|
المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة: الثالثة - 1407 هـ
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
الكتاب مذيل بحاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري (ت 683) وتخريج أحاديث الكشاف للإمام الزيلعى]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
ولتصنع فعلت ذلك. وقرئ: ولتصنع ولتصنع، بكسر اللام وسكونها. والجزم على أنه أمر.
وقرئ: ولتصنع، بفتح التاء والنصب، أى: وليكون عملك وتصرفك على عين منى.
[سورة طه (20) : الآيات 40 الى 41]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
العامل في إِذْ تَمْشِي «1» أَلْقَيْتُ أو لِتُصْنَعَ ويجوز أن يكون بدلا من إِذْ أَوْحَيْنا.
فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح- وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه- أن يقول لك الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أو لها وأنت في آخرها. يروى أن أخته واسمها مريم جاءت متعرفه خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت: هل أدلكم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها.
ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته، وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
هي نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلى. قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة: اغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ونجاه من فرعون أن ينشب فيه أظفاره حين هاجر به إلى مدين فُتُوناً يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدّى، كالثبور والشكور والكفور.
وجمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة: أى فتناك ضروبا من الفتن. سأل سعيد بن جبير ابن عباس رضى الله عنه، فقال: خلصناك من محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير. وألقته أمّه في البحر. وهمّ فرعون بقتله. وقتل قبطيا. وأجر نفسه عشر سنين. وضلّ الطريق وتفرّقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان. وكل ما يبتلى الله به عباده: فتنة. قال وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. مَدْيَنَ على
__________
(1) . قال محمود: «العامل في إِذْ تَمْشِي ألقيت أو تصنع ... الخ» قال أحمد: والمعنى يوجب عمل وَلِتُصْنَعَ فيه لأن معنى صنيعه على عين الله عز وجل: تربيته مكلوءا بكلاءته مصونا بحفظه، وزمان تربيته على هذه الحالة: هو زمان رده إلى أمه المشفقة الحنانة. وأما إلقاه المحبة عليه، فقيل: ذلك أول ما أخذه فرعون وأحبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(3/64)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
ثماني مراحل من مصر. وعن وهب: أنه لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة، منها مهر ابنته، وقضى أو في الأجلين. أى سبق في قضائي وقدرى أن أكلمك وأستنبئك، وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر. وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. هذا تمثيل لما خوّله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم. مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص، أهلا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، ولا ألطف محلا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه.
ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره «1» .
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 44]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)
الونى. الفتور والتقصير. وقرئ: تنيا، بكسر حرف المضارعة للإتباع، أى: لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكرى جناحا تصير ان به مستمدين بذلك العون والتأييد منى، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر. روى أن الله تعالى أوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقبله. وقيل: ألهم ذلك. قرئ لَيِّناً بالتخفيف والقول اللين. نحو قوله تعالى هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى لأنّ ظاهره الاستفهام والمشورة، وعرض ما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره، والطفا له في القول «2» ، لما له من حق تربية موسى، ولما ثبت له من مثل حق الأبوّة. وقيل:
كنياه وهو من ذوى الكنى الثلاث: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرّة. والترجي لهما، أى: اذهبا على رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد «3» بأقصى وسعه. وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ
__________
(1) . قوله «سواء ضميره» في الصحاح «سواء الشيء» : وسطه. (ع)
(2) . قوله «وقيل: لا تجبهاه بما يكره» في الصحاح «جبهته بالمكروه» إذا استقبلته به، وفيه «الطف في العمل» الرفق به. (ع)
(3) . قوله «ويحتشد بأقصى وسعه» أى يستعد ويتأهب. أفاده الصحاح. (ع)
(3/65)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
أى: يتذكر ويتأمّل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق أَوْ يَخْشى أن يكون الأمر كما تصفان، فيجرّه إنكاره إلى الهلكة.
[سورة طه (20) : آية 45]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
فرط: سبق وتقدّم. ومنه الفارط: الذي يتقدّم الواردة. وفرس فرط: يسبق الخيل، أى: نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرئ يَفْرُطَ من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة. خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب «1» من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادّعائه الربوبية. أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين حكى عنهم ربّ العزّة قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وقرئ: يفرط، من الإفراط في الأذية، أى: نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة. أو يجاوز الحدّ في معاقبتنا إن لم يعاجل، بناء على ما عرفا وجرّبا من شرارته وعتوّه أَوْ أَنْ يَطْغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته عليك وقسوة قلبه. وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز: باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوّه بالعظيمة.
[سورة طه (20) : الآيات 46 الى 48]
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
مَعَكُما أى حافظكما وناصركما أَسْمَعُ وَأَرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما، فجائز أن يقدّر أقوالكم وأفعالكم، وجائز أن لا يقدّر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر. وإذا كان الحافظ والناصر كذلك، تمّ الحفظ وصحت النصرة، وذهبت المبالاة بالعدّو. كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط، يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة: من الحفر والبناء ونقل الحجارة، والسخرة في كل شيء، مع قتل الولدان، واستخدام النساء قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جملة جارية من الجملة الأولى
__________
(1) . قال محمود: «معنى يفرط علينا يعجل بعقوبتنا ... الخ» قال أحمد: وإذا روعي في الأدب إطلاق هذه اللفظة عن مجروريها، فلا يبعد أن يراعى في الأدب بالاعتراف بتقلد منة الله عز وجلّ زيادة المجرور في قوله اشْرَحْ لِي صَدْرِي كما قدمته آنفا، والله أعلم.
(3/66)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
وهي إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، إنما وحد قوله بِآيَةٍ ولم يثن ومعه آيتان، لأنّ المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة، وكذلك قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يريد: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين.
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 50]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)
خاطب الاثنين، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى، لأنه الأصل في النبوة، وهرون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته «1» على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة هرون والرتة في لسان موسى. ويدل عليه قوله أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ. خَلْقَهُ أول مفعولي أعطى، أى: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. أو ثانيهما، أى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان: كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة، غير ناب عنه. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة، حيث جعل الحصان والحجر «2» زوجين، والبعير والناقة، والرجل والمرأة، فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه. وقرئ: خلقه، صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أى: كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه ثُمَّ هَدى أى عرّف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.
[سورة طه (20) : الآيات 51 الى 54]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)
__________
(1) . قوله «يحمله خبثه ودعارته» أى فساده وفسقه. (ع)
(2) . قوله «والحجر» بكسر الحاء وسكون الجيم: الأنثى من الخيلى: اه مصححه. [.....]
(3/67)
سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، لا يجوز على الله أن يخطئ شيئا أو ينساه. يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له، كقولك: ضللت الطريق والمنزل. وقرئ: يضل، من أضله إذا ضيعه. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم، فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون، وتمادى كثرتهم، وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟
فأجاب بأنّ كل كائن محبط به علمه، وهو مثبت عنده في كتاب، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان، كما يجوز ان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أى: لا يضل كما تضل أنت، ولا ينسى كما تنسى يا مدعى الربوبية بالجهل والوقاحة الَّذِي جَعَلَ مرفوع صفة لربي. أو خبر مبتدإ محذوف أو منصوب على المدح، وهذا من مظانه ومجازه مَهْداً قراءة أهل الكوفة، أى: مهدها مهدا.
أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي وَسَلَكَ من قوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، سَلَكْناهُ، نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أى حصل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري فَأَخْرَجْنا انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان «1» والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئة، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها
، أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ وفيه تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا،
__________
(1) . قال محمود «هذا من باب الالتفات ... الخ» قال أحمد: الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس من ذلك، فان الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثم قوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً إلى قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى إما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهي عند قوله وَلا يَنْسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات العامة على خلقه، فليس التفاتا أيضا، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله وَلا يَنْسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر: وهو أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فلما حكاه الله تعالى عند أسند الضمير إلى ذاته، لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن دقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، والله أعلم.
(3/68)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
ولا يدخل تحت قدرة أحد أَزْواجاً أصنافا، سميت بذلك لأنها مزدوجة ومقترنة بعضها مع بعض شَتَّى صفة للأزواج، جمع شتيت، كمريض ومرضى. ويجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سمى به النابت كما سمى بالنبت، فاستوى فيه الواحد والجمع، يعنى أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. قالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله، أى قائلين كُلُوا وَارْعَوْا حال من الضمير في فَأَخْرَجْنا المعنى: أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.
[سورة طه (20) : آية 55]
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم هو آدم عليه السلام منها. وقيل إن الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معا. وأراد بإخراجهم منها أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردّهم كما كانوا أحياء، ويخرجهم إلى المحشر يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً عدّد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي كفاتهم إذا ماتوا «1» . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة» «2» .
[سورة طه (20) : آية 56]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)
أَرَيْناهُ بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها. وإنما كذب لظلمه، كقوله تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا وقوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وفي قوله تعالى آياتِنا كُلَّها وجهان، أحدهما: أن يحذى بهذا التعريف الإضافى حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها، أعنى أنها كانت لا تعطى إلا تعريف العهد، والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل. والثاني: أن يكون موسى قد أراه آياته وعدّد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبىّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به، فكذبها جميعا وَأَبى أن يقبل شيئا منها. وقيل:
__________
(1) . قوله «ثم هي كفاتهم إذا ماتوا» أى موضعهم الذي يضمون فيه. أقاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة عن علية عن عوف عن ابن عثمان به مرسلا. وأخرجه الطبرانى في الصغير من رواية الفرياني عن الثوري عن عوف. وصله بذكر سليمان قال ابن طاهر: المرسل أولى بالصواب.
(3/69)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
فكذب الآيات وأبى قبول الحق.
[سورة طه (20) : آية 57]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)
يلوح من جيب قوله أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ أن فرائصه كانت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، لعلمه وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره، وأنه غالبه على ملكه لا محالة. وقوله بِسِحْرِكَ تعلل وتحير وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر.
[سورة طه (20) : الآيات 58 الى 60]
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)
لا يخلو الموعد في قوله فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا. فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله تعالى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مطابق له، لزمك شيئان أن تجعل الزمان مخلفا، وأن يعضل عليك ناصب مكانا: وإن جعلته مكانا لقوله تعالى مَكاناً سُوىً لزمك «1» . أيضا أن توقع الإخلاف على المكان، وأن لا يطابق قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ
__________
(1) . قال محمود: «إن جعلت موعدا الأول اسم مكان ليطابق قوله مكانا سوى لزمك ... الخ» قال أحمد:
وفي إعماله وقد وصف بقوله لا نُخْلِفُهُ بعد، إلا أن تجعل الجملة معترضة، فهو مع ذلك لا يخلو من بعد، من حيث أن وقوع الجملة عقيب النكرة بحيزها، الشأن أن تكون صفة، والله أعلم. ويحتمل عندي وجه آخر أخصر وأسلم، وهو أن يجعل موعدا اسم مكان فيطابق مكانا، ويكون بدلا منه، ويطابق الجواب بالزمان بالتقرير الذي ذكره، ويبقى عود الضمير، فنقول: هو والحالة هذه عائد على المصدر المفهوم من اسم المكان، لأن حروفه فيه. والموعد إذا كان اسم مكان فحاصله مكان وعد، كما إذا كان اسم زمان فحاصله زمان وعد. وإذا جاز رجوع الضمير إلى ما دلت قوة الكلام عليه وإن لم يكن منطوقا به بوجه، فرجوعه إلى ما هو كالمنطوق به أولى. ومما يحقق ذلك أنهم قالوا: من صدق كان خيرا له. يعنون: كان الصدق خيرا له، فأعادوا الضمير على المصدر وقدروه منطوقا به للنطق بالفعل الذي هو مشتق منه. وإذا أوضح ذلك فاسم المكان مشتق من المصدر اشتقاق الفعل منه، فالنطق به كاف في إعادة الضمير على مصدره والله أعلم. وعلى هذين التأويلين يكون جواب موسى عليه السلام من جوامع كلم الأنبياء لأنه سئل أن يواعدهم مكانا فعلم أنهم لا بد أن يسألوه مواعدة على زمان أيضا، فأسلف الجواب عنه وضمنها جوابا مفردا، ولقائل أن يقول: إن كان المسئول منه المواعدة على المكان فلم أجاب بالزمان الذي لم يسئل عنه صريحا، وجعل جواب ما سئل عنه مضمنا. وجوابه- والله أعلم- أن يقال اكتفى بقرينة السؤال عن صريح الجواب. وأما ما لم يسئل عنه فلو ضمنه لم يفهم قصده إليه، إذ لا قرينة تدل عليه والله أعلم.
(3/70)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
وقراءة الحسن غير مطابقة له مكانا وزمانا جميعا، لأنه قرأ يَوْمُ الزِّينَةِ بالنصب، فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف، أى: مكان موعد، ويجعل الضمير في نُخْلِفُهُ للموعد ومَكاناً بدل من المكان المحذوف. فإن قلت. فكيف طابقه قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ولا بد من أن تجعله زمانا، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت:
هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا، لأنهم لا بدّ لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه، مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير. والمعنى: إنجاز وعدكم يوم الزينة. وطباق هذا أيضا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه. فإن قلت:
فبم ينتصب مكانا؟ قلت: بالمصدر. أو بفعل يدل عليه المصدر. فإن قلت: فكيف يطابقه الجواب؟
قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر. وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: وعدكم وعد يوم الزينة.
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون مَوْعِدُكُمْ مبتدأ، بمعنى الوقت. وضُحًى خبره، على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه. وقيل في يوم الزينة: يوم عاشوراء، ويوم النيروذ «1» ، ويوم عيد كان لهم في كل عام، ويوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم. قرئ نُخْلِفُهُ بالرفع على الوصف للموعد. وبالجزم على جواب الأمر. وقرئ سُوىً وسوى، بالكسر والضم، ومنونا وغير منون. ومعناه: منصفا بيننا «2» وبينك عن مجاهد، وهو من الاستواء لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها. ومن لم ينون فوجهه أن يجرى الوصل مجرى الوقف. قرئ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ بالتاء والياء. يريد: وأن تحشر يا فرعون. وأن يحشر اليوم. ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي يخاطب بها الملوك، أو خاطب القوم بقوله مَوْعِدُكُمْ وجعل يُحْشَرَ لفرعون. ومحل أَنْ يُحْشَرَ الرفع أو الجرّ، عطفا على اليوم أو الزينة: وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر «3» وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حدّ المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
[سورة طه (20) : آية 61]
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
__________
(1) . قوله «ويوم النيروذ» لعله النيروز بالزاي كعبارة غيره. (ع)
(2) . قوله «منصفا بيننا» أى وسطا، كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وكبت الكافر» أى إذلاله. أقاده الصحاح. (ع)
(3/71)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أى لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا. قرئ فَيُسْحِتَكُمْ والسحت لغة أهل الحجاز. والإسحات: لغة أهل نجد وبنى تميم. ومنه قول الفرزدق:
...... إلّا مسحتا أو مجلّف
في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه «1» :
[سورة طه (20) : الآيات 62 الى 64]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
عن ابن عباس: إن نجواهم: إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب لما قال وَيْلَكُمْ ... الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر.
والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم قالوا: إن هذان لساحران. فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره، خوفا من غلبتهما. وتثبيطا للناس عن اتباعهما. قرأ أبو عمرو إِنْ هذانِ لَساحِرانِ على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: إن هذان لساحران، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة.
وقرأ أبىّ: إن ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود: أن هذان ساحران: بفتح أن وبغير لام، بدل من النجوى. وقيل في القراءة المشهورة إِنْ هذانِ لَساحِرانِ هي لغة بلحرث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقال بعضهم: إِنْ بمعنى نعم. ولَساحِرانِ خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران. وقد أعجب به أبو إسحاق. سموا مذهبهم الطريقة الْمُثْلى والسنة الفضلى، وكل حزب بما لديهم فرحون. وقيل: أرادوا أهل طريقتهم المثلى، وهم بنو إسرائيل، لقول موسى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وقيل «الطريقة» اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. يقال: هم طريقة قومهم. ويقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ يعضده قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ وقرئ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أى أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه، حتى لا تختلفوا ولا يخلف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها. أمروا بأن يأتوا
__________
(1) . قوله «في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه» هو قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
والمسحت: المهلك. والمجلف: الذي أخذ من جوانبه، كما في الصحاح. (ع)
(3/72)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
صفا لأنه أهيب في صدور الرائين. وروى أنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة. وعن أبى عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى، لأن الناس يجتمعون فيه لعيدهم وصلاتهم مصطفين. ووجه صحته أن يقع علما لمصلى بعينه، فأمروا بأن يأتوه. أو يراد.
ائتوا مصلى من المصليات وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى اعتراض. يعنى: وقد فاز من غلب.
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 66]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)
أَنْ مع ما بعده إما منصوب بفعل مضمر. أو مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف. معناه:
اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم «1» ، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم أو لا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر. ويستنفدوا أقصى طوقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا: أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين. يقال في «إذا» هذه: إذا المفاجأة. والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت، الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة الجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله تعالى فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم. وهذا تمثيل. والمعنى:
على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعى. وقرئ عِصِيُّهُمْ بالضم وهو الأصل، والكسر إتباع، ونحوه: دلىّ ودلىّ، وقسىّ وقسىّ. وقرئ «تخيل» على إسناده إلى ضمير الحبال والعصى وإبدال قوله أَنَّها تَسْعى من الضمير بدل الاشتمال، كقولك: أعجبنى زيد كرمه، وتخيل على كون الحبال والعصىّ مخيلة سعيها. وتخيل. بمعنى تتخيل. وطريقه طريق تخيل. ونخيل: على أنّ الله تعالى هو المخيل للمحنة والابتلاء. يروى أنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيلت ذلك.
__________
(1) . قال محمود: «لقد ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى عليه السلام في تخييره وإعطاء النصفة من أنفسهم» قال أحمد: وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى هاهنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤس الأشهاد، فيكون أفصح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم، والله أعلم
(3/73)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
[سورة طه (20) : الآيات 67 الى 69]
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
إيجاس الخوف: إضمار شيء منه، وكذلك توجس الصوت: تسمع نبأة يسيرة «1» منه، وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية، وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله. وقيل: خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فيه تقرير لغلبته وقهره، وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلوّ وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل. وقوله ما فِي يَمِينِكَ ولم يقل عصاك «2» : جائز أن يكون تصغيرا لها، أى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها «3» أى: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة، فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وقرئ تَلْقَفْ بالرفع على الاستئناف. أو على الحال، أى:
ألقها متلقفة. وقرئ: تلقف، بالتخفيف «4» . صَنَعُوا هاهنا بمعنى زوّروا وافتعلوا، كقوله
__________
(1) . قوله «نبأة يسيرة» في الصحاح «النبأة» : الصوت الخفي. (ع)
(2) . قال محمود: «وقال ما في يمينك ولم يقل عصاك ... الخ» قال أحمد: وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت أعظم منه وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه، فصغر الله أمر العصا ليلزم منه تصغير كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.
(3) . عاد كلامه. قال محمود: «ويجوز أن يكون تعظيما لأمرها إذ فيه تثبيت لقلب موسى على النصر» قال أحمد:
وهاهنا لطيفة: وهو أنه تلقى من هذا النظم أو لا قصد التحقير، وثانيا قصد التعظيم، فلا بد من نكتة تناسب الأمرين وتلك- والله أعلم- هي إرادة المذكور مبهما، لأن ما في يمينك أبهم من عصاك. وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان يعنى فيه الرمز والاشارة، فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.
وعندي في الآية وجه سوى قصد لتعظيم والتحقير والله أعلم، وهو أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله عنها بقوله تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها قال تعالى وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(4) . قوله «وقرئ تلقف بالتخفيف» عبارة النسفي: تلقف بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف: حفص.
وتلقف: ابن ذكوان. الباقون تلقف، فليحرر. (ع)
(3/74)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
تعالى تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ قرئ كَيْدُ ساحِرٍ بالرفع والنصب. فمن رفع فعلى أنّ ما موصولة. ومن نصب فعلى أنها كافة. وقرئ: كيد سحر، بمعنى: ذى سحر: أو ذوى سحر. أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته. أو بين الكيد «1» ، لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما تبين المائة بدرهم. ونحوه: علم فقه، وعلم نحو. فإن قلت: لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت: لأنّ القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع، لخيل أنّ المقصود هو العدد.
ألا ترى إلى قوله وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أى هذا الجنس. فإن قلت: فلم نكر أوّلا وعرف ثانيا؟
قلت: إنما نكر من أجل تنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج:
في سعى دنيا طالما قد مدّت «2»
وفي حديث عمر رضى الله عنه «لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة» »
المراد تنكير الأمر، كأنه قيل: إن ما صنعوا كيد سحري. وفي سعى دنيوى. وأمر دنيوى وآخري حَيْثُ أَتى كقولهم:
حيث سير، وأية سلك، وأينما كان.
[سورة طه (20) : آية 70]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)
سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! «4» وروى أنهم لم يرفعوا رؤسهم
__________
(1) . قوله «أو بين الكيد» لعله بعده سقطا تقديره «بالسحر» . (ع) [.....]
(2) .
الحمد لله الذي استقلت ... باذنه السماء واطمأنت
باذنه الأرض وما تعنت ... أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت ... والجاعل الغيث غياث الأمت
والجامع الناس ليوم البعثت ... بعد الممات وهو محيى الموت
يوم ترى النفوس ما أعدت ... من نزل إذا الأمور غبت
في سعى دنيا طالما تعنت
استقلت: ارتفعت. واطمأنت: انخفضت. وفي الشعر التضمين. والتعنت: الاتعاب أو التأخر والتثاقل، من العنا وهو التعب. وأوحى لها: ألهمها. واثبت: جمع ثابت، والوقف على هاء التأنيث، كالأمت بالتاء قليل.
والموت: جمع مائت. والنزل: ما يعد للضيف، استعارة لما يقدمه الإنسان من الأعمال. وغبت: بلغت غبها وغايتها. وفي سعى: متعلق به، أو بتعنت بعده، أى: تعبت أو أتعبت. وضمن على المعنى الأول للنفوس، وعلى الثاني للدنيا، ونكرها لتنكير السعى دلالة على التقليل، أى: في سعي دنيوى قليل.
(3) . ذكره صاحب النهاية بغير إسناد. وفي الباب عن ابن مسعود. وسيأتى في أَلَمْ نَشْرَحْ أتم من هذا.
(4) . قال محمود: «سبحان من فرق بين الالقاءين إلقائهم حبالهم وعصيهم ... الخ» قال أحمد: وفي تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن مثل: فسجد السحرة، إيقاظ السامع لألطاف الله تعالى في نقله عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الايمان والسداد، وهذا الإيقاظ لا يحصل على الوجه إلى هذا القصد إلا بتكرير لفظ واحد على معنيين متناقضين، وهو يناسب ما قدمته آنفا في إيجاز الخطاب في قوله وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ، وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ فتأمله فان الحق حسن متناسب، والله الموفق.
(3/75)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة.
[سورة طه (20) : آية 71]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم، يريد: أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم. أو لمعلمكم، من قول أهل مكة للمعلم: أمرنى كبيرى، وقال لي كبيرى: كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء. قرئ فَلَأُقَطِّعَنَّ ولأصلبنّ. بالتخفيف. والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأنّ كل واحد من العضوين خالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال. و «من» لابتداء الغاية: لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه. ومحل الجار والمجرور النصب على الحال، أى: لأقطعنها مختلفات، لأنها إذا خالف بعضها بعضا فقد اتصفت بالاختلاف. شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه، فلذلك قيل فِي جُذُوعِ النَّخْلِ. أَيُّنا يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله آمَنْتُمْ لَهُ واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله تعالى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وفيه نفاجة «1» باقتداره وقهره، وما ألفه وضرى به: من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به: لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
[سورة طه (20) : الآيات 72 الى 76]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
__________
(1) . قوله «وفيه نفاجة» في الصحاح «رجل نفاج» إذا كان صاحب فخر وكبر. (ع)
(3/76)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
وَالَّذِي فَطَرَنا عطف على ما جاءنا أو قسم. قرئ تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف، قاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك في «صمت يوم الجمعة» : «صيم يوم الجمعة» وروى أن السحرة- يعنى رؤسهم- كانوا اثنين وسبعين: الاثنان من القبط، والسائر من بنى إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر. وروى أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا:
ما هذا بسحر الساحر، لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه تَزَكَّى تطهر من أدناس الذنوب. وعن ابن عباس: قال لا إله إلا الله. قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قولهم. وقيل: خبر من الله، لا على وجه الحكاية.
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. وضرب اللبن: عمله.
اليبس: مصدر وصف به. يقال: يبس يبسا ويبسا «1» . ونحوهما: العدم والعدم. ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبنها. وقرئ: يبسا، ويابسا.
ولا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس. أو صفة على فعل. أو جمع يابس، كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدا، كقوله:
...... ومعى جياعا «2»
__________
(1) . قال محمود: «قرئ بسكون الباء وبفتحها ... الخ» قال أحمد: ووجه آخر وهو أن قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا، وقد كانت بهذه المثابة لأنها كانت اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق، والله أعلم.
(2) .
كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غرزا ومعى جياعا
على وحشية خذلت حلوج ... وكان لها طلا طفل فضاعا
فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا
للقطامى في مدح زفر بن الحرث الكلابي. والقتود: عيدان الرحل: جمع أقتاد: جمع قتد. والحالبان. عرقان يكتنفان السرة. والغرز: جمع غارز- بتقديم الراء- قليلات اللبن، ضد الغزر بتقديم الزاى. والمعي: مجرى الطعام في البطن من الحوايا. وصفه بصورة الجمع- وهو جياعا- مبالغة. والمعنى: جائعا. وهذا كناية عن هزال الناقة من شدة السير. وفيه إيماء لفقره وفاقته. و «على وحشية» خبر كان. والوحشية: الظبية. وخذلت: صفتها، أى: تركها سرب الظباء. وخلوج: صفة أخرى. وخلج واختلج: اضطرب وذهب. وخلجه واختلجه: انتزعه واجتذبه. والخلوج: التي اختلج ولدها من الظباء أو الإبل. أو التي اختلج قلها لعدم رؤبته. والطلاء: ولد الظبية ونحوها من ذوات الظلف، طفل: أى صغير، فكرت: رجعت بسرعة تطلبه. والسباع: بدل إضرابى انتقالي من ضمير صادفته. أو نصب بمضمر دل عليه صادفته، أى: صادفت السباع واقفة على دمه ومصرعه، أى:
محل طرحه على الأرض. شبه النافة بها في تلك الحال لسرعتها ويقظتها.
(3/77)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
جعله لفرط جوعه كجماعة جياع لا تَخافُ حال من الضمير في فَاضْرِبْ وقرئ: لا تخف، على الجواب. وقرأ أبو حيوة دَرَكاً بالسكون. والدرك والدرك: اسمان من الإدراك، أى: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في وَلا تَخْشى إذا قرئ: لا تخف، ثلاثة أوجه: أن يستأنف، كأنه قيل وأنت لا تخشى، أى: ومن شأنك أنك آمن لا تخشى، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا وأن يكون مثله قوله:
كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا «1»
ما غَشِيَهُمْ من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أى: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ: فغشاهم من اليم ما غشاهم. والتغشية: التغطية.
وفاعل غشاهم: إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون، لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله وَما هَدى تهكم به «2» في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.
[سورة طه (20) : الآيات 80 الى 81]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
__________
(1) .
وتضحك منى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وظل نساء الحي حولي ركدا ... يراودن منى ما تريد نسائيا
لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، أسر يوم الكلاب في بنى تميم، فقال قصيدة يذكر فيها حاله منها ذلك. والشيخة:
العجوز. والعبشمية: المنسوبة لعبد شمس. وهو باب من النحت. وأثبت الألف في «ترى» مع أنه مجزوم لضرورة الوزن، أو للاتساع. وقيل إنها عين الفعل. وأصله تراى حذفت لامه للجزم. ونقلت حركة الهمزة للراء، وأبدلت الفاء. وحكى إعمال «لم» للنصب. وحكى أيضا إهمالها. وقياس النسبة إلى «يمن» : «يمنى» لكنهم حذفوا إحدى ياءى النسب هـ وعوضوا عنها الألف، وكان الذي يقوده صبيا، فسألته: من أنت؟ فقال: سيد القوم، فضحكت منه. والركد- كركع-: جمع راكدة، أى مقيمة لا تذهب من عنده. والمراودة: مفاعلة من راد يرود إذا تعرف حال المكان متطلبا للخصب، وهو قريب من معنى أراد يريد، أى: يتطلبن منى بلطف واختبار:
هل أرضى أولا؟ الشيء الذي تريده نسائي منى، وهو الجماع.
(2) . قال محمود: «إنما قيل وما هدى تهكما به» قال أحمد: فان قلت: التهكم أن يأتى بعبارة والمقصود عكس مقتضاها، كقولهم: إنك لأنت الحليم الرشيد، وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين. وأما قوله تعالى وَما هَدى فمضمونه هو الواقع، فهو حينئذ مجرد إخبار عن عدم هدايته لقومه. قلت: هو كذلك، ولكن العرف مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية، مهتديا في نفسه، ولكنه لم يهد عمرا. وفرعون أضل الضالين في نفسه، فكيف يتوهم أنه يهدى غيره. وتحقيق ذلك: أن قوله تعالى وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ كاف في الاخبار بعدم هدايته لهم مع مزيد إضلاله إياهم، فان من لا يهدى قد لا يضل، فيكون كفافا. وإذا تحقق غناء الأول في الاخبار، تعين كون الثاني لمعنى سواه، وهو التهكم. والله أعلم.
(3/78)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون. وقيل: هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأوّل، أى: قلنا يا بنى إسرائيل، وحذف القول كثير في القرآن. وقرئ «أنجيتكم» إلى «رزقتكم» ، وعلى لفظ الوعد والمواعدة. وقرئ الْأَيْمَنَ بالجر على الجوار، نحو «جحر ضب خرب» . ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم، وفيما واعد موسى صلوات الله عليه من المناجاة بجانب الطور، وكتب التوراة في الألواح. وإنما عدى المواعدة إليهم لأنها لا بستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. طغيانهم في النعمة: أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكّفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها، وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا. قرئ فَيَحِلَّ وعن عبد الله: لا يحلن «1» وَمَنْ يَحْلِلْ المكسور في معنى الوجوب، من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه. ومنه قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ والمضموم في معنى النزول.
وغضب الله عقوباته «2» ولذلك وصف بالنزول هَوى هلك. وأصله أن يسقط من جبل فيهلك.
قالت:
هوى من رأس مرقبة ... ففتّت تحتها كبده «3»
__________
(1) . قوله «قرئ فيحل وعن عبد الله ... الخ» يفيد أن القراءة المشهورة: فيحل. ومن يحلل- بالكسر.
ولتحرر قراءة «لا يحلن» هل هي بالكسر أو بالضم. (ع)
(2) . قال محمود: «الغضب عقوبة الله تعالى لهم ... الخ» قال أحمد: لا يسعه أن يحمل الغضب إلا على العقوبة لأنه ينفى صفة الارادة في جملة ما ينفونه من صفات الكمال. وأما على قاعدة السنة فيجوز أن يكون المراد من الغضب إرادة العقوبة، فيكون من أوصاف الذات. ويحتمل أن يراد به معاملتهم بما يعامل به من غضب عليه شاهدا، فيكون من صفات الأفعال. وأما وصفه بالحلول فلا يتأتى حمله على الارادة، ويكون بمنزلة قوله عليه الصلاة والسلام «تنزل ربنا إلى سماء الدنيا» على التأويل المعروف. أو عبر عن حلول أثر الارادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر، كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله يعنى أثر القدرة لا نفسها، والله أعلم.
(3) .
هوى ابني من على شرف ... يهول عقابه صعده
هوى من رأس مرقبة ... ففتت تحتها كبده
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزون ... كسير فاته ولده
لأعرابى» يقول: سقط ابني من فوق جبل عال. فعلى بمعنى فوق، ولو قرئ: على، بالضم- جمع علية- لجاز، أى: سقط عن ذرى جبل عال، فالشرف: مصدر مستعمل في الوصف مجاز، يهول: أى يخيف، عقابه: ارتفاعه.
وصعد- بالكسر- صعدا- بفتحتين وضمتين- صعودا: ارتفع، والضمير للعقاب أو للشرف، فهو من إضافة المصدر لفاعله. ويجوز أنه من اضافته لمفعوله، أى: صعوده عليه. وخص العقاب، لأنه أشد الطير صعودا، لا سيما عقاب ذلك الجبل العارف به. وكرر «هوى» لإظهار التحزن، أى: سقط من رأس ثنية عالية يرقب فيها الرقيب، فمزقت كبده تحتها، أى: بجانبها، فكيف ببقية جسمه. ويروى: ففزت. بتشديد الزاى بمعنى فزعت.
وروى «ففرت» بتشديد الراء، وأصله: فريت. وهذه لغة طيئ. يقولون: المرأة دعت في دعيت. والدار بنت في بنيت، ثم قال: يلومني الناس على البكاء مع أننى ألمسه، من بابى قتل وضرب، أى: أريد لمسه فلا أجده، وكيف يلام حزين هرم يئس من رجوع ولده إليه، أو من أوان التوالد. وقيل: إن القائل أم القتيل، لكن يروى يعد البيت الأول:
فلا أم فتبكيه ... ولا أخت فتفتقده
هوى عن صخرة صلد ... ففرت تحتها كبده
إلى آخره.
(3/79)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
ويقولون: هوت أمّه. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده.
[سورة طه (20) : آية 82]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
الاهتداء: هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في «جاءني زيد ثم عمرو» أعنى أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنها أعلى منها وأفضل.
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 84]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84)
وَما أَعْجَلَكَ أى شيء عجل بك عنهم على سبيل الإنكار، وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب. ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به، بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى، وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة، وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم: النقباء. وليس لقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح، يأباه قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وعن أبى عمرو ويعقوب: إثرى، بالكسر وعن عيسى بن عمر: أثرى بالضم.
وعنه أيضا: أولى بالقصر. والإثر أفصح من الأثر. وأما الأثر فمسموع في فرند السيف «1» مدوّن في الأصول. يقال: إثر السيف وآثره، وهو بمعنى الأثر غريب. فإن قلت: ما أَعْجَلَكَ
__________
(1) . قوله «فرند السيف» أى ربده ووشيه، كذا في الصحاح. (ع)
(3/80)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
سؤال عن سبب العجلة «1» فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي كما ترى غير منطبق عليه.
قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين، أحدهما: إنكار العجلة في نفسها. والثاني:
السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدّم يسير، مثله لا يعتدّ به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.
[سورة طه (20) : آية 85]
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
أراد بالقوم المفتونين: الذين خلفهم مع هرون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت: في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين مع أيامها، وقالوا: قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه، وأخذ في تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أى وهو أشدّهم ضلالا: لأنه ضال مضل، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم: وقيل: كان من أهل باجرما.
وقيل: كان علجا من كرمان، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر.
[سورة طه (20) : الآيات 86 الى 88]
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: سئل عن سبب العجلة ... الخ» قال أحمد: وإنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة وهو أعلم: أن يعلم موسى أدب السفر، وهو أنه ينبغي تأخير رئيس القوم عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بطائفته ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا فقال: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله عز وجل، ومسارعة إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير، ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.
(3/81)
الأسف: الشديد الغضب. ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة «رحمة المؤمن وأخذة أسف للكافر «1» » وقيل: الحزين. فإن قلت. متى رجع إلى قومه؟ قلت: بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل، حكى لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا الْعَهْدُ الزمان، يريد: مدّة مفارقته لهم. يقال: طال عهدى بك، أى: طال زماني بسبب مفارقتك. وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل بِمَلْكِنا قرئ بالحركات الثلاث، أى: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده. أى: حملنا أحمالا من حلىّ القبط التي استعرناها منهم. أو أرادوا بالأوزار: أنها آثام وتبعات، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب. وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فَقَذَفْناها في نار السامري، التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلىّ. وقرئ حملنا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل. أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا فَأَخْرَجَ لَهُمْ السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلىّ التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل.
فإن قلت: كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت: أما يصحّ أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهذه الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات، وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جمادا أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيوانا. ألا ترى كيف أنشأ المسيح
__________
(1) . أخرجه أحمد من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة- فذكره وله طريق أخرى عند عبد الرازق مرفوعة. وفيها يحيى بن العلاء الرازي وهو ضعيف. ورواه هو وابن أبى شيبة والطبراني من حديثهما موقوفا. وعن ابن مسعود أيضا موقوفا، وفي الباب عن أنس في الجنائز لابن شاهين وعن عبيد بن خالد عند أبى داود بلفظ «موت الفجأة أخذة أسف» . [.....]
(3/82)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
من غير أب عند نفخه في الدرع. فإن قلت: فلم خلق الله العجل من الحلىّ حتى صار فتنة لبنى إسرائيل «1» وضلالا؟ قلت: ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل، فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ هو خلق العجل للامتحان، أى: امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال، وأوقعهم فيه حين قال لهم هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أى: فنسي موسى أن يطلبه هاهنا، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري: أى ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.
[سورة طه (20) : الآيات 89 الى 91]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
يَرْجِعُ من رفعه فعلى أنّ أن مخففة من الثقيلة. ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال مِنْ قَبْلُ من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أوّل ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هرون عليه السلام بقوله إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ.
[سورة طه (20) : الآيات 92 الى 93]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
لا مزيدة. والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟
وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أبا شره أنا لو كنت شاهدا؟
أو مالك لم تلحقني.
[سورة طه (20) : آية 94]
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم خلق الله العجل فتنة لهم» قال أحمد: هذا السؤال وجوابه تقدما له في أول سورة الأعراف. وقد أوضحنا أن الله تعالى إنما تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه لا علل أفعاله. وجواب هذا السؤال في قوله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فهذا الامر جائز. وقد أخبر الله تعالى بوقوعه فلا نبتغى وراء ذلك سبيلا، لكن الزمخشري تقتضي قاعدته في وجوب رعاية المصالح على الله تعالى وتحتم هداية الخلق عليه: أن يؤول ذلك ويحرفه، فذرهم وما يفترون.
(3/83)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
قرئ لِحْيَتِي
بفتح اللام «1» وهي لغة أهل الحجاز، كان موسى صلوات الله عليه رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحمية، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدّو المكاشف قابضا على شعر رأسه- وكان أفرع «2» - وعلى شعر وجهه يجرّه إليه. أى: لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك، المتلافى برأيك وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتنى به من ضم النشر وحفظ الدهماء «3» ، ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها.
[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 96]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
الخطب: مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه:
ما طلبك له؟ قرئ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بالكسر «4» ، والمعنى: علمت ما لم تعلموه، وفطنت ما لم تفطنوا له. قرأ الحسن قَبْضَةً بضم القاف وهي اسم المقبوض، كالغرفة والمضغة.
وأما القبضة فالمرة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. وقرأ أيضا: فقبصت قبصة، بالصاد المهملة. الضاد: بجميع الكف. والصاد: بأطراف الأصابع. ونحوهما: الخضم، والقضم: الخاء بجميع الفم، والقاف بمقدمه: قرأ ابن مسعود:
من أثر فرس الرسول. فإن قلت: لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إنّ لهذا شأنا، فقبض قبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل.
[سورة طه (20) : آية 97]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
__________
(1) . قوله «قرئ بلحيتي بفتح اللام» والقراءة المشهورة: بالكسر. (ع)
(2) . قوله «وكان أفرع» أى تام الشعر. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وحفظ الدهماء» أى الجماعة، أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «وقرئ بصرت بما لم يبصروا به بالكسر» والقراءة المشهورة بالضم. وقرئ: تبصروا به.
بالتاء: وعبارة النسفي: وبالتاء حمزة وعلى، ولعلها سقطت هنا سهوا من الناسخ، فليحرر. (ع)
(3/84)
عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة، حم الماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحشي النافر في البرية. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم. وقرئ لا مِساسَ بوزن فجار.
ونحوه قولهم في الظباء. إذا وردت الماء فلا عباب، وإن فقدته فلا أباب: وهي أعلام للمسة والعبة والأبة، وهي المرة من الأب وهو الطلب لَنْ تُخْلَفَهُ أى لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقرئ لن تخلفه. وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا «1»
وعن ابن مسعود: نخلفه، بالنون، أى: لن يخلفه الله، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في لِأَهَبَ لَكِ
. ظَلْتَ وظلت، وظلت والأصل ظلت، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء، ومنهم من لم ينقل لَنُحَرِّقَنَّهُ ولنحرقنه ولنحرقنه. وفي حرف ابن مسعود: لنذبحنه، ولنحرقنه، ولنحرقنه: القراءتان من الإحراق. وذكر أبو على الفارسي في لنحرقنه انه يجوز أن يكون حرّق مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وعليه القراءة الثالثة، وهي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه لَنَنْسِفَنَّهُ بكسر السين وضمها، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن
__________
(1) .
أثوى وأقصر ليله ليزودا ... فمضت وأخلف من قتيلة موعدا
ومضى لحاجته وأصبح حبله ... خلقا وكان بحالة لن ينكدا
للأعشى. وأقصر عن الشيء: أقلع عنه وامتنع منه. وأقصره: وجده قصيرا. وروى «قصر» بالتشديد. وروى «ليله» بالاضافة إلى الضمير، لكن الذي في ديوان الأعشى «ليلة» بالتاء. وثوى بالمكان: أقام به، وأثوى به: لغة فيه، ويستعمل متعديا أيضا. يقول: إنه قطع السفر، وأقام بربع قتيلة، ووجد ليله قصيرا لتزوره بالوصال، أو امتنع من السفر لذلك، فمضى الليل على الأول، أو مضت الليلة على الثاني. وجزالة المعنى تشهد له.
وأخلف الموعد من قتيلة، أى: وجده خلفا، فسافر كما كان إلى حاجته، واستعار الحبل للوداد أو للطمع فيه على طريق التصريحية والخلق ترشيح، أى: يئس من مودته، وكان الحبل أو العاشق بحالة حسنة، هي أنه لن ينكدا، أى لن يتنغص، ولن يتكدر، ولن يتعسر شأنه، وزوال النعمة بعد نوالها يشق على النفس، وخلق- بالضم- فهو خلق، كحسن، وهو في الأصل مصدر. وينكد كيتعب.
(3/85)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
به وفتن، وإهدار سعيه، وهدم مكره وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
[سورة طه (20) : آية 98]
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
قرأ طلحة: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً وعن مجاهد وقتادة: وسع، ووجهه أن وسع متعدّ إلى مفعول واحد، وهو كل شيء. وأمّا عِلْماً فانتصابه على التمييز، وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين، فنصبهما معا على المفعولية لأنّ المميز فاعل في المعنى، كما تقول في «خاف زيد عمرا» خوفت زيدا عمرا، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا.
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 101]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
الكاف في كَذلِكَ منصوب المحل، وهذا موعد من الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أى: مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقصّ عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم، تكثيرا لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعنى القرآن مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار، لذكر عظيم وقرآن كريم، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقى. يريد بالوزر: العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح «1» لحامل، وبنقض ظهره، ويلقى عليه بهره «2» : أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وقرئ: يحمل. جمع خالِدِينَ على المعنى، لأنّ من معلق متناول لغير معرض واحد. وتوحيد الضمير في أعرض وما بعده للحمل على اللفظ. ونحوه قوله تعالى وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. فِيهِ أى في ذلك الوزر. أو في احتماله ساءَ في حكم بئس. والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهما يفسره حِمْلًا والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى
__________
(1) . قوله «يفدح الحامل» أى يثقله. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «بهره» أى غلبته. أفاده الصحاح. (ع)
(3/86)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أيوب هو المخصوص بالمدح. ومنه قوله تعالى وَساءَتْ مَصِيراً أى وساءت مصيرا جهنم. فإن قلت: اللام في لَهُمْ ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت: هي للبيان، كما في هَيْتَ لَكَ. فإن قلت. ما أنكرت «1» أن يكون في ساء ضمير الوزر؟ قلت: لا يصح أن يكون في ساء وحكمه حكم بئس ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت: فلا يكن ساء الذي حكمه حكم بئس، وليكن ساء الذي منه قوله تعالى سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بمعنى أهم وأحزن؟ قلت: كفاك صادّا عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك:
وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملا، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذا اللام وعهدة هذا المنصوب.
[سورة طه (20) : الآيات 102 الى 104]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
أسند النفخ إلى الآمريه فيمن قرأ: ننفخ، بالنون. أو لأن الملائكة المقرّبين وإسرافيل منهم بالمنزلة التي هم بها من رب العزة، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى. وقرئ: ينفخ، بلفظ ما لم يسم فاعله. وينفخ. ويحشر، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام. وأما يحشر المجرمون فلم يقرأ به إلا الحسن.
وقرئ فِي الصُّورِ بفتح الواو جمع صورة، وفي الصور: قولان، أحدهما: أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه. والثاني: أنه القرن. قيل في الزرق قولان، أحدهما: أن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ:
أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. والثاني: أنّ المراد العمى، لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ. تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت «أطال الله بقاءك» : «كفى بالانتهاء قصرا» وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشدّ تقاولا منهم في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ونحوه قوله تعالى قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ وقيل: المراد لبثهم في القبور. ويعضده
__________
(1) . قوله «ما أنكرت» لعله «لم أنكرت» . غ
(3/87)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
قوله عز وجل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ.
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 107]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107)
يَنْسِفُها يجعلها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما يذرى الطعام فَيَذَرُها «1» أى فيذر مقارّها ومراكزها. أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ. فإن قلت: قد فرّقوا بين العوج والعوج، فقالوا: العوج بالكسر في المعاني. والعوج بالفتح في الأعيان، والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عزّ وعلا ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك، اللهمّ إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني، فقيل فيه: عوج بالكسر. الأمت: النتوّ اليسير، يقال: مدّ حبله حتى ما فيه أمت.
[سورة طه (20) : الآيات 108 الى 109]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله يَوْمَئِذٍ أى يوم إذ نسفت، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يوم القيامة. والمراد: الداعي إلى المحشر. قالوا: هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس يدعو الناس، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون لا عِوَجَ لَهُ أى لا يعوجّ له مدعوّ، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته. أى: خفضت
__________
(1) . قوله تعالى فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً في الصحاح: أن كلا من القاع والصفصف بمعنى المستوى من الأرض، فكأن الصفصف تأكيد. (ع)
(3/88)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
الأصوات من شدة الفزع وخفتت «1» فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وهو الركز الخفي. ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت، أى: لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر مَنْ يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف، أى: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ والنصب على المفعولية. ومعنى أذن له وَرَضِيَ لَهُ لأجله. أى: أذن للشافع ورضى قوله لأجله. ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ.
[سورة طه (20) : آية 110]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)
أى يعلم ما تقدّمهم من الأحوال وما يستقبلونه، ولا يحيطون بمعلوماته علما.
[سورة طه (20) : آية 111]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
المراد بالوجوه وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا- يوم القيامة- الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوههم عانية، أى ذليلة خاشعة، مثل وجوه العناة وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. وقوله تعالى وَقَدْ خابَ وما بعده اعتراض، كقولك: خابوا وخسروا. وكلّ من ظلم فهو خائب خاسر.
[سورة طه (20) : آية 112]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
الظلم: أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم: أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أى: فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ: فلا يخف، على النهى.
[سورة طه (20) : آية 113]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
وَكَذلِكَ عطف على كَذلِكَ نَقُصُّ أى: ومثل ذلك الإنزال، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد «2» أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة، مكرّرين فيه آيات الوعيد،
__________
(1) . قوله «وخفتت» في الصحاح «خفت الصوت» سكن. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه وكما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة للوعيد ... الخ» قال أحمد: الصواب في تفسيرها:
ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر، وإلا فلو أراد لله من جميعهم التقوى لوقعت. وقد تقدمت أمثالها. والعجب أنه نقل عن سيبويه في تفسير لعل أول هذه السورة عند قوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أن معناه: كونا على رجائكما، ثم رجع عن ذلك هاهنا لأن المعتقد الفاسد يحذوه إلى هذا التأويل الباطل، والله الموفق.
(3/89)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر- كما ذكرنا- يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ: نحدث وتحدث، بالنون والتاء، أى: تحدث أنت. وسكن بعضهم الثاء للتخفيف، كما في:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «1»
[سورة طه (20) : آية 114]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ: حتى تقضى إليك وحيه. وقوله تعالى رَبِّ زِدْنِي عِلْماً متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أى علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلما.
وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
[سورة طه (20) : آية 115]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)
يقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد
__________
(1) .
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
لامرئ القيس، كان حلف لا يشرب الخمر حتى يقتل بنى أسد الذين قتلوا أباه حجرا، فلما قتل جماعة منهم قال:
حلت لي الخمر بعد أن كانت حراما على وكنت في شغل شاغل لي عن شربها، فاليوم حين أخذت الثأر أشرب، وكان حقه الرفع لعدم الجازم، فسكن تخفيفا للوزن. والمستحقب للشيء: الحامل له على ظهره. ومنه الحقيبة، فشبه الإثم بالشيء المحمول لمشقته على النفس، والاستحقاب تخييل، والواغل: الداخل على الشاربين من غير أن يدعوه، أى: فاليوم أشرب ما شئت حال كوني غير متحمل ذنبا من الله. حيث بررت في قسمي، ولا متطفل على الشاربين.
(3/90)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ والمعنى:
وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بنى آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ: فنسي، أى: نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضىّ على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود:
يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه لَهُ عَزْماً وأن يكون نقيض العدم كأنه قال:
وعدمنا له عزما.
[سورة طه (20) : آية 116]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116)
إِذْ منصوب بمضمر، أى: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب، حتى إن لم يقم عنف. وقيل له: قد قام فلان وفلان، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال أَبى جملة مستأنفة، كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدّر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله فَسَجَدُوا وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط
[سورة طه (20) : آية 117]
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)
فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون
(3/91)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
حوّاء بعد إشراكهما في الخروج، لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة.
أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه. قرئ: وَأَنَّكَ بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على أَلَّا تَجُوعَ. فإن قلت: إنّ لا تدخل على أن، فلا يقال:
إنّ أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن إنّ وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إنّ، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة- كإن- لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إنّ وأن.
[سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
الشبع والرىّ والكسوة والكنّ: هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، «1» فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو «2» ، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
[سورة طه (20) : آية 120]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120)
__________
(1) . قال محمود: «ذكر تعالى الأصناف التي بها قوام الإنسان ... الخ» قال أحمد: تنبيه حسن، وفي الآية سر بديع من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير، وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول:
كأنى لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أرشف الرزق الروى ولم أقل ... لخيلى كرى كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله «لخيلى كرى كرة» وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب، وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي الآخر فقال:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاعترضه سيف الدولة بأنه ليس فيه قطع الشيء عن نظيره، ولكنه على فطنته قصر قهمه عما طالت إليه يد أبى الطيب من هذا المعنى الطائل البديع، على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر، وهو أن قصد تناسب الفواصل، ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤس الآي، وأحسن به منتظما، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «والضحو» الذي في الصحاح: ضحيت للشمس ضحا- ممدود- إذا برزت الشمس لها، وضحيت- بالفتح- مثله. (ع)
(3/92)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
فإن قلت: كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ وأخرى بإلى؟
قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى «1» ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه: وسوس المبرسم، وهو موسوس بالكسر.
والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى:
وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق «2»
فإذا قلت: وسوس له، فمعناه لأجله، كقوله:
أجرس لها يا ابن أبى كباش «3»
ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة، كقولك. حدّث إليه. وأسرّ إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه، كما قيل لحيزوم: فرس الحياة، لأنّ من باشر أثره حيي وَمُلْكٍ لا يَبْلى دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضى الله عنهم:
إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بالكسر.
[سورة طه (20) : آية 121]
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
__________
(1) . قوله «كولولة الثكلى» أى الحزينة. (ع)
(2) .
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... سرا وقد أونّ تأوين العقق
في الزرب لو يمضغ شربا ما بصق
لرؤبة، يصف قانصا. وسوس: تكلم في نفسه، يدعو لله مخلصا أنه يظفره بالصيد، وقوله «سرا» ساقه مساق الظرف للتوكيد، أى تعلق بوسوس، وللتأسيس إن تعلق بيدعو، وتكون الجملة حالية مبينة للوسوسة. وقد أونّ أى: الحمير الوحشية، والجملة أيضا حالية، والتأوين: امتلاء الجنبين من الأون، وهو جانب الخرج الممتلئ. والأوثان الجانبان الممتلئان. والعقق: الحوامل، واحده عقوق كعروس، وقيل: هو العقوق، أى امتلأت بطونهن ماء لكثرة شربهن كامتلاء بطون الحوامل في الزرب، حال من ضمير القانص. والزرب والزربة: قترته التي يكمن فيها وانزرب القانص: دخل الزرب. وقوله «لو يمضغ» في معنى الحال أيضا، أى: ساكنا بحيث لو يمضغ شربا، أى:
لو يلوك بفمه مقدارا من مائه وهو الريق، لم يبصق لئلا يسمع الصيد صوته. وأصل الشرب: النصيب من الماء، استعاره لما يجتمع بفمه من الريق، وبين الزرب والشرب الجناس المضارع.
(3) .
أجرس لها يا ابن أبى كباش ... فما لها الليلة من أنفاش
غير السرى وسائق نجاش
«أجرس» بقطع الهمزة وبالسين المهملة، أى: صوت واحد للإبل في السير، فما لها في هذه الليلة انفاش، أى:
إطلاق في المرعى. والسرى: سير الليل. ونجشت الإبل: جمعتها بعد تفرق. ونجاش: صيغة مبالغة، أى: ليس لها رعى، بل سير شديد. وروى «اجرش» بوصل الهمزة والشين المشالة، وهو بمعناه هنا. والجرس- بالمهملة-:
الصوت الخفي، وبالمشالة: صوت المشط في الشعر. وما شابه ذلك.
(3/93)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
«طفق يفعل كذا» مثل: جعل يفعل، وأخذ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر. وكاد لمشارفته والدنوّ منه. قرئ يَخْصِفانِ للتكثير والتكرير، من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف، أى: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس: لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، فكان غيا لا محالة، لأنّ الغى خلاف الرشد، ولكن قوله وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات: فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن تجسروا على التورّط في الكبائر. وعن بعضهم فَغَوى فبشم «1» من كثرة الأكل، وهذا- وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في «فنى، وبقي» : «فنا، وبقا» وهم بنو طىّ- تفسير خبيث.
[سورة طه (20) : آية 122]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)
فإن قلت: ما معنى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ؟ قلت: ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه، من جبى إلىّ كذا فاجتبيته. ونظيره: جليت علىّ العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أى هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون: اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. وهَدى أى وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى.
[سورة طه (20) : آية 123]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123)
لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا:
جعلا كأنهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على لفظ الجماعة.
__________
(1) . قوله «فبشم من كثرة الأكل» في الصحاح «البشم» التخمة، (ع)
(3/94)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب هُدىً كتاب وشريعة. وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى والمعنى أنّ الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.
[سورة طه (20) : الآيات 124 الى 126]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ ضَنْكاً على فعلى. ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافغا كما قال عز وجل فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره: قال الله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وقال اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً وعن الحسن: هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري: عذاب القبر. وقرئ وَنَحْشُرُهُ بالجزم عطفا على محل فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً لأنه جواب الشرط. وقرئ: ونحشره، بسكون الهاء على لفظ الوقف، وهذا مثل قوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا وكما فسر الزرق بالعمى كَذلِكَ أى مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر، وتركتها وعميت عنها، فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.
[سورة طه (20) : آية 127]
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
(3/95)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة- ختم آيات الوعيد بقوله وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى كأنه قال: وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضى. أو أراد: ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.
[سورة طه (20) : آية 128]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)
فاعل فَلَمْ يَهْدِ الجملة بعده يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أى تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون. وقرئ يَمْشُونَ يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون فِي مَساكِنِهِمْ ويعاينون آثار هلاكهم.
[سورة طه (20) : آية 129]
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر لازم وصف به، وإما فعال بمعنى مفعل، أى ملزم، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه، كما قالوا: لزاز خصم وَأَجَلٌ مُسَمًّى لا يخلو من أن يكون معطوفا على كَلِمَةٌ أو على الضمير في لَكانَ أى لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل
[سورة طه (20) : آية 130]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)
بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع الحال، أى: وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلا، والأوقات على الفعل آخرا، فكأنه قال: صل لله قبل طلوع الشمس يعنى الفجر، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال الله عز وجل إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا وقال أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ولأنّ الليل وقت السكون والراحة، فإذا
(3/96)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار، إرادة الاختصاص، كما اختصت في قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى عند بعض المفسرين. فإن قلت: ما وجه قوله وَأَطْرافَ النَّهارِ على الجمع، وإنما هما طرفان كما قال أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ؟ قلت: الوجه أمن الإلباس، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين: مجيئهما في قوله:
ظهراهما مثل ظهور الترسين «1»
وقرئ: وأطراف النهار، عطفا على آناء الليل، ولعل للمخاطب، أى: اذكر الله في هذه الأوقات، طمعا ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ: ترضى، أى يرضيك ربك.
[سورة طه (20) : آية 131]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131)
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أى نظر عينيك، ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، وتمنيا أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ حتى واجههم أو لو العلم والإيمان ب وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
__________
(1) .
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
جبتهما بالنعت لا بالنعتين
لخطام المجاشعي. وقيل: لهميان بن قحافة. والمهمه: المفازة. والقذف- بالتحريك-: الذي يقذف سالكه فلا يمكث فيه أحد. وقيل: البعيد. والمرت- بالسكون-: القفر لا ماء فيه ولا نبات. والترس: حيوان ناتئ الظهر. وثنى ظهراهما على الأصل، وجمع فيما بعد لأمن اللبس، ولأنه ربما كره اجتماع تثنيتين، لا سيما عند تتابع التثنية كما هنا. وقال النحاة: كل مثنى في المعنى مضاف إلى متضمنه، يختار في لفظه الجمع لتعدد معناه وكراهة اجتماع تثنيتين في اللفظ. ويجوز مجيئه على الأصل كما هنا. ويجوز إفراده كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي
والجواب: القطع. والنعت: الوصف، ويروى: «بالسمت لا بالسمتين» والسمت: الهيئة والقصد والجهة والطريق والمراد أنهما وصفا، أو ذكرت هيأتهما له مرة واحدة. يقول: رب موضعين قفرين لا أنيس فيهما، لهما ظهران مرتفعان، كظهرى الترسين، قطعتهما بالسير بنعت واحد، لا بوصفهما لي مرتين أو ثلاثة كغيرى. ويجوز أن المعنى بذكر نعت واحد من نعوتها، لا بذكر نعتين، فالنعت بمعنى الصفة القائمة بالشيء. وفي الكلام دلالة على شجاعته وحذقه.
(3/97)
وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأنّ من أبصر منها شيئا أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه: قيل وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على مِنْهُمْ كأنه قال: إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناسا منهم. فإن قلت: علام انتصب زَهْرَةَ؟ قلت: على أحد أربعة أوجه: على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين مَتَّعْنا معنى أعطينا وخوّلنا، وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من أزواجا، على تقدير ذوى زهرة.
فإن قلت: ما معنى الزهرة فيمن حرّك «1» ؟ قلت: معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ: أرنا الله جهرة. وأن تكون جمع زاهر، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون، وتهلل وجوههم «2» وبهاء زيهم وشارتهم «3» ، بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء: من شحوب الألوان والتقشف في الثياب لِنَفْتِنَهُمْ لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وَرِزْقُ رَبِّكَ هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة «4» من بعض الوجوه، والحلال خَيْرٌ وَأَبْقى لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى رزقا أصلا «5» . وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) . قوله «حرك» أى حرك الهاء بالفتح. (ع)
(2) . قوله «وتهلل وجوههم» الذي في الصحاح: تهلل وجه الرجل من فرحه، وهلهل النساج الثوب. أرق نسجه وخففه. (ع)
(3) . قوله «وبهاء زيهم وشارتهم» في الصحاح: الزي والشارة: اللباس والهيئة. (ع)
(4) . قال محمود: «معناه أن رزق هؤلاء المتمتعين في الدنيا أكثره مكتسب من الحرام ... الخ» قال أحمد:
لولا أن غرض القدرية من هذا إثبات رازق غير الله تعالى كما أثبتوا خالقا سوى الله تعالى لكان البحث لفظيا.
فالحق والسنة أن كل ما تقوم به البنية رزق من الله تعالى، سواء كان حلالا أو غيره، لا يلزم من كون الله تعالى رزقه أن يكون حلالا، فكما يخلق الله تعالى على يدي العبد ما نهاه عنه، كذلك يرزقه ما أباح له تناوله وما لا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ والله الموفق الصواب.
(5) . قوله «والحرام لا يسمي رزقا أصلا» هذا عند المعتزلة، ويسمى رزقا عند أهل السنة. (ع)
(3/98)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
وسلم إلى يهودى وقال: «قل له يقول لك رسول الله أقرضنى إلى رجب» فقال: والله لا أقرضته إلا برهن، فقال رسول الله «إنى لأمين في السماء وإنى لأمين في الأرض، احمل إليه درعي «1» الحديد» فنزلت: ولا تمدّنّ عينيك.
[سورة طه (20) : آية 132]
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أى وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإنّ رزقك مكفىّ من عندنا، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. وفي معناه قول الناس: من دان في عمل الله كان الله في «2» عمله. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله. وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية.
[سورة طه (20) : آية 133]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوّة، فقيل لهم: أو لم تأتكم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعنى القرآن، من قبل أنّ القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. وقرئ: الصحف. بالتخفيف. ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل.
[سورة طه (20) : آية 134]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134)
__________
(1) . قلت وقع فيه تحريف في الراويين. وإنما هو عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبى رافع. ولعل ذلك من النساخ. والحديث أخرجه إسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبري والطبراني من هذا الوجه مطولا.
وفيه موسى بن عبيدة الزبيري وهو متروك. واستدل على بطلان ما رواه أنه وقع فيه «أن قوله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ الآية نزلت في هذه القصة وسورة طه مكية- وهذه القصة إنما كانت في المدينة كما في الصحيح. وهذا يمكن الجواب عنه إذ لا مانع أن تكون الآية وحدها مدنية. وبقية السورة مكي. وأما حمله على تعدد القصة فلم يصب.
(2) . قوله «من دان في عمل الله كان الله في عمله» دان: ذل، ودانه: أذله، كذا في الصحاح. (ع)
(3/99)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
قرئ نَذِلَّ وَنَخْزى على لفظ ما لم يسم فاعله.
[سورة طه (20) : آية 135]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
كُلٌّ أى كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم.
وقرئ: السواء، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى والسوي تصغير السوء.
وقرئ: فتمتعوا فسوف تعلمون. قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار «1» » وقال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا طه ويس «2» »
سورة الأنبياء
مكية وآياتها 112 [نزلت بعد سورة إبراهيم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (21) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: «أزف للحىّ رحيلهم» الأصل: أزف رحيل الحىّ، ثم أزف للحىّ الرحيل، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبالك: لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأوّل. والمراد اقتراب الساعة. وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية زياد عن الحسن مرسلا. [.....]
(2) . أخرجه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب.
(3/100)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
فإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟
قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عزّ وجلّ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ولأنّ كلّ آت- وإن طالت أوقات استقباله وترقبه- قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «1» «بعثت في نسم الساعة «2» » وفي خطبة بعض المتقدّمين: ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء. وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ المراد بالناس: المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 2 الى 3]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأنّ الله يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر- التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ- إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن.
وقرأ ابن أبى عبلة مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل. قوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
__________
(1) . أخرجه البزار بإسناد حسن، من حديث أبى جبير بن الضحاك الأنصارى وأخرجه الحسن بن سفيان.
ومن طريقه أبو نعيم في الحلية. وفي الباب عن المستورد بن شداد رفعه «بعثت في نفس الساعة- الحديث» أخرجه الترمذي. وقوله: وفي خطب بعض المتقدمين «ولت الدنيا حذاء لم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء» هو عبد الله بن غزوان. أخرجه مسلم من حديثه مطولا.
(2) . قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» أو لها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسيم أيضا: جمع نسمة وهي النفس. (ع)
(3/101)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ لاهِيَةً بالرفع فالحال واحدة، لأن لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ خبر بعد خبر، لقوله وَهُمْ واللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا، وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمّل والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله وَأَسَرُّوا؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون، أبدل الَّذِينَ ظَلَمُوا من واو وأسرّوا، إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو جاء على لغة من قال «أكلونى البراغيث» أو هو منصوب المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قدم عليه: والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى.
فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا: اعتقدوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت:
لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه «1» . وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طىّ سرّهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» .
ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررنا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 4]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
__________
(1) . قوله «وعمل المنصوبة في التثبيط عنه» كأن فيه سقطا. وفي الصحاح: نصبت لفلان نصبا: إذا عاديته. (ع)
(2) . روى موقوفا. قال: ويرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب الثالث والأربعين وابن عدى من رواية سعيد بن سلام العطار عن ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وسعيد. قال البخاري: يذكر بالوضع، وتابعه حسين بن علوان عن ثور. وكان أيضا يضع الحديث. قاله ابن عدى وابن حبان وقال هاهنا عن أحمد وابن معين: هو حديث موضوع. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: منكر لا يعرف له أصل. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وفيه شميل بن عبد الرحمن الجرجاني رواه محمد بن مطرف وعند الهيثم بن أيوب الطالقاني، وعن ابن عباس أخرجه ابن حبان في الضعفاء. وفيه طاهر بن الفضل الحلبي. وهو متهم بالوضع. وله طريق أخرى من رواية الخلفاء للحسن بن على صاحب السلعة عن إبراهيم بن على ابن مالونة البلخي عن الطالبي عن إبراهيم بن معقل بسنده. وليس فيه غير الطالبي.
(3/102)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى «1» ؟ قلت: القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرهم. ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية. فإن قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا، وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول:
إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله علام الغيوب عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. وقرئ قالَ رَبِّي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 5]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج «2» ، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد.
ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث. صحة التشبيه في قوله كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم عدل عن قوله يعلم السر مع أن المتقدم وأسروا النجوى ... الخ» قال أحمد:
وهذا من إتباع القرآن للرأى، نعوذ بالله من ذلك لا سيما رأى ينفى صفات الكمال عن الله تعالى وما الذي دل عليه السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من نفى صفتي السمع والعلم في تفسيرهما بذلك، مع أنه لا يفهم في اللغة سميع إلا بسمع، ولا عليم إلا بعلم، فإنها صفات مشتقات من مصادر لا بد من فهمها وثبوتها أولا، ثم ثبوت ما اشتقت منه. ومن أنكر السمع والعلم فقد سارع إلى إنكار السميع العليم وهو لا يشعر. وليس غرضنا في هذا المصنف سوى الإيقاظ لما الطوى عليه الكشاف من غوائل البدع ليتجنبها الناظر. وأما الأدلة الكلامية فمن فنها تتلقى. وحاله فيما يورده من أمثال هذه النزغات مختلف: فمرة يوردها عند كلام يتخيل في ظاهره إشعارا بغرضه، فوظيفتنا معه حينئذ أن ننازع في الظهور، ثم قد نترقى إلى بيان ظهوره في عكس مراده أو نصوصيته، حتى لا يحتمل ما يدعيه بوجه ما، وقد يلجئنا الانصاف إلى تسليم الظهور له فنذكر وجه التأويل الذي يرشد إليه دليل العقل. ومرة يورد نبذا من هذا الرأى عند كلام لا يحتمله ولا يشعر به بوجه، وغرضه التعف حتى لا يخلى شيئا من كلامه من تعصب وإصرار على باطل، فننبه على ذلك أيضا. وما ذكره عند هذه الآية من قبيل ما يدل النص على عكس مراده فيه، وقد أوضحناه.
(2) . قوله «الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفد. (ع)
(3/103)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
من حيث أنه في معنى: كما أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وبين قولك: أتى محمد بالمعجزة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 6]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا أو خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث.
[سورة الأنبياء (21) : آية 7]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)
أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 8]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8)
لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوى جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوى ضرب من الأجساد. وهذا ردّ لقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ. فإن قلت: نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشرا يأكل ويشرب بما ذكرت. فماذا ردّ من قولهم بقوله وَما كانُوا خالِدِينَ؟ قلت:
يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا: هلا كان ملكا لا يطعم ويخلد: إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلودا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 9]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مثل واختار موسى قومه. والأصل في الوعد: ومن قومه. ومنه:
صدقوهم القتال. وصدقنى سنّ بكره وَمَنْ نَشاءُ هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 10]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
(3/104)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
ذِكْرُكُمْ شرفكم وصيتكم، كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أو موعظتكم. أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر «1» ، كحسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء، وما أشبه ذلك،
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية: أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال قَوْماً آخَرِينَ لأن المعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين. وعن ابن عباس: أنها «حضور» وهي و «سحول» قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين «2» » وروى «حضوريين «3» » بعث الله إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم. وروى: أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء، ندموا واعترفوا بالخطإ، وذلك حين لم ينفعهم الندم. وظاهر الاية على الكثرة. ولعل ابن عباس ذكر «حضور» بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حسّ ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل. ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب.
ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم، فقيل لهم.
لا تَرْكُضُوا والقول محذوف. فإن قلت: من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة
__________
(1) . قوله «تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر» لعله «وحسن الذكر» بالواو فقط. (ع)
(2) . متفق عليه عن عائشة بلفظ «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية» .
(3) . أخرجه الدارقطني في العلل من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، بلفظ «ثلاثة أثواب: ثوبين حضوريين وثوب حبرة» وقال: تفرد به محمد بن إسحاق الصاغاني عن ابن الحوأب عن الثوري عن عاصم بن عبد الله عن سالم عن أبيه بهذا.
«فائدة» «حضور» بفتح المهملة وضم المعجمة: قرية بصنعاء قريبة من قرية عبد الرزاق.
(3/105)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلفاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل. أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم. أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من العيش الرأفة والحال الناعمة. والإتراف: إبطار النعمة وهي الترفة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، أى: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم. وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدّمين؟
أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم، ويمترون أخلاف «1» معروفكم وأياديكم: إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ تِلْكَ إشارة إلى يا ويلنا، لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دَعْواهُمْ والدعوى بمعنى الدعوة. قال تعالى وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت:
لأن المولول كأنه يدعو الويل، فيقول تعالى: يا ويل فهذا وقتك. وتِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم. الحصيد: الزرع المحصود، أى: جعلناهم مثل الحصيد، شبههم به في استنصالهم واصطلامهم «2» كما تقول: جعلناهم رمادا، أى مثل الرماد. والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية. فإن قلت كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد، لأنّ معنى قولك «جعلته حلوا حامضا» جعلته جامعا للطعمين. وكذلك معنى ذلك: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 17]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17)
أى: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوّى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم،
__________
(1) . قوله «ويمترون أخلاف معروفكم» في الصحاح: الريح تمرى السحاب وتمتريه، أى تستدره. وفيه أيضا:
الخلف- بالكسر- حلية ضرع الناقة. (ع)
(2) . قوله «واصطلامهم» في الصحاح «الاصطلام» الاستئصال. (ع)
(3/106)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعدّ والمرافق التي لا تحصى. ثم بين أنّ السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالى: هو أن الحكمة صارفة عنه، وإلا فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلا لأنى على كل شيء قدير. وقوله لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا كقوله رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أى من جهة قدرتنا. وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن. وقيل المرأة. وقيل من لدنا، أى من الملائكة لا من الإنس، ردّا لولادة المسيح وعزير.
[سورة الأنبياء (21) : آية 18]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
بَلْ إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب «1» ، بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف «2» والدمغ، تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه «3» ، ثم قال وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته. وقرئ: فيدمغه بالنصب، وهو في ضعف قوله:
__________
(1) . قال محمود: «معناه سبحاننا أن نتخذ لهوا ولعبا ... الخ» قال أحمد: وله تحت قوله واستغنائنا عن القبيح دفين من البدعة والضلالة، ولكنه من الكنوز التي يحمى عليها في نار جهنم، وذلك أن القدرية يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح وفعل ما يتوهمونه حسنا بعقولهم، ويظنون أن الحكمة تقتضي ذلك، فلا يستغنى الحكيم على زعمهم عن خلق الحسن على وفق الحكمة بخلاف القبيح، فان الحكمة تقتضي الاستغناء عنه، فالى ذلك يلوح الزمخشري وما هي إلا نزعة سبق إليها ضلال الفلاسفة. ومن ثم يقولون: ليس في الإمكان أكمل من هذا العالم، لأنه لو كان في القدرة أكمل منه وأحسن، ثم لم يخلقه الله تعالى: لكان بخلا ينافي الجود، أو عجزا ينافي القدرة، حتى انبعهم في ذلك من لا نسميه من أهل الملة- عفا الله عنه- إن كان هذا مما يدخل تحت ذيل العفو. فالحق أن الله تعالى مستغن عن جميع الأفعال حسنة كانت أو غيرها، مصلحة كانت أو مفسدة. وأن له أن لا يخلق ما يتوهمه القدرية حسنا، وله أن يفعل ما يتوهمونه في الشاهد قبيحا، وأن كل موجود من فاعل وفعل على الإطلاق فبقدرته وجد، فليس في الوجود إلا الله وصفاته وأفعاله، وهو مستغن عن العالم بأسره، وحسنه وقبحه، فلو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أتقى قلب رجل منكم لم يزد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أفجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا. اللهم ألهمنا الحق واستعملنا به.
(2) . عاد كلامه. قال: «وفي قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل استعارة حسنة: استعار القذف ... الخ» قال أحمد: ومثل هذا التنبيه من حسناته، ولولا أن السيئة التي قبلها تتعلق بالعقيدة لتلوت: إن الحسنات يذهبن السيئات، والله أعلم. [.....]
(3) . قوله «فدمغه» في الصحاح: أى شجه حتى بلغت الشجة الدماغ. (ع)
(3/107)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا «1»
وقرئ فيدمغه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 20]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
وَمَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون- لكرامتهم عليه- منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه «2» . فإن قلت:
الاستحسار مبالغة في الحسور «3» ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفى عنهم أدنى الحسور. قلت في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية الحسور «4» وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. أى، تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر.
[سورة الأنبياء (21) : آية 21]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ الموتى «5» ، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات. فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر «6» وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا- مع إقرارهم لله عزّ وجل بأنه خالق السماوات والأرض وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى- منكرين البعث ويقولون: من يحيى العظام وهي رميم، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثانى القديم، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟ قلت: الأمر
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 557 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت لم استعمل الاستحسار هاهنا في النفي ... الخ» قال أحمد: وبمثله أجيب عن قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فانظره.
(4) . قوله «يوجب غاية الحسور» أى الكلال. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . قوله «هم ينشرون الموتى» الأبشار: الأحياء بعد الموت. أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قال محمود: «إن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ... الخ» قال أحمد: فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها وهو أبلغ في الإنكار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(3/108)
كما ذكرت، ولكنهم بادّعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. ونحو قوله مِنَ الْأَرْضِ قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد: مكي أو مدنى. ومعنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض: لأنّ الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية. ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال إنها مؤمنة «1» لأنه فهم منها أنّ مرادها نفى الآلهة الأرضية التي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا لله عزّ وجلّ. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض. فإن قلت: لا بدّ من نكتة في قوله هُمْ «2» قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية، كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم. وقرأ الحسن يُنْشِرُونَ وهما لغتان: أنشر الله الموتى، ونشرها. وصفت آلهة بإلا كما توصف بغير، لو قيل آلهة غير الله.
__________
(1) . أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «إن قلت لا بد لقوله هُمْ من فائدة، وإلا فالكلام مستقل بدونها ... الخ» قال أحمد: وفي هذه النكتة نظر، لأن آلات الحصر مفقودة، وليس ذلك من قبيل: صديقي زيد، فان المبتدأ في الآية أخص شيء لأنه ضمير. وأيضا فلا ينبغي على ذلك إلزامهم حصر الألوهية فيهم، وتخصيص الانشار بهم، ونفيه عن الله تعالى، إذ هذا لا يناسب السياق، فانه قال عقبها: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. ومعناه: لو كان فيهما إله غير الله شريكا لله لفسدتا، وكان مقتضى ما قال الزمخشري أن يقال: لو لم يكن فيهما آلهة إلا الأصنام لفسدتا. وأما والمتلوّ على خلاف ذلك، فلا وجه لما قال الزمخشري. وعندي أنه يحتمل والله أعلم أن تكون فائدة قوله هُمْ الإيذان بأنهم لم يدعوا لها الانشار، وأن قوله هُمْ يُنْشِرُونَ استئناف إلزام لهم، وكأنه قال: اتخذوا آلهة مع الله عز وجل فهم إذن يحيون الموتى ضرورة كونهم آلهة، ثم لما انتظم من دعواهم الألوهية للأصنام وإلزامهم على ذلك أن يصفوهم بالقدرة الكاملة على إحياء الموتى، نظم في إبطال هذه الدعوى وما ألزمهم عليها دليل قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وأزيد هذا التقرير وضوحا فأقول: إن دليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية، المقتبس من نورها، يورده المتكلمون على صورة التقسيم، فيقولون: لو وجد مع الله إله آخر، وربما قالوا: لو فرضنا وجود إلهين، فاما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على إحياء الموتى وإنشارهم وغير ذلك من الممكنات، أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر، ثم يحيلون جميع الأقسام وهو المسمى برهان الخلف. وأدق الأقسام إبطالا قسم اتصافهما جميعا بصفات الكمال، وما عداه فببادئ الرأى يبطل. فانظر كيف اختار له تعالى إبطال هذا القسم الخفي البطلان، فأوضح فساده في أخصر أسلوب وأوجزه، وأبلغ بديع الكلام ومعجزه. وإنما ينتظم هذا على أن يكون المقصد من قوله هُمْ يُنْشِرُونَ إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم، حتى يتحرى أنهم اختاروا القسم الذي أبطله الله تعالى، ووكل إبطال ما عداه من الأقسام إلى ما ركبه في عباده من العقول، وكل خطب بعد بطلان هذا القسم جلل، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل بعين الانصاف. تجده أنفس الانصاف، والله المستعان.
(3/109)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
[سورة الأنبياء (21) : آية 22]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه موجب، والبدل لا يسوّغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ وذلك لأنّ أعم العامّ يصح نفيه ولا يصح إيجابه. والمعنى: لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين، أحدهما:
وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا. والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله إِلَّا اللَّهُ. فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو ابن سعيد الأشدق: كان والله أعزّ علىّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول «1» وهذا ظاهر. وأمّا طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد، ولأنّ هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقرّ.
[سورة الأنبياء (21) : آية 23]
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطإ والزلل وأنواع الفساد عليهم- كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله، مع ما علم واستقرّ في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ «2» ولا فعل القبائح «3»
__________
(1) . قوله «لا يجتمع فحلان في شول» في الصحاح «الشول» النوق التي خف لبنها وارتفع ضرعها. (ع)
(2) . قال محمود: «لما بين تعالى أنه رب الأرباب وخالقهم ومالكهم، ناسب هذا التنبيه على ما يجب له تعالى علي خلقه من الإجلال والإعظام، فان آحاد الملوك تمنع مهابته أن يسئل عن فعل فعله، فما ظنك بخالق الملوك وربهم. ثم إن آحاد الملوك يجوز عليهم الخطأ والزلل وقد استقر في العقول أن أفعال الله تعالى كلها مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» قال أحمد: سحقا لها من لفظة ما أسوأ أدبها مع الله تعالى، أعنى قوله:
دواعي الحكمة، فان الدواعي والصوارف إنما تستعمل في حق المحدثين، كقولك: هو مما توفر دواعي الناس إليه أو صوارفهم عنه. وقوله «لا يجوز عليه فعل القبائح» قلت: وهذا من الطراز الأول، ولو أنه في الذيل:
فقد نسيت وما بالعهد من قدم
وبعد ما انقضى دليل التوحيد وإبطال الشرك من سمعك أيها الزمخشري، وقلمك رطب بتقريره، فلم نكصت وانتكست؟ أتقول إن أحدا شريك لله في ملكه يفعل ما يشاء من الأفعال التي تسميها قبائح فتنفيها عن قدرة الله تعالى وإرادته. وما الفرق بين من يشرك لله ملكا من الملائكة، وبين من يشرك نفسه بربه حتى يقول: إنه يفعل ويخلق لنفسه شاء الله أو لم يشأ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. والقدرية ارتضوا لأنفسهم شر شرك، لأن غيرهم أشرك بالملائكة، وهم أشركوا بنفوسهم وبالشياطين والجن وجميع الحيوانات، نعوذ بمالك الملك من مسالك الهلك.
(3) . قوله «ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فهو الفاعل للخير والشر، كما بين في علم التوحيد. (ع)
(3/110)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وَهُمْ يُسْئَلُونَ أى هم مملوكون مستعبدون خطاءون، فما خلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 24]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
كرّر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه. أى هذا الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد علىّ فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمّته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بالتنوين. ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ وقرئ مَنْ مَعِيَ ومَنْ قَبْلِي على من الإضافية في هذه القراءة.
وإدخال الجار على «مع» غريب، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف، نحو: قبل، وبعد، وعند، ولدن، وما أشبه ذلك، فدخل عليه «من» كما يدخل على أخواته. وقرئ: ذكر معى وذكر قبلي. كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار. وقرئ «الحق» بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب. والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على هذا المعنى، كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل.
[سورة الأنبياء (21) : آية 25]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
يوحى ونُوحِي: مشهورتان. وهذه الآية مقرّرة لما سبقها من آي التوحيد.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
(3/111)
نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافى الولادة، إلا أنهم مُكْرَمُونَ مقرّبون عندي مفضلون «1» على سائر العباد، «2» لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادى، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا. وقرئ مكرّمون. ولا يَسْبِقُونَهُ بالضم، من: سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى: أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله. والمراد:
بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدّمون قوله بقولهم، كما تقول: سبقت بفرسي فرسه، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره: لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم أنهم مع هذا كله من خشية الله مُشْفِقُونَ أى متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة «3» لا يأمنون مكر الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس «4» من خشية «5» الله، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى
__________
(1) . قال محمود: «معناه مكرمون مفضلون على سائر عباد الله» قال أحمد: وهذا التفسير من جعل القرآن تبعا للرأى، فانه لما كان يعتقد تفضيل الملائكة على الرسل نزل الآية على معتقده، وليس غرضنا إلا بيان أنه حمل الآية ما لا تحتمله، وتناول منها ما لا تعطيه، لأنه ادعى أنهم مكرمون على سائر الخلق لا على بعضهم، فدعواه شاملة ودليله مطلق، والله الموفق.
(2) . قوله «مفضلون على سائر العباد» هذا عند المعتزلة، وبعض البشر أفضل منهم عند أهل السنة. (ع) [.....]
(3) . قوله «ورقبة» بالكسر، أى: انتظار. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «كالحلس» بكسر فسكون. أو بفتحتين: كساء رقيق يكون تحت البرذعة أو تحت الرحل. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه ابن خزيمة من رواية مرة عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى- الحديث» قال فوقع جبريل فصار كالحلس الملقى» إسناده قوى. وغلط ابن الجوزي في تضعيفه لمحمد بن ميمون شيخ ابن خزيمة، فانه ثقة- وفي الطبراني الأوسط وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه «مررت في السماء الرابعة بجبريل، وهو كالحلس البالي من خشية الله» إسناده قوى. وروى ابن خزيمة في التوحيد وابن سعد وسعيد بن منصور والبزار والبيهقي في الشعب والدلائل والطبراني في الأوسط، كلهم من رواية أبى قلابة الحارث بن أبى عمران الحوفى عن أنس رفعه «بينما أنا قاعد إذ جاء جبريل. فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطائر فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت بنا فارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفى. ولو شئت أن أمسس لمسست. فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاطئ. فعرفت فضل علمه بالله علىّ. وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم- الحديث» قال البزار: لا نعلم رواه عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد بن سلمة عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد ابن سلمة عن أبى عمران. فقال: عن محمد بن عمير بن عطاء مرسلا كذلك أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حماد.
وفي رواية «فعرفت فضل خشيته على خشيتي» وزاد فيه فأوحى الله إليه أنبيا عبدا أم نبيا ملكا. فاومأ إلى جبريل عليه السلام: بل نبيا عبدا.
(3/112)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية.
فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان «1» ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون، كما قال وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
[سورة الأنبياء (21) : آية 30]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
قرئ «الم تر» بغير واو. ورَتْقاً بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول، كالخلق والنقض، أى: كانتا مرتوقتين. فإن قلت: الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر،؟؟؟
بال الرتق؟ قلت: هو على تقرير موصوف، أى: كانتا شيئا رتقا. ومعنى ذلك: أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها. وقيل: ففتقناهما بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة، وإنما قيل: كانتا دون كنّ، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان، أى: جماعتان، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر. فإن قلت: متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئىّ المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه وَجَعَلْنا لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدّى إلى واحد، فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى: صيرنا كل شيء حىّ بسبب من الماء لا بدّ له منه. و «من» هذا «2» نحو «من» في قوله عليه السلام «3» «ما أنا من
__________
(1) . قوله «إن كان» لعله: إذ كان. (ع)
(2) . قوله «ومن هذا» لعله «ومن هنا» . (ع)
(3) . أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبزار والطبراني من رواية يحيى بن محمد بن قيس عن عمرو بن أبى عمرو عن أنس. زاد البزار قال يحيى: يقول: «لست من الباطل ولا الباطل منى» قال: لا نعلمه إلا عن أنس من هذا الوجه. واستنكره ابن عدى ليحيى بن محمد بن قيس. وقال ابن أبى حاتم: رواه الدراوردي عن عمرو عن المطلب عن معاوية نحوه مرفوعا ونقل عن أبيه وأبى زرعة أن رواية الدراوردي أشبه بالصواب.
(3/113)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
دد ولا الدد منى» «1» وقرئ: حيا، وهو المفعول الثاني. والظرف لغو.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 31 الى 32]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)
أى كراهة أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وتضطرب. أو لئلا تميد بهم، فحذف «لا» واللام. وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس «2» ، كما تزاد لذلك في نحو قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ وهذا مذهب الكوفيين.
الفج: الطريق الواسع. فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً؟ قلت: لم تقدّم وهي صفة، ولكن جعلت حالا كقوله:
لعزّة موحشا طلل قديم «3»
إن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة.
والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك
__________
(1) . قوله عليه السلام: «ما أنا من دد» في الصحاح: الدد: اللهو واللعب. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه كراهة أن تميد بهم، أو تكون لا محذوفة لأمن الإلباس» قال أحمد: وأولى من هذين الوجهين أن يكون من قولهم: أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه. قال سيبويه: ومعناه أن أدعم الحائط إذا مال. وإنما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه، ولأنه أيضا هو السبب في الادعام، والادعام سبب في إعداد الخشبة، فعامل سبب السبب معاملة السبب. وعليه حمل قوله تعالى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى كذلك ما نحن فيه يكون الأصل: وجعلنا في الأرض رواسى لأجل أن تثبتها إذا مادت بهم «فجعل الميد هو السبب» كما جعل الميل في المثل المذكور سببا، وصار الكلام: وجعلنا في الأرض رواسى أن تميد فنثبتها، ثم حذف قوله «فنثبتها» لأمن الإلباس إيجازا واختصارا، وهذا التقرير أقرب إلى الواقع مما أول الزمخشري الآية عليه، فان مقتضى تأويله أن لا تميد الأرض بأهلها، لأن الله كره ذلك، ومكروه الله تعالى محال أن يقع، كما أن مراده واجب أن يقع، والمشاهد خلاف ذلك، فكم من زلزلة مادت لها الأرض وكادت تقلب عاليها سافلها. وأما على تقريرنا فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد، كما أن قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لا يأبى وقوع الضلال والنسيان من إحداهما، لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلازل إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى.
(3) .
لعزة موحشا طلل قديم ... عفاه كل أسحم مستديم
لكثير. والطلل: ما شخص من آثار الدار، والصفة إذا تقدمت على موصوفها كانت حالا منه كما هنا، لأن مذهب الكوفيين والأخفش أن «طلل» فاعل الظرف قبله وأن يعتمد. و «موحشا» حال منه مقدمة عليه. ويجوز أنه مبتدأ. وموحشا حال من الضمير المستتر في الظرف. وأجاز سيبويه أنه حال من المبتدإ المؤخر. وعاملها الاستقرار المحذوف، ولا يمتنع عنده اختلاف عامل الحال وعامل صاحبها، خلافا للجمهور. والموحش: الموقع في الوحشة، ضد المؤنس: الموقع في الأنس. ويجوز أن معناه كثير الوحوش. وعفاه: أهلكه. والاسم: صفة السحاب، أى: كل أسود دائم الأمطار. ويروى هكذا
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل
وهي بالكسر:
جمع خلة، وهي بطانة مخططة تغشى بها جفان السيوف، وسيور تلبس ظهور القسي.
(3/114)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل «1» ، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة عَنْ آياتِها أى عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس «2» والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، وأىّ جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها، والاعتبار بها، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو عزت قدرته ولطف علمه. وقرئ عن آيتها، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس أى: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية، كالاستضاءة بقمريها، والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها، وهم عن كونها آية بينة على الخالق مُعْرِضُونَ.
[سورة الأنبياء (21) : آية 33]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
كُلٌّ التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أى: كلهم فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة. فإن قلت: الجملة ما محلها؟ قلت: محلها النصب على الحال من الشمس والقمر. فإن قلت: كيف استبدّ بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت: كما تقول: رأيت زيدا وهندا متبرجة ونحو ذلك، إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل. ومنه قوله تعالى في هذه السورة وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أو لا محل لها لاستئنافها. فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة، فكيف قيل:
جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم «كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا» أى كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أى: قضى الله
__________
(1) . قوله «ويتزلزل» لعله: أو يتزلزل. (ع)
(2) . قوله «والعبر بالشمس» لعله «كالشمس ... الخ» كعبارة النسفي. (ع)
(3/115)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل:
فقل للشّامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا «1»
أى نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار. وفِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 36]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك للرجل:
سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوّا فذمّ «2» . ومنه قوله تعالى سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلا فهم
__________
(1) .
وما أن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
لذي الأصبع العدواني. وقيل: لفروة بن مسبك المرادي. وقيل للفرزدق. والطب- بالكسر-: العادة والعاهة.
وأن زائدة، ويمكن أنها لتوكيد النفي، أى: ليست عادتنا أو علتنا الجبن، ولكن تلك المصيبات منايانا المقدرة لنا أو لكن علتنا منايانا. والدولة: النوبة من النصر، لأنه يتداول بين الجيشين. والشامت: المتشفى من غيظه بما أصاب عدوه. وشبههم بالسكارى على سبيل المكنية لعدم تيقظهم للعواقب، وأمرهم بالافاقة تخبيل، وبين ذلك بقوله: سيلقون من الهزيمة مثل ما لقينا، وتكون الدولة لنا عليهم فليفيقوا من سكرتهم.
(2) . قال محمود: «الذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد بقيد القرينة، فان كان الذاكر صديقا فهم منه الخير، وإن كان عدوا فهم منه الذم» قال أحمد: وكذلك القول. ومنه قول موسى عليه السلام:
أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ معناه أتعيبون الحق لما جاءكم، ثم ابتدأ فقال أَسِحْرٌ هذا وإنما لم يجعله معمولا للقول ومحكيا به، لأنهم قفوا القول بأنه سحر فقالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ولم يشككوا أنفسهم، ولا استفهموا، وقد مضى فيه غير هذا، وإنما أطلقوا في قولهم أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ولم يقولوا: هذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء، لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم، رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وحاشوها من نقل ذمها مفصلا، فأوموا إليه بالاشارة المذكورة، كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر، فيومى إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض. فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان، وأساؤا الأدب على الرحمن.
(3/116)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
أحق بأن يتخذوا هزؤا منك، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل معنى بِذِكْرِ الرَّحْمنِ قولهم:
ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقولهم وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ بما أنزل عليك من القرآن. والجملة في موضع الحال، أى: يتخذونك هزؤا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 38]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أو لا ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم. وروى أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام. وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه النضر بن الحرث. والظاهر أن المراد الجنس. وقيل «العجل» : الطين، بلغة حمير. وقال شاعرهم:
والنّخل ينبت بين الماء والعجل «1»
والله أعلم بصحته. فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وقرئ: خلق الإنسان.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 الى 40]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
__________
(1) .
النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
يقول: النبع وهو شجر تتخذ منه القسي، في الصخرة الصماء الصلبة لا في غيرها، منبته أى نباته، والنخل ينبت في الأرض اللينة الريانة، فهو بين الماء والعجل، أى: الطين. وهذه لغة حمير كما قيل. والظاهر أن الشطر الأول التمثيل للصعب البخيل. والثاني للسهل الجواد. ويجوز أن الأول للشجاع. والثاني للجبان لشدة الأول ورخاوة الثاني. [.....]
(3/117)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
جواب لَوْ محذوف. وحِينَ مفعول به ليعلم، أى: لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدّام، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروكا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين.
وحين: منصوب بمضمر، أى حين لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم، أى: لا يكفونها، بل تفجؤهم فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجة: مبهوت. ومنه: فبهت الذي كفر، أى: غلب إبراهيم عليه السلام الكافر. وقرأ الأعمش: يأتيهم. فيبهتهم، على التذكير. والضمير للوعد أو للحين. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت: إلى النار أو إلى الوعد، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة. أو إلى الحين، لأنه في معنى الساعة. أو إلى البغتة. وقيل في القراءة الأولى: الضمير للساعة. وقرأ الأعمش: بغتة، بفتح الغين وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله، وتفسيح وقت التذكر عليهم، أى: لا يمهلون بعد طول الإمهال.
[سورة الأنبياء (21) : آية 41]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 42]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
مِنَ الرَّحْمنِ أى من بأسه وعذابه بَلْ هُمْ معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه.
والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم
[سورة الأنبياء (21) : آية 43]
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
ثم أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» وقال أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من العذاب تتجاوز
(3/118)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
منعنا وحفظنا. ثم استأنف فبين أنّ ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد، كيف يمنع غيره وينصره؟
[سورة الأنبياء (21) : آية 44]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمد كاذب أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام. فإن قلت: أى فائدة في قوله نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 الى 46]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
قرئ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ ولا تسمع الصم، بالتاء والياء، أى: لا تسمع أنت الصم، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يسمع الصم، من أسمع. فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل إِذا ما يُنْذَرُونَ؟ قلت: اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين، كائنة للعهد لا للجنس. والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أى: هم على هذه الصفة من الجرأة والجسارة على التصامّ من آيات الإنذار وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء، لأذعنوا وذلوا، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا.
وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأنّ النفح في معنى القلة والنزارة. يقال: نفحته الدابة وهو رمح يسير «1» ، ونفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة.
__________
(1) . قوله «وهو رمح يسير» في الصحاح: رمجه الفرس والبغل والحمار: إذا ضربه برجله. (ع)
(3/119)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء (21) : آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
وصفت الْمَوازِينَ بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط. أو على حذف المضاف، أى: ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ مثلها في قولك: جئته لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
ترسّمت آيات لها فعرفتها ... لسنّة أعوام وذا العام سابع «1»
وقيل: لأهل يوم القيامة، أى لأجلهم. فإن قلت: ما المراد بوضع الموازين؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: إرصاد الحساب السوىّ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة، فمثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. والثاني: أنه يضع الموازين الحقيقية ويزن بها الأعمال. عن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان. ويروى: أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشى عليه، ثم أفاق فقال: يا إلهى من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود، إنى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة.
فإن قلت: كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: توزن صحائف الأعمال. والثاني: تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وقرئ مِثْقالَ حَبَّةٍ على «كان» التامة، كقوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ.
وقرأ ابن عباس ومجاهد: أَتَيْنا بِها وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء. وقرأ حميد: أثبنا بها، من الثواب. وفي حرف أبىّ: جئنا بها.
وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، أى: آتيناهما.
__________
(1) .
عفا قسم من فرتنا فالفوارع ... فجنبا أريك فالتلاع الدواقع
توسمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
للنابغة. وعفا: بلى وخلا. وفرتنا اسم محبوبته. وقسم، والفوارع، وأريك: أسماء مواضع. والتلاع: المواضع المرتفعة. والدواقع- بالقاف-: المقفرة كثيرة التراب. ودقع الرجل دقعا، كتعب، إذا التصق بالدقعاء وهي الأرض الكثيرة التراب من شدة فقره. وأما بالفاء فهي التي يدفع فيها السيل بكثرة. وتوسمت بالواو تتبعت سمانها وعلاماتها فعرفتها بها. ويروى بالراء، أى: تتبعت رسومها وآثارها فعرفتها، أى: تلك المواضع السابقة.
وقوله «لستة أعوام» أى مستقبلا تمام ستة أعوام مضت من عهدها، وهذا العام الحاضر الذي نحن فيه هو السابع.
ولو قال: لسبعة أعوام، لأفاد أن السبعة كلها مضت وليس مرادا. فقول بعضهم: إنه كان يكفيه أن يقول:
لسبعة أعوام، فعجز عن إتمامه، وكمله بما لا معنى له، لا وجه له إلا عدم التبصر.
(3/120)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
[سورة الأنبياء (21) : آية 48]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)
الْفُرْقانَ وهو التوراة وَأتينا به ضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى: أنه في نفسه ضياء وذكر. أو وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الفرقان: الفتح، كقوله يَوْمَ الْفُرْقانِ وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد ابن كعب: المخرج من الشبهات. وقرأ ابن عباس: ضياء، بغير واو: وهو حال عن الفرقان.
والذكر: الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم. أو الشرف.
[سورة الأنبياء (21) : آية 49]
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
محل الَّذِينَ جرّ على الوصفية. أو نصب على المدح. أو رفع عليه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 50]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ هو القرآن. وبركته: كثرة منافعه، وغزارة خيره.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 54]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)
الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح. قال الله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وقرئ: رشده. والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله.
وأنه رشد له شأن مِنْ قَبْلُ أى من قبل موسى وهرون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل إِذْ إما أن يتعلق بآتينا، أو برشده، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. قوله ما هذِهِ التَّماثِيلُ تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: عليها عاكفون، كقوله تعالى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؟ قلت: لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي «على» .
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن
(3/121)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم أَنْتُمْ من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه: اسكن أنت وزوجك الجنة، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لاستناد الفريقين إلى غير دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا.
[سورة الأنبياء (21) : آية 55]
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟
[سورة الأنبياء (21) : آية 56]
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
الضمير في فَطَرَهُنَّ للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 58]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قرأ معاذ بن جبل: بالله. وقرئ: تولوا، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ.
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: أن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه
(3/122)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
ولكن:
إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا «1»
روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد جُذاذاً قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: جذذا. جمع جذيذ، وجذذا جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ وعن الكلبي إِلَيْهِ إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها.
أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 59]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
أى أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 60 الى 61]
قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
__________
(1) .
وأعلم علما ليس بالظن أنه ... إذا الله سنى عقد شيء تيسرا
ذكر المصدر توكيدا دافعا للتجوز في الفعل، ثم بين المراد بقوله «ليس بالظن» ويجوز أنه ذكره توطئة لوصفه بأنه غير ظن. وسنيت الشيء: فككته وسهلته. والعقد: مستعار للصعوبة تصريحا، أى: إذا سهل الله صعوبة شيء وأزالها، سهل تحصيله أو دفعه إن كان محبوبا أو مكروها.
(3/123)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد سَمِعْنا فَتًى وأى فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأوّل وهو يَذْكُرُهُمْ لا بد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيدا وتسكت، حتى تذكر شيئا مما يسمع. وأمّا الثاني فليس كذلك. فإن قلت: إِبْراهِيمُ ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدإ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل يقال، لأن المراد الاسم لا المسمى عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محل الحال، بمعنى معاينا مشاهدا، أى: بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أى: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 الى 63]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّىّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة «1» فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّىّ أو المخرمش، لأنّ إثباته- والأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميقع: فعله كبيرهم، يعنى: فلعله، أى فلعلّ الفاعل كبيرهم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 64]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
__________
(1) . قوله «خرمشة فاسدة» الموجود في الصحاح: الخرش: مثل الخدش. والخراش: سمته. والمخرشة:
خشبة يخط بها الخراز. ولم يوجد فيه «خرمشة» بزيادة الميم. (ع)
(3/124)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.
[سورة الأنبياء (21) : آية 65]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
نكسته: قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ: نكسوا، بالتشديد.
ونكسوا، على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 67]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
أُفٍّ صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به.
أى: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
أجمعوا رأيهم- لما غلبوا- بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل
(3/125)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
عليه السلام يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالى علمه بحالي. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إنى مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» «1» ومن ثم قالوا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أى إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك. كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردى فيسلم منك إبراهيم.
أو ابردى بردا غير ضارّ. وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله عَلى إِبْراهِيمَ وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 71]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)
نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنىّ والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس «2» . وروى أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة
__________
(1) . وفي أبى داود: «إلا رب النار» .
(2) . قلت: جاء مرفوعا عن أبى بن كعب. أخرجه الطبري عن الحسين عن الفضيل بن موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى بن كعب في قوله «ونجيناه ولوطا- الآية» قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس وأخرجه ابن أبى حاتم عن على بن الحسين بن الجنيد عن أبى عمار أخرجه أيضا من رواية محمد بن سعد بن سابق عن أبى جعفر الرازي عن الربيع عن أبى العالية مقطوعا لم يذكر أبى بن كعب، بلفظ «هي الأرض المقدسة بارك الله فيها للعالمين» ولم يذكر الصخرة. وأخرجه عبد بن حميد عن أبى النضر عن أبى جعفر كذلك. وزاد «لأن كل ماء عذب في الأرض منها يخرج من أصل صخرة بيت المقدس، يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرق في الأرض» وأخرجه أبو سعيد النقاش في فوائده من وجه آخر عن الربيع عن أبى العالية. وأخرجه أبو سعيد عبد بن حميد عن أبى النضر نحوه بتمامه وأخرجه الخطيب أبو بكر محمد بن أحمد ابن محمد المقدسي المعروف بابن الواسطي في كتاب فضل بيت المقدس من طريق آدم ابن أبى إياس عن أبى جعفر الرازي، بلفظ في قوله تعالى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قال: من بركتها أن كل ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس. وأخرج الخطيب المذكور من طريق غالب بن عبد الله عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رفعه «الأنهار كلها والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» وغالب متروك.
(3/126)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
وبينهما مسيرة يوم وليلة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 72]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطى يعقوب نافلة، أى: زيادة وفضلا من غير سؤال.
[سورة الأنبياء (21) : آية 73]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأوّل ذلك أن يهتدى بنفسه، لأنّ الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل فِعْلَ الْخَيْراتِ أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
حُكْماً حكمة وهو ما يجب فعله. أو فصلا بين الخصوم. وقيل: هو النبوّة. والقرية:
سذوم، أى: في أهل رحمتنا. أو في الجنة. ومنه الحديث «هذه رحمتي أرحم بها من أشاء «1» »
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رفعه «تحاجت النار والجنة- الحديث» وفيه فقال للجنة أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي» ولمسلم من حديث أبى سعيد نحوه.
(3/127)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
مِنْ قَبْلُ من قبل هؤلاء المذكورين.
هو «نصر» الذي مطاوعه «انتصر» وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أى: اجعلهم منتصرين منه. والكرب: الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 80]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
أى: واذكرهما. وإذ: بدل منهما. والنفش: الانتشار بالليل. وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. وقرئ: لحكمهما. والضمير في فَفَهَّمْناها للحكومة أو الفتوى. وقرئ:
فأفهمناها. حكم داود بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة: غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمنّ، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادّان. فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان. وقيل:
اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب. فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت: أمّا وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجنى عليه، كما قال أبو حنيفة رضى الله عنه في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه. وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع
(3/128)
العبد، فإذا ظهر ترادّا، فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد والشافعي رضى الله عنه يوجب الضمان بالليل. وفي قوله فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ دليل على أنّ الأصوب كان مع سليمان عليه السلام. وفي قوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب يُسَبِّحْنَ حال بمعنى مسبحات. أو استئناف، كأن قائلا قال: كيف سخرهنّ؟
فقال: يسبحن وَالطَّيْرَ إمّا معطوف على الجبال، أو مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق. روى أنه كان يمرّ بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت. بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى «1» . وجواب آخر: وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله، فلما حملت على التسبيح وصفت به وَكُنَّا فاعِلِينَ أى قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.
اللبوس: اللباس. قال:
البس لكلّ حالة لبوسها «2»
والمراد الدرع. قال قتادة: كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين لِتُحْصِنَكُمْ قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس.
__________
(1) . قوله «كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى» هذا عند المعتزلة، بناء على أن كلام الله حادث فلا يقوم بذاته تعالى: أما عند أهل السنة فكلامه تعالى قديم قائم بذاته، ويسمعه موسى عليه السلام بكشف الحجاب عنه. (ع)
(2) .
البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
لبيهس الملقب بنعامة: قتل له سبعة إخوة، فجعل يلبس القميص مكان السراويل وعكسه. وإذا سئل عن ذلك قال:
هذا البيت، حتى إذا أخذت دماء السبعة. واللبوس- بالفتح-: اللباس. وقسمه في الابدال منه إلى النعيم والبؤس لعلاقة السببية. ويجوز أنه على حذف المضاف، أى: لبوس نعيمها أو لبوس بؤسها. ووسط إما للتنويع، ولكن القصة تدل على أن ذات اللباس لم تتغير، فيجوز أن اللبوس اسم مصدر وإن كان استعمال فعول بالفتح في المصدر قليلا. ويجوز أن يروى بالضم، فيكون بمعنى المصدر على الكثير، أى: البس لكل حالة ما يناسبها من اللبس.
إما اللبس المستقيم أو المنعكس. والمأمور باللبس ليس معنا. والبؤس بالهمز: الشدة، قلبت همزته هنا واوا لتناسب القافية. وبين لبوس وبوس: الجناس الناقص.
(3/129)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 81 الى 82]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
قرئ: الريح. والرياح، بالرفع والنصب فيهما، فالرفع على الابتداء، والنصب على العطف على الجبال. فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ «1» قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم: آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. وقيل كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفا، لهبوبها على حكم إرادته، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا.
أى: يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة، كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
أى: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: إنى، بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه والضر- بالفتح-: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أنّ عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت:
يا أمير المؤمنين، مشت جرذان «2» بيتي على العصىّ! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد وصفت هذه الريح بأنها رخاء وبأنها عاصف فما وجه ذلك؟ قلت: ما هي إلا جمعتهما وكانت في نفسها رخاء طيبة وفي سرعة حركتها كالعاصف» قال أحمد: وهذا كما ورد وصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان، والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين، فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا على هذا التقرير معجزتان والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . قوله «جرذان بيتي» في الصحاح «الجرذ» ضرب من الفأر. والجمع جرذان. (ع)
(3/130)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. كان أيوب عليه السلام روميا من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله: كان له سبعة بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم، وخمسمائة فدان «1» يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده- انهدم عليهم البيت فهلكوا- وبذهاب ماله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. وعن قتادة: ثلاث عشرة سنة. وعن مقاتل: سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات، وقالت له امرأته يوما:
لو دعوت الله، فقال لها: كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة، فقال: أنا أستحى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا. أى: لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود «2» على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[سورة الأنبياء (21) : آية 87]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
النُّونِ الحوت، فأضيف إليه. برم «3» بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت.
ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: مغضبا. قرئ: نقدر. ونقدّر، مخففا ومثقلا. ويقدر، بالياء بالتخفيف. ويقدر.
__________
(1) . قوله «وخمسمائة فدان» في الصحاح «الفدن» القصر. والفدان: آلته الثورين للحرث. (ع)
(2) . قوله «والمجدود» في الصحاح «الجد» الحظ والبخت. تقول: جددت يا فلان، أى: صرت ذا جد، فأنت جديد حظيظ، ومجدود محظوظ. (ع)
(3) . قوله «برم بقومه» سئمهم وتبرم بهم. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(3/131)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
ويقدّر، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا. وفسرت بالتضييق عليه، وبتقدير الله عليه عقوبة.
وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا والخطاب للمؤمنين فِي الظُّلُماتِ أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وقوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أو بمعنى «أى» . عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له «1» » وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 88]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
نُنْجِي وننجي. ونجى. والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء- فمتعسف بارد التعسف
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في السبعين من رواية إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده سعد بن أبى وقاص رفعه «دعوة ذى النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فانه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» قال الترمذي، رواه بعضهم عن إبراهيم عن جده، لم يقل عن أبيه اه وله منابع أخرجه الحاكم من رواية كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب عن مصعب بن سعد عن أبيه، بلفظ «ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحدكم كرب أو بلاء فدعا به إلا فرج عنه. قالوا: بلى يا رسول الله.
قال دعوة ذى النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وأخرجه الحاكم أيضا من رواية معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري عن أبى أمامة بن سهيل بن حنيف عن سعد.
(3/132)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
سأل ربه أن يرزقه ولدا يرثه ولا يدعه وحيدا بلا وارث، ثم ردّ أمره إلى الله مستسلما فقال وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أى إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالى، فإنك خير وارث. إصلاح زوجه: أن جعلها صالحة للولادة بعد عقرها. وقيل: تحسين خلقها وكانت سيئة الخلق.
الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون. وقرئ رَغَباً وَرَهَباً بالإسكان، وهو كقوله تعالى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ. خاشِعِينَ قال الحسن: ذللا لأمر الله. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين.
وسئل الأعمش فقال: أما إنى سألت إبراهيم فقال: ألا تدرى؟ قلت: أفدنى. قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه، فلير الله منه خيرا، لعلك ترى أنه أن يأكل خشنا ويلبس خشنا ويطأطئ رأسه.
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
أَحْصَنَتْ فَرْجَها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. قال الله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أى أحييته. وإذا ثبت ذلك كان قوله فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظاهر الإشكال، لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أى: أحييناه في جوفها «1» . ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان، أى: نفخت في المزمار في بيته. ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. فإن قلت: هلا قيل آيتين كما قال وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل.
[سورة الأنبياء (21) : آية 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه وحينئذ يكون معناه فأحيينا مريم ويشكل إذ ذاك. قلت: معناه فنفخنا الروح في عيسى في مريم أى أحييناه في جوفها انتهى كلامه» قال أحمد: وقد اختار الزمخشري في قوله عز وجل إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أن تكون الضمائر كلها راجعة إلى موسى. أما الأول فلا إشكال فيه، وأما التابوت إذا قذف في اليم وموسى فيه، فقد قذف موسى في اليم. وكذلك الثالث. واختار غيره عود الضميرين الأخيرين إلى التابوت، لأنه فهم من قوله فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أن المراد التابوت. وأما موسى فلم يقذف في اليم. والزمخشري نزل قذف التابوت في اليم وموسى فيه منزلة قذفه في اليم. وفي هذه الآية مصداق لما اختاره، فان الله تعالى نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم منزلة نفخ الروح في مريم، فعبر بما يفهم ظاهر هذا.
(3/133)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
الأمّة: الملة، وهذِهِ إشارة إلى ملة الإسلام، أى: إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها، يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة وَأَنَا إلهكم إله واحد فَاعْبُدُونِ ونصب الحسن أمّتكم على البدل من هذه، ورفع أمّة خبرا. وعنه رفعهما جميعا خبرين لهذه. أو نوى للثاني مبتدأ، والخطاب للناس كافة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 93]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
والأصل: وتقطعتم، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 94]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)
الكفران: مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: شكور.
وقد نفى نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أى نحن كاتبو ذلك السعى ومثبتوه في صحيفة عمله، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 96]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
استعير الحرام للممتنع وجوده. ومنه قوله عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أى منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم. وقرئ: حرم وحرم، بالفتح والكسر. وحرّم وحرّم.
ومعنى أَهْلَكْناها عزمنا على إهلاكها. أو قدرنا إهلاكها. ومعنى الرجوع: الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة. ومجاز الآية: أن قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ يعنى: أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب. وقرئ: إنهم، بالكسر. وحق هذا أن يتمّ الكلام قبله، فلا بدّ من تقدير محذوف، كأنه قيل: وحرام على قرية أهلكناها ذاك. وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعى المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك. والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أى: لأنهم لا يرجعون ولا صلة على
(3/134)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
الوجه الأوّل. فإن قلت: بم تعلقت حَتَّى واقعة غاية له، وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي حَتَّى التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكىّ: الجملة من الشرط والجزاء، أعنى: «إذا» وما في حيزها.
حذف المضاف إلى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وهو سدّهما، كما حذف المضاف إلى القرية وهو أهلها.
وقيل: فتحت كما قيل أَهْلَكْناها وقرئ: آجوج. وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال:
الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج وَهُمْ راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السدّ. الحدب: النشز «1» من الأرض. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: من كل جدث، وهو القبر، الثاء: حجازية، والفاء: تميمية. وقرئ يَنْسِلُونَ بضم السين. ونسل وعسل: أسرع.
[سورة الأنبياء (21) : آية 97]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
وفَإِذا هي إذا المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء، كقوله تعالى إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد. ولو قيل: إذا هي شاخصة.
أو فهي شاخصة، كان سديدا هِيَ ضمير مبهم «2» توضحه الأبصار وتفسره، كما فسر الذين ظلموا وأسروا يا وَيْلَنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا. ويقولون: في موضع الحال من الذين كفروا.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدّقه ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم
__________
(1) . قوله «النشز من الأرض» في الصحاح «النشز» المكان المرتفع. (ع)
(2) . قوله «هي ضمير مبهم ... الخ» لعله ضمير وَأَسَرُّوا أو لعله واو وَأَسَرُّوا. (ع)
(3/135)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوه. فقال ابن الزبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم. قال: قد خصمتك ورب الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك «1» . فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... الآية يعنى عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام. فإن قلت:
لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم. والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب، ولأنهم قدّروا، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قلت: إذا عنيت بما تعبدون الأصنام، فما معنى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ؟ قلت: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن «2» واحد، جاز أن يقال: لهم زفير، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس. والحصب: المحصوب به، أى: يحصب بهم في النار. والحصب: الرمي.
وقرئ بسكون الصاد، وصفا بالمصدر. وقرئ حطب، وحضب، بالضاد متحركا وساكنا.
وعن ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون. ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 101]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد. لم أجده هكذا إلا ملفقا فأما صدره ففي الطبراني الصغير في أواخره من حديث ابن عباس قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما قد شدت أقدامها برصاص- الحديث» وأما قوله «وكانت صناديد قريش فقصة أخرى ذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه قال «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في المسجد مع رجال من قريش فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه- فذكر نحو المذكور هنا إلى آخره وفيه «إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين» وروى ابن مردويه والواحدي من طريق أبى رزين عن أبى يحيى عن ابن عباس قال «لما نزلت إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية شق ذلك على قريش وقالوا: يشتم آلهتنا. فجاء ابن الزبعرى. وقال: يا محمد هذا شتم لآلهتنا خاصة، أم لكل من عبد من دون الله؟
قال: لكل من عبد من دون الله. قال. خصمتك ورب الكعبة- فذكر نحوه.
«تنبيهان» أحدهما: اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه القصة لابن الزبعرى «ما أجهلك بلغة قومك. فانى قلت: وما تعبدون. وهي لما لا يعقل. ولم أقل: ومن تعبدون اه.
وهو شيء لا أصل له. ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسند. الثاني قال السهيلي اعتراض ابن الزبعرى غير لازم، لأن الخطاب مخصوص بقريش وما يعبدون من الأصنام. ولذلك أتى بما الواقعة على ما لا يعقل اه. وحديث ابن عباس الذي تقدم ينقض عليه هذا التأويل. فانه صرح بأن المراد كل ما يعبد من دون الله
(2) . قوله «في قرن هو حبل يقرن به البعيران. أفاده الصحاح. (ع)
(3/136)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
الْحُسْنى الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إمّا السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة. يروى أنّ عليا رضى الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «1» والحسيس: الصوت يحس، والشهوة: طلب النفس اللذة. وقرئ لا يَحْزُنُهُمُ من أحزن. والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وعن الحسن: الانصراف إلى النار.
وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أى تستقبلهم الْمَلائِكَةُ مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ.
[سورة الأنبياء (21) : آية 104]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)
العامل في يَوْمَ نَطْوِي لا يحزنهم. أو الفزع. أو تتلقاهم. وقرئ: تطوى السماء، على البناء للمفعول السِّجِلِّ بوزن العتلّ «2» والسجل بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. وقيل السِّجِلِّ ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب- على هذا- اسم الصحيفة المكتوب فيها أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ والكاف مكفوفة بما. والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء، فإن قلت: وما أوّل الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم «3» . فإن قلت: ما بال خَلْقٍ
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم وابن عدى وابن مردويه والثعلبي من رواية ليث بن أبى سليم عن ابن عم النعمان بن بشير. وكان من سمار على قال: تلا على هذه الآية- فذكره
(2) . قوله «بوزن العتل» العتل: الغليظ الجافي. وقال تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والعتل أيضا: الرمح الغليظ.
ورجل عتل- بالكسر-: بين العتل، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أول الخلق إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم» قلت: هذا الذي ذكره هاهنا في المعاد قد عاد به إلى الحق ورجع عما قاله في سورة مريم، حيث فسر الاعادة بجمع المتفرق خاصة، إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ بالقدرة على الفعل، ولا يلزم على هذا من القدرة على الفعل حصوله، تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك، ولكن إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل بالقدرة: أن الله ذكر ماضيا والاعادة وقوعها مستقبل، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب، ومع ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها، كالماضية في التحقيق، فمن ثم عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه، والله أعلم.
(3/137)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
منكرا؟ قلت: هو كقولك: هو أوّل رجل جاءني، تريد أوّل الرجال، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى أَوَّلَ خَلْقٍ: أوّل الخلق، بمعنى: أوّل الخلائق، لأن الخلق مصدر لا يجمع. ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نُعِيدُهُ وما موصولة، أى: نعيد مثل الذي بدأناه نعيده. وأول خلق: ظرف لبدأناه، أى: أوّل ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى وَعْداً مصدر مؤكد، لأنّ قوله نُعِيدُهُ عدة للإعادة إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أى قادرين على أن نفعل ذلك.
[سورة الأنبياء (21) : آية 105]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
عن الشعبي رحمة الله عليه: زبور داود عليه السلام، والذكر: التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والذكر: أم الكتاب، يعنى اللوح، أى: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار، كقوله تعالى وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدّسة، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأنبياء (21) : آية 106]
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. والبلاغ:
الكفاية وما تبلغ به البغية.
[سورة الأنبياء (21) : آية 107]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
أرسل صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينا غديقة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين
(3/138)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه، حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال.
[سورة الأنبياء (21) : آية 108]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
إنما لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. وأَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية: وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أن الوحى الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن تكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى:
أن الذي يوحى إلى، فتكون «ما» موصولة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 109 الى 111]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
آذن: منقول من أذن إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقول ابن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء «1»
والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك عَلى سَواءٍ أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن
__________
(1) .
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
للحارث بن حلزة مطلع معلقته. وأذن الشيء: علمه بحاسة الأذن، وتوسع فيه حتى صار بمعنى مطلق العلم. وآذنه- بالمد-: أعلمه. والبين: مصدر بمعنى البعد والفراق. وتقدم أن «أسماء» من الوسامة أى الحسن. والثاوي: المقيم.
والملل: السآمة. والثواء: الاقامة. يقول: أعلمتتا لفراقها. ورب سقيم يسأم الناس من إقامته، وهي ليست كذلك. وحذف هذا للعلم به من المقام.
(3/139)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
أحد منهم وكاشف كلهم، وقشر العصا عن لحائها «1» . وما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولا بد من أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدرى متى يكون ذلك لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، وما تَكْتُمُونَ في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه.
وما أدرى لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم إِلى حِينٍ ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 112]
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
قرئ قل وقالَ، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورَبِّ احْكُمْ على الاكتفاء بالكسرة. ورب احكم، على الضم. وربى أحكم، على أفعل التفضيل. وربى أحكم:
من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى بِالْحَقِّ لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم، كما قال «اشدد وطأتك على مضر» «2» قرئ تَصِفُونَ بالتاء والياء.
كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وخذلهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ اقترب للناس حسابهم حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبىّ ذكر اسمه في القرآن» «3» .
__________
(1) . قوله «لحائها» في الصحاح: اللحاء- ممدود- فشر الشجر. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة القنوت في صلاة الصبح.
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب
(3/140)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
سورة الحج
مكية، غيرست آيات، وهي: هذان خصمان ... إلى قوله ... إلى صراط الحميد وهي ثمان وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحج (22) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
الزلزلة: شدّة التحريك والإزعاج، وأن يضاعف زليل الأشياء «1» عن مقارّها ومراكزها ولا تخلو السَّاعَةِ من أن تكون على تقدير الفاعلة لها، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله. أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وهي الزلزلة المذكورة في قوله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها. أمر بنى آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوّروها بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى، الذي لا يؤمنهم من تلك الأفزاع إلا أن يتردوا به. وروى أنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر «2»
__________
(1) . قوله «وأن يضاعف زليل الأشياء» أى يكرر انحراف الأشياء وتزحزحها عن مواضعها. وفي الصحاح:
تقول زللت يا فلان- بالفتح- تزل زليلا: إذا زل في طين أو منطق. (ع) [.....]
(2) . هكذا ذكره الثعلبي والبغوي. قالا: روى عن عمران بن حصين وأبى سعيد الخدري وغيرهما أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق إلى آخره» قلت: وهو ملفق من حديثيه المذكورين. وثالثهما ابن عباس فيما رواه ابن إسحاق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بنى المصطلق إذ نزل عليه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ- إلى- شَدِيدٌ
فوقف على ناقته، ورفع صوته- الحديث، ورواه الترمذي والنسائي والحاكم من طريق الحسن عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أسفاره وقد تقارب من أصحابه السير ورفع بهاتين صوته يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ- إلى قوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطىّ وعرفوا أنه عنده قول يقوله، فلما التفوا حوله قال: أتدرون أى يوم ذلك؟ يوم ينادى آدم- الحديث. وفيه: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: اعلموا وأبشروا- الحديث» وأما آخره فلم أره.
(3/141)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج (22) : آية 2]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
يَوْمَ تَرَوْنَها
منصوب بتذهل. والضمير للزلزلة. وقرئ: تذهل كل مرضعة، على البناء للمفعول: وتذهل كل مرضعة أى: تذهلها الزلزلة. والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. فإن قلت: لم قيل مُرْضِعَةٍ
دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به «1» فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة عَمَّا أَرْضَعَتْ
عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وعن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. قرئ وَتَرَى
بالضم من أريتك قائما. أو رؤيتك قائما»
. والنَّاسَ
منصوب ومرفوع، والنصب ظاهر. ومن رفع جعل الناس اسم ترى، وأنثه على تأويل الجماعة. وقرئ: سكرى.
وبسكرى، وهو نظير: جوعى وعطشى، في جوعان وعطشان. وسكارى وبسكارى، نحو كسالى وعجالى. وعن الأعمش: سكرى، وبسكرى، بالضم، وهو غريب. والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق «3» ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب
__________
(1) . قال محمود: «يقال مرضع على النسب ومرضعة على أصل اسم الفاعل» قال أحمد: والفرق بينهما أن وروده على النسب لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها، ولكن مقتضاه أنه موصوف بها، وعلى غير النسب يلاحظ حدوث الفعل وخروج الصفة عليه، وكذلك هو في الآية لقوله عَمَّا أَرْضَعَتْ فأخرج الصفة على الفعل، وألحقه التاء.
(2) . قوله «أو رؤيتك قائما» لعله: أو رؤيت قائما. (ع)
(3) . قال محمود: «وقوله وترى الناس سكارى وما هم بسكارى: أثبت لهم أولا السكر المجازى، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي» قال أحمد: والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء. والسر في تأكيده: التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، والاستدراك بقوله وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ راجع إلى قوله وَما هُمْ بِسُكارى
وكأنه تعليل لاثبات السكر المجازى، كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى، ونقل عن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه أنه قال: هو الوقت الذي يقول كل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيه «نفسي نفسي» .
(3/142)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. فإن قلت: لم قيل أوّلا: ترون، ثم قيل: ترى، على الإفراد؟ قلت: لأنّ الرؤية أوّلا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا. وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم ولا يعضّ فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل وَيَتَّبِعُ في ذلك خطوات كُلَّ شَيْطانٍ عات، علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له لم تثمر له ولايته إلا الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء «1» والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا، بل هم أشدّ الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق، حيث دوّنوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا، وكأنهم ساطوه بلحومهم «2» ودمائهم، وإياهم عنى من قال:
ويا ربّ مقفوّ الخطا بين قومه ... طريق نجاة عندهم مستو نهج
ولو قرءوا في الّلوح ما خطّ فيه من ... بيان اعوجاج في طريقته عجّوا «3»
اللهم ثبتنا على المعتقد الصحيح الذي رضيته لملائكتك في سمواتك، وأنبيائك في أرضك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والكتبة عليه مثل، أى: كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله. وقرئ: أنه، فأنه بالفتح والكسر، فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب، والثاني
__________
(1) . قوله «رؤساء أهل الأهواء» إن كان مراده أهل السنة كما هو عادته في الكتابة من التشنيع عليهم، فينبغي مطالبته بالفرق بينهم وبين المعتزلة، حتى استحقوا التشنيع دونهم. (ع)
(2) . قوله «وكأنهم ساطوه بلحومهم» أى خلطوه. (ع)
(3) . يا: للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف. والمقفو: المتبوع. والخطا: جمع خطوة، مستعارة للأفعال يجامع التبعية في كل، وكذلك الطريق مستعار للقفو من حيث اتباعه فيها ودوامه عليها. مستو: مستقيم. والنهج والمنهج والمنهاج: الطريق الواضح. والاعوجاج مستعار للبس وللكذب. وعجوا: ضجوا وصاحوا.
(3/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
عطف عليه. ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو، كأنما «1» كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتبت: إنّ الله هو الغنى الحميد. أو على تقدير: قيل. أو على أن كتب فيه معنى القول.
[سورة الحج (22) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قرأ الحسن مِنَ الْبَعْثِ بالتحريك. ونظيره: الجلب والطرد، في الجلب والطرد، كأنه قيل: إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. والعلقة: قطعة الدم الجامدة.
والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. والمخلقة: المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال:
خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، وإذا كانت ملساة، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم.
وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا ولا تناسب بين الماء والتراب وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاما: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس. وورود الفعل غير معدى إلى المبين: إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف وقرأ ابن أبى عبلة: ليبين لكم. ويقرّ، بالياء. وقرئ: ونقرّ. ونخرجكم، بالنون والنصب. ويقرّ، ويخرجكم، ويقرّ، ويخرجكم: بالنصب والرفع. وعن يعقوب: نقرّ، بالنون وضم القاف، من قرّ الماء إذا صبه، فالقراءة بالرفع إخبار بأنه يقرّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن يقرّه من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو سنتين، أو أربع، أو كما شاء وقدّر.
وما لم يشأ إقراره محته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب: تعليل معطوف على تعليل.
__________
(1) . قوله «هو كأنما» لعله: أى كأنما. (ع)
(3/144)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
ومعناه: خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين، أحدهما: أن نبين قدرتنا. والثاني: أن نقر في الأرحام من نقرّ، حتى يولدوا وينشؤا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وحده لأن الغرض الدلالة على الجنس. ويحتمل: نخرج كل واحد منكم طفلا. الأشد: كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدّة «1» والقتود والأباطيل وغير ذلك، وكأنها شدّة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع. وقرئ: ومنكم من يتوفى، أى يتوفاه الله أَرْذَلِ الْعُمُرِ الهرم والخرف، حتى يعود كهيئته الأولى في أوان طفولته: ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. بين أنه كما قدر على أن يرقيه في درجات الزيادة حتى يبلغه حد التمام، فهو قادر على أن يحطه حتى ينتهى به إلى الحالة السفلى لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أى: ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك: من هذا؟ فتقول:
فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وقرأ أبو عمرو: العمر، بسكون الميم. الهامدة: الميتة اليابسة. وهذه دلالة ثانية على البعث، ولظهورها وكونها مشاهدة معاينة، كررها الله في كتابه اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ تحرّكت بالنبات وانتفخت، وقرئ: ربأت، أى ارتفعت. البهيج:
الحسن السارّ للناظر إليه.
[سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 7]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
أى: ذلك الذي ذكرنا من خلق بنى آدم وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم واللطائف، حاصل بهذا وهو السبب في حصوله، ولولاه لم يتصور كونه، وهو بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أى الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد.
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
__________
(1) . قوله «من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدة والقتود والأباطيل» الذي في الصحاح «السدّ» بالفتح: واحد الأسدة وهي العيوب اه وهي مثل العمى والصمم والبكم على غير قياس، وكان قياسه: سدود.
والقتد: خشب الرحل، وجمعه: قتود وأقتاد. والباطل: ضد الحق، والجمع أباطيل على غير قياس كأنهم جمعوا إبطيلا. وفيه أيضا قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أى قوته وهو واحد جاء على بناء الجمع، مثل «آنك» وهو الأسربّ، ولا نظير لهما، ويقال له: جمع لا واحد له من لفظه، مثل: أبابيل، وعباديد، ومذاكير. (ع)
(3/145)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
عن ابن عباس أنه أبو جهل بن هشام. وقيل: كرر كما كررت سائر الأقاصيص. وقيل:
الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين. والمراد بالعلم: العلم الضروري. وبالهدى: الاستدلال والنظر، لأنه يهدى إلى المعرفة. وبالكتاب المنير: الوحى، أى يجادل بظن وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة. وثنى العطف: عبارة عن الكبر والخيلاء، كتصعير الخدّ ولىّ الجيد. وقيل: عن الإعراض عن الذكر. وعن الحسن: ثانى عطفه، بفتح العين، أى: مانع تعطفه لِيُضِلَّ تعليل للمجادلة. قرئ بضم الياء وفتحها. فإن قلت: ما كان غرضه من جداله الضلال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فكيف علل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلت: لما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. وخزيه:
ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل، والسبب فيما منى به من خزى الدنيا وعذاب الآخرة: هو ما قدمت يداه، وعدل الله في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين.
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
عَلى حَرْفٍ على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر وغنيمه قرّ واطمأن، وإلا فرّ وطار على وجهه. قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا، وولدت امرأته غلاما سويا، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في دينى هذا إلا خيرا، واطمأن. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا، وانقلب. وعن أبى سعيد الخدري أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلنى، فقال «إنّ الإسلام لا يقال» «1» فنزلت. المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله:
__________
(1) . هكذا ذكره الواحدي في الأسباب، لكن بغير إسناد. فقال: روى عطية عن أبى سعيد، فذكره سواه وأخرجه ابن مردويه من رواية عطية عن أبى سعيد قال «أسلم رجل من اليهود فذهب ماله وولده، وتشاءم بالإسلام- الحديث نحوه» وإسناده ضعيف وأخرج العقيلي من رواية عنبسة بن سعيد عن أبى الزبير عن جابر قال:
«أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهودى فأسلم على يديه، ثم رجع إلى منزله فأصيب في عينه وفي ولده فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أقلنى- الحديث» ولم يذكر فيه نزول الآية. وعنبسة ضعيف جدا.
(3/146)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
جامع على نفسه محنتين، إحداهما: ذهاب ما أصيب به. والثانية: ذهاب ثواب الصابرين، فهو خسران الدارين. وقرئ: خاسر الدنيا والآخرة بالنصب والرفع، فالنصب على الحال، والرفع على الفاعلية. ووضع الظاهر موضع الضمير، وهو وجه حسن. أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. استعير الضَّلالُ الْبَعِيدُ من ضلال من أبعد في التيه ضالا، فطالت وبعدت مسافة ضلالته. فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض.
قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أو كرّر يدعو، كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. وفي حرف عبد الله: من ضره، بغير لام. المولى: الناصر. والعشير: الصاحب، كقوله فَبِئْسَ الْقَرِينُ.
[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 15]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى. إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمى الاختناق قطعا لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
ومنه قيل للبهر: القطع «1» . وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على
__________
(1) . قوله «ومنه قيل للبهر القطع» أى تتابع النفس. أفاده الصحاح. (ع)
(3/147)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
غيره. أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه. وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء المظلة. وليصعد عليه فليقطع الوحى أو ينزل عليه. وقيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره. فنزلت. وقد فسر النصر: بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظنّ أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يردّه مرزوقا.
[سورة الحج (22) : آية 16]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
أى: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَل أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي به الذين يعلم أنهم يؤمنون. أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، أنزله كذلك مبينا
[سورة الحج (22) : آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم. وقيل يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضى بينهم، أى بين المؤمنين والكافرين. وأدخلت إِنَّ على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التوكيد.
ونحوه قول جرير:
إنّ الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم «1»
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
__________
(1) . لجرير. وقوله «إن الله سربله» خير إن الأولى، وكررها لتوكيد التوكيد. وسربله: كساه بالملك الشبيه بالسربال. ويروى: سربال ملك به، أى: بذلك اللباس أو الملك، تزجى: أى تساق الخواتيم: جمع خاتم- بالفتح والكسر- والأصل: خواتم، فزيدت الياء. والمراد بها: عواقب الأمور الحميدة. وقال أبو حيان: يحتمل أن خبر إن قوله «به تزجى» وجملة «إن الله سربله» اعتراضية. ويروى: «به ترجى» بالراء، وليحرر.
(3/148)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الذي كل خضوع دونه، فإن قلت: فما تصنع بقوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وبما فيه من الاعتراضين، أحدهما:
أنّ السجود على المعنى الذي فسرته به، لا يسجده بعض الناس دون بعض. والثاني: أنّ السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة؟ قلت: لا أنظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله يَسْجُدُ أى ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة.
ولم أقل: أفسر يسجد الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو مثاب، لأنّ خبر مقابله يدل عليه، وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ويجوز أن يجعل مِنَ النَّاسِ خبرا له، أى: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف كثير على كثير، ثم يخبر عنهم بحقّ عليهم العذاب، كأنه قيل: وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وقرئ: حق، بالضم. وقرئ: حقا، أى حقّ عليهم العذاب حقا. ومن أهانه الله- بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه- فقد بقي مهانا «1» ، لن تجد له مكرما. وقرئ: مكرم، بفتح الراء بمعنى الإكرام.
إنه يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 22]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)
الخصم: صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان وقوله هذانِ للفظ. واخْتَصَمُوا للمعنى، كقوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا
__________
(1) . قوله «من كفره أو فسقه فقد بقي مهانا» مبنى على أن الفاسق واسطة بين المؤمن والكافر، وأنه يخلد في النار كالكافر، وهو مذهب المعتزلة. والحق عند أهل السنة أنه مؤمن، وإن دخل النار مخرج منها بالشفاعة أو بمجرد فضله تعالى. (ع)
(3/149)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
ولو قيل: هؤلاء خصمان. أو اختصما: جاز. يراد المؤمنون والكافرون. قال ابن عباس:
رجع إلى أهل الأديان الستة فِي رَبِّهِمْ أى في دينه وصفاته. وروى أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا هو فصل الخصومة المعنىّ بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وفي رواية عن الكسائي: خصمان، بالكسر، وقرئ:
قطعت بالتخفيف، كأنّ الله تعالى يقدّر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كل واحد منهم تلك النيران كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. ونحوه سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ. الْحَمِيمُ الماء الحار. عن ابن عباس رضى الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها يُصْهَرُ يذاب. وعن الحسن بتشديد الهاء للمبالغة، أى: إذا صبّ الحميم على رؤسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر، فيذيب أحشاءهم وأمعاءهم كما يذيب جلودهم، وهو أبلغ من قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ والمقامع: السياط. في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها «1» » ، وقرأ الأعمش: ردوا فيها. والإعادة والرد لا يكون إلا بعد الخروج، فالمعنى:
كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج: ما يروى عن الحسن أنّ النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا وَقيل لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ والحريق: الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك.
[سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
يُحَلَّوْنَ عن ابن عباس: من حليت المرأة فهي حال «2» وَلُؤْلُؤاً بالنصب على:
__________
(1) . وهو عند أحمد وأبى يعلى من رواية ابن لهيعة عن دراج. لفظه في قوله وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ:
لو وضع مقمع منها في الأرض ... الحديث. [.....]
(2) . قوله «من حليت المرأة فهي حال» الذي في الصحاح: حليت المرأة، أى: صارت ذات حلى، فهي حلية وحالية. (ع)
(3/150)
ويؤتون لؤلؤا، كقوله: وحورا عينا. ولؤلوا بقلب الهمزة الثانية واوا. ولوليا، بقلبهما واوين، ثم بقلب الثانية ياء كأدل. ولول كأدل فيمن جرّ. ولولؤ. وليليا، بقلبهما ياءين، عن ابن عباس: وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهداهم إلى طريق الجنة. يقال: فلان يحسن إلى الفقراء وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته. ومنه قوله تعالى وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى الصدود منهم مستمرّ دائم لِلنَّاسِ أى الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانئ «1» وطارئ ومكي وآفاقى. وقد استشهد به أصحاب أبى حنيفة قائلين: إنّ المراد بالمسجد الحرام: مكة، على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها.
وعند الشافعي: لا يمتنع ذلك. وقد حاور إسحاق بن راهويه فاحتجّ بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وقال أنسب الديار إلى مالكيها، أو غير مالكيها؟ واشترى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه دار السجن من مالكيه أو غير مالكيه؟ سَواءً بالنصب: قراءة حفص. والباقون على الرفع. ووجه النصب أنه ثانى مفعولي جعلناه، أى: جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وفي القراءة بالرفع. الجملة مفعول ثان. الإلحاد: العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. وقوله بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفتان. ومفعول يُرِدْ متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ يعنى أنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقيل: الإلحاد في الحرم:
منع الناس عن عمارته وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة «لا والله، وبلى والله» وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان، أحدهما: في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، «2» فقيل له، فقال، كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا والله، وبلى والله. وقرئ: يرد، بفتح الياء من الورود. ومعناه:
من أتى فيه بإلحاد ظالما. وعن الحسن: ومن يرد إلحاده بظلم، أراد: إلحادا فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف، كمكر الليل. ومعناه: من يرد أن يلحد فيه ظالما. وخبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك. عن ابن مسعود: الهمة في الحرم تكتب ذنبا.
__________
(1) . قوله «وتانئ» في الصحاح: تنأت بالبلد تنوءا: قطنته. والناتئ من ذلك. (ع)
(2) . أخرجه الطبري والأزرقى في تاريخ مكة من رواية شعبة عن منصور عن مجاهد قال «كان لعبد الله بن عمرو ابن العاص ... فذكره» .
«تنبيه» ما في نسخ الكشاف «ابن عمر» تصحيف، وإنما هو «ابن عمرو» .
(3/151)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
[سورة الحج (22) : آية 26]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
واذكر حين جعلنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مباءة، أى: مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة.
رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج: كنست ما حوله، فبناه على أسه القديم. وأن هي المفسرة. فإن قلت: كيف يكون النهى عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم قلنا له: لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأصنام والأوثان «1» والأقذار أن تطرح حوله. وقرئ: يشرك، بالياء على الغيبة.
[سورة الحج (22) : آية 27]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ ناد فيهم. وقرأ ابن محيصن: وآذن. والنداء بالحج: أن يقول: حجوا، أو عليكم بالحج. وروى أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت «2» ربكم. وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع «3» رِجالًا مشاة جمع راجل، كقائم وقيام. وقرئ: رجالا، بضم الراء مخفف الجيم ومثقله، ورجالي كعجالى عن ابن عباس وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ حال معطوفة على حال، كأنه قال: رجالا وركبانا يَأْتِينَ صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع. وقرئ: يأتون، صفة للرجال والركبان.
والعميق: البعيد، وقرأ ابن مسعود: معيق. يقال: بئر بعيدة العمق والمعق «4» .
[سورة الحج (22) : آية 28]
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبى حنيفة رحمه الله: أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حجّ فضل
__________
(1) . قوله «والأوثان» في الصحاح «الوثن» : الصنم. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الحسن فذكره. وسنده إليه في أول الكتاب.
(3) . أخرجه الطبري عن ابن عباس، بلفظ «قام عند الحجر» وفي رواية «عند مقامه. وقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابوه لبيك اللهم لبيك»
(4) . قوله «بعيدة العمق والمعق» في الصحاح «المعق» : قلب العمق، والامعاق: مثل الاعماق، وهو ما بعد من أطراف المفاوز. (ع)
(3/152)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
الحج على العبادات كلها، لما شاهد من تلك الخصائص. وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله، لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا: أن جمع بين قوله لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وقوله: عَلى ما رَزَقَهُمْ ولو قيل: لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام، لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة. الأيام المعلومات: أيام العشر عند أبى حنيفة، وهو قول الحسن وقتادة. وعند صاحبيه: أيام النحر. البهيمة: مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام: وهي الإبل والبقر والضأن والمعز. الأمر بالأكل منها أمر إباحة، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم ومن استعمال التواضع. ومن ثمة استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وعن ابن مسعود أنه بعث بهدى وقال فيه: إذا نحرته فكل وتصدّق وابعث منه إلى عتبة، يعنى ابنه «1» . وفي الحديث «2» : «كلوا وادخروا وائتجروا» «3» الْبائِسَ الذي أصابه بؤس أى شدة: والْفَقِيرَ الذي أضعفه الإعسار.
[سورة الحج (22) : آية 29]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قضاء التفث: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، والتفث: الوسخ، فالمراد قضاء إزالة التفث. وقرئ: وليوفوا، بتشديد الفاء نُذُورَهُمْ مواجب حجهم، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم وَلْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، ويقع به تمام التحلل. وقيل: طواف الصدر، وهو طواف الوداع الْعَتِيقِ القديم، لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وعن قتادة: أعتق من الجبابرة، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله. وعن مجاهد: لم يملك قط. وعنه: أعتق من الغرق. وقيل:
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية حبيب بن أبى ثابت عن إبراهيم عن علقمة- أن عبد الله بعث معه بهدى. فقال:
كل أنت وأصحابك ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أخى عتبة بثلث «تنبيه» وقع في نسخ الكشاف يعنى ابنه وهو تحريف وإنما هو أخوه.
(2) . أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وإسحاق من رواية خالد الحذاء عن أبى المليح عن عتبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا كنا نهيناكم عن لحوم الأضاحى ألا تأكلوها فوق ثلاث لكي يسعكم.
وقد جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا وائتجروا: لفظ أبى داود. وليس عند مسلم والنسائي وابن ماجة «وائتجروا» والنسائي في رواية «وتصدقوا» وله شاهد عن أبى سعيد الخدري عن أحمد «فائدة» قال في النهاية: ائتجروا أى تصدقوا طالبين للأجر. وليس هو اتجر بالإدغام من التجارة وأجاز الهروي الإدغام واستدل عليه بقوله «من يتجر مع هذا فيصلى معه» ولا دلالة فيه لأنه يحتمل أن يكون من التجارة.
(3) . قوله «وائتجروا» الظاهر أن المراد: اطلبوا الأجر بالصدقة. (ع)
(3/153)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
بيت كريم، من قولهم: عتاق الخيل والطير. فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع. قلت:
ما قصد التسلط على البيت، وإنما تحصن به ابن الزبير، فاحتال لإخراجه ثم بناه. ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
ذلِكَ خبر مبتدإ محذوف، أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدّم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا. والحرمة: ما لا يحل هتكه. وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أى فالتعظيم خير له. ومعنى التعظيم: العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها. المتلوّ لا يستثنى من الأنعام، ولكن المعنى إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ آية تحريمه، وذلك قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ والمعنى: أنّ الله قد أحل لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده، وإياكم أن تحرموا مما أحل شيئا، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك، وأن تحلوا مما حرم الله، كاحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
لما حث على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها «1» أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله ونفى الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطوا. وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد، وذلك أنّ الشرك من باب الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعنى: أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب مِنَ الْأَوْثانِ
__________
(1) . قوله «وأحمد من يعظمها» في الصحاح «أحمدته» : وجدته محمودا موافقا مرضيا. (ع)
(3/154)
بيان للرجس وتمييز له، كقولك: عندي عشرون من الدراهم، لأنّ الرجس مبهم يتناول غير شيء، كأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والزور من الزور والازورار وهو الانحراف، كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه. وقيل قَوْلَ الزُّورِ قولهم: هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل: شهادة الزور. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1» وتلا هذه الاية.
وقيل: الكذب والبهتان. وقيل: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعا «2» في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح «3» البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادى الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة «4» .
__________
(1) . أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من رواية سفيان بن زياد العصفري عن أبيه عن حبيب ابن النعمان عن حريم بن فاتك. وأخرجه الترمذي من رواية العصفري عن فاتك بن فضالة عن أنس بن حريم كذا قال.
(2) . قوله «مزعا» مفرده «مزعة» بالضم. أى: قطعة لحم كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «والمطاوح» أى المقاذف. وطاح يطوح ويطيح: هلك وسقط. وطوحته الطوائح: قذفته القواذف، كذا في الصحاح أيضا. (ع) [.....]
(4) . قال محمود: «ويجوز في هذا التشبيه أن يكون مركبا ومفرقا، فان كان مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء والذي ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادى الضلالة بالريح تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة» قال أحمد: أما على تقدير أن يكون مفرقا، فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوى من السماء إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الاشراك المراد ردته، فانه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده. وإما أن يكون الاشراك أصليا، فيكون قد عد تمكن المشرك من الايمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولكن كانوا متمكنين منه. وقد مضى تقرير هذا المعنى بأبسط من هذا. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوى مع الريح في مكان سحيق: نظر، لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار. والثاني مثلا لنزغ الشيطان: فقد جعلهما شيئا واحدا، لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك، فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادى على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمباشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج لضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه. ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الأخباء عن السماء: وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً أى صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق، فهذا تحقيق القسمين، والله أعلم.
(3/155)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
وقرئ: فتخطفه. بكسر الخاء والطاء. وبكسر التاء مع كسرهما، وهي قراءة الحسن. وأصلها:
تختطفه. وقرئ: الرياح.
[سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
تعظيم الشعائر- وهي الهدايا، لأنها من معالم الحج-: أن يختارها عظام الأجرام حسانا سماتا غالية الأتمان، ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يغالون في ثلاث- ويكرهون المكاس فيهنّ-: الهدى، والأضحية، والرقبة. وروى ابن عمر عن أبيه رضى الله عنهما أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا.
فنهاه عن ذلك وقال: «بل أهدها «1» » وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فيها جمل لأبى جهل في أنفه برّة من ذهب «2» . وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطى «3» فيتصدّق بلحومها وبجلالها «4» ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أى فإن تعظيمها من أفعال ذوى تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء
__________
(1) . تقدم الكلام عليه في أثناء سورة البقرة.
(2) . أخرجه إسحاق والبزار من حديث على. وفي الباب عن جابر قال كان جميع ما جاء به مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من فضة أخرجه الحاكم والطبراني من رواية زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه قال البخاري هذا خطأ من زيد. وإنما هو عن الثوري عن أبى إسحاق عن مجاهد مرسلا. وقد جاء عن مجاهد عن ابن عباس قال «أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هداياه جملا كان لأبى جهل في رأسه برة من ذهب ليغيظ به المشركين» أخرجه أبو داود والحاكم وأبو يعلى والطبراني.
(3) . قوله «مجللة بالقباطى» في الصحاح: القبط أهل مصر. والقبطية: ثياب بيض رقاق من كنان تتخذ بمصر والجمع قباطي. (ع)
(4) . أخرجه مالك في الموطأ عن نافع عنه بهذا وأتم منه. ورواه ابن أبى شيبة من طريق فليح عن نافع نحوه.
(3/156)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
إلى مَنْ ليرتبط به، وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت، ظهر أثرها في سائر الأعضاء. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
وثُمَّ للتراخي في الوقت، فاستعيرت للتراخي في الأحوال. والمعنى: أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يعتدّ الله بالمنافع الدينية، قال سبحانه تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع: مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ أى وجوب نحرها. أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهية إلى البيت، كقوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت. ومثل هذا في الاتساع قولك: بلغنا البلد، وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد بالشعائر: المناسك كلها، ومَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يأباه.
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له: أى يذبحوا لوجهه على وجه التقرّب، وجعل العلة في ذلك أيذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك: وقرئ مَنْسَكاً بفتح السين وكسرها، وهو مصدر بمعنى النسك، والمكسور يكون بمعنى الموضع فَلَهُ أَسْلِمُوا أى أخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالما، أى: خالصا لا تشوبوه بإشراك.
المخبتون: المتواضعون الخاشعون، من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الحسن وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بالنصب على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود: والمقيمين الصلاة، على الأصل.
[سورة الحج (22) : آية 36]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
الْبُدْنَ جمع بدنة، سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3/157)
ألحق البقر بالإبل حين قال: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» «1» ، فجعل البقر في حكم الإبل، صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبى حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل وعليه تدل الآية، وقرأ الحسن: والبدن، بضمتين، كثمر في جمع ثمرة. وابن أبى إسحاق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف. وقرئ بالنصب والرفع كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ.
مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أى من أعلام الشريعة التي شرعها الله. وإضافتها إلى اسمه: تعظيم لها لَكُمْ فِيها خَيْرٌ كقوله لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير، فاشترى بها بدنة، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت ربى يقول لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وعن ابن عباس: دنيا وآخرة. وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. وذكر اسم الله: أن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ. وقرئ: صوافن، من صفون الفرس، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه، لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. وقرئ: صوافي، أى:
خوالص لوجه الله. وعن عمرو بن عبيد: صوافنا، بالتنوين عوضا من حرف الإطلاق عند الوقف. وعن بعضهم: صواف «2» نحو مثل العرب. أعط القوس باريها، بسكون الياء.
وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجبة إذا سقط. ووجبت الشمس جبة: غربت. والمعنى: فإذا وجبت جنوبها وسكنت نسائسها «3» حل لكم الأكل منها والإطعام الْقانِعَ السائل، من قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا وَالْمُعْتَرَّ المعترض بغير سؤال، أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال، من قنعت قنعا وقناعة.
والمعتر: المعترض بسؤال. وقرأ الحسن: والمعترى. وعرّه وعراه واعتراه واعتره: بمعنى.
وقرأ أبو رجاء: القنع، وهو الراضي لا غير. يقال: قنع فهو قنع وقانع.
منّ الله على عباده واستحمد إليهم بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا، يأخذونها منقادة للأخذ طيعة فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون في لبانها. ولولا تسخير الله لم
__________
(1) . لم أره مرفوعا من لفظه. نعم أخرجه أبو داود بلفظ «الجزور عن سبعة» وأخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية مالك عن أبى الزبير عن جابر قال «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وفي الباب عن ابن مسعود عند الطبراني.
(2) . قوله «صواف» لعله: صوافي، بالسكون. (ع)
(3) . قوله «وسكنت نسائسها» في الصحاح «النسيسة، والنسيس» الإيكال بين الناس. والنسائس: النمائم.
والنسيس: بقية الروح. وفيه أيضا «الإيكال بين الناس» السعى بينهم. (ع)
(3/158)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
تطق، ولم نكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوّة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة.
[سورة الحج (22) : آية 37]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
أى: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضى المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حل ما قرب به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم. وقرئ:
لن تنال الله. ولكن تناله: بالتاء والياء. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت.
كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعدى تعديته.
[سورة الحج (22) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
خص المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وقال إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وقال وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها «1» . ومن قرأ يُدافِعُ فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه، لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.
[سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 41]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
__________
(1) . قوله «ويغمطونها» أى: يحقرونها. (ع)
(3/159)
أُذِنَ ويُقاتَلُونَ قرئا على لفظ المبنى للفاعل والمفعول جميعا: والمعنى: أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أى بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم:
اصبروا فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين «1» آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والأخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضا أَنْ يَقُولُوا في محل الجرّ على الإبدال من حَقٍّ أى بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ.
دفع الله بعض الناس ببعض: إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: دفاع. ولهدمت: بالتخفيف. وسميت الكنيسة «صلاة» لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانية: صلوثا مَنْ يَنْصُرُهُ أى ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من الله عز وجل بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضى الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضى الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء. يريد: أنّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا.
وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين، لأنّ الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة
__________
(1) . لم أجده هكذا. وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين. قلت: هو منتزع من أحاديث: أقربها ما أخرجه ابن أبى حاتم من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وذلك أن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم بمكة. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الله عليه أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وذكر الطبري أن الصحابة رضى الله عنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذا رأوهم وسطوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة وسرا:
فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ فلما هاجروهم أحلوهم مالهم وقتالهم فقال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ- الآية.
(3/160)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل الَّذِينَ منصوب بدل من قوله من ينصره. والظاهر أنه مجرور، تابع للذين أخرجوا وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 44]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدى في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة. فإن قلت: لم قيل وَكُذِّبَ مُوسى ولم يقل: وقوم موسى؟ قلت: لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته «1» وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
النكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا.
[سورة الحج (22) : آية 45]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» والخاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل وقوله عَلى عُرُوشِها لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أى خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم قيل وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى بدون تكرير التكذيب؟ قلت: لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل ولم يكذبوه، وإنما كذبه القبط. أو لأن آيات موسى كانت باهرة ظاهرة فكأنه قال:
وكذب موسى أيضا على ظهور آياته» قال أحمد: ويحتمل عندي- والله أعلم- أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام، حسن تكريره ليلى قوله فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ فيتصل المسبب بالسبب، كما قال في آية ق بعد تعديدهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب، بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.
(3/161)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
أى قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب أعنى وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ؟ قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على أهلكناها، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن: معطلة، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أى: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أنّ عَلى عُرُوشِها بمعنى «مع» أوجه. روى أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها «حاضوراء» بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم.
[سورة الحج (22) : آية 46]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ بالياء، أى: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى فَإِنَّها الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود: فإنه. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الْأَبْصارُ وفي تعمى ضمير راجع إليه. والمعنى: أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الصدور؟
قلت: الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك «الذي بين فكيك» تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة
(3/162)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
ولا سهوا منى، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 48]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف، والله عز وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين، وهو سبحانه حليم لا يعجل، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوما واحدا عنده كألف سنة «1» عندكم. وقيل: معناه كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم، لأنّ أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنى العذاب. وقيل: ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ: تعدون، بالتاء والياء، ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إلىّ وإلى حكمى. فإن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلا عن قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعنى قوله وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ.
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
يقال: سعيت في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه: سابقه، لأنّ كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها، حيث سموها: سحرا وشعرا وأساطير، ومن تثبيط الناس
__________
(1) . قال محمود: «فيه إيذان بحلم الله تعالى ووقاره واستقصاره الأمد الطويل حتى إن يوما واحدا عنده كألف سنة» قال أحمد: الوقار المقرون بالحلم يفهم لغة: السكون وطمأنينة الأعضاء عند المزعجات والأناة والتؤدة، ونحو ذلك مما لا يطلق على الله تعالى إلا بتوقيف. وأما الوقار في قوله تعالى ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فقد فسر بالعظمة فليس من هذا، وعلى الجملة فهو موقوف على ثبت في النقل.
(3/163)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. فإن قلت: كأن القياس أن يقال: إنما أنا لكم بشير ونذير، لذكر الفريقين بعده. قلت: الحديث مسوق إلى المشركين. ويا أيها الناس: نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.
[سورة الحج (22) : آية 52]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» «1» . والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبىّ غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. والسبب في نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم» وهو في نادى قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى
: أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ التي تمناها، أى: وسوس إليه بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال:
تلك الغرانيق «2» العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجى. وروى: الغرانقة، ولم يفطن له حتى أدركته
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق من رواية معاذ بن رفاعة عن على بن زيد عن القاسم عن أبى أمامة «أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم الأنبياء؟ فقال: مثله. وعلى ضعيف. ورواه ابن حبان من طريق إبراهيم بن هشام الغساني حدثنا أبى عن حذيفة. يعنى يحيى الغساني عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر- فذكره في حديث طويل جدا.
وأفرط ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام المذكور. ولم يصب في ذلك: فإنها طريقا أخرجها الحاكم وغيره من رواية يحيى بن سعيد السعيدي عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبى ذر بطوله. ويحيى السعيدي ضعيف. ولكن لا يأتى الحكم بالوضع مع هذه المتابعة.
(2) . أخرجه البزار والطبري والطبراني وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد ابن جبير قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فجرى على لسانه: تلك الغرانيق العلا، الشفاعة منها ترتجى، قال: فسمع بذلك مشركو مكة، فسروا بذلك. فاشتبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى- الآية» زاد في رواية ابن مردويه: فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون» ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه ابن مردويه من طريق أبى عاصم النبيل عن عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. ولم يشك في وصله، وهذا أصح طرف هذا الحديث. قال البزار: تفرد بوصله أمية بن خالد عن شعبة، وغيره يرويه عنه مرسلا. وأخرجه الطبري وابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وهو من طريق العوفى عن جده عطية عنه، وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي، ومن طريق قتادة، ومن طريق أبى العالية. فهذه مراسيل يقوى بعضها بعضا. وأصل القصة في الصحيح بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة- فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» قال البزار:
المعروف في هذا رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجها ابن مردويه من طريقه. وأخرجه الواقدي من طريق أخرى. قلت: وفي مجموع ذلك رد على عياض حيث قال: إن من ذكر من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب إلا رواية البزار. وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى ما ذكره وفيه ما فيه مع وقوع الشك. قلت: أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلا. فان الجميع ثقات وأما الشك فيه فقد يجيء تأثيره ولو فردا غريبا لكن غايته أنه يصير مرسلا، إنما هو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، أما هو حجة إذا اعتضد عند من يرد المرسل إنما يعتضد بكثرة المتابعات. تبع ثقة رجالها. وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الضعيفة الواهية في الرواية القوية. فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة أى يعتمد على الرواية المتابعة وليس فيها ولا فيما تابعها اضطراب والاضطراب في غيرها. فيكفى لأنه ضعيف برواية الكلبي، ويكفى ما عداها، وأما طعنه فيه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين. [.....]
(3/164)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
العصمة فتنبه عليه. وقيل: نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء، زاد المنافقون به شكا وظلمة، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى: أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك، إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل تَمَنَّى: قرأ. وأنشد:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ... تمنّى داود الزّبور على رسل «1»
وأمنيته: قراءته. وقيل: تلك الغرانيق: إشارة إلى الملائكة، أى: هم الشفعاء لا الأصنام فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أى يذهب به ويبطله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أى يثبتها.
[سورة الحج (22) : الآيات 53 الى 54]
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 157 فراجعه إن شئت اه مصححه،
(3/165)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ المنافقون والشاكون وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المشركون المكذبون وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يريد: وإن هؤلاء المنافقين والمشركين. وأصله: وإنهم، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أى ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء: هو الحق من ربك والحكمة وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزلّ أقدامهم. وقرئ: لهاد الذين آمنوا، بالتنوين.
[سورة الحج (22) : آية 55]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
الضمير في مِرْيَةٍ مِنْهُ للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. اليوم العقيم: يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل:
هو الذي لا خير فيه. يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن الضحاك أنه يوم القيامة، وأن المراد بالساعة مقدّماته. ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم: يوم القيامة، وكأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها، فوضع يَوْمٍ عَقِيمٍ موضع الضمير.
[سورة الحج (22) : الآيات 56 الى 57]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
فإن قلت: التنوين في يَوْمَئِذٍ عن أى جملة ينوب؟ قلت: تقديره: الملك يوم يؤمنون.
أو يوم تزول مريتهم، لقوله وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ.
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 59]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
(3/166)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل تفضلا منه وإحسانا. والله عليهم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حَلِيمٌ عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم قالوا: يا نبى الله، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
[سورة الحج (22) : آية 60]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة. فإن قلت: كيف طابق ذكر العفوّ الغفور هذا الموضع؟ قلت: المعاقب مبعوث من جهة الله عزّ وجلّ على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني- على طريق التنزيه لا التحريم- ومندوب إليه، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب، ولم ينظر في قوله تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ: فإنّ الله لعفو غفور، أى: لا يلومه على ترك ما بعثه عليه، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوّح به بذكر هاتين الصفتين. أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه.
[سورة الحج (22) : آية 61]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
ذلِكَ أى ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سَمِيعٌ لما يقولون بَصِيرٌ بما يفعلون. فإن قلت: ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت: تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بغيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء السرب «1»
__________
(1) . قوله «كما يضيء السرب» السرب- بالفتح-: الطريق. والسرب- بالتحريك-: بيت في الأرض.
أفاده الصحاح. (ع)
(3/167)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
بالسراج ويظلم بفقده. وقيل: هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.
[سورة الحج (22) : آية 62]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
وقرئ يَدْعُونَ بالتاء والياء. وقرأ اليماني. وأن ما يدعون، بلفظ المبنى للمفعول، والواو راجعة إلى «ما» لأنه في معنى الآلهة، أى: ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.
[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 64]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
قرئ مُخْضَرَّةً أى ذات خضر، على مفعلة، كمقبلة ومسبعة. فإن قلت: هلا قيل:
فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت، لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأنّ معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر: إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله لَطِيفٌ واصل علمه أو فضله إلى كل شيء خَبِيرٌ بمصالح الخلق ومنافعهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 66]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
ما فِي الْأَرْضِ من البهائم مذللة للركوب في البر، ومن المراكب جارية في البحر، وغير
(3/168)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
ذلك من سائر المسخرات. وقرئ وَالْفُلْكَ بالرفع على الابتداء أَنْ تَقَعَ كراهة أن تقع إِلَّا بمشيئته أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا ترابا، ونطفة، وعلقة، ومضغة لَكَفُورٌ لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم.
[سورة الحج (22) : آية 67]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)
هو نهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة. روى أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله! يعنون الميتة. وقال الزجاج: هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، كما تقول: لا يضار بنك فلان، أى:
لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين فِي الْأَمْرِ في أمر الدين. وقيل:
في أمر النسائك، وقرئ: فلا ينزعنك، أى اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد: زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه.
ومنه قوله وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب. وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه، أى: غلبته، أى: لا يغلبنك في المنازعة. فإن قلت: لم جاءت نظيرة هذه الآية «1» معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ قلت: لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.
[سورة الحج (22) : آية 68]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)
أى: وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين.
[سورة الحج (22) : الآيات 69 الى 70]
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
__________
(1) . قوله «نظيرة هذه الآية» هي قوله تعالى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ الخ. (ع)
(3/169)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، أى: يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وكيف يخفى عليه ما يعملون، ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه.
والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه يَسِيرٌ لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم «1» .
[سورة الحج (22) : آية 71]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وَيَعْبُدُونَ ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلى وَما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم.
[سورة الحج (22) : آية 72]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
الْمُنْكَرَ الفظيع من التجهم والبسور «2» . أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ يعرف. والمنكر. والسطو: الوثب والبطش. قرئ النَّارُ بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأنّ قائلا قال: ما هو؟ فقيل: النار، أى: هو النار. وبالنصب على الاختصاص.
وبالجرّ على البدل من بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم وَعَدَهَا اللَّهُ استئناف كلام. ويحتمل أن تكون النَّارُ مبتدأ ووَعَدَهَا خبرا، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار «قد» .
__________
(1) . قال محمود: «معناه أن الله عالم بالذات لا يتعذر عليه تعلق بمعلوم» قال أحمد: وقد تقدم مثله وأنكرنا عليه تحميله القرآن ما لا يحتمله، فان الأعلم في اللغة: ذو العلم الزائد المفضل على علم غيره، فكيف يفسر بما ينفى صفة العلم البتة؟ هب أن الأدلة العقلية لا وجود لها، والله الموفق للصواب.
(2) . قوله «التجهم والبسور» كل منهما: كلوح الوجه. أفاده الصحاح. (ع)
(3/170)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
[سورة الحج (22) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. قرئ تَدْعُونَ بالتاء والياء، ويدعون: مبنيا للمفعول لَنْ أخت «لا» في نفى المستقبل، إلا أن «لن» تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هاهنا الدلالة «1» على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنه قال: محال أن يخلقوا. فإن قلت: ما محل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قال: مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه «2» حيث وصفوا بالإلهية- التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها- صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. وقوله ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، لأن الذباب حيوان، وهو جماد، وهو غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
[سورة الحج (22) : آية 74]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أى ما عرفوه حق معرفته، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها، ولا يؤهلوه للعبادة، ولا يتخذوه شريكا له: إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به؟
[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
__________
(1) . قوله «الدلالة» لعله «للدلالة» كعبارة النسفي، (ع)
(2) . قوله «إن الشيطان قد خزمهم بخزائمه» في الصحاح، خزمت البعير بالخزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه، يشد فيها الزمام. (ع)
(3/171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
هذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين:
ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات، عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات، لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله.
[سورة الحج (22) : آية 77]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك، فمن ثمة دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو، ثم عمّ بالحث على سائر الخيرات. وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل: معنى وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله. وعن ابن عباس في قوله وَافْعَلُوا الْخَيْرَ صلة الأرحام ومكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أى افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم، وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: «نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما «1» » وعن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما فضلت سورة الحج بسجدتين. وبذلك احتج الشافعي رضى الله عنه، فرأى سجدتين في سورة الحج. وأبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة، لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.
[سورة الحج (22) : آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
__________
(1) . لم أره بصيغة المواجهة. وإنما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني والطبراني والحاكم. كلهم من رواية ابن لهيعة عن فرج بن ماهان عن عقبة بلفظ «ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» قال الترمذي: إسناده ليس بالقوى.
(3/172)
وَجاهِدُوا أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر «1» » فِي اللَّهِ أى في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجدّ عالم، أى: عالم حقا وجدا.
ومنه حَقَّ جِهادِهِ. فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حق الجهاد فيه. أو حق جهادكم فيه، كما قال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله، صحت إضافته إليه. ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا «2»
اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه ولنصرته وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فتح باب التوبة للمجرمين، وفسح بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. ونحوه قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدمة.
نصب الملة بمضمون ما تقدّمها. كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أو على الاختصاص، أى: أعنى بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد. فإن قلت: لم يكن إِبْراهِيمَ أبا للأمّة كلها. قلت: هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته، لأنّ أمة الرسول في حكم أولاده هُوَ يرجع إلى الله تعالى: وقيل:
إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأوّل قراءة أبىّ بن كعب: الله سماكم مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا أى من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن، أى: فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أنه قد بلغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بأنّ الرسل قد بلغتهم. وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي «3» » .
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر، قال «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة. فقال: قدمتم بخير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» قال: فيه ضعف، قلت: هو من رواية عيسى بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث ابن أبى سليم، والثلاثة ضعفاء، وأورده النسائي في الكنى من قول إبراهيم بن أبى عبلة، أحد التابعين من أهل الشام.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب بالإسناد المذكور في سورة آل عمران.
(3/173)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
سورة المؤمنون
مكية، وهي مائة وتسع عشرة آية. وثماني عشرة عند الكوفيين [نزلت بعد سورة الأنبياء] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)
قَدْ نقيضة «لما» هي تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والفلاح:
الظفر بالمراد. وقيل: البقاء في الخير. وأَفْلَحَ دخل في الفلاح، كأبشر: دخل في البشارة.
ويقال: أفلحه: أصاره إلى الفلاح. وعليه قراءة طلحة بن مصرف: أفلح، على البناء للمفعول.
وعنه: أفلحوا، على: أكلونى البراغيث. أو على الإبهام والتفسير. وعنه: أفلح، بضمة بغير واو، اجتزاء بها عنها، كقوله:
فلو أنّ الاطبّا كان حولي «1»
فإن قلت: ما المؤمن؟ قلت: هو في اللغة المصدق. وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين، أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن. والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البرّ التقىّ دون الفاسق الشقىّ «2»
__________
(1) .
فلو أن الأطباء كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة
الأصل: كانوا حولي، فقصره وقصر «الأطباء» لضرورة الوزن وهم علماء الطب. والأساة: جمع آس، كالسعاة:
جمع ساع، وهم المباشرون للعلاج من الأطباء، من الأسى كالفتى، بمعنى المداواة. والاساء- بالكسر-: الدواء، ولعله أصل الرواية، كما روى الشفاء، فحقه حرف الألف.
(2) . قال محمود: «اختلف في الايمان على قولين، أحدهما: أن كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فقد اتصف بالايمان. والآخر: أنه صفة مدح لا يستحقها الا البر التقى دون الفاسق الشقي» قال أحمد: والأول مذهب الأشعرية، والثاني مذهب المعتزلة. والموحد الفاسق عندهم لا مؤمن ولا كافر. ولو لم يبن المعتزلة على هذا المعتقد تحريم الجنة على الموحد الفاسق بناء على أنه لا يندرج في وعد المؤمنين، لكان البحث معهم لفظيا، ولكن رتبوا على ذلك أمرا عظيما من أصول الدين وقواعده. وقد نقل القاضي عنهم في رسالة الايمان خبطا طويلا، فنقل عن قدمائهم كعمرو بن عبيد وطبقته أن الايمان هو التصديق بالقلب وجميع فرائض الدين فعلا وتركا. ونقل عن أبى الهذيل العلاف أن الايمان هو جميع فرائض الدين ونوافله. ومختصر دليل القاضي لأهل السنة أن الايمان لغة هو مجرد التصديق اتفاقا، فوجب أن يكون كذلك شرعا، عملا بقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ مع سلامته عن معارضة النقل، فانه لو كان لنبيه عليه الصلاة والسلام ولو بينه لنقل لأنه مما يبتنى عليه قاعدة الوعد والوعيد، ولم ينقل، لأن النقل إما آحاد أو تواتر إلى آخر مادته.
(3/174)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
الخشوع في الصلاة: خشية القلب وإلباد البصر- عن قتادة: وهو إلزامه موضع السجود.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده «1» ، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يحدّث نفسه بشأن من شأن الدنيا. وقيل: هو جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها. ومن الخشوع: أن يستعمل الآداب، فيتوقى كفّ الثوب، والعبث بجسده وثيابه، والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض، وتغطية الفم، والسدل، والفرقعة، والتشبيك، والاختصار، وتقليب الحصا. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال «لو خشع قلبه خشعت جوارحه «2» » ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصا وهو يقول: اللهمّ زوجني الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث. فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأنّ الصلاة دائرة بين المصلى والمصلى له، فالمصلى هو المنتفع بها وحده وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته: وأمّا المصلى له، فغنىّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
[سورة المؤمنون (23) : آية 3]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه وإطراحه، يعنى أنّ بهم من الجدّ ما يشغلهم عن الهزل.
لما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.
__________
(1) . أخرجه الحاكم من رواية ابن سيرين عن أبى هريرة، لكن قال «فطأطأ رأسه وقال صحيح، إلا أنه روى مرسلا اه والمرسل أخرجه أبو داود والطبري عن ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: فيه نظر هكذا، وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق ابن علية، عن أيوب. عن ابن سيرين موصولا. [.....]
(2) . أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والأربعين بعد المائة من حديث أبى هريرة وفيه سليمان ابن عمرو وهو أبو داود والنخعي أحد من اتهم بوضع الحديث وفي شرح البخاري لزين الدين ابن المنير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» .
(3/175)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
[سورة المؤمنون (23) : آية 4]
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين: القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير والمعنى: فعل المزكى الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب:
فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل: وللمزكى: فاعل التزكية. وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق «1» . ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشد لأمية ابن أبى الصلت:
المطعمون الطّعام في السّنة الأزمة والفاعلون للزّكوات «2» ويجوز أن يراد بالزكاة: العين، ويقدّر مضاف محذوف وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصحّ، لأنها فيه مجموعة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 7]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)
عَلى أَزْواجِهِمْ في موضع الحال، أى الأوّالين على أزواجهم. أو قوّامين عليهنّ، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلّف عليها فلان. ونظيره: كان زياد على البصرة، أى:
واليا عليها. ومنه قولهم: فلانة تحت فلان. ومن ثمة سميت المرأة فراشا. والمعنى: أنهم لفروجهم
__________
(1) . قال محمود: «الزكاة تطلق ويراد بها العين المخرجة، وتطلق ويراد بها فعل المزكى الذي هو التزكية ويتعين هاهنا أن يكون المراد التزكية لقوله فاعِلُونَ إذ العين المخرجة لم يفعلها المزكى، ثم ضبط المصدر على الإطلاق بأنه الذي يصدق عليه أنه فعل الفاعل فعلى هذا تكون العين المخرجة مصدرا بالنسبة إلى الله تعالى، وكذلك السماوات والأرض وكل مخلوق من جوهر وعرض، قال: فجميع الحوادث إذا قيل من فاعلها؟ فيقال: الله أو بعض الخلق» قال أحمد: ويقول السنى: فاعل جميعها هو الله وحده لا شريك له، ولكن إذا سئل بصيغة مشتقة من الفعل على طريقة اسم الفاعل، مثل أن يقال له: من القائم؟ من القاعد؟ أجاب بمن خلق الله الفعل على يديه، وجعله محلا له، كزيد وعمرو.
(2) . لأمية بن أبى الصلت. والأزم: الجدب. والأزمة: الشديدة المجدبة. والزكوات: جمع زكاة، تطلق على القدر المخرج من المال وعلى الإخراج، فالمعنى على الأول: المؤدون للزكوات. وعلى الثاني: الفاعلون لذلك الإخراج، والأول أوجه، لأن المصدر لا يجمع إلا بتأويل الأنواع أو المرات.
(3/176)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
حافظون في كافة الأحوال، إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم، أو تعلق عَلى بمحذوف يدل عليه غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أى: يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه. أو تجعله صلة لحافظين، من قولك: احفظ علىّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي، كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك. فإن قلت هلا قيل: من ملكت؟ قلت: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده، ثم قال: فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحدّ مع فسحته واتساعه، وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في العدوان المتناهون فيه. فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت: لا، لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح.
[سورة المؤمنون (23) : آية 8]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8)
وقرئ: لأمانتهم. سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا. ومنه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وقال وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وإنما تؤدّى العيون لا المعاني، ويخان المؤتمن عليه، لا الأمانة في نفسها. والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعى الرعية. ويقال: من راعى هذا الشيء؟ أى متوليه وصاحبه: ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم.
[سورة المؤمنون (23) : آية 9]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
وقرئ عَلى صَلَواتِهِمْ. فإن قلت: كيف كرّر ذكر الصلاة أوّلا وآخرا؟ قلت: هما ذكران مختلفان فليس بتكرير. وصفوا أوّلا بالخشوع في صلاتهم، وآخرا بالمحافظة عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها، ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها. وأيضا فقد وحدت أوّلا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أىّ صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها: وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجد وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 الى 11]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
أى أُولئِكَ الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن يسموا ورّاثا
(3/177)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روى أنّ الله عز وجلّ بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الأذفر. وفي رواية: ولبنة من مسك مذرّى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)
السلالة: الخلاصة، لأنها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين من ومن؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله مِنَ الْأَوْثانِ. فإن قلت: ما معنى: جَعَلْناهُ الإنسان نطفة؟ قلت:
معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة. القرار: المستقرّ، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ: عظما فكسونا العظم. وعظاما فكسونا العظام وعظما فكسونا العظام. وعظاما فكسونا العظم: وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة خَلْقاً آخَرَ أى خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره- بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه- عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح: وقد احتجّ به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ، لأنه خلق آخر سوى البيضة فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى أمره في قدرته وعلمه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أى: أحسن المقدّرين تقديرا، فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه. ونحوه: طرح المأذون فيه في قوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ لدلالة الصلة.
وروى عن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله خلقا آخر، قال:
فتبارك الله أحسن الخالقين «1» . وروى أنّ عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبي صلى الله
__________
(1) . وفي الباب عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربى في أربع فذكر الحديث- وفيه: فنزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، إلى قوله خَلْقاً آخَرَ. فقلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. فنزلت»
(3/178)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
عليه وسلم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت» فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبىّ يوحى إلىّ، فلحق بمكة كافرا، ثم أسلم يوم الفتح «1» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 الى 16]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قرأ ابن أبى عبلة وابن محيصن: لمائتون. والفرق بين الميت والمائت: أنّ الميت كالحي صفة ثابتة. وأمّا المائت، فيدل على الحدوث. تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدا، كقولك يموت. ونحوهما:
ضيق وضائق، في قوله تعالى وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت: فإذا لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت: ليس في ذكر الحياتين نفى الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أن الثلث ليس عندك. وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوى ذكرها من جنس الإعادة.
[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
الطرائق: السموات، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة: أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم: وقيل: الأفلاك، لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها: أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناها فوقهم وَما كُنَّا عنها غافِلِينَ وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا: أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلا عنهم وما يصلحهم.
[سورة المؤمنون (23) : آية 18]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18)
بِقَدَرٍ بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ كقوله فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ وقيل:
جعلناه ثابتا في الأرض. وقيل: إنها خمسة أنهار: سيحون نهر الهند. وجيحون: نهر بلخ.
ودجلة والفرات: نهرا العراق. والنيل: نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة،
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي عن ابن عباس رضى الله عنهما وعزاه الواحدي إلى الكلبي. عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3/179)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله عَلى ذَهابٍ بِهِ من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 19 الى 20]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون وَشَجَرَةً عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة طُورِ سَيْناءَ وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه، كإمرئ القيس، وكبعلبك، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء.
ومن فتح فلم يصرف، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: سينا على القصر بِالدُّهْنِ في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: تنبت. وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتّي إذا أنبت البقل «1»
__________
(1) .
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام الناس في الجحرة الأكل
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن سئلوا يعطوا وإن يسروا يغلوا
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
لزهير بن أبى سلمي يمدح سنان بن أبى حارثة، والشهباء: الفرس يخالط سوادها بياض، شبه بها السنة المجدبة لكثرة بياض أرضها وخلوها عن سواد النبات والأمطار. أو لاختلاط نور الغنى فيها بظلمة الفقر. أجحفت بالناس:
أى ذهبت بهم ومحقت عنهم آثار الغنى، والاسناد مجاز عقلى. والجحرة- بتقديم الجيم المفتوحة-: السنة المجدبة وروى: في الحجرة. وأصلها بالتحريك، فسكونها لغة أو ضرورة وهي شدة الشقاء. ويجوز أن تقرأ بالضم بمعنى البيت، أى: ونال الأكل كرام الناس. ووصلهم داخل بيوتهم لبخلهم تلك السنة. ويروى: كرام المال. والمعنى أن كرائم الأموال نالها التأكل والتنقص في تلك السنة لجديها. ورأيت: جواب إذا. وذوى الحاجات: كناية عن الفقراء. حول بيوتهم: أى سنان وقومه. قطينا: أى مقيمين، فهو يطلق على الواحد والمتعدد. وقيل أنه جمع. ويروى قطينا لهم: أى مساكنين لهم عند البيوت، وذلك كناية عن كرمهم، حتى إذا أنبت البقل: أى نبت النبات الرطب وظهر الخصب، فهنالك: أى في ذلك الزمان إن يسألهم أحد أن يخولوه مالا كثيرا يخولوه: أى يولوه عليه. وإن سئلوا مالا قليلا يعطوا السائل. ويروى: إن يستخبلوا المال يخبلوا، بالموحدة، يستعر: أى منهم أحد إبلهم للانتفاع بألبانها وأوبارها زمن الجدب ثم يردها: أعاروه، وإن سألهم الإعطاء من غير رد أعطوه فلا يردون سائلا. وإن يسروا: أى لعبوا الميسر، يغلوا: أى يجعلوا الخطر غاليا كثيرا لعدم خوفهم على الفقراء لأن المال كثير بخلاف زمن الجدب. ويجوز أن يقرأ: وإن يسروا أى أعطوا بلا سؤال، يفلوا بالفاء. أى يتفقدوا الفقراء ويعطوهم، يقال: يسر كوعد: لعب الميسر، ويسر كترب وتعب: لأن ورق ورفق. وروى:
يسألوا وييسروا بالمضارع. والمقامات: المجامع من الناس. وروى: وجوهها. وعلى كل فالضمير للمقامات.
والأندية- جمع الندى- بمعنى الكرم، على غير قياس، ينتابها: أى يحرى عليها نوبة بعد نوبة قولهم وفعلهم.
أو يتداولها قول الناس وفعلهم. ويحتمل أنها جمع ناد بمعنى متحدث القوم. أو ندى على فعيل كذلك، ينتابها:
أى يجيئها نوبة بعد نوبة القول والفعل، أى: الصالحات.
(3/180)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
والثاني: أنّ مفعوله محذوف، أى: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: تنبت، بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تنبت. وقرأ ابن مسعود: تخرج الدهن وصبغ الآكلين. وغيره:
تخرج بالدهن: وفي حرف أبىّ: تثمر بالدهن. وعن بعضهم: تنبت بالدهان. وقرأ الأعمش:
وصبغا وقرئ وصباغ. ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قرئ: تسقيكم، بتاء مفتوحة، أى: تسقيكم الأنعام وَمِنْها تَأْكُلُونَ أى تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من الخيل والبغال والحمير. وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك- التي هي السفائن- لأنها سفائن البرّ. قال ذو الرمة:
(3/181)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
سفينة برّ تحت خدّى زمامها «1»
يريد صيدحه «2»
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
غَيْرُهُ بالرفع على المحل، وبالجرّ على اللفظ، والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للأمر بالعبادة أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق
__________
(1) .
ألا خيلت مى وقد نام صحبتي ... فما نفر التهويم إلا سلامها
طروقا وجلب الرحل مشدودة به ... سفينة بر تحت خدي زمامها
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليلا بها الأصوات إلا بغامها
لذي الرمة، يقول: خيلت مى، أى: بعثت خيالها وأرتنى إياه، وسلمت على في منامي. والحال أنه قد نام أصحابى، والصحبة كالعصبة والرفقة، ونسب النوم إليهم دونه، لأن نومه تهويم أى فتور وغفلة أول النوم فقط. والتهويم أيضا: تمايل الرأس من النعاس، أو لأنه يتذكرها فكأنه لم ينم. ويروى: ذو الكرى بدل صحبتي، فما نفر التهويم وطرده عنى إلا سلامها على. ويروى:
ألا طرقتنا مية بنت منذر ... فما أرّق النيام إلا سلامها
وأرق: أسهر، والنيام: جمع نائم، وقياسه نوام، فقلب ياء شذوذا، والطروق: الإتيان ليلا، وهو نصب على المصدر من خيلت، لتلاقيهما معنى. وقيل: الطروق- بالفتح-: الناقة التي بلغت أن يطرقها الفحل، وهو مفعول خيلت. والأوجه أنه حال من فاعله هذا، ولعله على التشبيه. وجلب الرحل- بالضم، وبالكسر-:
عيدانه، أى: والحال أن عيدان الرحل مشدودة بها ناقة عظيمة كالسفينة. فاستعارها لها على طريق التصريح، وإضافتها للبر قرينة للاستعارة. وفيه أنها في البر تقوم مقام السفينة في البحر، وأنها تقابلها، والزمام تجريد، أى: زمامها تحت خدي وأنا نائم. والبلدة من الناقة: ما لاقى الأرض عند الاناخة، وتطلق على الصدر. والبلدة الأرض الصلبة. والبغام: صوت الظبى، أى: أنختها فألقت عظاما صلبة كالأرض، فاستعارها لها على طريق التصريح، فوق أرض صلبة حال كون تلك الأرض قليلا فيها الأصوات إلا نعام الناقة، أى: صوتها الشبيه بصوت الظبى، لأنه كان حنينا. ومجيء الحال من النكرة بلا تأخير ولا نفى ولا تخصيص شاذ. ويروى. قليل- بالجر- على الصفة. وعلى كل فالأصوات فاعل له، ورفع المستثنى على الاتباع، لأن قليلا في معنى النفي، أى: ليس فيها صوت إلا البغام. وقيل «إلا» هنا بمعنى غير، فهي صفة للأصوات لأنه يشبه النكرة، ولما تعذر ظهور الاعراب عليها ظهر على ما بعدها.
(2) . قوله «يريد صيدحه» أى: ناقته المسماة بصيدح. (ع)
(3/182)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
العبادة في شيء أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ. بِهذا إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلهم به من الحث على عبادة الله، أى: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوّة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم ما سَمِعْنا بِهذا يدل على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغى، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا. والجنة:
الجنون أو الجنّ، أى: به جنّ يخبلونه حَتَّى حِينٍ أى احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 الى 30]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياى، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أى بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلنى من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. بِأَعْيُنِنا بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظا يكلئونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة وَوَحْيِنا أى نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روى أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل:
(3/183)
بالشام بموضع يقال له عين وردة. وقيل بالهند. وعن ابن عباس رضى الله عنه: التنور وجه الأرض. وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أى أعلاه. وعن على رضى الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل، كقولهم: حمى الوطيس. والقول هو الأوّل. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائده «1»
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من كل أمّتى زوجين، وهما أمة الذكر وأمّة الأنثى، كالجمال والنوق، والحصن والرماك اثْنَيْنِ واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: من كل، بالتنوين، أى: من كل أمّة زوجين. واثنين:
تأكيد وزيادة بيان.
جيء بعلى مع سبق الضارّ، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ونحوه قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وقول عمر رضى الله عنه: ليتها كانت كفافا، لا علىّ ولا لي. فإن قلت:
لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهى عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فإن قلت: هلا قيل: فقولوا، لقوله فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ
__________
(1) .
حتى إذا أسلكوهم في قتائده ... شلا كما تطرد الجمالة الشرد
لعبد مناف بن ربع الهذلي، يصف قوما أغير عليهم فدفعوا العدو حتى أدخلوه في قتائده، وهي ثنية بعينها، أو عقبه بعينها، أى: في طرائقها. وسلكه في كذا وأسلكه أيضا كما هنا: أدخله فيه. وروى: سلكوهم أيضا. وشلا:
أى طردا نصب بسلوكهم، لأن فيه معنى طردوهم: وإذا: حرف زائد لا جواب له، لأن البيت آخر القصيد كما في الصحاح. وقيل «شلا» هو جوابه، فهو نصب بمحذوف، أى: حبسوا بها حبسا، لكن لا يلائم التشبيه في قوله «كما تطرد» إلا أن يرجع لسلوكهم. والجمالة: جمع جمال وهو صاحب الجمل. والشرد- بفتحتين-: الإبل المنتشرة، أو بضمتين: جمع شرود كعروس.
(3/184)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبىّ. وقرئ: منزلا، بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله:
ليدخلنهم مدخلا يرضونه. إِنَّ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد.
أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 32]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32)
قَرْناً آخَرِينَ هم عاد قوم هود: عن ابن عباس رضى الله عنهما. وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. فإن قلت: حق أرسل أن يعدى بإلى، كأخواته التي هي: وجه، وأنفذ، وبعث. فما باله عدّى في القرآن بإلى تارة، وبقي أخرى، كقوله:
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ، وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا أى في عاد. وفي موضع آخر وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً؟ قلت: لم يعدّ بفي كما عدّى بإلى، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمّة أو القرية جعلت موضعا للإرسال، كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام «1»
وقد جاء «بعث» على ذلك في قوله وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. أَنِ مفسرة لأرسلنا، أى: قلنا لهم على لسان الرسول اعْبُدُوا اللَّهَ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 33 الى 34]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)
__________
(1) .
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام ... طبا فقيها بذوات الابلام
لعطاه السندي. ويقال: أصعب الجمل فهو مصعب، إذا صار صعبا لا يركب. والاقحام: الدخول في الشيء بلا تمهل ولا روية. ويروى: أرسلت فيها مقرما ذا تشمام. وأقرمته: شوقته إلى الضراب. ونحوه: ذا تشمام، أى:
يتشمم رائحة الناقة التائقة للضراب فيعرفها. والطب- مثلث-: الطبيب الحاذق. وأبلمت الناقة إبلاما: إذا ورم فرجها من شدة الشهوة إلى الضراب. والبلم- كسبب-: اسم منه. ويجوز أن ما هنا أبلام كأسباب، فالمعنى: أنه أرسل في الإبل فحلا كريما يقدم عليها من غير تلبث. أو يتشممها ويتعرفها حاذقا عارفا بالنوق التائقة إليه. ويجوز أن المعنى: أرسلت في تلك القضية رجلا كالجمل الشديد، ذا إقدام على الأمر بجراءة، فقيها عارفا بمعالجة الأشياء الصعبة ذوات الأعضال، وبحل مشكلاتها، فهو في غاية المعرفة والتجربة.
(3/185)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
فإن قلت: ذكر مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وهاهنا مع الواو، فأى فرق بينهما؟ قلت: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا كيت وكيت. وأما الذي مع الواو، فعطف لما قالوه على ما قاله. ومعناه: أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل، وشتان ما هما بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، كقولك: يا حبذا جوار مكة: أى جوار الله في مكة.
حذف الضمير، والمعنى: من مشروبكم، أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه إِذاً واقع في جزاء الشرط، وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أى: تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 35 الى 38]
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
ثنى أَنَّكُمْ للتوكيد، وحسن ذلك لفصل ما بين الأوّل والثاني بالظرف. ومخرجون:
خبر عن الأول. أو جعل أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ، وإِذا مِتُّمْ خبرا، على معنى: إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن إنكم، أو رفع أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ بفعل هو جزاء للشرط، كأنه قيل:
إذا متم وقع إخراجكم، ثم أوقعت الجملة الشرطية خبرا عن إنكم. وفي قراءة ابن مسعود:
أيعدكم إذا متم.
قرئ هَيْهاتَ بالفتح والكسر والضم، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف فإن قلت: ما توعدون هو المستبعد، ومن حقه أن يرتفع بهيهات، كما ارتفع في قوله:
فهيهات هيهات العقيق وأهله «1»
__________
(1) .
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خل بالعقيق نواصله
لجرير، يتحسر على بعد خليله. وهيهات: اسم فعل بمعنى «بعد» وفتح تائه: لغة الحجاز. وكسرها: لغة تميم.
وضمها: لغة بعضهم. وكرره للتوكيد وزيادة التحزن. والعقيق: الوادي الذي شقه السيل، وهو هنا واد بظاهر المدينة المشرفة. مرفوع على الفاعلية بالأول، والثاني لا فاعل له. وأجاز أبو على الفارسي أنه من باب التنازع، فهو مرفوع بأحدهما، وضميره مستتر في الآخر، فهو توكيد مفرد على الأول، وجملة على الثاني. وأجاز ابن مالك أنه فاعل لهما لاتحادهما لفظا ومعنى. وانظر كيف ذكر أولا مكان الأحبة، ثم ذكر من فيه على العموم، ثم ذكر خله على الخصوص، وتدرج في ذلك حتى توصل إلى ذكر الوصال، وهو مقصوده الذاتي، فلله در العرب ما ألطفها صنيعا، وأدقها عبارة، والخل- بالكسر-: الخليل، كالحب بمعنى الحبيب. ويروى: العقيق وأهله
(3/186)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
فما هذه اللام: قلت قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون فيمن نوّن، فنزله منزلة المصدر. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللام في هَيْتَ لَكَ لبيان المهيت به.
هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه. وأصله إن الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم وضع هِيَ موضع الحياة، لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت. والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفى الجنس نَمُوتُ وَنَحْيا أى يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتى قرن آخر، ثم قالوا: ما هود إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له، وفيما يعدنا من البعث، وما نحن بمصدّقين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 39 الى 41]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قَلِيلٍ صفة للزمان، كقديم وحديث، في قولك: ما رأيته قديما ولا حديثا. وفي معناه:
عن قريب. و «ما» توكيد قلة المدّة وقصرها الصَّيْحَةُ صيحة جبريل عليه السلام: صاح عليهم فدمّرهم بِالْحَقِّ بالوجوب، لأنهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من الله، من قولك: فلان يقضى بالحق إذا كان عادلا في قضاياه: شبههم في دمارهم بالغثاء: وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من العيدان والورق. ومنه قوله تعالى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى وقد جاء مشدّدا في قول امرئ القيس:
من السّيل والغثّاء فلكة مغزل «1»
__________
(1) .
كأن ذرى رأس المخيم غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل
لامرئ القيس من معلقته. وذرى الجبل: أعاليه. والمخيم: أكمة بعينها. ويروى: المخيمر. والغثاء- بالضم مشددا ومخففا-: حميل السيل مما يلي واسود من العيدان والورق. والفلكة: بالفتح. والمغزل: مثلث. يقول:
كأن أعالى تلك الأكمة من إحاطة السيل بها واجتماع الغثاء حولها: فلكة مغزل في الاستدارة والارتفاع.
(3/187)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
بعدا، وسحقا، ودفرا «1» ، ونحوها، مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها. ومعنى فَبُعْداً: بعدوا، أى: هلكوا يقال: بعد بعدا وبعدا، نحو رشد رشدا ورشدا. ولِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بيان لمن دعى عليه بالبعد، نحو: هَيْتَ لَكَ. ولِما تُوعَدُونَ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 43]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43)
قُرُوناً قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بنى إسرائيل أَجَلَها الوقت الذي حدّ لهلاكها وكتب.
[سورة المؤمنون (23) : آية 44]
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
تَتْرا فعلى: الألف للتأنيث، لأنّ الرسل جماعة. وقرئ: تترى، بالتنوين، والتاء بدل من الواو، كما في: تولج، وتيقور «2» ، أى: متواترين واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد: أضاف الرسل إليه تعالى وإلى أممهم وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ لأنّ الإضافة تكون بالملابسة، والرسول ملابس المرسل والمرسل إليه جميعا فَأَتْبَعْنا الأمم أو القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَجَعَلْناهُمْ أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. الأحاديث: تكون اسم جمع للحديث. ومنه: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكون جمعا للأحدوثة: التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة. وهي: مما يتحدّث به الناس تلهيا وتعجبا، وهو المراد هاهنا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 46]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46)
فإن قلت: ما المراد بالسلطان المبين؟ قلت: يجوز أن تراد العصا، لأنها كانت أمّ آيات
__________
(1) . قوله «دفرا» في الصحاح «دفرا له» أى: نتنا. (ع)
(2) . قوله «كما في تولج وتيقور» التولج: كناس الوحش الذي يلج فيه. قال سيبويه: التاء مبدلة من الواو، وهو فوعل، كذا في الصحاح. وفيه أيضا: التيقور، والوقار. وأصله: ويقور، قلبت الواو تاءا اه، فوزنه «فيعول» . (ع) [.....]
(3/188)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى: من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا ورشاء. جعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل، فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ويجوز أن تراد الآيات أنفسها، أى: هي آيات وحجة بينة عالِينَ متكبرين إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 47 الى 48]
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
البشر يكون واحدا وجمعا: بَشَراً سَوِيًّا
، لِبَشَرَيْنِ، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ و «مثل» و «غير» يوصف بهما: الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ. وَقَوْمُهُما يعنى بنى إسرائيل، كأنهم يعبدوننا خضوعا وتذللا. أو لأنه كان يدعى الإلهية فادعى للناس العبادة، وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
[سورة المؤمنون (23) : آية 49]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
مُوسَى الْكِتابَ أى قوم موسى التوراة لَعَلَّهُمْ يعملون بشرائعها ومواعظها، كما قال: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ يريد آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم، ويراد قومهم. ولا يجوز أن يرجع الضمير في لَعَلَّهُمْ إلى فرعون وملئه، لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
فإن قلت: لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت: نعم، لأنّ مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها، وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر، فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ آية وَأُمَّهُ آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. الربوة والرباوة في رائهما الحركات. وقرئ: ربوة ورباوة، بالضم. ورباوة بالكسر وهي الأرض المرتفعة. قيل: هي إيليا أرض بيت المقدس، وأنها
(3/189)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا: عن كعب. وقيل: دمشق وغوطتها.
وعن الحسن: فلسطين والرملة، وعن أبى هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقيل: مصر. والقرار: المستقرّ من أرض مستوية منبسطة. وعن قتادة:
ذات ثمار وماء. يعنى أنه لأجل الثمار: يستقرّ فيها ساكنوها. والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، نحو: ركبه، إذا ضربه بركبته. ووجه من جعله فعيلا:
أنه نفاع بظهوره وجريه، من الماعون: وهو المنفعة،
[سورة المؤمنون (23) : آية 51]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك «1» ووصى به، ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. والمراد بالطيبات: ما حل وطاب. وقيل: طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال: الذي لا يعصى الله فيه، والصافي: الذي لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك النفس ويحفظ العقل.
أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه على عقب قوله وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر على سبيل الحكاية، أى: آويناهما وقلنا لهما هذا، أى: أعلمناهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل.
[سورة المؤمنون (23) : آية 52]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
قرئ: وإنّ، بالكسر على الاستئناف. وأنّ بمعنى ولأنّ، وأن مخففة من الثقيلة، وأُمَّتُكُمْ مرفوعة معها.
__________
(1) . قال محمود: «هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة وإنما المعنى الاعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك» قال أحمد: هذه نفحة اعتزالية، فان مذهب أهل السنة أن الله تعالى متكلم آمر ناه أزلا، ولا يشترط في تحقق الأمر وجود المخاطب، فعلى هذا قوله كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً على ظاهره وحقيقته عند أهل الحق، وهو ثابت أزلا على تقدير وجود المخاطبين فيما لا يزال، متفرقين كما في هذا الخطاب، أو مجتمعين كما في زعمه، والمعتزلة لما أبت اعتقاد قدم الكلام زلت بهم القدم، حتى حملوا هذه الآية وأمثالها على المجاز وخلاف الظاهر. وما بال الزمخشري خص هذه الآية بأنها على خلاف الظاهر، ومعتقده يوجب حمل مثل قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وجميع الأوامر العامة في الأمة على خلاف الظاهر.
(3/190)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
[سورة المؤمنون (23) : آية 53]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
وقرئ زُبُراً جمع زبور، أى: كتبا مختلفة، يعنى: جعلوا دينهم أديانا، وزبرا قطعا:
استعيرت من زبر الفضة والحديد، وزبرا: مخففة الباء، كرسل في رسل، أى: كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئنّ النفس، معتقد أنه على الحق.
[سورة المؤمنون (23) : آية 54]
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال:
كأنّنى ضارب في غمرة لعب «1»
وعن على رضى الله عنه: في غمراتهم حَتَّى حِينٍ إلى أن يقتلوا أو يموتوا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ: يمدّهم. ويسارع، ويسرع، بالياء، والفاعل الله سبحانه وتعالى. ويجوز في:
يسارع، ويسرع: أن يتضمن ضمير الممدّ به. ويسارع، مبنيا للمفعول. والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. وبَلْ استدراك لقوله أَيَحْسَبُونَ يعنى:
بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أنّ إلى اسمها إذا لم يستكنّ فيه ضميره؟
قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع الله به، كقوله إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أى إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس.
__________
(1) .
ليالي اللهو يطبينى فأتبعه ... كأننى ضارب في غمرة لعب
لذي الرمة. وليالي: منصوب على الظرفية، واللهو: مبتدأ. وطباه يطبوه ويطيبه: إذا دعاه وجذبه. وطبي الناقة ثديها لجذبه عند الحلب. أى اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه، كأنى سابح في لجة من الماء تغمر القامة، لعب فيها فهو خبر ثان. ويروى: لغب. بالمعجمة من اللغوب وهو المشقة. وقيل «ليالي» مضاف للجملة بعده، فهو ظرف لما قبله. وروى: اللهو بالجر. وتطبينى بالتاء، فالفاعل ضمير الليالي.
(3/191)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
يُؤْتُونَ ما آتَوْا يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة:
يأتون ما أتوا، أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: قلت يا رسول الله، هو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا ابنة الصدّيق، ولكن هو الذي يصلى ويصوم ويتصدّق، وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه «1» يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: يسرعون في الخيرات لَها سابِقُونَ أى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها. أو إياها سابقون، أى: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون لَها سابِقُونَ خبرا بعد خبر. ومعنى وَهُمْ لَها كمعنى قوله:
أنت لها أحمد من بين البشر «2»
__________
(1) . أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وإسحاق، وابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي في الشعب. من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمذاني عن عائشة قالت: سألت فذكره. قال الترمذي وقد روى عن عبد الرحمن ابن سعيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه. اه وهذه الطريق أخرجها الطبري بهذا الاسناد. أن عائشة قالت: فذكره وله عنده طريق أخرى. عن عائشة فيها ليث بن أبى سليم. وهو ضعيف. وقوله وهو في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة يُؤْتُونَ ما آتَوْا: كأنه يشير إلى هذا الحديث. وأخرج منه ما أخرجه الحاكم.
من طريق عبد الله بن عمير عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا كيف كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها يؤتون: يأتون أو يؤتون؟ قالت أيهما أحب إليك؟ قال: الذين يأتون ما أتوا. قالت. أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها. وكذلك أنزلت» وفي إسناده يحيى بن راشد وهو ضعيف. وله طريق أخرى، عند أحمد من طريق أبى خلف الجمحي: أن عبيد بن عمير سأل عائشة نحوه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي.
وهو ضعيف.
(2) .
قصيدة رائقة صوغتها ... أنت لها أحمد من بين البشر
رائقة: محالية من الحشو والتعقيد. وصوغتها- بالتشديد- للمبالغة. وأنت لها: أى أهل وكفؤ لها. وأحمد: منادى.
ومن بين البشر: متعلق بمحذوف حال، أى: منتخبا من بينهم. ويجوز أن أحمد أفعل تفضيل، كذا قيل.
ويروى:
أنت لها منذر من بين البشر ... داهية الدهر وصماء الغير
للأعشى الحرمازي، وضمير لها مبهم يفسره قوله «داهية الدهر» أى الشديدة المهمة من شدائده. والصماء الصلبة، والغير- كسبب- بمعنى البقية، من غبر إذا بقي، أو من الغبار، أو من الظلمة. وأصل «صماء الغبر» : الحية تسكن في منقع قرب مويهة فلا تقرب. ويضرب بها المثل. والمعنى: أنها تغشى فلا يهتدى إلى التخلص منها. ومنذر:
منادى. وروى بدله: أحمد. وقيل: ضمير لها للنبوة.
(3/192)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 63]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)
يعنى أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد: إن الله لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد، ولا نظلم أحدا من حقه ولا نحطه دون درجته. بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مِنْ هذا أى مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين وَلَهُمْ أَعْمالٌ متجاوزة متخطية لذلك، أى: لما وصف به المؤمنون هُمْ لَها معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 الى 67]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
وحتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف «1» » فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ «2» والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال:
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود وسيأتى تاما في تفسير الدخان.
(2) . قوله «والقد» في الصحاح «القد» بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع)
(3/193)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
جئّار ساعات النّيام لربّه
أى يقال لهم حينئذ لا تَجْأَرُوا فإن الجؤار غير نافع لكم مِنَّا لا تُنْصَرُونَ لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في بِهِ للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى آياتي، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي. ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكبارا.
ضمن مستكبرين معنى مكذبين، فعدّى تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكبارا وعتوّا، فأنتم مستكبرون بسببه. أو تتعلق الباء بسامرا، أى: تستمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو يتهجرون. والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: سمرا وسمارا. وتهجرون وتهجرون، من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر- بالضم-: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى. والهجر-: بالفتح الهذيان.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 70]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)
الْقَوْلَ القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به، بل أجاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ أو ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما، ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم ابن مرّ. فإنهم كانوا على الإسلام، وما شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما «1» »
__________
(1) . قلت اقتصر المخرج في عزو الجملة الأولى إلى السهيلي عن الزبير، وتتضمن الباقي. وقد أخرجه ابن سعد والبلاذري من طريق سعد ابن أبى أيوب عن عبد الله بن خالد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تسبوا مضر فانه كان مسلما. وأما تبع فروى الفاكهي من طريق عمر بن جابر عن سهل بن سعد رفعه، لا تسبوا تبعا فانه قد أسلم. وأخرجه الحاكم من طريق ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «كان تبع رجلا صالحا. الحديث» موقوف. وقوله: والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد رضى الله عنها كفى برغائها مناديا: قلت نص له أيضا.
(3/194)
وروى في أنّ ضبة كان مسلما، وكان على شرطة سليمان بن داود أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا محمدا وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله، واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها مناديا.
الجنة: الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم «1» ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّا ولا مدفعا لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر. فإن قلت: قوله وَأَكْثَرُهُمْ فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق. قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبى طالب «2» . فإن قلت:
يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه. قلت: يا سبحان الله، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضى الله عنهما، ويخفى إسلام أبى طالب.
__________
(1) . قوله «وسيط بلحومهم» أى: وخلط. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت أكثرهم يعطى أن أقلهم لا يكره الحق، وكيف ذلك والكل كفرة؟ قلت: فيهم من أبى الإسلام حذرا من مخالفة آبائه ومن أن يقال صبأ كأبى طالب، لا كراهة للحق» قال أحمد: وأحسن من هذا أن يكون الضمير في قوله: وَأَكْثَرُهُمْ على الجنس للناس كافة، ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بقي الكلام في قوله وَأَكْثَرُهُمْ على الجنس بجملته، كقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وكقوله وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ويدل على ذلك قوله تعالى بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ والنبي صلى الله عليه وسلم جاء الناس كلهم وبعث إلى الكافة. ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي والله أعلم. وأما قول الزمخشري-: إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه «ليس كارها للحق- فمردود، فان من أحب شيئا كره ضده، فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه إلى الايمان ضرورة، والله أعلم، ثم انجر الكلام إلى استبعاد إيمان أبى طالب. وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر، ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه، كما اشتهر إسلام العباس وحمزة وأجدر لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار، فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما ظهر لغيره من عمومته عليه الصلاة والسلام. هذا والظاهر أنه لم يسلم. وحسبك دليلا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: سألت الله تعالى فيه، وأنه بعد ذلك لفي ضحضاح من نار يغلى رأسه من قدميه. فان قيل: لا يلزم من ذلك موته على الكفر، لأن كثيرا من عصاة الموحدين يعذب بأكثر من ذلك. قلنا: من أثبت إسلامه ادعى أن ذلك كان قبيل الاحتضار، فالإسلام جب ما قبله، وتلك الدقيقة التي صار فيها من المسلمين لا تحتمل من المعاصي ما يوجب ذلك، والله أعلم.
(3/195)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
[سورة المؤمنون (23) : آية 71]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
دل بهذا على عظم شأن الحق، وأنّ السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. أو أراد أنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: أنّ الحق هو الله. ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها ولكان شيطانا، ولما قدر أن يمسك السماوات والأرض بِذِكْرِهِمْ أى بالكتاب الذي هو ذكرهم، أى: وعظهم أو وصيتهم وفخرهم: أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنا عباد الله المخلصين. وقرئ: بذكراهم.
[سورة المؤمنون (23) : آية 72]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
قرئ: خراجا فخراج. وخرجا فخرج. وخرجا فخراج: وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك، وإلى كل عامل من أجرته وجعله. وقيل: الخرج: ما تبرعت به. والخراج: ما لزمك أداؤه.
والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ: خرجا فخراج ربك، يعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 الى 74]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سرّه وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له «1» حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم «2» بدين الآباء الضلال من
__________
(1) . قوله «لم يعرض» لعله: لم يعرض له جنون. (ع)
(2) . قوله «واستهتارهم بدين الآباء الضلال» في الصحاح: فلان مستهتر بالشراب، أى: مولع به لا يبالى ما قبل فيه. (ع)
(3/196)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة لَناكِبُونَ أى عادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو قوله إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب. لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز «1» ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى. فقال قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطم العذاب، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رئي فيهم لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير. فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون «2» ، أى: انتقل من كون
__________
(1) . قوله «حتى أكلوا العلهز» في الصحاح «الملهز» بالكسر: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سنى المجاعة. (ع)
(2) . قال محمود: «استكان استفعل من الكون، أى: انتقل من كون إلى كون، كما يقال: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال» قال أحمد: هذا التأويل أسلم وأحق من تأويل من اشتقه من السكون وجعله افتعل، ثم أشبعت الفتحة فتولدت الألف كتولدها في قوله
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
فان هذا الاشباع ليس بفصيح، وهو من ضرورات الشعر، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه، لكن تنظير الزمخشري له باستحال: وهم، فان استكان على تأويله أحد أقسام استفعل، الذي معناه التحول، كقولهم: استحجر الطين، واستنوق الجمل. وأما استحال فثلاثيه حال يحول، إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد معنى التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر، فليس استحال من استفعل للتحول. ولكنه من استفعل بمعنى فعل، وهو أحد أقسامه، إذ لم يزد السداسى فيه على الثلاثي معنى، والله أعلم. ثم نعود إلى تأويله فنقول: المعنى عليه: فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى الله تعالى. ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون إلى كون، فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر إلى الخضوع بأولى من العكس. وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا. والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق، ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها، والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير رحمه الله يذكر لي أنه لما دخل بغداد زمن الامام الناصر رضى الله عنه، أظهر من جملة كراماته له: أن جمع له الوزير جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة، وكان يذكر لي أن مما انجر الكلام إليه حينئذ هذه الآية، وأن أحدهم وكان يعرف بالأجل اللغوي خصه الوزير بالسؤال عنها فقال: وهو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن منه ذلك. قال أحمد: وقد وقفت عليها بعد ذلك في غريب أبى عبيد المروي وهو أحسن محامل الآية وأسلمها، والله أعلم. وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل، كقولهم: استقر واستعلى، وحال واستحال على ما مر.
وقد قال لي بعضهم يوما: لم لا تجعله على هذا التأويل من استفعل المبنى للمبالغة. مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم، فقلت: لا يسعني ذلك: لأن المعنى يأباه، وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع، مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو ذهبت إلى جعلها للمبالغة أفادت نقص المبالغة، لأن نفى الأبلغ أدنى من نفى الأدنى. وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير، وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها، وليس الواقع، فإنهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلظة منها، فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية، والله أعلم.
(3/197)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، كما جاء: بمنتزاح «1» . فإن قلت: هلا قيل: وما تضرعوا. أو: فما يستكينون؟
قلت: لأنّ المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: فتحنا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا
__________
(1) . قوله «كما جاء بمنتزاح» أى في قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... وعن ذم الرجال بمنتزاح
اه عليان قلت: وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 464 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
(3/198)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك، أى: تشكرون شكرا قليلا، وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقا ذَرَأَكُمْ خلقكم وبثكم بالتناسل وَإِلَيْهِ تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أى هو مختص به وهو متوليه، ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: يعقلون، بالياء عن أبى عمرو.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
أى: قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم. الأساطير: جمع أسطار: جمع سطر.
قال رؤبة:
إنّى وأسطار سطرن سطرا «1»
وهي ما كتبه الأوّلون مما لا حقيقة له. وجمع أسطورة أوفق.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
__________
(1) .
إنى واسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصر نصرا
لرؤبة بن العجاج. والمراد بالأسطار: الكتابة، وهي جمع سطر بالتحريك، وأصله مصدر كالساكن الوسط.
وسطرن: مبنى للمجهول. وسطرا: مصدر. ولقائل: خبر «إنى» وما بينهما جملة قسمية اعتراضية. ونصر: مبنى على الضم، وهو ابن سيار ملك خراسان. ونصر الثاني توكيد لفظي، مرفوع على اللفظ. والثالث كذلك نصب على المحل لأنه كان مفردا معرفة لأنه تابع. أو هو مصدر نائب عن فعله. أى انصرني نصرا. وقيل «نضر» الثاني بالضاد المعجمة على أنه علم لصاحب نصر الأول، فهو على حذف العاطف. عن أبى عبيدة: والمنقول أن الذي بالضاد المعجمة هو الثالث، كان حاجبا لنصر، واشتكاه له الشاعر فنصبه على الإغراء. والمعنى على الأول:
وحق الكتاب المسطور إنى لمستغيث به لا بغيره.
(3/199)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
أى أجيبونى عما استعلمتكم منه «1» إن كان عندكم فيه علم، وفيه استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات: أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين. وقرئ: تذكرون، بحذف التاء الثانية «2» ومعناه: أفلا تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها اختراعا، كان قادرا على إعادة الخلق، وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية. قرئ: الأوّل، باللام لا غير.
والأخيران باللام، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة، فباللام على المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ. ويجوز قراءة الأوّل بغير لام، ولكنها لم تثبت في الرواية أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله. أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعنى: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا تُسْحَرُونَ تخدعون عن توحيده وطاعته. والخادع: هو الشيطان والهوى.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
وقرئ: أتيتهم وأتيتهم، بالفتح والضم بِالْحَقِّ بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حيث يدعون له ولدا ومعه شريكا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ لا نفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجوابا ولم يتقدّمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة. وإنما حذف لدلالة قوله: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والأولاد عالِمِ الْغَيْبِ بالجرّ صفة لله. وبالرفع: خبر مبتدإ محذوف.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 95]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)
__________
(1) . قوله «عما استعلمتكم منه» لعله «عنه» . (ع)
(2) . قوله «وقرئ «تذكرون» بحذف التاء الثانية» يفيد أن القراءة المشهورة «تذكرون» بالتشديد. (ع)
(3/200)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
ما والنون: مؤكدتان، أى: إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَجْعَلْنِي قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن: أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضى الله عنهما «وليتكم ولست بخيركم: كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقرئ: إما ترئنهم، بالهمز «1» مكان تريني، كما قرئ:
فإما ترئن، ولترؤن الجحيم. وهي ضعيفة. وقوله رَبِّ مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم، فما وجه هذا الإنكار؟
[سورة المؤمنون (23) : آية 96]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)
هو أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة.
والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه: كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك.
__________
(1) . قوله «وقرئ إما ترئنهم بالهمزة» في نسخة أخرى: إما ترئنى بالهمز، كما قرئ..، الخ، (ع)
(2) . قال محمود: «هذا أبلغ من أن يقال: ادفع بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة، والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه، كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، وهذه قضية قوله: بالتي هي أحسن» قال أحمد: ما ذكره تقريرا للمفاضلة عبارة عن الاشتراك في أمر والتميز بغيره، ولا اشتراك بين الحسنة والسيئة، فإنهما ضدان متقابلان، فكيف تتحقق المفاضلة؟ قلت: المراد أن الحسنة من باب الحسنات، أزيد من السيئة من باب السيئات، فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سيئة. وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين، كقولهم: العسل أحلى من الخل، يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة. وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال. نشأت أنا والأعمش في حجر فلان، فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا، بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة. والأعمش: بلغ الغاية على العلية، هذا تفسير كلامه عن نفسه، ونعود إلى الآية فنقول: هي تحتمل وجها آخر من التفضيل أقرب متناولا:
وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة، فإنها قد تدفع بالصفح والاغضاء، ويقنع في دفعها بذلك، وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة، فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة، ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة، لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة. فعلى هذا تجرى المفاضلة على حقيقتها من غير حاجة إلى تأويل، والله أعلم.
فتأمله فانه حسن جدا.
(3/201)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وعن مجاهد: السلام: يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن: الإغضاء والصفح. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة بِما يَصِفُونَ بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم، والله أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 98]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
الهمز: النخس. والهمزات: جمع المرّة منه. ومنه: مهماز الرائض. والمعنى أنّ الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، المكرّر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما:
عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة: عند النزع.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
حَتَّى يتعلق بيصفون، أى: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله: وإنهم لكاذبون «1» . خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله:
فإن شئت حرّمت النّساء سواكم «2»
وقوله:
ألا فارحمونى يا إله محمّد «3»
__________
(1) . قوله «أو على قوله: وإنهم لكاذبون» لعله عطف على المعنى، فكأنه قال فيما مر: حتى رد على قوله يَصِفُونَ. فقال هنا: أو على قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 383 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
ألا فارحمونى يا إله محمد ... فان لم أكن أهلا فأنت له أهل
«ألا» استفتاحية دالة على الاهتمام بما يعقبها من الكلام، وخاطب الاله الواحد الأحد بخطاب الجمع جريا على عادة العرب من خطاب السادة والملوك بذلك تعظما. وقيل: هو إشارة إلى تكرار الفعل للتوكيد، كأنه قيل:
ارحمني ارحمني ارحمني، وإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم للتوسل به إلى الله عز وجل، فان لم أكن أهلا لهذا الطلب أو المطلوب من الرحمة والرفق» فأنت يا الله أهل له.
(3/202)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً في الإيمان الذي تركته، والمعنى:
لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد:
أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: فيما تركت من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول: رب ارجعون» كَلَّا ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ. هُوَ قائِلُها لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث، وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
[سورة المؤمنون (23) : آية 101]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)
الصور- بفتح الواو- عن الحسن. والصور- بالكسر والفتح- عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: ولا يساءلون، بإدغام التاء في السين. فإن قلت:
قد ناقض هذا ونحو قوله وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «1» وقوله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ناقض هذا قوله: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» قال أحمد: يجب أن لا يسلك هذا المسلك في إيراد الأسئلة عن فوائد الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وسؤال الأدب أن يقال: قصر فهمي عن الجمع بين هاتين الآيتين، فما وجهه؟ ولو سأل سائل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن شيء من كتاب الله تعالى بهذه الصيغة لأوجع ظهره بالدرة.
(3/203)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع «1» . والثاني: أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 102 الى 104]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
عن ابن عباس: الموازين: جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال: أى الصالحات، التي لها وزن وقدر عند الله، من قوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ
بدل من خسروا أنفسهم، ولا محلّ للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محلّ لها. أو خبر بعد خبر لأولئك.
أو خبر مبتدإ محذوف تَلْفَحُ تسفع. وقال الزجاج: اللفح والنفح واحد، إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. والكلوح: أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرءوس المشوية. وعن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور فغشى عليه ثلاثة أيام ولياليهنّ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته «2» وقرئ: كلحون.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 108]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
غَلَبَتْ عَلَيْنا ملكتنا، من قولك: غلبني فلان على كذا، إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم. قرئ شِقْوَتُنا وشقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما اخْسَؤُا فِيها ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه «3» . وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل: هو
__________
(1) . عاد كلامه إلى جواب السؤال. قال: «وجه الجمع بينهما أن يحمل ذلك على اختلاف موقف القيامة» قال أحمد: وكثيرا ما ينتهز الزمخشري الفرصة في إنكار الشفاعة ويشمر ذيله للرد على القائلين بها إذا انتهى إلى مثل قوله وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ. ويتغافل حينئذ عن طريق الجمع بين ما ظاهره نفى الشفاعة وبين ما ظاهره ثبوتها، بحمل الأمر على اختلاف الأحوال في القيامة، والله الموفق.
(2) . أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي في الشعب من رواية أبى السمح عن الهيثم بن أبى سعيد.
(3) . قوله «يقال خسأ الكلب ... الخ» في الصحاح خسأت الكلب وخسأ بنفسه: يتعدى ولا يتعدى. (ع)
(3/204)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس: إنّ لهم ست دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فيجابون: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي، فينادون ألفا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ، فيجابون: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، فينادون ألفا: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، فيجابون: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ:
فينادون ألفا: رَبَّنا أَخِّرْنا، فيجابون: أَوَلَمْ تَكُونُوا، فينادون ألفا: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً، فيجابون: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، فينادون ألفا: رَبِّ ارْجِعُونِ، فيجابون: اخْسَؤُا فِيها.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 111]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
في حرف أبىّ: أنه كان فريق، بالفتح، بمعنى: لأنه.
السخرىّ- بالضم والكسر-: مصدر سخر كالسخر، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل، كما قيل الخصوصية في الخصوص. وعن الكسائي والفراء: أنّ المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية، أى: تسخروهم واستعبدوهم، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه. قيل: هم الصحابة وقيل أهل الصفة خاصة. ومعناه: اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي فتركتموه، أى: تركتم أن تذكرونى فتخافونى في أوليائى. وقرئ أَنَّهُمْ بالفتح، فالكسر استئناف، أى: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول جزيتهم، كقولك: جزيتهم فوزهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 114]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
قالَ في مصاحف أهل الكوفة. وقل: في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام، ففي قالَ ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وفي «قل» ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور، وأيام السرور قصار، أو لأنّ المنقضى في حكم ما لم يكن، وصدقهم الله في مقالهم لسنى لبثهم في الدنيا ووبخهم
(3/205)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ فَسْئَلِ الْعادِّينَ والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم، لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدّها، فسل من فيه أن يعدّ، ومن يقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ: العادين، بالتخفيف، أى: الظلمة، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ:
العاديين، أى: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس:
أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
عَبَثاً حال، أى: عابثين، كقوله لاعِبِينَ أو مفعول له، أى: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي: أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ ويجوز أن يكون معطوفا على عَبَثاً أى: للعبث، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ تُرْجَعُونَ بفتح التاء «1» الْحَقُّ الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كراما. وقرئ. الكريم، بالرفع. ونحوه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وهي صفة لازمة، نحو قوله يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان «2» . ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط
__________
(1) . قوله «وقرئ ترجعون بفتح التاء» عبارة النسفي: بفتح التاء وكسر الجيم. (ع)
(2) . قال محمود: «لا برهان له به: إما صفة لازمة، أو كلام معترض لأن في الصفة إفهاما لأن إلها سوى الله يمكن أن يكون به برهان» قال أحمد: إن كان صفة فالمقصود بها التهكم بمدعى إله مع الله، كقوله بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ولا غير منزل، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها: ما قدمه عند قوله تعالى فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ حيث أعرب الزمخشري موعدا مصدرا ناصبا لمكانا سوى، واعترضه بأن المصدر الموصوف لا يعمل إلا على كره، واعتذرت عنه بصرف الجملة عن أن تكون صفة وجعلها معترضة مؤكدة لمعنى الكلام، والله أعلم. [.....]
(3/206)
والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه، فالله مثيبه. وقرئ: أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه: حسابه عدم الفلاح، والأصل: حسابه أنه لا يفلح هو، فوضع الكافرون موضع الضمير، لأنّ مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع، وكذلك حِسابُهُ ... إِنَّهُ لا يُفْلِحُ في معنى «حسابهم أنهم لا يفلحون» .
جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وأورد في خاتمتها إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت «1» .
وروى: أنّ أوّل سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتعظ بأربع آيات من آخرها: فقد نجا وأفلح «2» وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوىّ كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا» ثم قال «لقد أنزلت علىّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة» ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر «3» .
__________
(1) . تقدمت أسانيده.
(2) . لم أجده.
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي، وعبد الرزاق، والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة، وعبد. كلهم من رواية يونس بن سليم الصنعاني عن يونس عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد عن عمر. قال النسائي: هذا حديث منكر. تفرد به يونس بن سليم ولا أعرفه. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه لا أعرفه ولا أعرف هذا الحديث عن الزهري وقال الترمذي [كذا بياض بالأصل] : وقال العقيلي لا يتابع عليه يونس بن سليم ولا يعرف إلا به، وبنحوه قال ابن عدى. وسئل عبد الرزاق عن شيخه يونس بن سليم هذا فقال: أظنه لا شيء
(3/207)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة النور
مدنية، وهي اثنتان وستون آية. وقيل: أربع وستون [نزلت بعد الحشر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
سُورَةٌ خبر مبتدإ محذوف. وأَنْزَلْناها صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أى: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيدا ضربته، ولا محل لأنزلناها، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة أو اتل سورة. وأنزلناها:
صفة. ومعنى فَرَضْناها فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أى: جعلناها واجبة مقطوعا بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرّضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم تَذَكَّرُونَ بتشديد الذال وتخفيفها، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.
[سورة النور (24) : آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أى جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: فَاجْلِدُوا، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط «1» ، تقديره: التي زنت، والذي زنى
__________
(1) . قال محمود: «في الرفع وجهين، أحدهما: الابتداء والخبر محذوف، وهو إعراب الخليل وسيبويه.
والتقدير: وفيما فرض عليكم الزانية والزاني، أى: جلدهما. الثاني: أن يكون الخبر فاجلدوا، ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وقد ضمن معنى الشرط» قال أحمد: وإنما عدل سيبويه إلى هذا الذي نقله عنه لوجهين:
لفظي ومعنوي. أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب، ومع ذلك قراءة العامة، فلو جعل فعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء، فالتجأ إلى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر، فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في كتابه بقوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ ... الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله مَثَلُ الْجَنَّةِ ولا يستقيم جزما أن يكون قوله فِيها أَنْهارٌ خبره، فتعين تقدير خبره محذوفا. وأصله: فيما نقص عليكم مثل الجنة، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل بقوله فِيها أَنْهارٌ إلى آخرها، فكذلك هاهنا، كأنه قال: وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكر من أحكام الجلد، ويناسب هذا ترجمة الفقهاء في كتبهم حيث يقولون مثلا: الصلاة، الزكاة، السرقة.
ثم يذكرون في كل باب أحكامه، يريدون مما يصنف فيه ويبوب عليه: الصلاة، وكذلك غيرها، فهذا بيان المقتضى عند سيبويه، لاختيار حذف الخبر من حيث الصناعة اللفظية. وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر، لأن يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا، فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة، والله أعلم.
(3/208)
فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر. وقرئ: والزان، بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت: أهذا حكم جميع الزناة والزواني، أم حكم بعضهم؟
قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإنّ المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبى حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول.
إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا «1» . وحجة أبى حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن «2» » فإن قلت: اللفظ يقتضى تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لأن قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي عام في الجميع، يتناول المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافيين لجنسى العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ: ولا يأخذكم، بالياء. ورأفة، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها «3» » وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضربا. وفي الحديث «يؤتى بوال
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما
(2) . أخرجه إسحاق والدارقطني تفرد برفعه إسحاق. قلت: قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا.
(3) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(3/209)
نقص من الحدّ سوطا، فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أأنت أرحم بهم منى، فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار «1» » وعن أبى هريرة: إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة «2» . وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائما على مجرّده «3» ليس عليه إلا إزاره، ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا، مفرّقا على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلا ثلاثة: الوجه، والرأس، والفرج. وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة، ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حدّ غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام «4» » وما يروى عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا «5» :
منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية. أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنة كالحرّ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس الأذى في قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وقوله تعالى فَآذُوهُما. قيل: تسميته عذابا دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذابا، لأنه يمنع من المعاودة كما سمى نكالا.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدا. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ وعند أبى يعلى من رواية عمرو بن ضرار عن حذيفة مرفوعا «يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول له الله تعالى: عبدى، لم ضربته فوق الحد؟ فيقول غضبا لك. فيقول: أكان غضبك أشد من غضبي. ويؤتى بالذي قصر فيقول عبدى لم قصرت؟ فيقول: رحمته. فيقول أكانت رحمتك أشد من رحمتي. ثم يؤمر بهما جميعا إلى النار»
(2) . أخرجه النسائي من طريق أبى زرعة عنه موقوفا وأخرجه النسائي أيضا وابن حبان وأحمد وابن ماجة والطبرانى من هذا الوجه مرفوعا. وقال «أربعين صباحا» ولأحمد «ثلاثين أو أربعين صباحا» وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه ابن ماجة بلفظ «إقامة حد من حدود الله تعالى خير من مطر أربعين ليلة»
(3) . قوله «على مجرده» في الصحاح: فلان حسن المجرد، أى: المعرى اه، أى: المكشوف عن الثياب. (ع)
(4) . أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت في أثناء حديث
(5) . أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.
(3/210)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، وقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في الدنيا: فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار» «1» ولذلك وفي الله فيه عقد المائة بكماله، بخلاف حد القذف وشرب الخمر. وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل. ويشهد له قول ابن عباس رضى الله عنهما:
إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله.
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء واللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة. كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى: محرّم عليه محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد. ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب، وقد نبه على ذلك بقوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهنّ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة، ليس له أن يتزوجها
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الشعب في السابع والثلاثين وابن مردويه وابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى وائل عن حذيفة، بلفظ «يا معشر الناس» وفي آخره: ثم تلا أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ قال أبو نعيم: تفرد به مسلمة بن على الحسنى عن أبى عبد الرحمن الكوفي عن الأعمش وهو ضعيف، وقال البيهقي: مسلمة متروك. وعبد الرحمن مجهول، وأخرجه الثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن الأعمش فيحتمل أن يكون هو أبو عبد الرحمن المذكور. وفي الباب عن أنس أخرجه الخطيب وابن الجوزي من طريقه وفي إسناده كعب بن عمرو بن جعفر وهو غير ثقة. ورواه الواحدي في الوسيط غالبا من طريق أبى الدنيا الأشج عن على مرفوعا والأشج ادعى أنه سمع من على بعد الثلاثمائة فسمع منه أبو بكر المفيد وغيره وأخباره معروفة.
(3/211)
لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانيا. وقد أجازه ابن عباس رضى الله عنهما وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؟ فقال: أوله سفاح وآخره نكاح. والحرام لا يحرم الحلال. وقيل: المراد بالنكاح الوطء، وليس بقول لأمرين، أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزنى إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان. وقيل: كان نكاح الزانية محرّما في أول الإسلام ثم نسخ، والناسخ قوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ. وقيل الإجماع، وروى ذلك عن سعيد بن المسيب رضى الله عنه. فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان «1» . فإن قلت: كيف قدمت الزانية على الزاني أولا، ثم قدم عليها ثانيا؟ قلت:
سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها. وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أى فرق بين الجملتين في المعنى؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان» قال أحمد: وليس فيما ذكره إيضاح إطباق الجملتين. ونحن نوضحه فنقول: الأقسام أربعة: الزاني لا يرغب إلا في زانية. الزانية لا ترغب إلا في زان. العفيف لا يرغب إلا في عفيفة. العفيفة لا ترغب إلا في عفيف. وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني، وحاصرة للقسمة فنقول: اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين، واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما، فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول صريح في القسم الأول ويفهم الثالث، والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع، والقسم الثالث والرابع متلازمان، من حيث أن المقتضى لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في العفة، وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والأعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا، فان معنى الأول الزانية لا ينكحها عفيف، ومعنى الثاني:
العفيفة لا ينكحها زان. والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم، حتى لا يخرج بالكلام عما هو المقصود منه، ثم بينه في إسناد النكاح في هذين القسمين المذكور دون الإناث، بخلاف قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا، وقدم الزانية على الزاني. والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنا، والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الايماض والاطماع، والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة، والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم لهذا- وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا، زجرا لهم عن الفاحشة- ولذلك قرن الزنا والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل بعض أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب، فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى فاستعظمه وتلا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. [.....]
(3/212)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ومنه يبدأ الطلب. وعن عمرو بن عبيد رضى الله عنه: لا ينكح، بالجزم على النهى. والمرفوع فيه أيضا معنى النهى، ولكن أبلغ وآكد، كما أن «رحمك الله، ويرحمك» أبلغ من «ليرحمك» ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى: أن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصوّن عنها. وقرئ: وحرم، بفتح الحاء «1» .
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
القذف يكون بالزنى وبغيره، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان، أحدهما: ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني: اشتراط أربعة شهداء، لأنّ القذف بغير الزنى يكفى فيه شاهدان، والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زانى، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنا، لست لأبيك، لست لرشدة. والقذف بغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودى، يا مجوسي، يا فاسق، يا خبيث، يا ماص بظر أمّه: فعليه التعزير، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد وهو أربعون، بل ينقص منه. وقال أبو يوسف: يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون. وقال: للإمام أن يعزر إلى المائة. وشروط إحصان القذف خمسة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة. وقرئ: بأربعة شهداء، بالتنوين. وشهداء: صفة. فإن قلت: كيف يشهدون مجتمعين أو متفرّقين؟ قلت:
الواجب عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة. وعند الشافعي رضى الله عنه: يجوز أن يحضروا متفرّقين. فإن قلت: هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم؟ قلت: يجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعي. فإن قلت:
كيف يجلد القاذف؟ قلت: كما جلد الزاني، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضا كالزانية، وأشدّ الضرب ضرب التعزير، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. قالوا: لأنّ سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وردعا عن هتكها. فإن قلت: فإذا لم يكن المقذوف محصنا؟ قلت:
يعزر القاذف ولا يحدّ، إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حدّ ولا تعزير. ردّ شهادة القاذف معلق عند أبى حنيفة رضى الله عنه باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل
__________
(1) . قوله «بفتح الحاء» لعله: بفتح الحاء والراء. (ع)
(3/213)
تمام استيفائه قبلت شهادته، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي رضى الله عنه: يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه، عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسك بالآية، فأبو حنيفة رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي: الجلد، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأييد، فكانوا مردودى الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم، وجعل قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية.
وإِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من الفاسقين. ويدل عليه قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والشافعي رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا. غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» وحقه عند أبى حنيفة رضى الله عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أى: فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ الله يغفر لهم فينفلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت. الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبى حنيفة رضى الله عنه، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت: المسلمون لا يعبئون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعا وكفا عن إلحاق الشنار «1» . فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له: أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدّ: فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت: هل يورث الحدّ؟ قلت: عند أبى حنيفة رضى الله عنه لا يورث، لقوله صلى الله عليه وسلم «الحدّ لا يورث» وعند الشافعي رضى الله عنه يورث، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط. وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضى الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضى الله عنها.
__________
(1) . قوله «الشنار» في الصحاح «الشنار» العيب والعار. (ع)
(3/214)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 9]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
قاذف امرأته إذا كان مسلما حرا بالغا عاقلا، غير محدود في القذف، والمرأة بهذه الصفة مع العفة: صح اللعان بينهما، إذا قذفها بصريح الزنى. وهو أن يقول لها: يا زانية، أو: زنيت، أو رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبدا، أو محدودا في قذف، والمرأة محصنة: حدّ كما في قذف الأجنبيات، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان: أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، ويقول في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رمانى به من الزنى. وعند الشافعي رضى الله عنه: يقام الرجل قائما حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له: إنى أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، وقال: اللعان بمكة بين المقام والبيت، وبالمدينة على المنبر، وبيت المقدس في مسجده، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام، لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ثم يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم، إلا عند زفر، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتى: لا فرقة أصلا. وعند الشافعي رضى الله عنه تقع بلمان الزوج، وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبى حنيفة ومحمد رضى الله عنهما ولا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحدّ جاز أن يتزوجها. وعند أبى يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رضى الله عنهم: هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه.
وروى أن آية القذف لما نزلت «1» قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام
__________
(1) . وفي الخازن: سبب نزول هذه الآية ما روى عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم ابن عدى فقال لعاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أيضا عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البينة أو حدّ في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك فنزل جبريل بقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ- الآية.
(3/215)
عاصم بن عدى الأنصارى رضى الله عنه فقال: جعلني الله فداك، إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين وردّت شهادته أبدا وفسق، وإن ضربه بالسيف قتل، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى: اللهم افتح. وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال: ما وراءك؟ قال شر: وجدت على بطن امرأتى خولة- وهي بنت عاصم- شريك بن سحماء، فقال: هذا والله سؤالى، ما أسرع ما ابتليت به! فرجعا، فأخبر عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة فقالت: لا أدرى، ألغيرة أدركته؟
أم بخلا على الطعام- وكان شريك نزيلهم- وقال هلال: لقد رأيته على بطنها. فنزلت، ولا عن بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قوله وقولها: أنّ لعنة الله عليه، إن غضب الله عليها: آمين، وقال القوم: آمين، وقال لها: إن كنت ألممت بذنب فاعترفى به، فالرجم أهون عليك من غضب الله، إن غضبه هو النار. وقال: تحينوا بها الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج «1» يضرب إلى السواد فهو لشريك، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس رضى الله عنهما: فجاءت بأشبه خلق الله لشريك. فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . وقرئ: ولم تكن، بالتاء، لأنّ الشهداء جماعة. أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ أربع أن ينتصب، لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ وهي مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات بالله. وقرئ أن لعنة الله، وأن غضب الله:
على تخفيف أن ورفع ما بعدها. وقرئ: أن غضب الله، على فعل الغضب. وقرئ: بنصب الخامستين «2» ، على معنى: وتشهد الخامسة. فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظا عليها، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها «3» وإطماعها،
__________
(1) . قوله «فان جاءت به أصيهب أثيبج» في الصحاح «الصهبة» الشقرة في شعر الرأس والرجل أصهب. وفيه: ثبج كل شيء وسطه. والأثبج: العريض الثبج ويقال الناتئ الثبج اه وما في الحديث تصغيرهما. وفيه أيضا «الخدلجة» بتشديد اللام المرأة الممتلئة الذراعين والساقين. (ع)
(2) . قوله «وقرئ بنصب الخامستين» في النسفي: أنه لا خلاف في رفع الخامسة الأولى على المشهور. (ع)
(3) . قوله «بخلابتها» في الصحاح «الخلابة» الخديعة باللسان. (ع)
(3/216)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخولة «فالرجم أهون عليك من غضب الله» .
[سورة النور (24) : آية 10]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
الفضل: التفضل، وجواب «لولا» متروك، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
[سورة النور (24) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك.
وأصله: الأفك، وهو القلب، لأنه قول مأفوك عن وجهه. والمراد: ما أفك به على عائشة رضى الله عنها. والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة. واعصوصبوا:
اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبىّ رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقرئ: كبره بالضم والكسر، وهو عظمه «1» . والذي تولاه عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلا إلى الغميزة.
أى يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه. والعذاب العظيم لعبد الله، لأنّ معظم الشرّ كان منه. يحكى أن صفوان رضى الله عنه مرّ بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضى الله عنها، فقال:
والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها.
والخطاب في قوله هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل رضى الله عنهم. ومعنى كونه خيرا لهم:
أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو
__________
(1) . قوله «وهو عظمه» في الصحاح: عظم الشيء: أكثره ومعظمه. (ع)
(3/217)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها.
[سورة النور (24) : آية 12]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
بِأَنْفُسِهِمْ أى بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «1» وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصارى قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت:
لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا. قالت:
ولو كنت أنا بدل عائشة رضى الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير منى، وصفوان خير منك «2» . فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم؟
ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبنى الأمر فيها على الظنّ لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته. كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات.
[سورة النور (24) : آية 13]
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13)
__________
(1) . قال محمود: «معناه ظنوا بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم» قال أحمد:
والسر في هذا التعبير: تعطيف المؤمن على أخيه وتوبيخه على أن يذكره بسوء، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة، ولا شيء أشنع من ذلك، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: ونقل أن أبا أيوب الأنصارى قال لامرأته: ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته، وصفوان خير منك وعائشة خير منى» قال أحمد: ولقد ألهمت بنور الايمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان، ونفسها منزلة عائشة، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بطريق الأولى رضى الله عنها. ويحتمل والله أعلم خلاف ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة، والمقصود إلزام سيئ الظن بنفسه، لأنه لم يعتد بوازع الايمان في حق غيره، وألغاه واعتبره في حق نفسه، وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى، والله أعلم.
(3/218)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب: ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضى الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة وكانوا عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع: من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟
[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 15]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
لولا الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى: ولولا أنى قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض إِذْ ظرف لمسكم، أو لأفضتم تَلَقَّوْنَهُ يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه. ومنه قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وقرئ على الأصل: تتلقونه. وإذ تلقونه، بإدغام الذال في التاء «1» . وتلقونه، من لقيه بمعنى لقفه. وتلقونه، من إلقائه بعضهم على بعض. وتلقونه وتألقونه، من الولق والألق: وهو الكذب. وتلقونه: محكية عن عائشة رضى الله عنها، وعن سفيان: سمعت أمى تقرأ: إذ تثقفونه «2» ، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. فإن قلت: ما معنى قوله بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان «3» . وهذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ،
__________
(1) . قوله «وإذ تلقونه» لعل رسمه هكذا «واتلقونه» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)
(2) . قوله «سمعت أمى تقرأ إذا تثقفونه» وفي نسخة تنقفونه، بمعنى تتبعونه، وكلا النسختين قراءة. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت القول لا يكون إلا بالأفواه، فما فائدة ذكرها؟ قلت: المراد أن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب، وإنما هو مجرد قول اللسان» قال أحمد: ويحتمل أن يكون المراد المبالغة، أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم، وهذا أشد وأقطع، وهو السر الذي أنبا عنه قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ والله أعلم.
(3/219)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
أى: تحسبونه صغيرة وهو عند الله كبيرة موجبة «1» . وعن بعضهم أنه جزع عند الموت، فقيل له، فقال: أخاف ذنبا لم يكن منى على بال وهو عند الله عظيم. وفي كلام بعضهم: لا تقولنّ لشيء من سيئاتك حقير، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها، أحدها: تلقى الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. والثاني: التكلم مما لا علم لهم به. والثالث: استصغارهم لذلك و «وعظيمة من العظائم.
[سورة النور (24) : آية 16]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)
فإن قلت: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قلت: فأىّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهمّ وجب التقديم. فإن قلت: فما معنى يكون، والكلام بدونه متلئب «2» لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟
قلت: معناه معنى: ينبغي، ويصح أى: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا. وما يصح لنا. ونحوه:
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. وسُبْحانَكَ للتعجب من عظم الأمر «3» . فإن قلت:
ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة. فإن قلت: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ قلت: لأنّ الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم،
__________
(1) . قوله «وهو عند الله كبيرة موجبة» لعله موجبة للعقاب. (ع)
(2) . قوله «والكلام بدونه متلئب» لعله: محرف، وأصله مستتب. وفي الصحاح: استتب الأمر: تهيأ واستقام. (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «معناه التعجب من عظم الأمر، وأصله أن الإنسان إذا رأى عجيبا من صنائع الله تعالى سبحه، ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه، ثم أوردها هنا سؤالا على توبيخهم على ترك التعجب فقال:
إن قلت: لم جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة، ولم يكن كفرها متعجبا منه وفجورها متعجب منه؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويتزلفوا إليهم، وكفر الزوجة غير مانع ولا منفر بخلاف الكشخنة» قال أحمد: وما أورد عليه أبرد من هذا السؤال، كأن أحدا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة، مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كل لبيب، والله الموفق،
(3/220)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
فيجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم، ولم يكن الكفر عندهم مما ينفر. وأما الكشخنة «1» فمن أعظم المنفرات.
[سورة النور (24) : الآيات 17 الى 18]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
أى كراهة أَنْ تَعُودُوا أو في أن تعودوا، من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه.
وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين. وإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج لهم ليتعظوا، وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصادّ عن كل مقبح، ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع، ويعلمكم من الآداب الجميلة، ويعظكم به من المواعظ الشافية، والله عالم بكل شيء، فاعل لما يفعله بدواعى الحكمة.
[سورة النور (24) : آية 19]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)
المعنى: يشيعون الفاحشة عن قصد إلى الإشاعة، وإرادة ومحبة لها، وعذاب الدنيا الحدّ، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبىّ وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف، وكفّ بصره. وقيل: هو المراد بقوله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في القلوب من الأسرار والضمائر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعنى أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبة عليها.
[سورة النور (24) : آية 20]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
وكرّر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفا جواب لولا كما حذفه ثمة. وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغة عظيمة، وكذلك في التوّاب والرءوف والرحيم.
[سورة النور (24) : آية 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب:
__________
(1) . قوله «الكشخنة» كأنها الدياثة. (ع)
(3/221)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
ضرائر حرمىّ تفاحش غارها «1»
أى: أفرطت غيرتها. والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: خطوات، بفتح الطاء وسكونها. وزكى بالتشديد، والضمير لله تعالى، ولولا أنّ الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك، ولكن الله يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بضمائرهم وإخلاصهم.
[سورة النور (24) : آية 22]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وهو من ائتلى إذا حلف: افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهدا، إذا لم تدخر منه شيئا. ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتأل. والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط:
آلى أن لا ينفق عليه، وكفى به داعيا إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسىء. ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على أبى بكر، فقال: بلى أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: أن تؤتوا، بالتاء على الالتفات. ويعضده قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.
[سورة النور (24) : آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)
الْغافِلاتِ السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر،
__________
(1) .
لهن نشيج بالنشيل كأنها ... ضرائر حرمي تفاحش غارها
الضمير للقدور. والنشيج: الصوت، كالنئيج. يقال: نشجت القدر ونشج الباكي، وطعنة ناشجة: تبك دما. والباء للملابسة. والنشيل: اللحم المطبوخ: ينشل من القدر. والضرائر: نسوة الرجل، لأن كلا منهن تريد ضر الأخرى والحرمي: نسبة إلى الحرم، كالجسم لغة في حرم مكة. والتفاحش: الافراط في القبح. والغار، الغيرة، أو الوجيب والصياح، وهو أنسب بالتشبيه.
(3/222)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات. قال:
ولقد لهوت بطفلة ميّالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها «1»
وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام «أكثر أهل الجنة البله» .
[سورة النور (24) : الآيات 24 الى 25]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وقرئ: يشهد، بالياء. والحق: بالنصب صفة للدين وهو الجزاء، وبالرفع صفة لله، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف. واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأنّ ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك.
ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها. وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: إنى عبد الله. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إناقة محل سيد ولد آدم، وخيرة الأوّلين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمّل كيف
__________
(1) . لهوت: تلاهيت ولعبت، بطفلة- بالفتح- أى: امرأة ناعمة لينة، يقال: امرأة طفلة الأنامل، أى:
رخصتها لينتها، ميالة: مختالة، بلهاء: غافلة لا مكر عندها ولا دهاء، فلذلك تطلعني على ضمائرها.
(3/223)
غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفى التهمة عن حجابه. فإن قلت: إن كانت عائشة هي المرادة فكيف قيل المحصنات «1» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يخصصن بأن من قذفهنّ فهذا الوعيد لا حق به، وإذا أردن وعائشة كبراهنّ منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت المرادة أوّلا.
والثاني: أنها أمّ المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمّة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال:
قدنى من نصر الخبيبين قدى «2»
أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه، وكان مضعوفا «3» ، وكنيته المشهورة أبو بكر، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة. فإن قلت: ما معنى قوله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ؟ قلت: معناه ذو الحق البين، أى: العادل الظاهر العدل، الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه.
__________
(1) . قال محمود: «إن كانت عائشة هي المرادة، فلم جمع؟ قلت: المراد إما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون هذا الوعيد لاحقا بقاذفهن، وإما عائشة وجمعت إرادة لها ولبناتها، كما قال:
قدنى من نصر الخبيبين قدى
يعنى عبد الله بن الزبير وأشياعه وكان يكنى أبا خبيب» قال أحمد: والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، على أن تعميم الوعيد أبلغ وأقطع من تخصيصه وهذا معنى قول زليخا ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ فعممت وأرادت يوسف، تهويلا عليه وإرجافا، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
(2) .
قدنى من نصر الخبيبين قد ... ليس الامام بالشحيح الملحد
ولا يوتن بالحجاز مفرد ... إن ير يوما بالقضاء يصطد
أو ينجحر فالجحر شر محكد
لحميد الأرقط. وقيل: لأبى بحدلة يخاطب عبد الملك بن مروان. وقدنى: بمعنى حسبي. وكرر للتوكيد. والخبيبين يروى بصيغة التثنية، يعنى عبد الله بن الزبير وابنه خبيب، وكانوا إذا ذموه كنوه بأبى خبيب بالتصغير. ويروى بصيغة الجمع، يعنى: عبد الله وشيعته، كان ادعى الخلافة فقال الشاعر: لا يكون الامام شحيحا أى بخيلا، ولا ملحدا أى محتكرا أو محاربا في الحرم. والإلحاد: الميل. والوتن بالسكون، والواتن بالمثناة، وبالمثلثة: الثابت الدائم، يوصف به الماء ونحوه. ويروى: يوبر، والوبر حيوان صغير ذليل لا ذنب له يحبس ويعلف، ومفرد: يروى بالفاء وبالقاف. وقرد الرجل: سكت من عي. وأفرد: سكن وتماوت. وأقردت الشيء: جمعته وصممته وهو منه. ويصطد: مبنى للمجهول، وهو يناسب رواية وبر. والانجحار: دخول الجحر. والمحكد. الملجأ والمهرب. وحاشا لابن الزبير أن يكون ملحدا.
(3) . قوله «وكان مضعوفا» في الصحاح: أضعفت الشيء فهو مضعوف، على غير قياس. (ع)
(3/224)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
[سورة النور (24) : الآيات 24 الى 26]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
أى الْخَبِيثاتُ من القول تقال أو تعد لِلْخَبِيثِينَ من الرجال والنساء وَالْخَبِيثُونَ منهم يتعرضون لِلْخَبِيثاتِ من القول، وكذلك الطيبات والطيبون. وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم «1» ، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. ويجوز أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت، وأنهم مبرءون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أى: الخبائث يتزوّجن الخباث، والخباث الخبائث، وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً وعن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة: «2» لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجنى، ولقد تزوّجنى بكرا وما تزوج بكرا غيرى، ولقد توفى وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي. وإنّ الوحى لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنى لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
[سورة النور (24) : آية 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
تستأنسوا فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش
__________
(1) . قال محمود: تحتمل الآية أمرين، أحدهما: أن يكون المراد الكلمات الخبيثة للخبيثين، والمراد: الافك ومن أفاض فيه، وعكسه في الطيبات والطيبين. الثاني: أن يكون المراد بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال» قال أحمد: إن كان الأمر على التأويل الثاني، فهذه الآية تفصيل لما أجمله قوله تعالى الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ وقد بينا أنها مشتملة على هذه الأقسام الأربعة تصريحا وتضمينا، فجاءت هذه الآية مصرحة بالجميع. وقد اشتملت على فائدة أخرى وهي الاستشهاد على براءة أم المؤمنين بأنها زوجة أطيب الطيبين، فلا بد وأن تكون طاهرة طيبة مبرأة مما أفكت به، وهذا التأويل الثاني هو الظاهر، فان بعد الآية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وبهذا وعد أزواجه عليه السلام في قوله تعالى نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: ونقل عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة، فذكرت منهن أنها خلقت طيبة عند طيب» قال أحمد: وهذا أيضا يحقق ما ذكرته من أن المراد بالطيبات والطيبين: النساء والرجال، وأن المراد بذلك: إظهار براءة عائشة بأنها زوج أطيب الطيبين، فيلزم أن تكون طيبة، وفاء بقوله وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ والله أعلم.
(3/225)
لأن الذي يطرق باب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم كقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ وهذا من باب الكناية والإرداف، «1» لأنّ هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن. فوضع موضع الإذن. والثاني أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف: استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا. ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحدا، واستأنست فلم أر أحدا، أى: تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة:
على مستأنس وحد «2»
ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه: قلنا يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح: يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع. وعن أبى موسى الأشعرى أنه أتى باب عمر رضى الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاثا واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعليه، فإنه لا يحسن أن يستأذن. قولي له يقول: السلام عليكم أأدخل
__________
(1) . قال محمود: «فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش، أى: حتى يؤذن لكم فتستأنسوا، عبر بالشيء عما هو رادف له. الثاني: أن يكون من الاستعلام من آنس إذا أبصر. والمعنى:
حتى تستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا؟ وذكر أيضا وجها بعيدا، وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا؟» قال أحمد: فيكون على هذا الأخير بنى من الانس استفعل، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة: ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة ذكر فان له فائدة وثمرة تميل النفوس اليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقدير عدم الاستئذان ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) .
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد
للنابغة، يصف جمله بأنه كحمار الوحش المسرع خوفا مما رآه. وقال الأصمعى: زال النهار: انتصف، ولعله لزوال الشمس فيه عن وسط السماء. ويجوز أن المعنى: مضى ولم يبق منه إلا قليل، كما هو متبادر إسناد الزوال إلى النهار. وبنا: أى علينا. ويجوز أن الباء للملابسة. والجليل. شجر له خوص كخوص النخل. وذو الجليل:
موضعه. والمستأنس: الذي يرفع رأسه، هل يرى شخصا؟ وقيل: الذي يخاف الأنيس. واستأنست بالشيء: سكن إليه قلبي. واستأنست: استعلت واستبصرت وخفت من الأنيس. والوحد. المنفرد: ووحد كظرف، فهو وحيد. ووحد كسبب، ووحد كحذر: انفرد، أى كان الرجل فوق ذلك الحمار لا فوق الجمل، لسرعة سيره كالحمار.
(3/226)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل «1» . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا، وحييتم مساء، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل. وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك: بينا أنت في بيتك، إذا رعف عليك الباب «2» . بواحد، من غير استئذان ولا تحية من تحايى إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟ وفي قراءة عبد الله: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو حتى تستأذنوا، فأخطأ الكاتب. ولا يعوّل على هذه الرواية. وفي قراءة أبىّ: حتى تستأذنوا ذلِكُمْ الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ من تحية الجاهلية والدمور- وهو الدخول بغير إذن- واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك، كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب. وفي الحديث «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» «3» وروى أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمى؟ قال:
نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيرى، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة قال الرجل: لا. قال: فاستأذن «4» لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أى أنزل عليكم. أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.
[سورة النور (24) : آية 28]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
يحتمل فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً من الآذنين فَلا تَدْخُلُوها واصبروا حتى تجدوا من
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية سفيان السمان: سمعت سعيد بن جبير ولم يسم روضة، قال فيه: «وقال لخادمه» .
(2) . قوله «إذا رعف عليك الباب» في الصحاح: رعف الرجل، إذا خرج الدم من أنفه. ورعف الفرس، إذا سبق وتقدم، فكان ما هنا مجاز على وجه التشبيه. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني من طريق أبى السفر عن يزيد بن شريح عن أبى أمامة بلفظ «من أدخل عينه في بيت من غير إذن أهله فقد دمره ولإبراهيم الحربي في الغريب من حديث ثور بن يزيد عن يزيد بن شريح عن أبى حى المؤذن عن أبى هريرة بلفظ «لا يحل لمسلم أن ينظر في بيت حتى يستأذن فان فمل فقد دمر» قال أبو عبيدة في غريب الحديث: حدثنا هشيم عن منصور بن الحسن بلفظه مرسلا قال قال الكسائي «دمر» بالتخفيف أى دخل بغير إذن. [.....]
(4) . أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عطاء بن يسار «أن رجلا سأل» فذكره مرسلا، وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء. وأورده الطبري من طريق زياد بن سعد عن عطاء مرسلا أيضا وقال ابن أبى شيبة في النكاح: حدثنا ابن عيينة عن زيد بن أسلم فذكره مرسلا
(3/227)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها، وذلك أنّ الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك فلا بدّ من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب فَارْجِعُوا أى لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين، لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصا إذا كانوا ذوى مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدى إليها: من قرع الباب بعنف، والتصبيح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس. وعن أبى عبيد: ما قرعت بابا على عالم قط. وكفى بقصة بنى أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. فإن قلت: هل يصح أن يكون المعنى: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا، ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت: بعد أن جزم النهى عن الدخول مع فقد الإذن وحده من أهل الدار حاضرين وغائبين، لم تبق شبهة في كونه منهيا عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن. فإن قلت: فإذا عرض أمر في دار: من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت: ذلك مستثنى بالدليل، أى: الرجوع أطيب لكم وأطهر، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة. أو أنفع وأنمى خيرا. ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.
[سورة النور (24) : آية 29]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكون منها، وذلك نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحرّ والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى أن أبا بكر رضى الله عنه قال: يا رسول الله، إنّ الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن «1» ؟ فنزلت. وقيل. الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
__________
(1) . لم أجده
(3/228)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
[سورة النور (24) : آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
من للتبعيض، والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ. وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه. فإن قلت: كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفروج؟
قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع. ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وثديهنّ وأعضادهنّ وأسوقهنّ وأقدامهنّ وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين. وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثنى منه. ويجوز أن يراد- مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل- حفظها عن الإبداء. وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا، إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه خَبِيرٌ بأفعالهم وأحوالهم، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم- إذ عرفوا ذلك- أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
[سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبى إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأسا، ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك.
وغضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم- وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله،
(3/229)
أليس أعمى لا يبصر؟ قال: أفعميا وان أنتما؟ «1» ألستما تبصرانه؟ فإن قلت: لم قدّم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. الزينة: ما تزينت به المرأة من حلىّ أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة «2» والكحل والخضاب. فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر، لأنّ هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن، فنهى عن إبداء الزين نفسها. ليعلم أنّ النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع- بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مفال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها «3» فإن قلت. ما تقول في القراميل «4» ، هل يحل نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم. فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها، وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذى ما تحت السرة؟ قلت: الأمر كما قلت، ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلا فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلا عن هؤلاء، إلا إذا كان يصف لرقته فلا يحل النظر إليه، فلا يحل النظر إلى القراميل واقعة عليه. فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة؟
ذلك العضو كله، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني كلهم من رواية بنهان كاتب أم سلمة عنها. قال النسائي: لا نعلم رواه عن بنهان إلا الزهري وقال إسحاق في مسنده: أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا مغول عن يونس عن الزهري عن نهان عن أم سلمة قالت «استأذن ابن أم مكتوم وأنا وزينب عنده- الحديث. ومندل ضعيف خالف في ذكر زينب بدل ميمونة.
(2) . قوله «والفتخة ... الخ» في الصحاح: الفتخة- بالتحريك- حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها. وفيه «الإكليل» شبه عصابة تزين بالجوهر، ويسمي التاج:
إكليلا. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد النهي عن إبداء مواضع الزينة، فليس النهى عن إظهار الزينة مقصودا لعينه، ولكن جعل نفسها كناية عن إبداء مواقعها بطريق الأولى» قال أحمد: وقوله تعالى عقيب ذلك وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ محقق أن إبداء الزينة بعينه مقصودا بالنهى، لأنه قد نهى عما هو ذريعة إليه خاصة، إذ الضرب بالأرجل لم يعلل النهى عنه إلا بعلم أن المرأة ذات زينة وإن لم تظهر، فضلا عن مواضعها، والله أعلم.
(4) . قوله «القراميل» في الصحاح: القراميل، ما تشده المرأة في شعرها. (ع)
(3/230)
بالوسمة «1» في حاجبيه وشاربيه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء. فإن قلت: لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهنّ، وهذا معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها يعنى إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما سومح في الزينة الخفية. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهنّ حتى يغطينها، ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسمية بما يليها ويلابسها. ومنه قولهم: ناصح الجيب. وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه. وعن عائشة رضى الله عنها: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها «2» المرحل فصدعت منه صدعة، فاختمرن، فأصبحن كأن على رءوسهن الغربان»
. وقرئ: جيوبهن، بكسر الجيم لأجل الياء. وكذلك بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ قيل في نسائهن: هنّ المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. عن ابن عباس رضى الله عنهما. والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء، كلهنّ سواء في حلّ نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: ما ملكت أيمانهنّ هم الذكور والإناث جميعا. وعن عائشة رضى الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت
__________
(1) . قوله «والخضاب بالوسمة» في الصحاح: الوسمة- بكسر السين- العظلم يختضب به، وتسكينها لغة. وفيه «العظلم» نبت يصبغ به. وفيه أيضا «الغمرة» طلاء يتخذ من الورس. (ع)
(2) . قوله «قامت كل واحدة منهن إلى مرطها» في الصحاح «المرط» كساء من صوف أو خز كان يؤتزر به.
وفيه أيضا «مرط مرحل» إزار خز فيه علم. (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق مسلم بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية عنها وأتم منه.
وأخرجه ابن مردويه من طريق داود بن عبد الرحمن ومن طريق روح بن القاسم. كلاهما عن ابن خثيم. وأخرجه أبو داود مختصرا من وجه آخر عن قرة عن الزهري عن عروة عن عائشة. ونقله البخاري قال قال أحمد بن شبيب: حدثنا أبى عن يونس عن الزهري به: قلت ووصله ابن مردويه من طريق أحمد بن شبيب.
(3/231)
فأنت حر «1» . وعن سعيد بن المسيب مثله «2» ، ثم رجع وقال: لا تغرنكم آية النور، فإن المراد بها الإماء «3» . وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبى منها، خصيا كان أو فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصى، فتقنعت منه، فقال: هو خصىّ فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرّم الله «4» ؟ وعند أبى حنيفة: لا يحل استخدام الخصيان وإمساكهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم. فإن قلت:
روى أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصىّ فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه «5» ، أو لسبب من الأسباب. الْإِرْبَةِ الحاجة، قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن. أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة. وقرئ غَيْرِ بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجرّ على الوصفية. وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس. ويبين ما بعده أن المراد به الجمع. ونحوه نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. لَمْ يَظْهَرُوا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أى: لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من ظهر على فلان إذا قوى عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أى: لم يبلغوا أو ان القدرة على الوطء. وقرئ: عورات، وهي لغة هذيل. فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال؟
قلت: سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن
__________
(1) . هذا ملفق من أثرين، الأول: أخرجه البيهقي من طريق عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال استأذنت على عائشة فقالت: سليمان؟ ادخل. فإنك عبد ما بقي عليك درهم وعلقه البخاري عن سليمان والثاني أخرجه ابن سعد من رواية محمد بن على بن الحسين «أن عائشة رضى الله عنها قالت: إذا كفنت ودفنت وحنطت ودلانى ذكوان في حفرتي فهو حر» وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج. أخبرنى ابن أبى مليكة أن عائشة رضى الله عنها قالت «إذا غيبنى أبو عمرو ودلانى في حفرتي فهو حر» .
(2) . لم أره
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية طارق عن سعيد بن المسيب «لا تغرنكم الآية: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إنما عنى الإماء دون العبيد»
(4) . لم أجده قلت: ذكره المسعودي في مروج الذهب بغير إسناد.
تنبيه: وقع في الكشاف الكلابية. والصواب الكلبية بسكون اللام. والقصة ذكرها غيره ببنت قرظة.
(5) . أخرجه ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا يعقوب بن أبى صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة قال «أهدى المقوقس صاحب الاسكندرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة. مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهب وعشرين ثوبا وبغلة. وحماره عفيرا وخصيا يقال له ما يود. فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها ثم أسلم الخصى بعد» وقع ذكر الخصى هذا في عدة أحاديث منها حديث على رضى الله عنه.
وقوله «هذا ضعيف، ولا يقبل فيما تعم به البلوى، إلا حديث مكشوف إن صح. ولعله قبله ليعتقه» اه. وليس هذا فيما تعم به البلوى في شيء. [.....]
(3/232)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية «1» إلا العم والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم، فيدانى تصوّره لها بالوصف نظره إليها، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهى عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها. وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمرّ على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. وقرئ: أيه المؤمنون، بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.
[سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
الْأَيامى واليتامى: أصلهما أيائم ويتائم، فقلبا. والأيم: للرجل والمرأة. وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال:
فإن تنكحى أنكح وإن تتأيّمى ... وإن كنت أفتي منكم أتأيّم «2»
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم «4» ، والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من
__________
(1) . قوله «يشترك الأب والابن في المحرمية» الرابط محذوف، أى: يشترك بها الأب ... الخ. (ع)
(2) . آم الرجل- بالمد- والمرأة. وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، يقول لمحبوبته، إن تتزوجي أتزوج وإن لم تتزوجي لم أتزوج. وجملة «وإن كنت أفتى منكم» اعتراضية. والأفتى الأكثر فتية وشبابا. وعبر بضمير جمع الذكور للتعظيم، ورفع المضارع في جواب الشرط كما هنا قليل، ولعله ارتكبه لأجل القافية.
(3) . لم أجده
(4) . قوله «من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم» في الصحاح «العيمة» شهوة اللبن. وفيه: «الغيم» العطش وحر الجوف اه وهو يفيد أن «الغيمة» المرة من ذلك. وفيه «الأيامى» الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. وآمت المرأة من زوجها تئيم أيمة. وفيه: كزم الشيء بمقدم فيه، أى: كسره واستخرج ما فيه. وفيه:
قرم الصبى والبهم قرما، وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. والقرم- بالتحريك-: شدة شهوة اللحم اه. ويروى في الحديث «القذم» بالذال بدل الراء. وفي الصحاح: القذم على وزن الهجف: الشديد. وفيه أيضا: الهجف من النعام ومن الناس. الجافي الثقيل. قال الكميت:
هو الأضبط الهواس فينا شجاعة ... وفيمن يعاديه الهجف المثقل
ولا يستقيم الوزن إلا بتشديد الفاء. وفيه «الهواس» : الأسد (ع)
(3/233)
غلمانكم وجواريكم. وقرئ: من عبيدكم. وهذا الأمر للندب لما علم من أنّ النكاح أمر مندوب إليه «1» ، وقد يكون الوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك، وعند أصحاب الظواهر: النكاح واجب. ومما يدل على كونه مندوبا إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي وهي النكاح» «2» وعنه عليه الصلاة والسلام «من كان له ما يتزوّج به فلم يتزوج فليس منا» «3» . وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا تزوّج أحدكم عج «4» شيطانه:
يا ويله، عصم ابن آدم منى ثلثي «5» دينه» وعنه عليه الصلاة والسلام: «يا عياض لا تزوّجن عجوزا ولا عاقرا، فإنى مكاثر «6» » والأحاديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدّى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا
__________
(1) . قال محمود: «هذا أمر والمراد به الندب، ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك، وأدرج فيها قوله عليه الصلاة والسلام: من وجد نكاحا فلم ينكح فليس منا» قال أحمد: وهذا بأن يدل على الوجوب أولى، ولكن قد ورد مثله في ترك السنن كثيرا، وكأن المراد: من لم يستن بسنتنا، على أنه قد ورد في الواجب كقوله «من غشنا فليس منا» ومجانبة الغش واجبة «ومن شهر السلاح في فتنة فليس منا» ومثله كثير
(2) . أخرجه عبد الرزاق من رواية عبيد بن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره مرسلا وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه فكأنه ظن أن عبيد بن سعيد له صحبة. ولابن عدى من رواية أبى حرة واصل ابن عبد الرحمن عن الحسن عن أبى هريرة بلفظ «من أحب فطرتي فليتبعن سنتي وإن من سنتي النكاح»
(3) . أخرجه أبو داود في المراسيل وأحمد وإسحاق والدارمي والطبراني وعبد الرزاق وابن أبى شيبة كلهم من رواية أبى المفلس عن أبى نجيح رفعه «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منا» وأخرجه الثعلبي من هذا الوجه، بلفظ المصنف، قال ابن راهويه: رواه بعضهم عن ابن جريج عن أبى المفلس عن أبى نجيح عمرو بن عبسة قال.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو غلظ. وليس أبو نجيح هذا عمرو بن عبسة. وقد رواه الحارث بن أبى أسامه في مسنده عن الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج حدثني أبو المفلس سمعت أبا نجيح السلمي يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكر نحوه.
(4) . قوله «عج شيطانه» أى: صاح. (ع)
(5) . أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط. والثعلبي من رواية صالح مولى التوأمة عن جابر. وعن بعضهم عن أبى هريرة بدل جابر وفي إسناده خالد بن إسماعيل المخزومي وهو متروك
(6) . أخرجه الحاكم والثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن يحيى بن جابر عن جبير بن معمر عن عياض بن غنم الأشعرى ومعاوية ضعيف، وقوله: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة اه. فمنها حديث أنس رضى الله عنه في الصحيحين «أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء ... الحديث» وفيه «لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى» ومنها حديث ابن مسعود رضى الله عنه «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» متفق عليه وقد تقدم في المائدة. وحديث أنس رضى الله عنه: «كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل» وأخرجه ابن حبان وحديث «تزوجوا توالدوا وتناسلوا فانى مباه بكم الأمم» له طرق في السنن وغيرها. وحديث عطية بن بشر في قصة عكاف بن وداعة الهلالي في الحضّ على التزويج. وفيه «إن شراركم عزابكم» رواه إسحاق في مسنده أخبرنا نضية عن معاوية بن يحيى الصدفي أنه حدثه عن سليمان بن موسى عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن عطية بن بشر بطوله. رواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية ابن عتبة عن برد بن سنان عن مكحول عن عطية بن بشر لم يذكر غضيف وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن مكحول عن أبى ذر فذكر نحوه ومنها حديث أنس رضى الله عنه «من تزوج فقد استكمل نصف الايمان فليتق الله في النصف الثاني» أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف جدا وسيأتى باقيها بعد.
(3/234)
أتى على أمتى مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤس الجبال «1» » وفي الحديث «يأتى على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة «2» » فإن قلت: لم خص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأنّ الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودّة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم. وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. أو أريد بالصلاح: القيام بحقوق النكاح. ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسية في هذا الموعد ونظائره وهي مشيئته «3» ، ولا يشاء الحكيم
__________
(1) . أخرجه البيهقي والثعلبي من حديث ابن مسعود. وفي إسناده سليمان بن عيسى الخراساني وهو كذاب.
ومن طريقه رواه ابن الجوزي في الموضوعات، لكن له طريق أخرى. أخرجه على بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية عن الحسن بن واقد الحنفي. قال: أظنه من حديث بهز بن حكيم فذكره وهو متصل.
(2) . أخرجه على بن معبد في الطاعة والمعصية حدثنا عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتى على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق، ومن حجر إلى حجر، فإذا كان ذلك حلت العزوبة. قيل كيف تحل العزوبة- فذكر حديثا طويلا» وصله الخطابي في العزلة من طريق السعرى بن يحيى عن الحسن عن أبى الأحوص عن عبد الله. وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف.
(3) . عاد كلامه. قال: «ينبغي أن تكون شريطة الحكمة والمصلحة غير منسية: واستشهد على ذلك بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ قال أحمد: جنوحه للمعتقد الفاسد يمنع عليه الصواب، فان معتقده وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، فمن ثم شرط الحكمة والمصلحة محجرا واسعا من فضل الله تعالى، ثم استشهد على ذلك بما يشهد عليه لا له، فان قوله تعالى في الآية الأخرى إِنْ شاءَ يقتضى أن وقوع الغنى مشروط بالمشيئة خاصة، وهذا معتقد أهل الحق، فطاح اشتراط الحكمة عن محل الاستدلال، تعالى عن الإيجاب رب الأرباب، لكن ينبغي التنبه لنكتة تدعو الحاجة إلى التنبيه عليها، ليعم نفعها ويعظم وقعها إن شاء الله. وذلك أنا إذا بنينا على أن ثم شرطا محذوفا، لا بد من تقديره ضرورة صدق الخبر، إذ لو اعتقدنا أن الله تعالى يغنى كل متزوج على الإطلاق مع أنا نشاهد كثيرا ممن استمر به الفقر بعد النكاح بل زاد، للزم خلف الوعد- تقدس الله وتعالى عن ذلك- فقد ثبت الاضطرار إلى تقدير شرط للجمع بين الوعد والواقع، فالقدرية يقولون: المراد إن اقتضت الحكمة ذلك، فكل من لم يغنه الله بأثر التزوج فهو ممن لم تقتض الحكمة إغناءه. وقد أبطلنا أن يكون هذا الشرط هو المقدر، وحتمنا أن المقدر شرط المشيئة كما ظهر في الآية الأخرى، وحينئذ فكل من يستغن بالنكاح فذلك لأن الله تعالى لم يشأ غناه. فلقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة، فمن مستغن به، ومن فقير كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم، وليس هذا كاقرار شرط المشيئة في الغفران للموحد العاصي، فان الوعد ثم له ارتباط بالتوحيد. وإن ارتبط بالمشيئة أيضا، من حيث أن غير الموحد لا يغفر الله له حتما، ولا تستطيع أن تقول: وغير الناكح لا يغنيه الله حتما، لأن الواقع يأباه. فالجواب- وبالله التوفيق-: أن فائدة ربطه الغنى بالنكاح: أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبب جل وعلا، حتى غلب الوهم على العقل، فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما، وإن كان واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع بالايذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام لنفاد المال، وقد يقدر الاملاق مع عدمه الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام والواقع يشهد بذلك فلا مراء، فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر مرتبطات بمسبباتها ارتباطا لا ينفك ليست على ما يزعمونه، وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب، غير موقوف، تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة، وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح، لأنه استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار، وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه، وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس، فمعنى قوله حينئذ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ.... الآية أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله، فعبر عن نفى كونه مانعا من الغنى بوجوده معه، ولا تبطل المانعية، لا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك، فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فان ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة، ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت فلا مانع، فعبر عن نفى المانع بالانتشار بما يفهم تقاضى الانتشار، مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع والله أعلم، فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه.
(3/235)
إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة «1» ، ونحوه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح، وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففنى وأصبح مسكينا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح «2» »
__________
(1) . قوله «إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة» كأنه مبنى على أنه تعالى يجب عليه فعل الصلاح، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: لا يجب على الله شيء. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية مسلم بن خالد وابن مردويه من رواية أبى السائب سلام بن جنادة عن أبى أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعا «تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال» قال الحاكم تفرد به سلام وهو ثقة: وقال البزاز والدارقطني وغير سلام يرويه مرسلا اه. وهو كما قال. وقد أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى أسامة- فلم يذكر عائشة. وكذلك أخرجه أبو داود في المراسيل عن ابن التوأمة عن أبى أسامة وأخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف في تاريخ جرجان من رواية الحسين بن علوان عن هشام موصولا. والحسين متهم بالكذب «تنبيه» ظن المخرج أن هذا يرد على كلام البزار والدارقطني. وليس كما ظن لأنه قال قد تابعه عبد المؤمن العطار وقال أيضا تابعه عبد الله بن ناجية فأما الأول فالمتابع إنما هو الحسين شيخ عبد المؤمن وقد قلنا إنه لا يسوى شيئا. وأما الثاني فإنما رواه ابن ناجية عن أبى السائب نفسه فظهر تفرد أبى السائب بوصله من بين الثقات. وأما الحسين بن علوان فلا تفيد متابعته شيئا لوهنه.
(3/236)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وشكا إليه رجل الحاجة فقال «1» : «عليك بالباءة «2» » وعن عمر رضى الله عنه: عجبت لمن لا يطلب الغنى بالباءة «3» . ولقد كان عندنا رجل رازح الحال، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته؟ فقال: كنت في أول أمرى على ما علمت، وذلك قبل أن أرزق ولدا، فلما رزقت بكر ولدى تراخيت عن الفقر، فلما ولد لى الثاني زدت خيرا، فلما تتاموا ثلاثة صبّ الله علىّ الخير صبا، فأصبحت إلى ما ترى وَاللَّهُ واسِعٌ أى غنىّ ذو سعة لا يرزؤه «4» إغناء الخلائق، ولكنه عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
[سورة النور (24) : آية 33]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وَلْيَسْتَعْفِفِ وليجتهد في العفة وظلف النفس «5» ، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه لا يَجِدُونَ نِكاحاً أى استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح:
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية الدارقطني عن أبى عجلان «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الحاجة. الحديث» .
(2) . قوله «فقال عليك بالباءة» في الصحاح سمى النكاح باء وباءة، لأن الرجل يتبوأ من أهله، أى: يستمكن منها كما يتبوأ من داره، وفيه أيضا «الرازح من الإبل» الهالك هزالا اه، فان كان مختصا بالإبل فقد يتوسع فيه إلى غيرها. (ع)
(3) . رواه هشام بن حسان عن الحسن عن عمر نحوه.
(4) . قوله «لا يرزؤه» أى: لا ينقصه. (ع)
(5) . قوله «وظلف النفس» في الصحاح: ظلف نفسه عن الشيء، أى: منعها. وظلفت نفسي عن كذا بالكسر-: أى كفت. (ع)
(3/237)
ما ينكح به من المال حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها «1» عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ مرفوع على الابتداء. أو منصوب بفعل مضمر يفسره فَكاتِبُوهُمْ كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة: وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق. ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق. ويجوز عند أبى حنيفة رضى الله عنه حالا ومؤجلا. ومنجما وغير منجم لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياسا على سائر العقود. وعند الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز إلا مؤجلا منجما. ولا يجوز عنده بنجم واحد لأنّ العبد لا يملك شيئا، فعقده حالا منع من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلا. ويجوز عقده على مال قليل وكثير، وعلى خدمة في مدة معلومة، وعلى عمل معلوم مؤقت: مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض وبناء دار قد أراه آجرها وجصها وما يبنى به. وإن كاتبه على قيمته لم يجز. فإن أداها عتق.
وإن كاتبه على وصيف «2» ، جاز، لقلة الجهالة ووجب الوسط، وليس له أن يطأ المكاتبة، وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن رضى الله عنه: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر رضى الله عنه: هي عزمة من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله وهو مذهب داود خَيْراً قدرة على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانة وتكسبا. وعن سلمان رضى الله عنه أن مملوكا له ابتغى أن يكاتبه فقال: أعندك مال؟ قال: لا، قال: أفتأمرنى أن آكل غسالة أيدى الناس وَآتُوهُمْ أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله تعالى وَفِي الرِّقابِ عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم. فإن قلت: هل يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق
__________
(1) . قوله «وعزفها عن الطموح إلى الشهوة» في الصحاح: عزفت نفسي عن الشيء: زهدت فيه وانصرفت عنه. (ع)
(2) . قوله «على وصيف» الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية، كذا في الصحاح. (ع)
(3/238)
به عليه؟ قلت. نعم. وكذلك إذا لم تف الصدقة بجميع البدل وعجز عن أداء الباقي طاب للمولى ما أخذه، لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد المكاتبة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها أو وهبت له، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» «1» وعند الشافعي رضى الله عنه: هو إيجاب على الموالي أن يحطوا لهم من مال الكتابة. وإن لم يفعلوا أجبروا. وعن على رضى الله عنه: يحط له الربع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يرضخ له من كتابته شيئا. وعن عمر رضى الله عنه أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية، وهو أوّل عبد كوتب في الإسلام، فأتاه بأوّل نجم فدفعه إليه عمر رضى الله عنه وقال:
استعن به على مكاتبتك فقال: لو أخرته إلى آخر نجم؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك «2» . وهذا عند أبى حنيفة رضى الله عنه على وجه الندب وقال: إنه عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع. وقيل: معنى وَآتُوهُمْ: أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا.
وهذا كله مستحب. وروى أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح: سأل مولاه أن يكاتبه فأبى، فنزلت. كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبىّ رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة: يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
. فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة: عن العبد والأمة. وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتأتي، ولا يقل عبدى وأمتى» «4» والبغاء: مصدر البغي. فإن قلت: لم أقحم قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة الموانية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها «5» .
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها في أثناء حديث في قصة بريرة وعتقها.
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس إلا قوله «وهو أول عبد كوتب في الإسلام» ذكره في آخره من قول عكرمة. وزاد ثم قرأ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ ورواه ابن أبى حاتم من طريق وكيع شيخ ابن أبى شيبة كذلك.
(3) . أخرجه الثعلبي من طريق مقاتل بهذا وسنده إلى مقاتل في أول الكتاب وهو عند مسلم والبزار مختصر من طريق الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. قال «كان لعبد الله بن أبىّ جارية يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة وكان يريدهما على الزنى ... الحديث»
(4) . تقدم في الكهف.
(5) . قال محمود: «إن قلت: لم أقحم قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً؟ قلت: لأن الإكراه لا يكون إلا إذا أردن تحصنا ولا يتصور إلا كذلك، إذ لولا ذلك لكن مطاوعات» ولم يجب بما بشفى العليل. وعند العبد الفقير إلى الله تعالى أن فائدة ذلك- والله أعلم: أن يبشع عند المخاطب الوقوع فيه، لكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي. ووجه التبشيع عليها: أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه، لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها عليها. ولو أبرز مكنون هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه، وعسى هذه الآية تأخذ بالنفوس الدنية، فكيف بالنفوس العربية، والله الموفق.
(3/239)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وكلمة إِنْ وإيثارها على «إذا» إيذان بأن المساعيات كنّ يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حين الشاذ النادر غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم أو لهن. أو لهم ولهنّ إن تابوا وأصلحوا. وفي قراءة ابن عباس: لهن غفور رحيم. فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهنّ، لأن المكرهة على الزنى بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة. قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو، من ضرب عنيف أو غيره حتى تسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحدّ الذي تعذر فيه فتكون آثمة
[سورة النور (24) : آية 34]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
مُبَيِّناتٍ هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود. ويجوز أن يكون الأصل مبينا فيها فاتسع في الظرف. وقرئ بالكسر، أى:
بينت هي الأحكام والحدود، جعل الفعل لها على المجاز. أو من «بين» بمعنى تبين. ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين. وَمَثَلًا مِنَ أمثال من قَبْلِكُمْ أى قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم، يعنى قصة عائشة رضى الله عنها وَمَوْعِظَةً ما وعظ به في الآيات والمثل، من نحو قوله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ:
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
نظير قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مع قوله مَثَلُ نُورِهِ، ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ:
قولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده. والمعنى: ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات، ونور السماوات والأرض الحق، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ: أى من الباطل إلى الحق.
(3/240)
وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض. وإما أن يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به مَثَلُ نُورِهِ أى صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كَمِشْكاةٍ كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب فِي زُجاجَةٍ أراد قنديلا من زجاج شامي «1» أزهر. شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب وهي المشاهير، كالمشترى والزهرة والمرّيخ وسهيل ونحوها يُوقَدُ هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أى ابتدأ ثقوبه من شجرة الزيتون، يعنى: زويت ذبالته «2» بزيتها مُبارَكَةٍ كثيرة المنافع. أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها سبعون نبيا، منهم إبراهيم عليه السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به، فإنه مصحة من الباسور «3» » لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أى منبتها الشام. وأجود الزيتون: زيتون الشام. وقيل: لا في مضحى ولا مقنأة، «4» ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في شجرة في مقنأة، ولا نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى» «5» وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشى جميعا، فهي شرقية وغربية، ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص، «6» وأنه لتلألئه يَكادُ يضيء من غير نار نُورٌ عَلى نُورٍ
أى هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم تبق مما يقوى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة: بقية، وذلك أن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإنّ الضوء ينبث فيه وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه يَهْدِي اللَّهُ لهذا النور الثاقب مَنْ يَشاءُ من عباده، أى: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله
__________
(1) . قوله «شامي» نعت لزجاج، ويوضحه قوله «أزهر» وعبارة النسفي: شامي بكسر الزاى، أى قرأ الشامي:
زجاجة، بكسر الزاى. (ع) [.....]
(2) . قوله «يعنى زويت ذبالته بزيتها» في الصحاح: زويت الشيء: جمعته وقبضته. وانزوت الجلدة في النار، أى: اجتمعت وتقبضت. وفيه «الذبالة» الفتيلة، ولعله «رويت» بالراء» كما في عبارة النسفي.
(3) . أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم في العلل وأبو نعيم في الطب والثعلبي كلهم من طريق عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبى الخير عن عتبة بن عامر بهذا
(4) . قوله «ولا مقنأة» في الصحاح «المقأة» المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.
(5) . لم أجده
(6) . قوله «والوبيص» البريق واللمعان، أفاده الصحاح. (ع)
(3/241)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
والإنصاف من نفسه، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يمينا وشمالا. ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس. وعن علىّ رضى الله عنه:
«الله نور السماوات والأرض» أى نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره. أو نور قلوب أهلها به، وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه: مثل نور من آمن به. وقرئ: زجاجة الزجاجة، بالفتح والكسر:
ودرّىّ: منسوب إلى الدرّ أى، أبيض متلألأ. ودرّىء: بوزن سكيت: يدرأ الظلام بضوئه.
ودريء كمريق. ودرى كالسكينة، عن أبى زيد. وتوقد: بمعنى تتوقد. والفعل للزجاجة. ويوقد، وتوقد، بالتخفيف. ويوقد، بالتشديد. ويوقد بحذف التاء وفتح الياء، لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب. ويمسه بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقى، والضمير فاصل.
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
فِي بُيُوتٍ يتعلق بما قبله، أى، كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل:
مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت. أو بما بعده، وهو يسبح، أى: يسبح له رجال في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيد في الدار جالس فيها. أو بمحذوف، كقوله فِي تِسْعِ آياتٍ أى سبحوا في بيوت. والمراد بالإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي المساجد، أمر الله أن تبنى. أو تعظيمها والرفع من قدرها. وعن الحسن رضى الله عنه: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أوفق له، وهو عام في كل ذكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وأن يتلى فيها كتابه. وقرئ: يسبح، على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعنى: لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ، ورِجالٌ مرفوع بما دلّ عليه يُسَبِّحُ وهو يسبح له. وتسبح، بالتاء وكسر الباء. وعن أبى جعفر رضى الله عنه بالتاء وفتح الباء. ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدوّ والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربها، كصيد عليه يومان. والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل وهو العشى.
والمعنى: بأوقات الغدوّ، أى: بالغدوات. وقرئ: والإيصال، وهو الدخول في الأصيل.
يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح، فإما
(3/242)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خص البيع لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته: ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الريح في الوقت الثاني، لأن هذا يقين وذاك مظنون. وإمّا أن يسمى الشراء تجارة، إطلاقا لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلان تجارة رابحة إذا اتجه له بيع صالح أو شراء. وقيل:
التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه. التاء في إقامة، عوض من العين الساقطة للإعلال. والأصل: إقوام» فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت. ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الّذى وعدوا «1»
وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها: وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ. وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا لا تبصر أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أى أحسن جزاء أعمالهم، كقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى والمعنى يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفا ويزيدهم على الثواب تفضلا. وكذلك معنى قوله الْحُسْنى وَزِيادَةٌ المثوبة الحسنى وزيادة عليها من التفضل. وعطاء الله تعالى: إما تفضل، وإما ثواب، وإما عوض وَاللَّهُ يَرْزُقُ ما يتفضل به بِغَيْرِ حِسابٍ فأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.
[سورة النور (24) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة. يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجرى. والقيعة: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوى من الأرض، كجيرة في جار. وقرئ: بقيعات: بتاء ممطوطة، كديمات وقيمات، في ديمة وقيمة. وقد جعل بعضهم بقيعاة بتاء مدورة، كرجل عزهاة، شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 323 فراجعه إن شئت اه مصححه
(3/243)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام.
[سورة النور (24) : آية 40]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
اللجىّ: العميق الكثير الماء، منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وفي أَخْرَجَ ضمير الواقع فيه لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة في لم يرها أى: لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها. ومثله قول ذى الرمة:
إذا غيّر النّأى المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح «1»
أى لم يقرب من البراح فما باله يبرح؟ شبه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئا، ولم يكفه خيبة وكمدا أن لم يجد شيئا كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا يقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأنّ الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل. أو كونهما مترقبين. ألا ترى إلى قوله وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وقرئ: سحاب ظلمات، على الإضافة. وسحاب ظلمات، برفع سَحابٌ وتنوينه وجرّ كَظُلُماتٍ بدلا من ظُلُماتٌ الأولى.
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
__________
(1) .
إذا غير النأى المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
فلا القرب يدنو من هواها ملالة ... ولا حبها أن تنزح الدار ينزح
لذي الرمة. والنأى: البعد. ويقال: رس وأرس، إذا لزم. والرسيس: بقية المرض اللازمة داخل البدن.
ويبرح: يذهب، أى: لم يقرب من البراح. وروى أنه لما قدم ذو الرمة الكوفة اعترض عليه ابن شبرمة في ذلك بأنه يدل على زوال رسيس الهوى، فغيره ذو الرمة بقوله: لم أجد، وقال ابن عتبة: حدثت أبى بذلك فقال:
أخطأ ابن شبرمة، وأخطأ ذو الرمة في تغييره، وإنما هو كقوله تعالى لَمْ يَكَدْ يَراها والملالة: السآمة. وتنزح:
تبعد. وينزح: يزول.
(3/244)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
صَافَّاتٍ يصففن أجنحتهنّ في الهواء. والضمير في عَلِمَ لكل أو لله. وكذلك في صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والصلاة: الدعاء. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
يُزْجِي يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحد لا يرضاها. والسحاب يكون واحدا كالعماء، وجمعا كالرباب «1» . ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعا «2» فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحد، لأنّ المعنى بين أجزائه، كما قيل في قوله:
... بين الدّخول فحومل «3»
والركام: المتراكم بعضه فوق بعض. والودق: المطر مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه: جمع خلل، كجبال في جبل. وقرئ: من خلله وَيُنَزِّلُ بالتشديد. ويكاد سنا: على الإدغام «4» .
__________
(1) . قوله «كالرباب» في الصحاح: الرباب- بالفتح- سحاب أبيض. (ع)
(2) . قوله «أن يكون قزعا» القزع: قطع من السحاب رقيقة، الواحدة: قزعة. (ع)
(3) .
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لامرئ القيس مطلع معلقته، وروى أنه راهق ولم يقل شعرا، فقال أبوه: إنه ليس أبيض. وأمر اثنين من خاصته أن يخرجا به إلى مكان بعيد فيذبحاه هناك، فلما أرادا ذبحه بكى وأنشأ البيت إلى آخر القصدة، فرجعا به.
وقالا: هذا أشعر من على وجه الأرض: لقد وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر واستذكر وهي الحبيب والدار في نصف بيت. والسقط- مثلث-: طرف اللوى، أى: المكان الملتوى المعوج. وهو هنا اسم مكان بعينه. وبين لا يضاف إلا لمتعدد المعنى، أو معطوف عليه بالواو خاصة، فالمعنى: بين أجزاء الدخول فحومل. أى فأجزاء حومل كلاهما اسم موضع، ولعل «سقط اللوى» ممتد بينهما. ويجوز أن الفاء بمعنى الواو، فيكون «سقط اللوى» بين هذين الموضعين، وتكون استعارة الفاء هنا للدلالة على قرب ما بين الدخول وحومل.
(4) . قوله «ويكاد سنا على الإدغام» لعل رسمه هكذا «يكاسنا» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)
(3/245)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
وبرقه: جمع برقة، وهي المقدار من البرق، كالغرفة واللقمة. وبرقه: بضمتين للإتباع. كما قيل في جمع فعلة: فعلات كظلمات. وسناء برقه: على المدّ المقصور، بمعنى الضوء. والممدود:
بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سنىّ، المرتفع. ويَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ على زيادة الباء، كقوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ عن أبى جعفر المدني. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض ودعاؤهم له وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا. ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر. وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته. ودلائل منادية على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر. فإن قلت: متى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح من في السماوات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال برد في السماء، حتى قيل له: ألم تر؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحى.
فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة في قوله مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ، مِنْ بَرَدٍ؟
قلت: الأولى لابتداء الغاية. والثانية للتبعيض. والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء، والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأوّل مفعول «ينزل» :
«من جبال» . فإن قلت: ما معنى مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ؟ قلت: فيه معنيان. أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب.
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
وقرئ: خالق كل دابة. ولما كان اسم الدابة موقعا على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون. فمن ثمة قيل: فمنهم، وقيل: من يمشى في الماشي على بطن والماشي على أربع قوائم. فإن قلت: لم نكر الماء في قوله مِنْ ماءٍ؟
قلت: لأنّ المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة. أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام ومنها بهائم ومنها ناس.
(3/246)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
ونحوه قوله تعالى يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. فإن قلت: فما باله معرّفا في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس «1» الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط. قالوا: خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجنّ من نار خلقها منه. وآدم من تراب خلقه منه. فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت:
قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشى من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر. ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.
ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة «2» ، والمشفر مكان الشفة. ونحو ذلك. أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.
[سورة النور (24) : الآيات 46 الى 47]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولى، فمعناه على الأوّل: إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولى وحده. وعلى الثاني:
إعلام بأنّ الفريق المتولى لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيمانا، إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادرا عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض.
والتعريف في قوله بِالْمُؤْمِنِينَ دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت: وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم نكر ماء هاهنا وعرفه في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؟ قلت:
الغرض فيما نحن فيه أنه تعالى خلق كل دابة من نوع من الماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها، فمنها كذا ومنها كذا. ونحوه قوله يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ وأما آية «اقترب» فالغرض فيها أن أجناس الحيوانات كلها مخلوقة من هذا الجنس» قال أحمد: وتحرير الفرق أن المقصد في الأولى إظهار الآية بأن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة، ذكر تفصيلها في آية النور والرعد:
والمقصد في آية اقترب: أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع، فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة، فالآية في الأول لإخراج المختلف من المتفق، والله أعلم.
(2) . قوله «مكان الجحفلة» في الصحاح: الجحفلة للحافر، كالشفة للإنسان، اه أى لذي الحافر. (ع)
(3/247)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
[سورة النور (24) : الآيات 48 الى 49]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
معنى إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى رسول الله كقولك: أعجبنى زيد وكرمه، تريد: كرم زيد.
ومنه قوله:
غلّسنه قبل القطا وفرّطه «1»
أراد: قبل فرط القطا. روى: أنها نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودىّ يجرّه إلى رسول الله، والمنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وروى أنّ المغيرة بن وائل كان بينه وبين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه خصومة في ماء وأرض، فقال المغيرة: أمّا محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علىّ إِلَيْهِ صلة يأتوا، لأنّ «أتى و «جاء» قد جاءا معدّيين بإلى، أو يتصل بمذعنين لأنه في معنى مسرعين في الطاعة. وهذا أحسن لتقدّم صلته ودلالته على الاختصاص. والمعنى:
أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المرّ والعدل البحت. يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمّة الخصم «2» .
[سورة النور (24) : آية 50]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
__________
(1) .
ومنهل من الفيافي أوسطه ... غلسنه قبل القطا وفرطه
في ظل أجاج المقيظ مغبطه
المنهل: الوادي ومسيل الماء. والفيافي: الصحارى، جمع فيفاء. والظاهر أن أوسطه صفة منهل المجرور برب المحذوفة، وهاؤه للسكت، ولو جعلته بدل بعض والهاء ضمير المنهل: لزم جر المعرفة برب، مع إمكان التخلص عنه إلا عند من جعل ضمير النكرة نكرة فلا محذور. ويروى: من الفلا في أوسطه. والفلا واحده فلاة، أى: مفازة.
والرواية: غلسنه بالتشديد، أى سرنه في وقت الغلس وهو ظلمة الفجر، أو وردنه فيه. والفرط من القطا:
المتقدمات السابقات لغيرها، جمع فارط، كركع وراكع. وخصها لأنها أسرع الطير خروجا من أوكارها.
وأجاج المقيظ: شعاع الشمس يرى في شدة القيظ أى الحر كأنه يسير. وأجت النار: اشتعلت، والحر: اشتد، والظليم: أسرع وله حفيف، والأمر: اختلط. وأجاج: صفة مبالغة منه. وأغبط الشيء فهو مغبط: دام واستمر فمغبطه الدائم الكثير منه. والمعنى: أنه يبتدئ السير قبل السابقات من القطا، ويستمر عليه مع اشتداد الحر في ظل شعاع الشمس، لا يظله إلا هو إن كان له ظل، وهذا من المبالغة في النفي. ويجوز أنه اعتاده فصار عنده كالظل.
ويجوز أن المعنى: تحت كنفه وسترته وجاهه الشبيه بالظل. [.....]
(2) . قوله «ما ذاب لهم في ذمة الخصم» في الصحاح: ذاب لي عليه من الحق كذا: إذا وجب وثبت. (ع)
(3/248)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوّته، أو خائفين الحيف في قضائه. ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أى لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتمّ لهم جحوده، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثمة يأبون المحاكمة إليه.
[سورة النور (24) : آية 51]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وعن الحسن: قول المؤمنين، بالرفع والنصب أقوى، لأنّ أولى الاسمين بكونه اسما لكان.
أوغلهما في التعريف، وأن يقولوا: أوغل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف قول المؤمنين، وكان هذا من قبيل كان في قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا وقرئ، ليحكم، على البناء للمفعول. فإن قلت: إلام أسند يحكم؟ ولا بدّ له من فاعل. قلت:
هو مسند إلى مصدره، لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، ومثله: جمع بينهما، وألف بينهما.
ومثله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فيمن قرأ بَيْنَكُمْ منصوبا: أى وقع التقطع بينكم. وهذه القراءة مجاوبة لقوله دُعُوا.
[سورة النور (24) : آية 52]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)
قرئ: ويتقه، بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل. وبسكون الهاء. وبسكون القاف وكسر الهاء: شبه تقه بكتف فخفف، كقوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا «1»
ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز. وعن ابن عباس في تفسيرها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في
__________
(1) .
قالت سليمى اشتر لنا سويقا ... وهات خبز البرّ أو دقيقا
للعذافر الكندي. يقال: شار العسل ونحوه، واشتاره: إذا اجتناه وأخذه من مكانه، فقوله «اشتر» أمر من الاشتيار. ويحتمل أنه من الاشتراء، وسكنت راؤه للضرورة، أى: اطلب لنا سويقا. وهو ما تعمله العرب من الحنطة والشعير. وهات: بكسر التاء أمر للمذكر، طلبت منه السويق للأدم، وخيرته بين أن يأتى بخبز وبين أن يأتى بدقيق وهي تخبزه. ويروى: «وهات بر البخس أو دقيقا» والبخس: الأرض التي تنبت من غير سقى، وفي بقية الرجز أنها طلبت منه لحما وخادما وصبغا لثيابها بالعصفر، فقال:
يا سلم لو كنت لذا مطيقا ... ما كان عيشى عندكم ترنيقا
أى: مدة ترنيق الطائر، أى: صف جناحيه في الهواء.
(3/249)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
فرائضه وَرَسُولَهُ في سننه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل.
وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية.
[سورة النور (24) : آية 53]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)
جهد يمينه: مستعار من جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدّتها ووكادتها. وعن ابن عباس رضى الله عنه: من قال بالله، جهد يمينه. وأصل: أقسم جهد اليمين: أقسم يجهد اليمين جهدا، فحذف الفعل وقدّم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول كقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم.
وطاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
خبر مبتدإ محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أى: أمركم والذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها. أو طاعتكم طاعة معروفة، بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
وقرأ اليزيدي: طاعة معروفة، بالنصب على معنى: أطيعوا طاعة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم، وأنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.
[سورة النور (24) : آية 54]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم. يريد:
فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم، فإنّ الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدّى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه. وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلا ناصح وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفع في قبولكم «1» ، ولا عليه ضرر في توليكم:
والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى المبين: كونه مقرونا بالآيات والمعجزات.
[سورة النور (24) : آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
__________
(1) . قوله «في قبولكم» عبارة النسفي: في قلوبكم: (ع)
(3/250)
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه. ومنكم: للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح: وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورّثهم الأرض، ويجعلهم فيها خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل، حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكينه: تثبيته وتوطيده، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه، حتى قال رجل: ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون «1» إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة «2» ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكا، ثم تصير بزيزى «3» :
قطع سبيل، وسفك دماء، وأخذ أموال بغير حقها «4» » وقرئ: كما استخلف، على البناء للمفعول وليبدلنهم: بالتشديد. فإن قلت: أين القسم الملتقى باللام والنون في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ؟ قلت:
هو محذوف تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم. أو نزّل وعد الله في تحققه منزلة القسم،
__________
(1) . قوله: «لا تغيرون إلا يسيرا» أى لا تبقون، أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وعلانية. ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها هو وأصحابه- إلى آخره» وصله الحاكم وابن مردويه دون أوله بذكر أبى بن كعب فيه. وأوله «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار.
رمتهم العرب عن قوس واحدة لا يبيتون إلا بالسلاح ... الحديث» .
(3) . قوله «تصير بزيزى» في الصحاح: بزه ينزه بزا: سلبه. والاسم البزيزى مثل الخصيصى. (ع)
(4) . لم أجده. وأوله في السنن وابن ماجة والحاكم وأحمد والطبراني والبيهقي والثعلبي كلهم من حديث سفينة «الخلافة في أمتى ثلاثون سنة ثم ملك بعد ملك» وفي لفظ «ثم يملك الله من يشاء» وروى أحمد وابن أبى شيبة والطبراني من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبى ثعلبة عن أبى عبيدة ومعاذ بن جبل مرفوعا. «إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ثم يصير خلافة ... الحديث» .
(3/251)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
فتلقى بما يتلقى به القسم، كأنه قيل: أقسم الله ليستخلفنهم. فإن قلت: ما محل يَعْبُدُونَنِي؟
قلت: إن جعلته استئنافا لم يكن له محل، كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال:
يعبدونني. وإن جعلته حالا عن وعدهم، أى وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم، فمحله النصب وَمَنْ كَفَرَ يريد كفران النعمة: كقوله فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أى: هم الكاملون في فسقهم. حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها «1» . فإن قلت: هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.
[سورة النور (24) : آية 56]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معطوف على أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال: لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكرّرت طاعة الرسول: تأكيدا لوجوبها.
[سورة النور (24) : آية 57]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
وقرئ: لا يحسبن، بالياء. وفيه أوجه: أن يكون مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هما المفعولان.
والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنى قوى جيد. وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأوّل، وكان الذي سوّغ ذلك أنّ الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وعطف قوله وَمَأْواهُمُ النَّارُ على لا يحسبنّ الذين كفروا معجزين، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم.
[سورة النور (24) : آية 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
__________
(1) . قوله «على غمطها» أى: احتقارها. (ع)
(3/252)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
أمر بأن يستأذن العبيد. وقيل: العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ثَلاثَ مَرَّاتٍ في اليوم والليلة: قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة. وبالظهيرة، لأنها وقت وضع الثياب للقائلة. وبعد صلاة العشاء لأنه وقت التجرّد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورة، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل. ومنها:
أعور الفارس، «1» وأعور المكان، والأعور: المختل العين. ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبين وجه العذر في قوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ يعنى أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة: يطوفون عليكم للخدمة، وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت، لأدّى إلى الحرج. وروى أن مدلج بن عمرو: وكان غلاما أنصاريا: أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهر إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أنّ الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية «2» : وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر رضى الله تعالى عنه. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبى مرشد «3» ، قالت: إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد «4» .
وقيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. وعن أبى عمرو: الْحُلُمَ بالسكون.
وقرئ ثَلاثُ عَوْراتٍ بالنصب بدلا عن ثلاث مرات، أى: أوقات ثلاث عورات. وعن الأعمش: عورات على لغة هذيل. فإن قلت ما محل ليس عليكم؟ قلت: إذا رفعت ثلاث عورات كان ذلك في محل الرفع على الوصف. والمعنى: هنّ ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت: لم يكن له محل وكان كلاما مقرّرا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة: فإن قلت:
بم ارتفع بَعْضُكُمْ؟ قلت: بالابتداء وخبره عَلى بَعْضٍ على معنى: طائف على بعض، وحذف لأن طوافون يدل عليه. ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمرا لتلك الدلالة.
[سورة النور (24) : آية 59]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
__________
(1) . قوله «ومنها أعور الفارس» في الصحاح أعور الفارس، إذا بدا فيه موضع خلل للضرب. (ع)
(2) . هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي وابن عباس رضى الله عنهما بغير سند.
(3) . قوله «وقيل نزلت في أسماء بنت أبى مرشد» لعله مرثد، كما في عبارة النسفي. (ع)
(4) . هكذا نقله الثعلبي والواحدي عن مقاتل.
(3/253)
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أى من الأحرار دون المماليك الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد: الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال. أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية: والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حدّ الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن: وهذا مما الناس منه في غفلة، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإنى لآمر جارتى أن تستأذن علىّ. وسأل عطاء: أأستأذن على أختى؟
قال. نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الاية. وعنه، ثلاث آيات جحدهنّ الناس:
الإذن كله. وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فقال ناس: أعظمكم بيتا. وقوله وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. وعن ابن مسعود. عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم. وعن الشعبي:
ليست منسوخة، فقيل له، إن الناس لا يعملون بها، فقال، الله المستعان. وعن سعيد بن جبير يقولون هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها: فإن قلت ما السنّ التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام. وسبع عشرة في الجارية.
وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما. وعن على رضى الله عنه أنه كان يعتبر القامة ويقدره بخمسة أشبار. وبه أخذ الفرزدق في قوله:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما فأدرك خمسة الأشبار «1»
__________
(1) .
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار
يدنى خوافق من خوافق تلتقي ... في ظل معتبط الغبار مثار
للفرزدق: يرث ى يزيد بن المهلب. يقول: لا زال يحارب من حين عقدت يداه إزاره على نفسه كناية عن تمييزه فيتولى أمور نفسه، فمذ: ظرف زمان لاضافتها إلى الجملة، ولكنها تفيد معنى من الابتدائية أيضا، لأن المعنى:
ما زال يقتحم الحروب من حين بلغ أشده إلى أن مات. وإسناد العقد إلى اليد من باب الاسناد للآلة، لأنه عاقد بها. وسما: ارتفع فبلغت قامته مقدار خمسة الأشبار. قيل: المراد بها مقدار السيف، وذلك كناية عن بلوغه أشده. وقيل: المراد بها مقدار القبر، وإدراكها: كناية عن موته. أى: من حين تمييزه إلى حين موته يهيج الحروب وهو أبلغ في المعنى. وعطف «أدرك» بالفاء دلالة على قصر مدته وقرب موته. ويروى: فسما، بالفاء.
ويجوز أن يكون معناه: ارتفع قدره، فيكون قد حكى جميع حالاته. وقوله «يدنى» خبر ما زال، أى: يقرب رايات مضطربات إلى أخرى في الحرب. أو خيلا مضطربة إلى مثلها. والمراد أنه يقرب الكتائب بعضها إلى بعض حتى تلتقي كلها في ظل معتبط من الغبار، والمعتبط- بالعين المهملة-: اسم مفعول، أى: لم يقاتل فيه غيره قبله فيثيره من موضعه، بل هو الذي أثاره منه. أو أنه هو الذي أخرجه من الأرض الصلبة فلم يكن موجودا قبل.
ويروى بالغين المعجمة. أى: مكثر: والمعنى: أنه كان يزاد منه ويكثره. ويجوز أنه اسم مكان. ويروى:
معترك العجاج، وهو موضع المعركة. والعجاج: الغبار. ومثار: صفة معتبط إن لم يتعرف بالاضافة، ويجوز أن أصله: مثاره، بالاضافة للضمير، فحذف للضرورة. وفي إثبات الظل للغبار المعتبط المثار: دلالة على أنه متراكم حاجب ضوء الشمس عن المحاربين.
(3/254)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
واعتبر غيره الإنبات. وعن عثمان رضى الله عنه. أنه سئل عن غلام، فقال: هل اخضر إزاره؟
[سورة النور (24) : آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه: والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة «1» ، يريد: الزينة الخفيفة التي أرادها في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو غير قاصدات بالوضع التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه. والاستعفاف من الوضع خير لهنّ لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب، بعثا منه عن اختيار أفضل الأعمال وأحسنها، كقوله وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ. فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت:
تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم: سفينة بارج، لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. وبدأ، وبرز، بمعنى: ظهر، من أخوات: تبرج وتبلج، كذلك.
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
__________
(1) . قال أحمد: قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها، ويظهر لي والله أعلم أن قوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ من باب
على لاحب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك، المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها، لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهم عن وضع الثياب خير لهن، فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد، فكيف بالكواعب؟ والله أعلم. [.....]
(3/255)
كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوى العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج، وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق، لقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ فقيل لهم: ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم، يعنى: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة «1» . فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم لما عسى يؤدى إلى الكراهة من قبلهم، ولأنّ الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة تؤذى أو جرح يبض أو أنف يذن «2» ونحو ذلك. وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرّجون. حكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، ولم يحل لي أن آكل «من مالك، فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت، وهذا كلام صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. ومثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان. وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر، ولا عليك يا حاج أن تقدّم الحلق على النحر، فإن قلت: هلا ذكر الأولاد، قلت: دخل ذكرهم تحت قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ لأنّ ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء
__________
(1) . قوله «في أنفسها قزازة» في الصحاح «القزازة» التنطس والتباعد عن الدنس. وفيه «التنطس» المبالغة في التطهر. (ع)
(2) . قوله «أو جرح يبض أو أنف يذن» يبض أى يسيل قليلا قليلا. ويذن: أى يسيل مخاطه. أفاده الصحاح. (ع)
(3/256)
من كسبه، وإن ولده من كسبه «1» » ومعنى مِنْ بُيُوتِكُمْ من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ولأنّ الولد أقرب ممن عدّد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى. فإن قلت: ما معنى أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ؟ قلت: أموال الرجل إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له: أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح:
كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ: مفتاحه:
فإن قلت: فما معنى أَوْ صَدِيقِكُمْ؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا «2» ، وكذلك الخليط والقطين والعدوّ. يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم.
يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضى الله عنهم. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك. وعن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهما: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثفة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمّهات. فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أى مجتمعين أو متفرّقين. نزلت في بنى ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل لرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فان لم يجد من يواكله أكل ضرورة. وقيل في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى كلهم من حديث عائشة بهذا. قال ابن القطان: يرويه عمارة بن عمير فقال إبراهيم عنه. عن عمته عن عائشة. وقال الحاكم: عن عمارة عن أمه عن عائشة وذكره الدارقطني في العلل والاختلاف فيه وأطال. وفي الباب عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال «أتى أعرابى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبى يريد أن يحتاج مالى. قال: أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوا هنيئا، رواه ابو داود وابن ماجة من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو وحجاج مدلس وفيه ضعف.
(2) . قال محمود: «الصديق يكون واحدا وجمعا والمراد هنا الجمع» قال أحمد: وقد قال الزمخشري: إن سر إفراده في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ دون الشافعين التنبيه على قلة الأصدقاء، ولا كذلك الشافعون، فان الإنسان قد يحمى له ويشفع في حقه من لا يعرفه فضلا عن أن يكون صديقا، ويحتمل في الآيتين- والله أعلم- أن يكون المراد به الجمع فلا كلام، ويحتمل أن يراد الافراد، فيكون سره ذلك، والله أعلم.
(3/257)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
لا يأكلون إلا مع ضيفهم وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت لتأكلوا فبدئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة «1» تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه.
أو لأنّ التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله. ووصفها بالبركة والطيب: لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق. وعن أنس رضى الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين- وروى: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال ننتفع بها؟ قلت: بلى بأبى وأمى يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمّتى أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين «2» » . وقالوا:
إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله، وانتصب تحية بسلموا، لأنها في معنى تسليما، كقولك: قعدت جلوسا.
[سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
__________
(1) . قال محمود: «معناه: فسلموا على الجنس الذي هو منكم دينا وقرابة» قال أحمد: وفي التعبير عنهم بالأنفس تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة، وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه لاتحاد القرابة، فليطب نفسا بالبساط فيها، والله أعلم.
(2) . أخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان. والبيهقي في الشعب في الحادي والستين.
والثعلبي من طريق اليسع بن زيد بن سهل عن ابن عتبة عن حميد وعن أنس بتمامه واليسع آخر من زعم أنه سمع من ابن عتبة. مات بعد الثمانين والمائتين وهو واهى الحديث وأصل الحديث دون القصة التي فيه، في الصحيح من حديث أنس رضى الله عنه. وباقيه مروى عن أنس من أوجه. منها ما رواه البزار من طريق عويد بن عمران الجونى عن أبيه قال: «أوصانى النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال: أسغ الوضوء يزد في عمرك: وسلم على من لقيت من أمتى تكثر حسناتك. وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى.
فإنها صلاة الأوابين، وارحم الصغير ووقر الكبير، تكن من رفاقى» وعويد. قال ابن حبان: يروى عن أبيه ما ليس من حديثه. ورواه أبو يعلى من رواية عمرو بن أبى خليفة عن ضرار بن عمرو عن أنس وإسناده ضعيف جدا وكذا رواه الطبراني في الصغير من رواية عمرو بن دينار عن أنس والراوي عنه ساقط ورواه العقيلي من رواية الفضل بن العباس عن ثابت عن أنس والفضل مجهول. قال العقيلي: لم يتابعه عليه إلا من هو دونه أو قبله ورواه ابن عدى من طريق أزور بن غالب عن سليمان التيمي عن أنس. قال ابن طاهر: أزور منكر الحديث. وله طريق أخرى عن أنس أشد ضعفا من هذه.
(3/258)
[سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له «1» والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إنّ الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) وضمنه شيأ آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال المنافقين وتسللهم لو إذا. ومعنى قوله (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم. ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له. والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهمّ، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ: أمر جميع. وفي قوله (إذا كانوا معه على أمر جامع) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوى رأى وقوّة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وذكر الاستغفار للمستأذنين:
دليل على أنّ الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر لخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوّض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه.
[سورة النور (24) : آية 63]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
__________
(1) قوله «وجعلهما كالتشبيب له» في الصحاح التشبيب النسيب يقال هو يشبب بفلانة أى ينسب بها (ع)
(3/259)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمى بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبى الله، ويا رسول الله، مع التوقير التعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما ردّه، فإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة يَتَسَلَّلُونَ ينسلون قليلا قليلا. ونظير «تسلل» : «تدرّج وتدخل» : واللواذ:
الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعنى: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. ولِواذاً حال، أى: ملاوذين. وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه. وقرئ: لو إذا، بالفتح. يقال.
خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه. ومنه قوله تعالى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ وخالفه عن الأمر: إذا صدّعنه دونه. ومعنى الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون، فحذف المفعول لأنّ الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه.
الضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: عن طاعته ودينه فِتْنَةٌ محنة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: فتنة قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطان جائر.
[سورة النور (24) : آية 64]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
أدخل (قد) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فان تمس مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود «1»
__________
(1)
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك يجارى دمعها لجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدى مأتم وخدود
فان تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
لابن عطاء السندي: يرث ى ابن هبيرة لما قتله المنصور. وواسط: موضع الواقعة. وأتم بالمكان: أقام به.
والمأتم: مكان الاقامة: استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا مشهورا، وجمعه: مآتم بمد الهمزة. يقول:
إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم لشديدة الجمود. وعشية: بدل من يوم. وجيب القميص. مخرج الرأس منه، أى: مزقت الجيوب والخدود بأيدى النساء، ثم التفت إلى الخطاب، وصبر وتصبر بقوله: فان تمس مهجور الفناء، كناية عن الموت، فربما: أى كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع، يستمنحونك، أى: فان يهجر فناؤك الآن فلا حزن، لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا.
(3/260)
ونحوه قول زهير:
أخى ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنّه قد يهلك المال نائله «1»
والمعنى. أنّ جميع ما في السموات والأرض مختصة به خلقا وملكا وعلما، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها. وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم وسيجازيهم حق جزائهم. والخطاب والغيبة في قوله قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكونا جميعا المنافقين على طريق الالتفات. ويجوز أن يكون (ما أنتم عليه) عاما، و (يرجعون) للمنافقين، والله أعلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي «2» » .
__________
(1) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 17 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسناديهما إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.
(3/261)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
سورة الفرقان
مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 [نزلت بعد يس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها (تبارك الله) وفيه معنيان: تزايد خيره، وتكاثر.
أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما وسمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا، مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال «1» . ألا ترى إلى قوله (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) وقد جاء الفرق بمعناه «2» . قال:
ومشركىّ كافر بالفرق
وعن ابن الزبير رضى الله عنه: على عباده، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته، كما قال (لقد أنزلنا إليكم) ، (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) . والضمير في لِيَكُونَ لعبده أو للفرقان.
ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير لِلْعالَمِينَ للجنّ والإنس نَذِيراً منذرا أى مخوّفا أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار. ومنه قوله تعالى (فكيف كان عذابى ونذر) ، الَّذِي لَهُ رفع على الإبدال من الذي نزل أو رفع على المدح. أو نصب عليه. فإن قلت:
__________
(1) قال محمود: «يجوز أن يراد بوصفه بالفرقان تفريقه بين الحق والباطل، ويجوز أن يراد نزوله مفرقا شيئا فشيئا كما قال. وقرآنا فرقناه» قال أحمد: والأظهر هنا هو المعنى الثاني، لأن في أثناء السورة بعد آيات (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) قال الله تعالى (كذلك) أى أنزلناه مفرقا كذلك (لنثبت به فؤادك) فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم- كالمقدمة والتوطئة لما يأتى بعد.
(2) قوله «وقد جاء الفرق بمعناه» في الصحاح: والفرق أيضا: الفرقان. ونظيره: الخسر والخسران. قال الراجز: ومشركي ... الخ. (ع)
(3/262)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت: ما فصل بينهما بشيء، لأنّ المبدل منه صلته نزل. و (ليكون) تعليل له، فكأنّ المبدل منه لم يتمّ إلا به. فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً كأنه قال: وقدّر كل شيء فقدّره؟ قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدّره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوّى الذي تراه، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر مّا ومصلحة مطابقا لما قدر له غير متجاف عنه. أو سمى إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتا. وقيل، فجعل له غاية ومنتهى. ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم.
[سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
الخلق بمعنى الافتعال، كما في قوله تعالى (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) والمعنى: أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا من أفعال العباد، حيث لا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير وَلا يَمْلِكُونَ أى: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها أو جلب نفع إليها وهم يستطيعون، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.
[سورة الفرقان (25) : آية 4]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
قَوْمٌ آخَرُونَ قيل: هم اليهود. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكية الرومي: قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار. «جاء» «وأتى» يستعملان في معنى فعل، فيعديان تعديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلما، كما تقول: جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن
(3/263)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو برىّ منه إليه.
[سورة الفرقان (25) : آية 5]
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطّره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وإسفنديار، جمع: أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكْتَتَبَها كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه:
إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ: أكتتبها. على البناء للمفعول. والمعنى: اكتتبها كاتب له. لأنه كان أمّيا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب، كقوله (واختار موسى قومه) ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت: كيف قيل: اكتتبها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أمىّ فهي تملى عليه: أى تلقى عليه من كتابه يتحفظها: لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن: أنه قول الله سبحانه يكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا «1»
وحق الحسن أن يقف على الأولين. بُكْرَةً وَأَصِيلًا أى دائما، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
__________
(1)
إن كنت أزننتني بها كذبا ... جزء فلاقيت بعدها عجلا
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا
لحضرمى بن عامر، يخاطب جزء بن سنان بن مؤلة حين اتهمه بسروره بأخذ دية أخيه القتيل، وقيل: لجرير، وليس بذاك. وجزء- بفتح فسكون- وإن هنا للشرط مجردا عن السك، أو بمعنى إذ. وأزننتنى: أى تهمتنى بها:
أى بتلك الفعلة الرذيلة كذبا منك يا جزء، فهو منادى، فلاقيت أنت بعدها عجلا: دعاء عليه بأن ينال مثلها سريعا، وينظر هل يفرح أو يحزن؟ وروى: فلاقيت مثلها عجلا. أفرح، أى: أأفرح بأن أرزأ الكرام وأصاب فيهم، فحذفت همزة الاستفهام الإنكاري أو التعجبي على فرض الوقوع لدلالة المقام عليها، وليصور الكلام بصورة الاخبار والإثبات، فيظهر للخصم قبح دعواه. وأرزأ: مبنى للمجهول، وكذلك أورث، أى: أعطى ذودا: أى قطيعا من الإبل بعد موتهم. والذود: ما بين الثلاثة إلى العشرة، مؤنث لا واحد له من لفظه، عبر به عن الدية كلها استقلالا وتحقيرا لها. ولذلك وصفه بشصائصا: جمع شصوص، وهي النافة القليلة اللبن. وصرفه للوزن. والنبل- كسبب-: جمع نبيل. ويروى بالضم، فهو جمع نبيل أيضا، ككرم وكريم. أو جمع نبلة، كغرف وغرفة:
أي الصغار؟؟؟ أو النجائب فهو من الأضداد، لكن الأول أوفق بالمقام. ويجوز أن الدية كانت عشرة.
(3/264)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
[سورة الفرقان (25) : آية 6]
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
أى يعلم كل سرّ خفىّ في السموات والأرض. ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت:
كيف طابق قوله إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدّمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة. أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبّا، ولكن صرف ذلك عنهم إنه غفور رحيم: يمهل ولا يعاجل.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 8]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي. وخط المصحف سنة لا تغير. وفي هذا استهانة وتصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز «1» ، كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول. ونحوه قول فرعون (إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) أى: إنّ صحّ أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى. اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين: إياهم بأعيانهم: وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ: فيكون، بالرفع. أو يكون له جنة، بالياء، ونأكل، بالنون. فإن قلت: ما وجها الرفع والنصب في فيكون؟ قلت: النصب لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام. والرفع على أنه معطوف على أنزل، ومحله الرفع. ألا تراك
__________
(1) قوله «وطنز» في الصحاح «الطنز» : السخرية. (ع) [.....]
(3/265)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
تقول: لولا ينزل بالرفع، وقد عطف عليه: يلقى، وتكون مرفوعين، ولا يجوز النصب فيهما لأنهما في حكم الواقع بعد لولا، ولا يكون إلا مرفوعا. والقائلون هم كفار قريش النضر بن الحرث، وعبد الله بن أبى أمية، ونوفل بن خويلد ومن ضامهم مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله. أو ذا سحر، وهو الرئة: عنوا أنه بشر لا ملك.
[سورة الفرقان (25) : آية 9]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أى: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك. وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالا، لا يجدون قولا يستقرّون عليه. أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.
[سورة الفرقان (25) : آية 10]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)
تكاثر خير الَّذِي إِنْ شاءَ وهب لك في الدنيا خَيْراً مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ: ويجعل، بالرفع عطفا على جعل: لأن الشرط إذا وقع ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرفع، كقوله:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم «1»
ويجوز في (ويجعل لك) إذا أدغمت: أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب، على أنه جواب الشرط بالواو.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 14]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
بَلْ كَذَّبُوا عطف على ما حكى عنهم. يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم
__________
(1) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 537 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/266)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة. السعير:
النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن رضى الله عنه: أنه اسم من أسماء جهنم رَأَتْهُمْ من قولهم: دورهم تترا «1» ، أى: وتتناظر. ومن قوله صلى الله عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» «2» كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وجاء في الأحاديث: أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل:
قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور: الهلاك. ودعاؤه أن يقال: وا ثبوراه، أى: تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك لا تَدْعُوا أى يقال لهم ذلك: أو هم أحقاء بأن يقال لهم، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
الراجع إلى الموصولين محذوف، يعنى: وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل: كانت، لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة
__________
(1) . قال محمود: «هو من قولهم: دور بنى فلان تترا، أى على المجاز» قال أحمد: لا حاجة إلى حمله على المجاز فان رؤية جهنم جائزة، وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا. ألا ترى إلى قوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها، إذ لا محوج إليه. ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد، لتطوح الذي يسلك ذلك إلى وادى الضلالة والتحير إلى فرق الفلاسفة، فالحق أنا متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع، والله أعلم.
(2) . تقدم في المائدة.
(3/267)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً؟
قلت: هو كقوله: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً فمدح الثواب ومكانه، كما قال: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً فذم العقاب ومكانه لأنّ النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وأن لا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع «1» وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في كانَ لما يشاءون. والوعد: الموعود، أى: كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه، حقيقا أن يسئل ويطلب، لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل: قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم:
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 18]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18)
يحشرهم. فيقول. كلاهما بالنون والياء، وقرئ: يحشرهم، بكسر الشين وَما يَعْبُدُونَ يريد: المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صحّ استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك- إذا رأيت شبحا من بعيد-: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت حينئذ: من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبوديهم.
ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم «2» ضلوا السبيل؟
قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت:
فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته أن يجيبوا بما
__________
(1) . قوله «بغثاثة الموضع» أى فساده ورداءته. والاجتواء: كراهة المقام بالمكان. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أم هم ضلوا» لعله أم ضلوا، كعبارة النسفي. (ع)
(3/268)
أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا «1» وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم «2» أن الله يضل عباده على الحقيقة «3» ، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون
__________
(1) . قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)
(2) . قوله «لقول من يزعم أن الله ... الخ» يريد أهل السنة القائلين: إضلال الله لعباده خلق الضلال في قلوبهم، خلافا للمعتزلة القائلين: أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)
(3) . قال محمود: «في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن الله تعالى يضل عباده حقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم، ويقولون: بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم لله أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى الله تعالى، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم» قال أحمد: قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق الله تعالى: التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ والضلال شيء، فوجب كونه خالقه: هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص، فأمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فلو كان الإضلال مستحيلا على الله تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة، فيقال لهم:
من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا: أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن الله تعالى هو المضل حقيقة، لكان قولهم في جواب هذا السؤال: بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم: من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري، بتقدير أن يكون معتقدهم أن الله تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه، ولكن لأنه لا يطابق، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها الله فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع: أن كل فعل اختيارى له نسبتان: إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم: بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر، فنسبوا نسيان الذكر إليهم، أى: الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان، لأنهم اختاروه لأنفسهم، فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى الله تعالى: وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم، فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد، والله أعلم.
(3/269)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
سبب الشكر، سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه، فهم لربهم الغنىّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل: مطاوع «أضله» وكان القياس: ضل عن السبيل، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل: إلى الطريق، وللطريق. وقولهم: أضلّ البعير، في معنى: جعله ضالا، أى: ضائعا، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل: أضله، سواء كان منه فعل أو لم يكن سُبْحانَكَ تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه.
أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبىّ أو ملك أو غيرهما ندّا، ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ يريد الكفرة وقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وقرأ أبو جعفر المدني: نتخذ، على البناء للمفعول. وهذا الفعل أعنى «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ وقال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو مِنْ أَوْلِياءَ والأصل: أن نتخذ أولياء، فزيدت مِنْ لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين. فالأول ما بنى له الفعل. والثاني: مِنْ أَوْلِياءَ. ومن للتبعيض، أى: لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير أَوْلِياءَ من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر: ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.
[سورة الفرقان (25) : آية 19]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
(3/270)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
هذه المفاجأة «1» بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونحوها قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا «2»
وقرئ: يقولون، بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم أنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء: فقد كذبوكم بقولهم سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ:
فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله، هي مع التاء كقوله بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ والجار والمجرور بدل من الضمير، كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون: وهي مع الياء كقولك: كتبت بالقلم. وقرئ: يستطيعون، بالتاء والياء أيضا. يعنى. فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة وقيل: الحيلة، من قولهم: إنه ليتصرف، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم.
الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم، والكافر ظالم، لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والفاسق ظالم. لقوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وقرئ:
يذقه، بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر يظلم.
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور. أعنى من المرسلين ونحوه قوله عز من قائل: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ على معنى: وما منا أحد. وقرئ:
ويمشون، على البناء للمفعول، أى: تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ: يمشون، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل: هو احتجاج على من قال مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ.
__________
(1) . قوله «هذه المفاجأة» أى: التي في قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ. (ع)
(2) . يقول: قالوا إن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا وغاية السفر بنا، ثم يكون القفول أى الرجوع. ويجوز أنه عطف على خراسان. وقوله «فقد جئنا» مرتب على محذوف، أى: إن صدقوا في قولهم فقد جئنا خراسان، فلم لم نتخلص من السفر. ويجوز أنه عدل إلى الخطاب، أى: فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا. فقد جئنا الموعد، لكن ليس ذلك التفاتا.
(3/271)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
فِتْنَةً أى محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وموقع أَتَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع أَيُّكُمْ بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَصِيراً عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا:
أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة. وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء لينظر: هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليدين المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض.
[سورة الفرقان (25) : آية 21]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21)
أى لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة:
الخوف، وبه فسر قوله تعالى لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى «1» . وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فإن قلت: ما معنى فِي أَنْفُسِهِمْ؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد
__________
(1) . قوله «لا يصح أن يرى، هذا مذهب المعتزلة، وعند أهل السنة: يصح أن يرى. (ع)
(3/272)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
في قلوبهم واعتقدوه. كما قال إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ. وَعَتَوْا وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنوّ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جسّاس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها «1»
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب. ألا ترى أن المعنى: ما أشدّ استكبارهم، وما أكبر عتوّهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب.
[سورة الفرقان (25) : آية 22]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
يَوْمَ يَرَوْنَ منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه لا بُشْرى أى: يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويومئذ للتكرير. وإما بإضمار «اذكر» أى: اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وقوله «للمجرمين» إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام، فقد تناولهم بعمومه حِجْراً مَحْجُوراً ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو: معاذ الله، «2» وقعدك الله، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك: يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا،
__________
(1) . لرجل من بنى بكر: قبيلة جساس، يفتخر على بنى تغلب: قبيلة كليب بن ربيعة أخى مهلهل وخال امرئ القيس. وجارة جساس: هي خالته البسوس. أبأنا- بالهمز-: أى قابلنا وساوينا كليبا، بنابها: أى بناقتها المسنة، فقتلناه فيها، ثم قال تعجبا واستعظاما: غلت، أى: ارتفعت وعظمت ناقة مسنة مهزولة بواؤها كليب المشهور.
وبواء كسواء وزنا ومعنى، أى: كفؤها ومساويها كليب بن ربيعة الشجاع المعروف. ومن خبرها أن البسوس أتت مع رجل من جرم تزور أختها هيلة أم جساس بن مرة فخرجت ناقة الجرمي ترعى مع إبل بنى بكر في أرض تغلب لما كان بينهما من المصاهرة والمودة، فأنكر كليب الناقة وظنها أجنبية، فرماها بسهم فأصاب ضرعها فرجعت تشخب دما، وبركت بفناء جساس، فرأتها البسوس فصاحت: واذلاه، واغربتاه! فقال جساس: اهدئى، والله لأعقرن فيها فحلا هو أعز على أهله منها، فظن كليب أنه يعنى فحلا عنده اسمه عليان، فقال: دون عليان خرط القتاد، لكن جساسا كان يعنى نفس كليب، فترقبه يوما ورماه برمحه فصرعه، وتبعه عمرو بن الحرث، فلما رآه كليب قال له:
اسقني يا عمرو. فقال: تركت الماء وراءك وأجهز عليه، فضرب به المثل المشهور:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
واشتعلت الحرب بين بكر وتغلب نحو ثلاثين سنة، وضرب المثل السائر: سد كليب في الناقة.
(2) . قوله «وقعدك الله» في الصحاح: وقولهم: قعيدك لا آتيك، وقعيدك الله لا آتيك، وقعدك الله لا آتيك:
يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر. والمعنى: بصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى، كما يقال: نشدتك الله. (ع)
(3/273)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما كان قعدك وعمرك كذلك، وأنشدت لبعض الرّجاز:
قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربىّ منكم وحجر «1»
فإن قلت: فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت:
جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا. ذيل ذائل، والذيل: الهوان. وموت مائت. والمعنى في الآية: أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور «2» وشدة النازلة. وقيل: هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أى: جعل الله ذلك حراما عليكم.
[سورة الفرقان (25) : آية 23]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا «3» والهباء: ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: أقل من الهباء مَنْثُوراً صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لم يكف أن شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال «4» ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا.
أو مفعول ثالث لجعلناه أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، كقوله كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أى جامعين للمسح والخسء. ولام الهباء واو، بدليل الهبوة.
[سورة الفرقان (25) : آية 24]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
__________
(1) . الحيدة: الصدود، وذعره ذعرا: فزعه. والذعر- بالضم-: اسم مصدر، وكذلك العوذ بمعنى التعوذ والالتجاء، وكذلك الحجر بمعنى الامتناع والتحصن، والمبتدأ محذوف، أى: قالت أمرى تعوذ منكم وتحصن بربي، والحال أنها صادة فزعة، وهذا يقال على لسانهم عند لقاء المكروه. [.....]
(2) . قوله «الموتور» في الصحاح: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. (ع)
(3) . قوله «لم يترك لها أثرا ولا عثيرا» في الصحاح «العثير» بتسكين الثاء: الغبار. (ع)
(4) . قوله «بالأكال» هو بالضم: الحكة. (ع)
(3/274)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
المستقرّ: المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون.
والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروى أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وفي معناه قوله تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ قيل في تفسير الشغل: افتضاض الأبكار، ولا نوم في الجنة. وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن: رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه وملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.
[سورة الفرقان (25) : آية 25]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
وقرئ تَشَقَّقُ والأصل: تتشقق، فحذف بعضهم التاء، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء، كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله تعالى السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ. فإن قلت: أى فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عن النبات؟ قلت: معنى انشقت به: أنّ الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أنّ التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل: هو غمام أبيض رقيق، مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ. وقرئ: وننزل الملائكة، وتنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزلت الملائكة، وأنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزل الملائكة: على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل: قراءة أهل مكة.
[سورة الفرقان (25) : آية 26]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)
الحق: الثابت: لأنّ كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا ملكه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 27 الى 29]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
(3/275)
عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم «1» ، وقرعها: كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل: نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامى وهو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فقتل يوم بدر: أمر عليا رضى الله عنه بقتله. وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصارى وقال: يا محمد، إلى من السبية «2» قال: إلى النار. وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد، فرجع إلى مكة فمات «3» . واللام في الظَّالِمُ يجوز أن تكون للعهد، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ: يا ويلتى بالياء، وهو الأصل، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في: صحارى، ومدارى. فلان: كناية عن الأعلام، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، فكنى عن اسمه. وإن أريد به الجنس،
__________
(1) . قوله «وحرق الأسنان والأرم» في الصحاح: حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض. ومنه قولهم: حرقت نابه، أى سحقه حتى سمع له صريف. وفلان يحرق عليك الأرم غيظا. وفيه أيضا: أرم على الشيء أى: عض عليه وأرمه أيضا، أى: أكله، والأرم: الأضراس، كأنه جمع آرم، يقال: فلان يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض. (ع)
(2) . قوله «وقال يا محمد إلى من السبية» في الصحاح «السبية» : المرأة تسبى. (ع)
(3) . أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس فذكره مطولا لكن إلى قوله «فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا. ولم يقتل من الأسارى يوم بدر غيره. قتله ثابت بن أبى الأفلح» وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال «دعا عقبة بن أبى معيط النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعه إلى قوله فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي» ومن طريق مقسم نحوه، مختصرا قال فقتل عقبة يوم بدر صبرا» وأما أبى بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد في القتال وهما اللذان أنزل الله تعالى فيهما وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وذكره الثعلبي ثم الواحدي من غير سند.
(3/276)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله. أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون وَكانَ الشَّيْطانُ حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله. اتخذت: يقرأ على الإدغام والإظهار، والإدغام أكثر.
[سورة الفرقان (25) : آية 30]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
الرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم: حلّ بهم العذاب ولم ينظروا.
[سورة الفرقان (25) : آية 31]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم، فقال وَكَذلِكَ كان كل نبىّ قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم.
مهجورا: تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه «1» . وقيل: هو من هجر، إذا هذى، أى: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجار وهو على وجهين، أحدهما: زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين. والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله تعالى لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمجلود والمعقول. والمعنى: اتخذوه هجرا.
والعدوّ: يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وقيل المعنى: وقال الرسول يوم القيامة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق أبى هدية عن أنس وأبو هدية كذاب.
(3/277)
نُزِّلَ هاهنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلا كان متدفعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون:
قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا. وقوله كَذلِكَ جواب لهم، أى:
كذلك أنزل مفرّقا. والحكمة فيه: أن نقوّى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأنّ المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا «1» بحفظه، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام، حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين. وأيضا: فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأنّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرّقا. فإن قلت: ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقا؟ قلت: لأنّ قولهم:
لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته وَرَتَّلْناهُ معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك، كأنه قال: كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أى اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضى الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم «لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها» «2» وأصله: الترتيل في الأسنان:
__________
(1) . قوله «لبعل به وتعيا بحفظه» في الصحاح: بعل الرجل- بالكسر-: أى دهش: وفيه أيضا: عييت بأمرى، إذا لم تهتد لوجهه. وأعيا عليه الأمر وتعيا وتعايا، بمعنى اه فتدبر. (ع)
(2) . أخرجه البخاري. من رواية عروة. قال «جلس أبو هريرة رضى الله عنه إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحدث الحديث لوعده العاد لأحصاه» ولمسلم «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» وزاد الترمذي والنسائي ولكن كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس اليه» وسيأتى في المزمل.
(3/278)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل: هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة، ولم يفرقه في مدة متقاربة وَلا يَأْتُونَكَ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنه مثل في البطلان- إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى، ومؤدّى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام، وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا. أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك، نحو: أن يقرن بك ملك ينذر معك، أو يلقى إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته، يعنى: أن تنزيله مفرقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها: أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ... الآية ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازى وعن النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا «1» .
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 36]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)
__________
(1) . أخرجه البيهقي من طريق مسدد عن بشر بن المفضل عن على بن زيد عن أوس بن أبى أوس. عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في الترمذي والبزار وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من هذا الوجه لكن قال عن أوس ابن خالد وعند الحاكم من رواية أبى الطفيل عن حذيفة بن أسيد عن أبى ذر حدثني الصادق المصدوق «أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج. فوجا طاعمين لا بسين راكبين. وفوجا يمشون ويسعون. وفوجا تسحيهم الملائكة على وجوههم إلى النار» وفي الترمذي والنسائي من رواية معاوية بن جبلة حدثنا يهز بن حكيم رفعه «إنكم محشورون إلى الله ركبانا ورجالا وتمرون على وجوهكم» .
(3/279)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
الوزارة: لا تنافى النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، كقوله اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أى فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعنى: إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن علىّ رضى الله عنه فدمّرتهم. وعنه: فدمّراهم. وقرئ فدمّرانّهم، على التأكيد بالنون الثقيلة.
[سورة الفرقان (25) : آية 37]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37)
كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة وَجَعَلْناهُمْ وجعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلظَّالِمِينَ إمّا أن يعنى بهم قوم نوح، وأصله: وأعتدنا لهم، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإمّا أن يتناولهم بعمومه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 38 الى 39]
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
عطف عادا على «هم» في جعلناهم أو على الظالمين، لأنّ المعنى: ووعدنا الظالمين. وقرئ:
وثمود، على تأويله القبلة. وأما المنصرف فعلى تأويل الحىّ أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو البئر غير المطوية. عن أبى عبيدة: انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم، إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا: وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: هو الأخدود.
وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل: كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أى: دسوه فيها بَيْنَ ذلِكَ أى بين ذلك المذكور، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين، ووصفنا لهم ما أجروا
(3/280)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير.
ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. وكُلًّا الأوّل منصوب بما دل عليه ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وهو: أنذرنا. أو: حذرنا. والثاني بتبرنا، لأنه فارغ له.
[سورة الفرقان (25) : آية 40]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
أراد بالقرية «سدوم» من قرى قوم لوط، وكانت خمسا: أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء: الحجارة، يعنى أن قريشا مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أَفَلَمْ يَكُونُوا في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون بَلْ كانُوا قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون نُشُوراً وعاقبة، فوضع الرجاء موضع التوقع، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو لا يخافون، على اللغة التهامية.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 42]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42)
إِنْ الأولى نافية، والثانية مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا:
في معنى استهزأ به، والأصل: اتخذه موضع هزؤ، أو مهزوءا به أَهذَا محكي بعد القول المضمر.
وهذا استصغار، وبَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإخراجه في معرض التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزءوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا. وقولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم، ولَوْلا في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى- لا من حيث الصنعة- مجرى التقييد للحكم المطلق وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير. وقوله مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا كالجواب
(3/281)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
عن قولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا لأنه نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى أنه من قول أبى جهل لعنه الله.
[سورة الفرقان (25) : آية 43]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر لا يتبصر دليلا ولا يصغى إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت- ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ويروى أنّ الرجل منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي.
[سورة الفرقان (25) : آية 44]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
أم هذه منقطعة، معناه، بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلها؟ قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية، كما تقول: علمت منطلقا زيدا: لفضل عنايتك بالمنطلق «1» . فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلا داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها «وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنىّ والعذب الروى.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم إلهه وهو المفعول الثاني، وأجاب بأنه قدم عناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق» قال أحمد: وفيه نكتة حسنة وهي إفادة الحصر، فان الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر: المبتدأ هواه، والخبر إلهه. وتقديم الخبز كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه، والله أعلم.
(3/282)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته، ومعنى مدّ الظل: أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أى لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة، غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا: أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان زائلا «1» ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه: أنه ينسخه بضح الشمس «2» يَسِيراً أى على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب «3» لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أى: سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتدّ ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد: قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله: قبضناه إلينا: يدل عليه، وكذلك قوله يسيرا، كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ
[سورة الفرقان (25) : آية 47]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47)
شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت. والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟
قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق «4» . وهذه الاية مع دلالتها على
__________
(1) . قوله «زائلا» لعله زائلا عن آخر. (ع)
(2) . قوله «أنه ينسخه بضح الشمس» في الصحاح: ضحضح السراب وتضحضح، إذا ترقرق. والضح:
الشمس. وفي الحديث «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل» فانه مقعد الشيطان. (ع)
(3) . قوله «ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب» في الصحاح «الفينان» الطويل، وفيه «الأدم» جمع الأديم، مثل: أفيق وأفق، وربما سمى وجه الأرض أديما. وفيه: جاب يجوب جوبا، إذا خرق وقطع، فتدبر. (ع) [.....]
(4) . قوله «يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» في الصحاح «العيوف» من الإبل: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان. وفيه: رنقته ترنيقا: كدرته. (ع)
(3/283)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأنّ الاحتجاب بستر الليل، كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أى عبرة فيها لمن اعتبر.
وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
[سورة الفرقان (25) : آية 48]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48)
قرئ: الريح. والرياح نشرا: إحياء. ونشرا: جمع نشور، وهي المحيية. ونشرا: تخفيف نشر، وبشرا تخفيف بشر: جمع بشور وبشرى. وبَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة مليحة، أى: قدام المطر طَهُوراً بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا. ويعضده قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وإلا فليس «فعول» من التفعيل في شيء. والطهور على وجهين في العربية: صفة، واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور، كقولك: طاهر، والاسم قولك لما يتطهر به: طهور، كالوضوء والوقود، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم: تطهرت طهورا حسنا، كقولك:
وضوءا حسنا، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، لا صلاة إلا بطهور «1» » أى طهارة. فإن قلت: ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت: تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظنّ، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبى حنيفة وعند مالك بن أنس رضى الله عنهما: ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت:
فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه «2» » ؟ قلت: قال الواقدي: كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين.
[سورة الفرقان (25) : آية 49]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وإنما قال مَيْتاً لأنّ البلدة في معنى البلد في قوله: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، وأنه غير جار
__________
(1) . أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضى الله عنهما «لا تقبل صلاة إلا بطهور» وأصله في مسلم والطبراني من طريق عيسى بن صبرة عن أبيه عن جده «لا صلاة إلا بوضوء» وفي الباب عن جماعة من الصحابة. قلت: استوفيت طرقه في أول شرحي على الترمذي ولم يذكر المخرج منها إلا شيئا يسيرا
(2) . لم أجده هكذا. بل هو ملفق من حديثين فالأول أخرجه أصحاب السنن من حديث رافع بن خديج. قال يا رسول الله. أنتوضأ من بضاعة وهي بئر يلقى فيها الجيف ولحوم الكلاب والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه. وقد استوفيت طرقها في تخريج أحاديث الرافعي.
(3/284)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ: نسقيه بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل:
أسقاه: جعل له سقيا. الأناسى: جمع إنسى أو إنسان. ونحوه ظرابى في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك:
أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت:
لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام: ولأنها قنية الأناسى، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، فبهم غنية عن سقى السماء، وأعقابهم- وهم كثير منهم- لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.
[سورة الفرقان (25) : آية 50]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)
يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام- وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر- ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا فَأَبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام «1» فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا:
مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية «2» . وروى
__________
(1) . قوله «ورذاذ وديمة ورهام» الرذاذ: مطر ضعيف. والرهام. جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة الدائمة، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم والطبري من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: «ما من عام أمطر من عام. ولكن الله يصرفه ... الخ» وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة، أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عنه وقال: لا يتابع على رفعه.
ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا.
(3/285)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد.
وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسى، كأنه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسى، وذلك البعض كثير. فإن قلت: هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله: فهو كافر. وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 52]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وَلَوْ شِئْنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى.
ولَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه: فَلا تُطِعِ والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في بِهِ إلى ما دل عليه: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً من كونه نذير كافة القرى، لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له وَجاهِدْهُمْ بسبب كونك نذير كافة القرى جِهاداً كَبِيراً جامعا لكل مجاهدة.
[سورة الفرقان (25) : آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
سمى الماءين الكثيرين الواسعين: بحرين، والفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة.
(3/286)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
والأجاج: نقيضه، ومرجهما: خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم: وبحران: أحدهما مع الآخر ممروج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج «1» بَرْزَخاً حائلا من قدرته، كقوله تعالى بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته. وقرئ: ملح، على فعل. وقيل: كأنه حذف من مالح تخفيفا، كما قال: وصليانا بردا، بريد: باردا: فإن قلت: وَحِجْراً مَحْجُوراً ما معناه؟
قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال لا يَبْغِيانِ أى لا يبغى أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا: جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.
[سورة الفرقان (25) : آية 54]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
أراد: فقسم البشر قسمين ذوى نسب، أى: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.
[سورة الفرقان (25) : آية 55]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
الظهير والمظاهر، كالعوين والمعاون. و «فعيل» بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى: أنّ الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روى أنها نزلت في أبى جهل، ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة، كقوله وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ كما جاء: الصديق والخليط، يريد بالكافر: الجنس، وأنّ بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل- وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر- على ربه هينا مهينا، من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، وهذا نحو قوله أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 57]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
__________
(1) . قوله «ممزوج» لعله: غير ممزوج، فليحرر. (ع)
(3/287)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
مثال إِلَّا مَنْ شاءَ والمراد: إلا فعل من شاء واستثنائه عن الأجر قول ذى شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه.
فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين، إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا فإنى أطلب الثواب، والثانية: إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك: اعتدّ بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا: تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل: المراد التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
[سورة الفرقان (25) : آية 58]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)
أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأعمالهم كاف في جزاء أعمالهم.
[سورة الفرقان (25) : آية 59]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يعنى في مدة: مقدارها هذه المدّة، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل:
ستة أيام من أيام الآخرة، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد:
أوّلها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله لملائكته تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد- أعنى الستة دون سائر الأعداد- فلا نشك أنه داعى حكمة، لعلمنا أنه لا يقدّر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته.
ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور اثنى عشر، والسماوات سبعا والأرض كذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك. والإقرار بدواعى الحكمة في جميع أفعاله، وبأن ما قدّره حق وصواب هو الإيمان.
وقد نص عليه في قوله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
(3/288)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
كَفَرُوا، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا
ثم قال وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنهما. إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. الذي خلق مبتدأ. والرَّحْمنُ خبره. أو صفة للحىّ، والرحمن: خبر مبتدإ محذوف.
أو بدل عن المستتر في استوى. وقرئ: الرحمن، بالجرّ صفة للحىّ. وقرئ فسل، والباء في به صلة سل، كقوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ كما تكون عن صلته في نحو قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فسأل به، كقوله: اهتمّ به، واعتنى به، واشتغل به. وسأل عنه كقولك: بحث عنه، وفتش عنه، ونقر عنه. أو صلة خبيرا: وتجعل خبيرا مفعول سل، يريد: فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فسل بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أى برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا.
أو تجعله حالا عن الهاء، تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب، حتى يعرف من ينكره. ومن ثمة كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون مسيلمة. وكان يقال له: رحمن اليمامة:
[سورة الفرقان (25) : آية 60]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
وَمَا الرَّحْمنُ يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به، لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، والسؤال عن المجهول ب «ما» . ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى لِما تَأْمُرُنا أى للذي تأمرناه، بمعنى تأمرنا سجوده: على قوله: أمرتك الخير. أو لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي زادَهُمْ ضمير اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ لأنه هو المقول.
[سورة الفرقان (25) : آية 61]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)
البروج: منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان،
(3/289)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت: سميت بالبروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج، لظهوره. والسراج: الشمس كقوله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً وقرئ.
سرجا، وهي الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش: وقمرا منيرا، وهي جمع ليلة قمراء، كأنه قال: وذا قمر منيرا لأنّ الليالي تكون قمرا بالقمر، فأضافه إليها.
ونظيره- في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه- قول حسان:
بردي يصفّق بالرّحيق السّلسل «1»
يريد: ماء بردي، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر، كالرشد والرشد، والعرب والعرب.
[سورة الفرقان (25) : آية 62]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
الخلفة من خلف، كالركبة من ركب: وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوى خلفة، أى: ذوى عقبة، أى: يعقب هذا ذاك وذاك هذا.
ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان. ومنه قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ويقال: بفلان «2» خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه. وقرئ: يذكر ويذكر.
وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه: يتذكر. والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار، كما قال عز وعلا: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رضى الله عنه:
من فانه عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب.
[سورة الفرقان (25) : آية 63]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ مبتدأ خبره في آخر السورة، كأنه قيل: وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 84 فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . قوله «ويقال بفلان خلفة» لعله: لفلان. (ع)
(3/290)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
أولئك يجزون الغرفة. ويجوز أن يكون خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ: وعباد الرحمن. وقرئ: يمشون هَوْناً حال، أو صفة للمشي، بمعنى:
هينين. أو: مشيا هينا، إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين.
ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونا «1» مّا» وقوله «المؤمنون هينون لينون «2» » والمثل:
إذا عزّ أخوك فهن. ومعناه: إذا عاسر فياسر. والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ. سَلاماً تسلما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر، أى: نتسلم منكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة، «3» من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «4»
وعن أبى العالية: نسختها آية القتال، ولا حاجة إلى ذلك لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.
[سورة الفرقان (25) : آية 64]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
__________
(1) . أخرجه الترمذي من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبى هريرة تفرد به سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة عن أيوب قال الترمذي. غريب. وقال ابن حبان، في الضعفاء: سويد بن عمرو يضع المتون الواهية على الأسانيد الصحيحة. وليس هذا من حديث أبى هريرة. وإنما هو من قول على رضى الله عنه. وقد رفعه الحسن بن أبى جعفر عن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن على. وهو خطأ فاحش. ورواية الحسن بن أبى جعفر في فوائد تمام وأخرجه ابن عدى من طريق الحسن بن دنيا- عن ابن سيرين عن أبى هريرة. قال: الحسن بن دنيا- أجمعوا على ضعفه ورواه الطبراني في الأوسط. من رواية أبى الزناد عن الأعرج. عن أبى هريرة لكن الراوي له عن أبى الزناد متروك. وهو عباد بن كثير. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني وفيه أبو السلط الهروي. وهو متروك وعن ابن عمرو بن العاص أخرجه أيضا من طريق محمد بن كثير الضمري. عن ابن لهيعة، عن أبى نهشل عنه وهذا إسناد واه جدا. والموقوف عن على. أخرجه البيهقي في الشعب في الحادي والأربعين من رواية أبى إسحاق عن صبرة بن يزيد ثم عن على. وقال الدارقطني. الصحيح على على موقوف
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد قال أخبرنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول بهذا مرسلا «وزاد كالجمل الأنف الذي إن قيد انقاد. وإن ينخ على صخرة أناخ» وأخرجه البيهقي في الشعب في السادس والخمسين من هذا الوجه قال هذا مرسل ثم أخرجه من طريق العقيلي في منكرات عبد الله بن عبد العزيز. وفي الباب عن ابن أنس مرفوعا ذكره ابن طاهر في الكلام على أحاديث الشهاب. وفيه زكريا بن يحيى الوقاد وهو واهى الحديث.
(3) . قوله «وسوء الرعة» في الصحاح: يقال: فلان سيئ الرعة، أى: قليل الورع. وفيه: قيل ذلك الورع- بكسر الراء-: الرجل التقى. وقد ورع يرع- بالكسر فيهما- ورعا ورعة. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 390 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/291)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
البيتوتة: خلاف الظلول، وهو أن يدركك الليل، نمت أو لم تنم، وقالوا: من قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال: فلان يظل صائما ويبيت قائما.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 66]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
غَراماً هلاكا وخسرانا ملحا لازما قال:
ويوم النّسار ويوم الجفا ... ر كانا عذابا وكانا غراما «1»
وقال:
إن يعاقب يكن غراما ... وإن يعط جزيلا فإنّه لا يبالى»
ومنه: الغريم: لإلحاجه وإلزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. ساءَتْ في حكم «بئست» وفيها ضمير مبهم يفسره:
مستقرّا. والمخصوص بالذم محذوف، معناه: ساءت مستقرّا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إنّ وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون ساءَتْ بمعنى: أحزنت. وفيها ضمير اسم إنّ. ومُسْتَقَرًّا حال أو تمييز، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم.
[سورة الفرقان (25) : آية 67]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
قرئ يَقْتُرُوا بكسر التاء وضمها. ويقتروا، بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير: التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف: مجاوزة الحدّ في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . لبشر بن أبى حازم. والنسار: ماء لبنى عامر. والجفار: ماء لبنى تميم ينجد، يقول: واقعة النسار وواقعة الجفار، كانا عذابا على أهلهما، وكانا غراما، أى: هلاكا لازما لهم. وقيل: شرا دائما.
(2) . للأعشى، يقول: إن يعاقب هذا الممدوح أعداءه يكن غراما أى هلاكا ملازما لهم. وإن يعط السائل عطاء جزيلا عظيما فانه لا يبالى به ولا يكترث به ولا يستكثره، فهو شجاع جواد. [.....]
(3/292)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وقيل: الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوّجه ابنته وأحسن إليه، فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت، وجاء بكلام حسن، فقال ابن لعبد الملك: إنما هو كلام أعدّه لهذا المقام، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر، فسأله عن نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بنىّ، أهذا أيضا مما أعدّه؟ وقيل: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسدّ جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحرّ والقرّ «1» .
وقال عمر رضى الله عنه: كفى سرفا أن لا يشتهى رجل شيئا إلا اشتراه فأكله «2» . والقوام:
العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء. وقرئ: قواما، بالكسر، وهو ما يقام به الشيء. يقال: أنت قوامنا، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعنى بَيْنَ ذلِكَ قَواماً: جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا، وقواما مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا، وقواما حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كان، على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت «3»
وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوى لأنّ ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة، فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 70]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
__________
(1) . قوله «والقر» أى البرد. (ع)
(2) . أخرجه عبد الرزاق في التفسير عن ابن عيينة عن رجل عن الحسن عن عمر بن الخطاب وهذا منقطع من طريقه. رواه الثعلبي. ورواه أحمد في الزهد عن إسماعيل عن يونس عن الحسن كذلك ورواه ابن ماجة وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من طريق نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس رضى الله عنه مرفوعا والأول أصح
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 422 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/293)
حَرَّمَ اللَّهُ أى حرّمها. والمعنى: حرّم قتلها. وإِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بهذا القتل المحذوف.
أو بلا يقتلون، ونفى هذه المقبحات العظام على الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين، للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير الحق: يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قلت: يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت: ثم أىّ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تزانى حليلة جارك» «1» فأنزل الله تصديقه. وقرئ: يلق فيه أثاما. وقرئ: يلقى، بإثبات الألف، وقد مر مثله. والآثام: جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال ومعناهما. قال:
جزي الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام «2»
وقيل هو الإثم. ومعناه: يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: أياما «3» ، أى شدائد. يقال: يوم ذو أيام: لليوم العصيب. يُضاعَفْ بدل من يلق، لأنهما في معنى واحد، كقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «4»
وقرئ: يضعف، ونضعف له العذاب، بالنون ونصب العذاب. وقرئ بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك يَخْلُدْ وقرئ: ويخلد، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، من الإخلاد والتخليد. وقرئ: وتخلد، بالتاء على الالتفات يُبَدِّلُ مخفف ومثقل، وكذلك سيئاتهم. فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيئات حسنات؟ قلت: إذا ارتكب المشرك معاصى مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات: الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين: قتل المشركين، وبالزنا:
عفة وإحصانا.
__________
(1) . متفق عليه من رواية أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عنه.
(2) . العقوق- بالفتح-: كثير العقوق بالضم، وهو منع بر الوالدين وقطع صلتهما، والأثام- كالوبال-: جزاء الإثم. وقيل: هو الإثم، فسمي به مسببه وهو الجزاء، ومفعول جزى الثاني محذوف. وعقوقا خبر أمسى.
والعقوق: مبتدأ، أى: لا بد العقوق من جزاء سيء عظيم.
(3) . قوله «أياما» وفي الصحاح «الأيام» الدخان. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 331 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/294)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
[سورة الفرقان (25) : آية 71]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
يريد. ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله مَتاباً مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد. أو: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأىّ مرجع.
[سورة الفرقان (25) : آية 72]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه لأنّ مشاهد الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه، لأنّ الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام: إياكم ومجالسة الخطائين.
ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة:
مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله تعالى وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وعن الحسن رضى الله عنه:
لم تسفههم المعاصي. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا. وقيل:
إذا ذكروا النكاح كنوا عنه
[سورة الفرقان (25) : آية 73]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها ليس بنفي للخرور. وإنما هو إثبات له، ونفى للصمم والعمى، كما تقول:
لا يلقاني زيد مسلما، هو نفى للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها، سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.
(3/295)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
[سورة الفرقان (25) : آية 74]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
قرئ: ذريتنا، وذرياتنا. وقرة أعين، وقرّات أعين. سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله، يسرون بمكانهم وتقرّبهم عيونهم. وعن محمد بن كعب: ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله تعالى ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أو أرادوا اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آمّ، كصائم وصيام. أو أرادوا اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلتنا. وعن بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل: نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت: مِنْ في قوله مِنْ أَزْواجِنا ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثم بينت القرّة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا. ومعناه:
أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أى: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح. فإن قلت: لم قال قُرَّةَ أَعْيُنٍ فنكر وقلل؟ قلت: أما التنكير فلأجل تنكير القرّة، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه، كأنه قيل: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل أَعْيُنٍ دون عيون، لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال الله تعالى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» ويجوز أن يقال في تنكير أَعْيُنٍ أنها أعين خاصة، وهي أعين المتقين.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 76]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)
المراد يجزون الغرفات وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصارا على الواحد الدال على الجنس،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم قلل الأعين إذ الأعين صيغة جمع قلة؟ قلت: لأن أعين المتقين قليل بالاضافة إلى غيرهم، يدل على ذلك قوله: وقليل من عبادي الشكور» قال أحمد: والظاهر أن المحكي كلام كل أحد من المتقين، فكأنه قال: يقول كل واحد منهم اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وهذا أسلم من تأويله، فان المتقين وإن كانوا بالاضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد. والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والاضافة، والله أعلم.
(3/296)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
والدليل على ذلك قوله وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ وقراءة من قرأ: في الغرفة بِما صَبَرُوا بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعن أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك.
وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه. وقرئ: يلقون، كقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ويلقون، كقوله تعالى يَلْقَ أَثاماً. والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعنى أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا مع أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك.
[سورة الفرقان (25) : آية 77]
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة: أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرّح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة ولم يعتدّ بهم ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء: العبادة. وما متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل: وأى عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به: ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا علىّ، كما تقول: ما اكترثت له، أى: ما اعتددت به من كوارثى ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي: أى وزن يكون لكم عنده؟
ويجوز أن تكون ما نافية، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ يقول: إذا أعلمتكم أن حكمى أنى لا أعتدّ بعبادي إلا عبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار.
ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتى أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمرى، فقد عصيت فسوف ترى ما أحلّ بك بسبب عصيانك. وقيل: معناه ما يصنع بكم ربى لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، فإن قلت: إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت: إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجدوا في جنسهم من العبادة والتكذيب. وقرئ:
فقد كذب الكافرون. وقيل: يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد رضى الله عنه: هو قتل يوم بدر، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ: لزاما، بالفتح بمعنى اللزوم، كالثبات والثبوت.
(3/297)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف، والله أعلم بالصواب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفرقان لقى الله يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب» «1»
سورة الشعراء
مكية، إلا قوله وَالشُّعَراءُ ... إلى آخر السورة وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: وست وعشرون آية [نزلت بعد الواقعة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)
طسم بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها الْكِتابِ الْمُبِينِ الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند الله، والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.
[سورة الشعراء (26) : آية 3]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة رضى الله عنه: باخع نفسك على الإضافة.
[سورة الشعراء (26) : آية 4]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. فَظَلَّتْ معطوف على الجزاء الذي هو ننزل،
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.
(3/298)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره: فأصدّق وأكن، كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ:
لو شئنا لأنزلنا. وقرئ: فتظل أعناقهم. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعين، كقوله تعالى لِي ساجِدِينَ وقيل أعناق الناس:
رؤساؤهم ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم هم الرءوس والنواصي والصدور. قال:
في محفل من نواصي النّاس مشهود «1»
وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. وقرئ: فظلت أعناقهم لها خاضعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بنى أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 6]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6)
أى: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به. فإن قلت:
كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت:
إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له فَسَيَأْتِيهِمْ وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 7 الى 9]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 428 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/299)
بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضى في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضىّ في معانيه وفوائده، وقال:
حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه «1»
أى: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضى فيما يتعلق به من المنافع إِنَّ فِي إنبات تلك الأصناف لَآيَةً على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجوّ إيمانهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه من الكفرة الرَّحِيمُ لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم «2» ؟ قلت: قد دلّ كُلِّ على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكَمْ على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة «3» ، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين، أحدهما:
__________
(1) .
من رأى يومنا ويوم بنى التيم ... إذا التف صيقه بدمه
لما رأوا أن يومهم أشب ... شدوا حيازيمهم على ألمه
كأنما الأسد في عرينهم ... ونحن كالليل جاش في قتمه
لا يسلمون الغداة جارهم ... حتى يزل الشراك عن قدمه
ولا يخيم اللقاء فارسهم ... حتى يشق الصفوف من كرمه
لرجل من حمير. ومن: استفهامية. والصيق والصيقة- بالكسر-: الغبار والتراب. والأشب- كحذر-: كثير الجلية والاختلاط، ويطلق على المكان الذي التف شجره، والحيزوم: الصدر. والعرين: أجمة الأسد يسكن فيها.
وجاش: ارتفع وأقبل. والقتم: الغبار والسواد والظلمة. وروى في غشمه: بالغين. والمعنى واحد، لا يسلمون لا يخذلون ولا يتركون. والشراك: سير النعل، ولا يخيم: أى لا يجبن عن اللقاء، واليوم: الزمن أو الواقعة، وإضافة الصيق والدم إليه لأنه فيه. ووصف اليوم بأنه كثير الصياح والاختلاط، لأن ذلك واقع فيه، وشد الحيازيم على الألم: كناية عن التجلد والصبر. وشبههم بالأسود في شجاعتهم، وشبه قومه بالليل في الاحاطة والقهر للغير، ثم قال: لا يتركون حليفهم غداة الروع حتى يرتبك وحده في الحرب، فزلل الشراك: كناية عن ذلك ولا يجبن الفارس منهم عن اللقاء، فهو نصب على نزع الخافض، وقيل: مفعول معه، حتى يشق صفوف الحرب ويدخلها من كرمه، أى شجاعته وجراءته، لأن الكرم في كل باب بحسبه، وحتى الأولى غاية للمنفي، والثانية غاية للنفي. ويجوز أن الثانية ابتدائية، والفعل بعدها مرفوع على الاستئناف، وهذا أبلغ في المدح، ثم إن مدح عدوهم مدح لهم.
(2) . قوله «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» لعل بعده سقطا تقديره «كان مستقيما» . (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما فائدة الجمع بين كل وكم؟ وأجاب بأن كلا دخلت للاحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط به متكاثر مفرط الكثرة» قال أحمد: فعلى مقتضى ذلك يكون المقصود بالتكثير: الأنواع والظاهر أن المقصود آحاد الأزواج والأنعام، ويدل عليه أنك لو أسقطت كُلِّ فقلت: انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني، لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه، فإذا أدخلت كُلِّ فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين، والله أعلم.
(3/300)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
أن النبات على نوعين: نافع وضارّ، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضارّ. والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضارّه، ويصفهما جميعا بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودلّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أىّ آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية.
وقد سبقت لهذا الوجه نظائر.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 11]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11)
سجل عليهم بالظلم بأن قدّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبنى إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ:
ألا يتقون بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: ألا يتقون؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون لا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في الظالمين، أى: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
وأمّا من قرأ: ألا تتقون. على الخطاب. فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه «1» وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يونجه ويعنف يه ويقول له: ألم تتق الله، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه الصلاة والسلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى
__________
(1) . قوله «وحر مزاجه» في الصحاح: حر يحر حرا وحرارة وحرور. (ع) [.....]
(3/301)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي أَلا يَتَّقُونَ بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله أَلَّا يَسْجُدُوا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 13]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13)
ويضيق وينطلق، بالرفع لأنهما معطوفان على خبر إنّ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن.
والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفى انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت:
اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع «1» الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهرون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ومعنى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به «2» ، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد الله إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من
__________
(1) . قوله «من الفصحاء المصاقع» في الصحاح «صقع الديك» : صاح. وخطيب مصقع، أى: بليغ. (ع)
(2) . قوله «وآزرنى به» في الصحاح «آزرت فلانا» : عاونته. والعامة تقول: وازرته. (ع)
(3/302)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر: ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.
[سورة الشعراء (26) : آية 14]
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعنى: ولهم علىّ تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل «1» ، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمى جزاء السيئة سيئة. فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللا، وجعلتها تمهيدا للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون تعللا. والدليل عليه: ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 15 الى 22]
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
جمع الله له الاستجابتين معا في قوله كَلَّا فَاذْهَبا لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فَاذْهَبا أى اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون. فإن قلت: علام عطف قوله فَاذْهَبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهرون. وقوله مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما
__________
(1) . قوله «وهي قود ذلك القتل» لعله القتيل. (ع)
(3/303)
وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون مُسْتَمِعُونَ مستقرا، ومَعَكُمْ لغوا. فإن قلت: لم جعلت مُسْتَمِعُونَ قرينة مَعَكُمْ في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أى: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «1» «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» «2» . فإن قلت: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه- إذا وصف به- بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال:
ألكنى إليها وخير الرّسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر «3»
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول «4»
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ، والمحفوظ «صب في أذنيه الآنك» وهو الرصاص. وذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ: «البرم الدم» وقال: هو الكحل المذاب. قلت: وإنما تلقاه ابن الأثير عن الفائق، فرجع إلى الزمخشري.
(2) . قوله «صب في أذنيه البرم» في الصحاح «البرم» : ثمر العضاء. (ع)
(3) . لأبى ذؤيب. وألاكه يليكه: إذا أرسله. والمصدر إلاكة، فالهمزة زائدة. والأصل: لاك يلوك، كقام يقوم. وأما ألكه: إذا أرسله أيضا، فمصدره: ألوكة وأليكة ومألكة، بضم اللام وفتحها. ومألك بضمها.
وقيل: ألاكه، إذا تحمل رسالته. فالمعنى: أرسلنى، أو تحمل رسالتي إليها. ويروى: إليه: أى: إلى ذلك الأمر. والرسول في الأصل مصدر، فجاز إفراده مع تعدد معناه، ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم. وشبه الخبر بمكان ذى جهات على طريق المكنية. والنواحي تخييل. أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحى على طريق التصريحية، يعنى أنه أعلم من غيره بذلك.
(4) .
حلفت برب الراقصات إلى منى ... خلال الملا يمددن كلّ جديل
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
فلا تعجلي يا عز أن تنفهمى ... بنصح أتى الواشون أم بحبول
لكثير صاحب عزة. والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، خلال الملا: أى في أثناء الناس. والجديل الرسن في عنقها تمده به. والواشي: الذي يحسن الكلام ويموهه، ويخلط الصدق بالكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه. و «ما» نافية، أى: ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم إلى أحد برسول، أى برسالة، فهو في الأصل مصدر. وقد يطلق على المرسل، وهو الظاهر في رواية، «ولا راسلتهم برسول» أى لا شافهتهم بالسر ولا أرسلت إليهم رسولا به، وهذه الرواية أوفق بالمقابلة. ويمكن أن أرسلتهم بمعنى أرسلت إليهم، والأصل: يا عزة، فرخم بحذف التاء، أن تنفهمى، أى: في أن تنفهمى. أو لأجل أن تنفهمى، بنصح، أى: أبنصح أتى الواشون إليك، أم بحبول: جمع حبل بالكسر: وهي الداهية العظيمة، ولا أدهى من الكذب.
(3/304)
ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا أَنْ أَرْسِلْ بمعنى: أى أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال:
التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له أَلَمْ نُرَبِّكَ حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه.
وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبى لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبى عمرو: من عمرك، بسكون الميم سِنِينَ قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة.
وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك.
وعن الشعبي: فعلتك بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدّد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه «1» بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ يجوز أن يكون حالا، أى: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله تعالى عاصم من يريد أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر.
ويجوز أن يكون قوله وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين لفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وقرئ: إلهتك، فأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو مِنَ الضَّالِّينَ أى الجاهلين. وقراءة ابن مسعود: من الجاهلين، مفسرة. والمعنى: من
__________
(1) . قال محمود: «عدد نعمته عليه ووبخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وفظعه عليه بقوله: وفعلت فعلتك» قال أحمد: ووجه التفظيع عليه من ذلك أن في إتيانه به مجملا مبهما، إيذانا بأنه لفظاعته مما لا ينطق به إلا مكنيا عنه. ونظيره في التفخيم المستفاد من الإبهام قوله تعالى فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ومثله كثير، والله أعلم.
(3/305)
الفاعلين فعل أولى الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب.
أو الناسين، من قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع الضالين موضع الكافرين ربأ بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه «1» ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال:
علا م يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان «2»
فإن قلت: إذا جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت:
قول فرعون: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
فإن قلت: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم؟ مع إفراده في تمنها وعبدت؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد. فإن قلت: تِلْكَ إشارة إلى ماذا، وأَنْ عَبَّدْتَ ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها. ومحل أَنْ عَبَّدْتَ الرفع عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ والمعنى: تعبيدك بنى إسرائيل نعمة تمنها على. وقال
__________
(1) . قوله «واستأصله من سنخته» في الصحاح «السنخ» الأهل، وسنخ في العلم سنوخا رسخ: وسنخ الدهر- بالكسر-: لغة في زنخ، إذا فسد وتغيرت ريحه. يقال: بيت له سنخة وسناخة اه. (ع)
(2) . علام: استفهام إنكارى عن العلة، أى: على أى شيء. وأعبدت الرجل وعبدته: إذا اتخذته عبدا. والأباعر:
جمع بعير، يطلق على الذكر والأنثى من الإبل. والعبد: يجمع على عبدان بالكسر والضم وعبدى، بتشديد الدال مقصورا وممدودا. ومعبودا، وعباد، وأعبد، وعبيد، وعبد بضمتين وبفتحتين، يقول: لأى شيء يتخذونى عبدا، والحال أنه كثرت فيهم الإبل والعبيد بسببي، فليتخذوا منها ما شاءوا: بدل من الأباعر أو واقع موقع المصدر لكثرت، دلالة على التكثير. وفي هذه الحال: تهكم بهم ودلالة على حمقهم. ويجوز أن المعنى: والحال أن بعضهم كالأباعر، وبعضهم عبيد، فليكتفوا ببعضهم عنى. وقيل: يجوز أن التقييد بهذه الحالة، لأنها التي حملتهم على التكبر عليه.
(3/306)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
الزجاج: ويجوز أن يكون أَنْ في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة علىّ لأن عبدت بنى إسرائيل، أى: لو لم تفعل ذلك لكفلنى أهلى ولم يلقوني في اليم.
[سورة الشعراء (26) : آية 23]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
لما قال له بوّابه إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ يريد: أى شيء رب العالمين. وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به أى شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرّفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، «ليس كمثله شيء» وإما أن يريد به: أى شيء هو على الإطلاق، تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأنّ الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك. وأمّا التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام:
أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به «1» ، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتدّ واحتدم وقال: لئن اتخذت إلها غيرى. وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير.
[سورة الشعراء (26) : آية 24]
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
فإن قلت: كيف قيل وَما بَيْنَهُمَا على التثنية، والمرجوع إليه مجموع؟ قلت: أريد وما بين الجنسين، فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال:
في الهيجا جمالين «2»
__________
(1) . قوله «وطنز به» أى: سخر به واحتدم، أى: التهب صدره غيظا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعي عمرو عقالين
لأصبح الناس أو بادا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين
الساعي: المنصوب لأخذ الزكاة. والعقال: زكاة العام، والمراد به هنا العام، لأنه جرى مجرى الظرف. والسبد:
الشيء القليل. يقال: لا له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير. وقال الأصمعي: الأول من الشعر، والثاني من الصوف. والأوباد: جمع وبد بفتحتين، وأصله ضيق العيش وسوء الحال، فاستعمل استعمال الصفات للمبالغة، وثنى الجمال على معنى نوعين منها أو طائفتين منها ولو من نوع واحد. يقول: سعى سنة واحدة لأخذ زكاتها، فظلمنا ولم يترك لنا شيئا قليلا من مالنا، فكيف يكون حالنا لو سعى عامين. وفي ذكر عمرو بعد تقدم ضميره نوع من التهويل. ويحتمل أنه من باب التنازع، فيجوز أن الظاهر فاعل الأول، وفاعل الثاني ضميره، وقوله «لأصبح» مرتب على محذوف، أى: لو سعى عقالين، لأصبح الناس هلكى من الفقر، ولم يجدوا عند تفرقهم في الحرب نوعين من الجمال: لكل فريق منهما نوع، فيختل أمر الغزوات لاحتمال محاربة العدو في جهتين بل في جهات، فيحتاج إلى جمالين، بل إلى جمالات.
(3/307)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
فإن قلت: ما معنى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟ قلت: معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدى إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به، لظهوره وإنارة دليله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 25 الى 28]
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
فإن قلت: ومن كان حوله؟ قلت: أشراف قومه قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت الملوك خاصة. فإن قلت: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ قلت: قد عمم أوّلا، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم. لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله، عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان، فبهت الذي كفر. وقرئ: رب المشارق والمغارب. الذي أرسل إليكم بفتح الهمزة.
فإن قلت: كيف قال أوّلا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وآخرا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟ قلت: لاين أوّلا، فلما رأى منهم شدّة الشكيمة «1» في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض: إنّ رسولكم لمجنون، بقوله: إن كنتم تعقلون.
[سورة الشعراء (26) : آية 29]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
فإن قلت: ألم يكن: لأسجننك، أخصر من لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ومؤديا مؤداه؟ قلت:
أما أخصر فنعم. وأما مؤدّ مؤدّاه فلا، لأنّ معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في
__________
(1) . قوله شدة الشكيمة، في الصحاح: فلان شديد الشكيمة، إذا كان شديد النفس أنفا أبيا. (ع)
(3/308)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
سجونى. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشدّ من القتل وأشدّ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 30 الى 31]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
الواو في قوله أَوَلَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه: أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين، أى: جائيا بالمعجزة. وفي قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنه لا يأتى بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوّة، والحكيم لا يصدّق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفى على ناس من أهل القبلة «1» حيث جوّزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات»
،
__________
(1) . قوله «وخفى على ناس من أهل القبلة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إن كلا من الحسن والقبيح بقضاء الله تعالى وقدره، ولم يلزمهم باطل كما بين في علم التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «علم فرعون أنه لا يأتى بالمعجزة إلا صادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن فرعون لم يخف عليه هذا وخفى على طائفة من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى كلامه» قال أحمد: ليته سلم وجه تصنيفه من ثآليل هذه الأباطيل، وكلف هذا التكليف في كيده لأهل السنة وإن كيده لفي تضليل، بينا هو يعرض بتفضيل فرعون عليهم، إذا هو قد حتم على إخوانه القدرية أنهم فراعنة، وأن كلا منهم إذا فتش نفسه وجد فيها نصيبا من فرعنته حيث يقول أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لأنهم يعتقدون أن أفعالهم خلقهم، وأنهم لها مبدعون خالقون كلا إنهم لهم المبتدعون المختلقون، لأنهم حجروا على الله تعالى أن يفعل إلا ما توطأت أوهامهم، على أنه حسن بالنسبة إلى الخلق في الشاهد، فمن ثم أشركوا به وهم لا يشعرون. ولما هدى الله تعالى أهل السنة إلى التوحيد الحق، اعتقدوا أن كل شيء هو مخلوق لله تعالى لا شريك له في ملكه، وأن كل ممكن يجوز أن ينظمه سلطان القدرة الأزلية في سلكه، فكان من الممكنات أن يبتلى الله عباده يخرق العادات على أيدى الكذابين، ومراده إظهار الضلالات: وقد اندرج ذلك لكونه ممكنا تحت سطوة القدرة حقا بينا، ثم لم يلزم من ذلك لله الحمد خرم في الدين، فان توهم ناظر بعين الهوى والغرض، معنون عما في قلبه من مرض: أن ذلك يجر إلى عدم الوثوق بمعجزات الأنبياء، حيث كان على يد غيرهم من الكذابين الأشقياء، قيل: معاذ الله أن نأخذ ذلك بنفس مطمئنة بصدق الأنبياء، آمنة بحصول العلم لها من وقوع ما جوزه العقل، ولو قدح الإمكان العقلي في علم حاصل يقينى، للزم الآن الشك في أن جبال الأرض قد عادت تبرا أحمر، وترابها مسكا أذفر، وانقلبت البحار دما عبيطا لأن ذلك ممكن في العقل بلا خلاف، ولا يشكك نفسه في هذا الإمكان إلا ذو خبل وعته وعمى وعمه، وأين الزمخشري من الحديث الصحيح في الشاب الذي يكذب الدجال فيقسمه بالسيف جزلتين فيمشى بينهما، ثم يقول له: عد فيعود حيا، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم به ثانى مرة فلا يسلط عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهو حينئذ خير أهل الأرض، أو من خير أهل الأرض» أفرأيت هذا المؤمن لما نظر انخراق العادة على يد أكذب الكاذبين حتى شاهد ذلك في نفسه، لم يشككه ذلك في معلومه، فلم يتلكأ في معاودة تكذيبه، ولكن يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.
(3/309)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به، فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 33]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزوّرة بالشعوذة والسحر. وروى أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت. ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا لِلنَّاظِرِينَ دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه، لخروجه عن العادة، وكان بياضا نوريا. روى أنّ فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال له: ما هذه؟ قال: يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار «1» ويسدّ الأفق.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 الى 35]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35)
فإن قلت: ما العامل في حَوْلَهُ؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل، فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلى وهو النصب على الحال: قال: ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زلّ عنه ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا «2» ، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحسّ به من جهة موسى عليه السلام وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ قول باهت إذا غلب ومتمحل إذا لزم تَأْمُرُونَ من المؤامرة وهي المشاورة. أو من الأمر الذي هو ضدّ النهى: جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة. وماذا منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قوله: أمرتك الخير.
__________
(1) . قوله «ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار» في الصحاح «الغشاء» : الغطاء اه. ولعل عبارة المصنف يعشى بالعين المهملة، وفي الصحاح «العشا» مقصور: مصدر: الأعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. (ع)
(2) . قوله «وانتفخ سحره خوفا وفرقا» في الصحاح «السحر» : الرئة. ويقال للجبان: قد انتفخ سحره. (ع)
(3/310)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 36 الى 37]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
قرئ: أرجئه وأرجه: بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته، إذا أخرته. ومنه: المرجئة «1» ، وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسه حاشِرِينَ شرطا يحشرون السحرة «2» ، وعارضوا قوله: إن هذا الساحر، بقولهم: بكل سحار، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصفة المبالغة، ليطامنوا من نفسه ويسكنوا بعض قلقه. وقرأ الأعمش: بكل ساحر.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 40]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)
اليوم المعلوم: يوم الزينة. وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى صلوات الله عليه من يوم الزينة في قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى والميقات:
ما وقت به، أى حدد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق: إذا أراد أن يحرّك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف. ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق «3»
يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أى في دينهم إن غلبوا موسى،
__________
(1) . قال محمود: «معناه أخره. ومنه المرجئة الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله» قال أحمد: ضاقت عليه المسالك في تفسير الارجاء، حتى استدل عليه بالمرجئة، وصرف هذا اللقب لأهل السنة، فإنهم هم الذين لا يقطعون بوعيد فساق المؤمنين، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم.
فان كانت المرجئة هم المؤمنون بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ اللهم فاشهد أنا مرجئة.
(2) . قوله «شرطا يحشرون السحرة» الشرط- محركة-: الحرس، سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، أفاده الصحاح. (ع)
(3) . لتأبط شرا. وقيل: لجرير الخطفى، وهل: استفهام استبطائى فيه حث على الفعل. ودينار: اسم رجل وعبد رب كذلك، وهو نصب عطفا على محل دينار، لأنه مفعول معنى. وأخا عوف: نعت له. وقيل: منادى.
وعوف ومخراق: اسمان لرجلين. ويروى «عون» بالنون.
(3/311)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة «1» ، وإنما الغرض الكلى: أن لا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى عليه السلام.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 41 الى 42]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
وقرئ: نعم، بالكسر «2» ، وهما لغتان. ولما كان قوله إِنَّ لَنا لَأَجْراً في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوفا عليه ومدخلا في حكمه، دخلت إذا قارّة في مكانها الذي تقتضيه من الجواب والجزاء، وعدهم أن يجمع لهم إلى الثواب على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى: القربة عنده والزلفى.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 44]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
أقسموا بعزة فرعون وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله معلقا ببعض أسمائه أو صفاته، كقولك: بالله، والرحمن، وربى، ورب العرش، وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» «3» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أنّ الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتدّ بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 48]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)
__________
(1) . قوله «باتباع السحرة» لعله: اتباع، كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «وقرئ نعم بالكسر» أى كسر العين، كما في الصحاح. (ع)
(3) . أخرجه النسائي من حديث أبى هريرة دون قوله «ولا تحلفوا إلا بالله» وقال «بالأنداد» بدل الطواغيت وله من حديث عبد الرحمن بن سمرة «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» مختصر. وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .
(3/312)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم، ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم: سمى تلك الأشياء إفكا مبالغة. روى أنهم قالوا: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به، علموا أنه من الله فآمنوا. وعن عكرمة رضى الله عنه: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء، لأنه ذكر مع الإلقاآت، فسلك به طريق المشاكلة. وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا. فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عزّ وجل بما خوّلهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة، ولك أن لا تقدّر فاعلا، لأنّ أَلْقُوا بمعنى خرّوا وسقطوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون لعنة الله عليه كان يدعى الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي يدعو إليه هذان، والذي أجرى على أيديهما ما أجرى.
[سورة الشعراء (26) : آية 49]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى وبال ما فعلتم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 50 الى 51]
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة.
أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان وخبر لا محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا أَنْ كُنَّا معناه: لأن كنا، وكانوا أوّل جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ: إن كنا، بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره «1» ، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أوّل
__________
(1) . قوله «المدل بأمره» أى الواثق به. أفاده الصحاح. (ع)
(3/313)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي ومنه قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 56]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
قرئ: أسر، بقطع الهمزة ووصلها. وسر إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أنى بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم. وروى:
أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه.
وروى: أنّ الله أوحى إلى موسى: أن اجمع بنى إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء «1» واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنى سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزا فطيرا «2» فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمرى، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى عليه السلام وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا، وسماهم شرذمة قليلين إِنَّ هؤُلاءِ محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم:
ثوب شراذم، للذي يلي وتقطع قطعا، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا، واختار جمع السلامة الذي هو للقلة «3» ، وقد يجمع
__________
(1) . قوله «ثم اذبحوا الجداء» في الصحاح «الجدى» من ولد المعز. وثلاثة أجد. فإذا كثرت فهي الجداء. (ع)
(2) . قوله «واخبزوا خبزا فطيرا» في الصحاح «الفطير» : خلاف الخمير، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير. (ع)
(3) . قال محمود: «وقللهم من أربعة أوجه: عبر عنهم بالشرذمة وهي تفيد القلة، ثم وصفهم بالقلة، وجمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل، واختار جمع السلامة ليفيد القلة» قال أحمد: ووجه آخر في تقليلهم يكون خامسا:
وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد، قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة إلى غيره من الموصوفين به، كقولهم: معا زيد جياع، مبالغة في وصفه بالجوع، فكذلك هاهنا جمع قليلا، وكان الأصل إفراده فيقال: لشرذمة قليلة، كما أفرد في قوله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ليدل بجمعه على تناهيهم في القلة، لكن يبقى النظر في أن هذا السر يبقى الوجوه المذكورة على ما هي عليه، أو يسقط منها شيئا ويخلفه، فتأمله والله الموفق.
(3/314)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
القليل على أقلة وقلل «1» . ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى:
أنهم لقلتهم لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه. وقرئ: حذرون وحاذرون وحادرون «2» ، بالدال غير المعجمة. فالحذر:
اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه. والحادر: السمين القوى. قال:
أحبّ الصّبىّ السوء من أجل أمّه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر «3»
أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 57 الى 60]
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
وعن مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد:
المنازل الحسنة والمجالس البهية. وعن الضحاك: المنابر. وقيل السر في الحجال «4» كَذلِكَ يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لمقام، أى: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أى: الأمر كذلك. فَأَتْبَعُوهُمْ فلحقوهم. وقرئ: فاتبعوهم مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 61 الى 68]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
__________
(1) . قوله «وقد يجمع القليل على أقلة وقلل» في الصحاح: مثل سرير وسرر. (ع) [.....]
(2) . قوله «وقرئ حذرون وحاذرون وحادرون» في الصحاح: وقرئ: وإنا لجميع حاذرون. وحذرون. وحذرون، أيضا بضم الذال، حكاه الأخفش. ومعنى «حاذرون» متأهبون. وفيه: آد الرجل، أى قوى، من الأداة، فهو مؤد بالهمز، أى: شاك في السلاح. وفيه آديت السفر فأنا مؤد له، إذا كنت متهيئا له. (ع)
(3) . الحادر: القوى الشديد، أو الشجاع الباسل، أى: إن مدار حب الولد على حب أمه، لا على حسن أوصافه وضمير «أبغضه» عائد على الصبى بدون وصفه، لكن هذه شيمة المنهمك في حب النساء.
(4) . قوله «وقيل السر في الحجال» السر: الجماع، والحجال: جمع حجلة وهي بيت العروس يزين بالثياب والأسرة والستور، كذا في الصحاح. (ع)
(3/315)
سَيَهْدِينِ طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ، فلما تراءت الفئتان. إنا لمدّركون: بتشديد الدال وكسر الراء، من ادّرك الشيء إذا تتابع ففنى. ومنه قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قال الحسن: جهلوا علم الاخرة. وفي معناه بيت الحماسة:
أبعد بنى أمّى الّذين تتابعوا ... أرجّى الحياة أم من الموت أجزع «1»
والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد. الفرق: الجزء المتفرّق منه.
وقرئ: كل فلق. والمعنى واحد. والطود: الجبل العظيم «2» المنطاد في السماء وَأَزْلَفْنا ثَمَّ حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ قوم فرعون، أى: قربناهم من بنى إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر. وقرئ: وأزلقنا، بالقاف، أى: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله:
تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها ... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل «3»
__________
(1) .
أبعد بى أمى الذين تتابعوا ... أرجى حياة أم من الموت أجزع
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطى ما أشاء وأمنع
أولئك إخوان الصفاء رزئتهم ... وما الكف إلا أصبع ثم أصبع
لأبى الحناك البراء ربعي الفقعسي، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمراد التحسر والتحزن، وتتابعوا أى انقرضوا واحدا بعد واحد. أرحى: أى أرتجى حياة أم أجزع من الموت، أى: لا أفعل ذلك بعدهم وقال: بى أمى، لأن المقام مقام رقة ورحمة، فهم ثمانية كانوا رؤساء قومهم، كالذؤابة الرأس، وهي شعرها الذي يتحرك حولها، فهو تشبيه بليغ، ثم قال: كنت بهم أفعل ما أريد من الإعطاء والمنع. ويجوز بناء الفعلين للمجهول، فالمعنى: كنت بهم أنال ما أشاء وأكفى شر ما أشاء، ورزأته أصبته في ماله. ورزأته ماله. ورزأتهم: مبنى للمجهول، أى: نقصني الدهر إياهم وأخذهم منى، فلا قوة لي بعدهم، كما أن الكف إذا فقدت أصابعها بطلت قوتها، لأن بطشها ليس إلا بالأصابع منتظمة مرتبة، فهم لي كالأصابع للكف.
(2) . قوله «والطود الجبل العظيم المنطاد في السماء» في الصحاح «طود في الجبال» : مثل طوف وطوح. والمطاود مثال المطاوح. (ع)
(3) . لزهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف. وعبس وذبيان كلاهما اسم قبيلة. يقول: تداركتما هاتين القبيلتين بالصلح بينهما ودفع ديات قتلاهم، وقد ثل: أى هدم عرشها. وهذا تمثيل لذهاب عزهم وفناء دولتهم.
وزلت النعل بالقدم: زلقت عن مقرها، وهذا أيضا تمثيل لاختلال أمرهم وفساد رأيهم. وفي البيت شبه الطباق، حيث أن الأولى أتاها العذاب من فوق رءوسها، والثانية: أتاها من تحت أرجلها
(3/316)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبنى إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. عن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بنى إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبنى إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون- وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدرى موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقا: لكل سبط طريق.
وروى أنّ يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى:
هاهنا. فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا. وروى أنّ موسى قال عند ذلك:
يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: أساف إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم، وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله.
وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 71]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71)
كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أنّ ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: ما تَعْبُدُونَ سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناما، كقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ، ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً. قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم نعبد فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده. ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول:
(3/317)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
ألبس البرد الأتحمى «1» ، فأجرّ ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 72 الى 73]
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
لا بد في يَسْمَعُونَكُمْ من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم. وقرأ قتادة: يسمعونكم، أى: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا هل سمعوا أو أسمعوا قط. وهذا أبلغ في التبكيت.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 74 الى 82]
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ولأنّ المغرى على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال عَدُوٌّ لِي تصويرا للمسألة في نفسه، على معنى:
أنى فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا:
ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمّل فيه،
__________
(1) . قوله «البرد الأتحمى» في الصحاح «الأتحمي» : ضرب من البرود. (ع)
(3/318)
فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعىّ رضى الله تعالى عنه أنّ رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتى ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
وقوم علىّ ذوى مئرة ... أراهم عدوّا وكانوا صديقا «1»
ومنه قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين فَهُوَ يَهْدِينِ يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة، وإلى معرفة مكانه، ومن هداه لكيفية الارتضاع، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال مَرِضْتُ دون «أمرضنى» لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه «2» وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: خطاياي، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر، لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارّة: هي أختى. وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي
__________
(1) . المرة: القوة، وشدة الجدال، ويروى: ذوى مبرة، أى: عداوة أو فخر أو شدة. والعدو والصديق يجيئان للمذكر والمؤنث والمثنى والجمع. يقول: ورب قوم أصحاب قوة على، أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
(2) . قال محمود: «إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن كثيرا منه بتفريط الإنسان في مطعمه ومشربه» قال أحمد:
والذي ذكره غير الزمخشري أن السر في إضافة المرض إلى نفسه التأدب مع الله تعالى بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى، ولعل الزمخشري إنما عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام قد أضاف الإماتة إلى الله تعالى وهي أشد من المرض، فلم يثبت عنده المعنى المذكور، ولكن المعنى الذي أبداه الزمخشري أيضا في المرض ينكسر بالموت، فان المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في نفسه، كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضافه إلى الله تعالى. ويمكن أن يفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب:
بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض.
فكم من معافى منه قد بغتة الموت، فالتأسى بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه، ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا، فقال وَإِذا مَرِضْتُ وكان ممكنا أن يقول: والذي يمرضنى فيشفينى كما قال في غيره، فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة إلا لذلك، والله أعلم.
(3/319)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله أَطْمَعُ ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفى لا يعلم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية «1» وهي الحياء. وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي يُبْعَثُونَ ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير الضالين. وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه «2» ، يعنى: ولا تخزني يوم يبعث الضالون وأبى فيهم إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ إلا حال من أتى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وهو من قولهم:
تحيّة بينهم ضرب وجيع «3»
وما ثوابه إلا السيف. وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه: سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
__________
(1) . قوله «ومن الخزاية» لعله: أو من. (ع)
(2) . قوله «أو ضمير الضالين، وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه» لعله عطف على المعنى، كأنه قال: ويحتمل أنه ضمير الضالين ... الخ. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 60 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/320)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤوّل المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف، لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل مَنْ مفعولا لينفع، أى: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راض بإصابته فيه، ثم جعله صفة له في قوله وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ومن بدع التفاسير: تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله. وقول آخر: هو الذي سلم وسلم وأسلم وسالم واستسلم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل اليه ابتهال الأوّابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 95]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها: قال الله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وقال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا:
يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات، فتجعل النار بمرأى منهم، فيهلكون غما في كل لحظة،
(3/321)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
ويوبخون على إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم. أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم: لأنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أى الآلهة وَالْغاوُونَ وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم. والكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها، اللهم أجرنا منها يا خير مستجار وَجُنُودُ إِبْلِيسَ شياطينه، أو متبعوه من عصاة الجن والإنس.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 96 الى 104]
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100)
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجرى ذلك بين العصاة والشياطين. والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم، كقوله رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا وعن السدّى: الأوّلون الذين اقتدينا بهم. وعن ابن جريج: إبليس، وابن آدم القاتل، لأنه أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين وَلا صَدِيقٍ كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أو: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفى ما يتعلق بهم من النفع، لأنّ ما لا ينفع: حكمه حكم المعدوم.
والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق «1» . ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده
__________
(1) . قال محمود: «إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة إذا نزل بإنسان خطب ممن يعرفه وممن لا يعرفه وأما الصديق فقليل» قال أحمد: العجب أن الصديق يقع على الواحد وعلى الجمع، فما الدليل على إرادة الافراد؟
ثم لو كان المراد الافراد لكان أعم، لأنه في سياق النفي، فينفى الواحد فما زاد عليه إلى ما لا نهاية له، والله أعلم
(3/322)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق- وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك- فأعز من بيض الأنوق «1» . وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع. الكرّة: الرجعة إلى الدنيا.
ولو في مثل هذا الموضع في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كرة. وذلك لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير. ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب، وهو: لفعلنا كيت وكيت.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
القوم: مؤنثة، وتصغيرها قويمة. ونظير قوله الْمُرْسَلِينَ والمراد نوح عليه السلام: قولك:
فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد «2» . قيل: أخوهم، لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بنى تميم، يريدون: يا واحدا منهم. ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا «3»
كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة، كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش وَأَطِيعُونِ في نصحى
__________
(1) . قوله «فأعز من بيض الأنوق» في الصحاح: الأنوق- على فعول-: طائر وهو الرخمة. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «المراد نوح، كما تقول: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد» قال أحمد: لا حاجة إلى تأويل الجمع بالواحد هاهنا مع القطع بأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل لأنه ما من نبى إلا ومستند صدقه المعجزة الدالة على الصدق فقد كذبوا كل من استند صدقه إلى دليل المعجزة، وكذلك الاشارة بقوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لأن التفرقة بينهم توجب تكذيب الكل وتصديق واحد يوجب تصديق الكل والله أعلم.
(3) .
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لقريط بن أنيق من قبيلة بلعنبر، أغار عليه ناس من بنى شيبان فأخذوا منه ثلاثين بعيرا، فاستنجد قومه فلم ينجدوه، فاستغاث ببني مازن فركبوا معه وأطردوا له مائة بعير من بنى شيبان، وحرسوه إلى قومه، فمدحهم ووبخ قومه.
والناجذ: السن بين الضرس والناب. وقيل: ضرس العقل. وقيل: الضرس مطلقا. والزرافة- بالفتح والضم-:
الجماعة من الناس، وبها سميت الدابة المعروفة. والوحدان- بالضم-: جمع واحد. وشبه الشر بأسد يكشر عن أنيابه على طريق المكنية فأثبت له الناجذين تخييلا. يقول: بنو مازن شجعان: إذا ظهر الشر واشتد فزعوا إليه جماعات ومنفردين، فاستعار الطيران لذلك على طريق التصريحية. أو شبههم بالطيور في السرعة والانتشار على طريق الكناية والطريق تخييل، لا يسألون صاحبهم دليلا على ما قاله حين يناديهم برفع صوته في الملمات.
(3/323)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
لكم وفيما أدعوكم إليه من الحق عَلَيْهِ على هذا الأمر، وعلى ما أنا فيه، يعنى: دعاءه ونصحه ومعنى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: فاتقوا الله في طاعتي، وكرره ليؤكده عليهم ويقرّره في نفوسهم، مع تعليق كل واحدة منهما بعلة، جعل علة الأوّل كونه أمينا فيما بينهم، وفي الثاني حسم طمعه عنهم.
[سورة الشعراء (26) : آية 111]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
وقرئ: وأتباعك، جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو جمع تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال. وحقها أن يضمر بعدها «قد» في: واتبعك. وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قوله الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا والرذالة والنذالة: الخسة والدناءة. وإنما استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا. وقيل كانوا من أهل الصناعات الدنية «1» كالحياكة والحجامة. والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الغاغة «3» . وعن عكرمة:
الحاكة والأساكفة. وعن مقاتل: السفلة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 112 الى 115]
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
وَما عِلْمِي وأى شيء علمى؟ والمراد: انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطلاعه على سر أمرهم وباطنه. وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا- مع استرذالهم- في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ويجوز أن يتغابى لهم نوح عليه السلام. فيفسر قولهم الأرذلين، بما هو الرذالة عنده، من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم، ثم يبنى جوابه على ذلك فيقول: ما علىّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيئ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز لَوْ تَشْعُرُونَ ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار
__________
(1) . قوله «الصناعات الدنية» لعله: الدنيئة. كعبارة النسفي. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبى سفيان بلفظ: وسألتك ضعفاء الناس اتبعوه أم أشرافهم؟ فقلت:
بل ضعفاؤهم وكذلك أتباع الرسل. قلت: رواه بلفظ «أراذلهم» .
(3) . قوله «هم الغاغة» لعله الصاغة. وفي الخازن: قال ابن عباس: يعنى القافة. (ع)
(3/324)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ يريد ليس من شأنى أن أتبع شهواتكم وأطيب نفوسكم بطرد المؤمنين الذين صح إيمانهم طمعا في إيمانكم وما علىّ إلا أن أنذركم إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 116 الى 122]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
ليس هذا بإخبار بالتكذيب، لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أنى لا أدعوك عليهم لما غاظونى وآذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك، فاحكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ والفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح المستغلق كما سمى فيصلا، لأنه يفصل بين الخصومات. الفلك: السفينة، وجمعه فلك: قال الله تعالى: وترى الفلك فيه مواخر: فالواحد بوزن قفل، والجمع بوزن أسد، كسروا فعلا على فعل، كما كسروا فعلا على فعل، لأنهما أخوان في قولك: العرب والعرب، والرشد والرشد. فقالوا: أسد وأسد، وفلك وفلك. ونظيره: بعير هجان، وإبل هجان. ودرع دلاص. ودروع دلاص، فالواحد بوزن كناز، والجمع بوزن كرام. والمشحون: المملوء. يقال: شحنها عليهم خيلا ورجالا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 131]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
قرئ: بكل ريع، بالكسر والفتح: وهو المكان المرتفع. قال المسيب بن علس:
(3/325)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
في الآل يرفعها ويخفضها ... ريع يلوح كأنّه سحل «1»
ومنه قولهم: كم ريع أرضك؟ وهو ارتفاعها. والآية: العلم وكانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم. فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام «2» . والمصانع: مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد. وفي حرف أبىّ: كأنكم. وقرئ تخلدون بضم التاء مخففا ومشددا وَإِذا بَطَشْتُمْ بسوط أو سيف كان ذلك ظلما وعلوا، وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 132 الى 135]
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال «3» أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة، فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه.
ونحوه قوله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. فإن قلت: كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت: هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 140]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
__________
(1) . للمسيب بن علس، والآل: هو السراب. وقيل: الآل: ما في طرفى النهار وما في وسطه السراب.
والريع بالكسر: الطريق والمرتفع من الأرض. والسحل: نوع أبيض من ثياب اليمن، ولعل الضمير للظعائن، أى: هي في الآل. أو في وقته: برفعها تارة وبخفضها أخرى، ريع: أى طريق مرتفع تارة، ومنخفض أخرى.
أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه، يلوح: أى يظهر من بعد، كأنه ثياب بيض.
(2) . قال محمود: «كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم، فاتخذوا في طرقهم أعلاما فعبثوا بذلك، إذ النجوم فيها غنية عنها. وقيل: المراد القصور المشيدة، وقيل: بروج الحمام» قال أحمد: وتأويلها على القصور أظهر، وقد ورد ذم ذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث وصف الكائنين آخر الزمان بأنهم يتطاولون في البنيان، وما أحسن قول مالك رضى الله عنه: ولا يصلى الامام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، كالدكاك تكون مرتفعة في المحراب ارتفاعا كبيرا، لأنهم يعبثون، فعبر عن ترفعهم إلى المحراب على سبيل التكبر ومطاولتهم المأمومين بالعبث، كتعبير هود صلوات الله عليه وسلامه عن ترفع قومه في البنيان بالعبث. وأما تأويل الآية على اتخاذهم الأعلام في الطرقات وقد كانت لهم بالنجوم كفاية، ففيه بعد، من حيث أن الحاجة تدعو إلى ذلك لغيم مطبق وما يجرى مجراه.
ولو وضع هذا في زماننا اليوم لهذا المقصد لم يكن عبثا، والله أعلم.
(3) . قوله «حين قال» لعله: حيث قال. (ع)
(3/326)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
فإن قلت: لو قيل أَوَعَظْتَ أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأنّ المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم لم تعظ. من قرأ: خلق الأوّلين بالفتح، فمعناه: أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين وتخرّصهم، كما قالوا:
أساطير الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ: خلق، بضمتين، وبواحدة، فمعناه. ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت الإعادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 152]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
أَتُتْرَكُونَ يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدّعة فِي ما هاهُنا في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل. فإن قلت: لم قال وَنَخْلٍ بعد قوله: في جنات، والجنة تتناول النخل أوّل شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج، حتى أنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل. قال زهير:
(3/327)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
.... تسقى جنّة سحقا «1»
قلت: فيه وجهان: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر، تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها، وأن يريد بالجنات: غيرها من الشجر، لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو. والقنو:
اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. والهضيم: اللطيف الضامر، من قولهم:
كشح هضيم، وطلع إناث النخل فيه لطف، وفي طلع الفحاحيل جفاء، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون «2» ، فذكرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه: لأنّ الإناث ولادة التمر، والبرني: أجود التمر وأطيبه ويجوز أن يريد أن نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء، وسلمت من العاهات، فحملت الحمل الكثير، وإذا كثر الحمل هضم، وإذا قل جاء فاخرا.
وقيل: الهضيم: اللين النضيج، كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. قرأ الحسن: وتنحتون، بفتح الحاء. وقرئ: فرهين، وفارهين. والفراهة: الكيس والنشاط. ومنه: خيل فرهة، استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر المطاع. أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر. ومنه قولهم: لك علىّ إمرة مطاعة. وقوله تعالى وَأَطِيعُوا أَمْرِي. فإن قلت: ما فائدة قوله وَلا يُصْلِحُونَ؟ قلت: فائدته أنّ فسادهم فساد مصمت ليس معه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 154]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
المسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة، «3» وأنه بشر.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 155 الى 156]
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
الشرب: النصيب من الماء، نحو السقي والقيت، للحظ من السقي والقوت، وقرئ بالضم.
روى أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا «4» ، فقعد صالح يتفكر،
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون» البرني: ضرب من التمر. واللون: الدقل، والدقل:
أردا التمر، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «الرئة» لعله: بمعنى الرئة. (ع)
(4) . قوله «فتلد سقبا» في الصحاح «السقب» : الذكر من ولد الناقة. (ع)
(3/328)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبى موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا.
وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء بِسُوءٍ بضرب أو عقر أو غير ذلك. عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 157 الى 159]
فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
وروى أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت: ثم ضربها قدار. وروى أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم. فإن قلت: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ قلت: لم يكن ندمهم ندم تائبين، ولكن ندم خائفين أن يعاقبوا على العقر عقابا عاجلا، كمن يرى في بعض الأمور رأيا فاسدا ويبنى عليه، ثم يندم ويتحسر كندامة الكسعىّ «1» أو ندموا ندم تائبين ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب. وقال الله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ... الآية. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد، وهو بعيد. واللام في العذاب: إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 166]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166)
أراد بالعالمين: الناس، أى: أتأتون من بين أولاد آدم عليه السلام- على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة- ذكر انهم، كأن الإناث قد أعوزتكم.
__________
(1) . قوله «كندامة الكسعي» الكسع: حي من اليمن. والكسعي: رجل منهم ربى تبعة حتى أخذ منها قوسا فرمي عنها الوحش ليلا وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصابه من الصيد فندم، وضرب به المثل من قال:
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
كذا في الصحاح. (ع)
(3/329)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
أو أتأتون أنتم- من بين من عداكم من العالمين- الذكران، يعنى أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والعالمون على هذا القول: كل ما ينكح من الحيوان مِنْ أَزْواجِكُمْ يصلح أن يكون تبيينا لما خلق «1» ، وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق: العضو المباح منهنّ.
وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. العادي: المتعدّى في ظلمه، المتجاوز فيه الحدّ، ومعناه: أترتكبون هذه المعصية على عظمها، بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي، فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة.
[سورة الشعراء (26) : آية 167]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن نهينا وتقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ حال: من تعنيف به، واحتباس لأملاكه «2» . وكما يكون حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه، وكما كان يفعل أهل مكة بمن يريد المهاجرة.
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون من أزواجكم بيانا لما خلق، وأن يكون للتبعيض ويراد به العضو المباح منهن. وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، فكأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم» قال أحمد:
وقد أشار الزمخشري بهذه الاشارة للاستدلال بهذه الآية على حظر إتيان المرأة في غير المأتى، وبيانه أن «من» لو كانت بيانا لكان العنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج، ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران» وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر، ولو كان الأمر كذلك لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع، وكان إما الأفصح أو المتعين، وقد اجتمعت العامة على القراءة به مرفوعا، ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة أو في الجواز أصلا، فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد، فيتعين حمل «من» على البعضية، فيكون المنكر عليهم أمرين كل واحد منهما مستقل بالإنكار، أحدهما: إتيان الذكران. والثاني: مجانبة إتيان النساء في المأتى رغبة في إتيانهن في غيره، وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير، والله الموفق. [.....]
(2) . قال محمود: «أى من جملة من أخرجناه، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال من تعنيف به واحتباس لأملاكه وأشباه ذلك» قال أحمد: وكثيرا ما ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، كقول فرعون لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وقولهم سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ وقولهم لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ وقوله إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ وقوله تعالى في غيرها رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وكذلك ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك والله أعلم: أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه، وهو أن الصفة المذكورة كالسمة لموصوف ثابتة العلوق به، كأنها لقب، وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة، واعتبر ذلك لو قلت: رضوا بأن يتخلفوا، لما كان في ذلك مزيد على الاخبار بوقوع التخلف منهم لا غير. وانظر إلى المساق وهو قوله رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من بوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت له لقبا لاصقا به، وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك، فتأمله واقدره قدره، والله الموفق للصواب.
(3/330)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 168 الى 175]
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
ومِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إنى لعملكم قال، كما تقول: فلان من العلماء، فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم. ويجوز أن يريد: من الكاملين في قلاكم. والقلى: البغض الشديد، كأنه بغض يقلى الفؤاد والكبد. وفي هذا دليل على عظم المعصية، والمراد: القلى من حيث الدين والتقوى، وقد تقوى همة الدّين في دين الله حتى تقرب كراهته للمعاصي من الكراهة الجبلية مِمَّا يَعْمَلُونَ من عقوبة عملهم وهو الظاهر. ويحتمل أن يريد بالتنجية: العصمة. فإن قلت: فما معنى قوله فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً؟ قلت: معناه أنه عصمه وأهله من ذلك إلا العجوز، فإنها كانت غير معصومة منه، لكونها راضية به ومعينة عليه ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي. فإن قلت: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة، فكيف استثنيت الكافرة منهم:
قلت الاستثناء إنما وقع من الأهل وفي هذا الاسم لها معهم شركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان.
فإن قلت: فِي الْغابِرِينَ صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم «1» قلت: معناه إلا عجوزا مقدّرا غبورها. ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين.
قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. والمراد بتدميرهم: الائتفاك بهم، وأمّا الإمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وعن ابن زيد: لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطرا من حجارة. وفاعل فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ولم يرد
__________
(1) . قال محمود: «المجرور صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم. قلت:
معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها، أى: في الهلاك والعذاب» قال أحمد: وإن تعجلت برفع القاعدة الممهدة آنفا، فاعلم أن السر الذي اقتضى العدول عن أن يقول مثلا: إلا عجوزا غابرة إلى ما ذكر في المتلوّ: هو أن المذكور في التلاوة يقتضى الاسجال عليها بأنها من أمة موسومين بهذه السمة من الهلاك كما قدمته الآن، فهو أبلغ من مجرد وصفها بالغبور، والله أعلم.
(3/331)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
بالمنذرين قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذّم محذوف، وهو مطرهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
قرئ أصحاب الأيكة بالهمزة وبتخفيفها، وبالجرّ على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو لان، ولولى: على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن ليكة اسم لا يعرف. وروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم. فإن قلت: هلا قيل: أخوهم شعيب، كما في سائر المواضع؟ قلت:
قالوا: إن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: إن شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرّم الذي هو التطفيف، ولم يذكر الزائد، وكأن تركه عن الأمر والنهى: دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه. قرئ: بالقسطاس مضموما ومكسورا وهو الميزان وقيل: القرسطون، فإن كان من القسط وهو العدل- وجعلت العين مكررة- فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: وهو بالرومية العدل. يقال: بخسته حقه، إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. يقال: عثا في الأرض وعثى وعاث، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع
(3/332)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ: الجبلة، بوزن الأبلة. والجبلة «1» ، بوزن الخلقة.
ومعناهنّ واحد، أى: ذوى الجبلة، وهو كقولك: والخلق الأوّلين.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 186]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186)
فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟ قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان: كلاهما مناف للرسالة عندهم: التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت: إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظنّ وثانى مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن يتفرقا على المبتدإ والخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان- أعنى باب كان وباب ظننت- من جنس باب المبتدإ والخبر، فعل ذلك في البابين فقيل: إن كان زيد لمنطلقا، وإن ظننته لمنطلقا.
[سورة الشعراء (26) : آية 187]
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
قرئ: كسفا بالسكون والحركة، وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وسدر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة. وكسفه: قطعه. والسماء: السحاب، أو المظلة.
وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب. ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبىّ، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.
[سورة الشعراء (26) : آية 188]
قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188)
رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يريد: أنّ الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة
[سورة الشعراء (26) : آية 189]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
__________
(1) . قوله «الأبلة والجبلة» في الصحاح «الأبلة» بالضم وتشديد اللام: الغدرة من التمر. وفيه «الغدرة» :
القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة. وفيه أيضا: الجبلة الخلقة. ومنه قوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وقرأها الحسن بالضم اه (ع)
(3/333)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
فَأَخَذَهُمْ الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد «1» فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلّ ولا ماء ولا سرب، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروى أنّ شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 196]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
وَإِنَّهُ وإن هذا التنزيل، يعنى: ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل:
المنزل. والباء في نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ونزل به الروح، على القراءتين للتعدية. ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل الله الروح نازلا به عَلى قَلْبِكَ أى: حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ إما أنّ يتعلق بالمنذرين،
__________
(1) . قوله «الومد» شدة حر الليل، كما في الصحاح. (ع)
(3/334)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي «1» لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعدّة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أو لا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني الكلام يتلقاها بقلبه ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهرا بمعرفتها كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها، فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربى مبين وَإِنَّهُ وإن القرآن- يعنى ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها. وبه يحتج لأبى حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية حيث قيل وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في أَنْ يَعْلَمَهُ وليس بواضح.
[سورة الشعراء (26) : آية 197]
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197)
وقرئ: يكن، بالتذكير. وآية، بالنصب على أنها خبره، وأَنْ يَعْلَمَهُ هو الاسم. وقرئ.
تكن، بالتأنيث، وجعلت آيَةً اسماء، وأَنْ يَعْلَمَهُ خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرّج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك، فقيل: في يَكُنْ ضمير القصة، وآيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ جملة واقعة موقع الخبر. ويجوز على هذا أن يكون لَهُمْ آيَةً هي جملة الشأن، أَنْ يَعْلَمَهُ بدلا عن آية. ويجوز مع نصب الآية تأنيث يَكُنْ كقوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ومنه بيت لبيد:
__________
(1) . عاد كلامه. قال: واعلم أن الآيات الأول كالمقدمات لهذه الآيات، فان الله تعالى أبان أنه منزل بلغتهم التي لا يعرفون غيرها، وعلى لسان عربى لو أشكل عليهم فهم شيء منه لكان البيان عنده عتيدا ناجزا، وما نزله على لسان أعجمى قد يعتذرون بأنه لا يفهمهم ما استغلق على أفهامهم من معانيه، فقد أزاح أعذارهم ودحض حججهم، وسلكه في قلوبهم ومكنهم من فهمه أشد التمكين، ولكن لم يوفقهم بل قدر عليهم أنهم لا يؤمنون» قال أحمد: يعنى بقوله قدر عليهم أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا يؤمنون، لأن التقدير عنده العلم. والحق أن الله تعالى أراد منهم أنهم لا يؤمنون. وهذا تقرير لجواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: قلوبهم نائية عن قبول الحق، لا يلجها بوجه ولا بسبب، فكيف يسلك الحق فيها؟ فيجاب عنه بهذا الجواب، والله أعلم.
(3/335)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت أقدامها «1»
وقرئ: تعلمه، بالتاء. عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عبد الله بن سلام وغيره. قال الله تعالى وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. فإن قلت: كيف خط في المصحف «علمؤا» بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو وعلى هذه اللغة كتبت الصلوة والزكاة والربوا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 207]
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
الأعجم: الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة واستعجام. والأعجمى مثله، إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد. وقرأ الحسن: الأعجميين. ولما كان من يتكلم بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه، قالوا له: أعجم وأعجمى، شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذى صوت من البهائم والطيور وغيرها: أعجم، قال حميد:
ولا عربيّا شاقه صوت أعجما «2»
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 13 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتندما
فغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متندما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تغفر بمنطقها فما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
لحميد بن ثور، وقد رحلت صاحبته سلمى، يقول: وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد بقلبي. إلا حمامة دعت ذكرها وساق حر: مركب إضافى: وهو ذكر القمري، أو ذكر الحمام مطلقا. والحر- بالضم-: فرخ الحمامة، والترحة:
الحزن، ضد الفرحة، والتندم: التأسف على ما فات. ويروى «ترنما» وهو تحسين الصوت، وهما نصب على الحالية، أى: حزينة ومتأسفة. أو ذات ترحة وذات تندم. وعشا: نصب على الظرف، فلم تدع: أى تترك لنائحة في غنائها، متندما: أى تندما أو شيئا يتندم به أو فيه. ويجوز أن ضمير نوحها للنائحة، وأنى بمعنى: كيف، أو من أنى. والاستفهام تعجبي. والفصيح: البين الخالي عن اللكنة والتعقيد. وفغر فاه يفغره، من باب نفع:
فتحه، أى: والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها، وإنما يخرج صوتها من صدرها. وشاقه: تسبب له في الشوق، والعربي: المفصح. والأعجم: الذي لا يفصح من الحيوان، نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده، وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة وبينه وبين عربى طباق التضاد.
(3/336)
سَلَكْناهُ أدخلناه ومكناه. والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هو من تلفيق محمد وافترائه وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فضلا أن يقدر على نظم مثله فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ هكذا فصيحا معجزا متحدّى به، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا، ثم قال كَذلِكَ سَلَكْناهُ أى مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقرّرناه فيها، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أى وجه دبر أمرهم، فلا سبيل أن يتغيروا عماهم عليه من جحوده وإنكاره، كما قال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشدّ التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح، يريدون: تمكن الشحّ فيه، لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه «1» ، وهو قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ. فإن قلت: ما موقع لا يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قلت: موقعه منه موقع الموضع والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا، أى: سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن: فتأتيهم، بالتاء يعنى: الساعة. وبغتة، بالتحريك. وفي حرف أبىّ: ويروه بغتة. فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً...... فَيَقُولُوا؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: كيف أسند السلك بصيغة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: المراد الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه، بدليل أنه أسند إليهم ترك الايمان به على عقبه في قوله: لا يؤمنون به» قال أحمد: وما ينقم من بقائه على ظاهره إلا أنه التوحيد المحض والايمان الصرف، وأن الله تعالى خلق قلوبهم نائية عن قبول الحق. والقدرية لا يبلغون في التوحيد إلى هذا الحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(3/337)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه: إن أسات مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أنّ مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشدّ من مقتهم:
وهو مقت الله، وترى ثمّ يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، ويَسْتَعْجِلُونَ على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أنّ استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لا حق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى: أفبعذابنا يستعجلون أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل، ثم قال: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران: أنه لقى الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. وقرئ: يمتعون، بالتخفيف.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 208 الى 209]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
مُنْذِرُونَ رسل ينذرونهم ذِكْرى منصوبة بمعنى تذكرة، إمّا لأن «أنذر، وذكر» متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإمّا لأنها حال من الضمير في منذرون أى، ينذرونهم ذوى تذكرة. وإمّا لأنها مفعول له، على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدإ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر: وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوما غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعوّل. فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد «إلا» ولم تعزل عنها في قوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟
(3/338)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
قلت: الأصل: عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
كانوا يقولون: إنّ محمدا كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء. وقرأ الحسن: الشياطون. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجرى الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين.
وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة وهي الهلاك كما قيل له الباطل. وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته «الشياطون» ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل:
إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه- يريد: محمد ابن السميقع- مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 214]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
قد علم أنّ ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرّك منه لازدياد الإخلاص والتقوى. وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه. وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روى عنه عليه السلام:
أنه لما دخل مكة قال: «كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأوّل ما أضعه ربا العباس «1» » والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في الإنذار والتخويف. وروى أنه صعد الصفا- لما نزلت- فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا، وقال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباس عمّ النبىّ
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج وعزاه الطيبي للترمذي من رواية عمرو بن الأحوص وليس هو عنده بتمامه.
(3/339)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
يا صفية عمة رسول الله، إنى لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالى ما شئتم «1» » . وروى أنه جمع بنى عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا: الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس «2» على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال:
«يا بنى عبد المطلب، لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقى؟ قالوا: نعم. قال:
فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، وروى أنه قال «يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار فإنى لا أغنى عنكم شيئا» ثم قال: «يا عائشة بنت أبى بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشترين أنفسكنّ من النار فإنى لا أغنى عنكنّ شيئا «3» » .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 215 الى 216]
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب. ومنه قول بعضهم:
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة قال «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فقال: يا بنى عبد مناف يا بنى هاشم، لا أغنى عنكم من الله شيئا» وروى مسلم من حديث عائشة «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب: لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالى ما شئتم» وروى ابن مردويه من حديث أبى أمامة قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنى هاشم اشتروا أنفسكم من النار. فانى لا أملك لكم من الله شيئا، يا عائشة بنت أبى بكر ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا» .
(2) . قوله «ويشرب العس» هو القدح العظيم، كما في الصحاح. (ع)
(3) . أما أوله فأخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقه من رواية ابن عباس مطولا.
وأخرجه البزار وأبو نعيم في الدلائل من طريق عباد بن عبد الله الأسدى عن على قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنع لي رجل شاة على صاع من طعام. وأعد قعبا من لبن.
ففعلت. ثم قال لي: اجمع لي بنى عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا. فوضعت الطعام بينهم، فأكلوا حتى شبعوا وإن فيهم لمن يأكل الجذعة ويشرب العس، ثم جئت بالعس فشربوا حتى رووا» وأما بقيته فمتفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فنادى: يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال: يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم تصدقونني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك؟ ألهذا جمعتنا فنزلت هذه السورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .
(3/340)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
وأنت الشّهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعه أجدلا «1»
ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول، فما قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعنى: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 217 الى 220]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
وَتَوَكَّلْ على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: فتوكل، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على فَقُلْ. أو فَلا تَدْعُ. عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه
__________
(1) . شبه بطائر يرق لأفراخه ويخفض إليها جناحه رحمة لها، فاستعار خفض الجناح لذلك على سبيل التمثيل، ورشحه بقوله: «فلا تك في رفعه أجدلا» أى شبيها بالأجدل، وهو الصقر في القسوة والجفوة. أو في التكبر والترفع ويجوز أن خفض الجناح: كناية عما يلزمه من الرقة والرحمة واللين، ورفعه: كناية عن القسوة والجفوة، وبين الخفض والرفع طباق التضاد.
(3/341)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وسجوده وقعوده إذا أمّهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله، هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله الْعَلِيمُ بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلى خلفه، من قوله صلى الله عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود، فو الله إنى لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم «1» » . وقرئ: ويقلبك.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ هم الكهنة والمتنبئة، كشقّ، وسطيح، ومسيلمة، وطليحة يُلْقُونَ السَّمْعَ هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أى المسموع من الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث: «الكلمة يتخطفها الجنىّ فيقرّها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» «2» والقرّ: الصبّ. فإن قلت: كيف دخل حرف الجرّ على «من» المتضمنة لمعنى الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف، وإنما معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» والأصل: أهل. قال:
أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم»
__________
(1) . متفق عليه من حديث قتادة عن أنس بمعناه. واللفظ المذكور عند النسائي واتفقا عليه من حديث أبى هريرة بلفظ «هل ترون قبلتي هاهنا: فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، وإنى لأراكم من وراء ظهري» . [.....]
(2) . متفق عليه من حديث عائشة أتم منه.
(3) .
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم
لزيد الخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل: فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال، لتتلقن حقيقة الحال، ويربوع: أبو حى، والباء بمعنى عن، أى: سلهم عن قوتنا، ويروى:
بشدتنا، بفتح الشين. يقال: شد على قرنه في الحرب: حمل عليه، أى سلهم عن صولتنا عليهم، وجعل البصريون الباء بعد السؤال للسببية، لا بمعنى عن، والأصل في الاستفهام الهمزة، ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام، وأصل «هل» بمعنى «قد» ، «ومن» لمن يفعل، «وما» لما لا يفعل. «ومتى» للزمان، وهكذا بقية الأدوات موضوعة لمعان غير الاستفهام، فليست عريقة فيه، بل الهمزة مقدرة قبلها، ولذلك تظهر في بعض الأحيان كما في البيت، ويدخل عليها حروف الجر، ويضاف إليها غيرها: لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال، والاستفهام هنا للتقرير، «وهل» بمعنى «قد» ، وأنكر ذلك ابن هشام. ونقل عن السيرافي أن الرواية: أم هل، فأم بمعنى «بل» «وهل» للاستفهام: قال: وعلى صحة الأولى فهل مؤكدة للهمزة شذوذا اه ويروى: فهل رأونا. ويجوز أن معناه: سلهم فقد رأونا. والسفح: السطح أو أصل الجبل المنسطح. والقاع المستوى من الأرض. والأكم- بالفتح-: واحده أكمة، وجمعه أكم بالضم، وهي التلول المرتفعة.
(3/342)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
فإذا أدخلت حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك، كأنك تقول:
أعلى من تنزّل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت. فإن قلت: يُلْقُونَ ما محله؟ قلت:
يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أى: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجرّ صفة لكل أفاك، لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلا قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكى عن الجنى، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟ قلت: أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 225 الى 226]
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)
وَالشُّعَراءُ مبتدأ. ويَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل «1» والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم- إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين،
__________
(1) . قوله «والنسيب بالحرم والغزل» النسيب: أى التشبيب. والغزل: محادثة النساء ومراودتهن. والابتهار: ادعاء الشيء كذبا، كذا في الصحاح في مواضع. (ع)
(3/343)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبى وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحىّ. ومن ثقيف: أمية ابن أبى الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد- وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم- وقرأ عيسى بن عمر: والشعراء، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وسُورَةٌ أَنْزَلْناها «1» وقرئ: يتبعهم، على التخفيف. ويتبعهم، بسكون العين تشبيها «لبعه بعضد» .
ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلق في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البرىّ «2» ، ويفسقوا التقى. وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبىّ مصرّعات ... وبت أفض أغلاق الختام «3»
فقال: قد وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحدّ بقوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
[سورة الشعراء (26) : آية 227]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة،
__________
(1) . قوله «وسورة أنزلناها» لعل بعدها سقطا تقديره: بالنصب. (ع)
(2) . قوله «وأن يبهتوا البرى» أى يتهموا. (ع)
(3) .
خرجن إلى لم يطمئن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
للفرزدق، يقول: خرج النسوة إلى من خدورهن حال كونهن لم يطمئن، أى لم يزل بكارتهن أحد قبلي، وأكد ذلك بقوله: وهن أصح من بيض النعام الذي يصان عادة عن الكسر، لئلا تذهب زينته، فبتن مطروحات عن يمينى وشمالي، وبت أفض: أفتح وأزيل بكارتهن الشبيهة بأغلاق الختام لسدها الفروج، والأغلاق جمع غلق كسبب، بمعنى الأقفال. والختام: ما يسد به فم الزجاجة ونحوها، فاضافتها إليه بيانية. أو من إضافة المسميات إلى الاسم كأعواد السواك. ويجوز أن الختام بمعنى المختوم وهو الفرج، ويمكن أن يراد بالأغلاق: جوانب البكارة المشتبكة بالفرج وشبه البكارات أو جوانبها بالأغلاق على طريق التصريح، ولما سمع سليمان بن عبد الملك ذلك، قال: قد وجب عليك الحمد، فقال: قد درأه الله عنى بقوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فخلى سبيله.
(3/344)
وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وعن عمرو بن عبيد: أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان ابن ثابت، والكعبان: كعب بن مالك، وكعب بن زهير، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل» «1» وكان يقول لحسان: «قل وروح القدس معك» «2» . ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله وَسَيَعْلَمُ وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله الَّذِينَ ظَلَمُوا وإطلاقه. وقوله أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضى الله عنهما حين عهد إليه «3» : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدّتها.
وتفسير الظلم بالكفر تعليل «4» ، ولأن تخاف فتبلغ الأمن: خير من أن تأمن فتبلغ الخوف.
وقرأ ابن عباس: أى منفلت ينفلتون. ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن ملك عن أبيه قال «لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال:
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل» قلت: وأخرجه من هذا الوجه وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا ابن عوف عن ابن سيرين «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: هيه: فأنشده. فقال: «لهو أشد عليهم من وقع النبل» ولمسلم عن عائشة مرفوعا «اهجوا قريشا فانه أشد عليها من رشق النبل» وللترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس في أثناء حديث: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خل عنهم يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل» .
(2) . متفق عليه من حديث البزار. ولفظ النسائي: قال لحسان: اهج المشركين، فان روح القدس معك» وللحاكم وابن مردويه من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال يوم الأحزاب: «من يحمى أعراض المسلمين؟ فقال حسان: أنا. قال: فقم اهجهم، فان روح القدس سيعينك» .
(3) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن المحسر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «كتب أبى وصية فذكرها وفي آخرها: وإن تجر وتظلم فانى لا أعلم الغيب. وسيعلم الذين ظلموا- الآية» ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبى بكر عن الواقدي بأسانيد متعددة مطولا.
(4) . قوله «وتفسير الظلم بالكفر تعليل» لعله من علله بالشيء، أى: لهاء به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يجتزأ به عن اللبن، كما في الصحاح. (ع)
(3/345)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام» «1»
سورة النمل
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون [نزلت بعد الشعراء] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
طس قرئ بالتفخيم والإمالة، وتِلْكَ إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين:
إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة.
وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح، فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي
__________
(1) . رواه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.
(3/346)
كتاب مبين. وقرأ ابن أبى عبلة: وكتاب مبين بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ، هُدىً وَبُشْرى في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أى: هادية ومبشرة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى.
والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً. فإن قلت وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها:
وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق «1» .
__________
(1) . قال محمود: «كرر الضمير حتى صار معنى الكلام: ولا يوقن بالاخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح، لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق» قال أحمد: قد تقدم في غير موضع اعتقاد أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر، كما مر له في قوله تعالى هُمْ يُنْشِرُونَ أن معناه: لا ينشر إلا هم، وعد الضمير من آلات الحصر كما مر ليس ببين، وقد بينا لمجيء الضمير في سورة اقترب وجها سوى الحصر. وأما وجه تكراره هاهنا- والله أعلم- فهو أنه لما كان أصل الكلام: وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدإ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما، فطري ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور. حيث بقي على حاله مقدما، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التظرية، فأقرب منها أن الشاعر قال:
سل ذو عجل ذا وألحقنا بذا ال ... الشحم إنا قد مللناه بخل
والأصل: وألحقنا بذا الشحم، فوقع منتصف الرجز أو منتهاه، على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام وبنى الشاعر على أنه لا بد عند المنتصف أو المنتهى من وقيفة ما، فقدر بتلك الوقفة بعد أن بين المعرف وآلة التعريف فطراها ثانية، فهذه النظرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير، فتأمل هذا الفصل فانه جدير بالتأمل، والله أعلم.
(3/347)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
[سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل «1» مجاز، وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمىّ، فالطريق الأوّل: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه لأن المجاز الحكمىّ يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها: زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى إلى الحسن. والعمه:
التحير والتردّد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: متردّدين في أعمالهم وأشغالهم سُوءُ الْعَذابِ القتل والأسر يوم بدر. والْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله.
[سورة النمل (27) : آية 6]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف أسند التزيين إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ قلت:
إن بين الاسنادين فرقا، فالاسناد إلى الله مجاز، وإلى الشيطان حقيقة. وقد روى عن الحسن أن المراد زينا لهم أعمال البر فعمهوا عنها ولم يهتدوا إلى العمل بها» قال أحمد: وهذا الجواب مبنى على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازا، وإلى الشيطان حقيقة، ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله إلى التأويل الآخر: من أن المراد أعمال البر على بعده، لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، وأتى لهم ذلك وقد اتى الله بنيانهم من القواعد، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ على أن غالب وروده في غير البر، كقوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ، زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومما يبعد حمله على أعمال البر: إضافة الأعمال إليهم في قوله أَعْمالَهُمْ وأعمال البر ليست مضافة إليهم، لأنهم لم يعملوها قط، فظاهر الاضافة يعطى ذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وقوله قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم، لأنه صدر منهم، والله أعلم.
(3/348)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه وتلقنه مِنْ عند أىّ حَكِيمٍ وأىّ عَلِيمٍ وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.
[سورة النمل (27) : آية 7]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
إِذْ منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروى أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله امْكُثُوا. الشهاب:
الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس.
ومن قرأ بالتنوين: جعل القبس بدلا، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله. فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلى آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين:
لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إمّا هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا، وهما العزّان: عز الدنيا، وعز الآخرة.
[سورة النمل (27) : آية 8]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8)
أَنْ هي المفسرة: لأنّ النداء فيه معنى القول. والمعنى: قيل له بورك. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره: نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت:
لا، لأنه لا بدّ من «قد» . فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة لا تحذف.
ومعنى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها. ومكانها:
البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ وتدل عليه قراءة أبىّ. تباركت الأرض ومن حولها. وعنه: بوركت النار، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر دينى فيها: وهو تكليم
(3/349)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبث آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة. وقيل: المراد بالمبارك فيهم: موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحى إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتا. فإن قلت: فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت:
هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.
[سورة النمل (27) : آية 9]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
الهاء في إِنَّهُ يجوز أن يكون ضمير الشأن، والشأن أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر. والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعنى: أنّ مكلمك أنا، والله بيان لأنا. والعزيز الحكيم: صفتان للمبين، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة، يريد: أنا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصاحية، الفاعل كل ما أفعله تحكمة وتدبير.
[سورة النمل (27) : الآيات 10 الى 11]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
فإن قلت: علام عطف قوله وَأَلْقِ عَصاكَ؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك: كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى: قيل له بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك. والدليل على ذلك قوله تعالى وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليك أن حج وأن اعتمر، وإن شئت أن حج واعتمر. وقرأ الحسن: جأنّ على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين، فيقول: شأبّة ودأبّة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد: ولا الضألين وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع، يقال:
عقب المقاتل، إذا كرّ بعد الفرار. قال:
(3/350)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا «1»
وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وإِلَّا بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفى الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أى فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما، كما قال موسى رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي والحسن، والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقرئ: ألا من ظلم، بحرف التنبيه. وعن أبى عمرو في رواية عصمة: حسنا.
[سورة النمل (27) : آية 12]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)
وفِي تِسْعِ آياتٍ كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات إِلى فِرْعَوْنَ ونحوه:
فقلت إلى الطّعام فقال منهم ... فريق نحسد الإنس الطّعاما «2»
ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك: في تسع آيات، أى: في جملة تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة: ثنتان منها اليد والعصا، والتسع:
الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم.
[سورة النمل (27) : آية 13]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه، لقوله وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أو جعلت كأنها تبصر فتهدى، لأنّ العمى لا تقدر على الاهتداء، فضلا أن تهدى غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء،
__________
(1) . يصف قوما بالجبن، وإنهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها، أى: لم يقدموا مرة على العدو. وروى: إذ قيل، أى: حين ذلك. [.....]
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 2 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/351)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوى. ونحوه قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار. وقرأ علىّ بن الحسين رضى الله عنهما وقتادة: مبصرة، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة «1» ، أى:
مكانا يكثر فيه التبصر.
[سورة النمل (27) : آية 14]
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
الواو في وَاسْتَيْقَنَتْها واو الحال، وقد بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ وقرئ: عليا، وعليا بالضم والكسر، كما قرئ عتيا، وعتيا. وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من الإيقان، وقد قوبل بين المبصرة والمبين، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.
[سورة النمل (27) : آية 15]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
عِلْماً طائفة من العلم «2» أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه «3» والفضيلة وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا
__________
(1) . قوله «ومجفرة» في الصحاح «جفر الفحل عن الضراب» : إذا انقطع عنه. ومنه قيل: الصوم مجفرة، أى قاطع للنكاح. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه طائفة من العلم» قال أحمد: التبعيض والتقليل من التنكير، وكما يرد للتقليل من شأن المنكر، فكذلك يرد للتعظيم من شأنه كما مر آنفا في قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ولم يقبل الحكيم العليم. والغرض من التنكير التفخيم، كأنه قال: من لدن حكيم عليم، فظاهر قوله وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه، كأنه قال: علما أى علم، وهو كذلك، فان علمهما كان مما يستعظم ويستغرب، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات الذي خصهما الله تعالى به وكل علم بالاضافة إلى علم الله تعالى قليل ضئيل، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «بجلا نعمة الله عليهما من حيث قولهما فَضَّلَنا وتواضعا بقولهما عَلى كَثِيرٍ ولم يقولا: على عباده، اعترافا بأن غيرهما يفضلهما، حذرا من الترفع.
(3/352)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه:
أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله، كما قال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثة الأنبياء «1» » إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كل الناس أفقه من عمر «2» .
[سورة النمل (27) : آية 16]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه- وكانوا تسعة عشر- وكان داود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد.
وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه «3» وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال يقول:
أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاوس، فقال يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد، فقال يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان من حديث أبى الدرداء، من حديث رواه «من سلك طريقا يلتمس فيه علما وفيه: إن العلماء ورثة الأنبياء» وله طرق عند الطبراني. وفي الباب عن البراء وابن عمرو ابن العاص أخرجهما أبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف على الجاهل الشريف. وعن ابن مسعود أخرجه ابن حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وعن جابر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أحمد بن محمد الثلجى. وفي إسناده الضحاك بن حجزة. وهو متهم بوضع الحديث
(2) . تقدم في سورة النساء
(3) . قوله «هو ما يفهم بعضه من بعض معانيه» عبارة النسفي: والمنطق: كل ما يصوت من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض اه (ع)
(3/353)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
وصاح طيطوى، فقال يقول: كل حىّ ميت، وكل جديد بال. وصاح خطاف فقال يقول:
قدّموا خيرا تجدوه. وصاحت رخمة، فقال تقول: سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمرى، فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى. وقال: الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه: والديك يقول:
اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول:
في البعد من الناس أنس. والضفدع يقول: سبحان ربى القدوس. وأراد بقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كثرة ما أوتى، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر «1» » أى: أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني:
أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع- وكان ملكا مطاعا- فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه «2» وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ. ألا ترى كيف أمر العباس رضى الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب «3» .
[سورة النمل (27) : آية 17]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
روى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس،
__________
(1) . تقدم في سورة يوسف
(2) . قوله «وإظهار آيينه» قيل: مراتبه وبهاؤه. وفي نسخة: أبهته، فليحرر. (ع)
(3) . أخرجه البخاري من رواية هشام بن عروة عن أبيه في قصة الفتح قال فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة بعد كتيبة» وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3/354)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتى آل داود يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم، أى: توقف سلاف العسكر «1» حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.
[سورة النمل (27) : آية 18]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18)
قيل: هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت: لم عدّى أَتَوْا بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب:
ولشدّ ما قربت عليك الأنجم «2»
لما كان قربا من فوق. والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ نملة يا أيها النمل، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم «السبع» في السبع. قيل: كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس «3» ، فنادت: يا أيها النمل: الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل: كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة
__________
(1) . قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا ... ولشد ما قربت عليك الأنجم
لأبى الطيب المتنبي، طلب منه رجل المدح، فأبى وقال ذلك، واللام للتأكيد، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب، وأصله شدد كحسن، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم، كما هو قياس بناء التعجب، أى: ما أشد مجاوزتك لقدرك، يعنى: كثرت مجاوزتك لمقدارك، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة، وقال: عليك، دون:
إليك، لأن قرب الأنجم من جهة العلو، أى: كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية، ففيه شبه التورية.
(3) . قوله «تتكاوس» في الصحاح: كوسته على رأسه تكويسا، أى: قلبته، وكاس هو يكوس: إذا فعل ذلك. وكاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)
(3/355)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا- وهو غلام حدث-. فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة، «1» وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامه أنثى، وهو وهي. وقرئ: مسكنكم ولا يحطمنكم، بتخفيف النون، وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها. وأصله: يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت:
لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، والذي جوّز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.
[سورة النمل (27) : آية 19]
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
ومعنى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه، يعنى أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام. وأما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه «2» فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك
__________
(1) . قال محمود «لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، فقال أبو حنيفة- وكان شابا-: سلوه عن النملة التي كلمت سليمان، أذكر كانت أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل:
كيف لك ذلك؟ قال: لأن الله عز وجل قال قالَتْ نَمْلَةٌ، ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة» قال أحمد: لا أدرى العجب منه أم من أبى حنيفة أن يثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال: نملة ذكر ونملة أنثى، كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى، فلفظها مؤنث.
ومعناه محتمل، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها، وإن كانت واقعة على ذكر. بل هذا هو الفصيح المستعمل. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، وإنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشى عليه حكم، لأنه نسبه إلى الامام أبى حنيفة على بصيرته باللغة، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على غزارة علمه وتبصره بالمنقولات، ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له، فيا للعجب العجاب، والله الموفق للصواب. [.....]
(2) . وقعت في هذه الجملة عدة أحاديث. منها حديث ابن مسعود «جاء رجل من اليهود. فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على أصبع الحديث. وفيه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» متفق عليه. ومنها حديثه مرفوعا «إنى لأعلم آخر أهل النار خروجا منها- الحديث. وفيه: قول الرجل: أتسخر بى وأنت الملك؟ قال: ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه أيضا. ومنها حديث أبى ذر رضى الله عنه «يؤتى برجل يوم القيامة. فيقال اعرض عليه صغار ذنوبه- الحديث. وفيه: فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره» أخرجه مسلم. ومنها حديث أبى سعيد- رفعه- «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة- الحديث. وفيه: فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه ومنها حديث جابر «دخل أبو بكر والقوم جلوس على الباب- فذكر الحديث وفيه: فقال عمر: لو رأيت بنت خارجة وهي تسألنى النفقة فقمت فوجأت عنقها. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه مسلم. ومنها حديث ابن عمر رضى الله عنهما «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصاب الناس مخمصة- الحديث. وفيه: فلم يبق في الجيش وعاء إلا مليء وبقي مقله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه ابن حبان والحاكم. ومنها حديث سلمة بن الأكوع «قدمنا الحديبية- الحديث. وفيه:
قلت يا رسول الله، خلنى أنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم، فلا أبقى منهم أحدا إلا قتلته، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» وهو حديث طويل. وفيه هذه اللفظة في موضع آخر أخرجه مسلم. ومنها حديث زيد بن أرقم «أتى على رضى الله عنه- وهو باليمن- بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد- الحديث.
وفيه: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم.
ومنها حديث أم أيمن «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فبال في فخارة. فقمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أشعر فلما أصبح أمرنى أن أهريقها فقلت: إنى شربتها، فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه الحاكم. ومنها حديث صهيب في أكلة التمر وهو أرمد. فقال «إنما آكله من شق عينى الصحيحة. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار بتمامه. وبعضه لابن ماجة والحاكم. ومنها حديث ابن عباس «كان عبد الله ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته. فقام إلى جارية له فوقع عليها- الحديث. وفيه: الشعر. وقول المرأة:
آمنت بالله وكذبت البصر. قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار وإسناده ضعيف.
(3/356)
النبوي، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميقع:
ضحكا، فان قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تعنى أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل «1» الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه»
لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة أَوْزِعْنِي اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عنى، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضى الله عنك وعن والديك. وروى
__________
(1) . قوله «ما همس به بعض الحكل» في الصحاح «الحكل» : ما لا يسمع له صوت. (ع)
(2) . قوله «وعلى استيفاقه لزيادة العمل» في الصحاح «استوفقت الله» : سألته التوفيق. (ع)
(3/357)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ واجعلنى من أهل الجنة.
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 21]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)
أَمْ هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال ما لِيَ لا أَرَى على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره «1» ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه «2» ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علىّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال:
بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال:
يا نبى الله، اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب
__________
(1) . قوله «تجهز للحج بحشره» في الصحاح: حشرت الناس أحشرهم حشرا: جمعتهم. ومنه: يوم الحشر. (ع)
(2) . قوله «وكان الهدهد قناقنه» القناقن- بالضم-: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القنى. والقنى:
جمع قناة. أفاده الصحاح في موضعين. (ع)
(3/358)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص.
وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة:
جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ: ليأتينى. وليأتينن. والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت:
قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتى بسلطان، حتى يقول والله ليأتينى بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عن دراية وإيقان.
[سورة النمل (27) : آية 22]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
فَمَكَثَ قرئ بفتح الكاف وضمها غَيْرَ بَعِيدٍ غير زمان بعيد، كقوله: عن قريب.
ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى أَحَطْتُ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما: أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. سبأ: قرئ بالصرف ومنعه. وقد روى بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية: سبا، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدى سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحىّ أو الأب الأكبر صرف. قال:
(3/359)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما «1»
وقال:
الواردون وتيم في ذرى سباء ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس «2»
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق «3» باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
[سورة النمل (27) : آية 23]
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في تَمْلِكُهُمْ راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها: كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين. وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض
__________
(1) . يمدح رجلا بأنه من قبيلة سبأ، وهو في الأصل اسم لابن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت به القبيلة ومأرب: مدينتها. وقيل: قصر لملكهم، وهو مفعول الحاضرين ممنوع من الصرف. وإذ ظرف. ومن دون بمعنى أمام. والعرم: السد العظيم، يحبس السيل عن المدينة.
(2) . أى الواردون هم، وتيم: اسم قبيلة في أعالى أرض سبأ. والمراد بجلد الجواميس: الحبال المفتولة منه لتغسل بها الأسرى في أعناقهم، فشبهت ما يصح منه العض لصلابتها على طريق المكنية، والعض تخييل، ويصح استعارته للقرص على طريق التصريحية، وسبأ- في الأصل-: لقب رجل من قحطان اسمه عبد شمس، لأنه أول من سبى كان له عشرة أولاد، فذهب ستة إلى اليمن: حمير، وكندة، والأسد، وأشعر، وقشعم، وبجيلة. وذهب أربعة إلى الشام: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وبها سميت قبائلهم المشهورة.
(3) . قوله «الذي يتعلق» لعله: التي تتعلق. (ع)
(3/360)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص «1» من يقف على قوله وَلَها عَرْشٌ ثم يبتدئ عَظِيمٌ وَجَدْتُها يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله. فإن قلت: كيف قال وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مع قول سليمان وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كأنه سوّى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما أوتى من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.
[سورة النمل (27) : الآيات 24 الى 26]
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
فإن قلت: من أين للهدهد التهدى إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان، خصوصا في زمن نبىّ سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. من قرأ بالتشديد أراد: فصدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف، فهو ألا يسجدوا. ألا للتنبيه، ويا حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:
ألا يا أسلمي يا دار مىّ على البلى «2»
__________
(1) . قوله «ومن نوكى القصاص» النوكى: جمع أنوك، وهو الأحمق. (ع)
(2) .
ألا يا أسلمي يا دار مى على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
لذي الرمة. وألا استفتاحية للتنبيه، فلا معنى ليا إلا النداء. والمنادى بها محذوف، تقديره: يا دارمى أسلمي، فاستغنى عنه بما بعده، وحذفه اهتماما بطلب السلامة لها. وفي تكرير ندائها: نوع تفجع. ومى: مرخم مية.
وترخيم المضاف إليه: ضرورة حسنها سبق النداء. وعلى: بمعنى مع، أى: اسلمي ولو كنت بالية، لأنه إن لم تبق الدار كفتني الآثار. ومنهلا: منصبا، والجرعاء: مؤنث الأجراع، وهو الموضع المختلط ترابه بالحصى. والقطر:
المطر، يدعو لها بالخصب.
(3/361)
وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش: هلا، وهلا: بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد الله: هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبىّ: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون وسمى المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه. وقرئ: الخب، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرّج على لغة من يقول في الوقف:
هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول:
الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ: يخفون ويعلنون، بالياء والتاء. وقيل: من أحطت إلى العظيم «1» : هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذى الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه «2» ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله. فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟
قلت، هي واجبة فيهما جميعا، لأنّ مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة ص: فهي عند أبى حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر. وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ثم ابتدأ أَلَّا يَسْجُدُوا، وإن شاء وقف على «ألا يا» ثم ابتدأ «اسجدوا» وإذا شدّد لم يقف إلا على الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. فإن قلت: كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأنّ وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك.
ووصف عرش الله بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ:
العظيم، بالرفع.
__________
(1) . قوله «وقيل من أحطت إلى العظيم» في اللباب: أن الخلاف في: ألا يسجدوا- إلى- العظيم، ومال إليه في التقريب اه من هامش (ع)
(2) . قوله «في روائه» بالضم، أى: منظره. أفاده الصحاح. (ع)
(3/362)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 28]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)
سَنَنْظُرُ من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا لا محالة، وإذا كان كاذبا اتهم بالكذب فيم أخبر به فلم يوثق به، «1» تَوَلَّ عَنْهُمْ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك. ويَرْجِعُونَ من قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ فيقال: دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة.
فإن قلت: لم قال: فألقه إليهم، على لفظ الجمع؟ قلت: لأنه قال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره.
وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.
[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 31]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
كَرِيمٌ حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم.
قال صلى الله عليه وسلم: «كرم الكتاب ختمه «2» » وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما «3» . وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وقيل: مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم: هو استئناف وتبيين لما ألقى إليها، كأنها لما قالت: إنى ألقى إلىّ كتاب كريم، قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟
فقالت: إنه من سليمان وإنه: كيت وكيت. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان وإنه. عطفا على:
إنى. وقرئ: أنه من سليمان وأنه، بالفتح على أنه بدل من كتاب، كأنه قيل: ألقى إلىّ أنه من سليمان. ويجوز أن تريد: لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان، وتصديره
__________
(1) . قال محمود: «معناه أصدقت أم كذبت، إلا أن عبارة الآية أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالكذب اتهم في جملة إخباره فلم يوثق به» قال أحمد: وهذا مما نبهت عليه في سورة الشعراء من العدول عن الفعل الذي هو: أم كذبت، وعن مجرد صفته في قوله: أم كنت كاذبا، إلى جعله واحدا من الفئة الموسومة بالكذب، فهو أبلغ في مقصود سياق الآية من التهديد، والله أعلم.
(2) . أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية محمد بن مروان. وهو السدى الصغير عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وأخرجه القضاعي في مسند البيهقي. [.....]
(3) . متفق عليه من رواية قتادة عن أنس قال: أراد أن يكتب ... فذكره.
(3/363)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
باسم الله. وقرأ أبىّ: أن من سليمان وأن بسم الله، على أن المفسرة. وأن في أَلَّا تَعْلُوا مفسرة أيضا. لا تعلوا: لا تتكبروا كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما بالغين معجمة من الغلو: وهو مجاوزة الحد. يروى أنّ نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علىّ وائتوني مسلمين، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية. وقيل: نقرها فانتبهت فزعة. وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، وقالت لقومها ما قالت مُسْلِمِينَ منقادين أو مؤمنين.
[سورة النمل (27) : آية 32]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن. والمراد بالفتوى هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأى والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم: استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها قاطِعَةً أَمْراً فاصلة. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: قاضية أى لا أبت أمرا إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: كل واحد على عشرة آلاف.
[سورة النمل (27) : آية 33]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
أرادوا بالقوة: قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أى هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك.
كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير، فانظرى ماذا ترين: نتبع رأيك.
[سورة النمل (27) : الآيات 34 الى 36]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
(3/364)
لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأى الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وقهرا أَفْسَدُوها أى خرّبوها- ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة-، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأى السديد.
وقيل: هو تصديق من الله لقولها، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ أى مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها عن ملكي فَناظِرَةٌ ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، فروى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهنّ الأساور والأطواق. والقرطة «1» راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك «2» في زى الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درّة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر بن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرّة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبىّ، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسىّ من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا: بهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟
__________
(1) . قوله «والقرطة» واحدها: قرط. (ع)
(2) . قوله «على رماك» هي إناث الخيل. (ع)
(3/365)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
وقال: أبن الحقّ؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها، فجعل رزقها في الشجرة. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وقال للمنذر:
أرجع إليهم، فقالت: هو نبىّ وما لنا به طاقة، فشخصت إليه في اثنى عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: فلما جاءوا. أَتُمِدُّونَنِ وقرئ بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وبالإدغام، كقوله أَتُحاجُّونِّي وبنون واحدة: أتمدوني. الهدية:
اسم المهدى، كما أن العطية اسم المعطى، فتضاف إلى المهدى والمهدى إليه، تقول هذه هدية فلان، تريد: هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به بَلْ أَنْتُمْ قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تَفْرَحُونَ بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالى خلاف حالكم، وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية. فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدني بمال وأنا أغنى منك، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عليه حالى، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأنى أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإنى غنى عنه. وعليه ورد قوله فَما آتانِيَ اللَّهُ. فإن قلت:
فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه: وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح، إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدى، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها.
ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها.
[سورة النمل (27) : آية 37]
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
ارْجِعْ خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملا كتابا آخر لا قِبَلَ لا طاقة.
وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة، أى: لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: لا قبل لهم بهم. الضمير في منها لسبأ. والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك.
(3/366)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
[سورة النمل (27) : آية 38]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
يروى أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها. وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه، ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها. وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها. وقيل. أراد أن يؤتى به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختبارا لعقلها.
[سورة النمل (27) : آية 39]
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
وقرئ: عفرية. والعفر، والعفريت، والعفرية، والعفراة، والعفارية من الرجال:
الخبيث المنكر، الذي يعفر أقرانه. ومن الشياطين: الخبيث المارد. وقالوا: كان اسمه ذكوان لَقَوِيٌّ على حمله أَمِينٌ آتى به كما هو لا أختزل منه شيئا ولا أبد له.
[سورة النمل (27) : آية 40]
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ رجل كان عنده اسم الله الأعظم، وهو يا حى يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وعن الحسن رضى الله. عنه: الله. والرحمن. وقيل هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام، وكان صدّيقا عالما. وقيل: اسمه أسطوم. وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان.
وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول.
وعن ابن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام: علم من الكتاب: من الكتاب المنزل، وهو
(3/367)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
علم الوحى والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام. وآتيك- في الموضعين- يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل. الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر «1»
وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك: ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك. فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن. ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبغ «2» عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله، قبل أن يردّ طرفه. ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردّة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة. يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد.
وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت «3» ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا غَنِيٌّ عن الشكر كَرِيمٌ بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكرا لربه، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر.
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 43]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43)
__________
(1) .
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
لأعرابية، نظرها أعرابى فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها، كأنه يراودها عن نفسها، فأجابته بذلك وقيل: هو لشاعر حماسى. وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب، على طريق التصريحية، ورائدا ترشيح، لأنه يلائم الإرسال. ويوما: ظرف له. والمناظر: مواقع النظر، واستدل على إتعابها إياه بقوله: رأيت الذي لا تملكه كله ولا تصبر عن بعضه، فكانت عينك سببا لوقوع قلبك في حيرة الهوى وحرقة الجوى.
(2) . قوله «ثم نبغ عند مجلس سليمان» في الصحاح «نبغ الشيء» : ظهر. (ع)
(3) . قوله «وقلما أقشعت» أى: أقلعت، أفاده الصحاح. (ع)
(3/368)
نَكِّرُوا اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه.
قالوا: وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره، وأعلاه أسفله. وقرئ: ننظر، بالجزم على الجواب، وبالرفع على الاستئناف أَتَهْتَدِي لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والايمان بنبوّة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرس. هكذا ثلاث كلمات: حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. لم يقل: أهذا عرشك، ولكن: أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل: هو هو، ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقع في المحتمل «1» وَأُوتِينَا الْعِلْمَ من كلام سليمان وملئه: فإن قلت: علام عطف هذا الكلام، وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام- الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به- مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم وَأُوتِينَا الْعِلْمَ نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو: قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل «2» ، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها- عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل على دين الإسلام شكرا لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وَصَدَّها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهر انى الكفرة، ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان
__________
(1) . قال محمود: «لم يقل أهذا عرشك، لئلا يكون تلقينا، قالت. كأنه هو ولم تقل هو هو، ولا ليس بهو وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقع في المحتمل، قال أحمد: وفي قولها كَأَنَّهُ هُوَ وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال، بأن تقول: هكذا هو، نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلا العبارتين تشبيه، إذ كاف التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الاشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما- أعنى اسم الاشارة والمضمر- واقع على الذات المشبهة، وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى، ويفضل قولها هكذا هو بمطابقته للسؤال، فلا بد في اختيار كَأَنَّهُ هُوَ من حكمة فنقول: حكمته والله أعلم: أن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين، فكاد يقول: هو هو، وتلك حال بلقيس. وأما هكذا هو، فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير، فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها والله أعلم. وقول الزمخشري: ولا ليس بهو، إن كان من قوله فوهم، والصواب: ولا ليس به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . قوله «وطبقت المفصل» لعله: وطابقت. (ع)
(3/369)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
عليه السلام قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، تعنى: ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام، ثم قال الله تعالى: وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله- أو سليمان- عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
وقرئ: أنها، بالفتح على أنه بدل من فاعل صد. أو بمعنى لأنها.
[سورة النمل (27) : آية 44]
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
الصرح: القصر. وقيل: صحن الدار. وقرأ ابن كثير: سأقيها، بالهمزة. ووجهه أنه سمع:
سؤقا، فأجرى عليه الواحد. والممرد: المملس، وروى أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره، وتحققا لنبوته، وثباتا على الدين. وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم، لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع، فقالوا له: إن في عقلها شيئا، وهي شعراء الساقين، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما لا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة: أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان عليه السلام وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان «1» ، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له. وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان، وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان لَمْتُ نَفْسِي
تريد بكفرها فيما تقدّم، وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنى بسليمان عليه السلام.
__________
(1) . قوله «فبنوا لها سيلحين وغمدان» في الصحاح «سيلحون» : قرية. وفيه في فصل «نصب» : أن للعرب في نصيبين ونحوه كبيرين وفلسطين وسيلحين وباسمين وقنسرين: مذهبين، أحدهما: لزوم الياء وإعراب ما لا ينصرف. والثاني: إعراب الجمع بالياء والنون نصبا وجرا، وبالواو والنون رفعا. وفي فصل «غمد» : غمدان:
قصر باليمن. وفي فصل «صنع» المصانع: الحصون. (ع)
(3/370)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 46]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
وقرئ: أن اعبدوا، بالضم على إتباع النون الباء فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر.
وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد يَخْتَصِمُونَ يقول كل فريق: الحق معى. السيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة، فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون لجهلهم: إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا- مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت-. وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم، ثم قال لهم: هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلا فيما اعتقدوه.
[سورة النمل (27) : آية 47]
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
وكان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحا «1» تيمن، وإن مر بارحا تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أى: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا:
اطيرنا بكم، أى: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أى سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد:
عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل. عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. وقرئ: تطيرنا بكم، على الأصل. ومعنى: تطير به: تشاءم به.
وتطير منه: نفر منه تُفْتَنُونَ تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.
[سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
__________
(1) . قوله «فان مرّ سانحا تيمن ... الخ» السانح: ما ولاك ميامنه من ظنى أو طائر أو غيرهما، بأن يمر من مياسرك إلى ميامنك. والبارح: ما ولاك مياسره بأن يمر من ميامنك إلى مياسرك، كذا في الصحاح. (ع)
(3/371)
الْمَدِينَةِ الحجر. وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة.
والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب. غنم بن غنم. رباب بن مهرج. مصدع بن مهرج. عمير بن كردبة. عاصم بن مخرمة. سبيط بن صدقة. سمعان بن صفى.
قدار بن سالف: وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم وَلا يُصْلِحُونَ يعنى أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح تَقاسَمُوا يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد، أى: قالوا متقاسمين: وقرئ: تقسموا. وقرئ: لتبيتنه، بالتاء والياء والنون، فتقاسموا- مع النون والتاء- يصح فيه الوجهان. ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا.
والتقاسم، والتقسم: كالتظاهر، والتظهر: التحالف. والبيات: مباغتة العدو ليلا «1» . وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك «2» استراق الظفر، وقرئ: مهلك بفتح الميم واللام وكسرها من هلك. ومهلك بضم الميم من أهلك. ويحتمل المصدر والزمان والمكان، فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه «3» ؟ قلت كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا
__________
(1) . قوله «والبيات مباغتة العدو ليلا» في الصحاح «بيت العدو» أى: أوقع بهم ليلا، والاسم: البيات. (ع)
(2) . قوله «ليس من آيين الملوك» تقدم آنفا أنه قيل: آيين الملك: مراتبه وبهاؤه، كما وجد بهامش. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله وجمعوا بين البياتين جميعا لا أحدهما كانوا صادقين، وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا تراهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق حيلة يتفصون بها عن الكذب» قال أحمد: وحيلة الزمخشري لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل أقرب من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرا، لأن غرضه من تمهيد حيلتهم أن يستشهد على صحة القاعدة المذكورة في موافقة قوم لوط عليها، إذ استقبحوا الكذب بعقولهم لا بالشرع. وأنى يتم له ذلك أو لهم، وهم كاذبون صريح الكذب في قولهم ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وذلك أنهم فعلوا الأمرين، ومن فعل الأمرين فجحد فعل أحدهما لم يكن في فريته مرية، وإنما كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعي عليهم فعل أمرين، فجحدوا المجموع. ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا، فضرب زيدا وعمرا: كان حانثا، بخلاف الحالف لا أضرب زيدا وعمرا فضرب عمرا، ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما، فان مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه، فإذا تمهد أن هؤلاء كاذبون صراحا في قولهم ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب، فلا يخلو أمرهم أن يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة، مع القطع بأنها ليست حيلة، ولا شبهة لقرب جحدهم من الصدق، فيبطل ما قال الزمخشري لاثبات قاعدة دينه على زعمه، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد عقائد القدرية، بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها، فحسبه ما رضى به لدينه، والسلام.
(3/372)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
ما شهدنا مهلك أهله، فذكروا أحدهما: كانوا صادقين، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب «1» . مكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلى فيه، فقالوا: زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب «2» حيالهم، فبادروا، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا منهم في مكانه، ونجى صالحا ومن معه. وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون راميا أَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره:
هي تدميرهم. أو نصبه على معنى: لأنا. أو على أنه خبر كان، أى: كان عاقبة مكرهم الدمار خاوِيَةً حال عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف.
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
وَاذكر لُوطاً أو أرسلنا لوطا لدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عليه. وإِذْ بدل على
__________
(1) . قوله «حيلة يتفصون بها عن الكذب» في الصحاح «فصا الإنسان» : إذا تخلص من البلية والضيق، وتفصيت من الديون: إذا خرجت منها وتخلصت. (ع) [.....]
(2) . قوله «صخرة من الهضب حيالهم» أى من المطر المتتابع مطرة بعد مطرة، وقعد حياله: أى إزاءه.
وأصله الواو، أفاده الصحاح. (ع)
(3/373)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الأول ظرف على الثاني وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ من بصر القلب، أى: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عباده، لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وانهما كافى المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتى وذرني من الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر «1»
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: تَجْهَلُونَ صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة.
[سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
وقرأ الأعمش: جواب قومه، بالرفع. والمشهورة أحسن يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو استهزاء قَدَّرْناها قدّرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ كقوله قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.
__________
(1) .
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
لأبى نواس. وألا استفتاحية للتنبيه، فكأنه قال: تنبيه فاسقني. وقل لي هي الخمر: أى اجهر باسمها. وقوله: إذا أمكن الجهر: احترس- وباح الشيء: ظهر، وباح به: أظهره، أى: أظهر اسم من تحب كما تبوح باسم الخمر. ويروى وبح باسم ما تأتى، أى: ما تفعل. ودعني: أى اتركني: ضمنه معنى باعدنى فعداه بمن، كناية عن نهيه عن ذكر الكنى: جمع كنية: وهو ما دل على الشيء دلالة خفية، وشبه العبارة الخفية بالستر الحائل تصريحا.
(3/374)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 60]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم. معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت «1» وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطإ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجرى تحته. ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في موضع آخر ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء. وقرئ: يشركون بالياء والتاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم «2» » .
__________
(1) . قال محمود: «معلوم أن لا خير فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت» قال أحمد: كلام مرضى بعد أن تضع خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مكان قوله «خالق كل خير» فانه تخصيص قدرى: أو إشراك خفى. والتوحيد الأبلج: ما قلناه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . كذا ذكره الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه البيهقي في الشعب في الباب التاسع من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر قال «كان على بن الحسين يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ختم القرآن- فذكر حديثا طويلا- وفيه والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون؟ بل الله خير وأجل وأبقى وأكرم وأعظم مما يشركون» .
(3/375)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
[سورة النمل (27) : آية 60]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وأَمَّنْ خَلَقَ؟ قلت: تلك متصلة، لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله تعالى: آلله خير أم الآلهة؟
قال: بل أمّن خلق السماوات والأرض خير؟ تقريرا لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء. وقرأ الأعمش: أمن، بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلا من الله، كأنه قال: أمّن خلق السماوات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أى نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتى ذلك محال من غيره، وكذلك قوله بَلْ هُمْ بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو الإحاطة. وقيل ذاتَ، لأنّ المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، لأنّ الناظر يبتهج به أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. وقرئ: أإلها مع الله، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدّة، وتخرج الثانية بين بين يَعْدِلُونَ به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
[سورة النمل (27) : آية 61]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)
أَمَّنْ جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ فكان حكمهما حكم قَراراً دحاها وسوّاها بالاستقرار عليها حاجِزاً كقوله: برزخا.
[سورة النمل (27) : آية 62]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62)
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا.
(3/376)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو المجهود. وعن السدّى: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب»
؟ قلت، الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقا، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ: يذكرون، بالياء مع الإدغام. وبالتاء مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أى: يذكرون تذكرا قليلا. والمعنى: نفى التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
[سورة النمل (27) : آية 63]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
يَهْدِيكُمْ بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر.
[سورة النمل (27) : آية 64]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
فإن قلت: كيف قيل لهم أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة؟ قلت:
قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار مِنَ السَّماءِ الماء وَمن الْأَرْضِ النبات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ مع الله إلها، فأين دليلكم عليه؟
[سورة النمل (27) : آية 65]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
__________
(1) . قال محمود «إن قلت فكم من مضطر لإيجاب؟ قلت: الاجابة موقوفة على كون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة» قال أحمد: الصواب أن الاجابة مقرونة بالمشيئة لا بالمصلحة، وإنما تقف الاجابة على المصلحة عند القدرية، لايجابهم على الله تعالى رعاية المصالح، فقول الزمخشري: لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطا فيه المصلحة: فاسد فان المشيئة شرط في إجابة الدعاء اتفاقا، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الداعي: اللهم اغفر لي إن شئت.
(3/377)
فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت:
جاء على لغة بنى تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنّ أحدا لم يذكر. ومنه قوله:
عشيّة ما تغنى الرّماح مكانها ... ولا النّبل إلّا المشرفي المصمّم «1»
وقولهم: ما أتانى زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سرية «2» . حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعنى: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت «3» : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوّها عن الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أنّ الله ممن في السماوات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة، على أنّ قولك: من في السماوات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئس خطيب القوم أنت «4» » وعن عائشة رضى الله عنها: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية «5» ، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
__________
(1) . النبل: السهام العربية. والمشرفي: السيف، نسبة لمشارف اليمن. والمصمم: الماضي النافذ لصلابته، وكانت عادة المتحاربين التناضل بالسهام عند التباعد، فإذا تقاربوا تحاربوا بالرماح، فإذا التقوا تضاربوا بالسيوف.
وذكر النبل بعد الرماح لدفع توهم بعد العدو، فكأن النبل يغنى عن غيره، فالبيت كناية عن شدة الأمر واختلاط الصفين. وضمير مكانها للحرب أو للسيوف، والاستثناء منقطع بعد النفي، ويجب نصبه عند الحجازيين. ويجوز رفعه كما هنا عند التميميين: إما على البدل، أو على توهم أن المستثنى منه غير مذكور، وأن العامل مفرغ لما بعد «إلا» .
(2) . قوله «دعت إليه نكتة سرية» لعله بزنة فعيلة، فيكون بمعنى شريفة. (ع)
(3) . قوله: «معنى ما في البيت» هو قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس (ع)
(4) . أخرجه مسلم من حديث عدى بن حاتم.
(5) . متفق عليه من حديثها في أثناء حديث.
(3/378)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة أَيَّانَ بمعنى متى، ولو سمى به: لكان فعالا، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.
[سورة النمل (27) : آية 66]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
وقرئ: بل أدّرك. بل ادّراك. بل ادّارك. بل تدارك. بل أأدرك، بهمزتين. بل آأدرك، بألف بينهما. بل أدرك، بالتخفيف والنقل. بل ادّرك، بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله:
بل أدّرك؟ على الاستفهام. بلى أدرك. بلى أأدرك. أم تدارك. أم أدرك، فهذه ثنتا عشرة قراءة. وادّارك: أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادّرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم:
انتهى وتكامل. وادّرك: تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ: يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟
قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بيانا لعجزهم ووصفا لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون- وهو وقت جزاء أعمالهم-: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته:
وفي: أدرك علمهم، وادارك علمهم: وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضى الله عنه باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. فإن قلت: فمن قرأ:
(3/379)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله وَما يَشْعُرُونَ كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفى العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفى الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن فِي الْآخِرَةِ في شأن الآخرة ومعناها فإن قلت، هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا.
ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن، لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون.
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
العامل في إِذا ما دلّ عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وهو نخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل «1» فيه عقابا وهي همزة الاستفهام، وإن ولام الابتداء وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟
والمراد: الإخراج من الأرض. أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على «إذا» و «إن» جميعا إنكار على إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والضمير في إِنَّا لهم ولآبائهم، لأنّ كونهم ترابا قد تناولهم وآباءهم. فإن قلت: قدّم في هذه الآية هذا على نَحْنُ وَآباؤُنا وفي آية أخرى فدّم نَحْنُ وَآباؤُنا على هذا؟ قلت.
التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر، وإن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد.
__________
(1) . قوله «اسم الفاعل فيه عقابا» لعله اسم المفعول وعقابا جمع عقبة. أفاده الصحاح. وعبارة النسفي: لأن اسم الفاعل والمفعول- بعد همزة الاستفهام أو أن أو لام الابتداء- لا يعمل فيما قبله، فكيف إذا اجتمعن. (ع)
(3/380)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
[سورة النمل (27) : الآيات 69 الى 70]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقى، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ وقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لأنهم لم يتبعوك، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش، كقوله تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً. فِي ضَيْقٍ في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا: تخفيف الضيق. قال الله تعالى ضَيِّقاً حَرَجاً قرئ مخففا ومثقلا ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 72]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدى. بمن قال:
فلمّا ردفنا من عمير وصحبه ... تولّوا سراعا والمنيّة تعنق «1»
يعنى: دنونا من عمير، وقرأ الأعرج: ردف لكم، بوزن ذهب، وهما لغتان، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف- في وعد الملوك ووعيدهم- يدل على صدق الأمر وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده، وإنما يعنون بذلك: إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
__________
(1) . ردف كتبع يتعدى بنفسه، وضمن هنا معنى الدنو فعدى بمن، وأعنق الفرس: سار سيرا سريعا سهلا.
والعنق: اسم منه يقول: فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين، والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا. شبه المنية بالأسد على طريق المكنية، فأثبت لها العنق تخييلا، كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال. ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح، أى: ونحن نسرع خلفهم، فذكر العنق تجريد، لأنه يلائم المشبه.
(3/381)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
[سورة النمل (27) : آية 73]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
الفضل والفاضلة: الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه: أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأنه لا يعاجلهم بها، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب: وهم قريش.
[سورة النمل (27) : آية 74]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74)
قرئ تكنّ. يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعنى: أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.
[سورة النمل (27) : آية 75]
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
سمى الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة.
ونظائرهما: النطيحة، والرمية، والذبيحة: في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى لِلْمُؤْمِنِينَ لمن أنصف منهم وآمن، أى: من بنى إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم.
[سورة النمل (27) : آية 78]
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
بَيْنَهُمْ بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت: ما معنى يقضى بحكمه؟ ولا يقال:
زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت: معناه بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضى إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته- وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه-: جمع حكمة. وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يردّ قضاؤه الْعَلِيمُ بمن يقضى له وبمن يقضى عليه، أو العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.
(3/382)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
[سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 81]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته.
وأن مثله لا يخذل. فإن قلت: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل، فما وجه ذلك؟ قلت:؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب: من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله- فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع-: كانت حالهم- لانتفاء جدوى السماع-: كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ: ولا يسمع الصمّ، وما أنت بهاد العمى، على الأصل. وتهدى العمى. وعن ابن مسعود: وما أن تهدى العمى، وهداه عن الضلال.
كقولك: سقاه عن العيمة «1» أى: أبعده عنها بالسقى، وأبعده عن الضلال بالهدى إِنْ تُسْمِعُ أى ما يجدى إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أى: يصدقون بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ أى مخلصون من قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعنى: جعله سالما لله خالصا له.
[سورة النمل (27) : آية 82]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
سمى معنى القول ومؤداه بالقول، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه:
حصوله. والمراد: مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض:
__________
(1) . قوله «سقاه عن العيمة» هي شهوة اللبن كما في الصحاح. (ع)
(3/383)
الجساسة. جاء في الحديث: أنّ طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب «1» .
وروى: لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إبل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّ، وذنب كبش، وخف بعير. وما بين المفصلين: اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام.
وروى: لا تخرج إلا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء «2» ، أو يبلغ السحاب. وعن أبى هريرة:
فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضى الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل: من أين تخرج الدابة؟ فقال «من أعظم المساجد حرمة على الله «3» » يعنى المسجد الحرام. وروى: أنها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق «4» فتقول أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ يعنى أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي، لأنّ خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدى: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضى الله عنه: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المشرق، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروى: تخرج من أجياد «5» .
وروى: بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام، فتنكت نكتة
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من حديث حذيفة دون قوله «وهي الجساسة» وسيأتى بعضه للحاكم وغيره في الذي بعده. [.....]
(2) . قوله «ورأسها يبلغ أعنان السماء» في الصحاح «أعنان السماء» : صفائحها وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عنن. والعامة تقول: عنان السماء. (ع)
(3) . أخرجه الطبري من طريق ربعي عن حذيفة بن اليمان: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقلت يا رسول الله، من أين تخرج؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله ... الحديث» وروى الحاكم والبيهقي في الشعب وإسحاق في مسنده وابن مردويه من حديث أبى الطفيل عن حذيفة عن أسيد رفعه قال «يكون للدابة ثلاث خرجات- إلى أن قال: بينما الناس في أعظم المساجد حرمة وخيرها وأكرمها: المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ... الحديث وفيه: ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب. ولا يفوتها هارب» وفي الباب عن ابن عباس: أخرجه ابن مردويه مطولا.
(4) . قوله «بلسان ذلق» أى طلق، كما في الصحاح. (ع)
(5) . قوله «تخرج من أجياد» جبل بمكة، سمى بذلك لموضع خيل تبع، وسمى «قعيقعان» لموضع سلاحه. (ع)
(3/384)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّى، وتكتب بين عينيه: مؤمن: وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه: كافر. وروى: فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثم تقول لهم:
يا فلان، أنت من أهل الجنة. ويا فلان، أنت من أهل النار. وقرئ: تكلمهم، من الكلم وهو الجرح. والمراد به: الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا، على معنى التكثير. يقال: فلان مكلم، أى مجرّح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم: التجريح، كما فسر: لنحرقنه، بقراءة علىّ رضى الله عنه: لنحرقنه، وأن يستدل بقراءة أبىّ: تنبئهم. وبقراءة ابن مسعود: تكلمهم بأنّ الناس، على أنه من الكلام. والقراءة بإن مكسورة: حكاية لقول الدابة، إما لأنّ الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول، أى:
تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت: إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت: قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه: أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك:
خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أى: تكلمهم بأن.
[سورة النمل (27) : آية 83]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّ لهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله فَوْجاً فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أبو جهل والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت: أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت:
الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين، كقوله مِنَ الْأَوْثانِ.
[سورة النمل (27) : الآيات 84 الى 85]
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)
الواو للحال، كأنه قال: أكذبتم بها بادىء الرأى من غير فكر ولا نظر يؤدى إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب. أو للعطف، أى: أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(3/385)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك- وقد عرفته رويعي سوء-: أتأكل نعمى، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك: أم ماذا تعمل بها، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته «1» وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والإصلاح، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد: أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها، وذلك قوله وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كقوله تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ.
[سورة النمل (27) : آية 86]
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله لِيَسْكُنُوا ومُبْصِراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.
[سورة النمل (27) : آية 87]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)
فإن قلت: لم قيل فَفَزِعَ دون فيفزع؟ قلت: لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السماوات والأرض، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت- عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وعن الضحاك: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى عليه السلام، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. وقرئ: أتوه. وأتاه. ودخرين، فالجمع
__________
(1) . قوله «لتبهته» أى تدهشه وتحيره (ع)
(3/386)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر: الصاغر. وقيل: مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.
[سورة النمل (27) : الآيات 88 الى 90]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
جامِدَةً من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد وَهِيَ تَمُرُّ مرّا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد: إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها، كما قال النابغة في صفة جيش:
بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم ... وقوف لحاج والرّكاب تهملج «1»
صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة، كقوله وَعَدَ اللَّهُ. وصِبْغَةَ اللَّهِ إلا أن مؤكدة محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى: ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: صنع الله، يريد به: الإثابة والمعاقبة. وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: صنع الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعنى أنّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب: من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلى آخر الآيتين، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، «2» وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق «3» . ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب
__________
(1) . للنابغة. والأرعن: الجبل العالي. والطود: الجبل العظيم، فاستعار الأرعن للجيش، ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. والحاج: اسم جمع واحده حاجة. والركاب: المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة:
السير الرهو السهل، فارسى معرب. والهملاج: السريع. يقول: حاربنا العدو يجيش عظيم، تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم، والحال أن ركابهم تسرع السير.
(2) . قوله «ومكانة إضماده ورصانة تفسيره» الذي في الصحاح «ضمد الجرح، يضمده ضمدا» : شده بعصابة وفيه «الرصين» المحكم الثابت. وقد رصن- بالضم- رصانة. (ع)
(3) . قوله «وأخرس الشقاشق» في الصحاح «شقشق الفحل شقشقة» : هدر. وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة، فإنما يشبه بالفحل. (ع)
(3/387)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
كلام، جاء كالشاهد بصحته والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان.
ألا ترى إلى قوله: صُنْعَ اللَّهِ، وصِبْغَةَ اللَّهِ، ووَعَدَ اللَّهُ، وفِطْرَتَ اللَّهِ: بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، لا يخلف الله الميعاد لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ وقرئ: تفعلون، على الخطاب. فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل: فله خير منها، أى: له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ:
يَوْمَئِذٍ مفتوحا مع الإضافة، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين فزع. فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأوّل: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب «1» وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية.
وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ مِنْ فَزَعٍ بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه، لأنّ البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. أمن: يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ. وقيل: السيئة: الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة، فكأنه قيل: فكبوا في النار، كقوله تعالى فَكُبْكِبُوا فِيها ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين هَلْ تُجْزَوْنَ يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
أمر رسوله بأن يقول أُمِرْتُ أن أخص الله وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ من التلاوة أو التلوّ كقوله وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ. والبلدة: مكة حرسها الله تعالى: اختصها من بين سائر.
__________
(1) . قوله «وقلب وجاب» في الصحاح «وجب القلب وجيبا» : اضطرب. (ع)
(3/388)
البلاد بإضافة اسمه إليها، لأنها أحبّ بلاده إليه، وأكرمها عليه، وأعظمها عنده. وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره، فلما بلغ الحزورة «1» استقبلها بوجهه الكريم فقال: «إنى أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله. ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت» «2» وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها «3» ، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن. وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء «4» : اللهم بارك لنا في سكناها، وآمنا فيها شرّ كل ذى شرّ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ: التي حرّمها. واتل عليهم هذا القرآن: عن أبىّ وأن أتل: عن ابن مسعود. فَمَنِ اهْتَدى باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفى الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علىّ من الوحى، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ وَمَنْ ضَلَّ ولم يتبعني فلا علىّ، وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول
__________
(1) . قوله «فلما بلغ الحزورة» هي تل صغير كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة والدارمي وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل. كلهم من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة وهو يقول: والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله. ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواه عقيل ويونس وشعيب وصالح بن كيسان عنه. ورواه ابن أخى الزهري عن عمه عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدى بن الخيار: أخرجه الطبراني. وصححه الدارقطني لوجهين. ورواه النسائي وإسحاق والبزار والبيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة. ولفظه للبيهقي «ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» قال البزار: تفرديه معمر هكذا.
وقال البيهقي: وهم فيه معمر وقال الترمذي: رواه محمد بن عمر بن أبى سلمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقول الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى أصح. وقال البيهقي أيضا: ورواية محمد بن عمرو وهم. وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه الترمذي من رواية ابن خثيم عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل جميعا فيه نحو «ما أطيبك من يلد وأحبك إلىّ. ولولا أن قومي أخرجونى منك ما سكنت غيرك» .
(3) . قوله «لا يختلى خلاها ... الخ» : أى لا يجز حشيشها، ولا يقطع شجرها. (ع)
(4) . قال محمود: «المراد بالبلدة مكة وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها، لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كل شيء إنه لعظيم الشأن» قال أحمد: وتحت قوله وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ: فائدة أخرى سوى ذلك، وهي أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفا لها، أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه، قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها، وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف، لا لأنها ملك الله تعالى خاصة، والله أعلم.
(3/389)
إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعنى في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي: الدخان، وانشقاق القمر. وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل: هو كقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الآية وكل عمل يعملونه، فالله عالم به غير غافل عنه لأنّ، الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات «1» ، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ: تعملون، بالتاء والياء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ طس سليمان: كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادى لا إله إلا الله» «2» .
__________
(1) . قال محمود: «لأن العالم بالذات لا يجوز عليه الغفلة» قال أحمد: قد سبق له جحد صفة العلم، وإيهام أن سلبها داخل في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللة بأنه عالم بالذات لا بعلم، والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بل هو علم قديم أزلى عام التعليق بجميع الواجبات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه تعالى على تعطيل صفاته وكماله وجلاله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
(3/390)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
سورة القصص
مكية، [إلا من آية 52 إلى غاية آية 55 فمدنية، وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة] وآياتها 88 [نزلت بعد النمل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ مفعول نتلو، أى: نتلو عليك بعض خبرهما بِالْحَقِّ محقين، كقوله تنبت بالدهن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنه يؤمن، لأنّ التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم.
[سورة القصص (28) : آية 4]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
إِنَّ فِرْعَوْنَ جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل، كأن قائلا قال: وكيف كان نبؤهما فقال:
إنّ فرعون عَلا فِي الْأَرْضِ يعنى أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف شِيَعاً فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوى عنقه. قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجوّاب دلجتها ... حتّي تراه عليها يبتغى الشّيعا «1»
__________
(1) .
وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتى تراه عليها يبتغى الشيعا
كلفت مجهولها نفسي وشايعنى ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن يقال لعا
للأعشى، أى: ورب مفازة يخاف الجواب: أى كثير السير، من جبت الأرض: قطعتها بالسير. والدلجة، من دلج وأدلج بوزن افتعل، وأدلج بوزن أكرم: إذا سار ليلا والدلجة: ساعة من الليل، أى: يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها، كلفت نفسي سير المجهول منها، وعاوننى عزمي على سيرها وقت لمعان آلها، وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل، ثم قال مع ناقة صاحبة قوة، ويطلق اللوث على الضعف أيضا، فهو من الأضداد، عفرناة: غليظة، ويقال للعائر: لعا لك، دعاء له بالانتعاش. وتعسا له: دعاء عليه بالسقوط، يريد أنها لا تعثر، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.
(3/391)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط. والطائفة المستضعفة: بنو إسرائيل. وسبب ذبح الأبناء: أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يده. وفيه دليل بين على ثخانة حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن، وإن كذب فما وجه القتل؟ ويَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في وَجَعَلَ أو صفة لشيعا. أو كلام مستأنف. ويُذَبِّحُ بدل من يستضعف.
وقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بيان أنّ القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب، لأنه فعل لا طائل تحته، صدق الكاهن أو كذب.
[سورة القصص (28) : الآيات 5 الى 6]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
فإن قلت: علام عطف قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ وعطفه على نَتْلُوا ويَسْتَضْعِفُ غير سديد؟ قلت: هي جملة معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصا له. وَنُرِيدُ: حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالا من يستضعف، أى يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن نمنّ عليهم. فإن قلت:
كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر، قلت: لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم أَئِمَّةً مقدّمين في الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد رضى الله عنه: دعاة إلى الخير، وعن قتادة رضى الله عنه: ولاة، كقوله تعالى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. الْوارِثِينَ يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم. مكن له: إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد، فوطأه ومهده ونظيره: أرّض له. ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام: أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث «1» عليهم، كما كانت في أيام الجبابرة، وينفذ أمرهم، ويطلق أيديهم ويسلطهم.
__________
(1) . قوله «ولا تغث عليهم» أى: ولا تفسد وتردؤ. أفاده الصحاح. (ع)
(3/392)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
وقرئ: ويرى فرعون وهامان وجنودهما، أى: يرون مِنْهُمْ ما حذروه: من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.
[سورة القصص (28) : آية 7]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
اليم: البحر. قيل: هو نيل مصر. فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت: أما الأوّل فالخوف عليه من القتل، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت:
ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن: غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما جميعا، وأو منت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسرورا: وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين. وروى: أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد. وروى: أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون، ولكنى وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور «1» ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يلقوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدرى مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم. وقد روى أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي «2» مطلى بالقار من داخله.
[سورة القصص (28) : آية 8]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)
__________
(1) . قوله «ووضعته في تنور مسجور» في الصحاح «التنور» : الذي يخبر فيه. وفيه أيضا. سجرت التنور سجرا، إذا حميته. (ع)
(2) . قوله «تابوت من بردي مطلى بالقار» في الصحاح «البردي» بالفتح: نبات معروف، فلينظر. (ع)
(3/393)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
اللام في لِيَكُونَ هي لام كى التي معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمنى سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا، ولكن: المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك: ضربته ليتأدّب. وتحريره: أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد. وقرئ: وحزنا وهما لغتان: كالعدم والعدم كانُوا خاطِئِينَ في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدّوهم ببدع منهم. أو كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربى عدوّهم- ومن هو سبب هلاكهم- على أيديهم. وقرئ: خاطين، تخفيف خاطئين، أو خاطين الصواب إلى الخطأ.
[سورة القصص (28) : آية 9]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
روى أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبىّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبنا فأحبوه، وكانت لفرعون بنت برصاء، وقالت له الأطباء: لا تبرأ إلا من، قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت «1» . وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت، فقالت: إن هذه لنسمة مباركة، فهذا أحد ما عطفهم عليه، فقال الغواة من قومه: هو الصبى الذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله، فهمّ بذلك فقالت آسية قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فقال فرعون: لك لا لي. وروى في حديث: «لو قال هو قرّة عين لي كما هو لك، لهداه الله كما هداها «2» » وهذا على سبيل الفرض والتقدير، أى: لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها، ولأسلم كما أسلمت: هذا- إن صح الحديث- تأويله، والله أعلم بصحته.
وروى أنها قالت له: لعله من قوم آخرين ليس من بنى إسرائيل. قرّة عين: خبر مبتدإ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ ولا تَقْتُلُوهُ خبرا، ولو نصب لكان أقوى. وقراءة ابن مسعود
__________
(1) . قوله «فبرأت» في الصحاح: برئت من المرض برءا بالضم. وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا بالفتح. وأصبح فلان بارئا من مرضه (ع)
(2) . هذا طرف من حديث الفتون الطويل. وقد ذكرنا في طه أن النسائي أخرجه من حديث ابن عباس وفيه فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك فقال فرعون: يكون لك فأما أنا فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن الله حرمه ذلك» .
(3/394)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
رضى الله عنه دليل على أنه خبر، قرأ: لا تقتلوه قرّة عين لي ولك، بتقديم لا تَقْتُلُوهُ.
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا.
أو نتبناه، فإنه أهل للتبنى، ولأن يكون ولدا لبعض الملوك. فإن قلت: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال، فما ذو حالها؟ قلت: ذو حالها آل فرعون. وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: إن فرعون ... الآية: جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدة لمعنى خطئهم. وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم.
[سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 11]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
فارِغاً صفرا من العقل. والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أى جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى ... فأنت مجوّف نخب هواء «1»
وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ويدل عليه قراءة من قرأ: فرغا. وقرئ: قرعا، أى خاليا من قولهم: أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء «2» . وفرغا، من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ، أى هدر، يعنى: بطل قلبها وذهب، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها لَتُبْدِي بِهِ لتصحر «3» به. والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته، وأنه ولدها لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله، وهو قوله
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات في الجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «من صفر الإناء وقرع الفناء» صفر الإناء: خلوه، مصدر: صفر الشيء بالكسر، أى: خلا.
وقرع الفناء: خلوه من الغاشية، مصدر قرع بالكسر، أى: خلا. (ع)
(3) . قوله «لتصحر به» في الصحاح: أصحر الرجل، أى: خرج إلى الصحراء والمراد هنا تجهر به ولا تكتم أمره (ع)
(3/395)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ويجوز: وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت، لولا أنا طامنا قلبها وسكنّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه. وقرئ: مؤسى، بالهمزة: جعلت الضمة في جارة الواو- وهي الميم- كأنها فيها، فهمزت كما تهمز واو وجوه قُصِّيهِ اتبعى أثره وتتبعى خبره. وقرئ فبصرت بالكسر- يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة، بمعنى: عن بعد. وقرئ: عن جانب، وعن جنب. والجنب: الجانب. يقال: قعد إلى جنبه وإلى جانبه، أى: نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة «1» . وهم لا يحسون بأنها أخته، وكان اسمها مريم.
[سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
التحريم: استعارة للمنع لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم: محظور.
وحجر، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط، حتى أهمهم ذلك.
والمراضع: جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع. أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع يعنى الثدي أو الرضاع مِنْ قَبْلُ من قبل قصصها أثره. روى أنها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون «2» والنصح:
إخلاص العمل من شائب الفساد، فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها والصبىّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكى يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إنى امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتى بصبى إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله وعده في الردّ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبيا. وذلك قوله وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يريد. وليثبت علمها ويتمكن. فإن قلت: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟
__________
(1) . قوله «متجانفة مخاتلة» متجانفة: أى مائلة. ومخاتلة: أى مخادعة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إنهم اتهموها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ بمعرفة موسى عليه السلام، فقالت إنما أردت وهم للملك فرعون ناصحون، فخلصت من التهمة» قال أحمد: أوردت هذه التورية استحسانا لفطنتها، ولكونها من بيت النبوة، وأخت النبي، فحقيق لها ذلك.
(3/396)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربىّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة. وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ داخل تحت علمها. المعنى: لتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون. ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها: يا أم موسى، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجرى، ثم ذهبت فتوليت قتله، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت: وقع في يد العدوّ، فنسيت وعد الله. ويجوز أن يتعلق وَلكِنَّ بقوله وَلِتَعْلَمَ ومعناه: أن الرّد إنما كان لهذا الغرض الديني، وهو علمها بصدق وعد الله. ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلى الذي ما سواه تبع له:
من قرّة العين وذهاب الحزن.
[سورة القصص (28) : آية 14]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَاسْتَوى واعتدل وتمّ استحكامه، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه، كما قال لقيط:
واستحملوا أمركم لله درّكمو ... شزر المريرة لا قحما ولا ضرعا «1»
وذلك أربعون سنة: ويروى: أنه لم يبعث نبىّ إلا على رأس أربعين سنة «2» . العلم. التوراة.
والحكم: السنة. وحكمة الأنبياء: سنتهم. قال الله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
__________
(1) . للقيط. وروى: واستحكموا. والشزر: القتل الشديد، والشيء الشديد، فهو مصدر أو وصف، والمريرة من المرة وهي القوة. والمرير: الحبل المحكم الفتل. والقحم: الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع: اللين الذليل، من الضراعة وهي الذلة والخضوع، يقول: قلدوا أمر خلافتكم رجلا محكم العزيمة قوى الهمة، لا هرما مختل الرأى ولا ضعيفا، ولله دركم: جملة اعتراضية، أى: لله خيركم وصالح عملكم. وقيل: هذا البيت ملفق مما رواه أبو العباس المبرد في كامله، ومنه:
فقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا
ورحب الذراع: طويل الباع واسع الصدر، أى: شجاع جواد، واضطلع بكذا: قوى عليه واشتد، من الضلاعة وهي القوة واحتمال الثقيل، وشطرت الناقة شطرا: حلبت شطر لبنها وتركت شطره، أى: نصفه وما هنا مستعار منه، أى: جربت الدهر ومرت بى ضروبه من خير وشر، فاكتسبت منه ما يصح به رائي. والأشطر: جمع شطر بدل من الدهر. ويجوز أن حلب يتعدى إلى مفعولين ولو بالتضمين. ومتبع الأول: اسم مفعول، والثاني: اسم فاعل، أى: تارة تابع، وتارة متبوع. واستمرت مريرته: قوى عزمه واستحكم أمره على شزر، أى قوة وصدق همة،
(2) . لم أجده. [.....]
(3/397)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
وقيل: معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء، وسمتهم قبل البعث، فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه.
[سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 17]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
المدينة: مصر. وقيل: مدينة منف من أرض مصر. وحين غفلتهم: ما بين العشاءين.
وقيل: وقت القائلة. وقيل: يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم. وقيل: لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم، فأخافوه، فلا يدخل قرية إلا على تغفل. وقرأ سيبويه: فاستعانه مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه على دينه من بنى إسرائيل. وقيل: هو السامرىّ مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه من القبط، وهو فاتون، وكان يتسخر الاسرائيلى لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. والوكز: الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: بجمع الكف. وقرأ ابن مسعود: فلكزه. باللام فَقَضى عَلَيْهِ فقتله. فإن قلت: لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه؟ قلت: لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل، فكان ذنبا يستغفر منه. عن ابن جريج: ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف، تقديره: أقسم بإنعامك علىّ بالمغفرة لأتوبنّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ «1» وأن يكون استعطافا، كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ من المغفرة، فلن أكون- إن عصمتني- ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون. وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلى المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى. يعنى: لم يقل: فَلَنْ أَكُونَ إن شاء الله. وهذا نحو قوله وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وعن عطاء: أنّ رجلا قال له: إنّ أخى يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال: فمن الرأس، يعنى
__________
(1) . قوله تعالى قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال أحمد: لقد تبرأ من عظيم، لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى: أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة، فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة أو برى لهم قلما فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.
(3/398)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري: قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث: «ينادى مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم» «1» وقيل معناه. بما أنعمت علىّ من القوّة، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك.
ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بنى إسرائيل.
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 19]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
يَتَرَقَّبُ المكروه وهو الاستقادة منه، أو الإخبار وما يقال فيه، ووصف الإسرائيلى بالغىّ، لأنه كان سبب قتل رجل، وهو يقاتل اخر. وقرئ: يبطش، بالضم. والذي هو عدوّ لهما: القبطي لأنه ليس على دينهما، ولأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل. والجبار:
الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن:
وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله، ولما قال هذا: أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقى إلى فرعون، وهموا بقتله.
[سورة القصص (28) : آية 20]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قيل: الرجل: مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ويَسْعى يجوز ارتفاعه وصفا لرجل، وانتصابه حالا عنه، لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وإذا جعل صلة لجاء، لم يجز في يَسْعى إلا الوصف. والائتمار: التشاور. يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر. والمعنى: يتشاورون بسببك لَكَ بيان، وليس بصلة الناصحين.
[سورة القصص (28) : آية 21]
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
__________
(1) . ذكره صاحب الفردوس من حديث أبى هريرة.
(3/399)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
يَتَرَقَّبُ التعرّض له في الطريق. أو أن يلحق.
[سورة القصص (28) : آية 22]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قصدها ونحوها. ومدين: قرية شعيب عليه السلام، سميت بمدين بن إبراهيم، ولم تكن في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس: خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. وسَواءَ السَّبِيلِ وسطه ومعظم نهجه. وقيل: خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر، فما وصل حتى سقط خف قدمه.
وقيل: جاءه ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين.
[سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 28]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
ماءَ مَدْيَنَ ماءهم الذي يستقون منه، وكان بئرا فيما روى. ووروده: مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً جماعة كثيفة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم. والذود: الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان، لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي. وقيل: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما ما خَطْبُكُما ما شأنكما. وحقيقته: ما مخطوبكما، أى: مطلوبكما من الذياد، فسمى المخطوب خطبا،
(3/400)
كما سمى المشئون شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شأنت شأنه، أى: قصدت قصده. وقرئ لا نسقي. ويصدر. والرعاء، بضم النون والياء والراء. والرعاء: اسم جمع كالرخال والثناء «1» .
وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام كَبِيرٌ كبير السن فَسَقى لَهُما فسقى غنمهما لأجلهما. وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال. وقيل:
عشرة. وقيل: أربعون. وقيل: مائه، فأقله وحده. وروى أنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا: استق بها، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة، وروّى غنمهما وأصدرهما. وروى أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما. وقيل: كانت بئرا أخرى عليها الصخرة. وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف. والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمّة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتى من البطش والقوّة وما لم يغفل عنه، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب، ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم. فإن قلت: لم ترك المفعول غير مذكور في قوله يَسْقُونَ وتَذُودانِ ولا نَسْقِي «2» ؟ قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا، وكذلك قولهما لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ المقصود فيه السقي لا المسقى. فإن قلت: كيف طابق جوابهما سؤاله قلت: سألهما عن سبب الذود فقالتا: السبب في ذلك أنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال «3» ومزاحمتهم، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به: أبلتا إليه عذرهما «4» في توليهما السقي بأنفسهما. فإن قلت: كيف ساغ لنبىّ الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لا بنتيه
__________
(1) . قوله «لا نسقي ويصدر والرعاء بضم النون والياء والراء ... الخ» يفيد أن القراءة المشهورة بفتح النون والياء وكسر الراء. والرخال: واحده رخل، وهي الأنثى من ولد الضأن. والثناء: عقال البعير ونحوه من حبل مثنى، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وتذودان ولا نسقي» لعل بعده سقطا تقديره: فسقى لهما، وعبارة النسفي: لا نسقي، و: فسقى. (ع)
(3) . قوله «لا نقدر على مساجلة الرجال» في الصحاح: «السجل» الدلو إذا كان فيه ماء. والمساجلة: المفاخرة بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من الدلو اه. (ع)
(4) . قوله «أبلتا إليه عذرهما» لعله تحريف، وأصله: أبدتا، كعبارة النسفي. (ع)
(3/401)
بسقى الماشية؟ قلت: الأمر في نفسه ليس بمحظور، فالدين لا يأباه. وأما المروءة، فالناس مختلفون في ذلك، والعادات متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة إِنِّي لأى شيء أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قليل أو كثير، غث أو سمين ل فَقِيرٌ «1» وإنما عدى فقير باللام، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. قيل: ذكر ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال، ما سأل الله إلا أكلة. ويحتمل أن يريد: إنى فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلىّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة: قال ذلك رضا بالبدل السنى، وفرحا به، وشكرا له، وكان الظل ظل سمرة عَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع الحال، أى: مستحيية متخفرة «2» . وقيل. قد استترت بكم درعها. روى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان «3» قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما:
اذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: امشى خلفي وانعتى لي الطريق، فلما قص عليه قصته قال له. لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا. فإن قلت:
كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشى معها وهي أجنبية؟ قلت: أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مما شاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال، مع ذلك الاحتياط والتورّع. فإن قلت: كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت:
يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف. وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ. كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيّف ويكرم خصوصا في دار نبىّ من أنبياء الله، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلبا للأجر. وقد روى ما يعضد كلا القولين: روى أنها لما قالت: ليجزيك، كره ذلك، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض «4» ذهبا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا. حتى قال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. وعن عطاء ابن السائب: رفع صوته بدعائه ليسمعهما، فلذلك قيل له: ليجزيك أجر ما سقيت، أى، جزاء سقيك. والقصص: مصدر كالعلل، سمى
__________
(1) . قوله «غث أو سمين لفقير» أى مهزول كما في الصحاح. والمراد: ردىء أو جيد. (ع)
(2) . قوله «أى مستحيية متخفرة» الخفر: شدة الحياء. ومنه جارية خفرة ومتخفرة، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وأغنامها حفل بطان» في الصحاح: ضرع حافل، أى ممتلئ لبنا. وفيه: بطن بالكسر يبطن بطنا:
عظم بطنه من الشيع. (ع)
(4) . قوله «لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا» في الصحاح «طلاع الشيء» : ملؤه. (ع)
(3/402)
به المقصوص. كبراهما: كانت تسمى صفراء، والصغرى: صفيراء. وصفراء: هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. وعن ابن عباس: أن شعيبا أحفظته الغيرة «1» فقال:
وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو، وأنه صوّب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه. وقولها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعنى الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل، والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته «2» . فإن قلت: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإنّ، والقوى الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله:
ألا إنّ خير النّاس حيّا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم في السّلاسل «3»
__________
(1) . قوله «أن شعيبا أحفظته الغبرة» أى أغضبته، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت القوة والأمانة في القائم بأمرك فقد فرع بالك، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي ساقته سياق المثل والحكم عن أن تقول: فانه قوى أمين» قال أحمد: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للحشمة، وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه، وما أحسن ما أخذ الفاروق رضى الله تعالى عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوى، ففي مضمون هذه الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا أمينا يستعين به على ما كان بصدده رضى الله عنه. وهذا الإبهام- من ابنة شعيب صلوات الله عليه وسلامه- قد سلكته زليخا مع يوسف عليه السلام، ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل، حيث قالت لسيدها: ما جزاء من أراد بأملك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم، وهي تعنى ما جزاء يوسف بما أرادنى من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر أن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا، إيذانا بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر، يمنعها من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، والله أعلم.
(3) .
ألا إن خير الناس حيا وميتا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري إن عمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضا بكل ملمة ... ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل
لأبى الشغب العبسي، يتحزن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو. وخير الناس: أفعل تفضيل، مضاف إلى المعرف بأل، وهو اسم إن. وحيا وميتا، وروى هالكا: حالان منه. وأسير: خبر إن مضاف إلى ثقيف علم القبيلة. والعلم أعرف من المحلى بأل، فخبر إن المضاف إليه أعرف من اسمها المضاف للمحلى، ولا مانع منه مع اتحادا لما صدق الذي هو مراد المخبر. وعندهم في السلاسل: حال أو خبر بعد خبر. ولعمري: قسم، إن عمرتم: أى أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن. وأوطأتموه، أى: صيرتموه يطأ برجله الأرض كوطأة المتثاقل:
الحامل لشيء ثقيل، لجعل القيد في رجليه، فهو كناية عن ذلك لقد كان نهاضا جواب القسم، وجواب الشرط محذوف، أى: كان سريع القيام بكل نازلة ثقيلة، وكان معطي اللهى- بالفتح-: جمع لهاة، كحصى وحصاة، بمعنى اللحمة التي في أقصى الفم، لكنها هنا بمعنى الفم نفسه. والأوجه أنه بالضم جمع لهوة، كغرف: جمع غرفة بمعنى العطية من أى نوع كانت، غمرا: أى عطاء كثيرا غامرا، وكان كثير الزيادات في العطاء، وأجرى «معطي» مجرى المرفوع للوزن.
(3/403)
في أن العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبرا اسما، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. ومنه قولهم: أهون ما أعملت لسان ممخ «1» . وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف، في قوله عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وأبو بكر في عمر. روى أنه أنكحه صفراء. وقوله هاتَيْنِ فيه دليل على أنه كانت له غيرهما تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا، كقولك: أبوته إذا كنت له أبا، وثَمانِيَ حِجَجٍ ظرفه. أو من أجرته كذا، إذا أثبته إياه. ومنه: تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجركم الله ورحمكم «2» . وثماني حجج: مفعول به، ومعناه:
رعية ثماني حجج فإن قلت: كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ قلت: لم يكن ذلك عقدا للنكاح، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم «3» عليه، ولو كان عقدا لقال: قد أنكحتك ولم يقل: إنى أريد أن أنكحك. فإن قلت: فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم، ولا بد من تسليم ما هو مال؟ ألا ترى إلى أبى حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة «4» وجوّز أن يتزوّجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة، لأنه في الأول:
مسلم نفسه وليس بمال، وفي الثاني: هو مسلم مالا وهو العبد أو الدار، قلت: الأمر على مذهب أبى حنيفة على ما ذكرت. وأما الشافعي: فقد جوّز التزوّج على الإجارة لبعض الأعمال والخدمة،
__________
(1) . قوله «أهون ما أعملت لسان ممخ» في الصحاح: تمخيت من الشيء وأمخيت منه: إذا تبرأت منه اه، فلعل ممخ: اسم فاعل من أمخيت. (ع) [.....]
(2) . أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق أحمد بن الحسن بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن على عن آبائه إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عزى قال: «آجركم الله ورحمكم» وإذا هنأ قال: «بارك الله لكم وبارك عليكم» وله شاهد مرسل أخرجه ابن أبى شيبة من رواية ابن خالد الوالبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال له: «يرحمه الله ويأجركم» وفي الضعفاء لابن حبان عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى مسلما بذمي مات له، فقال: «آجرك الله وأعظم أجرك» وفي إسناده إسماعيل بن يحيى التيمي. وهو ساقط
(3) . قوله «ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه» لعله: ومواضعة (ع)
(4) . قال محمود: «نقل من مذهب أبى حنيفة منع النكاح على مثل خدمته بعينه، وجوازه على مثل خدمة عبده سنة، وفرق بأنه في الأولى سلم نفسه وليس بمال، وفي الثانية سلم عبده وهو مال. ونقل عن الشافعي جواز النكاح على المنافع المعلومة مطلقا» قال أحمد: ومذهب ملك على ثلاثة أقوال: المنع، والكراهة، والجواز.
والعجب من إجازة أبى حنيفة النكاح على منافع العبد، بخلاف منافع الزوج، مع أن الآية أجازت النكاح على منافع الزوج ولم تتعرض لغيره، وما ذاك إلا لترجيح المعنى الذي أشار إليه الزمخشري. أو تفريعا على أن لا دليل في شرع من قبلنا، أو غير ذلك، والله أعلم.
(3/404)
إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرا معلوما، ولعلّ ذلك كان جائزا في تلك الشريعة. ويجوز أن يكون المهر شيئا آخر، وإنما أراد أن يكون راعى غنمه هذه المدّة، وأراد أن ينكحه ابنته، فذكر له المرادين، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى: إنى أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة. ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته به، ويجعل قوله عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ عبارة عما جرى بينهما فَإِنْ أَتْمَمْتَ عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ فإتمامه من عندك. ومعناه: فهو من عندك لا من عندي، يعنى: لا ألزمكه ولا أحتمه عليك، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع، وإلا فلا عليك وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه. فإن قلت: ما حقيقة قولهم: شققت عليه، وشق عليه الأمر؟ قلت: حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة: أطيقه، وتارة: لا أطيقه. أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعى غنمه، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين، من المناقشة في مراعاة الأوقات، والمداقة في استيفاء الأعمال، وتكليف الرعاة أشغالا خارجة عن حدّ الشرط، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس. ومنه الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي، فكان خير شريك لا يدارى ولا يشارى ولا يماري» «1» وقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يدل على ذلك، يريد بالصلاح: حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب «2» . ويجوز أن يريد الصلاح على العموم.
ويدخل تحته حسن المعاملة، والمراد باشتراط مشيئة الله فيما وعد من الصلاح: الاتكال على توفيقه فيه ومعونته، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله، وإن شاء استعمل خلافه ذلِكَ مبتدأ، وبَيْنِي وَبَيْنَكَ خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد. ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتنى عليه قائم بيننا جميعا، لا نخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علىّ ولا أنت عما شرطت على نفسك. ثم قال: أى أجل من الأجلين قضيت: أطولهما الذي هو العشر، أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أى لا يعتدى علىّ في طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت: معناه كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت
__________
(1) . أخرجه أبو داود، وابن ماجة من حديث السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي، فكنت خير شريك. لا تدارى ولا تمارى.
(2) . قوله «ووطأة الخلق ولين الجانب» في الصحاح: «شيء وطئ» : بين الوطاءة. (ع)
(3/405)
مستقرّ، وأن الأجلين على السواء: إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيى: إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدّيا، وهو في نفى العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم علىّ، ولا تبعة علىّ. وفي قراءة ابن مسعود: أى الأجلين ما قضيت. وقرئ: أيما، بسكون الياء، كقوله:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما ... علىّ من الغيث استهلّت مواطره «1»
وعن ابن قطيب: عدوان، بالكسر. فإن قلت: ما الفرق بين موقعى «ما» المزيدة في القراءتين؟
قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، أىّ: زائدة في شياعها: وفي الشاذة تأكيدا للقضاء، كأنه قال: أى الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له. الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت «2» ، عدى بعلى لذلك. روى أنّ شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى. فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب، فمسها- وكان مكفوفا، فضنّ بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أنّ له شأنا. وقيل:
أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا. وقيل: أودعها شعيبا ملك في صورة رجل، فأمر بنته أن تأتيه بعصا، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة، فتبعه فاختصما فيها، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع، فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى. وعن الحسن:
ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا. وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر، إلا أنّ فيها تنينا «3» أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية. فلما أبصرها دامية
__________
(1) . للفرزدق. ونصر: هو ابن سيار ملك العراقين. والسما كان: كوكبان: السماك الأعزل لا نجم أمامه، والسماك الرامح أمامه نجوم، وأيهما أصله مشدد فسكن للضرورة، ثم يحتمل أنه نصب بدل مما قبله، وأنه معمول لمحذوف: أى لا أعلم أيهما وهو موصول. ويجوز أنه استفهام، وعليه فهو رفع على الابتداء، والضمير فيه راجع لنصر والسماكين، أى: ترقبت نصرا والسماكين أيهما استهلت مواطره على من الغيث، وأهل السحاب واستهل: اشتد انصبابه. والمواطر: السحائب. والغيث: المطر. وفي قرن نصر بالسماكين: دلالة على تشبيهه بهما في الخير وعلى الاستفهام، فهو من باب تجاهل العارف، وكذلك على نفى العلم.
(2) . قوله «والمهيمن والمقيت» أى: المقتدر، أو الحافظ. (ع)
(3) . قوله «إلا أن فيها تنينا» أى: ثعبانا. (ع)
(3/406)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
والتنين مقتولا ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا، وقال له: إنى وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء»
، فأوحى إليه في المنام: أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فوفى له بشرطه
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الأجلين قضى موسى؟ فقال: أبعدهما وأبطأهما «2» .
وروى أنه قال: قضى أوفاهما، وتزوّج صغراهما. وهذا خلاف الرواية التي سبقت. الجذوة- باللغات الثلاث. وقرئ بهنّ جميعا-: العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن، قال كثير:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذى غير خوّار ولا دعر «3»
__________
(1) . قوله «كل أدرع ودرعاء» لعله «كل أردع وردعاء» وفي الصحاح: به ردع من زعفران أو دم، أى: لطخ وأثر.
وردعته بالشيء فارتدع، أى: لطخته به فتلطخ اه، فالأردع: شبيه المتلطخ بلون آخر. ولفظ الخازن: أبلق وبلقاء. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم من طريق ابن عيينة عن إبراهيم بن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس بهذا قلت. وإبراهيم مجهول. وقوله: وروى أنه قال قضى أوفاهما وتزوج من صغراهما: أخرجه الطبراني والبزار من طريق عويد بن أبى عمران الجونى عنه عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما، قال وسئل أى المرأتين تزوج؟ قال الصغرى منهما» وعويد ضعيف وفي ابن مردويه من حديث أبى هريرة رفعه «قال لي جبريل: إن سألك اليهودي: أى الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما وإن سألك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما» وفي إسناده سليمان الشاذكوني وهو ضعيف.
(3) . لابن مقبل. والحواطب: الجواري يطلبن الحطب، والالتماس- بحسب الأصل-: من اللمس.» ثم اتسع فيه. والجذل: الحطب الغليظ اليابس: والجذى: جمع جذوة بتثليث الجيم فيهما وهي العود الغليظ في رأسه نار أولا. والخوار: الضعيف. والخور معيب، إلا في قولهم: ناقة خوارة، أى كثيرة اللبن. ونخلة خوارة:
كثيرة الحمل. ودعر العود دعرا كتعب كثر دخانه، فهو دعر كحذر. والدعر أيضا: السوس والفساد. والدعار:
الفسق والخبث، وغير خوار: حال من جزل الجذى.
(3/407)
وقال:
وألقى على قبس من النّار جذوة ... شديدا عليه حرها والتهابها «1»
مِنْ الأولى والثانية لابتداء الغاية، أى: أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.
ومِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله: من شاطئ الوادي، بدل الاشتمال، لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، كقوله تعالى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ وقرئ: الْبُقْعَةِ بالضم والفتح.
والرَّهْبِ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون: وهو الخوف. فإن قلت: ما معنى قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية: فزع واضطرب، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له:
إنّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة «2» عند الأعداء. فإذا ألقيتها فكما تنقلب «3» حية، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح: اليد، لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر. وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضمّ جناحه إليه. والثاني: أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه. وتشدّده عند انقلاب العصاحية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما. وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتبا له كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك، واضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك «4» ، فإنى ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب، أى: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك: جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين: واحد. ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء
__________
(1) . الجذوة في الأصل، العود الغليظ في رأسه نار أولا، ولكن خصها الوصف بما في رأسه نار، ثم إنها استعارة تصريحية للرمح أو للسيف، والحر والالتهاب: ترشيح لها. وشديد: خبر المبتدأ الذي بعده.
(2) . قوله «فيه غضاضة» أى: ذلة ومنقصة، كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فكما تنقلب حية» أى: فعند ما تنقلب. (ع) [.....]
(4) . قوله «وليفرخ روعك» أى ليذهب فزعك. أفاده الصحاح. (ع)
(3/408)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
وفي الثاني: إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه، وذلك قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم. هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه: اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما: جناح. ومن بدع التفاسير: أنّ الرهب: الكم، بلغة حمير وأنهم يقولون: أعطنى مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل «1» كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة «2» من صوف لا كمى لها فَذانِكَ قرئ مخففا ومشدّدا، فالمخفف مثنى ذاك. والمشدّد مثنى ذلك، بُرْهانانِ حجتان بينتان نيرتان. فإن قلت: لم سميت الحجة برهانا؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء. برهرهة، بتكرير العين واللام معا. والدليل على زيادة النون قولهم:
أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. ونظيره تسميتهم إياها سلطانا من السليط وهو الزيت، لإنارتها.
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 34]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
يقال: ردأته: أعنته. والردء: اسم مايعان به، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن جندل:
وردئى كل أبيض مشرفي ... شحيذ الحدّ عضب ذى فلول «3»
وقرئ: ردا على التخفيف، كما قرئ: الخب رِدْءاً يُصَدِّقُنِي بالرفع والجزم صفة وجواب، نحو وَلِيًّا يَرِثُنِي سواء. فإن قلت: تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدّق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي
__________
(1) . قوله «وكيف تطبيقه المفصل» لعله تطبيقه على المفصل (ع)
(2) . قوله «زرمانقة من صوف» في الحديث: أن موسى عليه السلام لما أتى فرعون أتاه وعليه زرمانقة، يعنى: جبة صوف. قال أبو عبيد: أراها عبرانية، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . لسلامة بن جندل. يقول: وردئى الذي أتوقى به المكاره كل سيف أبيض، وعبر بكل، لأن المراد بيان الجنس لا الشخص، مشرفي: نسبة إلى مشارف اليمن قرى منها، وقيل: من الشام، شحيذ الحد: مرهفه، من شحذ المدية: حددها. عضب: قاطع، والفلول: جمع فل- بالفتح: وهو كسر في حد السيف وانثلام، أى:
به فلول من قراع الكتائب.
(3/409)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإنّ سحبان وباقلا «1» يستويان فيه، أو يصل جناح كلامه بالبيان، حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه، فأسند التصديق إلى هرون، لأنه السبب فيه إسنادا مجازيا. ومعنى الإسناد المجازى: أن التصديق حقيقة في المصدّق، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق، ولكن استعير له الإسناد لأنه لا بس التصديق بالتسبب كما لا بسه الفاعل بالمباشرة. والدليل على هذا الوجه قوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وقراءة من قرأ: ردءا يصدقوني. وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني.
[سورة القصص (28) : آية 35]
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
العضد: قوام اليد، وبشدّتها تشتد. قال طرفة:
أبنى لبينى لستمو بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد «2»
ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك. وفي ضده، فت الله في عضدك. ومعنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به ونعينك، فإمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد. والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور. وإمّا لأنّ الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة سُلْطاناً غلبة وتسلطا. أو حجة واضحة بِآياتِنا متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات، أى اذهبا بآياتنا. أو بنجعل لكما سلطانا، أى: نسلطكما بآياتنا. أو بلا يصلون، أى: تمتنعون منهم بآياتنا. أو هو بيان للغالبون لا صلة، لامتناع تقدم الصلة على الموصول. ولو تأخر: لم يكن إلا صلة له. ويجوز أن يكون قسما جوابه:
لا يصلون، مقدما عليه. أو من لغو القسم.
__________
(1) . قوله «فان سحبان وباقلا يستويان فيه» مثل في الفصاحة. وباقل: مثل في الفهاهة والعي. (ع)
(2) .
أبنى لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
أبنى لبينى لا أحقكم ... وجد الاله بكم كما أجد
لطرفة بن العبد. وقيل: لأوس بن حجر. والهمزة للنداء. ولبينى: اسم أمة كناية عن أنهم أرقاء. واليد استعارة تصريحية للأقوياء. أو تشبيه بليغ، أى: لستم مثل يد من الأيدى في القوة، إلا مثل يد لا عضد لها، فهي صعبة. ويروى إلا يدا مخبولة العضد، يقال: خبلت يده أشللتها، ففي القافية الاقواء، وفيه استتباع الذم بما يشبه المدح للمبالغة في الذم، وكرر النداء لزيادة التعبير، وحقه يحقه: خصمه يخصمه، وأثبته، وأوجبه أيضا، أى: لا أثبتكم. أو لستم أهلا لمخاصمتى إياكم. ووجد عليه: غضب. ووجد به: حزن، أى: غضب الله بسيبكم كما أغضب أنا. أو كرهكم كما يكره الحزين ما يحزنه. وهذا دعاء عليهم بالإهلاك.
(3/410)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
[سورة القصص (28) : آية 36]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله فِي آبائِنَا حال منصوبة عن هذا، أى: كائنا في زمانهم وأيامهم، يريد: ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، وقد سمعوا وعلموا بنحوه. أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به. وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها.
[سورة القصص (28) : آية 37]
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
يقول: رَبِّي أَعْلَمُ منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى: يعنى نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غنى حكيم لا يرسل الكاذبين، ولا ينئى الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقِبَةُ الدَّارِ هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف، فإذا عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار «1» . وقرأ ابن كثير: قالَ مُوسى بغير
__________
(1) . قال محمود: «العاقبة هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله عز وجل أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت. قال: فان قلت العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله، كما قال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف، لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار» قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده هاهنا: أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم، مثل قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الآية. والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين. ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضى الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغبرة ذرء النار، أى: خلقها، فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له، فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم.
وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وإن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي، جمعا بين الأدلة، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى: هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجيء العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها: أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير، ومكنهم منها، وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها، وأن يتخذوها نصب أعينهم، فأطلقت العاقبة والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم. والحاصل: أنها لما كانت هي المأمور بها والمحضوض عليها، عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من كثير من الخلق، وقال لي بعضهم: ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها، ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة، كقوله مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير، إذ هي لهم وعاقبة السوء عليهم لا لهم، كما يقولون: الدائرة لفلان، يعنون: دائرة الظفر والنصر. والدائرة على فلان، يعنون:
دائرة الخذلان والسوء، فقلت: لقد كان لي في ذلك مقال لولا ورود أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ولم يقل عليهم، فاستعمال اللام مكان «على» دليل على إيفاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، والله أعلم.
(3/411)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
واو، على ما في مصاحف أهل مكة، وهي قراءة حسنة، لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة: سحرا مفترى. ووجه الأخرى:
أنهم قالوا ذلك، وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر:
وبضدّها تتبيّن الأشياء «1»
وقرئ تكون: بالياء والتاء.
[سورة القصص (28) : آية 38]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38)
__________
(1) .
من يظلم القرناء في تكليفهم ... أن يصبحوا وهم له أكفاء
ويذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتميز الأشياء
لأبى الطيب المتنبي، بمدح هارون بن عبد العزيز، أى: أنه تظلم أقرانه في تكليفهم أن يكونوا مساوين له، وفي ذلك مشقة عليهم: كناية عن أنه لا يساويه أحد. وقوله: وبضدها إلى آخره: دليل على ما قبله. ويروى:
تتبين الأشياء، والمعنى واحد، أى: الأشياء تعرف بمعرفة معنى أضدادها.
(3/412)
روى أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبنى، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. ويروى في هذه القصة: أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه، والله أعلم بصحته. قصد بنفي علمه بإله غيره: نفى وجوده، معناه:
ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي كما قال الله تعالى قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ معناه بما ليس فيهن، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود. فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده. وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده «1» . ويجوز أن يكون على ظاهره، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده،
__________
(1) . قال محمود: «عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم، وإنما كان كذلك لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو عليه إن موجودا فموجود وإن معدوما فمعدوم، فمن ثم عبر عن نفى كونه موجودا بنفي كونه معلوما» قال أحمد:
لشدة ما بلغ منه الوهم، لم يتأمل كيف سقوط السهم، وإنما أتى من حيث أن الله تعالى عبر كثيرا عن نفى المعلوم بنفي العلم في مثل قوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض، أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض، فلما اطرد ذلك عنده توهم أن هذا التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم يشمل كل علم، ولو لم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، وليس هو كذلك، بل هذا التعبير لا يسوغ إلا في علم الله تعالى لأمر يخص العلم القديم وهو عموم تعلقه حتى لا يعزب عنه أمر، فما لم يتعلق العلم بوجوده يلزم أن لا يكون موجودا، إذ لو كان موجودا لتعلق به بخلاف علم الخلق، فلا تلازم بين نفى الشيء ونفى العلم الحادث بوجوده، ولا كذلك العلم القديم، فان بين نفى معلومه ونفى تعلقه بوجوده تلازما سوغ التعبير المذكور، ولكن المعلوم أن فرعون كان يدعى الالهية ويعامل علمه معاملة علم الله تعالى في أنه لا يعزب عنه شيء، فمن ثم طغى وتكبر. وعبر بنفي علمه عن نفى المعلوم، تدليسا على ملئه، وتلبيسا على عقولهم السخيفة- والله أعلم- ويناسب تعاظمه هذا قوله فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل: فاطبخ لي آجرا، وذلك من التعاظم، كما قال تعالى- وله العظمة والكبرياء، ومن ارتدى بردائهما قصمه-: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ فذكر هذه العبارة الجامعة لأنواع الكفر على وجه الكبرياء تهاونا بها، وذلك من تجبر الملوك- جل الله وعز- ومن تعاظم فرعون أيضا: نداؤه لوزيره باسمه، وبحرف النداء وتوسيط ندائه خلال الأمر، وبناؤه الصرح ورجاؤه الاطلاع: دليل على أنه لم يكن مصمما على الجحود. قال الزمخشري: وذلك مناقض لما أظهر من الجحد الجازم في قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فاما أن يخفى هذا التناقض على قومه لغباوتهم وكآبة أذهانهم. وإما أن يتفطنوا لها ويخافوا نقمته فيصروا. قال أحمد: ولقائل- والله أعلم- أن يحمل قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي على الشك، ونفى علمه خاصة، وإجرائه مجرى سائر علوم الخلق في أنه لا يلزم من نفى تعلقه بوجود أمر نفى ذلك الأمر، لجواز أن يكون موجودا عازبا عن علمه. وحينئذ لا يكون تناقضا، ولو لم يكن حمله هذا هو الأصل لما سوغنا أن يرفع التناقض عن كلامه، لأنه أحقر من ذلك.
(3/413)
ولكنه مظنون بدليل قوله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا، فقد ظنّ أن في الوجود إلها غيره، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ لما تكلف ذلك البنيان العظيم، ولما تعب في بنائه ما تعب، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض. ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم: من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه، وليت شعري، أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك سن عقولهم، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم، فنهكم به بالفعل، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة. ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين، كقوله:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج «1»
ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم.
أو لم تخف عليهم، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه، وإنما قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ
__________
(1) .
وكل تباريح المحب لقيتها ... سوى أنثى لم ألق حتفي بمرصدى
نصحت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بنى السوداء والقوم شهدى
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارس المسرد
لدريد بن الصمة، ينذر قومه بهجوم العدو. ودريد: هو معاوية بن الحرث بن بكر بن علقمة الجثمى: قتل مشركا يوم حنين، أى: كل الشدائد التي يلقاها المحب من محبوبه لقيتها. والحتف: الهلاك. والمرصد، والمرصاد:
الطريق، وفي إضافته لنفسه معنى لطيف، أى: لم أسلك طريقا فيه حتف لي، بل أسلك غيره فطر بقي لا ضرر فيه. ونصحه ونصح له: خلص وصفا. والشهد- بالتشديد: جمع شاهد. ودججه تدجيجا: غطاه تغطية. والدجة- بالتشديد-: الظلمة. والدج: المشي بتؤدة. والمدجج: التام السلاح. وقيل: هو بالفتح: الفرس، وبالكسر:
الفارس. والسراة: السادة الأشراف بفتح السين، وهي في الأصل: أعلى ظهر الحيوان، فاستعيرت لهم، وقد تضم، فوزنها «فعلة» جمع سرى وزن فعيل على غير قياس، إذ قياسه أفعلاء، وهو في الأصل: النهر الصغير:
استعير للخير الرئيس، والفارس: الدروع المعمولة بفارس. والسرد والتسريد: متابعة النسج، يقول: أيقنوا بهجوم جيش عظيم. والألفان: كناية عن الكثرة، أى: جيش كثير مغطى بالسلاح، أشرافه في الدروع الفارسية المتتابعة النسج. والظرفية دالة على سبوغ الدروع لهم. ويروى المسود بالواو وليس بذاك.
(3/414)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
عَلَى الطِّينِ ولم يقل: اطبخ لي الآجر واتخذه، لأنه أوّل من عمل الآجر، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا فى وسط الكلام: دليل التعظيم «1» والتجبر. وعن عمر رضى الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال:
ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون. والطلوع والإطلاع: الصعود. يقال: طلع الجبل وأطلع: بمعنى.
[سورة القصص (28) : الآيات 39 الى 40]
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
الاستكبار بالحق: إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر على الحقيقة، أى: المتبالغ في كبرياء الشأن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في النار» «2» . وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق يُرْجَعُونَ بالضم والفتح فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه. شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم «3» ، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر. ونحو ذلك قوله وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره، وأن كل مقدور وإن عظم وجل، فهو مستصغر إلى جنب قدرته.
[سورة القصص (28) : الآيات 41 الى 42]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
فإن قلت: ما معنى قوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ؟ قلت: معناه: ودعوناهم أئمة
__________
(1) . قوله «دليل التعظيم» لعله التعظيم. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وأبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ مقابلة لاستكباره بفعل عبر عنه بما صورته أخذ حصيات ممتهنات، ثم نبذها، أى: طرحها في اليم بهوان، فذلك تمثيل لاستهانته به وإهلاكه بهذا النوع من الهلاك. والله أعلم.
(3/415)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
دعاة إلى النار «1» ، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا، إذا دعاه وقال: إنه بخيل وفاسق «2» . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا. ومنه قوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة. ويجوز: خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان:
منع الألطاف، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغنى عنه الآيات والنذر، ومجراه مجرى الكناية، لأنّ منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره:
التصميم نفسه، فكأنه قيل: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته.
فإن قلت: فأى فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت: ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده، فيكون أقوى لإثباته من ذكره. ألا ترى أنك تقول: لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة، وهو قيام الحجة على وجوده.
وينصر هذا الوجه قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كأنه قيل. وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون، كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أى طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أى من المطرودين المبعدين.
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
بَصائِرَ نصب على الحال. والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يريد: آتيناه التوراة أنوارا للقلوب، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف
__________
(1) . قوله «ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار» هذا التأويل وما يأتى بعده في قوله: ويجوز خذلناهم ... إلى آخره:
مبنيان على أنه تعالى يجب عليه الصلاح ولا يجوز عليه خلق الشر، وهذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة فهو أنه لا يجب عليه تعالى شيء، ويجوز عليه خلق الشر كالخير. وقد حقق في التوحيد فلا داعى إلى تأويل الآية بمثل هذا التكلف. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «معناه دعوناهم أئمة دعاة إلى النار، كما تقول: جعلته بخيلا فاسقا إذا دعوته بذلك» قال أحمد: لا فرق عند أهل السنة بين قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وبين هذه الآية، فمن حمل الجعل على التسمية فيما نحن فيه فرارا من اعتقاد أن دعاءهم إلى النار مخلوق لله تعالى، فهو بمثابة من حمله على التسمية في قوله تعالى «وجعلنا الليل والنهار آيتين» : فرارا من جعل الليل والنهار مخلوقين لله تعالى، فلا فرق بين نفى مخلوق واحد عن قدرته تعالى ونفى كل مخلوق، نعوذ بالله من ذلك.
(3/416)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
حقا من باطل. وإرشادا، لأنهم كانوا يخبطون في ضلال وَرَحْمَةً لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يتذكروا. شبهت الإرادة بالترجى فاستعير لها.
ويجوز أن يراد به ترجى موسى عليه السلام «1» لتذكرهم، كقوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ.
[سورة القصص (28) : آية 44]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
الْغَرْبِيِّ المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضى إلى موسى عليه السلام: الوحى الذي أوحى إليه، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت مِنَ جملة الشَّاهِدِينَ للوحى إليه، أو على الوحى إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته. وكتبة التوراة له في الألواح، وغير ذلك.
[سورة القصص (28) : آية 45]
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
فإن قلت: كيف يتصل قوله وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بهذا الكلام؟ ومن أى وجه يكون استدراكا له؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا له، من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا كثيرة فَتَطاوَلَ على آخرهم: وهو القرن الذي أنت فيهم الْعُمُرُ أى أمد انقطاع الوحى واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك «2» العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحينا إليك. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة، ودلّ به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته، فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده وَما كُنْتَ ثاوِياً أى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب والمؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم تعلما منهم، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه،
__________
(1) . قال محمود: «معناه إرادة تذكرهم، لأن الارادة تشبه الترجي، فاستعير لها. أو يراد به ترجى موسى عليه السلام» قال أحمد: الوجه الثاني هو الصواب، واحذر الأول فانه قدرى.
(2) . قوله «وكسبناك العلم» كسب يتعدى إلى مفعولين، فيقال: كسبت أهلى خيرا، وكسبت الرجل مالا، كما في الصحاح. (ع)
(3/417)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.
[سورة القصص (28) : آية 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
إِذْ نادَيْنا يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه، ولكِنْ علمناك رَحْمَةً وقرئ: رحمة، بالرفع: أى هي رحمة ما أَتاهُمْ من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه قوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ.
[سورة القصص (28) : آية 47]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
لَوْلا الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، وإحدى الفاءين للعطف، والأخرى جواب لولا، لكونها في حكم الأمر، من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولا، محتجين علينا بذلك: لما أرسلنا إليهم، يعنى: أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها، كقوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ. فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية «1» ، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم
__________
(1) . قال محمود: «لولا الأولى امتناعية، والثانية تحضيضية. والفاء الأولى عاطفة والثانية جواب لولا.
والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، محتجين بذلك لما أرسلت إليهم أحدا. فان قلت:
كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة سببا في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟
قلت: العقوبة سبب القول، وهي سبب السبب، فجعلت سببا وعطف السبب الأصلى عليها بالفاء السببية» قال أحمد:
وذلك مثل قوله تعالى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى والسر في جعل سبب السبب سببا، وعطف السبب الأصلى عليه أمران، أحدهما: أن مزيد العناية يوجب التقديم، وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه. الثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما: أما الأول فلاقترانه بحرف التعليل، وهو «أن» وأما الثاني، فلاقترانه بفاء السبب، ولا يتعاطى هذا المعنى إلا من قولك أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ لا من قول القائل: أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من المتكلمين، فيقول: «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها، وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال، لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة، فيشكل الواقع بعدها على أهل السنة، لأنهم يقولون: لا ظلم قبل بعثه الرسل، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة، وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع، فان لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة، لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه، ثم كان مورد هذا الاشكال يجيب عنه بتقدير محذوف. والأصل: ولولا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الاشكال عن الطائفتين.
والتحقيق عندي في الجواب خلاف ذلك، وإنما جاء الاشكال من حيث عدم تجويز النحاة لمعنى لولا أن يقولون:
أنها تدل على أن ما بعدها موجود وأن جوابها ممتنع به، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها، عكس «لو» فان معناها لزوم جوابها لما بعدها، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا، والآية من قبيل فرض وجود المانع، وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين، فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه. وعلى هذا التحرير يزول الاشكال الوارد على «لو» في قوله: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فتأمل هذا الفصل فتحته فوائد للمتأمل، والله الموفق.
(3/418)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة: وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين: لم يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى، كقوله تعالى وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدى: جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدى وتقديم الأيدى وإن كان من أعمال القلوب، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعا للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل.
[سورة القصص (28) : آية 48]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الكتاب المنزل جملة واحدة، ومن قلب العصاحية وفلق البحر وغيرهما من الآيات، فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وما أشبه ذلك أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعنى أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن
(3/419)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
موسى عليه السلام بِما أُوتِيَ مُوسى وعن الحسن رحمه الله: قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم قالُوا في موسى وهرون سِحْرانِ تَظاهَرا أى تعاونا. وقرئ إظهارا على الإدغام. وسحران، بمعنى: ذوا سحر. أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر. أو أرادوا نوعان من السحر بِكُلٍّ بكل واحد منهما.
فإن قلت: بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير؟ قلت: بأ ولم يكفروا، ولي أن أعلقه بأوتي، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
ساحران تظاهرا. أو في الكتابين: سحران تظاهرا، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبروهم أنه نعته وصفته، وأنه في كتابهم، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: ساحران تظاهرا.
[سورة القصص (28) : آية 49]
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)
هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل علىّ. هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته، لأنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشكّ. ويجوز أن يقصد بحرف الشكّ: التهكم بهم.
[سورة القصص (28) : آية 50]
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
فإن قلت: ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية، وبينه في قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «1»
حيث عدّى بغير اللام؟ قلت: هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّى إلى الداعي في الغالب، فيقال، استجاب الله دعاءه أو استجابة له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاءه، على حذف المضاف. فإن قلت:
فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء هاهنا. قلت: قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه، فكأنه قال: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، ثم قال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ لا يتبع في
__________
(1) . قوله «فلم يستجبه عند ذاك مجيب» صدره:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
اه عليان.
قلت: وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 456 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/420)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
دينه إلا هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أى مطبوعا على قلبه ممنوع الألطاف إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أى لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث. وقوله بغير هدى في موضع الحال، يعنى: مخذولا مخلى بينه وبين هواه.
[سورة القصص (28) : آية 51]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قرئ وَصَّلْنا بالتشديد والتخفيف. والمعنى: أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ ونصائح: إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. أو نزل عليهم نزولا متصلا بعضه في أثر بعض، كقوله وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ.
[سورة القصص (28) : آية 52]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
نزلت في مؤمنى أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقيل: في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل: اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة، وثمانية من الشام.
والضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن.
[سورة القصص (28) : آية 53]
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
فإن قلت: أى فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت: الأوّل تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني: بيان لقوله آمَنَّا بِهِ لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، لأنّ آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم مِنْ قَبْلِهِ من قبل وجوده ونزوله مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام، لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحى.
[سورة القصص (28) : آية 54]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن. أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله. أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. ونحوه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ بالطاعة المعصية المتقدمة. أو بالحلم الأذى.
[سورة القصص (28) : آية 55]
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
(3/421)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ توديع ومتاركة. وعن الحسن رضى الله عنه: كلمة حلم من المؤمنين لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت: من خاطبوا بقولهم وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ؟ قلت:
اللاغين الذين دل عليهم قوله وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ.
[سورة القصص (28) : آية 56]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يدخل في الإسلام مَنْ يَشاءُ وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف ننفع فيه، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالقابلين من الذين لا يقبلون. قال الزجاج:
أجمع المسلمون أنها نزلت في أبى طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بنى هاشم، أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخى؟ قال: أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا: أن تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله. قال: يا ابن أخى، قد علمت إنك لصادق، ولكنى أكره أن يقال: خرع عند الموت «1» ، ولولا أن تكون عليك وعلى بنى أبيك غضاضة»
ومسبة بعدي، لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك، ولكنى سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف.
[سورة القصص (28) : آية 57]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
قالت قريش «3» ، وقيل: إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك- وإنما نحن أكلة رأس، أى: قليلون- أن يتخطفونا من أرضنا، فألقمهم الله الحجر. بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون، وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذى زرع، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل
__________
(1) . قوله «أكره أن يقال خرع عند الموت» في الصحاح: خرع الرجل- بالكسر-: ضعف، فهو خرع. (ع)
(2) . قوله «غضاضة» أى: مذلة ومنقصة. (ع)
(3) . لم أجده، وقصة وفاة أبى طالب في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن ابنه بغير هذا السياق أو أخصر منه.
(3/422)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
أوب، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام. وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة، وإلى الحرم مجاز يُجْبى إِلَيْهِ تجلب وتجمع. قرئ:
بالياء والتاء. وقرئ: تجنى، بالنون، من الجنى. وتعديته بإلى كقوله: يجنى إلىّ فيه، ويجنى إلى الخافة «1» . وثمرات: بضمتين وبضمة وسكون. ومعنى الكلية: الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أى قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده.
فإن قلت: بم انتصب رزقا؟ قلت: إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله، لأنّ معنى يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ويرزق ثمرات كل شيء: واحد، وأن يكون مفعولا له. وإن جعلته بمعنى: مرزوق، كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
[سورة القصص (28) : آية 58]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر، «2» فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت مَعِيشَتَها إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وإمّا على الظرف بنفسها، كقولك: زيد ظنى مقيم «3» . أو بتقدير حذف الزمان المضاف، أصله: بطرت أيام معيشتها، كخفوق النجم، ومقدم الحاج: وإمّا بتضمين بَطِرَتْ معنى:
كفرت وغمطت. وقيل: البطر سوء احتمال الغنى: وهو أن لا يحفظ حق الله فيه إِلَّا قَلِيلًا من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا
__________
(1) . قوله «ويجنى إلى الخافة» في الصحاح «الخافة» : خريطة من أدم يشتار فيها بعسل. وفيه «يشتار» :
يجتنى. (ع)
(2) . قوله «فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر» أى بطروها وحقروها. والأشر والبطر: شدة المرح والمرح: شدة الفرح، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «كقولك زيد ظنى مقيم» أى: في ظنى. (ع)
(3/423)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
قليلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من ساكنيها، أى: تركناها على حال لا يكنها أحد، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض.
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع «1»
[سورة القصص (28) : آية 59]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت حَتَّى يَبْعَثَ فِي القرية التي هي أمّها، أى:
أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون، أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى- يعنى مكة- رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وقرئ: أمها، بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجرّ، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم «2» ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال تعالى وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فنصّ في قوله بِظُلْمٍ أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
__________
(1) .
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
لأبى الطيب حين دخل مصر ورأى الأهرام التي بناها الملك سورند. وقيل: سنان بن مشلشل. وقيل: إدريس عليه السلام. والهرمان: تثنية هرم- كسبب- وأراد بهما القريبين من مصر، ويومه: هو زمن ملكه، ويجوز أنه يوم موته، كما أن المصرع مكان الموت، والاستفهام عن هذا بعد الاستفهام عن قومه لاستحضار الصورتين والفرق بين الحالتين، ثم قال: تتخلف، أى: تتأخر الآثار من البنيان والأشجار وغير ذلك زمنا طويلا بعد أصحابها.
ثم يلحقها الفناء فتتبع أصحابها ولو طال زمن تخلفها. ويجوز أن المعنى: حينا قليلا، فالتنوين للتكثير أو التقليل.
(2) . قال محمود: «هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم حتى أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا العذاب ولا يستحقوا حتى تتأكد عليهم الحجة ببعثة الرسل» قال أحمد: هذا إسلاف من الزمخشري لجواب ساقط عن سؤال وارد على القدرية لا جواب لهم عنه، ينشأ السؤال في هذه الآية فيقال: لو كانت العقول تحكم عن الله تعالى بأحكام التكليف، لقامت الحجة على الناس وإن لم يكن بعث رسل، إذ العقل حاكم، فلا يجدون للخلاص من هذا السؤال سبيلا.
(3/424)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
[سورة القصص (28) : آية 60]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل، وهي مدة الحياة المتقضية وَما عِنْدَ اللَّهِ وهو ثوابه خَيْرٌ في نفسه من ذلك وَأَبْقى لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرئ: يعقلون، بالياء، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن، والمنافق، والكافر: فالمؤمن يتزوّد، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.
[سورة القصص (28) : آية 61]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها. والوعد الحسن: الثواب، لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق، وأى شيء أحسن منها، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. ولاقِيهِ كقوله تعالى. ولقاهم نضرة وسرورا، وعكسه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الذين أحضروا النار. ونحوه لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ قيل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى جهل. وقيل: في على وحمزة وأبى جهل. وقيل: في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة. فإن قلت: فسر لي الفاءين وثم، وأخبرنى عن مواقعها. قلت:
قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما، ثم عقبه بقوله أَفَمَنْ وَعَدْناهُ على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأمّا الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأمّا «ثم» فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخى وقته عن وقته.
وقرئ ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء، كما قيل عضد في عضد، تشبيها للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في:
فهو، وهو، ولهو: أحسن لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل.
[سورة القصص (28) : آية 62]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
شُرَكائِيَ مبنى على زعمهم، وفيه تهكم. فإن قلت: زعم يطلب مفعولين، كقوله:
... ولم أزعمك عن ذاك معزلا «1»
__________
(1) .
وإن الذي قد عاش يا أم مالك ... يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
يقول. وإن كل حى- وإن طال عمره- يموت. ولم أظنك يا أم مالك معزلا عن ذلك الحكم أو الموت، والمعزل:
مكان العزلة والانفراد، أى: لم أظنك في معزل عنه، أو ذات معزل، أو معتزلة، أو نفس المقول مبالغة. [.....]
(3/425)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
فأين هما؟ قلت: محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائى. ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.
[سورة القصص (28) : آية 63]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى حق عليهم القول:
وجب عليهم مقتضاه وثبت، وهو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا صفته، والراجع إلى الموصول محذوف، وأَغْوَيْناهُمْ الخبر.
والكاف صفة مصدر محذوف، تقديره: أغويناهم، فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون: أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أن فوقنا مغوين أغرونا بقسر منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم، لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا وإلجاء، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر وداعيا إلى الإيمان. وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء، حيث قال لإبليس إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر بأنفسهم، هوى منهم للباطل ومقتا للحق، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى.
[سورة القصص (28) : الآيات 64 الى 66]
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو لو أنهم كانوا مهتدين
(3/426)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
مؤمنين، لما رأوه. أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته وسدروا «1» فلا يهتدون طريقا. حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدى إليهم فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب. وقرئ:
فعميت، والمراد بالنبإ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوّضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فما ظنك بالضلال من أممهم.
[سورة القصص (28) : آية 67]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
فَأَمَّا مَنْ تابَ من المشركين من الشرك، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يفلح عند الله، و «عسى» من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد: ترجى التائب وطمعه، كأنه قال:
فليطمع أن يفلح.
[سورة القصص (28) : آية 68]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى المصدر هو التخير، وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بيان لقوله وَيَخْتارُ لأنّ معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنى: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أى: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرة لمختار. فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت: أصل الكلام: ما كان لهم فيه
__________
(1) . قوله «وسدروا» أى تحيروا. أفاده الصحاح. (ع)
(3/427)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
الخيرة، فحذف «فيه» كما حذف «منه» في قوله إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لأنه مفهوم سُبْحانَ اللَّهِ أى الله بريء من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار.
[سورة القصص (28) : الآيات 69 الى 70]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة رسول الله وحسده وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه.
وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوّة وَهُوَ اللَّهُ وهو المستأثر بالإلهية المختص بها، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لذلك، كقولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلا هي. فإن قلت: الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت: هو قولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث: يلهمون التسبيح والتقديس «1» وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
أَرَأَيْتُمْ وقرئ أريتم: بحذف الهمزة، وليس بحذف قياسي. ومعناه: أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد: الدائم المتصل، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد، وواحد فرد، والميم مزيدة. ووزنه فعمل. ونظيره. دلامص، من الدلاص «2» . فإن قلت:
هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه، كما قيل: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث جابر في أثناء حديث في صفة أهل الجنة: وفيه «يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» وفي رواية له «التسبيح والتكبير» .
(2) . قوله «ونظيره دلامص من الدلاص» في الصحاح، الدلاص: اللين البراق. والدلامص: البراق. يقال:
دلصت الدرع- بالفتح. (ع)
(3/428)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
الشمس: لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره. وأنت من السكون ونحوه وَمِنْ رَحْمَتِهِ زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة:
لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم.
[سورة القصص (28) : آية 74]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء: إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك، فأدخلنا في الناجين من وعيدك.
[سورة القصص (28) : آية 75]
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيهم: لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه فَقُلْنا للأمة هاتُوا بُرْهانَكُمْ فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ولرسوله، لا لهم ولشياطينهم وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب والباطل.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قارُونَ اسم أعجمى مثل هرون، ولم ينصرف للعجمة والتعريف، ولو كان فاعولا من قرن لانصرف. وقيل: معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل، كان إسرائيليا ابن عم موسى:
هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة، ولكنه
(3/429)
نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى: أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرّب القربان ويكون رأسا فيهم- وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه- وجد قارون في نفسه وحسدهما، فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء، إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله قال: والله لا أصدق حتى تأتى بآية، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فَبَغى عَلَيْهِمْ من البغي وهو الظلم. قيل: ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل: من البغي وهو الكبر والبذخ: تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل: زاد عليهم في الثياب شبرا. المفاتح: جمع مفتح بالكسر: وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن، وقياس واحدها: مفتح- بالفتح. ويقال: ناء به الحمل، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة والعصابة: مثلها. واعصوصبوا: اجتمعوا. وقيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على أصبع. وكانت من جلود. قال أبو رزين: يكفى الكوفة مفتاح، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ: الكنوز، والمفاتح، والنوء، والعصبة، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال، كقولك ذهبت أهل اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء لا تَفْرَحْ كقوله وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وقول القائل:
ولست بمفراح إذا الدّهر سرّنى «1»
وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل:
أشد الغمّ عندي في سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا «2»
__________
(1) .
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أبتغى شرا إذا الشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
لهدبة بن خشرم لما قاده معاوية إلى الحرة ليقتص منه في زياد بن زيد العذرى، فلقيه عبد الرحمن بن حسان فاستنشده فأنشده ذلك. والمفراح: كثير الفرح. والمراد: نفى الفرح من أصله. وصرف الدهر: حدثانه. وإذا: شرطية فلا بد بعدها من فعل، أى: إذا كان الشر تاركي. وأحمل مبنى للمجهول، وأركب للفاعل. والمعنى: أنى جربت الدهر فإذا هو خئون، ومع ذلك لا أتضعضع.
(2) . لأبى الطيب، أى: أشد الغم عندي وقت السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، وهكذا سرور الدنيا كله.
(3/430)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه، وتجعله زادك إلى الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك وَأَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أو أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض: ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ: واتبع.
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
عَلى عِلْمٍ أى على استحقاق واستيجاب لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس، وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل: هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب: كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نون ثلثه، وكالب بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا.
وقيل: علم الله موسى علم الكيمياء، فعله موسى أخته، فعلمته أخته قارون. وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة «1» وسائر المكاسب. وقيل عِنْدِي معناه: في ظنى، كما تقول الأمر عندي كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ثم زاد عِنْدِي أى هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتا لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل أَوَلَمْ يَعْلَمْ في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك، لأنه لما قال: أوتيته على علم عندي، فتنفج بالعلم «2» وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين وَأَكْثَرُ جَمْعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وما أشبه ذلك.
__________
(1) . قوله «والدهقنة» أى الزراعة، كما عبر غيره. (ع)
(2) . قوله «فتنفج بالعلم» أى ترفع وتفاخر وتكبر. أفاده الصحاح. (ع)
(3/431)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
[سورة القصص (28) : آية 79]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
فِي زِينَتِهِ قال الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان «1» وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية، بيض عليهنّ الحلي والديباج. وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات، وهو أوّل يوم رئي فيه المعصفر: كان المتمنون قوما مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير. وقيل: كانوا قوما كفارا. الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد: هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ ومن الحسد قوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال «2» :
«لا إلا كما يضر العضاه الخبط «3» » والحظ: الجدّ، وهو البخت والدولة: وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت، يقال: فلان ذو حظ، وحظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود.
[سورة القصص (28) : الآيات 80 الى 81]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81)
ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبا لك. وأصله الدعاء على الرجل بالإقراف «4» في الحث على الفعل. والراجع
__________
(1) . قوله «بغلة شهباء عليها الأرجوان» في الصحاح: قطيفة حمراء أرجوان. وفيه أيضا: الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة، ويقال: هو بالفارسية أرغوان، وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون. (ع)
(2) . ذكره ثابت السر قسطي في الغريب هكذا بغير إسناد. وأخرجه إبراهيم الحربي في الغريب من طريق ابن أبى حسين «أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيضر الناس الغبط؟ قال: نعم كما يضر العضاه الخبط» بهذا اللفظ أخرجه الطبراني من رواية أم الدرداء قالت: قلت يا رسول الله. فذكره، لكن قال «الشجر» بدل العضاه.
قال الحربي الغبط إرادة السعة. وقال ثابت: الغبط الحسد.
(3) . قوله «إلا كما يضر العضاه الخبط» في الصحاح «العضاه» : كل شجر يعظم وله شوك. وفيه «الخبط» :
ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. (ع)
(4) . قوله «الدعاء على الرجل بالإقراف» أى بفساد الأب. أفاده الصحاح. (ع)
(3/432)
في وَلا يُلَقَّاها للكلمة التي تكلم بها العلماء، أو للثواب، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة، أو للسيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير. كان قارون يؤذى نبى الله موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال: إنّ موسى أرادكم على كل شيء، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، فمر بما شئت، قال:
نبرطل فلانة البغىّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبا. وقيل: حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال:
يا بنى إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها موسى بالذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فتداركها الله فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكى وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه:
أن مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك. فقال: يا بنى إسرائيل، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معنى فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت اليهم لشدّة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم «1» . وأوحى الله إلى موسى: ما أفظك: استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما وعزتي لو إياى دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى عليه السلام، أو من الممتنعين من عذاب الله. يقال: نصره من عدوه فانتصر، أى: منعه منه فامتنع.
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبراني. من رواية على بن زيد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي. قال، فذكره موقوفا. ووصله الحاكم بذكر ابن عباس. قال «لما أتى موسى قومه أمرهم بالزكاة فجمعهم قارون. فذكره باختصار. قوله وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه، يعنى وقوع الرعب في قلوب جميع الناس يوم الموقف يمكن أن يستدل له بحديث الشفاعة الطويل. ففي المتفق عليه عن أبى هريرة في حديث الشفاعة قال «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. وفيه قول آدم وغيره: نفسي نفسي» وانفقا عليه من حديث أنس كذلك
(3/433)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
[سورة القصص (28) : آية 82]
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة مَكانَهُ منزلته من الدنيا «وى» مفصولة عن «كأن» ، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه:
أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ وتندموا ثم قالوا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أى: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال:
وى كأنّ من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ «1»
وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى: ويلك، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وى، كقوله:
...... ويك عنتر أقدم «2»
__________
(1) .
سألتانى الطلاق أن رأتا ... قل مالى قد جئتمانى بنكر
وى كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كل سر
لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي. وقيل: لسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. وقيل: لنبيه بن الحجاج بن عامر، قتل كافرا يوم بدر. وسألتانى بقلب الهمزة ألفا للوزن، وهي لغة قليلة، والضمير لزوجتيه، والطلاق مفعول ثان، وأن رأتا: أى لرؤيتهما، وقل: يحتمل أنه فعل ماض، فلا بد به من تقدير محذوف قبله به يتم الكلام، أى: لأن رأتانى قل مالى. أو لرؤيتهما أنى قل مالى. ويحتمل أنه اسم بمعنى قليل، ولا حذف في الكلام، فالمعنى: لأن رأتا قليل مالى، أى: مالى القليل، والتفت من الغيبة إلى خطابهما بقوله: قد جثتمانى بنكر، أى: منكر. وفيه معنى التعجيب من حالهما، و «وى» : اسم فعل للتعجب، وقيل: لفظه تيقظ وتندم، وكأن:
للظن أو للتحقيق، كما أجازه الكوفيون، وهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقيل: لا اسم للمخففة.
والنشب: المال. ويعش عيش ضرّ، أى: يبغض. والنجي- بالتشديد-: المناجى، أى: المتكلم بالسر.
ويجنب: مبنى للمجهول. وسر: مفعوله الثاني. وأخا المال: صاحب المال. ومحضر: اسم مفعول، وكل:
مفعوله الثاني.
(2) .
ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
لعنترة بن شداد من معلقته. ويروى: وأبر أسقمها. ويروى: وأذهب غمها. ويروى: قول، بدل: قيل. وكلاهما مصدر. وويك: اسم فعل للتعجب، لكن لا بلائم البيت. وقيل: كلمة تنبيه، والكاف حرف خطاب. وقال الكسائي: أصل «ويك» : ويلك، فالكاف ضمير مجرور، لكن تبعد ملاءمته للبيت. وعنتر: منادى مرخم، وحسن الترخيم وحذف حرف النداء: أن المقام للاهتمام وسرعة الكلام، وأقدم: أى أقبل على العدو، لتمنعنا بأسه. [.....]
(3/434)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
وأنه بمعنى لأنه، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو، لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه» ومنهم من يقف على «ويك» . وقرأ الأعمش لولا منّ الله علينا. وقرئ لَخَسَفَ بِنا «1» وفيه ضمير الله.
ولا نخسف بنا، كقولك: انقطع به. ولتخسف بنا.
[سورة القصص (28) : آية 83]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
تِلْكَ تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعنى: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد «2» بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه: إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها «3» . وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال.
ذهبت الأمانى هاهنا «4» . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره علىّ والفضيل وعمر.
__________
(1) . قوله: «وقرئ: لخسف بنا» يفيد أن القراءة المشهورة: لخسف، مبنيا للمجهول. (ع)
(2) . قوله «لم يعلق الموعد» لعله: الوعد. (ع)
(3) . أخرجه الطبري والواحدي من رواية وكيع عن أشعث السمان عن أبى سلام الأعرج عن على بهذا موقوفا وإسناده ضعيف.
(4) . قال محمود: «لم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما، كما قال تعالى وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فعلق الوعيد بالركون إلى الظلمة. وعن على أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله خيرا من شراك نعل أخيه فيدخل تحتها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. وعن الفضيل أنه قرأها وقال: ذهبت الأمانى هاهنا. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون، لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وقوله وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبرها على وعمر والفضيل» قال أحمد: هو تعرض لغمص أهل السنة، فان كل موحد من أهل الجنة، وإنما طمعوا حيث أطمعهم الله تعالى، بل وحقق طمعهم في رحمته حيث يقول رسوله عليه الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ... ثلاثا، وفي الثالثة: وإن رغم أنف أبى ذر» اللهم اقسم لنا من رجاء رحمتك ما تعصمنا به من القنوط، ومن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، والله الموفق للصواب.
(3/435)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
[سورة القصص (28) : آية 84]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
معناه: فلا يجزون، فوضع الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ موضع الضمير، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا. فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة، وهو معنى قوله فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.
[سورة القصص (28) : آية 85]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعنى: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. ولَرادُّكَ بعد الموت إِلى مَعادٍ أى معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك: وقيل: المراد به مكة: ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح: ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعا له اعتداد، لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بما قبله؟ قلت: لما وعد رسوله الردّ إلى معاد، قال: قل للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعنى نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.
[سورة القصص (28) : آية 86]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)
فإن قلت: قوله إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك، أى: ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.
(3/436)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
[سورة القصص (28) : آية 87]
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وقرئ: يصدنك، من أصدّه بمعنى صدّه، وهي في لغة كلب. وقال:
أناس أصدوا النّاس بالسّيف عنهمو ... صدود السّواقى عن أنوف الحوائم «1»
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ بعد وقت إنزاله «2» وإذ تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذ وليلتئذ ويومئذ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سيق ذكره.
[سورة القصص (28) : آية 88]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
إِلَّا وَجْهَهُ إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ طسم القصص كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون» «3» .
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 538 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «بعد وقت إنزاله» لعله: إنزالها. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه. والواحدي من حديث أبى بن كعب بأسانيدهم المتقدم ذكرها.
(3/437)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
سورة العنكبوت
مكية [إلا من آية 1 إلى غاية آية 11 فمدنية] وآياتها 69 [نزلت بعد الروم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل. ألا ترى أنك لو قلت:
حسبت زيدا وظننت الفرس: لم يكن شيئا حتى تقول: حسبت زيدا عالما وظننت الفرس جوادا، لأنّ قولك: زيد عالم، أو الفرس جواد كلام دال على مضمون، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه، من ذكر شطرى الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان، حتى يتم لك غرضك. فإن قلت:
فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت: هو في قوله أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم: آمنا، هو الخبر. وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
فتركته جزر السّباع ينشنه «1»
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان، تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، على تقدير: حاصل ومستقر، قبل اللام. فإن قلت: أَنْ يَقُولُوا هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول خروجه لمخافة الشر، وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت مخافة الشر، وضربته تأديبا: تعليلين. وتقول أيضا:
حسبت خروجه لمخافة الشر، وظننت ضربه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 75 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/438)
وخبرا. والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان: أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكن من العابد على حرف، كما قال لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر: وكان يعذب في الله. وقيل: في ناس أسلموا بمكة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم، فلما نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة «1» ، فجزع عليه أبواه وامرأته وَلَقَدْ فَتَنَّا موصول بأحسب أو بلا يفتنون، كقولك: ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه، يعنى: أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم. أو ما هو أشدّ منه فصبروا، كما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا ... الآية وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» «2» فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بالامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدوما، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد «3» ، والمعنى:
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن مقاتل قال «نزلت هاتان الآيتان في مهجع بن عبد الله مولى عمر، كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وسنده إلى مقاتل في أول كتابه، وفي الدلائل لابن أبى شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال «أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر» .
(2) . أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت به، وأتم منه.
(3) . قال محمود: «إن قلت هو لم يزل يعلم الصادقين والكاذبين قبل الامتحان، فما وجه هذا الكلام؟
قلت: لم يزل يعلمه معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد» قال أحمد: فيما ذكر إيهام بمذهب فاسد، وهو اعتقاد أن العلم بالكائن غير العلم بأن سيكون، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم: التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء، كأنه قال تعالى: لنعلمنهم فلنجازينهم بحسب علمه فيهم، والله أعلم.
(3/439)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
وليتميزن الصادق منهم من الكاذب. ويجوز أن يكون وعدا ووعيدا، كأنه قال: وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين. وقرأ على رضى الله عنه والزهري: وليعلمنّ، من الإعلام، أى:
وليعرفنهم الله الناس من هم. أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها.
[سورة العنكبوت (29) : آية 4]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
أَنْ يَسْبِقُونا أن يفوتونا، يعنى أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدّثوا به نفوسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي: في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه. ونظيره وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. فإن قلت: أين مفعولا «حسب» ؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سدّ مسدّ المفعولين، كقوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 5]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
لقاء الله: مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت، والبعث، والحساب، والجزاء:
مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ: من كان يأمل تلك الحال. وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ وهو الموت لَآتٍ لا محالة، فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه، ويحقق أمله، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه، فهو حقيق بالتقوى والخشية. وقيل يَرْجُوا: يخاف من قول الهذلي في صفة عسال:
(3/440)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها «1»
فإن قلت: فإن أجل الله لآت، كيف وقع جوابا للشرط؟ قلت: إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت: فكأنه قال:
من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت، لأن الأجل واقع فيه اللقاء، كما تقول: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة.
[سورة العنكبوت (29) : آية 6]
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)
وَمَنْ جاهَدَ نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه فَإِنَّما يُجاهِدُ لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمر الله عز وجل ونهى، رحمة لعباده وهو الغنى عنهم وعن طاعتهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 7]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
إما أن يريد قوما مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم، أى يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أى: أحسن جزاء أعمالهم: وإما قوما مشركين آمنوا وعملوا الصالحات، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام «2» .
[سورة العنكبوت (29) : آية 8]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
__________
(1) .
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
لأبى ذؤيب، يصف عسالا يجتنى العسل: بأنه إذا لسعته الدبر- بالفتح والكسر-: ذكور النحل والزنابير.
وروى كذلك: لم يرج، أى: لم يخف لسعها إذا أرادت لسعه. أو لسعته بالفعل لم يخف من مثله، أو لم يرتقبه ويعتنى به، وحالفها: أى لازمها. ويروى بالمعجمة، أى: خالف مرادها. أو جاء خلفها بعد أن خرجت ترعى.
والنوب: ضرب من النحل واحده نائب، لأنه يذهب إلى بيته نوبة بعد نوبة، عواسل: كثيرة العسل. وروى:
عوامل، بالميم لأنها تعمل العسل.
(2) . قال محمود: «المراد بهؤلاء أحد فريقين: إما قوم مسلمون سيئاتهم صغائر مغمورة بالحسنات، وإما قوم آمنوا وعملوا الصالحات بعد كفر فالإسلام يجب ما قبله» قال أحمد: حجر واسعا من رحمة الله تعالى، بناء على أصله الفاسد في وجوب الوعيد على مرتكب السيئات الكبائر لا بالتوبة، وأطلق تكفير الصغائر وإن لم تكن توبة إذا غمرتها الحسنات، وكلا الأصلين قدرى مجتنب، والله الموفق.
(3/441)
«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه بيت الإصلاح:
وذبيانيّة وصّت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف «1»
كما لو قال: أمرتهم بأن ينتهبوها. ومنه قوله تعالى وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أى وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيدا بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً: وصيناه بإيتاء والديه حسنا، أو بإيلاء والديه حسنا، أى: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وقرئ: حسنا. وإحسانا. ويجوز أن تجعل حُسْناً من باب قولك: زيدا، بإضمار «أضرب» إذا رأيته متهيئا للضرب، فتنصبه بإضمار أو لهما. أو افعل بهما، لأن التوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، كأنه قال: قلنا أو لهما معروفا وفَلا تُطِعْهُما في الشرك إذا حملاك عليه. وعلى هذا التفسير إن وقف على بِوالِدَيْهِ وابتدأ حُسْناً حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول، معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أى لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال: لتشرك بى شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكر، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قال: إلىّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان، أحدهما: أن الجزاء إلىّ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أنى لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد.
روى أن سعد بن أبى وقاص الزهري رضى الله عنه حين أسلم قالت أمّه- وهي حمنة بنت أبى سفيان بن أمية بن عبد شمس-: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح «2»
__________
(1) . لمعقر بن حمار البارقي، أنشده ابن السكيت في كتابه المسمى: إصلاح المنطق، أى: امرأة منسوبة إلى قبيلة ذبيان وصت بنيها. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وخبرها: كذب، وهو قد يكون بمعنى وجب كما في الصحاح. وفي الحديث: ثلاثة أسفار كذبن عليكم، أى: وجبن. وعن عمر رضى الله عنه: كذب عليكم الحج، أى وجب. وفي الكلام معنى الحث والإغراء. والقراطف: جمع قرطف، وهو القطيفة المخملة. والقروف:
أوعية من أدم يجعل فيها اللحم المشوى. والقرف- بالكسر-: المقشر. والقرفة: قشر يداوى به. والقرف- بالفتح- وعاء من جلد يدبغ بالقرفة. واقترف، واقترب: متقاربان لفظا ومعنى، أى: وصتهم باغتنامها وحفظها معهم. [.....]
(2) . قوله «من الضح» في الصحاح «الضح» : الشمس. وفي الحديث: «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل، فانه مقعد الشيطان» اه. (ع)
(3/442)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
والريج، وإن الطعام والشراب علىّ حرام حتى تكفر بمحمد- وكان أحبّ ولدها إليها- فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان «1» . وروى أنها نزلت في عياش بن أبى ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضى الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة «2» ، فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام- أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة: امرأة من بنى تميم من بنى حنظلة- فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين، وقد تركت أمّك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوى بيتا حتى تراك، وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا، وفتلا منه في الذروة والغارب «3» فاستشار عمر رضى الله عنه فقال: هما يخدعانك، ولك علىّ أن أقسم مالى بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل:
إن ناقتي قد كلت فاحملني معك. قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله، فأخذاه وشدّاه وثاقا، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد، فنزلت.
[سورة العنكبوت (29) : آية 9]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم. والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله. قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ وقال في إبراهيم عليه السلام: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أو في مدخل الصالحين وهي الجنة، وهذا نحو قوله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
__________
(1) . ذكره الواحدي والثعلبي والواقدي هكذا بغير سند والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص بغير هذا السياق.
(2) . تقدم الكلام عليه في سورة النساء وهذا السياق أورده الثعلبي عن مقاتل وسنده إليه في أول كتابه، وأخرجه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البزار قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر مطولا.
(3) . قوله «وفتلا منه في الذروة والغارب» في الصحاح: ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب، أى: يدور من وراء خديعته. (ع)
(3/443)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس، كان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر. أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا. وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أى مشايعين لكم في دينكم، ثابتين عليه ثباتكم، ما قدر أحد أن يفتننا، فأعطونا نصيبنا من المغنم. ثم أخبر سبحانه أنه أعلم بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما تكنّ صدور هؤلاء من النفاق، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين. وقرئ: ليقولنّ، بفتح اللام.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا: ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن تحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش: كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. ونرى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه- إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم-: افعل هذا وإثمه في عنقي. وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم- ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه، فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين، بقيت الحاجة العظمى. قال: وما هي؟ قال شفاعتك يوم القيامة، فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله: إياك وهؤلاء، فإنهم قطاع الطريق في المأمن «1» . فإن قلت: كيف سماهم
__________
(1) . قال محمود: «وبعض المتسمين بالإسلام إذا أراد أن يشجع صاحبه على ذنب قال له: افعل هذا وإثمه في عنقي. ومنه ما يحكى أن رجلا رفع إلى المنصور حوائجه فلما قضاها، قال يا أمير المؤمنين، بقيت لي إليك حاجة هي العظمى. قال: وما هي؟ قال: شفاعتك في المحشر. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، إياك وهؤلاء فهم قطاع الطريق في المأمن» قال أحمد: عمرو بن عبيد أول القدرية المنكرين للشفاعة فاحذره، وليست الآية مطابقة للحكاية، ولكن الزمخشري يبنى على أنه لا فرق بين اعتقاد الشفاعة واعتقاد أن الكفار يحملون خطايا أتباعهم، فلذلك ساقهما مساقا واحدا نعوذ بالله من ذلك. وفي قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر، فان من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر، ولم يتم له ذلك في هذه الآية، لأن الله تعالى أردف قولهم: ولنحمل خطاياكم، على صيغة الأمر بقوله إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار.
(3/444)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
كاذبين، وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه لمخبر، عنه. ويجوز أن يريد أنهم كاذبون، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أى أثقال أنفسهم وَأَثْقالًا يعنى أثّقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها، وهي أثقال الذين كانوا سببا في ضلالهم وَلَيُسْئَلُنَّ سؤال تقريع عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أى يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. وقرئ: من خطيآتهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. فإن قلت: هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة «1» ، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلا بالسنة وثانيا بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد
__________
(1) . قال محمود: «عدل عن تسعمائة وخمسين لأنه يحتمل فيه إطلاق العدد على أكثره بخلاف مجيئه مع الاستثناء» قال أحمد: لأن الاستثناء استدراك ورجوع على الجملة بالتنقيص، تحريرا للعدد، فلا يحتمل المبالغة لأنها لا يجوز معها العدد.
(3/445)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل «1» أو تنويه أو نحو ذلك. والطُّوفانُ ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما. قال العجاج:
وغمّ طوفان الظّلام الأثأبا «2»
أَصْحابَ السَّفِينَةِ كانوا ثمانية وسبعين نفسا: نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح عليه السلام: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة. خمسة رجال وخمس نسوة. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم «كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة» «3» والضمير في وَجَعَلْناها للسفينة أو للحادثة والقصة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
نصب إِبْراهِيمَ بإضمار اذكر، وأبدل عنه إِذْ بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها. أو هو معطوف على نُوحاً وإذ ظرف لأرسلنا، يعنى: أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وفيه نكتة أخرى، وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح وكابده من طول المصابرة، تسلية له عليه السلام فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع على الغرض. قال: وإنما خالف بين اللفظين فذكر في الأول السنة وفي الثاني العام، تجنبا للتكرار الذي لا يحمد إلا لقصد تفخيم أو تعظيم» قال أحمد: ولو فخم المستثنى لعاد ذلك ببعض تفخيم المستثنى منه وتكبيره عند السامع، والله أعلم.
(2) .
حتى إذا ما يومها تصيبا ... وعم طوفان الظلام الأثأبا
للعجاج يصف بقرة وحشية. وما: زائدة. ويروى: عم، بالمهملة وبالمعجمة، والمعنيان متقاربان. والطوفان:
كل ما طاف حول الشيء وأحاط به من ظلام أو ماء أو نحوهما. والأثأب: نوع من الشجر يشبه شجر التين، الواحدة: أثأبة ونسبة التصبب اليوم: مجاز عقلى من باب الاسناد للزمان، أو على تقدير التمييز، أى: تصبب مطرا، وستر ظلامه الشجر الذي كانت فيه.
(3) . تقدم في هود.
(3/446)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله. وإبراهيم، بالرفع على معنى: ومن المرسلين إبراهيم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعنى: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم. أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء: علمتم أنه خير لكم: وقرئ: تخلقون من خلق بمعنى التكثير في خلق. وتخلقون، من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ: إفكا، فيه وجهان:
أن يكون مصدرا، نحو: كذب ولعب. والإفك: مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن يكون صفة على فعل، أى خلقا إفكا، أى ذا إفك وباطل. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام: إفكا، وعملهم لها ونحتهم: خلقا للإفك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله. فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقرئ: بفتح التاء، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وإن تكذبونني فلا تضروننى بتكذيبكم، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضرّوهم وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل: وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مكذبا فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء. وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه، وأعقابهم على التكذيب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 22]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22)
(3/447)
فإن قلت: فما تصنع بقوله قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ قلت: هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه، كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت: فإذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفى قصة إبراهيم والجملة؟ أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؟ ألا تراك لا تقول: مكة- وزيد أبوه قائم- خير بلاد الله؟ قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو ما مني «1» به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها، لأن قوله فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لا بد من تناوله لأمّة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض واقع «2» متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه. قرئ يَرَوْا بالياء والتاء. ويبدئ ويبدأ. وقوله ثُمَّ يُعِيدُهُ ليس بمعطوف على يبدئ، وليست الرؤية واقعة عليه، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت، كما وقع النظر في قوله تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ على البدء دون الإنشاء، ونحوه قولك: ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلفه «3» . فإن قلت: هو معطوف بحرف العطف، فلا بد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو جملة قوله أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ وكذلك: وأستخلفه، معطوف على جملة قوله: ما زلت أوثر فلانا ذلِكَ يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ من معنى يعيد. دل بقوله النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ على أنهما نشأتان، وأن كل واحدة منهما إنشاء، أى: ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك. وقرئ: النشأة والنشاءة، كالرأفة والرآفة. فإن قلت: ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد إضماره في قوله: كيف بدأ الخلق؟
__________
(1) . قوله «كان ممنوا بنحو ماضى؟؟؟ به» أى: مبتلى. في الصحاح: منوته ومنيته، إذا ابتليته. (ع)
(2) . قوله «وهو كما ترى اعتراض واقع» لعله: واقع موقعه. (ع)
(3) . قال محمود: «يعيده ليس معطوفا على يبدئ، وإنما هو إخبار على حياله، كما وقع كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ كقولك ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه بعدي» قال أحمد، وقد تقدم له عند قوله تعالى أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أنه معطوف، وصحح العطف- وإن كانوا ينكرون الاعادة- لأن الاعتراف بها لازم لهم، وقد أبى هاهنا جعله معطوفا، فالفرق والله أعلم أنه هاهنا لو عطف الاعادة على البداءة لدخلت في الرؤية الماضية، وهي لم تقع بعد، ولا كذلك في آية النمل، ولقائل أن يقول: هي وإن لم تقع، إلا أنها باخبار الله تعالى بوقوعها كالواقعة المرئية، فعوملت معاملة ما رئي وشوهد إلا أن جعله خبرا ثانيا أوضح، والله أعلم.
(3/448)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعا في الإعادة، وفيها كانت تصطك الركب، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة «1» ، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن «2» وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب تُقْلَبُونَ تردون وترجعون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم أى لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه فِي الْأَرْضِ الفسيحة وَلا فِي السَّماءِ التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى:
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، وقيل: ولا من في السماء «3» كما قال حسان رضى الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء «4»
ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.
[سورة العنكبوت (29) : آية 23]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
بِآياتِ اللَّهِ بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وعيد، أى ييأسون يوم القيامة، كقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. أو هو وصف
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما وجه الإفصاح باسمه تعالى مع النشأة الآخرة، بعد إضماره في البداءة أو لا؟
قلت: لأن النشأة الآخرة هي المقصودة وفيها كانت تصطك الركب، فكانت خليقة بإبراز اسمه تعالى تحقيقا لنسبة الاعادة إلى من نسبت إليه الأولى» قال أحمد: والأصل الاظهار ثم الإضمار، ويليه لقصد التفخيم: الاظهار بعد الاظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة: الاظهار بعد الإضمار كما في الآية، والله أعلم.
(2) . قوله «ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن» تفسيره بما يأتى مبنى على أنه تعالى يجب عليه تعذيب الكافر والفاسق إذا لم يتوبا وإثابة المعصوم والتائب، وهو مذهب المعتزلة. ولا يجب عليه تعالى شيء عند أهل السنة، فالمشيئة في الآية على إطلاقها. (ع) [.....]
(3) . قوله «وقيل ولا من في السماء» عبارة الخازن: ولا من في السماء بمعجز. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3/449)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
لحالهم، لأنّ المؤمن إنما يكون راجيا خاشيا، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف.
أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة: وعن قتادة رضى الله عنه. إن الله ذمّ قوما هانوا عليه فقال أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وقال إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن «1» أن يكون راجيا لله عز وجل خائفا.
[سورة العنكبوت (29) : آية 24]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
قرئ جَوابَ قَوْمِهِ بالنصب والرفع قالُوا قال بعضهم لبعض. أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين. وروى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار، نعنى: يوم ألقى إبراهيم في النار، وذلك لذهاب حرّها.
[سورة العنكبوت (29) : آية 25]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أى لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن يكون مفعولا ثانيا، كقوله اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أى اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم، على تقدير حذف المضاف.
أو اتخذتموها مودّة بينكم، بمعنى مودودة بينكم، كقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرا لأنّ، على أن ما موصولة.
وأن يكون خبر مبتدإ محذوف. والمعنى: أنّ الأوثان مودّة بينكم، أى: مودودة، أو سبب مودّة. وعن عاصم: مودّة بينكم: بفتح بينكم مع الإضافة، كما قرئ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ففتح وهو فاعل. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: أوثانا إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا، أى: إنما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقوم بينكم التلاعن
__________
(1) . قوله: «صفة المؤمن» لعله: لأن صفه المؤمن ... الخ. (ع)
(3/450)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
والتباغض والتعادي: يتلاعن العبدة، ويتلاعن العبدة والأصنام، كقوله تعالى وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
[سورة العنكبوت (29) : آية 26]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه وَقالَ يعنى إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من «كوثى» وهي من سواد الكوفة إلى «حرّان» ثم منها إلى فلسطين، ومن ثمة قالوا: لكل نبى هجرة ولإبراهيم هجرتان، وكان معه في هجرته: لوط، وامرأته سارّة، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة إِلى رَبِّي إلى حيث أمرنى بالهجرة إليه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعني من أعدائى الْحَكِيمُ الذي لا يأمرنى إلا بما هو مصلحتي.
[سورة العنكبوت (29) : آية 27]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
أَجْرَهُ الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر والذرية الطيبة والنبوّة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه. فإن قلت: ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر، وذكر إسحاق وعقبه؟
قلت: قد دلّ عليه في قوله وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوّ قدره. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذرّيته من الكتب الأربعة: التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؟
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
وَلُوطاً معطوف على إبراهيم، أو على ما عطف عليه. والْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح. وما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة، كأن قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل له: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازا منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم. قالوا لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط. وقرئ: إنكم، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني: قال أبو عبيدة:
(3/451)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين الياء والنون وقطع السبيل:
عمل قطاع الطريق، من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة.
وعن الحسن: قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. والْمُنْكَرَ عن ابن عباس رضى الله عنهما هو الخذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الأزرار، والسباب، والفحش في المزاح. وعن عائشة رضى الله عنها: كانوا يتحابقون «1» .
وقيل السخرية بمن مرّ بهم. وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء: من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له. ولا يقال للمجلس: ناد، إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدناه من نزول العذاب. كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم، وقال الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
بِالْبُشْرى هي البشارة بالولد. والنافلة: وهما إسحاق ويعقوب. وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف. والمعنى الاستقبال. والقرية: سدوم التي قيل فيها: أجور من قاضى سدوم كانُوا ظالِمِينَ معناه أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة، وهم عليه مصرون، وظلمهم: كفرهم وألوان معاصيهم إِنَّ فِيها لُوطاً ليس إخبارا لهم بكونه فيها، وإنما هو جدال في شأنه، لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم: اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم، وأراد بالجدال: إظهار الشفقة عليهم، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه، والتشمر في نصرته وحياطته، والخوف من أن يمسه أذى أو يلحقه ضرر. قال قتادة: لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه بِمَنْ فِيها يعنون: نحن أعلم منك
__________
(1) . قوله «كانوا يتحابقون» في الصحاح «الحبق» بالكسر: الردام. وفيه أيضا «الردام» بالضم: الحبق اه، وهو دور فلينظر حله، ثم رأيت فيه في مادة «ضرط» الضراط: الردام، وقد ضرط يضرط ضرطا بكسر الزاء، مثال: حبق يحبق حبقا اه فالتحابق: المضارطة، كما عبر النسفي. (ع)
(3/452)