهو أنا خلقنا نفوسا. (ع) [.....](4/89)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
والتمييز، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم. وذلِكَ إشارة إلى خلقها باطلا، والظن: بمعنى المظنون، أى: خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت: إذا كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة. قلت: لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب، مؤديا إلى أن خلقها عبث وباطل، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه، لأنّ الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، فكان إقراره بكونه خالقا كلا إقرار.
[سورة ص (38) : آية 28]
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
أَمْ منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، وأتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما.
[سورة ص (38) : آية 29]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
وقرئ: مباركا، وليتدبروا: على الأصل، ولتدبروا: على الخطاب. وتدبر الآيات:
التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ، لم يحل منه بكثير طائل، «1» وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، «2» لا كثر
__________
(1) . قوله لم يحل منه بكثير طائل» في الصحاح: قولهم «لم يحل منه بطائل» أى: لم يستفد منه كبير فائدة وفيه: اللقح- بالكسر-: الإبل بأعيانها، الواحدة: لقوح، وهي الحلوب، مثل: فلوص وقلاص: واللقحة:
اللقوح، والجمع لقح مثل قربة قرب، وفيه: ناقة درور، أى: كثيرة اللبن. وفيه: النثور، أى: كثيرة الولد.
(2) . قوله «ولا الوزعة» جمع وازع، وهو الذي يكف عن الضرر، والذي يتقدم الصف فيصلحه بالتقديم والتأخير. أفاده الصحاح. (ع)(4/90)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
وقرئ: نعم العبد، على الأصل، «1» والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحا بكونه أوّابا رجاعا إليه بالتوبة. أو مسبحا مؤوّبا للتسبيح مرجعا له، لأن كل مؤوّب أوّاب.
والصافن: الذي في قوله:
ألف الصّفون فما يزال كأنّه ... ممّا يقوم على الثّلاث كسيرا «2»
وقيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل: هو المتخيم. وأما الصافن: فالذي يجمع بين يديه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوّأ مقعده من النار» «3» أى: واقفين كما خدم الجبابرة. فإن قلت: ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت: الصفون لا يكاد يكون في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص. وقيل: وصفها بالصفون والجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعنى: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها. وروى أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل:
خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوما بعد ما صلى الأولى على كرسيه «4» واستعرضها، فلم
__________
(1) . قوله «وقرئ نعم العبد على الأصل» لعله بفتح النون وكسر العين، كما يفيده الصحاح. (ع)
(2) . لامرئ القيس. وقيل: للعجاج يصف فرسا. والصفون- بالمهملة-: الوقوف على سنبك يد أو رجل.
والسنبك: طرف حافر الفرس. والصفون- بالمعجمة-: الجمع بين اليدين في الوقوف، ومما يقوم: خبر كان، أى: أحب الصفون، كأنه من الجنس الذي يقوم على ثلاث قوائم. أو كأنه مخلوق من القيام على ثلاثة كخلق الإنسان من عجل، حال كونه مكسور القائمة الرابعة، أو كاسرها أى ثانيها، فما موصولة أو مصدرية. وكسيرا:
حال، والجملة: خبر يزال، وهذا ما استقر عليه رأى ابن الحاجب في الأمالى بعد كلام طويل، ولو جعلت ما مصدرية، وكسيرا: خبر كأن، كان حقه الرفع، ولو جعلته خبر يزال كما اختاره ابن هشام، لكان المعنى:
فلا يزال كسيرا، كأنه مما يقوم على الثلاث على ما مر. ويجوز أن يكون المعنى: فلا يزال كسيرا من قيامه على الثلاث، وكأنه اعتراض، وخبره محذوف، أى كأنه كسير. وفائدته الاحتراس.
(3) . لم أجده هكذا وفي السنن حديث معاوية «من سره أن يتمثل الناس له قياما» وفي الغريب لأبى عبيد من حديث البراء رضى الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه قمنا معه صفوفا.
(4) . قوله «بعد ما صلى الأولى على كرسيه» عبارة النسفي. صلى الظهر. (ع)(4/91)
تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشى، وتهيبوه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته، فاستردها وعقرها مقربا «1» لله، وبقي مائة، فما بقي في أيدى الناس من الجياد فمن نسلها، وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرا منها، وهي الريح تجرى بأمره. فإن قلت: ما معنى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي؟ قلت: أحببت: مضمن معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربى. أو جعلت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربى. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أن «أحببت» بمعنى: لزمت، من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبّا «2»
وليس بذاك. والخير: المال، كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً وقوله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ والمال: الخيل التي شغلته. أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة «3» » وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل» «4» وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالا رضى الله عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير «5» .
__________
(1) . قوله «وعقر ما مقربا لله» عبارة النسفي: تقربا. (ع)
(2) .
كيف قربت عمك القرشبا ... حين أتاك لاغبا مخبا
حلت عليه بالقفيل ضربا ... تبا لمن بالهون قد ألبا
مثل بعير السوء إذ أحبا
لأبى محمد الفقعسي. والقرشب- بكسر أوله وفتح ثالثه-: المسن، واللاغب، من اللغوب: وهو التعب. والمخب من أخبه: إذا حمله على الخبب، وهو نوع من السير. أو من أخب: إذا لزم المكان كما قيل. وحلت: أى قمت ووثبت عليه. والقفيل: السوط. وضربا: بمعنى ضاربا. أو تضربه ضربا. والتب: الهلاك، وهو دعاء عليه، وفعله محذوف وجوبا. والهون- بالضم-: الهوان. وألب بالمكان: أقام به، ورواه الأصمعى هكذا:
كيف قربت شيخك الأذبا ... لما أتاك يابسا قرشبا
قمت عليه بالقفيل ضربا ... مثل بعير السوء إذ أحبا
والذيب: كثرة الشعر وطوله. والأذب: البعير الذي نبت على حاجبيه شعيرات، فإذا ضربته الريح نفر وماج.
وقال الجوهري: الاخباب: البروك. وهو في الإبل كالحران في الخبل.
(3) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(4) . ذكره ابن إسحاق في المغازي بغير سند، والبيهقي في الدلائل من طريقه. وذكره ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له مقطوعة
(5) . أخرجه ابراهيم الحربي من رواية مغيرة عن الشعبي قال «كان رهان. فقال رجل لبلال: من سبق، قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمن صلى؟ قال: أبو بكر. قال: إنما أعنى في الخيل» قال: وأنا أعنى في الخير»(4/92)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن توارى الملك. أو المخبأة بحجابهما. والذي دل على أن الضمير للشمس مرور ذكر العشى، ولا بد للمضمر من جرى ذكر أو دليل ذكر.
وقيل: الضمير للصافنات، أى: حتى توارت بحجاب الليل يعنى الظلام. ومن بدع التفاسير:
أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه فَطَفِقَ مَسْحاً فجعل يمسح مسحا، أى يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعنى: يقطعها. يقال: مسح علاوته، إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب «1» إذا قطع أطرافه بسيفه. وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها، أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف. وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها. فإن قلت: بم اتصل قوله رُدُّوها عَلَيَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردّوها علىّ، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا، وهو اشتغال نبىّ من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقرئ: بالسؤق، بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغئور، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى: ونظير ساق وسوق: أسد وأسد.
وقرئ: بالساق، اكتفاء بالواحد عن الجمع، لأمن الإلباس.
[سورة ص (38) : آية 34]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة. وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته:
أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغذوه في السحابة «2» فما راعه إلا أن ألقى على كرسيه ميتا، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون «3» ، فذلك قوله تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ. وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشياطين وعبادة
__________
(1) . قوله «ومسح المسفر الكتاب» الذي في الصحاح: سفرت الكتاب أسفره سفرا. وسفرت المرأة:
كشفت عن وجهها. وأسفر الصبح: أى أضاء. وأسفر وجهه حسنا، أى: أشرق، فليحرر. (ع)
(2) . قوله «فكان يغذوه» في الصحاح: غذوت الصبي باللبن، أى ربيته به فاغتذى. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. [.....](4/93)
الوثن في بيت سليمان، فالله أعلم بصحته «1» حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر، وأنّ بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها، وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهنّ في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرّعا، وكانت له أمّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر- وهو الذي دلّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة خاتمي، فتختم به وجلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه، ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان، وسأل آصف نساء سليمان فقلنا: ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة.
وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهنّ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به ووقع ساجدا، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرة لصخر «2» فجعله فيها، وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر. وقيل: لما افتتنن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقرّ في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهنّ: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وأما السجود للصورة فلا يظن بنبىّ الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه. وقوله وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ناب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّا ظاهرا.
__________
(1) . أخرجه النسائي في التفسير من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده قوى وأخرجه ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس قريبا مما أورده المصنف.
(2) . قوله «وجاب صخرة لصخر» أى: خرق أو قطع أفاده الصحاح. (ع)(4/94)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
[سورة ص (38) : آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
قدّم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم لا يَنْبَغِي لا يتسهل ولا يكون. ومعنى مِنْ بَعْدِي دوني. فإن قلت: اما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطى الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوّة ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وقيل: ملكا لا أسلبه ولا يقوم غيرى فيه مقامي، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيرى. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. وعن الحجاج أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد منى من قال هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكى عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله، لأنه شرط في طاعته فقال فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وأطلق طاعتنا فقال وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 40]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قرئ: الريح، والرياح رُخاءً لينة طيبة لا تزعزع. وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه حَيْثُ أَصابَ حيث قصد وأراد. حكى الأصمعى عن العرب: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن(4/95)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
رؤبة أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟
فقالا: هذه طلبتنا ورجعا، ويقال: أصاب الله بك خيرا وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ بدل من الشياطين وَآخَرِينَ عطف على كل داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل: كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر، وكان يقرّن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدى: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع «1» . والصفد القيد، وسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه. ومنه قول علىّ رضى الله عنه: من برّك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك. ومنه قول القائل: غل يدا مطلقها، وأرقّ رقبة معتقها. وقال حبيب: إنّ العطاء إسار، وتبعه من قال:
ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا «2»
وفرقوا بين الفعلين فقالوا: صفده قيده، وأصفده أعطاه، كوعده وأوعده، أى هذا الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة عَطاؤُنا بغير حساب، يعنى: جما كثيرا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره فَامْنُنْ من المنة وهي العطاء، أى: فأعط منه ما شئت أَوْ أَمْسِكْ مفوّضا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود: هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب، أو هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أى لا حساب عليك في ذلك.
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
__________
(1) . قوله «في الجوامع» في الصحاح «الجامعة» : الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. (ع)
(2) .
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
للمتنبي، يقول: تركت سير الليل وراء ظهري، أى: بالغت في تركه لمن قل ماله، لأنه لا زال يبتغيه، واكتفيت بنعمتك العظمى، وشبه الآمال التي امتدت إليه وبلغت مناها، بأفراس منعلة بالذهب على طريق التصريحية والانعال ترشيح. ويجوز أن ذلك كناية عن عظم النعمة، واستعار التقييد للمنع عن التطلع لغير الممدوح وقصر المدح عليه.
ويجوز أنه شبه نفسه بحيوان، والتقييد: تخييل. والذرا- بالفتح-: كل ما ستر الشيء، يقال: أنا في ظل الجبل وفي ذراه، أو في ظل فلان وفي ذراه، أى: في كنفه وحماه، ومحبة: مفعول لأجله، وشبه الإحسان بالقيد لأنه سبب استملاك النفس.(4/96)
أَيُّوبَ عطف بيان. وإِذْ بدل اشتمال منه أَنِّي مَسَّنِيَ بأنى مسنى: حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه: لأنه غائب. وقرئ بِنُصْبٍ بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب: كالرشد والرشد، والنصب: على أصل المصدر، والنصب: تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسى فيه من أنواع الوصب «1» . وقيل: الضرّ في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضى من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتدّ أحدهم، فسأل عنه فقيل ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلى الأنبياء والصالحين، وذكر في سبب بلائه أنّ رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يغزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية ما أجيب به أيوب، أى: اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة: هي أرض الجابية «2» فضربها، فنبعت عين فقيل هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أى هذا ماء تغتسل به وتشرب منه، فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب مآبك قلبة «3» . وقيل: نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله، وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى مفعول لهما. والمعنى: أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب، لأنهم إذا سمعوا بما
__________
(1) . قوله «من أنواع الوصب» في الصحاح «الوصب» : المرض. (ع)
(2) . قوله «هي أرض الجابية» مدينة بالشام كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وتنقلب ما بك قلبة» في الصحاح «القلاب» داء يأخذ البعير. وقولهم: ما به قلبة، أى: ليست به علة. (ع)(4/97)
أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم وَخُذْ معطوف على اركض. والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس: قبضة من الشجر، كان حلف في مرضه ليضربنّ امرأته مائة إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وهذه الرخصة باقية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بمخدج «1» قد خبث بأمة، فقال: «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة» «2» ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة، إمّا أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة مع وجود صورة الضرب، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره، وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام. وقيل: قال لها الشيطان اسجدي لي سجدة فأردّ عليكم ما لكم وأولادكم، فهمت بذلك فأدركتها العصمة، فذكرت ذلك له، فحلف. وقيل: أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ، فعرضت له بذلك. وقيل:
سألته أن يقرب للشيطان بعناق وَجَدْناهُ صابِراً علمناه صابرا. فإن قلت: كيف وجده صابرا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعا، ولقد قال يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمنى العافية وطلبها، فإذا صحّ أن يسمى صابرا مع تمنى العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرا مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة.
حيث كان الشيطان بوسوس إليهم كما كان يوسوس اليه أنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصرى، ولم يهبني ما ملكت يمينى، «3» ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان، فكشف الله عنه.
__________
(1) . قوله «إنه أتى بمخدج» الخداج: النقصان، وأخدجت الناقة: إذا جاءت بولدها ناقص الخلق، وإن كانت أيامه تامة فهي مخدج، والولد مخدج، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه النسائي وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبزار والطبراني من رواية أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن عبادة. قال «كان بين أبياتنا رجل ضعيف مخدج، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها- الحديث» قال البزار: لم يرد إلا هذا، واختلف في إسناده. فقيل هكذا. وقيل عن أبى الزناد عن أبى أمامة مرسلا ورواه أبو داود من وجه آخر عن أبى أمامة أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) . قوله «ولم يهبني ما ملكت يميني» أى لم ينشطنى ولم يهيجني، من هبت الريح: أى هاجت، وهب البعير:
أى نشط، كما في الصحاح. (ع)(4/98)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
[سورة ص (38) : الآيات 38 الى 47]
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ عطف بيان لعبادنا. ومن قرأ: عبدنا، جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا، وهي إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس: وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدى غلبت، فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدى. أو كان العمال جذما لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يريد: أولى الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ: أولى الأيادى، على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: أولى الأيد، على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد-: قلق غير متمكن أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بذكرى الدار، شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى ذِكْرَى الدَّارِ: ذكراهم الآخرة دائبا، ونسيانهم اليها ذكر الدنيا. أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل. ذكرى الدار. الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأوّل قراءة من قرأ: بخالصتهم الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم. والْأَخْيارِ جمع خير، أو خير، على التخفيف، كالأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (38) : آية 48]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
وَالْيَسَعَ كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: والليسع، كأن حرف التعريف(4/99)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
دخل على ليسع، فيعل من اللسع. والتنوين في وَكُلٌّ عوض من المضاف اليه، معناه:
وكلهم من الأخيار.
[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 52]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52)
هذا ذِكْرٌ أى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن، لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل، ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، «1» قال: هذا ذكر، ثم قال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه: أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار. قال: هذا وإن للطاغين. وقيل: معناه هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هذا ذكر من مضى من الأنبياء جَنَّاتِ عَدْنٍ معرفة لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب. ومُفَتَّحَةً حال، والعامل فيها ما في لِلْمُتَّقِينَ من معنى الفعل. وفي مُفَتَّحَةً ضمير الجنات. والأبواب بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. وقرئ: جنات عدن مفتحة، بالرفع، على أن جنات عدن مبتدأ، ومفتحة خبره.
أو كلاهما خبر مبتدإ محذوف، أى: هو جنات عدن هي مفتحة لهم، كأن اللدات سمين أترابا، لأن التراب مسهن في وقت واحد، وانما جعلن على سنّ واحدة، لأن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هنّ أتراب لأزواجهن، أسنانهنّ كأسنانهم:
[سورة ص (38) : الآيات 53 الى 54]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
قرئ: يوعدون، بالتاء والياء لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل يوم الحساب، كما تقول: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أى: ليوم تجزى كل نفس ما عملت.
__________
(1) . قال محمود: «إنما قال: هذا ذكر ليذكر عقبه ذكرا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر» قال أحمد: وكما ما يقول الفقيه إذا ذكر أدلة المسألة عند تمام الدليل الأول: هذا دليل ثان كذا وكذا إلى آخر ما في نفسه، ويدل عليه أنه عند انقضاء ذكر أهل الجنة قال: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فذكر أهل النار.(4/100)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 61]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
هذا أى الأمر هذا: أو هذا كما ذكر فَبِئْسَ الْمِهادُ كقوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم، أى: هذا حميم فليذوقوه. أو العذاب هذا فليذوقوه، ثم ابتدأ فقال: هو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أو: هذا فليذوقوه بمنزلة وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أى ليذوقوا هذا فليذوقوه، والغساق- بالتخفيف والتشديد-: ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين، إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. وقيل: لو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضى الله عنه. الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى.
إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة وَآخَرُ ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة أَزْواجٌ أجناس. وقرئ: وآخر، أى: وعذاب آخر. أو مذوق آخر.
وأزواج: صفة لآخر، لأنه يجوز أن يكون ضروبا. أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله. وقرئ: من شكله، بالكسر «1» وهي لغة. وأما الغنج «2» فبالكسر لا غير هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أى دخل النار في صحبتكم وقرانكم، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة: الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض، أى: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبا، أى:
أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا: أو رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.
__________
(1) . قوله وقرئ «من شكله بالكسر وهي لغة» أى في الشكل بمعنى المثل. (ع)
(2) . «وأما الغنج فبالكسر لا غير» في الصحاح: الغنج والغنج: الشكل، وقد غنجت الجارية وتغنجت، فهي غنجة. وفيه: الشكل- بالفتح-: المثل، وبالكسر: الدل، يقال: امرأة ذات شكل. (ع)(4/101)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
وبِهِمْ بيان للمدعو عليهم إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تعليل لاستيجابهم للدعاء عليهم. ونحوه قوله تعالى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها وقيل: هذا فوج مقتحم معكم: كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم. ولا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كلام الرؤساء. وقيل: هذا كله كلام الخزنة قالُوا أى الأتباع بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا والضمير للعذاب أو لصلبهم. فإن قلت: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت: المقدم هو عمل السوء. قال الله تعالى ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ولكن الرؤساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه: قيل أنتم قدمتموه لنا، فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدّم، فجمع بين مجازين، لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لا رؤساؤهم، والعمل هو المقدم لاجزاؤه. فإن قلت: فالذي جعل قوله لا مَرْحَباً بِهِمْ من كلام الخزنة ما يصنع بقوله بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ والمخاطبون- أعنى رؤساءهم- لم يتكلموا بما يكون هذا جوابا لهم؟ قلت: كأنه قيل: هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا ونسببكم فيما نحن فيه من العذاب، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوى فارتكبوه فقيل للمزينين: أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم؟ فقال المزين لهم للمزينين: بل أنتم أولى بالخزي منا، فلولا أنتم لم نرتكب ذلك قالُوا هم الأتباع أيضا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أى مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف: ونحوه قوله تعالى رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، كقوله عز وجل رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ «1» وجاء في التفسير عَذاباً ضِعْفاً: حيات وأفاعى «2» .
[سورة ص (38) : الآيات 62 الى 63]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)
وَقالُوا الضمير للطاغين رِجالًا يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم مِنَ الْأَشْرارِ من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالا، مثل قوله كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ
__________
(1) . قوله تعالى قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً وقال في موضع آخر آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً والقصة واحدة. قال أحمد: وفيه دليل على أن الضعفين اثنان من شيء واحد، خلافا لمن قال غير ذلك، لأنه في موضع قال فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً والمراد: مثل عذابه، فيكونا عذابين. وقال في موضعين ضِعْفَيْنِ والمراد: ذا عذابين. [.....]
(2) . قوله «وجاء في التفسير ... الخ» عبارة الخازن: قال ابن عباس: حيات وأفاعى (ع)(4/102)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها «1» في الاستسخار منهم.
وقوله أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ له وجهان من الاتصال، أحدهما: أن يتصل بقوله ما لَنا أى: مالنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها: قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة، وبين أن يكونوا من أهل النار. إلا أنه خفى عليهم مكانهم.
والوجه الثاني: أن يتصل باتخذناهم سخريا، إما أن تكون أم متصلة على معنى: أى الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم، أم الازدراء بهم والتحقير، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضى اتخذناهم سخريا على الخبر أو الاستفهام، كقولك: إنها إبل أم شاء، وأزيد عندك أم عندك عمرو: ولك أن تقدّر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته، لأنّ «أم» تدل عليها، فلا تفترق القراءتان:
إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل: الضمير في وَقالُوا لصناديد قريش كأبى جهل والوليد وأضرابهما، والرجال: عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ: سخريا، بالضم والكسر.
[سورة ص (38) : آية 64]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
إِنَّ ذلِكَ أى الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد أن يتكلموا به، ثم بين ما هو فقال هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وقرئ بالنصب على أنه صفة لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت: لم سمى ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك «2» ولأنّ قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة، فسمى التقاول كله تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
__________
(1) . قوله «وتأنيب لها» أى: تعنيف ولوم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك، ولأن قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة» قال أحمد: هذا يحقق أن ما تقدم من قوله لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ من قول المتكبرين الكفار، وقوله تعالى بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من قول الأتباع، فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين، فيتحقق التخاصم، خلافا لمن قال: إن الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني: من كلام الأتباع، فانه على هذا التقدير إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين فالتفسير الأول أمكن وأثبت.(4/103)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قُلْ يا محمد لمشركي مكة: ما أنا إلا رسول مُنْذِرٌ أنذركم عذاب الله للمشركين، وأقول لكم: إنّ دين الحق توحيد الله، وأن يعتقد أن لا إله إلا الله الْواحِدُ بلا ندّ ولا شريك الْقَهَّارُ لكل شيء، وأنّ الملك والربوبية له في العالم كله وهو الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة، وهو مع ذلك الْغَفَّارُ لذنوب من التجأ إليه. أو قل لهم ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإنّ مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه.
[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 70]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أى هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله واحد لا شريك له: نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوّته بأنّ ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أنّ ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ أى لأنما أنا نذير. ومعناه:
ما يوحى إلىّ إلا للإنذار، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى:
ما يوحى إلىّ إلا هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أى ما أو مر إلا بهذا الأمر وحده، وليس إلىّ غير ذلك. وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أى: إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئا آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. فإن قلت: بم يتعلق إِذْ يَخْتَصِمُونَ؟ قلت: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم، وإِذْ قالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ. فإن قلت: ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت: أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم:
فإن قلت: ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له، فأنت بين أمرين: إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء، وكان التقاول بينهم ولم يكن التفاؤل بينهم وإما أن تقول: التقاول كان بين الله وبينهم، فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فصح أن التقاول كان(4/104)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام: التقاول على ما سبق.
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 74]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم فَإِذا سَوَّيْتُهُ فإذا أتممت خلقه وعدلته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته وجعلته حساسا متنفسا فَقَعُوا فخروا، كل: للإحاطة. وأجمعون: للاجتماع، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات. فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل، إلا أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت: كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ؟ قلت: قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أريد وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرا، لأن كانَ مطلق في جنس الأوقات الماضية، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد: وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله.
[سورة ص (38) : الآيات 75 الى 76]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
فإن قلت: ما وجه قوله خَلَقْتُ بِيَدَيَّ: قلت: قد سبق لنا أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل ممن لا يدي له: يداك أوكتا «1» وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك. ومنه قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا
__________
(1) . قوله «يداك أوكتا» في الصحاح: أوكى على ما في سقائه: إذا شده بالوكاء. (ع)(4/105)
ولِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. فإن قلت: فما معنى قوله ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق، فذهب بنفسه، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار. ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزّ عباده عليه «1» وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم، ثم لم يفعلوا وتبعوا امر الله وجعلوه قدّام أعينهم، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له، تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه: كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدى بهم ويقتفى أثرهم، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله، أو غل في عبادته منهم في السجود له، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح، فقيل له:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ، أى: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلفته بيدي- لا شكّ في كونه مخلوقا- امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة، وقد أمرك الله به، يعنى: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله:
أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه، فيقول له:
ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علىّ سقوطه «2» ، يريد: هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت
__________
(1) . قوله «حين أمر به أعز عباده» مبنى على مذهب المعتزلة: أن الملك أفضل من البشر. وعند أهل السنة:
البشر أفضل من الملك. (ع)
(2) . قال محمود: «لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه: غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين، حتى قيل في عمل القلب: هذا مما عملت يداك. قال ومعناه أن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه: أنه سجود لمخلوق، مع أنه دون الساجد، لأن آدم من طين، وإبليس من نار، فرأى للنار فضلا على الطين، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة أن يسجدوا لهذا البشر:
لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر، مع انحطاطه عن مراتبهم، فقيل له: ما منعك أن تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك، مع أنه لا شك أن في ذلك امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له العلة التي منعته من السجود، وقيل له: ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمرى، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم، فيمتنع اعتبارا لسقوطه. فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه، يريد: علا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه، انتهى المقصود من الآية بعد تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قال أحمد: إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه الآية:
أحدهما: أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع، هذا مذهب أبى الحسن والقاضي، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة، فان قدرة الله تعالى واحدة، واليدان مذكورتان بصيغة التثنية، وأبطلا حملهما على النعمة بأن نعم الله لا تحصى، فكيف تحصر بالتثنية. وغيرهما من أهل السنة كامام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة، ويجيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس، إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة، وعلى أن المراد القدرة، فالتثنية تعظيم، ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني: أن النبي أفضل من الملك، والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة، لا جرم أنه أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره.
زر بعض سقاط الحشم، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام، وأقام لإبليس عذره وصوب اعتقاده. أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين، وإنما غلطه من جهة أخرى. وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له، على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة، وجعل قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود، وهو كونه دونه، وهذا- نسأل الله العصمة- المراد منه ضد ما فهم الزمخشري، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس، إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه بيده، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه. ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة، إذ يقول له الناس عند ما يقصدونه فيها: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد كراماته وخصائصه، لا فيما يحط منه، معاذ الله وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوي الهوى ومهالكه، وأن يرشدنا إلى سبيل الحق ومسالكه، إنه ولى التوفيق، وبالاجابة حقيق.(4/106)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
اعتبار سقوطه، وفيه: أنى خلقته بيدي، فأنا أعلم بحاله، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه: من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له. وقيل: معنى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ لما خلقت بغير واسطة. وقرئ: بيدىّ، كما قرئ: بمصرخىّ. وقرئ: بيدي، على التوحيد مِنَ الْعالِينَ ممن علوت وفقت، فأجاب بأنه من العالين حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وقيل: استكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين. ومعنى الهمزة: التقرير.
وقرئ: استكبرت بحذف حرف الاستفهام، لأنّ أم تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى، أى: لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له، لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.
[سورة ص (38) : الآيات 77 الى 78]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)
مِنْها من الجنة، وقيل: من السماوات. وقيل: من الخلقة التي أنت فيها، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته، فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا، وأظلم بعد ما كان نورانيا. والرجيم: المرجوم. ومعناه: المطرود، كما قيل له: المدحور والملعون، لأنّ من طرد رمى بالحجارة على أثره. والرجم: الرمي بالحجارة. أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب.(4/107)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
فإن قلت: قوله لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت:
كيف تنقطع وقد قال الله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ولكن المعنى:
أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة، فكأنها انقطعت.
[سورة ص (38) : الآيات 79 الى 81]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
فإن قلت: ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت: الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى المعلوم: أنه معلوم عند الله معين، لا يستقدم ولا يستأخر.
[سورة ص (38) : الآيات 82 الى 83]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
فَبِعِزَّتِكَ إقسام بعزة الله تعالى وهي سلطانه وقهره.
[سورة ص (38) : الآيات 84 الى 85]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قرئ: فالحق والحق، منصوبين على أن الأول مقسم به كالله في
إن عليك الله أن تبايعا
وجوابه لَأَمْلَأَنَّ والحق أقول: اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، ومعناه: ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق: إمّا اسمه عزّ وعلا الذي في قوله أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أو الحق الذي هو نقيض الباطل: عظمه الله بإقسامه به. ومرفوعين على أن الأوّل مبتدأ محذوف الخبر، كقوله لَعَمْرُكَ أى: فالحق قسمي لأملأنّ. والحق أقول، أى: أقوله كقوله كله لم أصنع، ومجرورين: على أن الأوّل مقسم به قد أضمر حرف قسمه، كقولك: الله لأفعلنّ.
والحق أقول، أى: ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به. ومعناه: التوكيد والتشديد.
وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضا. وهو وجه دقيق حسن. وقرئ يرفع الأوّل وجرّه مع نصب الثاني، وتخريجه على ما ذكرنا مِنْكَ من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرّية آدم. فإن قلت: أَجْمَعِينَ تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم، أو الكاف في منك مع من تبعك. ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحدا. أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم.(4/108)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ الضمير للقرآن أو للوحى وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدّعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ من الله لِلْعالَمِينَ للثقلين. أوحى إلىّ فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم «1» » وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أى ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير» «2» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عون حدثنا محمد بن المصلى حدثنا حيوة بن شريح عن أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن نفيل مرفوعا به. ورواه البيهقي في الشعب في الثالث والثلاثين من رواية بقية عن أرطاة قوله ورواه أبو نعيم عن وهب بن منبه قوله.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى رضى الله عنه.(4/109)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
سورة الزمر
مكية، إلا قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ... الآية وتسمى سورة الغرف وهي خمس وسبعون آية. وقيل ثنتان وسبعون آية [نزلت بعد سورة سبإ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ قرئ بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف. أو خبر مبتدإ محذوف والجار صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله. أو غير صلة، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، فهو على هذا خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره:
هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة، وبالنصب على إضمار فعل، نحو: اقرأ، والزم. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني: أنه السورة مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ: الدين، بالرفع. وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا- بفتح اللام- كقوله تعالى وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ حتى يطابق قوله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ والخالص والمخلص: واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازى، كقولهم:(4/110)
شعر شاعر. وأما من جعل مُخْلِصاً حالا من العابد، ولَهُ الدِّينَ مبتدأ وخبرا، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أى: هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة كدر، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولأنه الحقيق بذلك، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا يحتمل المتخذين وهم الكفرة، والمتخذين وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى: عن ابن عباس رضى الله عنهما، فالضمير في اتَّخَذُوا على الأوّل راجع إلى الذين، وعلى الثاني إلى المشركين، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوما، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا في موضع الرفع على الابتداء. فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت: هو على الأوّل إما إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أو ما أضمر من القول قبل قوله ما نَعْبُدُهُمْ. وعلى الثاني: أن الله يحكم بينهم. فإن قلت: فإذا كان إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الخبر، فما موضع القول المضمر؟ قلت: يجوز أن يكون في موضع الحال، أى:
قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلا من الصلة فلا يكون له محل، كما أنّ المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول قالوا ما نَعْبُدُهُمْ وفي قراءة أبىّ: ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ: نعبدهم، بضم النون اتباعا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر، والتنوين في عَذابٍ ارْكُضْ والضمير في بَيْنَهُمْ لهم ولأوليائهم. والمعنى: أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم، واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى.
وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض، أقروا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالضمير في بَيْنَهُمْ عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.
والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين «1» . وقرئ: كذاب وكذوب. وكذبهم: قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء: بنات الله، ولذلك عقبه محتجا عليهم بقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ
__________
(1) . قال محمود: «المراد بمنع الهدآية منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا يلطف بهم، وأنه في علمه من الهالكين» قال أحمد: مذهب أهل السنة حمل هذه الآية وأمثالها على الظاهر، فان معتقدهم أن معنى هداية الله تعالى للمؤمن خلق الهدى فيه، ومعنى إضلاله للكافر إزاحته عن الهدى وخلق الكفر له، ومع ذلك فيجوز عند أهل السنة أن يخلق الله تعالى للكافر لطفا يؤمن عنده طائعا، خلافا للقدرية، وغرضنا التنبيه على مذهب أهل الحق لا غيره.(4/111)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
يعنى: لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح، لكونه محالا، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه. وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده، جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء «1» على الله وملائكته، غالبين «2» في الكفر، ثم قال سُبْحانَهُ فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء. ودلّ على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة، لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له: وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ. وقهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟
[سورة الزمر (39) : آية 5]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
ثم دلّ بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف واللىّ، يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها. وفيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه فكأنما ألبسه والف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذى الرمة في وصف السراب:
تلوى الثّنايا بأحقيها حواشيه ... لىّ الملاء بأبواب التّفاريج «3»
__________
(1) . قوله «متبالغين في الافتراء» لعله: مبالغين. (ع)
(2) . قوله «غالبين في الكفر» لعله: غالين. (ع)
(3) .
وراكد الشمس أجاج نصب له ... قواضب القوم بالمهرية العوج
إذا تنازع حالا مجهل قذف ... أطراف مطره بالخز منسوج
تلوى الثنايا بحقويها حواشيه ... لي الملاء بأبواب التفاريج
كأنه والرهاة الموت يركضه ... أعراف أزهر تحت الريخ منتوج
لذي الرمة يصف السراب. وراكد الشمس: ما يتساقط منها على الأرض. والأجاج: صفة مبالغة، أى: كثير الأجيج، يقال: أجت النار أجيجا: اشتعلت، والحر: اشتد. وأج الظليم أجا: أسرع وله حفيف. وأج الأمر:
اختلط. والأج: طير أبيض سريع الطيران يشبه النعام. ويرى السراب عند شدة الحر أبيض كأنه يسير، فيجوز أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير، لأنه يشبهه، وللام للتوقيت، وللقواضب: السيوف النواطع.
والمهرية: الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن، خيلها أنجب الخيل. والعوج: جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان: ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل: الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف- كسبب-:
الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد: السراب المستوى، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا:
العقبات. والحقو: الخصر والإزار، وشده عليه استعارة لجانب العقبة، وحواشي السراب: جوانبه. والملاء بالضم والمد: اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج: الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة- جمع رهو-:
المكان المرتفع، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل: اسم موضع. والموت: القفر. والركض: ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف: جمع عرف. وعرف الديك والفرس:
أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل: إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف، والأزهر: السحاب الأبيض والماء الأبيض، وهو الأنسب بكونه تحت الريح، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى أَقَلَّتْ سَحاباً والمنتوج: الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر، يقول: ورب راكد من الشمس، يعنى السراب شديد الحر أو السير، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلىّ الجلباب في أبواب التفاريج، وتلوى: يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء، ولى الملا: مفعول مطلق، وأعراف: خبر كأنه، والرهاة: جملة حالية، وفاعل يركض إما ضمير الآل، أو ضمير الرهاة، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى: تطرده، وفاعله ضمير الرهاة جزما، لأن الآل هو المطرود، وبيت الكشاف: يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو: جمعه أحق، وأصل وزنه: أفعل.(4/112)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عقاب المصرين الْغَفَّارُ لذنوب التائبين «1» . أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم: مغفرة.
[سورة الزمر (39) : آية 6]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
فإن قلت: ما وجه قوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان «2» من جملة الآيات التي عدّدها دالا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت
__________
(1) . قال محمود: «أى لذنوب التائبين» قال أحمد: الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
(2) . قال محمود: «فان قلت: ما وجه العطف بثم في قوله ثُمَّ جَعَلَ وأجاب بأتهما آيتان ... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم، وخلق حواء منه، وهو متقدم على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية، فلم يستقم حملها على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة، على تقدير: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها، يعنى: شفعها بزوجها، فكانت هاهنا على بابها لتراخى الوجود، والله سبحانه وتعالى أعلم. [.....](4/113)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل: ثم متعلق بمعنى واحدة، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول «1» من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء. وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. قال الله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيوانا سويا، من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة. وقيل:
الصلب والرحم والبطن ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله هو اللَّهُ رَبُّكُمْ...... فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟
[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه، لاسضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة لهم، لأنه يوقعهم في الهلكة وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أى يرض الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم، فإذن ما كره كفركم ولا رضى شكركم
__________
(1) . قال محمود: «إنما جعلها منزلة لأن قضاياه تعالى وقسمه موصوفة بالنزول ... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط بعينه قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابة.(4/114)
إلا لكم ولصلاحكم «1» ، لا لأنّ منفعة ترجع إليه، لأنه الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد نمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى «2» ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يريد المعصومين، كقوله تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرئ «برضه» بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها خَوَّلَهُ أعطاه. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولم يبخّل ... كوم الذّرى من خول المخول «3»
وفي حقيقته وجهان، أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال مال: إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه: ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان
__________
(1) . حمل الزمخشري الرضا على الارادة، والعباد على العموم ... الخ» قال أحمد: إن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين، أو في ميزان عقله غين، أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت في مغاثر العبارات، وبديع الزمان في صناعة البديع، فكيف نبا عن جادة الا جادة فهما، وأعار منادى الحذاقة أذنا صما، اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا، وغطى سنى مكشوف العبارة فسحقا سحقا، أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط، لا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا، ولا مضيه واستقبال الشرط لغة وعقلا، واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وشيعة البدعة: أن إرادة الله تعالى لشكر عباده مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم، فحينئذ كيف ساغ حمل الرضا على الارادة، وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا، واللازم من ذلك عقلا: تقدم المراد وهو الشكر، على الارادة وهي الرضا، ولغة: تقدم المشروط على الشرط. والزمخشري أخص من قال: إن المشروط متى كان ماضيا محضا لزمته ألفا. وقد، كقولك: إن تكر منى فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرفين المذكورين، على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية مع ذلك فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الارادة عقلا ونقلا، تعين التماس المحمل الصحيح له، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازى به المرضى عنه من الثواب والكرامة، فيكون معنى الآية- والله أعلم-: وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر، فجرى الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة، وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الارادة عقلا، ومثل هذا يقدر في قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أى لا يجازى غير الكافر مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة.
(2) . قوله «لينبت لله تعالى ... الخ» إنما يتم لو كان الرضاء بمعنى الارادة، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: هو غيرها، فكفر الكافر مراد غير مرضى، وعند المعتزلة: غير مراد ولا مرضى. (ع)
(3) .
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
الوهوب: الوهاب. والمجزل: المكثر العطاء، وبينه بقوله: أعطى السائلين فلم يبخل عليهم، ولم يبخل: مشدد مبنى للمجهول، أى: لم يتهم بالبخل. وقيل: هو توكيد. ويروى بناؤه للفاعل، أى لم يجعل من أعطاهم بخلاء، بل جعلهم كرماء. وكوم الذرى: نصب بأعطى، أى: نوقا عظيمات السنام. والكوم: جمع كوماء. والذرى:
جمع ذروة. والمخول بالتشديد المعطي، وهو الله عز وجل.(4/115)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
يتخول أصحابه بالموعظة «1» والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب:
إنّ الغنىّ طويل الذّيل ميّاس
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أى نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسى ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من، كقوله تعالى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وقرئ:
ليضل، بفتح الباء وضمها، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله.
والنتيجة: قد تكون غرضا في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقوله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ من باب الخذلان والتخلية، كأنه قليل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه: مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه. لأنه لا مبالغة في الخذلان، لأن أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ.
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
قرئ. أمن هو قانت بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من، وبالتشديد على إدخال «أم» عليه. ومن مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، وهو جرى ذكر الكافر قبله. وقوله بعده قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وقيل: معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر. أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الصلاة طول القنوت» «2» وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الوتر، لأنه دعاء المصلى
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود وأتم منه.
(2) . أخرجه مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر. ورواه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ «طول القيام» وكذا هو في حديث عبد الله بن جعفر بلفظ «سئل أى الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام» .(4/116)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قائما ساجِداً حال. وقرئ: ساجد وقائم، على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين.
وقرئ: ويحذر عذاب الآخرة. وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أى: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل نزلت في عمار بن ياسر رضى الله عنه وأبى حذيفة بن المغيرة المخزومي. وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو «1» ، فقال: هذا تمنّ، وإنما الرجاء قوله: وتلا هذه الاية.
وقرى: إنما يذكر، بالإدغام.
[سورة الزمر (39) : آية 10]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا لا بحسنة، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة، أى: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدى بحسنة، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت: إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصح أن يقع صفة لها لتقدمه. قلت: هو صفة لها إذا تأخر، فإذا تقدم كان بيانا لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق، وإن لم يكن التعلق وصفا ومعنى وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحوّلوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
وقيل: هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وقيل: هي أرض الجنة. والصَّابِرُونَ الذين صبروا على مفارقة
__________
(1) . قال محمود: «سئل الحسن عمن يتمادى على المعاصي ويرجو ... الخ» قال أحمد: كلام الحسن رضى الله عنه صحيح غير منزل على كلام الزمخشري بقرينة حاله، فان الحسن أراد أن المتمادى على المعصية مصرا عليها غير تائب إذا غلب رجاؤه خوفه كان متمنيا، لأن اللائق بهذا أن يغلب خوفه رجاؤه، ولم يرد الحسن إقناط هذا من رحمة الله تعالى وحاشاه، وأما قرينة حال الزمخشري فإنها تم على ما أضمره من إيراد هذه المقالة، فان معتقده أن مثل هذا العاصي وإن كان موحدا يجب خلوده في نار جهنم، ولا معنى لرجائه، ولتنميته صحة هذا المعتقد أورد مقالة الحسن كالتزام إلى تتميم هذه النزعة، وعما قليل يقرع سمعه ما في أنباء هذه السورة.(4/117)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها. من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير بِغَيْرِ حِسابٍ لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفا، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف.
وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين. ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، قال الله تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «1» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 15]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ بإخلاص الدين وَأُمِرْتُ بذلك لأجل لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أى مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. ولمعنى: أنّ الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا. فإن قلت: كيف عطف أُمِرْتُ على أُمِرْتُ وهما واحد «2» ؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه، من حديث أنس رضى الله عنه. وإسناده ضعيف جدا. وأورده أبو نعيم في الحلية في ترجمة جابر بن زيد عن الطبراني. وهو في معجمه بإسناده إلى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضى الله عنهما مختصرا.
(2) . قال محمود: «فان قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد، وأجاب بأنه ليس بتكرير ... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في تقوية هذا المعنى في هذه الآية بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دونه فان مقابلته بعدم الحصر توجب كونه للحصر، والله أعلم. وما أحسن ما بين وجوه المبالغة في وصف الله تعالى لفظاعة خسرانهم فقال:
استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين، وبين في تسمية الشيطان طاغوتا وجوها ثلاثة من المبالغة، أحدها: تسمينه بالمصدر كأنه نفس الطغيان، الثاني: بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت، وهي الرحمة الواسعة والملكوت وشبهه. الثالث: تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاص الشيطان بهذه التسمية.(4/118)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وفي معناه أوجه: أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بى في قولي وفعلى جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعنى: أن الله أمرنى أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب، بدليل العقل والوحى.
فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قلت: ليس بتكرير، لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها وَخسروا أَهْلِيهِمْ لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم «1» لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعنى: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.
[سورة الزمر (39) : آية 16]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
__________
(1) . قوله «وخسروهم» لعله «خسروهم» بدون واو. (ع)(4/119)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
وَمِنْ تَحْتِهِمْ أطباق من النار هي ظُلَلٌ لآخرين ذلِكَ العذاب هو الذي يتوعد الله بِهِ عِبادَهُ ويخوّفهم، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطى، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ: يا عبادي.
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
الطَّاغُوتَ فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين، لكونها مصدرا وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان طغيان، وأنّ البناء بناء مبالغة، فإنّ الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان، والمراد بها هاهنا الجمع. وقرئ: الطواغيت أَنْ يَعْبُدُوها بدل من الطاغوت بدل الاشتمال لَهُمُ الْبُشْرى هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
الله عزّ وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون. قال الله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ وأراد بعباده الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وأراد أن يكونوا نقادا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب وندب، اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حرّاصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر «1» ، وأبينها دليلا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك، كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا «2»
__________
(1) . قال محمود: «يدخل تحت هذا المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر ... الخ» قال أحمد: لقد كنت أطمع لعله رجع عما ضمن هذا الكتاب من المذاهب الرديئة والمعتقدات الفاسدة، حتى حققت من كلامه هذا أن ذلك التصميم كان متمكنا من فؤاده الصميم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(2) .
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ... ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
للزمخشري. تشمير الثياب عن الساعد: كناية عن ترك الكسل، ثم قال: واجتهد في أحكام الدين ولا تقلد غيرك، فتكون مثل حمار قاده الشخص فانقاد وطاوعه أينما يوجهه. ويحتمل أن المعنى: اجتهد في العمل ولا تطع الشيطان.(4/120)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
يريد المقلد، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدّث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على: فبشر عبادي، ويبتدئ: الذين يستمعون، يرفعه على الابتداء، وخبره أُولئِكَ.
[سورة الزمر (39) : آية 19]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
أصل الكلام: أمّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أوّلها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره:
أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى، كرّرت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع مَنْ فِي النَّارِ موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة. ووجه آخر: وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه، لأن أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يدل عليه: نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكدّه نفسه في دعائهم إلى الإيمان: منزلة إنقاذهم من النار. وقوله أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يفيد أنّ الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.
[سورة الزمر (39) : آية 20]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله مَبْنِيَّةٌ؟
قلت: معناه- والله أعلم-: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تجرى من تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، لأنّ قوله لهم غرف في معنى، وعدهم الله ذلك.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)(4/121)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه الله فَسَلَكَهُ فأدخله ونظمه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ عيونا ومسالك ومجارى كالعروق في الأجساد مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، وأصنافه من برّ وشعير وسمسم وغيرها يَهِيجُ يتم جفافه، عن الأصمعى، لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب حُطاماً فتاتا ودرينا «1» إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذكيرا وتنبيها، على أنه لا بدّ من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال.
ويجوز أن يكون مثلا للدنيا، كقوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وقرئ: مصفارّا.
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
أَفَمَنْ عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسى القلب، ونور الله: هو لطفه، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقيل يا رسول الله: كيف انشراح الصدر؟ قال «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح «2» فقيل: يا رسول الله، فما علامة ذلك؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وهو نظير قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ في حذف الخبر مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره، أى: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وقرئ: عن ذكر الله.
فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ «قلت» : إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى ما ذكرت، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أى من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة:
إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
__________
(1) . قوله «فتاتا ودرينا» في الصحاح «الدرين» : خطام المرعى إذا قدم، وهو ما يلي من الحشيش. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود. وفيه أبو فروة الرهاوي فيه كلام.
ورواه الترمذي الحكيم في النوادر في الأصل السادس والثمانين. وفي إسناده إبراهيم بن [بياض بالأصل.] وهو ضعيف. [.....](4/122)
عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء نَزَّلَ عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث. وكِتاباً بدل من أحسن الحديث. ويحتمل أن يكون حالا منه ومُتَشابِهاً مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون مَثانِيَ بيانا لكونه متشابها، لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني جمع مثنى بمعنى مردّد ومكرّر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان «1» ولا يخلق على كثرة الرّد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير. والإعادة كما كان قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى كرّة بعد كرّة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير. ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من متشابها، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت، النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا، «2» ليركزه في قلوبهم
__________
(1) . قوله «لا يتفه ولا يتشان» في الصحاح «التافه» : الحقير اليسير: وفيه تشانت القربة: أخلقت، وتشان الجلد: يبس وتشنج. (ع)
(2) . لم أجده. وفي البخاري عن أنس رضى الله عنه «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا- الحديث» وزاد أحمد «وكان يستأذن ثلاثا» .(4/123)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، «1» وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.
فإن قلت: ما وجه تعدية «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت. أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غصبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رءوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أوّلا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم ذلِكَ إشارة إلى الكتاب، وهو هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: هدى للمتقين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله من الفساق «2» والفجرة فَما لَهُ مِنْ هادٍ أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أى: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى يَهْدِي بِهِ بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعنى: من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، فَما لَهُ مِنْ هادٍ من مؤثر فيه بشيء قط.
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
__________
(1) . قوله «وقف شعره» أى: قام من الفزع، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ومن يخذله من الفساق» تأويل الضلال بذلك مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: أنه يخلقه كالخير، فالاضلال: خلق الضلال في القلب. (ع)(4/124)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كمن أمن العذاب «1» ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: وسوء العذاب:
شدّته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقى مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبى جهل. وقال لهم خزنة النار ذُوقُوا وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ......
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال الله.
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكدة كقولك: جاءني زيد رجلا صالحا وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف. فإن قلت: فهلا قيل: مستقيما: أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل:
المراد بالعوج: الشك واللبس. وأنشد:
وقد أتاك يقين غير ذى عوج ... من الإله وقول غير مكذوب «2»
[سورة الزمر (39) : آية 29]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
واضرب لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم
__________
(1) . قال محمود: «معناه كمن هو آمن، فحذف الخبر أسوة أمثله ... الخ» قال أحمد: الملقى في النار والعياذ بالله، لم يقصد الاتقاء بوجهه، ولكنه لم يجد ما يتقى به النار غير وجهه، ولو وجد لفعل، فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقى بوجهه، فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلى، والله أعلم.
(2) . الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد باليقين والقول: القرآن. أو اليقين: الأسرار، والقول: القرآن. أو اليقين: القرآن، والقول: ما عداه من الأوامر والنواهي، و «من الاله» متعلق بأتاك. والمعنى:
أن ذاك من الشك واللبس، ومن الكذب، فالعوج: استعارة تصريحية.(4/125)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، «1» قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته. وفي آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن حالا وأجمل شأنا؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ويبقى هو متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد؟
وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفقه؟ فهمه شعاع، «2» وقلبه أوزاع، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله. وفِيهِ صلة شركاء، كما تقول: اشتركوا فيه. والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه سَلَماً لِرَجُلٍ خالصا. وقرئ: سلما، بفتح الفاء والعين، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين، وهي مصادر سلم. والمعنى: ذا سلامة لرجل، أى: ذا خلوص له من الشركة، من قولهم: سلمت له الضيعة.
وقرئ بالرفع على الابتداء، أى: وهناك رجل سالم لرجل، وإنما جعله رجلا ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبى قد يغفلان عن ذلك هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا هل يستويان:
صفة على التمييز. والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. وقرئ: مثلين، كقوله تعالى وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً مع قوله أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ويجوز فيمن قرأ: مثلين، أن يكون الضمير في يَسْتَوِيانِ للمثلين، لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل. والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، كما تقول: كفى بهما رجلين الْحَمْدُ لِلَّهِ الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أى: يجب أن يكون الحمد متوجها إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلا هو بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيشركون به غيره.
[سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
__________
(1) . قوله «في أمره سادر» في الصحاح «السادر» : المتحير. (ع)
(2) . قوله «فهمه شعاع ... الخ» بالفتح أى متفرق. وقولهم: بها أوزاع من الناس، أى: جماعات كذا في الصحاح. (ع)(4/126)
كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم: «1» وقرئ: مائت ومائتون «2» . والفرق بين الميت والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد.
وأما المائت، فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدا، كما تقول: سائد غدا، أى سيموت وسيسود.
وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حى في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان ثُمَّ إِنَّكُمْ ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، وتقول السادات:
أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون، وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضا، حتى يقال لهم: لا تختصموا لدىّ، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟
حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا «3» وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا «4» . وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضى الله عنه قالوا: هذه خصومتنا «5» .
وعن أبى العالية: نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت أولا.
ألا ترى إلى قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وقوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة كَذَبَ عَلَى اللَّهِ افترى عليه بإضافة
__________
(1) . قوله «ونعى إليكم أنفسكم» لعله: إليهم أنفسهم. (ع)
(2) . قال محمود: «قرئ: إنك ميت ومائت ... الخ» قال أحمد: فاستعمال ميت مجاز، إذ الخطاب مع الأحياء واستعمال مائت حقيقة إذ لا يعطى اسم الفاعل وجود الفعل حال الخطاب. ونظيره قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يعنى: توفى الموت وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أى يتوفاها حين المنام، تشبيها للنوم بالموت، كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي، أى: لا يردها في وقتها حية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أى النائمة إلى الأجل الذي سماه، أى قدره لموتها الحقيقي. هذا أوضح ما قيل في تفسير الآية، والله أعلم.
(3) . أخرجه الحاكم من رواية القاسم بن عوف عن ابن عمر رضى الله عنهما.
(4) . ذكره الثعلبي. قال: وروى خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن الخدري.
(5) . أخرجه عبد الرزاق والطبري والثعلبي من رواية عبد الله بن عوف عن إبراهيم بهذا.(4/127)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
الولد والشريك إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالأمر الذي هو الصدق بعينه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءَهُ فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة، لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أى لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في لِلْكافِرِينَ إشارة إليهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 35]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فلذلك قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. وفي قراءة ابن مسعود: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. وقرئ:
وصدق به. بالتخفيف، أى: صدق به الناس ولم بكذبهم به، يعنى: أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار صادقا به، أى: بسببه، لأنّ القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة، وقرئ: وصدّق به. فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوإ والأحسن إلى الذي عملوا، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بنى مروان. وأما التفضيل فإيذان بأن السيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ وحسنهم بالأحسن. وقرئ: أسواء الذي عملوا جمع سوء.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)(4/128)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها. وقرئ: بكاف عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاف عباده وهم الأنبياء، وذلك أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرّتها «1» لعيبك إياها. ويروى: أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها، فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها لشدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف. وفي هذا تهكم بهم، لأنهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضر. أو أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم الله وذلك قول قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ويجوز أن يريد: العبد والعباد على الإطلاق، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم. وقرئ: بكافى عباده، على الإضافة. ويكافي عباده، ويكافي: يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازى في يجزى، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظ المبالغة. والمباراة: أن يكون مهموزا، من المكافأة وهي المجازاة، لما تقدم من قوله وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ، بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أراد: الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه بِعَزِيزٍ بغالب منيع ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم.
[سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قرئ: كاشفات ضرّه، وممسكات رحمته بالتنوين على الأصل، وبالإضافة للتخفيف.
فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوّفوه معرّة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقرّرهم أوّلا بأنّ خالق العالم هو الله وحده. ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل. أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللاتي خوّفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفة قال حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا لمعرّة أوثانكم عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ وفيه تهكم. ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا، فنزل قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
__________
(1) . قوله «معرتها» أى: إثمها. أفاده الصحاح. (ع) [.....](4/129)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
فإن قلت. لم قيل: كاشفات، وممسكات، على التأنيث بعد قوله تعالى وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ قلت: أنثهن وكن إناثا وهن اللات والعزى ومناة. قال الله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب للين والرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز. وفيه تهكم أيضا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها. والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا. وحيث للزمان، وهما للمكان. فإن قلت: حق الكلام: فإنى عامل على مكانتى. فلم حذف؟ قلت: للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد، والإيذان بأنّ حاله لا تقف، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة، لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله. ألا ترى إلى قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ كيف توعدهم بكونه منصورا عليهم غالبا عليهم في الدنيا والآخرة، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه، وبذل ذليل من أعدائه يُخْزِيهِ مثل مقيم في وقوعه صفة للعذاب، أى: عذاب مخز له، وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. وقرئ: مكاناتكم.
[سورة الزمر (39) : آية 41]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
لِلنَّاسِ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغنى، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها. وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنى على الاختيار دون الإجبار.
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)(4/130)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
الْأَنْفُسَ الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها، وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة درّاكة:
من صحة أجزائها وسلامتها، لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أى: يتوفاها حين تنام، تشبيها للنائمين بالموتى.
ومنه قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك فَيُمْسِكُ الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ الحقيقي، أى: لا يردّها في وقتها حية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى النائمة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضى الله عنهما في ابن آدم «نفس وروح» بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه» «1» والصحيح ما ذكرت أوّلا، لأنّ الله عز وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعا بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام إِنَّ فِي ذلِكَ إن في توفى الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: قضى عليها الموت، على البناء للمفعول.
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون إذنه شُفَعاءَ حين قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله تعالى قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أى هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونا له. وهاهنا الشرطان مفقودان جميعا أَوَلَوْ كانُوا معناه: أيشفعون ولو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أى: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيأ قط، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
__________
(1) . لم أجده.(4/131)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
تقرير لقوله تعالى لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك، كان مالكا لها. فإن قلت: بم يتصل قوله ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ قلت: بما يليه، معناه: له ملك السماوات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له. فله ملك الدنيا والآخرة.
[سورة الزمر (39) : آية 45]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
مدار المعنى على قوله وحده، أى: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أى:
نفروا وانقبضوا وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هو أهم فيها. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا، لأن فيه نفيا لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ «والنجم» عند باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأنّ الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. فإن قلت: ما العامل في إِذا ذُكِرَ؟ قلت: العامل في إذا المفاجأة، تقديره وقت ذكر الذين من دونه، فاجئوا وقت الاستبشار.
[سورة الزمر (39) : آية 46]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
بعل «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدّة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له:
ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ووعيد لهم. وعن الربيع بن خثيم «2» وكان قليل الكلام. أنه أخبر بقتل الحسين- رضى الله عنه، وسخط على قاتله- وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية. وروى أنه قال على أثره: قتل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
__________
(1) . قوله «بعل رسول الله» في الصحاح: «بعل الرجل» بالكسر، أى: دهش. (ع)
(2) . قوله «وعن الربيع بن خثيم» في النسفي: خيثم. (ع)(4/132)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
[سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته، وهو نظير قوله تعالى في الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدءوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أى سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أو أراد بالسيآت:
أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
وَحاقَ بِهِمْ ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم.
[سورة الزمر (39) : آية 49]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)
التخويل: مختص بالتفضل. يقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء عَلى عِلْمٍ أى على علم منى أنى سأعطاه، لما فىّ من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بى وباستحقاقى «1» أو على علم منى بوجوه الكسب، كما قال قارون عَلى عِلْمٍ عِنْدِي. فإن قلت: لم ذكر الضمير في أُوتِيتُهُ وهو للنعمة؟ قلت: ذهابا به إلى المعنى، لأنّ قوله نِعْمَةً مِنَّا شيئا من النعم وقسما منها. ويحتمل أن تكون «ما» في إنما موصولة لا كافة، فيرجع إليها الضمير. على معنى: أن الذي أوتيته على علم بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ إنكار لقوله كأنه قال: ما خوّلناك ما خولناك من النعمة لما تقول،
__________
(1) . قال محمود: «معناه على علم من الله بى وباستحقاقى ... الخ» قال أحمد: كذلك يقول على قدرى تمنى على الله أن يثيبه في الآخرة: أن الفرق بين حمد الدنيا وحمد الآخرة أن حمد الدنيا واجب على العبد، لأنه على نعمة متفضل بها، وحمد الآخرة ليس بواجب عليه، لأنه على نعمة واجبة على الله عز وجل، ولقد صدق الله إذ يقول: وهي فتنة إنما سلم منها أهل السنة، إذ يعتقدون أن الثواب بفضل الله وبرحمته لا باستحقاق، ويتبعون في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحد الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فما أحمق من منى نفسه وركب رأسه، وطمع أنه يستحق على الله الجنة.(4/133)
بل هي فتنة، أى: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر؟ فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملا على المعنى أوّلا، وعلى اللفظ آخرا، ولأن الخبر لما كان مؤنثا أعنى فِتْنَةٌ ساغ تأنيث المبتدإ لأجله لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: بل هو فتنة على وفق إِنَّما أُوتِيتُهُ. فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو؟ قلت:
السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ «1» وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأزّ من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الاى اعتراض. فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه «2» . قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترءون عليك مثل هذه الجرأة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقا. أو إياهم خاصة إن عنيتهم به، كأنه قيل: ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به. حين أحكم عليهم بسوء العذاب، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو. فإن قلت: من أى وجه وقعت مسببة؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم «3» عنه. قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه أنك تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سببا في الالتجاء، فأنت تحكى ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله؟
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم عطفت هذه الآية على التي قبلها بالفاء، والآية التي قبلها في أول السورة بالواو؟ وأجاب بأن هذه الآية مسببة عن قوله وإذا ذكر الله ... الخ» قال أحمد: كلام جليل فافهمه، فضلا عن مشبه قليل.
(2) . قوله «المعترض بينه وبينه» لعل قوله «وبينه» مزيد من بعض الناسخين. (ع)
(3) . قوله «لصدوفهم عنه» أى: إعراضهم. أفاده الصحاح. (ع)(4/134)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
[سورة الزمر (39) : الآيات 50 الى 52]
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
الضمير في قالَهَا راجع إلى قوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ لأنها كلمة أو جملة من القول.
وقرئ: قد قاله على معنى القول والكلام، وذلك والذين من قبلهم: هم قارون وقومه، حيث قال: إنما أوتيته على علم عندي وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا ويجمعون منه مِنْ هؤُلاءِ من مشركي قومك سَيُصِيبُهُمْ مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله عزّ وجلّ.
[سورة الزمر (39) : آية 53]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها لا تَقْنَطُوا قرئ بفتح النون وكسرها وضمها إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يعنى بشرط التوبة، «1» وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، والمراد بمن يشاء: من تاب، لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل في قراءة النبىّ صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضى الله عنها: يغفر الذنوب جميعا ولا يبالى. ونظير نفى المبالاة نفى الخوف في قوله تعالى وَلا يَخافُ عُقْباها وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرّم الله فنزلت. وروى أنه أسلم عياش بن أبى ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أبدا، فنزلت. فكتب بها عمر رضى الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا. وقيل نزلت في وحشى قاتل حمزة رضى الله عنه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحب أنّ لي
__________
(1) . قوله «يعنى بشرط التوبة» عند التوبة فالعموم شامل للشرك، وعند عدمها فلا غفران للكبائر عند المعتزلة. ويجوز بالشفاعة وبمجرد الفضل عند أهل السنة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ كما تقرر في علم التوحيد: فارجع إليه. (ع)(4/135)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
الدنيا وما فيها بهذه الآية» فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: «ألا ومن أشرك» «1» ثلاث مرّات.
[سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 59]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وتوبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مثل قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أى يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقوّل. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكسير، كما قال الأعشى:
وربّ بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرّأس مغضبا «2»
__________
(1) . أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين من حديث ثوبان. وفيه ابن لهيعة عن أبى قبيل وهما ضعيفان.
(2) .
دعا قومه حولي فجاءوا لنصره ... وناديت قوما بالمسناة غيبا
ورب بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا
للأعشى وقيل: لأبى عمرو بن العلاء، يصف قومه بالجبن حتى كأنهم أموات مقبورون، صارت الأحجار مسناة فوقهم. وسنيت الشيء سهلته، أى: منعمة مملسة. أو بالية مفتتة. ويجوز أن أصله مسننة، فقلبت النون الثانية ألفا. وسننت الحجر حددته وملسته. وفي وصف القبور بذلك مبالغة في وصف قومه بالجبن، بل هم دون تلك الأموات، فرب بقيع: أى موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمراد مقبرة، لا بقيع الغرقد بالغين وهو مقبرة المدينة بعينها، لو هتفت بحوه، أى: ناديت شجاعهم لجاءنى كريم ينفض رأسه من تراب القبر. أو من الغضب لما نالني من المكروه، وليس المراد كريما واحدا، بل كرماء كثيرة بمعونة المقام. والحو- بالمهملة-: الشجاع، وبالمعجمة: العسل، وبالجيم: ما غلظ وارتفع من الأرض.(4/136)
وهو بريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: يا حسرتى، على الأصل.
ويا حسرتاى، على الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري:
أما تتّقين الله في جنب وامق ... له كبد حرّى عليك تقطّع «1»
وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله:
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ... في قبّة ضربت على ابن الحشرج «2»
ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفىّ أن يصلى الرجل لمكان الرجل» «3» وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ على معنى:
فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في الله. فما معنى فرّطت في الله؟ قلت: لا بدّ من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة الله
__________
(1) .
أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع
غريب مشوق مولع بادكاركم ... وكل غريب الدار بالشوق مولع
لجميل بن معمر يستعطف صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها، أى: أما تخافين الله في جنب وامق، أى: في حقه الواجب عليك، فالجنب: كناية عن ذلك. والوامق: الشديد المحبة، يعنى نفسه. وحرى: أى ذات حر واحتراق.
وتقطع: أصله تتقطع، والادكار: أصله الاذتكار، قلبت تاؤه دالا مهملة، وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما. وفي البيت رد العجز على الصدر، وهو من بديع الكلام.
(2) . لزيادة الأعجم يمدح عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، وهو من باب الكناية التي قصد بها النسبة، يعنى أنه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره، ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.
(3) . أخرجه أحمد وإسحاق والبزار والحاكم والبيهقي. من رواية ربيح بن عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه عن جده قال» خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما. ونحن نتذاكر الدجال. فقال غير الدجال أخوف عليكم:
الشرك الخفي: أن يعمل الرجل لمكان الرجل» لفظ الحاكم.(4/137)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. وما في ما فرّطت مصدرية مثلها في بِما رَحُبَتْ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل وَإِنْ كُنْتُ النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أى:
فرّطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لا يخلو: إما أن يريد الهداية «1» بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وقوله بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.
وقرئ بكسر التاء «2» على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي فيه معنى: ما هديت.
[سورة الزمر (39) : آية 60]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال «3» عنه، فأضافوا إليه
__________
(1) . قوله «لا يخلو إما أن يريد به الهداية» تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة، ولكن خلق الهداية لا يصل إلى حد الإلجاء، لأنه لا يسلب الاختيار عند أهل السنة، كخلق التقوى والطاعة وغيرها من الأفعال الاختيارية، لما أثبتوه للعبد من الكسب فيها وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قوله «وقرئ بكسر التاء» لعل من كسرها كسر الكاف أيضا. (ع)
(3) . قال محمود: «يعنى الذين وصفوه تعالى بما لا يجوز عليه وهو متعال عنه ... الخ» قال أحمد: قد عدا طور التفسير لمرض في قلبه لا دواء له إلا التوفيق الذي حرمه، ولا يعافيه منه إلا الذي قدر عليه هذا الضلال وحتمه، وسنقيم عليه حد الرد، لأنه قد أبدى صفحته، ولولا شرط الكتاب لأضربنا عنه صفحا ولوينا عن الالتفات إليه كشحا، وبالله التوفيق فنقول: أما تعريضه بأن أهل السنة يعتقدون أن القبائح من فعل الله تعالى، فيرجمه باعتقادهم المشار إليه قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أما الزمخشري وإخوانه القدرية، فيغيرون وجه هذه الآية ويقولون: ليس خالق كل شيء، لأن القبائح أشياء وليست مخلوقة له.
فاعتقدوا أنهم نزهوا، وإنما أشركوا. وأما تعريضه لهم في أنهم يجوزون أن يخلق خلقا لا لغرض، فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل، لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة، فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنها فيجب عليه أن لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما لله تعالى، فاعتقاد باطل، لأن ذلك إنما ثبت لازما لاعتقادهم أن الله تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بها تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق، ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك الله تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض، فيقال له: ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال، ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية إذ يقولون: لا بد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية الله تعالى يستلزم اعتقاد الجسمية، فانه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك، مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية قول نبى الهدى عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فهذا النص الذي ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شيء من التهويل. وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة، فيعنى به قولهم «بلا كيف» أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء، ولا تبعد عن الهدى عين الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون لله أندادا باثباتهم معه قدماء، فنفى لاثباتهم صفات الكمال، كلا والله، إنما جعل لله أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم. حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء الله لا يكون. وأما أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن لله تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة، حسبما دل عليه العقل وورد به الشرع وأى مخلص للقدرى إذا سمع قوله تعالى وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً إلا اعتقاد أن لله تعالى علما أو جحد آيات الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما قوله: إنهم يثبتون لله تعالى يدا وقدما ووجها، فذلك فرية ما فيها مرية، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة. وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية وردت في القرآن: اليدان والعينان والوجه، ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب الله العزيز، على أن غيره من أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة، والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه، وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ مخاطبته الغضب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأهل سنته، فانه قد أسناء عليهم الأدب، ونسيهم بكذبه إلى الكذب، والله الموفق.(4/138)
الولد والشريك، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا، وقالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، وقالوا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح «1» ، وتجويز أن يخلق خلقا لا لغرض، ويؤلم
__________
(1) . قوله «قوم يسفهونه بفعل القبائح» يريد بهم أهل السنة، حيث ذهبوا إلى أنه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ولو معاصى، وأن فعله لا لغرض بل لحكمة، وإيلام الأطفال لا يستوجب عليه عوضا، وتظليمه نسبته إلى الظلم بتجويز تكليف المحال كما في علم الأصول، وجوزوا عليه الرؤية وهي غير مختصة بالأجسام عندهم، وجوز السلف أن يكون له يد ونحوها، لكن لا كالأيدى. وأراد بالقدماء صفات المعاني: كالقدرة والارادة، حيث قال أهل السنة: إنها موجودة بوجودات زائدة على وجود الذات، وتحقيق ذلك في التوحيد والأصول، فانظره. والبلكفة:
قولهم «بلا كيف» . (ع)(4/139)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا معاينا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدماء وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جملة في موضع الحال إن كان ترى من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.
[سورة الزمر (39) : آية 61]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قرئ: ينجى وينجى بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل:
لا يمسهم السوء، أى ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أى بمنجاة منه، لأنّ النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضى الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة، ويجوز: بسبب فلاحهم، لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة، لأنه سببها. وقرئ: بمفازاتهم، على أن لكل متق مفازة. فإن قلت: لا يَمَسُّهُمُ ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأوّل فلا محل له، لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني فمحله النصب على الحال.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية، لأنّ حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح، ولا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد. ويقال: إقليد، وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت. ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا. فإن قلت: بما اتصل قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا قلت: بقوله وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أى ينجى الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون.
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، فلا بخفي عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل: سأل عثمان رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فقال: «يا عثمان» ما سألنى عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله والله(4/140)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير» «1» وتأويله على هذا، أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض: من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون.
[سورة الزمر (39) : آية 64]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد. وتَأْمُرُونِّي اعتراض. ومعناه، أفغير الله أعبد بأمركم، وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معنى تعبدوننى وتقولون لي: اعبد، والأصل: تأمروننى أن أعبد، فحذف «أن» ورفع الفعل، كما في قوله:
ألا أيهذا الزّاجرى أحضر الوغى «2»
ألا تراك تقول: أفغير الله تقولون لي اعبده، وأ فغير الله تقولون لي أعبد، فكذلك أفغير الله تأمروننى أن أعبده. وأ فغير الله تأمروننى أن أعبد، والدليل على صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ أَعْبُدُ بالنصب. وقرئ: تأمروننى، على الأصل. وتأمرونى، على إدغام النون أو حذفها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قرئ: ليحبطنّ عملك، وليحبطنّ: على البناء للمفعول. ولنحبطنّ، بالنون والياء، أى:
ليحبطنّ الله. أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ على التوحيد؟ قلت: معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت كما تقول كسانا حلة، أى: كل واحد منا:
فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية لام الجواب، وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين، أعنى: جوابي القسم والشرط. فإن قلت: كيف صح هذا
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والعقيلي والبيهقي في الأسماء والطبراني في الدعاء كلهم من رواية أغلب بنى تميم حدثنا مخلد أبو الهذيل عن عبد الرحيم. وعبد الرحمن بن عدى عن عبد الله بن عمر به، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. وله وجه آخر عند ابن مردويه. من طريق كلب بن وائل عن عمر ورواه ابن مردويه عن الطبراني بإسناد آخر إلى ابن عباس «أن عثمان- فذكره» وفيه سلام بن وهب الجندي عن أبيه ولا أعرفهما.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 159 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/141)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
الكلام مع علم الله تعالى أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً يعنى على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ قلت: يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله تعالى إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه «1» وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد.
[سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين «2»
__________
(1) . قال محمود: «أصل الكلام: إن كنت عابدا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه.
اه كلامه» قال أحمد: مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية: أن الأصل فيه فاعبد الله، ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا، فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها، ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه، فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها، ولتعطف عليه ما بعدها وينضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر، كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
(2) . قال محمود: «الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن حبرا جاء إليه فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له، فإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من غير تصوير إمساك ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من التخييل، ثم قال: وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما. اه كلامه» قال أحمد: إنما عنى بما أجراه هاهنا من لفظ التخييل التمثيل، وإنما العبارة موهمة منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من الوجوه، والله أعلم.(4/142)
إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل «1» جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهنّ فيقول أنا الملك «2» فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... الآية وإنما ضحك أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليته «3» تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون «4» إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره، لما خفى عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة «5» والوجوه الرثة، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير «6» . والمراد بالأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان: قوله جَمِيعاً وقوله
__________
(1) . قوله «أن جبريل جاء إلى رسول الله» قيل: الصواب أنه حبر من أحبار اليهود لا جبريل. ويدل عليه ما في البخاري ومسلم والترمذي، كذا بهامش. ويؤيده أن «يا أبا القاسم» عادة اليهود في ندائه صلى الله عليه وسلم. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن مسعود. «تنبيه» وقع عنده أن جبريل وهو تصحيف. والذي في الصحيح «جاء حبر من اليهود» وفي رواية «أن يهوديا» وفي رواية «أن رجلا من أهل الكتاب» .
(3) . قوله «وعليته» أى معظمه. (ع)
(4) . قوله «وما أتى الزالون» أى أجيبوا (ع)
(5) . قوله «بالتأويلات الغثة» في الصحاح «الغث» نبت يختبز حبه ويؤكل في الجوع، وتكون خبزته غليظة شبيهة يخبز الملة. (ع)
(6) . قوله «قبيلا منه من دبير» في الصحاح «القبيل» : ما تقبل به المرأة من غزلها حين تفتله. وفيه «الدبير» :
ما تدبره به المرأة من غزلها حين تفتله. ومنه قيل: فلان ما يعرف قبيلا من دبير. (ع)(4/143)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
وَالسَّماواتُ ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضى كلهن. والقبضة: المرة من القبض فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ والقبضة- بالضم-: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا: أعطنى قبضة من كذا: تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روى: «1» أنه نهى عن خطفة السبع، «2» وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعا قبضته، أى: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أى: ذات أكلته وذات جرعته، تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
فإن قلت. ما وجه قراءة من قرأ قَبْضَتُهُ بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم:
مَطْوِيَّاتٌ من الطى الذي هو ضدّ النشر، كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: قبضته: ملكه بلا مدافع ولا منازع، وبيمينه:
بقدرته. وقيل: مطويات بيمينه مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكى حمية لكلام الله المعجز بفصاحته، وما منى «3» به من أمثاله، وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ:
مطويات على نظم السماوات في حكم الأرض، ودخولها تحت القبضة، ونصب مطويات على الحال سُبْحانَهُ وَتَعالى ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (39) : آية 68]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)
__________
(1) . لم أجده هكذا. وروى أحمد وإسحاق وأبو يعلى من رواية سهل عن عبد الله بن يزيد عن شيخ لقيه سعيد ابن المسيب أنه سمع أبا الدرداء يقول «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل خطفة ونهبة والمجثمة وكل ذى ناب من السباع» ورواه أبو يعلى من رواية الإفريقي ورواه الدارمي والطبراني والنسائي في الكنى من رواية أبى أوس عن الزهري عن أبى إدريس عن أبى ثعلبة، بلفظ «نهي عن الخطفة والمجثمة والنهبة، وكل ذى ناب من السباع» . [.....]
(2) . قوله «نهى عن خطفة السبع» أى: والمراد مخطوفه. (ع)
(3) . قوله «وما منى به» أى ابتلى. (ع)(4/144)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
فإن قلت: أُخْرى ما محلها من الإعراب؟ قلت: يحتمل الرفع والنصب: أما الرفع فعلى قوله فَإِذا نُفِخَ «1» فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وأما النصب فعلى قراءة من قرأ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ: قياما ينظرون: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 69 الى 70]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك. والمعنى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادى عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما تقول: أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة» «2» وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. وقرئ: وأشرقت على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا.
والْكِتابُ صحائف الأعمال، ولكنه اكتفى باسم الجنس، وقيل: اللوح المحفوظ الشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار. وقيل: المستشهدون في سبيل الله
__________
(1) . قوله «أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ» أى في الحافة. وقوله «من قرأ» أى: هناك. وقوله «حذفت» أى هنا. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم عن جابر والنسائي وأبى داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص(4/145)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقد تزمروا «1» : قال:
حتّي احزألّت زمر بعد زمر «2»
وقيل في زمر الذين اتقوا: هي الطبقات المختلفة: الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقرّاء وغيرهم وقرئ: نذر منكم. فإن قلت: لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت: أرادوا لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدّة قالُوا بَلى أتونا وتلوا علينا، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأنّ جهنم، لسوء أعمالنا، كما قالوا: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال. واللام في المتكبرين للجنس، لأنّ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فاعل بئس، وبئس فاعلها: اسم معرف بلام الجنس. أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره:
فبئس مثوى المتكبرين جهنم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 74]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)
__________
(1) . قوله «وقد تزمروا» وفي نسخة أخرى: تزامروا. وفي الصحاح: احزألت الإبل في السير: ارتفعت. (ع)
(2) .
إن العفاة بالسيوب قد غمر ... حتى احزألت زمر بعد زمر
«السيوب» في الأصل: السيول، استعيرت للعطايا الكثيرة على طريق التصريحية. والغمر: ترشيح، أى: أن طلاب الرزق قد عمهم الممدوح بالعطايا. واحزألت: ارتفعت سائرة من عنده «زمر» : أى أفواج بعد أفواج.
ويروى: زمرا، على الحال، أى: احزألت العفاة حال كونها أفواجا متتابعة. وعلى الأول ففيه إظهار في موضع الإضمار، دلالة على التكثير.(4/146)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
حَتَّى هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، إلا أنّ جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. وقيل: حتى إذا جاؤها، جاؤها وفتحت أبوابها، أى مع فتح أبوابها.
وقيل: أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها. وأما أبواب الجنة فمتقدّم فتحها، بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وحثها إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين طِبْتُمْ من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا فَادْخُلُوها جعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة، فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين، لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحا، تنقى أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب خالِدِينَ مقدرين الخلود الْأَرْضَ عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرا ومتبوّأ، وقد أورثوها: أى ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤن، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولا وعرضا. فإن قلت: ما معنى قوله حَيْثُ نَشاءُ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت:
يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره.
[سورة الزمر (39) : آية 75]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
حَافِّينَ محدقين من حوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يقولون: سبحان الله والحمد لله، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله بَيْنَهُمْ؟ قلت: يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل، وأن يرجع إلى الملائكة، على أن ثوابهم- وإن كانوا معصومين جميعا- لا يكون على سنن واحد، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت:(4/147)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ من القائل ذلك؟ قلت: المقضى بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة، كأنه قيل: وقضى بينهم بالحق، وقالوا الحمد لله على قضائه بيننا بالحق، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه.
عن عائشة رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر «1»
سورة المؤمن
مكية. قال الحسن: إلا قوله وسبح بحمد ربك، لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقد قيل في الحواميم كلها: أنها مكيات: عن ابن عباس وابن الحنفية وهي خمس وثمانون آية، وقيل ثنتان وثمانون [نزلت بعد الزمر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قرئ بإمالة ألف «حا» وتفخيمها، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمى نحو قابيل وهابيل. التوب والثوب والأوب:
أخوات في معنى الرجوع والطول والفضل والزياد. يقال: لفلان على فلان طول، والإفضال. يقال:
طال عليه وتطوّل، إذا تفضل. فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا، والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ قلت: أمّا غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان، لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن. أو غدا حتى يكونا في
__________
(1) . أخرجه النسائي من رواية حماد بن زيد عن أبى أمامة عن عائشة في أثناء حديث، وأخرجه أحمد وإسحاق وأبو يعلى والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من هذا الوجه.(4/148)
تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما شديد العقاب فأمره مشكل، لأنه في تقدير: شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلا. وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبوّ ظاهر. والوجه أن يقال: لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل «1» ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف.
ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت: ما بال الواو في قوله وَقابِلِ التَّوْبِ؟ قلت:
فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
وروى أنّ عمر رضى الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب، من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم: حم إلى قوله إليه المصير. وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت لما اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان، لأنهما صفتان لازمتان، وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا، بل إضافتهما حقيقة. وأما شديد العقاب فلا شك في أن إضافته غير حقيقية، يريد:
لأنه من الصفات المشبهة، ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه قال: وجعله الزجاج بدلا وحده، وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر. والوجه أن يقال: إن جميعها أبدال غير أوصاف، لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعل، قضى عليها بأنها من بحر الرجز، فان وقع فيها جزء واحد على متفاعلن: كانت من الكامل» قال أحمد: وهذا لأن دخول مستفعلن في الكامل يمكن، لأن متفاعلن يصير بالاضمار إلى مستفعلن، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا، إذ لا يصبر إليه مستفعلن البتة، فما يفضى إلى الجمع بينهما فانه يتعين، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه الطريق في الجمع بين الدليلين.(4/149)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يردّدها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه ووقفوه، وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه «1» .
[سورة غافر (40) : آية 4]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر: والمراد: الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله، وقد دلّ على ذلك وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ جدالا في القرآن كفر» «2» وإيراده منكرا، وإن لم يقل: إنّ الجدال، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت: من أين تسبب لقوله فَلا يَغْرُرْكَ ما قبله؟ قلت: من حيث إنهم لما كانوا مشهودا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله: وجب على من تحقق ذلك أن لا نرجح أحوالهم في عينه، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون، فانّ مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادّخر لهم من سوء العاقبة مثلا: ما كان من نحو ذلك من الأمم، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه. وقرئ: فلا يغرّك.
[سورة غافر (40) : آية 5]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)
الْأَحْزابُ الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في ترجمة يزيد الأصم من روآية كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن يزيد الأصم «أن رجلا كان ذا بأس- فذكره بتمامه» ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن كثير بن هشام باختصار. وكذا ابن أبى حاتم والثعلبي.
(2) . أخرجه الطيالسي. ومن طريقه البيهقي في الشعب في التاسع عشر من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بلفظ «لا تجادلوا في القرآن فان جدالا فيه كفر» وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «مراه في القرآن كفر» في الصحيح والسنن(4/150)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب بِرَسُولِهِمْ وقرئ برسولها لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير: أخيذ فَأَخَذْتُهُمْ يعنى أنهم قصدوا أخذه، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب
[سورة غافر (40) : آية 6]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في محل الرفع بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ أى مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. والذين كفروا: قريش، ومعناه. كما وجب إهلاك أولئك الأمم، كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار. قرئ: كلمات.
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
روى أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة» «1» فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل: زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع «2» . وفي الحديث: إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا
__________
(1) . أخرجه الثعلبي. وروى شهر بن حوشب: أن ابن عباس رفعه بهذا تعليقا، وهو في كتاب العظمة لأبى الفتح.
(2) . قوله «كأنه الوصع» طائر أصغر من العصفور. (ع)(4/151)
ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة «1» . وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائه ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: العرش بضم العين. فإن قلت: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ «2» قلت:
فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى: وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة «3» ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان، لأنه إنما يوصف بالإيمان: الغائب، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء: في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، إلا هذا، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قال محمود: «إن قلت. ما قائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى ... الخ» قال أحمد: كلام حسن إلا استدلاله بقوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ على أنهم ليسوا مشاهدين، فهذا لا يدل، لأن الايمان هو التصديق غير مشروط فيه غيبة المصدق به، بدليل صحة إطلاق الايمان بالآيات مع أنها مشاهدة، كانشقاق القمر وقلب العصاحية. وإنما نقب الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض، لكنه طاح بعيدا عن الغرض، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين، بدليل قوله تعالى وَيُؤْمِنُونَ لأن معنى الايمان عنده التصديق بالغائب. ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين: أن الباري عز وجل لو صحت رؤيته لرأوه، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل، وقد أبطلنا ما ادعاه من أن الايمان مستلزم عدم الرؤية، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن تكون رؤيته غير صحيحة، وقوله: ولو كانت صحيحة لرأوه:
شرطية عقيمة الانتاج، لأن الرؤية عبارة عن إدراك: يخلق الله تعالى هذا الإدراك لحملة العرش، إلا أن يذهب بالزمخشرى الوهم إلى أن مصححى الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار على العرش، فيلزمهم رؤية حملة العرش له تعالى الله عن ذلك، وحاشى أهل السنة ومصححى الرؤية من ذلك. [.....]
(3) . قوله «كما تقول المجسمة» يريد أهل السنة، لأنهم لما جوزوا رؤيته تعالى معاينة: لزمهم القول بأنه تعالى جسم، ولكن الرؤية لا تستلزم الجسمية، خلافا للمعتزلة، كما بين في علم التوحيد. (ع)(4/152)
لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضى قط، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أى يقولون رَبَّنا وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ليستغفرون مرفوع المحل مثله، وأن يكون حالا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صحّ أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى. والأصل:
وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء. فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملا على حديثهما جميعا، وما ذكر إلا الغفران وحده؟ قلت: معناه فاغفر للذين علمت منهم التسوية واتباع سبيلك «1» . وسبيل الله: سبيل الحق التي نهجها «2» لعباده ودعا إليها إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى الملك الذي لا يغلب: وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا إلا بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أى العقوبات. أو جزاء السيئات. فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها: التكفير أو قبول التوبة: فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدته زيادة الكرامة والثواب. وقرئ: جنة عدن. وصلح، بضم اللام، والفتح أفصح. يقال: صلح فهو صالح، وصلح فهو صليح، وذريتهم.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت قد ذكر أولا الرحمة والعلم، ثم ذكر ما توجبه الرحمة وهو الغفران، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك ... الخ» قال أحمد: كلامه هاهنا محشو بأنواع الاعتزال: منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى. ومنها اعتقاد أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها. ومنها اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى. ومنها جحد الشفاعة، واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة المصلحة، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم يتب منها، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته، لا بالوجوب عليه، وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين، فهذه جواهر خمسة نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم، غير أنه جدد هاهنا قوله: إن فائدة الاستغفار كفائدة الشفاعة، وذلك مزيد الكرامة لا غير، يريد: أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل، وهذا الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة، زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة، كيف يجعل المسئول مزيدة الكرامة لا غير. ونص الآية: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، فهي ناطقة بأنهم يسألون من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.
(2) . قوله «التي نهجها» أى: أبانها وأوضحها. أفاده الصحاح. (ع)(4/153)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
أى ينادون يوم القيامة، فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وإِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأوّل. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ. وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا لمقت الله. وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وإِذْ تُدْعَوْنَ: تعليل. والمقت: أشدّ البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه اثْنَتَيْنِ
إماتتين وإحياءتين. أو موتتين وحياتين.
وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أوّلا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وكذا عن ابن عباس رضى الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا: إماتة؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد، من غير ترجح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما «1» على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله
__________
(1) . قال محمود: «إحدى الإماتتين خلقهم أمواتا أولا، والأخرى إماتتهم عند انقضاء آجالهم، ثم قال: فان قلت كيف سمى خلقه لهم أمواتا إماته، وأجاب بأنه كما يقال: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وكما يقال للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من صغر إلى كبر ولا عكسه، ولا من ضيق إلى سعة ولا عكسه. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد، وكذلك الضيق والسعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن من الآخر، جعل صرفا عن الآخر وهو متمكن منه» قال أحمد: ما أسد كلامه هاهنا حيث صادق التمسك بأذيال نظر مالك رحمه الله في مسألة ما إذا باعه إحدى وزنتين معينتين على اللزوم لإحداهما والخيرة في عينها، فانه منع من ذلك، لأن المشترى لما كان متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء، فإذا عين واحدة منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى، وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا، ثم الانتقال عنها إلى هذه، فإذا آل إلى بيع إحداهما بالأخرى غير معلومتى التماثل، وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم: إن من خير بين شيئين فاختار أحدهما: عد متنقلا، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.(4/154)
منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياآت، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها. أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدّهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله تعالى فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى، لأن من لم يخش العاقبة تخرق «1» في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء مِنْ سَبِيلٍ قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلِكُمْ أى ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك «2» به فَالْحُكْمُ لِلَّهِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد: وقوله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل:
كأن الحرورية «3» أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذا.
__________
(1) . قوله «تخرق في المعاصي» في الصحاح: يقال: هو يتخرق في السخاء، إذا توسع فيه. (ع)
(2) . قال محمود: «أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ معناه: أن اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى، وإيمانكم بالاشراك» قال أحمد: وعلى هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم:
هل إلى نجد وصول ... وعلى الخيف نزول
وإنما قصدهم أن هذا أمر غالب فيه اليأس على الطمع.
(3) . قوله «الحرورية» في الصحاح: أنها طائفة من الخوارج تنسب إلى «حرور» اسم قرية، وكأنه يريد أهل السنة، فإنهم الذين اشتهر عنهم هذا القول، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الفعل قد يدرك الحكم قبل ورود الشرع، كما بين في الأصول. (ع)(4/155)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 16]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16)
يُرِيكُمْ آياتِهِ من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق: المطر، لأنه سببه وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه، ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ أى اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ ثلاثة أخبار، لقوله «هو» مترتبة على قوله الَّذِي يُرِيكُمْ أو أخبار مبتدإ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. وقرئ: رفيع الدرجات بالنصب على المدح. ورفيع الدرجات، كقوله تعالى ذِي الْمَعارِجِ وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير: سماء فوق سماء. والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الذي هو سبب الحياة من أمره، يريد: الوحى الذي هو أمر بالخير وبعث عليه، فاستعار له الروح، كما قال تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ لِيُنْذِرَ الله. أو الملقى عليه: وهو الرسول أو الروح. وقرئ: لتنذر، أى: لتنذر الروح لأنها تؤنث، أو على خطاب الرسول. وقرئ: لينذر يوم التلاق، على البناء للمفعول ويَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة، لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل: يلتقى فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل:
المعبود والعابد يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأنّ الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث «يحشرون عراة حفاة غرلا» «1» لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أى من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت: قوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ:
بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت:
معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب: أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وقال تعالى:
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.(4/156)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وذلك لعلمهم أنّ الناس يبصرونهم، وظنهم أن الله لا يبصرهم، وهو معنى قوله وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه: أنه ينادى مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار. وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادى مناد: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ ... الآية فهذا يقتضى أن يكون المنادى هو المجيب.
[سورة غافر (40) : آية 17]
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
لما قرّر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك، وهي أنّ كل نفس تجزى ما كسبت وأن الظلم مأمون، لأن الله ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ، لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا أخذ في حسابهم لم يقل «1» أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.
[سورة غافر (40) : آية 18]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)
الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أى: لقربها. ويجوز أن يريد بيوم الآزفة: وقت الخطة الآزفة، وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فإن قلت: كاظِمِينَ بم انتصب؟
قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وقال فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وتعضده قراءة من قرأ: كاظمون. ويجوز أن يكون حالا عن قوله: وأنذرهم، أى: وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع، لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى:
__________
(1) . قوله «لم يقل أهل الجنة إلا فيها» من قال يقيل قيلولة. (ع)(4/157)
وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، «1» كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعا. ونحوه:
ولا ترى الضّبّ بها ينجحر «2»
يريد: نفى الضب وانجحاره. فإن قلت: فعلى أى الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفى الأمرين جميعا، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم.
قال الله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، «3» وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وعن الحسن رضى الله عنه: والله ما يكون لهم شفيع البتة، فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة، وهي أنها ضمت إليه، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معى سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معى، فكذلك قوله وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ معناه:
كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع:
وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف «4» غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون المنفي الشفيع الذي هو الموصوف وصفته وهي الطاعة، ويحتمل أن يكون المنفي الصفة وهي الطاعة والشفيع ثابت» قال أحمد: إنما جاء الاحتمال من حيث دخول النفي على مجموع الموصوف والصفة. ونفى المجموع، كما يكون بنفي كل واحد من جزئيه، وكذلك يكون بنفي أحدهما، على أن المراد هنا- كما قال-: نفى الأمرين جميعا. قال: وفائدة ذكر الموصوف أنه كالدليل على نفى الصفة، لأنه إذا انتفى الموصوف انتفت الصفة قطعا، قلت: فكأنه نفى الصفة مرتين من وجهين مختلفين.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 426 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «لا تكون إلا في زيادة التفضل» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتكون في الخروج من النار أيضا، كما تقرر في التوحيد. وحديث الشفاعة مشهور، نعم الكفار لا خروج لهم من النار. (ع)
(4) . قوله «موضع الأمر المعروف» أى الذي يعرفه السامع ويسلمه، كما هو شأن الشاهد على الدعوى، وإذا كان انتفاء الشفيع معروفا فلا ينتفي أن يتوهم وجوده، وبهذا يتبين قوله فيما سبق، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. (ع)(4/158)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
[سورة غافر (40) : آية 19]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
الخائنة: صفة للنظرة. أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لا يساعد عليه «1» . فإن قلت: بم اتصل قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ؟
قلت: هو خبر من أخبار هو في قوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ مثل يُلْقِي الرُّوحَ ولكن يُلْقِي الرُّوحَ قد علل بقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فبعد لذلك عن أخواته.
[سورة غافر (40) : آية 20]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ يعنى: والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضى إلا بالحق والعدل.
لاستغنائه عن الظلم. وآلهتكم لا يقضون بشيء، وهذا تهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضى، أو لا يقضى إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ: يدعون، بالتاء والياء.
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
هُمْ في كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعا بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشدّ منهم. قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجرى مجراها. وقرئ: منكم، وهي في مصاحف أهل الشأم وَآثاراً
__________
(1) . قال محمود: «الخائنة إما صفة للنظرة وإما مصدر كالعافية» قال: «ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين» لأنه لا يساعد عليه قوله تعالى وَما تُخْفِي الصُّدُورُ قال أحمد: إنما لم يساعد عليه لأن خائنة الأعين على هذا التقدير معناه الأعين الخائنة، وإنما يقابل الأعين الصدور، لا ما تخفيه الصدور، بخلاف التأويل الأول، فان المراد به نظرات الأعين فيطابق خفيات الصدور. [.....](4/159)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أرادوا: أكثر آثارا، كقوله:
متقلدا سيفا ورمحا «1»
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة ظاهرة وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرا وكذابا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ: بالنبوّة: فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله قالُوا اقْتُلُوا أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول فِي ضَلالٍ في ضياع وذهاب، باطلا لم يجد عليهم، يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظا وحنقا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعا.
[سورة غافر (40) : آية 26]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كانوا إذا همّ بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أنّ فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالا سفاكا الدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله
__________
(1) .
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
يا ليت زوجك قد غدا
أى ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.(4/160)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى تمويها «1» على قومه، وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، بدليل قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال: إنى أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو، ومعناه. إنى أخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وقرئ: يظهر، من أظهر «2» ، والفساد منصوب، أى: يظهر موسى الفساد. وقرئ يظهر، بتشديد الظاء والهاء، من تظهر بمعنى تظاهر، أى: تتابع وتعاون.
[سورة غافر (40) : آية 27]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله: قال لقومه إِنِّي عُذْتُ بالله الذي هو ربى وربكم، وقوله وَرَبِّكُمْ فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، وقال لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها: وعذت ولذت: أخوان. وقرئ: عت، بالإدغام.
[سورة غافر (40) : آية 28]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
__________
(1) . قال محمود: «كانوا إذا هم بقتله كفوه عنه بقولهم: ليس هذا ممن يخاف، وإنما هو ساحر لا يقاومه إلا مثله، وقتله يوقع الشبهة عند الناس أنك إنما قتلته خوفا، وكان فرعون لعنه الله في ظاهر أمره- والله أعلم- عالما أنه نبى خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لولا الجزع، وأراد أن يكتم خوفه من قتله بأن يقول لهم: ذروني أقتله، ليكفوه عنه فينسب الانكفاف عن قتله إليهم، لا إلى جزعه وخوفه. ويدل على خوفه منه لكونه نبيا قوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ وهذا من تمويهاته المعروفة» قال أحمد: هو من جنس قوله إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ فقد تقدم أن مراده بذلك أن يظهر لقومه قلة احتفاله بهم، ويوهمهم أن قتله لهم ليس خوفا منهم، ولكن غيظا عليهم، وكان من عادته الحذر والتحصن وحماية الذريعة في المحافظة على حوزة المملكة، لا أن ذلك خوف وهلع، ولقد كذب، إنما كان فؤاده مملوءا رعبا.
(2) . قوله «وقرئ يظهر من أظهر» يفيد أن القراءة المشهورة: يظهر من ظهر، والفساد مرفوع. (ع)(4/161)
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ وقرئ: رجل، بسكون الجيم كما يقال: عضد، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون:
آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا ومِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صفة لرجل. أو صلة ليكتم، أى:
يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه: سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل، أو حزبيل. والظاهر:
أنه كان من آل فرعون، فإنّ المؤمنين من بنى إسرائيل لم يقلوا ولم يعزوا. والدليل عليه قول فرعون: أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وقول المؤمن فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه أَنْ يَقُولَ لأن يقول. وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله رَبِّيَ اللَّهُ مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم «1» ، ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أى: وقت أن تقول. والمعنى. أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره. وقوله بِالْبَيِّناتِ يريد بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أى يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ما يعدكم إن تعرّضتم له. فإن قلت: لم قال: بعض الَّذِي يَعِدُكُمْ وهو نبىّ صادق، لا بد لما يعدهم أن يصيبهم
__________
(1) . قال محمود: «الظاهر أن الرجل من آل فرعون، وقيل: إنه من بنى إسرائيل. ومن آل فرعون: متعلق بيكتم، تقديره: يكتم إيمانه من آل فرعون، وهو بعيد، لأن بنى إسرائيل كان إيمانهم ظاهرا فاشيا، ولقد استدرجهم هذا المؤمن في الايمان باستشهاده على صدق موسى بإحضاره عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية ببينات عدة لا بينة واحدة، وأتى بها معرفة، معناه: البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ... الخ» قال أحمد: لقد أحسن الفهم والتفطن لأسرار هذا القول، ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالا بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة.
وقريب من هذا التصرف لابعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، حتى قيل:
إنه لما انتهى إليه قال: اللهم ما سرق هذا ولا هو بوجه سارق، فاطمأنت أنفسهم وانزاحت التهمة عن يوسف أن يكون قصد ذلك، فقالوا: والله لنفتشنه، فاستخرجها من وعائه.(4/162)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم «1» ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. فإن قلت: فعن أبى عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
ترّاك امكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «2»
قلت: إن صحت الرواية عنه. فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ يحتمل أنه كان مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوّة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشدّ من ذلك طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا، فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه «3» . وعن جعفر الصادق: أنّ مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا.
[سورة غافر (40) : آية 29]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)
ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ في أرض مصر عالين فيها على بنى إسرائيل، يعنى: أنّ لكم ملك
__________
(1) . قوله «إلى أن يلاوصهم ويداريهم» في الصحاح: فلان يلاوص الشجر، أى: ينظر كيف يأتيها لقلعها. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 641 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . أخرجه النسائي من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص. وابن حبان من طريق يحيى ابن عروة عن عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أتم منه. قلت: علقه البخاري نحوهما.(4/163)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرّضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال يَنْصُرُنا وجاءنا، لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أى: ما أشير عليكم برأى إلا بما أرى من قتله، يعنى: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأى إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ يريد: سبيل الصواب والصلاح.
أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدّخر منه شيئا، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر يعنى أنّ لسانه وقلبه متواطنان على ما يقول، وقد كذب، فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة. وقرئ: الرشاد، فعال من رشد بالكسر، كعلام. أو من رشد بالفتح، كعباد. وقيل:
هو من أرشد كجبار من أجبر، وليس بذلك، لأنّ فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدّة أحرف، نحو: درّاك وسارّ وقصار وحبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعوّاج وبتات «1» ، غير منظور فيه إلى فعل.
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31)
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر على الواحد من الجمع، لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا «2»
وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب، ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولا بدّ من حذف مضاف، يريد:
مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب مثل الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لمثل الأوّل لأنّ
__________
(1) . قوله «كعواج وبتات» أى: صاحب العاج، والعاج: عظم الفيل. والبتات: الذي يبيع البتوت، او يعملها. والبت: الطيلسان من الخز، كذا في الصحاح. (ع)
(2) .
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى: لا تملؤوها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع، من باب ضرب يضرب، ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن، فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.(4/164)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت أهلك الله الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود، لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعنى أن تدميرهم كان عدلا وقسطا، لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ حيث جعل المنفي إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلما مّا لعباده «1» . ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أى لا يريد لهم أن يظلموا، يعنى أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين «2» .
[سورة غافر (40) : الآيات 32 الى 33]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
التنادى. ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد:
وهو أن يندّ بعضهم من بعض، كقوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض: إذ سمعوا مناديا: أقبلوا إلى الحساب تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارّين عن النار غير معجزين.
[سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
__________
(1) . قوله «كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده» هذا على مذهب المعتزلة من أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وأن الارادة بمعنى الرضا. وعند أهل السنة أنه تعالى يخلق الشر ويريده كالخير ولا يرضى الشر، فالرضا غير الارادة عندهم، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «يجوز أن يكون معناه معنى: وما ربك بظلام للعبيد. وهذا أبلغ، لأنه إذا لم يرد الظلم كان عن فعله الظلم أبعد، وحيث نكر الظلم أيضا، كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده. قال: ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيكون المعنى: أن الله لا يريد لعباده أن يظلموا، لأنه ذمهم على كونهم ظالمين» قال أحمد: هذا من الطراز الأول، وقد تقدم مذهب أهل السنة فيما يتعلق بارادة الله تعالى خلافا لهذا وأشياعه.(4/165)
هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم «1» بن يوسف بن يعقوب:
أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه.
وقيل: هو فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين حَتَّى إِذا قبض قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا حكما من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ: ألن يبعث الله، على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرّر بعضا بنفي البعث. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أى مثل هذا الخذلان المبين «2» يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه الَّذِينَ يُجادِلُونَ بدل من مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت: لأنه لا يريد مسرفا واحدا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل كَبُرَ؟ قلت: ضمير من هو مسرف. فإن قلت:
أما قلت هو جمع، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى. وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع «3» أن يحمل على
__________
(1) . قوله «وقيل هو يوسف بن إبراهيم» عبارة النسفي: أفراثيم. (ع)
(2) . قوله «أى مثل هذا الخذلان المبين» المعتزلة يؤولون الإضلال بالخذلان والترك، بناء على مذهبهم: أن الله لا يخلق الشر. وأهل السنة يفسرونه بخلق الضلال في القلب، بناء على أنه تعالى بخلق الشر كالخير كما بين في التوحيد. (ع)
(3) . قال محمود: «الذين يجادلون بدل من من هو مسرف، لأن المراد كل مسرف. وجاز إبداله على معنى من، لا على لفظها. قال: فان قلت ما فاعل كبر؟ وأجاب بأنه ضمير من هو مسرف، فحمل البدل على المعنى، والضمير على اللفظ، وليس ببدع» اه كلامه. قال أحمد: فيما ذكره معاملة لفظ من بعد معاملة معناها، وهذا مما قدمت أن أهل العربية يستغربونه، والأولى أن يجتنب في إعراب القرآن، فان فيه إبهاما بعد إيضاح، والمعهود في قراءة البلاغة عكسه، والصواب أن يجعل الضمير في قوله كَبُرَ راجعا إلى مصدر الفعل المتقدم، وهو قوله يُجادِلُونَ تقديره: كبر جدالهم مقتا، ويجعل الَّذِينَ مبتدأ، على تأويل حذف المضاف، تقديره: جدال الذين يجادلون في آيات الله، والضمير في قوله كَبُرَ مَقْتاً عائد إلى الجدال المحذوف، والجملة مبتدأ وخبر. ومثله في حذف المصدر المضاف وبناء الكلام عليه: قوله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ على أحد تآويله، ومثله كثير. وفيه سوى ذلك من الوجوه السالمة عما ينطرق إلى الوجه المتقدم. فالوجه العدول عنه [.....](4/166)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء، ولا بدّ في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتا، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ، وبِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ خبرا، وفاعل كبر قوله كَذلِكَ أى كبر مقتا مثل ذلك الجدال، ويَطْبَعُ اللَّهُ كلام مستأنف، ومن قال:
كبر مقتا عند الله جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي كَبُرَ مَقْتاً ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد إشكاله من الكبائر.
وقرئ: سلطان بضم اللام. وقرئ: قلب، بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن. ونحوه قوله عز وجل فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف. أى: على كل ذى قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
قيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر، وأَسْبابَ السَّماواتِ طرقها وأبوابها وما يؤدى إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، كالرشاء ونحوه، فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلى أبلغ أسباب السماوات لأجزأ؟ قلت: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها، ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيبا أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه. وقرئ: فأطلع بالنصب «1» على جواب الترجي، تشبيها للترجى بالتمني. ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ والمزين: إما الشيطان بوسوسته، كقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أو الله تعالى على وجه التسبيب، لأنه مكن»
الشيطان وأمهله. ومثله زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ وقرئ: وزين له سوء عمله «3» ،
__________
(1) . «وقرئ فأطلع بالنصب» يفيد أن القراءة المشهورة بالرفع على العطف. (ع)
(2) . قوله «على وجه التسبيب لأنه مكن» أول بهذا، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلقه كالخير فلا حاجة إلى هذا التأويل، والآية على ظاهرها. (ع)
(3) . قوله «وقرئ وزين له سوء عمله» أى بدل قوله تعالى وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. (ع)(4/167)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ، دلّ عليه قوله إِلى إِلهِ مُوسى وصدّ، بفتح الصاد وضمها وكسرها، على نقل حركة العين إلى الفاء، كما قيل: قيل. والتباب الخسران والهلاك.
وصدّ: مصدر معطوف على سوء عمله. وصدّوا هو وقومه.
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 39]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)
قال أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم لدنيا وتصغير شأنها، لأنّ الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدى إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة. وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين، وهو قوله تعالى فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ وفي هذا أيضا دليل بين على أنّ الرجل كان من آل فرعون. والرشاد نقيض الغى. وفيه تعريض شبيه بالتصريح أنّ ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغى.
[سورة غافر (40) : آية 40]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لأنّ الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة، لأنها ظلم. وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة، لأنها فضل. قرئ: يدخلون ويدخلون بِغَيْرِ حِسابٍ واقع في مقابلة إلا مثلها، يعنى: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 42]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم،(4/168)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه، فإنّ سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه: يا أبت. وأما المجيء بالواو العاطفة، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما تقول: هداه إلى الطريق وهداه له ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أى بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال:
وأشرك به ما ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها «1»
[سورة غافر (40) : الآيات 43 الى 44]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)
لا جَرَمَ سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل لا ردّا لما دعاه إليه قومه. وجرم:
فعل بمعنى حق، وأنّ مع ما في حيزه فاعله، أى: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أى: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال: أن لا جرم، نظير: لا بدّ، فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بدّا فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى: لا بد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بعد لك من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار، أى: لا قطع لذلك، بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع، لبطلان دعوة الأصنام، أى لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، بزنة بد، وفعل وفعل: أخوان. كرشد ورشد، وعدم وعدم لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أى:
من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية، ولو كان حيوانا ناطقا لضجّ من دعائكم. وقوله فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ يعنى أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا
__________
(1) . قال محمود: المراد بنفي العلم نفى المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس باله، وما ليس باله كيف يصح أن يعلم إلها» قال أحمد: وهذا من قبيل
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار له فيهتدى به، وكلام الزمخشري هاهنا أشد من كلامه على قوله تعالى حكاية عن فرعون ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.(4/169)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
من دعاء وغيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه الله حيوانا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو دعوة مستجابة، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال الله تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. الْمُسْرِفِينَ عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد: السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: فستذكرون، أى:
فسيذكر بعضكم بعضا وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ لأنهم توعدوه.
[سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 46]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ ما هموا به من تعذيب المسلمين. ورجع عليهم كيدهم النَّارُ بدل من سوء العذاب. أو خبر مبتدإ محذوف، كأن قائلا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ خبره يُعْرَضُونَ عَلَيْها وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها، وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به، وقرئ: النار، بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير. وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها. ويجوز أن ينتصب على الاختصاص غُدُوًّا وَعَشِيًّا في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم.
ويجوز أن يكون غُدُوًّا وَعَشِيًّا: عبارة عن الدوام. هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ عذاب جهنم. وقرئ: أدخلوا آل فرعون، أى:
يقال لخزنه جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم: لم يكن مكرهم راجعا عليهم، لأنهم لا يعذبون بجهنم. قلت:
يجوز أن بهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا لأنه همّ بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن بهمّ فرعون- لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ- فيفعل نحو ما فعل نمروذ ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهمّ بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر.(4/170)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
[سورة غافر (40) : آية 47]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47)
واذكر وقت يتحاجون تَبَعاً تباعا، كخدم في جمع خادم. أو ذوى تبع، أى: أتباع، أو وصفا بالمصدر.
[سورة غافر (40) : آية 48]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)
وقرئ. كلا، على التأكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا. أو كلنا فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون «كلا» حالا قد عمل فِيها فيها؟
قلت: لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمه كما يعمل في الظرف متقدما تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائما في الدار زيد قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
[سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ للقوّام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها؟ قلت:
لأن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر «1» ، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها، لزعمهم أنه يلقى الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر «2» ، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:
قليذم من العياليم الخسف «3»
__________
(1) . قوله «بئر جهنام بعيدة القعر ... الخ» في الصحاح: بكسر الجيم والهاء. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل لخزنتها، وأجاب أن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا من قولهم: بئر جهنام، أى: بعيدة القعر، وكان النابغة يسمى الجهنام لبعد غوره في الشعر» قال أحمد: الأول أظهر، والتفخيم فيه من وجهين، أحدهما: وضع الظاهر موضع المضمر، وهو الذي أشار إليه والثاني: ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه، لأن جهنم أفظع من النار، إذ النار مطلقة، وجهنم أشدها.
(3) .
أو دى جميع العلم مذ أودى خلف ... من لا يعد العلم إلا ما عرف
راوية لا يجتنى من الصحف ... قليذم من العياليم الخسف
لأبى نواس يرثى خلف الأحمر بن أحمد. وأودى ملك ومن لا يعد العلم صفة خلف، أى: لا يعتبر من العلم إلا بما عرفه حق اليقين وتلقاه بالتلقين. أو عرفه بالاستنباط من قواعد السابقين، فهو راوية، أى: كثير الرواية لا يأخذ من الكتب، شبهها بالروضة المثمرة على طريق المكنية، والاجتناء تخييل. وقليذم: البئر الغزيرة الماء.
والعيلم: الحفرة الكثيرة الماء. والخف: البعيدة الغور العميقة، شبهه بذلك تشبيها بليغا، لكثرة علمه ومعرفته للمعاني البعيدة الخفية.(4/171)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الوكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات قالُوا فَادْعُوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم فَادْعُوا لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه، فكيف يسمع دعاء الكافر.
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 52]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أى في الدنيا والآخرة، يعنى أنه يغلبهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من الله، فالعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص «1» من أعدائهم ولو بعد حين: والأشهاد. جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. واليوم الثاني بدل من الأوّل، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة «2» لقوله تعالى وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد من رحمة الله وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أى سوء دار الآخرة وهو عذابها. وقرئ: تقوم. ولا تنفع، بالتاء والياء.
__________
(1) . قوله «من يقتص» أى: يقدر. (ع)
(2) . قال محمود: «يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة لكنها لا تنفعهم، لأنها باطلة. ويحتمل أنهم لا يعتذرون، ولو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة قال أحمد: «هما الاحتمالان في قوله تعالى وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ولكن بين الموضعين فرقا يصير أحدهما معه عكس الآخر، وذلك أنه هنا على تقدير أن يكون المراد أنهم لا معذرة لهم البتة، يكون قد نفى صفة المعذرة وهي المنفعة التي لها تراد المعذرة، قطعا لرجائهم كى لا يعتذروا البتة، كأنه قيل إذا لم يحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع ما لا ثمرة له وفي الآية المتقدمة جعل نفى الموصوف بتا لنفى الصفة ولهذا أولى النفي في هذه الآية الفعل، وفي المتقدمة أولى النفي الذات المنسوب إليها الفعل.(4/172)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 54]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)
يريد بالهدى جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع وَأَوْرَثْنا وتركنا على بنى إسرائيل من بعده الْكِتابَ أى التوراة هُدىً وَذِكْرى إرشادا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال. وأولو الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه.
[سورة غافر (40) : آية 55]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعنى أنّ نصرة الرسل في ضمان الله، وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بنى إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدى من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء عليه بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وقيل: هما صلاتا العصر والفجر.
[سورة غافر (40) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلا تكبر وتعظم، وهو إرادة التقدّم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسدا وبغيا. ويدل عليه قوله تعالى لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أو إرادة دفع الآيات بالجدال ما هُمْ بِبالِغِيهِ أى ببالغي موجب الكبر ومقتضية، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوّة أو دفع الآيات.
وقيل: المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدّجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرا، ونفى أن يبلغوا متمناهم فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من كيد من(4/173)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
يحسدك ويبغى عليك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقول ويقولون الْبَصِيرُ بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
[سورة غافر (40) : آية 57]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
فإن قلت. كيف اتصل قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله «1» لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم.
[سورة غافر (40) : آية 58]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)
ضرب الأعمى والبصير مثلا للمحسن والمسيء. وقرئ: يتذكرون بالياء والتاء، والتاء أعم.
[سورة غافر (40) : آية 59]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
لا رَيْبَ فِيها لا بد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها، لأنه لا بد من جزاء لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: كيف اتصل قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بما قبله؟ وأجاب بأن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم، فخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على الإنسان الضعيف أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله» قال أحمد: الأولوية في هذا الاستشهاد ثابتة بدرجتين، أحدهما ما ذكره من أن القادر على العظيم هو على الحقير أقدر. الثانية: أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الاعادة ولا شك أن الابتداء أعظم وأبهر من الاعادة، فإذا كان ابتداء خلق العظيم يعنى السماوات والأرض داخلا تحت القدرة فابتداء خلق الحقير: يعنى الناس أدخل تحتها، وإعادته أدخل من ابتدائه، فهو أولى بأن يكون مقدورا عليه مما اعترفوا به من خلق السماوات والأرض بدرجتين، وإلى هذا الترتيب وقعت الاشارة بقوله تعالى في الم غُلِبَتِ الرُّومُ:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فقرر أن قيام السماء والأرض هو بأمره، أى: خلقها من آياته، فكيف بما هو أحط من قيامها بدرجتين وهو إعادة البشر أهون عليه من الابتداء ليتحقق الدرجتان المذكورتان، فقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وإذا تأملت الذي ذكرته منسوبا لما ذكره الزمخشري: علمت أن ما ذكره هو لباب المراد فجدد عهدا به إن لم تعلم ذلك.(4/174)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
[سورة غافر (40) : آية 60]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
ادْعُونِي اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن. ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي والاستجابة: الإثابة وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن- وقد سئل عنها-: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله، فقال. إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث «إذا شغل عبدى طاعتي عن الدعاء. أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» «1» وروى النعمان بن بشير رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الدعاء هو العبادة» «2» وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويريد بعبادتي: دعائي، لأنّ الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء «3» . وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيا مرسلا: كان يقول لكل نبىّ أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد داخِرِينَ صاغرين.
[سورة غافر (40) : آية 61]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)
مُبْصِراً من الإسناد المجازى، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما فيراعى حق المقابلة؟ قلت:
هما متقابلان من حيث المعنى، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن سفيان عن منصور عن مالك بن الحرث قال «يقول الله: إذا اشتغل عبدى بثنائه عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وهذا مرسل، وفي الترمذي عن أبى سعيد «من شغله قراءة القرآن عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» .
(2) . أخرجه أصحاب السنن، وتقدم في مريم.
(3) . أخرجه الحاكم في الدعاء من وجهين عنه.(4/175)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
لتبصروا فيه، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى، ولو قيل: ساكنا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه- لم تتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو لمتفضل؟ قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل، وذلك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل:
ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
[سورة غافر (40) : الآيات 62 الى 63]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
ذلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة، أى: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وإنشائه لا يمتنع عليه شيء، والوحدانية: لا ثانى له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف ومن أى وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: خالق كل شيء، نصبا على الاختصاص. وتؤفكون: بالتاء والياء.
[سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
هذه أيضا دلالة أخرى على تمييزه بأفعال خاصة، وهي أنه جعل الأرض مستقرا وَالسَّماءَ بِناءً أى قبة. ومنه: أبنية العرب لمضاربهم، لأنّ السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقرئ بكسر الصاد والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان: وقيل لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله تعالى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة من الشرك والرياء، قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من قال لا إله إلا الله. فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين «1» .
__________
(1) . أخرجه الطبري، والحاكم أيضا، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن مردويه من رواية الأعمش عن مجاهد عنه. [.....](4/176)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
[سورة غافر (40) : آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)
فإن قلت: أما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكر الأدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا، لأن ذكر تناصر الأدلة أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية «1» .
[سورة غافر (40) : آية 67]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك لتكونوا. وأما وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى فمعناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى، وهو وقت الموت. وقيل:
يوم القيامة. وقرئ: شيوخا، بكسر الشين. وشيخا، على التوحيد، كقوله طِفْلًا والمعنى:
كل واحد منكم. أو اقتصر على الواحد، لأنّ الغرض بيان الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من العبر والحجج.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: النبي عليه الصلاة والسلام قد اتضحت له أدلة العقل على التوحيد قبل مجيء الوحى، فعلام تحمل الآية؟ وأجاب بأن الأمر كذلك ولكن البينات مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومتضمنة ذكرها، نحو قوله أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا لأن ذكر الأمرين أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية» قال أحمد: اللائق بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته واستحالة كون الأصنام آلهة، فمستفاد من أدلة العقول، وقد ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات. وأما وجوب عبادة الله تعالى وتحريم عبادة الأصنام، فحكم شرعي لا يستفاد إلا من السمع، فعلى هذا يترك الجواب عن هذا السؤال. وقوله تعالى إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنما أريد به- والله أعلم-: تحريم عبادة غير الله، فهذا لا يستفاد إلا من نهى الله تعالى عن ذلك، لا من العقل، لكن قاعدة الزمخشري تقتضي أن تحريم عبادة غير الله تعالى تتلقى من العقل قبل ورود الشرع، إذ العقل عنده حاكم بمقتضى التحسين والتقبيح، ولهذا أورد الاشكال عليه، واحتاج إلى الجواب عنه، ثم قوله في الجواب أن أدلة الشرع مقوية لأدلة العقل ضعيف، مع اعتقاده أن العقل يدل على الحكم قطعا، وما دل قطعا كيف يحتمل الزيادة والتأكيد، والقطعيات لا تفاوت في ثبوتها.(4/177)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
[سورة غافر (40) : آية 68]
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدورا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
بِالْكِتابِ بالقرآن وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الكتب. فإن قلت: وهل قوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت:
المعنى على إذا: إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. وعن ابن عباس: والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه: والسلاسل يسحبون بحر السلاسل.
ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ لكان صحيحا مستقيما، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله وَالسَّلاسِلُ على العبارة الأخرى. ونظيره:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلّا ببين غرابها «1»
كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: وبالسلاسل يسحبون فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ من سجر التنور إذا
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 381 فراجعه إن شئت اه مصححه.(4/178)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
ملأه بالوقود. ومنه: السجير «1» ، كأنه سجر بالحب، أى: مليء. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك ضَلُّوا عَنَّا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ: أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت:
يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات «2» ، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم، إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أى تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا كما تقول: حسبت أنّ فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ذلِكُمْ الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك وعبادة الأوثان ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة المقسومة لكم. قال الله تعالى لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ. خالِدِينَ مقدّرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم. فإن قلت:
أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، كما تقول: زر بيت الله فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.
[سورة غافر (40) : آية 77]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله: فإن ترك. و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل «3» . ألا تراك لا تقول. إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت:
لا يخلو إما أن تعطف أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فقولك: فإمّا نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن
__________
(1) . قوله «ومنه السجير» في الصحاح: «سجير الرجل» : صفيه وخليله، والجمع السجراء. (ع)
(2) . قوله «في سائر الأوقات» أى باقى الأوقات بعد وقت التوبيخ. (ع)
(3) . قال محمود: «المصحح للحاق النون المؤكدة دخول ما المؤكدة للشرط، ولولا «ما» لم يجز دخولها» قال أحمد: وإنما كان كذلك لأن النون المؤكدة حقها أن تدخل في غير الواجب، والشرط من قبيل الواجب، إلا أنه إذا أكد قوى إبهامه فقربته قوة الإبهام من غير الواجب، فيساغ دخول النون فيه.(4/179)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
جعلت فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ مختصا بالمعطوف الذي هو نتوفينك، في المعطوف عليه بغير جزاء.
قلت: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ متعلق بنتوفينك، وجزاء نُرِيَنَّكَ محذوف، تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك. أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم «1» منهم أشدّ الانتقام ونحره قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ.
[سورة غافر (40) : آية 78]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قيل: بعث الله ثمانية آلاف نبىّ: أربعة آلاف من بنى إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن علىّ رضى الله عنه: أنّ الله تعالى بعث نبيا أسود «2» ، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنادا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرا من الرسل وما كان لواحد منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فمن لي بأن آتى بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات. وأمر الله: القيامة الْمُبْطِلُونَ هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرا.
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يشرك مع الأول في الشرط ويكون قوله فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جزاء مشركا بينهما فلا يستقيم المعنى، على: فاما نرينك بعض الذي نعدهم.. فالينا يرجعون وإن جعل الجزاء مختصا بالثاني بقي الأول بغير جزاء. وأجاب بأنه مختص بالثاني، وجزاء الأول محذوف، تقديره: فاما نرينك بعض الذي نعدهم وهو ما حل بهم يوم بدر، فذاك. أو نتوفينك، فالينا يرجعون فننتقم منهم» قال أحمد: وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه معلوم، وهو حصول المراد على التمام.
وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم، فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس، على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه. قال: ومثله قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ: كأنه يستشهد على أن جزاء الأول محذوف بذكر هذه الآية
(2) . أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط وابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى عن على رضى الله عنه في قوله وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال أرسل الله عبدا حبشيا، فهو الذي لم نقصص عليك» وروى الثعلبي من وجه آخر عن جابر عن أبى الطفيل عن على «كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي. بعث نبى من الحبشة إلى قومه. ثم قرأ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية.(4/180)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
الأنعام: الإبل خاصة. فإن قلت: لم قال لِتَرْكَبُوا مِنْها ولتبلغوا عليها، ولم يقل، لتأكلوا منها ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون «1» عليها حاجة في صدوركم؟ قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع: فمن جنس المباح الذي لا يتعلق «2» به إرادته: ومعنى قوله وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ؟
قلت: معنى الإيعاء «3» ومعنى الاستعلاء: كلاهما مستقيم، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضا فليطابق قوله وَعَلَيْها ويزاوجه أَيَّ آياتِ اللَّهِ
جاءت على اللغة المستفيضة. وقولك: فأية آيات الله قليل، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أى أغرب لإبهامه.
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: هلا قيل لتركبوا منها ولتأكلوا منها ولتبلغوا، ومنها تركبون ومنها تأكلون، وعليها تبلغون؟ وأجاب بأن في الركوب الركوب في الغزو والحج، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد لاقامة دين أو علم، وهذه أغراض دينية: إما واجبة أو مندوبة مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به الارادة» قال أحمد: جواب متداع للسقوط مؤسس على قاعدة واهية، وهي أن الأمر راجع إلى الارادة، فالواجب والمندوب مرادان، لأنهما مندرجان في الأمر، والمباح غير مراد، لأنه غير مأمور به، وهذا من هنيات المعتزلة في إنكار كلام النفس، فلا نطيل فيه النفس. وقاعدة أهل الحق أنه لا ربط بين الأمر والارادة، فقد يأمر بخلاف ما يريد، ويريد خلاف ما يأمر به، فالجواب الصحيح إذا أن المقصود المهم من الأنعام والمنفعة المشهورة فيها إنما هي الركوب وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار والانتقال في ابتغاء الأوطار، فلذلك ذكرهما هنا مقرونين باللام الدالة على التعليل والغرض. وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والأوبار والألبان وما يجرى مجراها فهي وإن كانت حاصلة منها فغير خاصة بها خصوص الركوب والحمل وتوابع ذلك، بل الأكل بالغنم خصوصا الضأن أشهر، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم، فلذلك جردت هذه المنافع بالأخبار عن وجودها فيها غير مقرونة بما يدل على أنها المقصود.
(2) . قوله «المباح الذي لا يتعلق به» مبنى على مذهب المعتزلة: أن الارادة بمعنى الأمر فلا تتعلق إلا بالمطلوب.
وعند أهل السنة: هي صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، فتتعلق بجميع الممكنات، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(3) . قوله «معنى الايعاء» في الصحاح: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. (ع)(4/181)
وَآثاراً قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع، يعنى أى شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بنى يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله: دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له.
لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحى فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ومنها: أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه: أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادى واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم:
فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات- وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف «1» عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.
__________
(1) . قوله «والظلف» في الصحاح: ظلفت نفسي عن كذا- بالكسر- تظلف ظلفا، أى: كفت. (ع)(4/182)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
[سورة غافر (40) : الآيات 84 الى 85]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
البأس: شدّة العذاب. ومنه قوله تعالى بِعَذابٍ بَئِيسٍ. فإن قلت: أى فرق بين قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من كان في نحو قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ والمعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم «1» . فإن قلت:
كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله تعالى فَما أَغْنى عَنْهُمْ فهو نتيجة قوله كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وأما قوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى فَما أَغْنى عَنْهُمْ كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله سُنَّتَ اللَّهِ بمنزلة وَعَدَ اللَّهُ وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وهُنالِكَ مكان مستعار للزمان، أى: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ بعد قوله فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أى: وخسروا وقت مجيء أمر الله، أو وقت القضاء بالحق.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبى ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» «2»
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: أى فرق بين قوله: فلم يك بنفعهم إيمانهم. وبينه لو قيل: فلم بنفعهم، وأجاب بأن معنى كانَ هنا معناها في قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ بمعنى: فلم يستقم ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم، قال أحمد: كان الذي ثبت التصرف فيها بإجراء نونها مجرى حروف العلة حتى حذفت للجازم هي كانَ الكثير استعمالها، المكرر دورانها في الكلام. وأما كانَ هذه فليست كثيرة التصرف حتى يتسع فيها بالحذف، بل هي مثل: صان، وحان» في القلة، فالأولى بقاؤها على بابها المعروف، وفائدة دخولها في هذه الآية وأمثالها: المبالغة في نفى الفعل الداخلة عليه بتعديد جهتى نفيه عموما باعتبار الكون، وخصوصا باعتباره في هذه الآية مثلا، فكأنه نفى مرتين، والله أعلم.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.(4/183)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
سورة [فصلت، وتسمى] السجدة
مكية، وآياتها 54 وقيل 53 آية [نزلت بعد غافر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
إن جعلت حم اسما للسورة كانت في موضع المبتدأ. وتَنْزِيلٌ خبره. وإن جعلتها تعديد للحروف كان تَنْزِيلٌ خبرا لمبتدأ محذوف وكِتابٌ بدل من تنزيل. أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون تَنْزِيلٌ مبتدأ، وكِتابٌ خبره.
ووجهه أن تنزيلا تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ فُصِّلَتْ آياتُهُ ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة: من أحكام وأمثال ومواعظ، ووعد ووعيد، وغير ذلك. وقرئ: فصلت، أى: فرقت بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الاختصاص والمدح، أى: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أى: فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت: بم يتعلق قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ؟
قلت: يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت، أى: تنزيل من الله لأجلهم. أو فصلت آياته لهم.
والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أى قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ: بشير ونذير، صفة للكتاب. أو خبر مبتدأ محذوف فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك. تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه.(4/184)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
[سورة فصلت (41) : آية 5]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء. والوقر- بالفتح- الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله تعالى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه: حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه، فلا تلاقى ولا ترائى فَاعْمَلْ على دينك إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا. أو فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ إنا عاملون. فإن قلت:
هل لزيادة مِنْ في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة مِنْ فالمعنى: أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ «1»
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: ما فائدة مِنْ في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وأجاب بأن فائدتها الدلالة على أن من جهتهم ابتدأ الحجاب، ومن جهته أيضا ابتدأ حجاب، فيلزم أن المسافة المتوسطة بينهما مملوءة بالحجاب لا فراغ فيها، ولولا ذكر من فيها لكان المعنى: على أن في المسافة بينهما حجابا فقط» قال أحمد: ولا ينفك المعنى بدخول مِنْ عما كان عليه قبل، ولو كان لأمر كما ذكر لكانت من مقدرة مع بين الثانية، لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما هي مفيدة للابتداء في الأولى، فيكون التقدير إذا: ومن بيننا وبينك حجاب، وهذا يخل بمعنى «بين» إخلالا بينا، فإنها تأبى تكرار العامل معها، حتى لو قال القائل: جلست بين زيد، وجلست بين عمرو: لم يكن مستقيما، لأن تكرار العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط، ويقطعه عن قرينه المتقدم. ومن شأنها الدخول على متعدد، لأن في ضمن معناها التوسط، وزاد الزمخشري على هذا فجعل «بين» الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته، وليس الأمر كما ظنه، بل «بين» الأولى هي الثانية بعينها، وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ، فوجب تكرار حافظه وهو بين، والدليل على هذا: أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين أن تقول: جلست بين زيد وبين عمرو. وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فالظاهر- والله أعلم- أن موقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا وذلك للاشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام مبدأ الحجاب لا غير، ووجود من قريب من عدمها، ألا ترى إلى آخر هذه الآية كيف لم يستعمل فيها من، وهي قوله تعالى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وكلام الزمخشري هذا إذا امتحنته بالتحقيق الذي ذكرناه: تبين ضعفه، والله الموفق. وفي هذه الآية وأختها من المبالغة والبلاغة ما لا يليق أن ينتظم إلا في درر الكتاب العزيز، فإنها اشتملت على ذكر حجب ثلاثة متوالية: كل واحد منها كاف في فنه، فأولها الحجاب الحائل الخارج، ويليه حجاب الصمم. وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله، فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا أسبلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا الا استلبته، فنسأل الله كفايته. [.....](4/185)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
فيها. فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذاننا وقر، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة. وعلى قلوبنا أكنة. والدليل عليه قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة: لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة «1» إلا في المعاني.
[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 7]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)
فإن قلت: من أين كان قوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ جوابا لقولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «2» ؟ قلت: من حيث أنه قال لهم: إنى لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم، وقد أوحى إلىّ دونكم فصحت- بالوحي إلىّ وأنا بشر- نبوّتى، وإذا صحت نبوّتى: وجب عليكم اتباعى، وفيما يوحى إلىّ: أن إلهكم إله واحد فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينا ولا شمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك وَاسْتَغْفِرُوهُ. وقرئ: قال إنما أنا بشر.
فإن قلت: لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ قلت:
لأن أحب شيء إلى الإنسان ما له وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة «3» من الدنيا فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم الحرب،
__________
(1) . قوله «والملاحظة» لعله: والملاحة. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: كيف كان هذا جوابا لما تقدمه» قال أحمد: وأجاب بما نلخصه فتقول: لما أبوا القبول منه عليه الصلاة والسلام كل الاباء، بدأهم باقامة الحجة على وجوب القبول منه، فانه بشر مثلهم لا قدرة له على إظهار المعجزات التي ظهرت. وإنما القادر على إظهارها هو الله تعالى تصديقا له عليه الصلاة والسلام، ثم بين لهم بعد قيام الحجة عليهم أهم ما بعث به وهو التوحيد، واندرج تحت الاستقامة جميع تفاصيل الشرع وتمم ذلك بإنذارهم على ترك القبول بالويل الطويل.
(3) . قوله «إلا بلمظة من الدنيا» في الصحاح «لمظ» إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه اه فلمظة: بمعنى ملموظ كمضغة بمعنى ممضوغ. (ع)(4/186)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
وجوهدوا «1» . وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان.
[سورة فصلت (41) : آية 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمنّ التفضل. فأما الأجر فحق أداؤه.
وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر، كأصح ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
أَإِنَّكُمْ بهمزتين «2» : الثانية بين بين. وءائنكم، بألف بين همزتين ذلِكَ الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو رَبُّ الْعالَمِينَ...... رَواسِيَ جبالا ثوابت. فإن قلت: ما معنى قوله مِنْ فَوْقِها وهل اختصر على قوله وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ كقوله تعالى وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ؟ قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مر كوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضا، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض،
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم خص الزكاة وأجاب بأن أحب الأشياء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فبذله مصداق لاستقامته ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، وأهل الردة ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحرب وجوهدوا» قال أحمد: كلام حسن بعد تبديل قوله: وما خدع المؤلفة، فان استعماله الخداع غير لائق، لأنهم إنما تألفهم عليه الصلاة والسلام على الايمان من قبيل الملاطفة ودفع السيئة بالحسنة ومانحا هذا النحو.
(2) . قوله «أإنكم بهمزتين» لعله: قرئ بهمزتين ... الخ. (ع)(4/187)
لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته وَبارَكَ فِيها وأكثر خيرها وأنماه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود: وقسم فيها أقواتها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج. في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: سواء، بالحركات الثلاث: الجر على الوصف والنصب على: استوت سواء، أى: استواء: والرفع على: هي سواء. فإن قلت: بم تعلق قوله لِلسَّائِلِينَ؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر: أى: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين.
وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج «1» . فإن قلت: هلا قيل في يومين؟ وأى فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين، علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين، وهي الدلالة على أنها كانت أياما كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين- وقد يطلق اليومان على أكثرهما- لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ من قولك:
__________
(1) . قال محمود: «إن قوله فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فذلكة بمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين، فذلك أربعة أيام سواء. وقال: ومعنى سواء: كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
ونقل عن الزجاج أن معنى الآية في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة: اليومين، ثم قال: فان قلت بم تعلق قوله لِلسَّائِلِينَ؟ وأجاب بأنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر، أى: قدر فيها الأقوات لأجل السائلين المحتاجين إليها من المقتاتين، ثم قال: وهذا الوجه الأخير. لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج» قال أحمد: لم يبين استناعه على التفسير الأول ونحن نبينه فنقول: مقتضى التفسير الأول أن قوله في أربعة أيام فذلكة، ومن شأنها الوقوع في طرف الكلام بعد تمامه، فلو جعل قوله لِلسَّائِلِينَ متعلقا بمقدر: لزم وقوع الفذلكة في حشو الكلام، ولا كذلك على تفسير الزجاج، فان الأربعة على قوله من تتمة الأول، وهي متعلقة بمقدر على تأويل حذف التتمة تعلق الظرف بالمظروف، ليلائم ذلك إتمام الكلام ببيان المقصود من خلق الأقوات بعد بيان من خلقها. وتفسير الزجاج- والله أعلم- أرجح، فإنه يشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل القريب الذي قدره، ومتضمن لما يقوم مقام الفذلكة، إذ ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها، وعلى تفسير الزمخشري تكون الفذلكة مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها، فانه لم يذكر منها سوى يومين خاصة، ومن شأن الفذلكة أن يتقدم النص على جميع أعدادها مفصلة، ثم تأتى هي على الجملة كقوله فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.(4/188)
استوى إلى مكان كذا، إذا توجه إليه توجها لا يلوى على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ والمعنى: ثم دعاه داعى الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، «1» وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا. أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير «2» أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي «3» . فإن قلت، لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فالمعنى. ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف: ائتى يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول:
أتى عمله مرضيا، وجاء مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده ونقتضيه الحكمة والتدبير: من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ: آتيا، وآتينا: من المؤاتاة وهي الموافقة: أى: لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا، وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمرى ومشيئتى ولا تمتنعا.
فإن قلت: ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما
__________
(1) . قوله «فعل الآمر المطاع» لعله: أمر الآمر. (ع)
(2) . قوله «تصوير أثر قدرته» لعله: تأثير. (ع)
(3) . قال محمود: «إما أن يكون هذا من مجاز التمثيل كأن عدم امتناعهما على قدرته امتثال المأمور المطيع إذا ورد عليه الأمر المطاع، فهذا وجه. واما أن يكون تخييلا فيبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماوات والأرض فأجابتاه، والغرض منه تصوير أثر القدرة في المقدور من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب، ومثله قول القائل: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ فقال الوتد: اسأل من يدفنى لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي» قال أحمد:
قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل على كلام الله تعالى، فان معنى هذا الإطلاق لو كان صحيحا والمراد منه التصوير لوجب اجتناب التعبير عنه بهذه العبارة، لما فيها من إيهام وسوء أدب، والله أعلم.(4/189)
من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل:
طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سماوات وأرضون. قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره قيل: طائعين، في موضع: طائعات، نحو قوله السَّاجِدِينَ «1» .
فَقَضاهُنَّ يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال طائِعِينَ ونحوه أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال، والثاني على التمييز، قيل خلق الله السماوات وما فيها في يومين: في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت، من أنه لو قيل: في يومين في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان «2» . فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها
__________
(1) . قال محمود: فان قلت لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان معها والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ وأجاب بأنه قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي من الشكل: ائتي يا أرض مدحوة وفرارا ومهادا، واثنى يا سماء سقفا مقبية. ثم قال: فان قلت ما معنى طوعا أو كرها، وأجاب بأنه تمثيل للزوم تأثير القدرة فيهما، كما يقول الجبار لمن تحت يده: افعل هذا شئت أو أبيت. ثم قال: فان قلت: هلا قيل طائعتين، على اللفظ. وطائعات، على المعنى، لأنها سماوات وأرضون. وأجاب بأنه لما جعلن مخاطبات ومجيبات وموصوفات بالطوع والكره. قيل: طائعين في موضع طائعات، نحو قوله ساجدين» قال أحمد: لم يحقق الجواب عن السؤال الآخر، وذلك أن في ضمن الآية سؤالين: أحدهما لم ذكرها وهي مؤنثة، وهذا هو السؤال الذي أورده. الثاني أنى بها على جمع العقلاء وهي لا تعقل، وهذا لم يذكره، فالجواب الذي ذكره مختص بالسؤال الذي لم يذكره، ولهذا نظره بقوله السَّاجِدِينَ فان تلك الآية ليس فيها سوى السؤال عن كونها جمعت جمع العقلاء، فأما السؤال الآخر فلا، لأن الكلام راجع إلى الكواكب وهي مذكرة، والشمس وإن كانت مؤنثة إلا أنه غلب في الكلام المذكر على المؤنث على المنهاج المعروف، فأما هذه الآية فتزيد على تلك بهذا السؤال الآخر: وهو أن جميع ما تقدم ذكره من السماوات والأرض مؤنثة، فيقال أولا:
لم ذكرها، وثانيا: لم أتى جمعها المذكر على جمع نعت جمع العقلاء، ليتحقق نسبة السؤال والجواب، والطوع اللاتي تختص بالعقلاء لا بها، ولم يوجد في جمع المؤنث عدول إلى جمع المذكر لوجود الصيغة المرشدة إلى العقل فيه، فتمت الفائدة بذلك على تأويل السماوات والأرض بالأفلاك مثلا وما في معناه من المذكر، ثم يغلب المذكر على المؤنث ولا يعدم مثل هذا التأويل في الأرضين أيضا.
(2) . قال محمود: «قيل: إن الله تعالى خلق السماوات وما فيها في يوم الخميس ويوم الجمعة، وفرغ آخر ساعة من يوم الجمعة، وخلق آدم في تتمة اليوم، وفيه تقوم القيامة ثم استدل بذلك على ما ذكره من أنه لو قال: في يومين، في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان» قال أحمد: كأنه يستدل بإهمال اليومين عن التأكيد، حيث لم يكن خلق السماوات بما فيها في جملة اليومين، على أنه إنما فذلك أيام خلق الأرض بما فيها:
لأنه لو فصلها لم يكن فيها دليل على استيعاب الخلق لكل يومين منها، بل كان يجوز أن يكون الخلق في أحد اليومين وبعض الآخر، كما كان في هذه الآية على النقل الذي ذكر، وهذا لا يتم له منه غرض، فان للقائل أن يقول: إنما كان خلق السماوات بما فيها في يومين كاملين، لأن آدم لم يكن في السماوات حينئذ ويخلقه كمل اليومان على مقتضى ما نقله، فتأمله.(4/190)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
في يومين كاملين. أو قيل بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء؟ قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك المركب، «1» ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب أَمْرَها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها وَحِفْظاً وحفظناها حفظا، يعنى من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)
فَإِنْ أَعْرَضُوا بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة: أى عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ: صعقة مِثْلَ صعقة عاد وثمود:
وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا، وهو من باب:
فعلته ففعل مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أى أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعنى لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة. وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما حرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجرى عليهم. وقيل: معناه إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم. فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم، وكيف يخاطبونهم بقولهم فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم، أى من قبلهم وممن يجيء من خلفهم، أى من بعدهم، فكان الرسل جميعا قد جاءوهم. وقولهم فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. أن في أَلَّا تَعْبُدُوا بمعنى أى، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أى: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا، ومفعول شاء محذوف أى لَوْ شاءَ رَبُّنا
__________
(1) . قوله «من مغاصاة القرائح ومصاك الركب» أى أمكنة الغوص على اللؤلؤ، وأمكنة اصطكاك الركب. (ع)(4/191)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ معناه: فإذ أنتم بشر ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقولهم أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. روى أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره «1» ، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ، فأتاه فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار من أى بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساكت، فلما فرغ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ... إلى قوله ...
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود: أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ أى تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظم وهو القوّة وعظم الأجرام. أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب بهذا نحوه مرسلا، ووصله ابن أبى شيبة. وعنه أبو يعلى وعبد بن حميد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، كلهم من رواية الأجلح الكندي عن الزبال ابن حرملة عن جابر مطولا.(4/192)
من الجبل فيقتلعها بيده. فإن قلت: القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية، وهي نقيضة الضعف.
وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنية «1» وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلا على معنى القدرة، فكيف صحّ قوله هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وإنما يصح إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية، وحقيقتها: زيادة القدرة «2» ، فكما صحّ أن يقال: الله أقدر منهم، جاز أن يقال: أقوى منهم، على معنى: أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم يَجْحَدُونَ كانوا يعرفون أنها حق، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف «3» على فاستكبروا، أى كانوا كفرة فسقة. الصرصر: العاصفة التي تصرصر، أى: تصوّت في هبوبها. وقيل: الباردة التي تحرق بشدّة بردها، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أى يجمع ويقبض نَحِساتٍ قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحسا:
نقيض سعد سعدا، وهو نحس. وأما نحس، فإمّا مخفف نحس، أو صفة على فعل، كالضخم وشبهه. أو وصف بمصدر. وقرئ: لنذيقهم، على أنّ الإذاقة للريح أو للأيام النحسات.
وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزى، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيئ، والدليل عليه قوله تعالى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وهو من الإسناد المجازى، ووصف العذاب بالخزي: أبلغ من وصفهم به.
__________
(1) . قوله «من تمييز بذات أو لصحة بنية» هذا كقوله الآتي: إنه يقدر لداته، تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة على أنه تعالى قادر بذاته، لكن مذهب أهل السنة أنه تعالى قادر بقدرة قائمة بذاته، وكذا بقية الصفات كما في التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «القوة: الشدة في البنية ونقيضها الضعف، والقدرة ما لأجله يصح الفعل من الفاعل، وهي نقيضة العجز، فان وصف الله تعالى بالقوة فذاك بمعنى القدرة وليست القوة على حقيقتها، فكيف صح قوله هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ولا بد أن يراد بالقوة في الموضعين شيء واحد، وأجاب عنه بأن القدرة في الإنسان صحة البنية والاعتدال والشدة، والقوة زيادة في القدرة، فكما صح أن يقال: أقدر منهم، صح أن يقال: أقوى منهم، على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرتهم» قال أحمد، فسر القدرة على خلاف ما هي في اعتقاد المتكلمين، فان سلم له من حيث اللغة فقد نكص عنه إلى حمل القدرة في الآية على مقتضاها في فن الكلام، وجعل التفضيل من حيث أن الله تعالى قادر لذاته. أى: بلا قدرة، والمخلوق قادر بقدرة على القاعدة الفاسدة للقدرية، ونظير هذا التفسير في الفساد تفسير قول القائل: زيد أعلم من عمرو، بإثبات صفة العلم للمفضول، وسلبها بالكلية عن الأفضل، وهل هذا إلا عنه وعمى في اتباع الهوى وعمه؟ فالحق أن التفضيل إنما جاء من جهة أن القدرة الثابتة للعبد قدرة مقارنة لفعله، معلومة قبله وبعده، مفقودة غير مؤثرة في العقل الراجح في محلها» فضلا عن تجاوزها إلى غيره، وقدرة الله جلت قدرته مؤثرة في المقدورات، موجودة أزلا وأبدا، عامة التعلق بجميع الكائنات من الممكنات، فهذا هو النور الذي لا يلوح إلا من إثبات عقائد السنة لمن سبقت له من الله المنة.
(3) . قوله «وهو معطوف على فاستكبروا» أى: قوله تعالى وَكانُوا ... الخ (ع)(4/193)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر.
[سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
وقرئ: ثمود، بالرفع والنصب منونا وغير منون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.
وقرئ بضم الثاء فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، كقوله تعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق له عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها صاعِقَةُ الْعَذابِ داهية العذاب وقارعة العذاب.
والْهُونِ الهوان، وصف به العذاب مبالغة. أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة «1» بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم- وكفى به شاهدا- إلا هذه الآية، لكفى بها حجة «2» .
__________
(1) . قوله «حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة» يريد أهل السنة، سماهم المعتزلة بذلك لقولهم: جميع الحوادث- خيرا كانت أو شرا من أفعال العباد الاختيارية أو غيرها- فهي بقضاء الله تعالى وقدره، خلافا للمعتزلة:
حيث ذهبوا إلى أن جميع الأفعال الاختيارية ليست بقضائه تعالى وقدره، ولا تأثير له فيها أصلا. وهذا أحق بالتنقيص الذي يفيده الحديث. وفسروا الإضلال والهدى في قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بخلق الضلال وخلق الاهتداء، خلافا للمعتزلة: حيث فسروا الإضلال بالخذلان وترك العبد وشأنه، والهدى بالبيان ونقل النسفي عن أبى منصور الماتريدى: أن الهدى المضاف للخالق يكون تارة بمعنى البيان كما في هذه الآية وتارة بمعنى خلق الاهتداء كما في قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ والمضاف للمخلوق بمعنى البيان فقط، ويحتمل أن يكون هدى ثمود بمعنى خلق الاهتداء فيهم. وأنهم آمنوا قبل عقر الناقة، ثم كفروا وعقروها اه (ع)
(2) . قال محمود: «فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، ثم قال: فان قلت أليس معنى هديته حصلت له الهدى والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ وأجاب بأنه مكنهم وأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بحصول موجبها، ثم قال: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام- وكفى به شهيدا- إلا هذه الآية، لكفى بها حجة» قال أحمد: قد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، فان القدرية مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد صحبه الأكرمون أن الطائفة الذين قفا الزمخشري أثرهم القدرية المتمجسة، الذين أديانهم بأدناس الفساد متنجسة فهم أول منخرط في هذا السلك، ومنهبط في مهواة هذا الهلك، ولترجع إلى أصل الكلام فنقول: الهدى من الله تعالى عند أهل السنة حقيقة: هو خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال: خلق الضلال في قلوب الكافرين، ثم ورد الهدى على غير ذلك من الوجوه مجازا واتساعا، نحو هذه الآية، فان المراد فيها بالهدى الدلالة على طريقه كما فسره الزمخشري. وقد اتفق الفريقان: أهل السنة وأهل البدعة على أن استعمال الهدى هاهنا مجاز، ثم إن أهل السنة يحملونه على المجاز في جميع موارده في الشرع، فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، وأى دليل في هذه الآية على أهل السنة لأهل البدعة، حتى يرميهم بما ينعكس إلى نحره، ويذيقه وبال أمره.(4/194)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 21]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
قرئ يحشر على البناء للمفعول. ونحشر بالنون وضم الشين وكسرها، ويحشر: على البناء للفاعل، أى: يحشر الله عز وجل أَعْداءُ اللَّهِ الكفار من الأوّلين والآخرين يُوزَعُونَ أى يحبس أوّلهم على آخرهم، أى: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار، نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته: فإن قلت: ما في قوله حَتَّى إِذا ما جاؤُها ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها. ومثله قوله تعالى أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أى لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرّمات. فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت:
الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة «1» بأن يخلق فيها كلاما. وقيل، المراد بالجلود: الجوارح.
وقيل: هي كناية عن الفروج، أراد بكل شيء: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كل شيء من المقدورات، والمعنى: أنّ نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه- وإنما قالوا لهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 22 الى 23]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
__________
(1) . قوله «كما أنطق الشجرة» على زعم المعتزلة أن تكليمه مع موسى عليه السلام هو خلقه الكلام في الشجرة التي كانت عند الطور. وعند أهل السنة: هو بأن كشف له عن كلامه القديم وأسمعه إياه كما بين في محله. (ع)(4/195)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
والمعنى: أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم، لأنكم كنتم غير عاملين بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا، ولكنكم إنما استترتم لظنكم أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا كنتم تَعْمَلُونَ وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك «1» الظنّ هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله علينا كالئة ورقيبا مهيمنا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا وتصونا منه مع الملأ، ولا يتبسط في سره مراقبة «2» من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ: ولكن زعمتم وَذلِكُمْ رفع بالابتداء، وظَنُّكُمُ وأَرْداكُمْ خبران، ويجوز أن يكون ظَنُّكُمُ بدلا من ذلِكُمْ وأَرْداكُمْ الخبر.
[سورة فصلت (41) : الآيات 24 الى 25]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
فَإِنْ يَصْبِرُوا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه: لم يعتبوا: لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها، ونحوه قوله عز وعلا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ وقرئ: وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين، أى: إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، أى: لا سبيل لهم إلى ذلك وَقَيَّضْنا لَهُمْ وقدّرنا لهم، يعنى لمشركي مكة: يقال: هذان ثوبان قيضان: إذا كانا متكافئين.
والمقايضة: المعاوضة قُرَناءَ أخدانا «3» من الشياطين جمع قرين، كقوله تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم «4» ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين «5» . والدليل عليه وَمَنْ يَعْشُ نقيض
__________
(1) . قوله «وذلك الظن هو الذي أهلككم» لعله. وذلكم. (ع)
(2) . قوله «في سره مراقبة من التشبه» أى مخافة، كما أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «قرناأ أخدانا» أى أصدقاء. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «قلت معناه أنه خذلهم» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يقدر الشر. أما على مذهب أهل السنة أنه تعالى يقدره كالخير، فلا داعى إلى هذا التكلف. قال تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ الخ. (ع)
(5) . قال محمود: «كيف جاز أن يقيض لهم قرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ وأجاب بأن معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. والدليل عليه قوله تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ... الآية قال أحمد: جواب هذا السؤال على مذهب أهل السنة: أن الأمر على ظاهره، فان قاعدة عقيدتهم أن الله تعالى قد ينهى عما يريد وقوعه، ويأمر بما لا يريد حصوله، وبذلك نطقت هذه الآية وأخواتها، وإنما تأولها الزمخشري ليتبعها هواه الفاسد في اعتقاده أن الله تعالى لا ينهى عما يريد، وإن وقع النهى عنه فعلى خلاف الارادة- تعالى الله عن ذلك وبه نستعيذ من جعل القرآن تبعا للهوى، وحينئذ فنقول: لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام سوى هذه الآية، لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه الله بها الذي أنطق كل شيء في الآية التي قبل هذه.(4/196)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها. أو بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات، وما خلفهم: من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا حساب وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعنى كلمة العذاب فِي أُمَمٍ في جملة أمم. ومثل في هذه ما في قوله:
إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا «1»
يريد: فأنت في جملة آخرين، وأنت في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد. فإن قلت: فِي أُمَمٍ ما محله؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في عليهم القول كائنين في جملة أمم إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28)
قرئ: والغوا فيه، بفتح الغين وضمها. يقال: لغى يلغى، ولغا يلغو. واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. قال: من اللغا ورفث التكلم. والمعنى: لا تسمعوا له إذا قرئ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والهذيان والزمل «2» وما أشبه ذلك، حتى تخلطوا على القارئ وتشوّشوا عليه وتغلبوه على قراءته. كانت قريش يوصى بذلك بعضهم
__________
(1) . لعروة بن أذينة، يقول: إن تك مأقوكا- أى: مصروفا ومنقلبا عن أحسن العطاء- فلا عجب، فأنت في جملة ناس آخرين قد أفكوا وصرفوا عن الإحسان. ومنه: المؤتفكات، وهي المدن المنقلبة على قوم لوط وتقول العرب: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، يعنون: الرياح المختلفة المهاب.
(2) . قوله «والزمل» الذي في الصحاح «الأزمل» الصوت: والأزمولة- بالضم-: المصوت من الوعول وغيرها. (ع)(4/197)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
بعضا فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يجوز أن يريد بالذين كفروا: هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم. قد ذكرنا إضافة أسوأ بما أغنى عن إعادته. وعن ابن عباس عَذاباً شَدِيداً يوم بدر. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ في الآخرة ذلِكَ إشارة إلى الأسوإ، ويجب أن يكون التقدير: أسوأ جزاء الذين كانوا يعملون، حتى تستقيم هذه الإشارة. والنَّارُ عطف بيان للجزاء. أو خبر مبتدإ محذوف.
فإن قلت: ما معنى قوله تعالى لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ؟ قلت: معناه أن النار في نفسها دار الخلد، كقوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وتقول: لك في هذه الدار دار السرور. وأنت تعنى الدار بعينها جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أى جزاء بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
[سورة فصلت (41) : آية 29]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
الَّذَيْنِ أَضَلَّانا أى الشيطانين اللذين أضلانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لأنّ الشيطان على ضربين: جنى وإنسى. قال الله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وقال تعالى الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وقيل: هما إبليس وقابيل، لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق. وقرئ: أرنا، بسكون الراء لثقل الكسرة، كما قالوا في فخذ: فخذ.
وقيل: معناه أعطنا للذين أضلانا. وحكوا عن الخليل: أنك إذا قلت: أرنى ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه. وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء، معناه: أعطنى ثوبك: ونظيره: اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار
[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
ثُمَّ لتراخى الاستقامة عن الإقرار في المرتبة. وفضلها عليه، لأنّ الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.(4/198)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
وعنه: أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال حملتم الأمر على أشدّه. قالوا:
فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضى الله عنه: استقاموا على الطريقة لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان رضى الله عنه: أخلصوا العمل. وعن على رضى الله عنه:
أدّوا الفرائض. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضى الله عنه: قلت يا رسول الله، أخبرنى بأمر أعتصم به. قال: «قل ربىّ الله، ثم استقم» قال فقلت: ما أخوف ما تخاف علىّ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال «هذا» «1» تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت بالبشرى.
وقيل البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم أَلَّا تَخافُوا أن بمعنى أى. أو مخففة من الثقيلة. وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: لا تخافوا، أى: يقولون لا تخافوا، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غم، فلن تذوقوه أبدا. وقيل لا تخافوا ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم. كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين تَدَّعُونَ
تتمنون: والنزل: رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال.
[سورة فصلت (41) : آية 33]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ عن ابن عباس رضى الله عنهما: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإسلام وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة له. وعنه: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضى الله عنها: ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحدا معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير داعيا إليه، وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد، الدعاة إلى دين الله «2» وقوله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده، كما تقول: هذا قول أبى حنيفة، تريد مذهبه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 34 الى 35]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن حبان بتمامه، وأصله في مسلم.
(2) . قوله «العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة» إن أراد بهم المعتزلة سموا أنفسهم بذلك، فلا وجه التخصيص. (ع) [.....](4/199)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
يعنى أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها- إذا اعترضتك حسنتان- فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه ويقتل ولدك فتفتدى ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت:
فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل:
ادفع بالتي هي أحسن. وقيل لا مزيدة. والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة، فإن قلت:
فكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة: قلت: أجل، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، وفسر الحظ بالثواب. وعن الحسن رحمه الله: والله ما عظم حظ دون الجنة، وقيل: نزلت في أبى سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار وليا مصافيا.
[سورة فصلت (41) : آية 36]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
النزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل: جد جدّه. أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه، وامض على شأنك ولا تطعه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 38]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
الضمير في خَلَقَهُنَّ لليل والنهار والشمس والقمر، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها وبريتهنّ: أو لما قال وَمِنْ آياتِهِ كن في معنى الآيات، فقيل:
خلقهنّ. فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت: عند الشافعي رحمه الله تعالى تَعْبُدُونَ وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبى حنيفة رحمه الله: يسأمون،(4/200)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
لأنها تمام المعنى، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب: لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة، فدعهم وشأنهم فإنّ الله عز سلطانه لا يعدم عابدا ولا ساجدا بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد، وقوله عِنْدَ رَبِّكَ عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ: لا يسأمون، بكسر الياء.
[سورة فصلت (41) : آية 39]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربق وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة «1» . وقرئ: وربأت، أى ارتفعت لأن النبت إذا همّ أن يظهر: ارتفعت له الأرض.
[سورة فصلت (41) : آية 40]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
يقال: ألحد الحافر ولحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ: يلحدون ويلحدون، على اللغتين. وقوله لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا وعيد لهم على التحريف.
[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
فإن قلت: بم اتصل قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ؟ قلت: هو بدل من قوله إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا والذكر: القرآن، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ أى منيع محمى بحماية الله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
__________
(1) . قوله «في الأطمار الرثة» في الصحاح «الطمر» الثوب الخرق، والجمع: الأطمار. (ع)(4/201)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
مثل كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت: أما طعن فيه الطاعنون، وتأوّله المبطلون؟ قلت: بلى، ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا، ولا قول مبطل إلا مضمحلا. ونحوه قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
[سورة فصلت (41) : آية 43]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
ما يقال لك أى: ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ورحمة لأنبيائه وَذُو عِقابٍ لأعدائهم. ويجوز أن يكون: ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: هو قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، والغرض: تخويف العصاة.
[سورة فصلت (41) : آية 44]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم «فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أى بينت ولخصت بلسان نفقههءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ الهمزة همزة الإنكار، يعنى: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمى ورسول عربى، أو مرسل إليه عربى، وقرئ: أعجمى، والأعجمى: الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أى جنس كان، والعجمي: منسوب إلى أمّة العجم. وفي قراءة الحسن: أعجمى بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمى، والمرسل أو المرسل إليه عربى. والمعنى: أنّ آيات الله على أى طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتا، لأنّ القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن: هلا فصلت آياته تفصيلا، فجعل بعضها بيانا للعجم، وبعضها بيانا للعرب. فإن قلت:
كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا أعجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمى ومكتوب(4/202)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
إليه عربى، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر. ألا تراك تقول- وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: - اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما هُوَ أى القرآن هُدىً وَشِفاءٌ إرشاد إلى الحق وشفاء لِما فِي الصُّدُورِ من الظن والشك. فإن قلت:
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ منقطع عن ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟ قلت:
لا يخلو إما أن يكون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في موضع الجر معطوفا على قوله تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، إلا أنّ فيه عطفا على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وإمّا أن يكون مرفوعا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر «1» على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر. وقرئ: وهو عليهم عم. وعمى، كقوله تعالى فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعنى: أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء.
[سورة فصلت (41) : آية 45]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
فَاخْتُلِفَ فِيهِ فقال بعضهم: هو حق، وقال بعضهم: هو باطل. والكلمة السابقة:
هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم، ولولا ذلك لقضى بينهم في الدنيا.
قال الله تعالى بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
[سورة فصلت (41) : آية 46]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
فَلِنَفْسِهِ فنفسه نفع فَعَلَيْها فنفسه ضرّ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ فيعذب غير المسيء.
__________
(1) . أجاز الزمخشري في الواو في هذه الآية وجهين، أحدهما: أن تكون الواو لعطف الذين على الذين، ووقر على هدى وشفاء، ويكون من العطف على عاملين. قال: وإما أن يكون الَّذِينَ مرفوعا على تقدير:
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر اه قال أحمد: أى وبتقدير الرابط يستغنى عن تقدير المبتدإ.
.(4/203)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 48]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أى إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو لا يعلمها إلا الله. وقرئ: من ثمرات من أكمامهن «1» . والكم- بكسر الكاف وعاء الثمرة، كجف الطلعة، أى: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله: من الخداج «2» والتمام، والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك أَيْنَ شُرَكائِي أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله تعالى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وفيه تهكم وتقريع آذَنَّاكَ أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أى ما منا أحد اليوم- وقد أبصرنا وسمعنا- يشهد بأنهم شركاؤك، أى: ما منا إلا من هو موحد لك: أو ما منا من أحد يشاهدهم، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل: هو كلام الشركاء، أى: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير:
أنهم لا ينفعونهم، فكأنهم ضلوا عنهم وَظَنُّوا وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت:
آذَنَّاكَ إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم أَيْنَ شُرَكائِي؟ إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية: دليل على إعادة المحكي.
ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخبارا بإيذان قد كان، كما تقول: أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت.
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 50]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)
__________
(1) . قوله «وقرئ من ثمرات من أكمامهن» يفيد أن القراءة المشهورة: من ثمرة من أكمامها. والذي في النسفي: من ثمرات من أكمامها. ومن ثمرة من أكمامها. وأما: من ثمرات من أكمامهن. فهي المزيدة هنا، فحرر. (ع)
(2) . قوله «من الخداج» أى النقصان، كما في الصحاح. (ع)(4/204)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود: من دعاء بالخير وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أى الضيقة والفقر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فعول، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أى: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لِي أى هذا حقي وصل إلىّ، لأنى استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ. أو هذا لي لا يزول عنى، ونحوه قوله تعالى فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ونحوه قوله تعالى وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يريد: وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم إِنَّ لِي عند الله الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة، قائسا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا: ولئن رجعت إلى ربى إنّ لي عنده للحسنى. ويقول في الآخرة: يا ليتني كنت ترابا. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب. ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبا للافتخار والاستكبار لا غير، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة، وأنهم محقوقون بذلك.
[سورة فصلت (41) : آية 51]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
هذا أيضا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وكأنه لم يلق بؤسا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره وَنَأى بِجانِبِهِ أى ذهب بنفسه وتكبر وتعظم.
وإن مسه الضرّ والفقر: أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، ويستعار له الطول أيضا كما استعير الغلظ بشدّة العذاب. وقرئ: ونأى بجانبه، بإمالة الألف وكسر النون للإتباع. وناء على القلب، كما قالوا: راء في رأى. فإن قلت: حقق لي معنى قوله تعالى وَنَأى بِجانِبِهِ قلت: فيه وجهان: أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله:
......... ونفيت عنه ... مقام الذئب...... «1» ..
__________
(1) .
وماء قد وردت لأجل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذيب كالرجل اللعين
للشماخ: وأروى، اسم محبوبته. واللجين- بفتح اللام وكسر الجيم-: ما يتساقط من الورق من اللجن وهو الدق، لأنه يضربه الهوى أو الراعي، فيسقط من الشجر. وذعرت- بفتحتين» أى: أخفت فيه القطا، وخصها لأنها أسبق الطير إلى الماء. ومقام الذيب: إقامته أو محلها، وعبر به كناية عن ذاته، وخصه لأن غالب وروده الماء ليلا.
والرجل اللعين: هو الصورة التي تنصب وسط الزرع على شكل الرجل تطرد عنه الهوام، يقول: ورب ماء قد وردته لأجل محبوبتى، عسى أن تجيء عنده فأراها. ويروى: لوصل أروى، فلعله كان موعدا بينهما. وشبه الطير حول الماء بورق الشجر المتساقط في الكدرة والكثرة والانتشار، وهذا يدل على أنه لا يكثر وروده، فيصلح موعدا للوصل. وذعرت- إلى آخره: كناية عن وروده ليلا، وكالرجل اللعين: حال من ضمير الشاعر، فيفيد أنه سبق القطا والذيب وقعد هناك، أو حال من الذيب، أى: على هيئة مفزعة. وفيه دليل على شجاعة الشاعر وجرأته(4/205)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يريد: ونفيت عنه الذئب. ومنه: ولمن خاف مقام ربه. ومنه قول الكتاب: حضرت فلان ومجلسه، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز، يريدون نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء، وأن يراد بجانبه: عطفه، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار، كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه.
[سورة فصلت (41) : آية 52]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعنى أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقا وقد كفرتم به، فأخبرونى من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ موضوع موضع منكم، بيانا لحالهم وصفتهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يعنى ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما وفي باحة العرب «1»
__________
(1) . قوله «وفي باحة العرب» أى ساحتهم. أفاده الصحاح. (ع)(4/206)
خصوصا: من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة من المعهود خارقة للعادات، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم: على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه مغالط نفسه، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور، وأن للباطل ريحا تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل بِرَبِّكَ في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بدل منه، تقديره. أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد. ومعناه: أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد، أى: مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عنده، ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة. وقرئ: في مرية، بالضم وهي الشك مُحِيطٌ عالم يجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.(4/207)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
سورة الشورى
مكية [إلا الآيات 23 و 24 و 25 و 27 فمدنية] وآياتها 53 [نزلت بعد سورة فصلت] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
قرأ ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: حم سق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أى مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ يعنى أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين، ولم يقل: أوحى إليك، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. وقرئ: يوحى إليك، على البناء للمفعول.
فإن قلت: فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت: ما دلّ عليه يوحى، كأن قائلا قال: من الموحى؟ فقيل: الله، كقراءة السلمى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على البناء للمفعول ورفع شركائهم، على معنى: زينه لهم شركاؤهم. فإن قلت: فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون؟ قلت: يرتفع بالابتداء. والعزيز وما بعده: أخبار، أو العزيز الحكيم: صفتان، والظرف خبر. قرئ: تكاد، بالتاء والياء. وينفطرن، ويتفطرن. وروى يونس عن أبى عمرو قراءة غريبة: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روى في نوادر ابن الأعرابى: الإبل تشممن. ومعناه: يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد العلى العظيم. وقيل: من دعائهم له ولدا، كقوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.(4/208)
فإن قلت: لم قال مِنْ فَوْقِهِنَّ؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهي: العرش، والكرسي، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أى يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو: لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة. وقيل: من فوقهنّ: من فوق الأرضين.
فإن قلت: كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت: قوله لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم، فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون، فما أراد الله إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وحكايته عنهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعا في استغفارهم، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى أن قال إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ والمراد: الحلم عنهم وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. فإن قلت: قد فسرت قوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ بتفسيرين، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت: أما على أحدهما فكأنه قيل: تكاد السماوات ينفط في هيبة من جلاله واحتشاما من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصا على نجاة الخلق، وطمعا في توبة الكفار والفساق منهم.(4/209)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
[سورة الشورى (42) : آية 6]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جعلوا له شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده وَما أَنْتَ يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.
[سورة الشورى (42) : آية 7]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
ومثل ذلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها: من أنّ الله تعالى هو الرقيب عليهم، وما أنت برقيب عليهم، ولكن نذير لهم، لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لأوحينا. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال من المفعول به، أى أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حدّ الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، أى: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك لِتُنْذِرَ يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدى الأوّل، أعنى:
لتنذر أمّ القرى إلى المفعول الأوّل والثاني، وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني أُمَّ الْقُرى أهل أمّ القرى، كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. وَمَنْ حَوْلَها من العرب.
وقرئ: لينذر بالياء والفعل للقرآن يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة، لأنّ الخلائق تجمع فيه. قال الله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له «1» . قرئ: فريق وفريق، بالرفع والنصب، فالرفع على: منهم فريق، ومنهم فريق. والضمير للمجموعين، لأن المعنى: يوم جمع الخلائق.
والنصب على الحال منهم، أى: متفرّقين، كقوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ.
فإن قلت: كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت: هم مجموعون في ذلك اليوم، مع افتراقهم في دارى البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع: جمعهم في الموقف، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق.
[سورة الشورى (42) : آية 8]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)
__________
(1) . قوله «لا محل له» لعله. لا محل له من الاعراب. (ع)(4/210)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أى مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله تعالى وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وقوله تعالى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وقوله تعالى أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان «1» ، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه.
[سورة الشورى (42) : آية 9]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
معنى الهمزة في أَمِ الإنكار فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد، فالفاء في قوله فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جواب شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولىّ سواه وَهُوَ يُحْيِ أى: ومن شأن هذا الولي أنه يحيى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.
[سورة الشورى (42) : آية 10]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين. أى:
ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ذلِكُمُ الحاكم بينكم هو اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ردّ كيد أعداء الدين وَإِلَيْهِ
__________
(1) . قوله «لقسرهم جميعا على الإيمان» هذا عند المعتزلة: أما عند أهل السنة، فالارادة تستلزم وجود المراد، لكن لا تستلزم القسر والجبر للعباد، لأنها لا تنافى الاختيار، لما لهم في أعمالهم من الكسب. وإن كانت مخلوقة له تعالى. وأما التي لا تستلزم المراد وهي التي سماها مشيئة الحكمة، فهي التي بمعنى الأمر عند المعتزلة، ولا يثبتها أهل السنة، كما تقرر في التوحيد، فمعنى الآية: ولو شاء ربك إيمان الكل لآمن الكل، ولكن شاء إيمان البعض، فآمن من شاء إيمانه. (ع)(4/211)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
أرجع في كفاية شرهم. وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره، كقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح. قال الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي: فإن قلت: هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت: لا، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
فاطِرُ السَّماواتِ قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدإ محذوف، والجرّ على: فحكمه إلى الله فاطر السماوات، وذلِكُمُ إلى أُنِيبُ اعتراض بين الصفة والموصوف جَعَلَ لَكُمْ خلق لكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من الناس أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أى: خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا يَذْرَؤُكُمْ يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء:
أخوات فِيهِ في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين «1» . فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم: كان أبلغ «2» من قولك:
__________
(1) . قال محمود: «إن الضمير المتصل بيذرؤ عائد على الأنفس وعلى الأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين» قال أحمد: الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين، أحدهما: مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني: مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب، فالأول لتغليب العقل. والثاني لتغليب الخطاب.
(2) . قوله «لا تخفر الذمم كان أبلغ» في الصحاح: أخفرته، إذا نقضت عهده وغدرت به. وفيه: «أيقع الغلام» أى: ارتفع: وهو يافع، ولا تقول: موقع. وقوله «كان أبلغ» لعل تقديره: فان قلت له ذلك كان أبلغ. (ع)(4/212)
أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: «ألا وفيهم الطيب الطاهر «1» لداته» والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فإنّ معناه:
بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها: لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى أنهم استعملوا فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل «2» له، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد، كما كرّرها من قال:
وصاليات ككما يؤثفين «3»
__________
(1) . قال محمود: «تقول العرب: مثلك لا يبخل، فينفون البخل عن مثله، والمراد نفسه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته، تريد طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية: لم يكن فرق بين قولك ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. ونحوه قوله تعالى بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فان معناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون بها شيئا آخر، حتى أنهم يستعملونها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل، وفيمن لا مثل له، ثم قال:
ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررت في قوله من قال:
وصاليات ككما يؤثفين
ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
انتهى كلامه. قال أحمد: هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى، وذلك أن الذي يليق هنا تأكيد نفى المماثلة، والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرق بين تأكيد المماثلة المنفية، وبين تأكيد نفى المماثلة، فان نفى المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفى المماثلة المقترنة بالتأكيد، إذ يلزم من نفى المماثلة الغير المؤكدة نفى كل مماثلة. ولا يلزم من نفى مماثلة محققة متأكدة بالغة نفى مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد. وحيث وردت الكاف مؤكدة للمماثلة وردت في الإثبات فأكدته، فليس النظر في الآية بهذين النظرين مستقيما والله أعلم. ومما يرشد إلى صحة ما ذكرته أن للقائل أن يقول: ليس زيد شبيها بعمرو، لكن مشبها له، ولو عكس هذا لم يكن صحيحا، وما ذاك إلا أنه يلزم من نفى أدنى المشابهة نفى أعلاها، ولا يلزم من نفى أعلاها نفى أدناها، فمتى أكد التشبيه قصر عن المبالغة. والوجه الأول الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده، وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله: ولك أن تزعم، فافهم.
(2) . رواه ابن عبد الرحمن بن موهب حليف بنى زهرة عن أبيه: حدثني مخرمة بن نوفل بحديث سقيا عبد المطلب لكن ليس فيه الطيب الطاهر لداته ورواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث عروة بن مصرف عن مخرمة ابن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفي بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب. قالت «تتابعت على قريش سنون- الحديث بطوله» ورويناه في جزء أبى السكين. «تنبيه» وقع رقيقة بنت صيفي والصواب بنت أبى صيفي.
(3) .
لم يبق من آي بها يحلين ... غير رماد وعظام كثفين
وغير ود جازل أو ودين ... وصاليات ككما يؤثفين
لخطام المجاشعي. والآي: واحده آية، أى: علامة. ويحلين: مضارع مبنى للمجهول، من حليته تحلية: إذا وصفت حليته وصفته. يقول: لم يبق من آثار هذه الديار علامات فيها تذكر صفتها غير رماد وعظام متكاثفين متراكمين. والكشف- بالتحريك-: كسبب: المجتمع، فلعله سكنه للوزن. وروى: غير رماد وخطام كثفين.
والخطام: الزمام. ويروى بالمهملة، وهو ما تحطم وتكسر من الحطب اليابس. والكثف- كحمل-: وعاء الرعي فكثفين على حذف العاطف. وقيل بدل مما قبله. والأوجه روايته وخطام كثفين بالاضافة، لأجل موافقة القوافي أى: ورباط وعاءين، وكرر أداة الاستثناء للتوكيد. والود: أصله وتد، فقلبت التاء دالا وأدغمت في الأخرى عند تميم شذوذا. والجادل: المنتصب والغليظ، أى: لم يق غير وتد منتصب بها أو وتدين لا غير، حيث لم يشك إلا في ذلك. والصاليات صفة للاثافى. وقيل: صفة للنساء الموقدات للنار: وقيل: صفة للخيل الصاليات للحرب كالأثافى الصاليات للنار، لكنهما لا يناسبان وصف الدار بالخلو. والأثفية: حجر الكانون، وزنها: أفعولة في الأصل، وجمعها أثافى. وأثفيت للقدر: وضعت الأثافى لها. وثفيتها تثفية: وضعتها على الأثافى. وقوله:
يؤثفين مضارع مبنى للمجهول، جاء على الأصل مهموزا، كيؤكر من بالهمزة، وهذا يدل على أن الصاليات صفة للأحجار الملازمات للنار المحترقات بها، فلعله شبه النساء بالأثافى لدمامتهن وسوادهن، بكثرة الدخان وملازمتهن النار.
وعليه فالمعنى: ونساء صاليات كالأحجار تثفى وتوضع للقدر، فما موصولة واقعة على الأحجار لا مصدرية ولا كافة، وكرر كاف التشبيه للتوكيد، لكن الثانية اسم بمعنى مثل، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله. ويمكن أنه كرر الحرف من غير إعادة المجرور شذوذا. ويروى بعد قوله وصاليات ... الخ
لا يشتكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين
وهو يناسب القول بأنها صفة للنساء أو الخيل على التشبيه السابق. والانقاء: كثرة النقي بالكسر وهو المخ. يقال:
أنقت الإبل إذا سمنت وكثر مخها، أى: لا يشتكين عملا مدة إنقائهن وسمنهن، وفسر ذلك بقوله: ما دام مخ ... الخ والسلاميات: عظام الأصابع وهي والعين آخر ما يبقى فيه المخ. ويروى أيضا هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين ... وصاليات ككما يؤثفين
والغريان: بناء ان طويلان، يقال: هما قبرا مالك وعقيل: نديمى جذيمة الأبرش، سميا بذلك لأن النعمان كان يغريهما يمن يريد قتله إذا خرج يوم بؤسه. والأشبه أن ذلك من تخليط الراوي، وأن الصاليات: الأحجار. وقوله «لا يشتكين ... الخ» ليس من هذا الرجز، فلا ينبغي روايته معه، وهو الذي من صفة الخيل، أو أصل النساء لا الصاليات. ويجوز أن الرجز هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين ... لم يبق من آي بها يحلين
وأن قوله «لا يشتكين ... الخ» من موضع آخر من ذلك الرجز في صفة الخيل، كما رواه صاحب الكافي شاهدا على الأكفاء في القافية هكذا:
بنات وطاء على خد الليل ... لا يشتكين عملا ما أنقين
لاختلاف حرفى الروى. والوطاء- بالضم والتشديد-: من الوطء على الأرض. وخد الليل: طريقه الذي لا يسلك إلا فيه. وقال بعضهم: إن هذا في صفة الخيل، وأنه من مشطور المنسرح الموقوف. وعلى أنه في صفة أجل، أى: فلك المطايا بنات نوق أو فحول، وطاء: جمع واطئ أو واطئة، على خد الليل: كناية عن قوتهن في السير، حتى كأنهن يغلبن الليل، فيصر عنه ويطأن على خده، فهن لا يبالين به. [.....](4/213)
ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول «1»
__________
(1) .
بالأمس كانت في رخاء مأمول ... فأصبحت مثل كعصف مأكول
يروى لرؤية بدله:
ولعبت طير بهم أبابيل ... فصيروا مثل كعصف مأكول
يقول: بالأمس، أى: في الزمن الماضي القريب، كانت تلك الديار مثلا في رخاء، أى: خصب وسعة من الثروة والغنى، مأمول ذلك، أى: متمنى للناس، وكرر كلمة التشبيه للتوكيد، والعصف: ما على الحب وعلى ساق الزرع من التين والورق اليابس، مأكول: أى أصابه الأكال، وهو الدود. وأكلته الدواب ثم راثته. وأبابيل، بمعنى جماعات متفرقة، صفة طير، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده أبول كعجول. وقيل: إبال كمفتاح. وقيل إبيل كمسكين. وقول رؤية «صيروا» بالتشديد والبناء للمجهول، ولعل هذا رجز غيره ذاك.(4/214)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
[سورة الشورى (42) : آية 12]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
وقرئ: ويقدّره. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، وإلا أفقره.
[سورة الشورى (42) : آية 13]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ومحل أَنْ أَقِيمُوا إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم وشق عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من إقامة دين الله والتوحيد يَجْتَبِي إِلَيْهِ يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد مَنْ يَشاءُ من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفا.
[سورة الشورى (42) : آية 14]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)(4/215)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
وَما تَفَرَّقُوا يعنى أهل الكتاب بعد أنبيائهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لَفِي شَكٍّ من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الاباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل: وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وإنّ الذين أورثوا الكتاب من من بعدهم هم المشركون: أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
وقرئ: ورّثوا، وورثوا.
[سورة الشورى (42) : آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
فَلِذلِكَ فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا فَادْعُ إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة وَاسْتَقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أىّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله، يعنى الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله تعالى وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلىّ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أى لا خصومة لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأنّ المتحاجين: يورد هذا حجته وهذا حجته اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة.(4/216)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
[سورة الشورى (42) : آية 16]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في دينه مِنْ بَعْدِ ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم «1» وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام داحِضَةٌ باطلة زالة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 18]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
أَنْزَلَ الْكِتابَ أى جنس الكتاب وَالْمِيزانَ والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل، أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل: الذي يوزن به. بالحق: ملتبسا بالحق، مقترنا به، بعيدا من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك السَّاعَةَ في تأويل البعث، فلذلك قيل قَرِيبٌ أو لعل مجيء الساعة قريب.
فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم، ويوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف.
المماراة: الملاجة «2» لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق:
لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء.
[سورة الشورى (42) : آية 19]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
لَطِيفٌ بِعِبادِهِ برّ بليغ البرّ بهم، قد توصل برّه إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته. فإن قلت: فما معنى قوله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
__________
(1) . قوله «ونحن خير منكم» لعله: «فنحن» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «الملاجة» بالجيم: التمادي في الخصومة، ويمرى: أى يستخرج، كذا في الصحاح. (ع)(4/217)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه، إلا أنّ البرّ أصناف، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله تعالى يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
[سورة الشورى (42) : آية 20]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز. وفرق بين عملى العاملين:
بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئا منها لا ما بريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
[سورة الشورى (42) : آية 21]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)
معنى الهمزة في أَمْ التقرير والتقريع. وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم: أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى الله، ولما كانت سببا لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أى القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أى: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب: وأنّ الظالمين، بالفتح عطفا له على كلمة الفصل، يعنى: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة، لقضى بينهم في الدنيا.(4/218)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
[سورة الشورى (42) : الآيات 22 الى 23]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
تَرَى الظَّالِمِينَ في الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين خوفا شديدا أرق قلوبهم مِمَّا كَسَبُوا من السيئات وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يريد: ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها عِنْدَ رَبِّهِمْ منصوب بالظرف لا بيشاءون قرئ: يبشر، من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر، من بشره. والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟
فنزلت الآية إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يجوز أن يكون استثناء متصلا، أى: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا، أى: لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى: أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة. ولى فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبى ومحله، وليست فِي بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة «1» فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل: إلا مودة القربى. أو: إلا المودة للقربى. وأجاب بأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان هوى وحب شديد، وليس فِي صلة للمودة، كاللام إذا قلت:
إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها» قال أحمد: وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت: إن قوله يذرؤكم فيه، إنما جاء عوضا من قوله: يذرؤكم به، فافهمه.(4/219)
مودّتهم؟ قال: «علىّ وفاطمة وابناهما «1» » ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا» «2» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» «3» وروى. أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس أو ابن عباس رضى الله عنهما: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بى» ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بى» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبونني» «4» ؟
قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا «5» ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم والحاكم في مناقب الشافعي من رواية حسين الأشقر عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وحسين ضعيف ساقط. وقد عارضه ما هو أولى منه. ففي البخاري من رواية طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية. فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة- الحديث» قلت وأخرج سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال «أكثروا علينا في هذه الآية. فكتبنا إلى ابن عباس فكتب- فذكر نحوه، وابن طاوس أتم منه.
(2) . أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن على رضى الله عنه ورواه الطبراني من حديث أبى رافع «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى «إن أول أربعة يدخلون الجنة- فذكره» وسنده واه.
(3) . أخرجه الثعلبي من حديث على رضى الله عنه. وفيه عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه. وهو كذاب
(4) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني في الأوسط، كلهم من حديث ابن عباس. وفيه يزيد بن زياد وهو ضعيف
(5) . أخرجه الثعلبي: أخبرنا عبد الله بن محمد بن على البلخي حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق حدثنا محمد بن أسلم حدثنا يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن قيس عن جرير- بطوله. وآثار الوضع عليه لائحة. ومحمد ومن فوقه أثبات. والآفة فيه ما بين الثعلبي ومحمد.(4/220)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب «1» بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» وقيل:
لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، أى: في حق القربى ومن أجلها، كما تقول: الحب في الله والبغض في الله، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعنى: أنكم قومي وأحق من أجابنى وأطاعنى، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علىّ. وقيل:
أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك «2» ، فنزلت وردّه. وقيل الْقُرْبى: التقرب إلى الله تعالى، أى: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: إلا مودّة في القربى مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً عن السدّى أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومودّته فيهم. والظاهر: العموم في أى حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى:
دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولا أوّليا، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. وقرئ: يزد، أى: يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها، كقوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وقرئ: حسنى، وهي مصدر كالبشرى، الشكور في صفة الله: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفية ثوابها، والتفضل على المثاب.
[سورة الشورى (42) : آية 24]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
أَمْ منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ «3» ، كأنه قيل: أيتما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله،
__________
(1) . قوله «مكتوب بين عينيه» لعله: مكتوبا. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي والواحدي في الأسباب عن ابن عباس بغير سند. ويشبه أن يكون عن الكلبي عن أبى صالح عنه. وروى الطبراني من طريق عثمان بن القطان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عنه.
(3) . قوله «ومعنى الهمزة فيه التوبيخ» لعله: فيها. (ع)(4/221)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخوّن بغض الأمناء فيقول لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بِكَلِماتِهِ بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ يعنى: لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت «1» والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: ينسك القرآن ويقطع عنك الوحى، يعنى: لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك، وقيل يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: يربط عليه بالصبر، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت: إن كان قوله وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ كلاما مبتدأ غير معطوف على يختم، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ وقوله تعالى سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ على أنها مثبتة في بعض المصاحف.
[سورة الشورى (42) : آية 25]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)
يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولى ومنشأه.
ومعنى: قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب. وإن كان فيه لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له على رضى الله عنه: يا هذا، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة. فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذا به النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عن الكبائر إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. قرئ بالتاء والياء: أى: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته.
__________
(1) . قوله «من البهت» أى: اتهام الإنسان بما ليس فيه، (ع)(4/222)