وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ يعنى في زعمكم ودعواكم، تجهيلا لهم. فإن قلت: ما بال ساقتى قصة «1» عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت. قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد، وذلك قوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. الجاثم: اللازم لمكانه لا يريم، كاللابد، «2» يعنى أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا «3» كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين متردّدين. البعد: بمعنى البعد وهو الهلاك، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله كَما بَعِدَتْ؟ وقرأ السلمى: بعدت، بضم العين، والمعنى في البناءين واحد، وهو نقيض القرب، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا: وعد وأوعد، وقراءة السلمى جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص، كما يقال: ذهب فلان ومضى، في معنى الموت. وقيل: معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
__________
(1) . قوله «ساقتى قصة» في الصحاح: ساقة الجيش مؤخره اه. ومثله ساقة القصة هنا. (ع)
(2) . قوله «كاللابد» أى المتلبد اللاصق بالأرض، أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بحيث هو قعصا» في الصحاح: يقال مات فلان قعصا، إذا أصابته ضربة فمات مكانه. (ع)(2/425)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ فيه وجهان: أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته، وأن يراد بالسلطان المبين: العصا، لأنها أبهرها وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل، وذلك أنه ادّعى الإلهية وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتى إلا من شيطان مارد، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتاً وأفعالا، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته. والأمر الرشيد: الذي فيه رشد: أى: وما في أمره رشد إنما هو غىّ صريح وضلال ظاهر مكشوف، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم، لا من يضلهم ويغويهم. وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط يَقْدُمُ قَوْمَهُ أى كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه. ويجوز أن يريد بقوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ وما أمره بصالح حميد العاقبة. ويكون قوله يَقْدُمُ قَوْمَهُ تفسيراً لذلك وإيضاحا. أى: كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، كما استعمل الغىّ في كل ما يذم ويتسخط. ويقال: قدمه بمنى تقدّمه. ومنه: قادمة الرجل، كما يقال: قدمه بمعنى تقدّمه. ومنه مقدّمة الجيش. وأقدم بمعنى تقدّم. ومنه مقدّم العين. فإن قلت: هلا قيل: يقدم قومه فيوردهم؟
ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت: لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به، فكأنه قيل: يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة. والْوِرْدُ المورود. والْمَوْرُودُ الذي وردوه. شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة، ثم قيل: بئس الورد الذي يردونه النار، لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضدّه وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ في هذه الدنيا لَعْنَةً أى يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ رفدهم. أى: بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى.
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 101]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
ذلِكَ مبتدأ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر، أى: ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك مِنْها الضمير للقرى، أى: بعضها باق وبعضها عافى الأثر،(2/426)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
كالزرع القائم على ساقه والذي حصد. فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله يَدْعُونَ يعبدون وهي حكاية حال ماضية. ولَمَّا منصوب بما أغنت أَمْرُ رَبِّكَ عذابه ونقمته تَتْبِيبٍ تخسير. يقال تبّ إذا خسر. وتببه غيره، إذا أوقعه في الخسران.
[سورة هود (11) : آية 102]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
محل الكاف الرفع، تقديره: ومثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ والنصب فيمن قرأ:
وكذلك أخذ ربك، بلفظ الفعل. وقرئ: إذ أخذ القرى وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال.
[سورة هود (11) : آية 103]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
ذلِكَ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم لَآيَةً لِمَنْ خافَ لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى. ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه. والنَّاسُ رفع باسم المفعول «1» الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت: لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ «2» قلت: لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم عدل عن الفعل إلى اسم المفعول ... الخ» قال أحمد: ولهذا السر ورد قوله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً فاستعمل الفعل حيث يليق به، واسم المفعول حيث يحسن استعماله أيضا ... الخ.
(2) . قوله «من دلالة» عبارة النسفي: دلالته. (ع) [.....](2/427)
مضروباً لجمع الناس له، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، ونظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ تعثر على صحة ما قلت لك. ومعنى يجمعون له: يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب يَوْمٌ مَشْهُودٌ مشهود فيه، فاتسع في الظرف «1» بإجرائه مجرى المفعول به، كقوله:
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْما وَعَامِراً «2»
أى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بالمشهود: الذي كثر شاهدوه.
ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور. قال:
فِى مَحْفِلٍ مِنْ نَوَاصِى النَّاسِ مَشْهُودِ «3»
فإن قلت: فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه، كما قال الله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ قلت: الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه، لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده، وكذلك قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به، وكذلك الضمير في فَلْيَصُمْهُ والمعنى: فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه، يعنى: فمن كان منكم مقيما حاضراً لوطنه في شهر رمضان
__________
(1) . قال محمود: «المراد مشهود فيه فاتسع في الظرف ... الخ» قال أحمد: يكون المشهود الذي هو المفعول به مسكونا عنه مبهما، ومن الإبهام ما يكون تفخيما، وهذا مكانه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
من الخصوم إذا حد الضجاج بهم ... بعد ابن سعد ومن الضمر القود
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في محفل من نواصي القوم مشهود
فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مزؤد
لأم قيس الضبية. وضج ضجيجاً وضجاجا: صاح. وضج البعير من الحمل: تعب من ثقله، والضمر بالتشديد:
جمع ضامر. وفرس أقود: طويل العنق. ورجل أقود: يقبل بوجهه ولا ينثني. والقرد: جمعه. ومشهد:
عطف على الخصوم. ويجوز جره برب، أى مجلس كفيت فيه الغائبين عنه بالتكلم عنهم بين محفل من رؤساء الناس وأشرافهم، فالنواصى: استعارة لهم. وفرجته، فككت كربته، وكشفت غمته بكلام واضح الدلالة صادر عن قلب مطمئن غير خائف عند الحفاظ، أى غيرة الخصوم ومحافظة كل منهم على رأيه أو المغاضبة. ويقال: أحفظه إحفاظاً إذا أغضبه.(2/428)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
فليصم فيه، ولو نصبته مفعولا فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر، لا يشهده المقيم، ويغيب عنه المسافر:
[سورة هود (11) : آية 104]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
الأجل: يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، فيقولون: انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون: حل الأجل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يراد آخر مدة التأجيل، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ: وما يؤخره بالياء.
[سورة هود (11) : آية 105]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قرئ يَوْمَ يَأْتِ بغير ياء. ونحوه قولهم: لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتى ما هو؟ قلت: الله عز وجل، كقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، وَجاءَ رَبُّكَ وتعضده قراءة: وما يؤخره، بالياء. وقوله بِإِذْنِهِ ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ. فإن قلت: بما انتصب الظرف؟ قلت: إمّا أن ينتصب بلا تكلم. وإمّا بإضمار «اذكر» وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أى ينتهى الأجل يوم يأتى، فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت: المراد إتيان هو له وشدائده لا تَكَلَّمُ لا تتكلم، وهو نظير قوله لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ. فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وقوله تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، قلت: ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها: يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم فَمِنْهُمْ الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا، لأنّ ذلك معلوم، ولأنّ قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ يدل عليه، وقد مرّ ذكر الناس في قوله مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ والشقي الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه.
[سورة هود (11) : الآيات 106 الى 107]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)(2/429)
قراءة العامّة بفتح الشين. وعن الحسن شَقُوا بالضم، كما قرئ سُعِدُوا. والزفير: إخراج النفس. والشهيق: ردّه. قال الشماخ:
بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ «1»
ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فيه وجهان، أحدهما: أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وقوله. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم: إمّا سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع، كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فإن قلت: فما معنى الاستثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة: وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم، وهو رضوان الله، كما قال وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء. والدليل عليه قوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ومعنى قوله في مقابلته إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطى أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة «2» . إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإنّ الاستثناء الثاني ينادى على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت «3»
__________
(1) . للشماخ يصف حمار وحشى. والمدى: المسافة والغاية. والتطريب: ترديد الصوت وترخيمه. والزفير:
إخراج النفس بشدة. والمحشرج اسم مفعول: الصوت الذي يردده في حلقه وصدره.
(2) . قوله «ولا يخدعنك عنه قول المجبرة» يريد أهل السنة. أما المعتزلة فيقولون: فاعل الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر وخلوده في النار أبدى، وتحقيق بطلانه في علم التوحيد. (ع)
(3) . قوله «لما روى لهم بعض النوابت» في الصحاح: إن بنى فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحداث الأعمار. (ع)(2/430)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد «1» ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها، وأقول:
ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما على بن أبى طالب رضى الله عنه، ما يشغله عن عن تسيير هذا الحديث.
[سورة هود (11) : الآيات 108 الى 109]
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية، كقوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
لما قصّ قصص عبدة الأوثان، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه، وما أعدّ لهم من عذابه قال:
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أى: فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّصهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهى عن المرية. و «ما» في مما، وكما: يجوز أن تكون مصدرية وموصولة، أى: من عبادتهم، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أى حظهم من العذاب «2» كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت:
__________
(1) . الحديث أخرجه البزار قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبى بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال «يأتى على النار زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، يعنى من الموحدين» كذا فيه ورجاله ثقات. والتفسير لا أدرى ممن هو، وهو أولى من تفسير المصنف، ويؤيده ما رواه ابن عدى عن أنس رضى الله عنه مرفوعا «ليأتين على جهنم يوم تصفق أبوابها، ما فيها من أمة محمد أحد» وفي الباب عن أبى أمامة رفعه «يأتى على جهنم يوم ما فيها من بنى آدم أحد، تخفق أبوابها، يعنى من الموحدين» وأما الحديث الذي أخرجه الحارث بن أبى أمامة في مسنده من طريق الحسن عن عمرو رفعه «إن جهنم تخلو حتى ينبت فيها الجرجير، فهو منقطع. ومراسيل الحسن عندهم واهية. لأنه كان يأخذ من كل أحد. فان كان محفوظا فعلى التأويل الأول، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «أى حظهم من العذاب، وإنما نصب غير منقوص حالا من النصيب الموفى، لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وحقه كاملا» قال أحمد: وهم والله أعلم، فان التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصاً، فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصانه، فما وجه انتصابه حالا عنه؟ والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء، كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ. ومن قال:
أعطيت فلانا حقه. كان جديراً أن يؤكده بقوله «غير منقوص» والله أعلم.(2/431)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
كيف نصب غَيْرَ مَنْقُوصٍ حالا عن النصيب الموفى؟ قلت: يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول. وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملا وناقصا،
[سورة هود (11) : آية 110]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
فَاخْتُلِفَ فِيهِ آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ يعنى كلمة الإنظار إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضاً.
[سورة هود (11) : آية 111]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض من المضاف إليه، يعنى: وإنّ كلهم، وإنَّ جميع المختلفين فيه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف. واللام في لَمَّا موطئة للقسم، و «ما» مزيدة. والمعنى:
وإن جميعهم والله ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ من حسن وقبيح وإيمان وجحود. وقرئ:
وإن كلا بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبىّ: وإن كل لما ليوفينهم، على أنّ إن نافية. ولما بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها.
وإن كل إلا ليوفينهم، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لما ليوفينهم، بالتنوين، كقوله أَكْلًا لَمًّا والمعنى: وإن كلا ملمومين، بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنّ كلا جميعاً، كقوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
[سورة هود (11) : آية 112]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق، غير عادل عنها وَمَنْ تابَ مَعَكَ معطوف على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى: فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عن حدود الله إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم فهو مجازيكم به، فاتقوه. وعن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت(2/432)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية. ولهذا قال: شيبتني هود والواقعة وأخواتهما «1» . وروى أنّ أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب. فقال: شيبتني هود. وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: روى عنك أنك قلت: شيبتني هود. فقال: نعم. فقلت:
ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قال: افتقرْ إلى الله بصحة العزم.
[سورة هود (11) : آية 113]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
قرئ: ولا تركنوا، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبى عمرو: بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم. ونحوه قراءة من قرأ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بكسر التاء. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا تركنوا، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله، والنهى متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله وَلا تَرْكَنُوا فإن الركون هو الميل اليسير.
وقوله إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أى إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين. وحكى أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشى عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم. وعن الحسن رحمه الله: جعل الله الدين بين لاءين: وَلا تَطْغَوْا، وَلا تَرْكَنُوا ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخفّ
__________
(1) . وفي الترمذي من حديث شيبان عن أبى إسحاق عن عكرمه عن ابن عباس قال قال أبو بكر «يا رسول الله قد شبت، قال: قد شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون. وإذا الشمس كورت» وقال حسن غريب.
وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال: اختلف فيه على أبى إسحاق، فقال شيبان كذا. وقال على بن صالح: عن أبى إسحاق عن أبى حجية قال: وقال زكريا عن أبى إسحاق عن مسروق أن أبا بكر قال. وأطال الدارقطني في ذكر علله- واختلاف طرقه في أوائل كتاب العلل- ورواه البيهقي في الدلائل من رواية عطية بن سعيد قال قال عمر ابن الخطاب: يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب. فقال شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» وأخرجه ابن سعد وابن عدى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس. وفيه «الواقعة والقارعة وسأل وإذا الشمس كورت» .(2/433)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
ما احتملت: أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغى بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلا، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشكّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلو، الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك «1» من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا فإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعى: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وعن محمد ابن مسلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه «2» » ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموت؟ فقال: دعه يموت.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حال من قوله فَتَمَسَّكُمُ أى: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه: وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه، لا يقدر على منعكم منه غيره ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: معناها الاستبعاد، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.
[سورة هود (11) : آية 114]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)
طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة وعشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه، وصلاة الغدوة: الفجر. وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأنّ ما بعد الزوال عشىّ. وصلاة الزلف: المغرب والعشاء. وانتصاب طرفى النهار على الظرف، لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار
__________
(1) . قوله «وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك» لعل هنا سقطاً تقديره: في جنب ما أعطوك، وما أقل ما أصلحوا لك في جنب ما أفسدوا ... الخ. (ع)
(2) . قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله. وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.(2/434)
وأوله وآخره، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. ونحوه وَأَطْرافَ النَّهارِ وقرئ: وزلفا، بضمتين. وزلفا، بسكون اللام. وزلفى: بوزن قربى. فالزلف: جمع زلفة، كظلم في ظلمة. والزلف بالسكون: نحو بسرة وبسر. والزلف بضمتين نحو بسر في بسر. والزلفى بمعنى الزلفة، كما أن القربى بمعنى القربة: وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل: وزلفا من الليل: وقربا من الليل، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أى: أقم الصلاة طرفى النهار، وأقم زلفا من الليل، على معنى: وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فيه وجهان، أحدهما: أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات، وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر «1» » والثاني: إن الحسنات يذهبن السيئات، بأن يكن لطفاً في تركها، كقوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وقيل: نزلت في أبى اليسر عمرو بن غزية الأنصارى، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إن في البيت أجود من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له:
اتق الله، فتركها وندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتظر أمر ربى، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال: نعم، اذهب فإنها كفارة لما عملت: وروى أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال: استر على نفسك وتب إلى الله، فأتى عمر رضى الله عنه فقال له مثل ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فقال عمر: أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
توضأ وضوآ حسنا وصل ركعتين إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «2» ذلِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ فما بعده ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
__________
(1) . أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة رفعه «الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» .
(2) . كان في الأصل أبو اليسر عمرو بن غزية وهو غلط. وإنما هو أبو اليسر كعب بن عمرو. وكذا هو في كتب أسماء الصحابة. وإنما تبع المصنف الثعلبي فانه قال كذلك نزلت في عمرو بن غزية الأنصارى. والحديث عند الترمذي والنسائي والبزار والطبراني والطبري من رواية عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة بن أبى اليسر ابن عمرو قال: أتتنى امرأة تبتاع تمرا- فقلت لها: في البيت تمر أطيب من هذا فدخلت معى في البيت. فأهويت إليها فقبلتها. فقالت: اتق الله. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له: فقال استر على نفسك وتب. فأتيت عمر فقال مثل ذلك. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأطرق طويلا حتى أوحى إليه أَقِمِ الصَّلاةَ ... الآية قال ابن أبى اليسر: أتيته فقرأها على. فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة.
وفي رواية لأحمد فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أله وحده أم للناس كافة؟» وللدارقطنى والحاكم والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ أنه كان قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يأتيه الرجل من امرأته إلا أصاب منها غير أنه لم يجامعها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وضوآً حسنا ثم صل. فأنزل الله تعالى الآية. فقال معاذ: أهى له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها دون أن أمسها وأنا هذا فاقض فىّ ما شئت.
فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. فدعاء فتلا عليه أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ... الآية فقال رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة أم للناس؟ فقال: بل للناس كافة» .(2/435)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
[سورة هود (11) : آية 115]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال: وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.
[سورة هود (11) : آية 116]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116)
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل: كل «لولا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ.
أُولُوا بَقِيَّةٍ أو لو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم، أى من خيارهم.
وبه فسر بيت الحماسة:
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِى بَقِيَّتُكُمْ «1»
__________
(1) .
يا أيها الراكب المزجى مطيته ... سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إنى أنا الموت
إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم ... فما علىّ بذنب عندكم فوت
لروشيد بن كثير الطائي. وزجاه- بالتخفيف والتشديد- وأزجاه: ساقه. وأراد بالصوت: الصيحة أو القصة التي بلغته عنه، وأخبر عن نفسه بالموت مبالغة. وبقية القوم: خيارهم، وتأتى مصدراً بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى. والمعنى على الأول. إن تذنبوا ثم يأتينى أماثلكم يعتذرون عنكم فلا فوت، ولا بأس علىّ بسبب ذنب غيركم. وعلى الثاني: ثم يأتينى منكم ذو الإبقاء على أنفسهم، يقولون: لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فكذلك.
ويجوز أن المعنى: إن تجتمعوا على للمحاربة أو للاعتذار، فلا تفوتني مؤاخذتكم بل لا بد منها. وإثبات الياء في «يأتينى» للإشباع، لكن الأخير غير مناسب لقوله «بادروا بالعذر» . [.....](2/436)
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى، أى: فهلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه.
وقرئ: أولو بقية، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه: «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» » والبقية المرّة من مصدره. والمعنى: فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهى. ومِنَ في مِمَّنْ أَنْجَيْنا حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام، كان المعنى فاسداً، لأنه يكون تحضيضاً لأولى البقية على النهى عن الفساد، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول:
هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أراد بالذين ظلموا: تاركي النهى عن المنكرات، أى: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، واتبع الذين ظلموا، يعنى: واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة: أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قوىّ لتقدم الإنجاء، كأنه قيل: إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت: علام عطف قوله وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا؟ قلت: إن كان معناه: واتبعوا الشهوات، كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت: فقوله وَكانُوا مُجْرِمِينَ؟ قلت: على أترفوا أى: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام
__________
(1) . أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل قال «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة، فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج ... الحديث» .(2/437)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
إغفالهم للشكر. أو على اتبعوا، أى اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون.
[سورة هود (11) : آية 117]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)
كانَ بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. وبِظُلْمٍ حال من الفاعل. والمعنى:
واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وَأَهْلُها قوم مُصْلِحُونَ تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل: الظلم الشرك، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر.
[سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أى ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وهذا الكلام يتضمن نفى الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه، يعنى: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وهي قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لعلمه بكثرة من يختار الباطل.
[سورة هود (11) : الآيات 120 الى 122]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
وَكُلًّا التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ ومِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بيان لكل. ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بدل من كلا. ويجوز أن يكون المعنى: كل واقتصاص(2/438)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
نقصّ عليك، على معنى: وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك، يعنى: على الأساليب المختلفة، وما نُثَبِّتُ بِهِ مفعول نقصّ. ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أى في هذه السورة.
أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من أهل مكة وغيرهم اعْمَلُوا على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.
[سورة هود (11) : آية 123]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية مما يجرى فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك وكافلك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وقرئ: تعملون، بالتاء:
أى أنت وهم على تغليب المخاطب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك «1»
__________
(1) . تقدم إسناده في آل عمران ويأتى في آخر الكتاب.(2/439)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
سورة يوسف
(مكية [إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية] وهي مائة وإحدى عشرة آية [نزلت بعد سورة هود] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. والْكِتابِ الْمُبِينِ السورة، أى تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم. أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روى أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف أَنْزَلْناهُ أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا وسمى بعض القرآن قرآناً، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ. الْقَصَصِ على وجهين: يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص، تقول: قصّ الحديث يقصه قصصاً، كقولك:
شله يشله شللا، إذا طرده. ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصيد.
وإن أريد المصدر، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن القصص بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أى بإيحائنا إليك هذه السورة، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر، لإضافته إليه، ويكون المقصوص محذوفاً، لأنّ قوله بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ مغن عنه. ويجوز أن(2/440)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
ينتصب هذا القرآن بنقصّ، كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك. والمراد بأحسن الاقتصاص: أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن. وإن أريد بالقصص المقصوص، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها «1» والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، كما يقال في الرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه. فإن قلت: ممّ اشتقاق القصص؟ قلت: من قصّ أثره إذا اتبعه، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآن، إذا قرأه، لأنه يتلو أى يتبع ما حفظ منه آية بعد آية وَإِنْ كُنْتَ إن مخففة من الثقيلة. واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية. والضمير في قَبْلِهِ راجع إلى قوله: ما أوحينا. والمعنى: وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أى: من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.
[سورة يوسف (12) : آية 4]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل من أحسن القصص، وهو من بدل الاشتمال، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قصَّ وقته فقد قص. أو بإضمار «اذكر» ويوسف اسم عبراني، وقيل عربى وليس بصحيح، لأنه لو كان عربياً لا نصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف. فإن قلت: فما تقول فيمن قرأ «يوسف» بكسر السين، أو «يوسف» بفتحها، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربى» لأنه على وزن المضارع المبنى للفاعل أو المفعول من آسف. وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت: لا، لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة، على أن الكلمة أعجمية، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى، ونحو يوسف:
يونس، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربى لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا قيل: من الكريم؟ فقولوا: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم «2» » يا أَبَتِ
__________
(1) . قوله «ليست في غيرها» لعله «في غيره» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الكريم ابن الكريم إلى آخره» وفي البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكريم بن الكريم إلى آخره» وهو في المتفق عليه عن أبى هريرة لكن بلفظ «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أى الناس أكرم؟ فقال أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: يا رسول الله ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبى الله بن نبى الله بن نبى الله بن خليل الله» .(2/441)
قرئ بالحركات الثلاث. فإن قلت: ما هذه التاء؟ قلت: تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. فإن قلت: فما هذه الكسرة؟ قلت: هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك: يا أبى، قد زحلقت إلى التاء، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحا: فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها، لأنها اسم، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً، لأنها حرف لين. وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتى» لا يجوز «يا أبت» . قلت الياء والكسرة قبلها شيئان والتاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة، لأنها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوّضة لغو: وجودها كعدمها.
قلت: بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبى. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت: أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ويجوز أن يقال: حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبى» .
وأما من ضم فقد رأى اسماً في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال:
«يا أبت» كما تقول «يا تبة» «1» من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الاضافة. وقرئ:
__________
(1) . قوله «كما تقول يا تبة» بكسر التاء وتشديد الباء: الحالة الشديدة. وفي نسخة: يا ابنة، كذا بهامش الأصل. (ع)(2/442)
إنى رأيت، بتحريك الياء. وأحد عشر: بسكون العين، تخفيفا لتوالى المتحركات فيما هو في حتم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثنى عشر، لئلا يلتقى ساكنا، ورأيت من الرؤيا، لا من الرؤية، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام، لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت: ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت: روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرنى عن النجوم التي رآهنّ يوسف، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم» ؟ قال: نعم. قال: «جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ. ووثاب، وذو الكتفين.
رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له «1» » فقال. اليهودي: إي والله، إنها لأسماؤها. وقيل: الشمس والقمر أبواه. وقيل: أبوه وخالته: والكواكب. إخوته. وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتى عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل:
كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على عيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. فإن قلت: ما معنى تكرار رأيت «2» قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف
__________
(1) . أخرجه الحاكم من طريق أسباط عن السدى عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال «جاء بستان اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هل تعرف النجوم التي رآها يوسف فسجدن له؟ فسكت الحديث» ولم يذكر فيهن الشمس والقمر وقال: رآها يوسف محيطة بأكتاف السماء ساجدة له، وزاد: فقصها على أبيه فقال له:
إن هذا أمر قد تشتت وسيجمعه الله بعد» رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل والطبراني وأبو حاتم في رواية الحاكم بن زهير عن السدى نحوه، وذكره العقيلي من حديثه وقال: لا يثبت. وقال البزار: لا نعلم له طريقاً إلا هكذا. والحاكم ليس بقوى، وكذا قال البيهقي: إن الحاكم تفرد به. وغفل عن طريق شيخ الحاكم وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وأعله بالحاكم. وطريق الحاكم يدفع على الحكم وذكر ابن أبى حاتم في العلل عن أبى زرعة أنه قال: حديث منكر.
(2) . قال محمود: «إن قلت ما معنى تكرار رأيت ... الخ» قال أحمد: وأحسن من ذلك أن الكلام طال بين الفعل. الحال، فطري ذكر الفعل لمناسبة الحال وهي المقصودة، إذ الآية في السجود كانت، والله أعلم.(2/443)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. فإن قلت. فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 5 الى 6]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم.
والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفى التأنيث كما قيل: القربة والقربى. وقرئ: روياك، بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي: رُيَّاك ورِيَّاك، بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار، و «اتجر» من الأجر فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار «أن» والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك: فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك، كما قيل: فكيدوني؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ، ليورّط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله وَكَذلِكَ ومثل ذلك الاجتباء يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعنى وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام.
وقوله وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك. والاجتباء. الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض: جمعته. والأحاديث: الرؤيا: لأنّ الرؤيا إمّا حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وتأويلها. عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم(2/444)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
عبارة لها. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث، لأنه يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل: أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد.
وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل:
علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ وقيل: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضى أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه. وقيل: كان يعقوب مؤثرا له بزيادة المحبة والشفقة لصغره، ولما يرى فيه من المخايل. وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل: لما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل. وآل يعقوب: أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل آل:
أهل، بدليل تصغيره على أُهَيل، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال: آل النبي، وآل الملك. ولا يقال: آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. وأراد بالأبوين: الجد، وأبا الجد، لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون: ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدّة. وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ يعلم من يحق له الاجتباء حَكِيمٌ لا يتم نعمته إلا على من يستحقها.
[سورة يوسف (12) : آية 7]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أى في قصتهم وحديثهم آياتٌ علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب.
وقرئ: آية، وفي بعض المصاحف: عبرة. وقيل: إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغى إخوته عليه، لما رأى من بغى قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم:
يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر:
السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين: زلفة، وبلهة:(2/445)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف.
[سورة يوسف (12) : آية 8]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)
لَيُوسُفُ اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت «1» لا شبهة فيه وَأَخُوهُ هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوته، لأنّ أمّهما كانت واحدة. وقيل أَحَبُّ في الاثنين، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من» ولا بد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في وَنَحْنُ عُصْبَةٌ واو الحال. يعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أى في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة: العشرة فصاعداً. وقيل: إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن علىّ رضى الله عنه: ونحن عصبة، بالنصب. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنبارى هذا كما تقول العرب، إنما العامري عمته، أى يتعهد عمته.
[سورة يوسف (12) : آية 9]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)
__________
(1) . قال محمود: «اللام للتوكيد، دخلت للاشعار بأن زيادة محبة أبيهم لهما أمر ثابت ... الخ» قال أحمد:
وهذه تؤيد قراءة ابن مروان هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بالنصب. وقد قال سيبويه فيها: احتبى ابن مروان في لحنه، أى تمكن. وحيث تأيدت بقراءة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فلا بد من التماس المحمل الصحيح لها وليس ذلك ببعيد إن شاء الله فنقول: لو قالوا «ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن نحن» على طريقة:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ونحو: أنا أنا وأنت أنت. لم يكن في فصاحته مقال: وقد علمت أن معنى أنا أنا: أى أنا الموصوف بالأوصاف الشهيرة التي استغنى عن ذكرها، فلا بعد والحالة هذه في حذف الخبر، لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا، وراحة من تكرار اللفظ بعينه، والسياق يرشد إلى المحذوف، وإذا كان كذلك فقول القائلين لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ معناه: ونحن نحن، ولكن استغنوا عن الخبر للسر الذي ذكرناه، فقولهم: نَحْنُ كلام تام بالتقدير بالمذكور، فلا غرو في وقوع الحال بعده، وهذا بعينه يجرى في قوله هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فقوله هُنَّ في حكم الكلام التام. والمراد: هؤلاء بناتي هن المشهورات بالأوصاف الحميدة الظاهرة. وأصل الكلام: هن هن، فوقع الحال بعد التمام، والله أعلم.(2/446)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة ما حكى بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين أَرْضاً أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وقيل يَخْلُ لَكُمْ يفرغ لكم من الشغل بيوسف مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف، أى من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله مما جنيتم عليه.
أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم. وتَكُونُوا إمّا مجزوم عطفاً على يَخْلُ لَكُمْ أو منصوب بإضمار «أن والواو» بمعنى مع، كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ.
[سورة يوسف (12) : آية 10]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال، فلن أبرح الأرض.
قال لهم: القتل عظيم أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل:
وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِى غَيَابَتِى ... فَسِيرُوا بِسَيْرِى فِى الْعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ «1»
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرئ غيابات، على الجمع. وغيابات، بالتشديد. وقرأ الجحدري: غيبة. والجب: البئر لم تطو، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير يَلْتَقِطْهُ يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرئ: تلتقطه. بالتاء على المعنى، لأنّ بعض السيارة سيارة، كقوله:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ «2»
__________
(1) . للمنخل. والغيابة: ما غاب عن الناظر من أسفل البئر ونحوه. يقول: وإن غيبتني مقبرتى، كناية عن موته، فسيروا بسيرى، أى فانعونى وسيروا بذكر خصالى، على عادة العرب إذا مات منها رئيس. ويحتمل أنه يوصى أقاربه بالخير، وأنهم يسيرون بمثل سيره، ويفعلون كفعله في جيرانه وقرابته.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/447)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
ومنه: ذهبت بعض أصابعه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأى.
[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 12]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)
ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرئ بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و: تيمنا: بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة «1» وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه يَرْتَعْ نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. وقرئ: نرتع، من ارتعى يرتعى. وقرئ: يرتع ويلعب، بالياء، ويرتع، من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة:
يرتع بكسر العين، ويلعب، بالرفع على الابتداء. فإن قلت: كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت: كان لعبهم الاستباق والانتضال، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو، بدليل قوله إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
[سورة يوسف (12) : آية 13]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13)
لَيَحْزُنُنِي اللام لام الابتداء، كقوله إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما: أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه «2» برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل: رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم: «البلاء موكل بالمنطق» . وقرئ الذِّئْبُ بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من «تذاءبت الريح» إذا أتت من كل جهة.
__________
(1) . قوله «ما يدل على خلاف النصيحة والمقة» أى المحبة. وقد ومقه يمقه، بالكسر فيهما: أى أحبه، فهو وامق، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «اعتذر لهم بأمرين: أحدهما حزنه لمفارقته، والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه ...
الخ» قال أحمد: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل، فأمر سهل، فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه، والله أعلم.(2/448)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
[سورة يوسف (12) : آية 14]
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
القسم محذوف تقديره: والله لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ واللام موطئة للقسم. وقوله إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط، والواو في وَنَحْنُ عُصْبَةٌ واو الحال:
حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم- وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب- إنهم إذاً لقوم خاسرون، أى هالكون ضعفا وخوراً وعجزاً.
أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدّمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون.
وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها. فإن قلت: قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت: هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمرّين «1» فأعاروه آذاناً صما ولم يعبئوا به.
[سورة يوسف (12) : آية 15]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)
أَنْ يَجْعَلُوهُ مفعول أَجْمَعُوا من قولك: أجمع الأمر وأزمعه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ.
وقرئ: في غيابات الجب: قيل هو بئر بيت المقدس. وقيل: بأرض الأردنّ. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب «لما» محذوف. ومعناه: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روى أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العداوة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح: يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتمونى موثقاً ألا تقتلوه فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردّوا علىّ قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكى، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان
__________
(1) . قوله «ويذيقهم الأمرين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي، كذا بهامش. وفي الصحاح: الأمران:
الفقر والهرم. وفيه أيضاً: الأمر: المصارين يجتمع فيها الفرث. قال الشاعر:
فلا تهد الأمر وما يليه ... ولا تهدن معروق العظام
وقال أبو زيد: لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي اه (ع)(2/449)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قيل أُوحى إليه في الصغر كما أُوحى إلى يحيى وعيسى: وقيل كان إذ ذاك مدركا. وعن الحسن: كان له سبع عشرة سنة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وإنما أُوحى اليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أَمره. ومعناه: لتتخلصن مما أَنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أَوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أَنه كان لكم أَخ من أَبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأَنكم انطلقتم به وأَلقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم: أَكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أَن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بقوله وَأَوْحَيْنا على أَنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أَنيس له. وقرئ: لننبئنهم، بالنون على أَنه وعيد لهم. وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق بأوحينا لا غير.
[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)
وعن الحسن: عشيا، على تصغير عشىّ. يقال: لقيته عشيا وعشياناً، «1» وأصيلا وأصيلاناً ورواه ابن جنى: عشى، بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء. وروى أَن امرأَة حاكمت إلى شريح فبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية، أما تراها تبكى؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة: ولا ينبغي لأحد أن يقضى إلا بما أمر أن يقضى به من السنة المرضية. وروى أَنه لما سمع صوتهم «2» فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ هل أَصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال:
فما لكم وأين يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَى نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان
__________
(1) . قوله «يقال: لقيته عشياً وعشياناً» وهذا لو حذفت نونه صار عشيا، كقراءة الحسن. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «روى أنه لما سمع أصواتهم قال: يا بنى، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا.. الخ» قال أحمد: وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولا.
أكل الذئب إياه، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وكثيرا ما الأعذار الباطلة من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار.(2/450)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
كالانتضال والتناضل: والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى. نتسابق في العدو أو في الرمي.
وجاء في التفسير: ننتضل بِمُؤْمِنٍ لَنا بمصدّق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا، غير واثق بقولنا؟
[سورة يوسف (12) : آية 18]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
بِدَمٍ كَذِبٍ ذى كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه، والزور بذاته. ونحوه:
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ
وقرئ، كذباً. نصباً على الحال، بمعنى: جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولا له.
وقرأت عائشة رضى الله عنها: كدب، بالدال غير المعجمة، أى كدر. وقيل: طرى، وقال ابن جنى: أصله من الكدب، وهو الفوف «1» البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزلّ عنهم أن يمزقوه. وروى أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تا لله ما رأيت كاليوم ذنبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات: كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر. فإن قلت: عَلى قَمِيصِهِ ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت: لا، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء، أى: سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً عظيما ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم: استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أُوحى إليه بأنهم قصدوه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا أى فأمرى صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وفي قراءة أبىّ: فصبراً جميلا. والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع «أنه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» «2» ألا ترى إلى قوله نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
__________
(1) . قوله «وهو الفوف البياض» عبارة الصحاح: الفوف البياض الذي يكون في أظفار الأحداث اه، فجعل البياض خبرا عن الفوف وتفسيرا له، فلعله هنا: أى البياض. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق حيان بن أبى حثلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال: «صبر لا شكوى فيه. من بث لم يصبر» هذا مرسل.(2/451)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
وقيل: لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت. وقيل: سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب. خطيئة فاغفرها لي وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أى أستعينه عَلى احتمال ما تَصِفُونَ من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.
[سورة يوسف (12) : آية 19]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحاً. فعذب حين ألقى فيه يوسف فَأَرْسَلُوا رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقى للقوم يا بُشْرى نادى البشرى، كأنه يقول: تعالى، فهذا من آونتك. وقرئ: يا بشراى، على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: يا بشرى، بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومولىّ. وعن نافع:
يا بشراى بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. وقيل: لما أدلى دلوه أى أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراى هذا غُلامٌ وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به وَأَسَرُّوهُ الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وبِضاعَةً نصب على الحال، أى: أخفوه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أى قطع وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.
[سورة يوسف (12) : آية 20]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
وَشَرَوْهُ وباعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس ناقص عن القيامة نقصاناً ظاهراً، أو زيف(2/452)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
ناقص العيار دَراهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة «1» تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقيه وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة، لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها. وعن ابن عباس: كانت عشرين درهماً. وعن السدى:
اثنين وعشرين وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن «2» لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى وَشَرَوْهُ واشتروه، يعنى الرفقة من إخوته وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لأنهم اعتقدوا أنه آبق فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله فِيهِ ليس من صلة الزَّاهِدِينَ لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيدا من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أى شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه.
[سورة يوسف (12) : آية 21]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)
الَّذِي اشْتَراهُ قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه
__________
(1) . قال محمود: «المعدودة كناية عن القليلة ... الخ» قال أحمد: ومن التعبير عن القلة بالعدد: الدعوة المأثورة على الكفرة: «اللهم أحصهم عددا، واستأصلهم بددا ولا تبق منهم أحدا» فالمدعو به وإن كان إحصاؤهم عدداً في الظاهر، إلا أن هذا ليس مرادا لأن الله تعالى أحصى كل شيء عددا وأحاط به علما، فلا بد من مقصود وراء ذلك وهو لازم العدد وذلك القلة، فلما كان كل قليل معدودا وكل كثير غير معدود، دعى عليهم بالقلة وعبر عنها بلازمها وهو الإحصاء. والله أعلم.
(2) . قوله «فيبيعه بماطف من الثمن» أى قل. وفي الصحاح: الطفيف القليل. (ع)(2/453)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
مسكا وورقا وحريراً، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أى حسناً مرضياً، بدليل قوله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في لِامْرَأَتِهِ متعلقة بقال، لا باشتراه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيما لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وأبو بكر حين استخلف عمر رضى الله عنهما. وروى أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه وَكَذلِكَ الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف مَكَّنَّا له، أى: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضى. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيد الله.
[سورة يوسف (12) : آية 22]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قيل في الأشدّ: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون حُكْماً حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
[سورة يوسف (12) : آية 23]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أى:(2/454)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة.
وقرئ هَيْتَ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين، وعيط. وهيت كجير وهيت كحيث. وهثت بمعنى تهيأت. يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. وهيئت لك. واللام من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان «1» كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله معاذاً إِنَّهُ إن الشأن والحديث رَبِّي سيدي ومالكى، يريد قطفير أَحْسَنَ مَثْوايَ حين قال لك أكرمى مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم.
وقيل: أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب.
[سورة يوسف (12) : آية 24]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه. قال:
هَمَمْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِى ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكى حَلَائِلُهْ «2»
ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هما. أى ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ معناه. ولقد همت بمخالطته وَهَمَّ بِها وهمّ بمخالطتها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف، لأنّ قوله وَهَمَّ بِها يدل
__________
(1) . قوله «وأما في الأصوات فللبيان» في الصحاح: هيت به وهوت به، أى صاح به ودعاه. وفيه أيضا قولهم «هيت لك» أى هلم لك وفيه. هلم يا رجل- بفتح الميم-: بمعنى تعالى. (ع)
(2) . لعمير بن ضابئ البرجمي، دخل على عثمان وهو مقتول فوطئ بطنه وكسر ضلعه وقال: عزمت على قتل عثمان ولم أقتله، وكدت أن أفعل وليتني قتلته. وكنى عن ذلك بقوله: «تركت على عثمان تبكى حلائله» وهو من باب التنازع. وأصله: تركت على عثمان حلائله تبكى فجعل حلائله فاعلا. وحذف مفعول تركت الأول لعلمه من الكلام، ولأنه فضلة وهي لا تضمر في هذا الباب. والمعنى ليتني قتلته فصيرت نساءه تبكى عليه، ودخل هذا الرجل على الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين: أنا شيخ ضعيف، وخرج اسمى في هذا البعث، فاقبل ابني بديلا عنى فقبله منه وخرج فقال عتبة بن سعيد: أيها الأمير، هذا هو الذي فعل بعثمان كذا وكذا، فقال: ردوه على، فقال له:
أيها الشيخ، هلا بعثت إلى عثمان أمير المؤمنين بديلا يوم الدار؟ إن في قتلك صلاحا، يا حرسى، اضربا عنقه.
أمير الحرسي بقتله وخاطبه خطاب المثنى على لغة الحرس الذين نسب المخاطب إليهم هذا. وقيل: إن القصة مع ضابئ نفسه، وأن عثمان كان حبسه في هجوه بنى نهشل، فلما قتل عثمان أفلت وفعل به ذلك.(2/455)
عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت الله، معناه لولا أنى خفت الله. فإن قلت:
كيف جاز على نبىّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه «1» ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله وَهَمَّ بِها وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته «2» . كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله وَهَمَّ بِها داخل تحت حكم القسم في قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاما برأسه أن يقف على قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ويبتدئ قوله وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هو الجواب مقدما؟ قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز، فإن قلت: فلم جعلت «لولا» متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معا، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير. ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها، لولا أن رأى برهان ربه، فترك التوصل إلى حظه من الشهوة، فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً: أعرض عنها، فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب
__________
(1) . قوله «وقرمه» أى شدة شهوته، أفاده الصحاح.
(2) . قوله «مشافهته» لعله: ومشابهته.(2/456)
عاضا على أنملته. وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل:
بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ فلم ينصرف، ثم رأى فيها وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فلم ينته، ثم رأى فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام:
أدرك عبدى قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحيى منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحيى من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر «1» الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذى النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمى مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدى به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّى إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه بثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهى ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره. ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقى بأدنى ما لقى به
__________
(1) . قوله مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى» يريد بهم أهل السنة، ويريد بأهل العدل المعتزلة. وبهت الشخص: نسبه إلى قبيح لم يفعله، ولولا أن ذلك دائر بين السلف لما أوردوه. (ع)(2/457)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
نبى الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك. فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه كَذلِكَ الكاف منصوب المحل، أى مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أى الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ من خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ من الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح. الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.
ويجوز أن يريد بالسوء. مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله مِنْ عِبادِنَا معناه بعض عبادنا، أى: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 29]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت: كيف وحد الباب، وقد جمعه في قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ؟ قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل «1» يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من خلفه فانقد، أى انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي.
وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل:
ألفياه مقبلا يريد أن يدخل. وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك
__________
(1) . قوله «فراشة القفل» هو ما ينشب فيه. يقال أقفل فأفرش. (ع)(2/458)
الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها «1» جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ و «ما» نافية، أى: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أى شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: من في الدار إلا زيد. فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا «2» قلت:
قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولولا ذلك لكتم عليها وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» «3»
__________
(1) . قوله «إذ لم يؤاتها» في الصحاح: وتقول آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت: لم قالت ما قالت غير مصرحة بذكر يوسف ... الخ» ؟ قال أحمد: أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها: هذا أراد بى سوءاً ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد، وإبعاد للتهمة عنها بتوقى ما يشعر منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال: قول ابنة شعيب تمدح موسى عليه السلام فيما حكى الله عنها قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ولم تقل: إنه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفراً، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، والله أعلم.
(3) . أخرجه الحاكم وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة والبزار وأبو يعلى. والطبري والبيهقي في السادس عشر من الشعب كلهم من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «لما أسرى بى مرت رائحة طيبة- الحديث» فيه قصة الماشطة، وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكلم في المهد أربعة، وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وفي الحاكم أيضاً من رواية مسلم بن إبراهيم عن جريج بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رفعه «لم يتكلم في المهد إلا أربعة وهم صغار: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وذكره بلفظ ثلاثة. وذكر الثالث ابن المرأة التي ألقيت في النار. فخشيت على ولدها فكلمها» وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبى كان يرضع فمر رجل راكب على دابة- الحديث» اقتصر الطيبي على هذا الأخذ فلم يصب، وبهذا الاعتبار صاروا خمسة. وروى الثعلبي عن الضحاك أنهم ستة زادهم يحيى بن زكريا. [.....](2/459)
فإن قلت: لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ «1» قلت: لما أدّى مؤدّى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمى شهادة: فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل:
وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. فإن قلت: إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟
قلت: من وجهين، أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه «2» . وقرئ: من قبل،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة ... الخ» ؟ قال أحمد: مهما قدره من ذلك في اتباعه لها، يحتمل مثله في اتباعها له، فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون اجتذبها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة أن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين، ثم جذبت قميصه إليها من قبل، بل هاهنا أظهر، لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع.
(2) . عاد كلامه. قال: «والثاني أن يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فينقد» قال أحمد: وهذا بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها فانقد قميصه في إسراعه للفرار، والله أعلم. فليس كلام الزمخشري في هذا الفصل بذاك. والحق- والله ولى التوفيق- أن الشاهد المذكور إن كان صبيا في المهد كما ورد في بعض الحديث، فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه، حتى لو قال: صدق يوسف وكذبت، لكفى برهانا على صدقه عليه السلام، كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تبقى المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها، لأن العمدة في الدلالة نصبها لا مناسبتها، وإن كان الشاهد بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له وإقامة الحق كما ذكر الزمخشري. فهذا والله أعلم كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف ويكذبها، ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفى عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها- والله أعلم- هو التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فقدم قسم الكذب على قسم الصدق إزاحة التهمة التي خشي أن تنطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع. فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة. ومن ثم قال بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل: كل ما يعدكم تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن بخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه، والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة الآخرة فقط.
والمناسبة فيها محققة. وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم. فلم يلتمس لها مناسبة جلية صحيحة على اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قدمن قبل فهي صادقة.
لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة، فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير، فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم. وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.(2/460)
ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبى إسحاق أنه قرأ: من قبل ومن دبر بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا «1» بسكون العين. فإن قلت: كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان» ؟ قلت: لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك: إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن علىَّ أمتنَّ عليك فَلَمَّا رَأَى يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها قالَ إِنَّهُ إن قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً «2» أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف مِنْ كَيْدِكُنَّ الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة «3» ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البواتق «4» وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال:
خطئ، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال مِنَ الْخاطِئِينَ بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروى أنه كان قليل الغيرة.
__________
(1) . قوله «وقرئا» أى: قبل ودبر، وقوله «بسكون العين» : أى الباء. (ع)
(2) . قال محمود: «الضمير راجع إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ... الخ» قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكي. وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فان كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى، فكان ضعيفا بالنسبة إليه. ألا ترى أول الآية الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وأيضاً فان الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيد هن أعظم من كيده، والله أعلم.
(3) . قوله «نيقة» اسم للتأنق في الأمر. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «مع غيرهن من البوائق» أى الدواهي. أفاده الصحاح. (ع)(2/461)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 32]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وَقالَ نِسْوَةٌ وقال جماعة من النساء وكنّ خمسا: امرأة الساقي، وامرأَة الخباز، وامرأَة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة: اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقى كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها فِي الْمَدِينَةِ في مصر امْرَأَتُ الْعَزِيزِ يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب فَتاها غلامها. يقال: فتاي وفتأتي، أى غلامى وجاريتي شَغَفَها خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب.
قال النابغة:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِجٌ ... مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيِه الأَصَابِعُ «1»
__________
(1) .
وقد حال هم دون ذلك والج ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبى قابوس في غير كنهه ... أتانى ودوني راكش فالضواجع
النابغة، يعتذر إلى النعمان ملك العرب عما قذفه به الواشون، أى وقد حال هم دون التغزل في المحبوبة وغيره من اللذات «والج» داخل مكان الشغاف. ويروى «ولوج الشغاف» أى كولوجه، والشغاف: داء في القلب جهة اليمين تخرجه الأطباء بأصابعهم، فتبتغيه الأصابع: من صفته على أنه حال منه. وقيل: حجاب القلب، أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، فتبتغيه: صفة للهم، وشبه الأصابع بمن يصح منه الطلب على طريق المكنية والابتغاء تخييل، ثم إنه شبه الهم المعقول بمحسوس وبالغ في ذلك حتى ادعى أن الأصابع تفتش عليه فلا تجده لشدة ولوجه وكمونه في القلب، أو تلمسه وتريد إخراجه. وبين الهم بقوله: وعيد النعمان أبى قابوس وتهديده حال كونه في غير كنه وحقيقته، أى: لم يبلغني بكماله. أو لأنه بلا سبب حصل منى، بل افترى الوشاة على كذباً جاءني. ودوني:
؟؟؟ أمامى هذين الموضعين وهما مسافة بعيدة، ومع ذلك أدركنى الخوف أو بعد المسافة، دلالة على غضب الملك عليه غضباً شديداً.(2/462)
وقرئ: شعفها، بالعين، من شعف البعير إذا هنأه «1» فأحرقه بالقطران، قال:
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالِى «2»
وحُبًّا نصب على التمييز فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ وبُعدٍ عن طريق الصواب بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهنّ وسوء قالتهنّ، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانى ومقتها، وسمى الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالى غيبة، كما يخفى الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ دعتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي فعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن «3» ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولنهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل: متكأ:
مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك «نهى أن يأكل الرجل متكئا» «4» وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل مُتَّكَأً طعاما، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا «5» ، على سبيل الكناية، لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له
__________
(1) . قوله «إذا هنأه» في الصحاح «هنأت البعير» إذا طليته بالهناء. وهو القطران. (ع)
(2) .
أتقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالى
لامرئ القيس، والاستفهام للإنكار والاستبعاد، أو للتعجب. وشعف الجمل: إذا أحرقه بالقطران المغلي على النار، وهنأه: دهنه بذلك القطران، فأطلق الشعف وأريد منه مطلق الإحراق، ثم أريد منه الإحراق بالعشق مجازاً مرسلا ليصح التشبيه في قوله: كما أحرق الإبل المدهونة الداهن لها. وإن كان شغفت بالغين المعجمة فالمعنى:
أصبت شغاف قلبها بالحب، وهو حجاب القلب أو لسانه أو حبة سوداء في وسطه، كما شغف: أى أخاف الإبل المدهونة وراع قلبها الرجل الداهن لها. لأنها تخافه في الأول. وقيل: شبه حبها باستلذاذ الإبل لذلك الطلى بعد دهنها به.
(3) . قوله «يدهشن» أى يتحيرن. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن ابن الزبير عن جابر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أحدنا بشماله وبأن يأكل متكئاً» وفي الطبري من حديث ابن مسعود «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين وصلاتين ولباسين ومطعمين وبيعتين» ومنكحين- إلى أن قال: وأما المطعمان فأن يأكل الرجل بشماله ويمينه صحيح. وأن يأكل متكئا، إسناده جيد. وله في الأوسط وفي مسند الشاميين من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تأكل متكئاً. ولا تتخط رقاب الناس يوم الجمعة» وأعله ابن حبان في الضعفاء بزريق بن عبد الله رواية عن عمرو بن الأسود عن أبى الدرداء. وفي الباب عن ابن أبى إهاب.
أخرجه البزار بلفظ «نهى أن نأكل متكئين» .
(5) . قوله «طعمنا» لعله «أى طعمناه» . (ع)(2/463)
تكأة يتكئ عليها. قال جميل:
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهْ «1»
وعن مجاهد مُتَّكَأً طعاما يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين، لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. وقرئ متكا بغير همز. وعن الحسن: متكاء بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله «بُمْنتَزاحِ» «2» بمعنى بمنتزح. ونحوه «يَنْبَاعُ» «3» بمعنى ينبع. وقرئ:
متكا وهو الأترج، وأنشد:
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِى أبِيهَا ... تَخُبُّ بِهَا العثَمْثَمَةُ الْوِقَاحُ «4»
وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل: الزماورد «5» وعن وهب: أترجا وموزاً وبطيخا.
وقيل: أعتدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج: مُتَّكَأً مفعلا، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق.
قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بى إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟
فقال يوسف» فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال «كالقمر ليلة البدر «6» » وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها.
__________
(1) . لحميد بن ثور. وقيل لجميل بن معمر. وظل يظل من باب علم. يقول: فظللنا في نعمة أو ملتبسين بنعمة.
واتكأنا: أصله اوتكأنا فتاؤه الأولى واو: أى اتخذنا متكأ اضطجعنا عليه، وشربنا الشراب الحلال يمنى النبيذ، من قلله: جمع قلة، وهي الجرة العظيمة. ففي ذكر القلل دلالة على التوسع في الشرب وعدم التحجر فيه.
(2) . قوله «بمنتزاح» هو من قول الشاعر:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... وعن ذم الرجال بمنتزاح
والبيت لابن هرمة يرثى ابنه. والغوائل: الحوادث التي تغتال النفوس وتهلكها. ونزح: إذا بعد، والمنتزح:
اسم لمكان البعد، وأشبعت فتحته فتولدت منها الألف كقولهم: ينباع في ينبع، وعقراب في عقرب. [.....]
(3) . قوله «ينباع» هو من قول الشاعر:
ينباع من ذفرى أسيل حرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم
وقد مر شرح هذا البيت في سورة الأعراف بهذا الجزء صفحة 122 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . المتكة: الأترجة، وكأنه التي ذكر أبو داود في سننه أنها شقت نصفين وحملت على ناقة. والخبب:
نوع من السير. والعثمثمة: الصلبة: والوقاح- بالفتح-: شديدة وقع الخف على الأرض.
(5) . قوله «الزماورد» هو الرقاق المحشو باللحم. (ع)
(6) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى هارون العبدى عن أبى سعيد. وأخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه من هذا الوجه مطولا.(2/464)
وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ ... فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ فِى الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ «1»
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها حاشَ كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال:
حَاشَا أَبِى ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ ... ضَنَّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ «2»
وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا الله» براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ:
حاشا لله، فنحو قولك: سقيا لك، كأنه قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه.
والدليل على تنزيل «حاشا» منزلة المصدر: قراءة أبى السمال: حاشَ لِلَّهِ، بالتنوين. وقراءة أبى عمرو حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف الأولى.
وقرئ حاشَ لِلَّهِ بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه. وقرئ: حاشا الإله. فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى: براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى
__________
(1) . لأبى الطيب، يقول: اتق الله واستر هذا الجمال الذي في وجهك ببرقع، لأنك إن ظهرت حاضت العواتق، أى خيار النساء وهن في خدورهن، لما ينظرن من جمالك. ولاح يلوح: ظهر يظهر.
(2) .
حاشا أبى ثوبان إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم
عمرو بن عبد الله إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم
للمنقذ بن الطماح وهو الجميح الأسدى. وحاشا: كلمة تبرئة وتنزيه واقعة موقع المصدر مضافة لما بعدها، كسبحان الله. ويجوز أنها حاشا الاستثنائية، وهي حرف جر عند الأكثر. ورواه الضبي: حاشا أبا ثوبان بالنصب، فهو فعل، واحتمال لغة القصر ضعيف لشهرة لغة الاعراب بالحروف. وعلى الأول فبناؤها لمشابهتها للحرفية لفظا ومعنى.
وبكم الرجل- كتعب-: إذا عجز عن الكلام. وقدم كسهل وظرف، إذا عجز عن الحجة كأن فمه مسدود.
والضن- بالكسر-: البخل. والملحاة: مفعلة، من لحاه إذا لامه. واللحاء- كالرداء- مفاعلة من اللحن والعذل، من لحوت العود إذا قشرته. وتكرير أبى ثوبان لتعظيمه والتنويه باسمه، ليس ببكمة بالضم، أى ذى بكمة، أى:
ليس بأبكم، ولا قدم: أى عاجز عن الكلام. وعمرو: قيل إنه بدل من أبى ثوبان، فقوله: إن أبا ثوبان الخ:
جملة اعتراضية مبينة لوجه التنزيه. وفي قوله: إن به ضنا، بيان لوجه سكوته عن مؤاخذة اللئام. والمعنى: إن به امتناعا وتنزها عن اللؤم والشتم.(2/465)
قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى «1» في قوله «غدت من عليه» منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه «2» ، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأنّ الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة «3» المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية «4» وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ومن قرأ على سليقته من بنى تميم، قرأ «بشر» بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: ما هذا بشرى، أى ما هو بعبد مملوك لئيم إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ تقول هذا بشرى، أى حاصل بشرى، بمعنى: هذا مشرى. وتقول: هذا لك بشرى أم بكرى؟
والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف، ومطابقة بشر لملك قالَتْ فَذلِكُنَّ ولم تقل فهذا وهو حاضر «5» ، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً
__________
(1) . قوله «على أصله وعلى في قوله» عطفه يحتاج إلى تكلف، أى: وإلى قوله غدت من عليه بعد مأتم ظمؤها كيف ترك على في قوله. ويمكن أن التقدير: ألا ترى إلى قولهم الخ وعلى في قوله أى: وألا ترى على ... الخ. (ع)
(2) . قال محمود: «نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه ... الخ» قال أحمد: تقدم القول في مسألة التفضيل شافياً، والزمخشري لا يدعه التعصب للمعتقد الفاسد أن يحمله على مثل هذه المشافهات، يرمى بها أهل الحق فينسب إليهم الإجبار والخسار والمكابرة في الضروريات وجحد الحقائق تعكيساً، وهذا كله هم برآء منه، وحسبه من المقابلة بذلك خطؤه في اعتقاد أن تفضيل الملك عند قائله ليس ضروريا ولا عقلياً نظريا، ولكن سمعياً، وقد قنع في الاستدلال على هذه العقيدة بالضرورة التي ادعى أنها مركوزة في الطباع، ثم حكم بأن كل مركوز في الطباع حق، وخصوصاً والكلام في طباع النساء القائلات: ما هذا بشرا. وإذا كان كل مركوز في الطباع حقاً، فما ركز فيها حب الشهوات وإيثار العاجلة وجميع أمهات. الذنوب مركوز في الطباع، أفيكون ذلك حقاً إلا عند ناظر بعين الهوى، أعشى في سبيل الهدى، والله ولى التوفيق.
(3) . قوله «إلا ما عليه الفئة الخاسئة» يريد أهل السنة، وقد أساء في تعصبه للمعتزلة فعفا الله عنه. (ع)
(4) . قوله «ليس هي اللغة القدمى الحجازية» بمعنى القديمة، لكن لم يذكرها في الصحاح. (ع)
(5) . قال محمود: «لم لم تقل فهذا وهو حاضر ... الخ» قال أحمد: وبهذا أجبت عما أورده من السؤال في قوله تعالى أول البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لما جعل الاشارة إلى الحروف المذكورة فقال: إن قلت كيف أشار إليها وهي قريبة كما يشار إلى البعيد، وأجاب هو بأن كل متقض بعيد، وأجبت أنا بأن الاشارة بذلك إلى بعيد منزلة هذا الكتاب بالنسبة إلى كتب الله تعالى.(2/466)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
لمحله. ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنىّ بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعانى. تقول: هو ذلك العبد الكنعانى الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعنى: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتننى في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأى واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. فإن قلت: الضمير في آمُرُهُ راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية، فيرجع إلى يوسف. ومعناه: ولئن لم يفعل أمرى إياه، أى موجب أمرى ومقتضاه. قرئ وَلَيَكُوناً بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وقرئ السِّجْنُ بالفتح، على المصدر. وقال يَدْعُونَنِي على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزيّن له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلى من ركوب المعصية. فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهنّ. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا، لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. وقرئ: أصب إليهنّ، من الصبابة مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي(2/467)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف السَّمِيعُ لدعوات الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم وما يصلحهم.
[سورة يوسف (12) : آية 35]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
بَدا لَهُمْ فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: ليسجننه، والمعنى: بدا لهم بداء، أى: ظهر لهم رأى ليسجننه، والضمير في لَهُمْ للعزيز وأهله مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب «1» وكان مطواعة لها وجميلا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أو عدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: لتسجننه، بالتاء على الخطاب: خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم حَتَّى حِينٍ إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود: عتى حين، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقرأ «عتى حين» فقال: من أقرأك؟ قال:
ابن مسعود. فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.
[سورة يوسف (12) : آية 36]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
«مع» يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحبا له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له فَتَيانِ عبدان للملك: خبازه وشرابيه: رقى إليه أنهما يسمانه، «2» فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام إِنِّي أَرانِي يعنى في المنام، وهي حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً يعنى عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر- بلغة عمان-: اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود: أعصر عنبا مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أمى: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن
__________
(1) . قوله «وفتلها منه في الذروة» أى دورانها من وراء خديعته. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «رقى إليه أنهما يسمانه» في الصحاح: رقى إليه الكلام ترقية، أى: رفع إليه. (ع)(2/468)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم.
أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روى أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا. اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجرا، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال، أنا يوسف ابن صفىّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكنى أحسن جوارك، فكن في أى بيوت السجن شئت. وروى أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشد كما بالله أن لا تحبانى، فو الله ما أحبنى أحد قط إلا دخل علىّ من حبه بلاء، لقد أحبتنى عمتي فدخل علىّ من حبها بلاء، ثم أحبنى أبى فدخل علىّ من حبه بلاء، ثم أحبتنى زوجة صاحبي فدخل علىّ من حبها بلاء، فلا تحبانى- بارك الله فيكما- وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي، إنى أرانى في بستان، فإذا بأصل حبلة «1» عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ؟ قلت: إلى ما قصا عليه. والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 38]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك «2» فوصل به وصف نفسه بما هو فوق
__________
(1) . قوله «فإذا بأصل حبلة» في الصحاح «الحبلة» بالضم: ثمر العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك والحبلة- بالتحريك-: القضيب من الكرم. وفيه أيضا: سلة الخبز معروفة. (ع) [.....]
(2) . قوله «افترص ذلك» أى اتخذه فرصة، أى نوبة وحظا ونصيبا، أفاده الصحاح. (ع)(2/469)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذى علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، فيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية بِتَأْوِيلِهِ ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك بشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ذلِكُما إشارة لهما إلى التأويل، أى ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي وأوحى به إلىّ ولم أقله عن تكهن وتنجم إِنِّي تَرَكْتُ يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلا لما قبله. أى علمني ذلك وأوحى إلىّ، لأنى رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء. ويجوز أن يكون فيه تعريض بما منى به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبىّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله ما كانَ لَنا ما صحّ لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ أى شيء كان من ملك أو جنىّ أو إنسىّ، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر، ثم قال ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ أى على الرسل وعلى المرسل إليهم، لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم لا يَشْكُرُونَ فضل الله فيشركون ولا يتنبهون. وقيل: إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)(2/470)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ يريد يا صاحبيَّ في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك: يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول رجلا صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبد كما هذا ويستعبد كما هذا خَيْرٌ لكما أَمِ أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو الْقَهَّارُ الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام ما تَعْبُدُونَ خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر إِلَّا أَسْماءً يعنى أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى سَمَّيْتُمُوها سميتم بها. يقال: سميته بزيد، وسميته زيداً ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أى بتسميتها مِنْ سُلْطانٍ من حجة إِنِ الْحُكْمُ في أمر العبادة والدين إِلَّا لِلَّهِ ثم بين ما حكم به فقال أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت الذي دلت عليه البراهين.
[سورة يوسف (12) : آية 41]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)
أَمَّا أَحَدُكُما يريد الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده. وقرأ عكرمة: فيسقى ربه، أى يسقى ما يروى به على البناء للمفعول. روى أنه قال للأوّل: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضى في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وتم ما تَسْتَفْتِيانِ فيه من أمر كما وشأنكما. فإن قلت: ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله، وظنا أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما: قضى الأمر الذي فيه تستفتيان، أى: ما يجرّ إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل: جحدا وقالا: ما رأينا شيئاً، على ما روى(2/471)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.
[سورة يوسف (12) : آية 42]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحى فالظان هو الشرابي، ويكون الظنّ بمعنى اليقين اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ صنفي عند الملك بصفتى، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشنى من هذه الورطة فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ فأنسى الشرابي ذِكْرَ رَبِّهِ أن يذكره لربه. وقيل فأنسى يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين. فإن قلت: كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت: يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره. وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها. فإن قلت: ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت: قد لابسه في قولك: فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير: فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار. فإن قلت: لم أنكر على يوسف الاستغاثة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وقال حكاية عن عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وفي الحديث «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم» «1» «من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة» وعن عائشة رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه «2» . وهل ذلك إلا مثل التداوى بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة. وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ؟
قلت: كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في أثناء حديث.
(2) . متفق عليه من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عنها بلفظ «أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابى يحرسنى الليلة. قال: وسمعت صوت السلاح فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سعد بن أبى وقاص: يا رسول الله جئت أحرسك. فقالت عائشة فنام حتى سمعت غطيطه» وغفل الحاكم فاستدركه.(2/472)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلى ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً، لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا. وعن الحسن أنه كان يبكى إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.
[سورة يوسف (12) : آية 43]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)
لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر «الريان بن الوليد» رؤيا عجيبة هالته: رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس. وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها سِمانٍ جمع سمين وسمينة، وكذلك رجال ونسوة كرام. فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سِمانٍ صفة للميز وهو بَقَراتٍ دون المميز وهو سَبْعَ وأن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت:
إذا أوقعتها صفة لبقرات. فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ. ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟
قلت، التمييز موضوع لبيان الجنس، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده. فإن قلت:
فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها:
صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجر في غيرها. ألا تراك لا تقول:
عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ. فإن قلت: ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه.
ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات؟ قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء بقولك سَبْعٌ عِجافٌ عما تقترحه من التمييز بالوصف. والعجف: الهزال الذي ليس بعده، والسبب في وقوع «عجاف» جمعا «لعجفاء» وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال: حمله على سمان، لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض. فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد(2/473)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ بمعنى وسبعاً أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ على سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدى إلى تدافع، وهو أن عطفها على سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ يقتضى أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة، ولفظ الأخر يقتضى أن تكون غير السبع، بيانه: أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود، بالجرّ، فيصح، لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود، فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود، تدافع ففسد يا أَيُّهَا الْمَلَأُ كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء. واللام في قوله لِلرُّءْيا إما أن تكون للبيان، كقوله وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وإما أن تدخل، لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل، إذا قلت: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوة. ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه. وتَعْبُرُونَ خبر آخر. أو حال، وأن يضمن تَعْبُرُونَ معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره «1» . ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. وعبرت الرؤيا- بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد والتعبير والمعبر. وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا ... وَكُنْتُ لِلْأحْلَامِ عَبَّارَا «2»
[سورة يوسف (12) : آية 44]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
أَضْغاثُ أَحْلامٍ تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان.
وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات وحزم، الواحد: ضغث، فاستعيرت لذلك،
__________
(1) . قوله «آخر عرضه وهو عبره» في الصحاح: «عبر النهر، وعبر شطره وجانبه. (ع)
(2) . أنشده المبرد في كتابه. والرؤيا- بالألف: مصدر رأى المنامية، ويقل مجيئه بالتاء. ومصدر البصرية بالعكس، وعبرت الرؤيا- بالتخفيف وبالتضعيف كما هنا-: ذكرت عاقبتها وأدركت غايتها كأولتها، إذا ذكرت مآلها ومرجعها. والأحلام: جمع حلم بالضم، وهو ما يراه النائم. والعبار: مبالغة في المعبر أو في العابر، واللام تزاد في المعمول لتقوية العامل إذا ضعف بالتأخر، أو بكونه فرعا عن الفعل، وقد اجتمع الأمران هاهنا فزيدت اللام.(2/474)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
والإضافة بمعنى «من» أى أضغاث من أحلام. والمعنى: هي أضغاث أحلام. فإن قلت: ما هو إلا حلم واحد، فلم قالوا: أضغاث أحلام فجمعوا؟ قلت: هو كما تقول: فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة، تزيدا في الوصف، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان، فجعلوه أضغاث أحلام. ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة «1» خاصة، فيقولوا: ليس لها عندنا تأويل، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير «2» .
[سورة يوسف (12) : آية 45]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
قرئ وَادَّكَرَ بالدال وهو الفصيح. وعن الحسن: واذكر، بالذال المعجمة. والأصل:
تذكر، أى تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه بَعْدَ أُمَّةٍ بعد مدّة طويلة، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك. وقرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّةٍ بكسر الهمزة، والإمّة النعمة. قال عدى:
ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَ ... الْإِمَّةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ الْقُبُورُ «3»
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون مرادهم بالأحلام المنامات ... الخ» قال أحمد: وهذا هو الظاهر، وحمل الكلام على الأول يصيره من وادى:
على لا حب لا يهتدى بمناره
كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله- إلى قوله- لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون: دليل أيضاً على ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «بنحارير» جمع نحرير وهو العالم المتقن، كما في الصحاح. (ع)
(3) .
أين كسرى كسرى الملوك أبو سا ... سان بل أين قبله سابور
ثم بعد الفلاح والملك والامة ... وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فأولت به الصبا والدبور
لعدي بن زيد. وكسرى وساسان وسابور: أسماء ملوك وساسان: هو أبو الأكاسرة. ويروى: أنو شروان، بدل أبو ساسان، فهو كلمة واحدة. وكسرى الثاني بدل من الأول، مضاف لما بعده، كما يقال: ملك الملوك، وهو فارسى معرب، وأصله خسرو، فغيرته العربية. وإن كان عربيا مأخوذا من الكسر، فالمعنى أنه كان يكسر شوكة الملوك، وما بعد عطف بيان له وقيله متعلق بمحذوف حال من سابور وفي «بل» دلالة على أن سابور أعظم منهما. وثم- بالفتح- ظرف خبر لمحذوف أى هم ثم. وإن ضمت فهي عاطفة على محذوف، أى أفلحوا ثم بعد الفلاح، أى البقاء أو الفوز والملك. وروى بدله «الرشد» . والامة- بالكسر-: النعمة، وبالضم: الجيش العظيم. وارتهم: أى سترتهم قبورهم في ذلك المكان، كناية عن موتهم، فيدفنون في باطن الأرض بعد عظمتهم على وجهها، ثم شبههم بالورق الذي جف فاختلفت به الصبا والدبور، فهذه نظيرة كذا وهذه نظيرة كذا، فألوت بمعنى التوت، أو بمعنى: أوقعت به الى، يعنى تطاول بهم الزمان حتى تفتت عظامهم وصارت كذلك.(2/475)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
أى بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرئ بَعْدَ أُمَّةٍ بعد نسيان «1» . يقال: أمه يأمه أمها، إذا نسى. ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ «2» أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أنا أخبركم به عمن عنده علمه.
وفي قراءة الحسن: أنا آتيكم بتأويله فَأَرْسِلُونِ فابعثونى إليه لأسأله، ومرونى باستعباره.
وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة.
[سورة يوسف (12) : آية 46]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل، ولذلك كلمه كلام محترز فقال لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لأنه ليس على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا. أو معنى لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
تَزْرَعُونَ خبر في معنى الأمر، كقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه.
والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. دَأَباً بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدرا: دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أى دائبين: إمّا على تدأبون دأباً، وإمّا على إيقاع المصدر حالا، بمعنى: ذوى دأب فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا يتسوس. ويَأْكُلْنَ
__________
(1) . قوله «قرئ بعد أمه بعد نسيان» لعله أى بعد. (ع)
(2) . قوله «ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ» بمعنى أثم من الخطأ بالكسر، وهو الإثم. أفاده الصحاح. (ع)(2/476)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
من الإسناد المجازى: جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبؤن يُغاثُ النَّاسُ من الغوث أو من الغيث. يقال: غيثت البلاد، إذا مطرت. ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.
يَعْصِرُونَ بالياء والتاء: يعصرون العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع.
وقرئ: يعصرون، على البناء للمفعول، من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبنى للفاعل بمعنى ينجون، كأنه قيل: فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أى يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل يَعْصِرُونَ يمطرون، من أعصرت السحابة. وفيه وجهان: إمّا أن يضمن أعصرت معنى مطرت، فيعدّى تعديته. وإمّا أن يقال: الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل. تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركا خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحى. وعن قتادة: زاده الله علم سنة.
فإن قلت: معلوم أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لم توصف بالانتهاء، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحى؟ قلت: ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلا. وقوله فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ تفصيل لحال العام، وذلك لا يعلم إلا بالوحي.
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 51]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف «1» به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون «2» إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه.
وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفى التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه السلام:
__________
(1) . قال محمود: «إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك لتظهر براءة ساحته عما قرف به ... الخ» قال أحمد: ولقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة بقوله: ولو لبثت في السجن بعض ما لبثت يوسف لأجبت الداعي، وكان في طيّ هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم من أنه هم بزليخا هما يؤاخذ به، لأنه إذا صبر وتثبت فيما له أن لا يصير فيه وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوفرة على الخروج منه، فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر، والله أعلم.
(2) . قوله «عما قرف به الخ» أى اتهم به. والتسلق: التوسل. (ع)(2/477)
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم «1» » ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه- «هي فلانة» «2» اتقاء للتهمة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره- والله يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجونى. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة «3» وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة» . وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث «4» حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل. وقرئ النِّسْوَةِ بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ إِنَّ رَبِّي إنّ الله تعالى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه، وأنه بريء مما قرف به. أو أراد الوعيد لهنّ، أى: هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أى ثبت واستقرّ وقرئ حَصْحَصَ على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته «5» للإناخة. قال
__________
(1) . يأتى في الأحزاب.
(2) . متفق عليه من حديث على بن الحسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معى ليقلبنى. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار. فلما رأياه أسرعا. فقال: على رسلكما، إنما صفية- الحديث» [.....]
(3) . أخرجه عبد الرزاق والطبري من طريقه عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة بهذا بدون قوله «إن كان لحليما ذا أناة» وصله إسحاق من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بمعناه وزاد: ولولا الكلمة التي قالها ما لبث في السجن حتى يبتغى الفرج من عند غير الله- يعنى قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق إسحاق. وأما قوله «إن كان لحليما ذا أناة» فأخرج الطبري من رواية أبى إسحاق عن رجل لم يسم عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلى لخرجت سريعا، إن كان لحليما ذا أناة» ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبى بكر عن الزهري وعن الأعرج عن أبى هريرة.
(4) . قوله «وفص الحديث» في الصحاح «فص الأمر» مفصله. (ع)
(5) . قوله «ألقى ثفناته للاناخة» هي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما، كذا في الصحاح. (ع)(2/478)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
فَحَصْحَصَ فِى صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِهِ ... وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا «1»
ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة «2» واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهنّ خصومه. وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. وقالت المجبرة والحشوية «3» نحن قد بقي لنا مقال، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته.
[سورة يوسف (12) : آية 52]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
ذلِكَ لِيَعْلَمَ من كلام يوسف، «4» أى ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بظهر الغيب في حرمته. ومحل بِالْغَيْبِ الحال «5» من الفاعل أو المفعول، على معنى: وأنا غائب عنه خفى عن عينه أو وهو غائب عنى خفى عن عينى. ويجوز أن يكون ظرفا، أى بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة وَليعلم أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدّده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده.
__________
(1) . لحميد بن ثور يصف بعيرا بأنه ألقى في الحجارة الصلبة أعضاءه التي يبرك عليها عند الاناخة، والصم جمع صماء أو أصم أى صلب. وناء: أى قام متثاقلا بسلمى محبوبتى نوأة ونهضة واحدة لم يتردد، ثم صمم وعزم على السير. وروى أن سمرة بن جندب أتى برجل عنين، فاشترى له جارية من بيت المال وأدخلها معه ليلة، فلما أصبح قال له: ما صنعت؟ قال: فعلت حتى حصحصت فيه، فسألها فقالت: لم يصنع شيئا. فقال: دخل سبيلها.
(2) . قال محمود: «لا مزيد على شهادتهن له بالبراءة واعترافهن على أنفسهن ... الخ» قال أحمد: الصحيح من مذاهب أهل السنة تنزيه الأنبياء عن الكبائر والصغائر جميعا، وتتبع الآي المشعرة بوقوع الصغائر بالتأويل. وذهب منهم طائفة مع القدرية إلى تجويز الصغائر عليهم، بشرط أن لا تكون منفرة. والصحيح عندنا في قصة يوسف عليه السلام أنه مبرأ عن الوقوع فيما يؤاخذ به، وإن الوقف عند قوله هَمَّتْ بِهِ ثم يبتدأ وَهَمَّ بِها. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كما تقول. قتلت زيداً لولا أننى أخاف الله، فلا يكون الهم واقعا لوجود المانع منه، وهو رؤية البرهان. فان كان الزمخشري يعرض بأهل السنة فقد بينا معتقدهم، وإن كان يعرض بالمجبرة والحشوية حقيقة، فشأنه وإياهم.
(3) . قوله و «قالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال ولا بد لنا من أن ندق في فروة» يريد أهل السنة وقوله نحن قد بقي لنا الخ يعنى أن حالهم في تفسير الهم والبرهان يمثل بذلك. والفروة: جلدة الرأس. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «وقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ الخ: من كلام يوسف عليه السلام والمعنى أن ذلك الجد في ظهور البراءة ليعلم ... الخ» قال أحمد: وإرادته لعموم الأحوال أدخل في تنزيهه، وأدل على أن الغرض بهذا الكلام التواضع منه والتبري من تزكية النفس، فهو أدل على هذا المعنى من حمله على الحادثة الخاصة والله أعلم.
(5) . قوله «ومحل بالغيب الحال من الفاعل» لعله محل الحال أو النصب على الحال. (ع)(2/479)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1» وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إمّا أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإمّا أن يريد به عموم الأحوال إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أراد الجنس، أى إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا البعض الذي رحمه ربى بالعصمة كالملائكة. ويجوز أن يكون ما رَحِمَ في معنى الزمن، أى: إلا وقت رحمة ربى، يعنى أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أى:
ولكن رحمة ربى هي التي تصرف الإساءة، كقوله وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً وقيل معناه: ذلك ليعلم أنى لم أخنه لأنّ المعصية خيانة. وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، «2» أى ذلك الذي قلت ليعلم
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة، دون قوله «ولا فخر» وذكره بإثباتها أبو نعيم في الدلائل، من رواية سهيل عن أبيه عنه في أثناء حديث. ورواه ابن أبى عاصم في الآداب له من حديث عائشة بإثباتها. وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وواثلة وأبى بكر الصديق. ورواه الترمذي من رواية أبى نضرة عن أبى سعيد بلفظ «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» الحديث وقال: حسن. ورواه بعضهم عن أبى نضرة ابن عامر. وهو عند أحمد وأبى يعلى وأبى نعيم والبيهقي في الدلائل. وهما من طريق أبى نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فذكره. ولحديث ابن عباس طريق آخر أخرجها الدارقطني في الأفراد من رواية خارجة بن مصعب. وهو ضعيف عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأخرى عن ابن مردويه في أثناء حديث الاسراء بإسناد واه. وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند الحاكم وإسناده منقطع وعن أنس عن البزار. وفيه مبارك بن سحيمة. وهو متروك، وعند أبى يعلى وفيه زيادة بن ميمون البختري وعن عبد الله بن سلام أخرجه أبو يعلى والطبراني من رواية بشر بن شفاف عنه. وهو معلول. والمحفوظ عن بشر بن شفاف عن عبد الله بن عمرو. وعن جابر أخرجه الحاكم. وفيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل. وهو متروك.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقيل ذلك كله كلام امرأة العزيز أى ذلك الذي قلت ... الخ» قال أحمد: وإنما يجرى الكلام على هذا الوجه إذا ألجأ إليه محوج، كقوله فَماذا تَأْمُرُونَ إذ لا يمكن جعله من قول الملأ بوجه، فتعين أنّ يصرف الضمير عنه إلى فرعون. وأما هذه الآية فهي تتلو قوله وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إلى ما قبل ذلك من الضمائر العائدة إلى يوسف عليه السلام قطعاً، ولا ضرورة تدعو إلى حمل الضمير في لِيَعْلَمَ على العزيز وجعله من كلام يوسف، وقد تضمنته الآية المصدرة بقول زليخا، وذلك قوله قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وفي سياق الآية ما يرشد إلى أن هذا القول جرى منها ويوسف عليه السلام بعد في السجن لم يحضر إلى الملك، وأنه لما تحتمت براءته بقولها بعث يخرجه من السجن، فذلك قوله وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.(2/480)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
يوسف أنى لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة، فإنى قد خنته حين قرفته «1» وقلت «جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن وأودعته السجن- تريد الاعتذار مما كان منها- إنّ كل نفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربى: إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟
قلت: كفى بالمعنى دليلا قائدا «2» إلى أن يجعل من كلامه. ونحوه قوله قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثم قال فَماذا تَأْمُرُونَ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم. وعن ابن جريج: هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن ذلِكَ لِيَعْلَمَ متصل بقوله فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ولقد لفقت المبطلة «3» روايات مصنوعة، «4» فزعموا أن يوسف حين قال أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: ولا حين هممت بها، وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله «5» .
[سورة يوسف (12) : آية 54]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به فَلَمَّا كَلَّمَهُ وشاهد منه ما لم يحتسب قالَ أيها الصديق إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة أَمِينٌ مؤتمن على كل شيء. روى أنّ الرسول جاءه فقال: أحب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى «6» وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة
__________
(1) . قوله «حين قرفته» أى اتهمته. (ع)
(2) . قوله «دليلا قائداً» أى مؤديا. (ع)
(3) . قوله «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة» يريد أهل السنة الذين سماهم المجبرة فيما مر. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة ... الخ» قال أحمد: ولقد صدق في التوريك على نقله هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة، كما لفقت القدرية على قصة موسى حين طلب الرؤية وخر صعقاً أن الملائكة جعلت تلكزه بأرجلها وتقول: يا ابن النساء الحيض طمعت في رؤية رب العزة، كل ذلك ليتم لهم غرضهم في أنه طلب محالا في العقول على الله تعالى، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل، والله الموفق. [.....]
(5) . قوله «وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله» أى اتهامهم بما لم يفعله. أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قوله «البلوى» عبارة النسفي البلواء. (ع)(2/481)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جدداً»
فلما دخل على الملك قال:
اللهمّ إنى أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصدّيق، إنى أحب أن أسمع رؤياى منك. فقال:
رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء «2» ، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
[سورة يوسف (12) : آية 55]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ولنى خزائن أرضك إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخى يوسف، لو لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك، سنة «3» فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟
قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم: وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.
[سورة يوسف (12) : آية 56]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
__________
(1) . قوله «ولبس ثيابا جددا» في الصحاح: جديد وجدد، كسرير وسرر. (ع)
(2) . قوله «أن تجمع الطعام في الأهراء» كذا عبارة النسفي أيضا ولكنه ليس في الصحاح بل الذي فيه هرأه البرد بهرأه هرأ أى أشتد عليه حتى كاد بقتله وهرئ المال وهرئ القوم فهم مهرؤون اه فأصل الاهراء مواضع يشتد فيها البرد. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عنه، وهذا إسناد ساقط(2/482)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التمكين الظاهر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قرئ بالنون والياء، أى: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوّأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روى أنّ الملك توّجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريراً من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت. روى أنه قال له: أمّا السرير فأشدّ به ملكك. وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسى ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقراراً بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوّجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين: إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلى والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً، فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجلّ ولا أعظم منه، فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بى فيما خوّلنى فما ترى؟ قال: الرأى رأيك:
قال: فإنى أشهد الله وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر عن آخرهم. ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطاً بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين بِرَحْمَتِنا بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم مَنْ نَشاءُ من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أن نأجرهم في الدنيا.
[سورة يوسف (12) : آية 57]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لهم. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الاخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.
[سورة يوسف (12) : آية 58]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
لم يعرفوه لطول العهد «1» ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان
__________
(1) . قال محمود: «إنما أنكروه لبعد العهد وتغيير الصورة ... الخ» قال أحمد: وتوارد القادمين في دخولهم عليه ومعرفته لهم عند ذلك، تدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبته المعرفة بلا مهلة، والله أعلم.(2/483)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر، مشرياً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزىّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل: رأوه على زىّ فرعون «1» عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذلك، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن. وعن الحسن: ما عرفهم حتى تعرّفوا له.
[سورة يوسف (12) : الآيات 59 الى 60]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أى أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة. وقرئ بِجَهازِهِمْ بكسر الجيم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ لا بد من مقدمة سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبرونى من أنتم وما شأنكم؟ فإنى أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال، لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا: معاذ الله، نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صدّيق نبى من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا كنا اثنى عشر، فهلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون- وكان أحسنهم رأيا في يوسف- فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم وَلا تَقْرَبُونِ فيه وجهان، أحدهما: أن يكون داخلا في حكم الجزاء مجزوماً، عطفا على محل قوله فَلا كَيْلَ لَكُمْ كأنه قيل: فإن لم تأتونى به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهى.
__________
(1) . قوله «وقيل رأوه على زى فرعون» إن أريد فرعون موسى، فلم يكن قد وجد. وعبارة الخازن: زى ملوك مصر عليه ثياب الخ. (ع)(2/484)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
[سورة يوسف (12) : آية 61]
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61)
سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى تنتزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ وإنا لقادرون على ذلك لا نتعايى به. أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى.
[سورة يوسف (12) : آية 62]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
لِفِتْيانِهِ وقرئ «لفتيانه» وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، و «فعلة» للقلة.
و «فعلان» للكثرة، أى لغلمانه الكيالين لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرّم بإعطاء البدلين إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها.
وقيل: معنى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعلهم يردّونها.
[سورة يوسف (12) : آية 63]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)
مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ يريدون قول يوسف فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندي، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل نَكْتَلْ نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرئ «يكتل» بمعنى يكتل. أخونا، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه.
[سورة يوسف (12) : آية 64]
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ يريد أنكم قلتم في يوسف وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم. وحافِظاً تمييز، كقولك: هو خيرهم رجلا، ولله درّه فارساً. ويجوز أن يكون حالا.(2/485)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وقرئ «حفظا» وقرأ الأعمش: فالله خير حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجوا أن ينعم علىّ بحفظه ولا يجمع علىّ مصيبتين.
[سورة يوسف (12) : آية 65]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وقرئ رُدَّتْ إِلَيْنا بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد ما نَبْغِي للنفي، أى: ما نبغى في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغى شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أى شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود. ما تبغى، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه: أى شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا جملة مستأنفة موضحة لقوله ما نَبْغِي والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها وَنَمِيرُ أَهْلَنا في رجوعنا إلى الملك وَنَحْفَظُ أَخانا فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أو ساق أباعرنا، فأى شيء نبتغى وراء هذه المباغى التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط. فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله ما نَبْغِي على معنى: لا نبغى فيما نقول وَنَمِيرُ أَهْلَنا ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد: ما نبغى وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع، بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أى ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أى ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه(2/486)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ «1»
[سورة يوسف (12) : آية 66]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ مناف حالى «2» - وقد رأيت منكم ما رأيت- إرساله معكم حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، أراد أن يحلفوا له بالله: وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب اليمين، لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتننى به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا «3» فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت: أخبرنى عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أى: لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة: وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم: أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، تريد: ما أطلب منك إلا الفعل عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإعطائه وَكِيلٌ رقيب مطلع.
__________
(1) . قوله «كقوله ذلك ليعلم» هل المراد أن جواز كونه من كلام يعقوب، لأن المعنى يؤدى إليه، كما جاز في قوله تعالى ذلِكَ لِيَعْلَمَ كونه من كلام يوسف، لأن المعنى يقود إليه، فتدبر. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه أن إرساله معكم مناف ... الخ» قال أحمد: لن للنفي المؤكد. وأما قول الزمخشري في المنافاة له، فله وراء ذلك غرض إنما يطلع عليه من قتل كلامه علما، وذلك أنه اعتمد في إحالة الرؤية على الله تعالى، على أن قوله تعالى لَنْ تَرانِي معناه أن الرؤية منافية لحالي، وجعل هذه المنافاة من مقتضى لَنْ ثم التزم ذلك في هذه اللفظة حيثما وقعت، كل ذلك لتمرن الأذهان على أن هذا مقتضى لَنْ وقد سبق وجه الرد عليه في ذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ معناه إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا الإتيان ... الخ» قال أحمد: وإنما اختص هذا النوع من الاستثناء بالنفي، لأن المستثنى منه مسكوت عنه، والنفي عام، إذ يلزم من نفى الإتيان مثلا نفى جميع العوارض اللاحقة به ضرورة، فكأنه لعمومه مقرون بذكر المستثنى منه، ولا كذلك الإتيان، فانه لا إشعار له بعموم الأحوال، لأنه لا يتوقف إلا على أحدها، والله أعلم. ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم «البلاء موكل بالمنطق» فان يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وأخاف أن يأكله الذئب، فابتلى من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانياً: إلا أن يحاط بكم، أى تغلبوا عليه، فابتلى أيضاً بذلك، وأحيط بهم، وغلبوا عليه.(2/487)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة، «1» اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو «2» فيقول المحقق:
هذا فعل الله، ويقول الحشوى: هو أثر العين، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذ كما بكلمات الله التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهامّة» «3» وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يعنى إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ثم قال وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أى متفرقين ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأى يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع
__________
(1) . قوله «كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة اشتهرهم» في الصحاح: الشارة: اللباس والهيئة. وفيه. اشتهر الأمر، أى وضح. ولفلان فضيلة اشتهرها الناس. (ع)
(2) . قوله «ليتميز المحققون من أهل الحشو» إن كان مراده أهل السنة، فهم يقولون: تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسببات، كربط النار بالإحراق، فالسبب مؤثر في الظاهر، والله هو الفاعل في الحقيقة. قال النسفي:
وأنكر الجبائي العين اه وهو من مشايخ المعتزلة. (ع)
(3) . أخرجه البخاري وأصحاب السنن من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هذا وأتم منه.(2/488)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع، على معنى: ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يعنى قوله وَما أُغْنِي عَنْكُمْ وعلمه بأن القدر لا يغنى عنه الحذر.
[سورة يوسف (12) : آية 69]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين. وروى أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة. فبقى بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخى يوسف حياً لأجلسنى معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه مع على مائدته وجعل يؤاكله، قال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثانى له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويشم.
رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرّف إليه. وعن وهب: إنما قال له:
أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم.
وروى أنه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بى، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى مالا يجمل. قال: لا أبالى فافعل ما بدا لك. قال: فإنى أدس صاعي في رحلك، ثم أنادى عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم.
قال: افعل.
[سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 72]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
السِّقايَةَ مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعا يكال(2/489)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
به. وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقيل: كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك.
وقيل: هي المكوك الفارسي الذي يلتقى طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل: كانت من فضة مموّهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل: كانت مرصعة بالجواهر ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثم نادى مناد. يقال: آذنه أعلمه. وأذن: أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روى:
أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك.
والعير: الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير: أى تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد «1» ، والمراد أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. وقرأ ابن مسعود: وجعل السقاية، على حذف جواب لما، كأنه قيل: فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: تفقدون، من أفقدته إذا وجدته فقيداً. وقرئ: صواع، وصاع، وصوع. بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ يقوله المؤذن، يريد: وأنا بحمل البعير كفيل، أُؤدّيه إلى من جاء به، وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.
[سورة يوسف (12) : آية 73]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم. وإنما قالوا لَقَدْ عَلِمْتُمْ فاستشهدوا بعلمهم. لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتى مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة «2» ، لئلا تتناول زرعا أو طعاماً لأحد من أهل السوق.
ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم وَما كُنَّا سارِقِينَ وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 75]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فَما جَزاؤُهُ الضمير للصواع، أى، فما جزاء سرقته إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في جحودكم
__________
(1) . قوله «ما فعل ببيض وعيد» لعله: وغيد، بإعجام الغين، وهو جمع غيداء أى ناعمة. أو أغيد، بمعنى وسنان مائل العنق، كذا في الصحاح، فليحرر لفظ المصنف. (ع) [.....]
(2) . قوله «وأفواه رواحلهم مكعومة» يقال: كعمت البعير، إذا شددت فمه بالكعام، وهو شيء يجعل في فم البعير عند هياجه، كذا في الصحاح. (ع)(2/490)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وادّعائكم البراءة منه قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أى جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوا في جزائه.
وقولهم فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم، أى: فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك:
حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أى: فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه «1» ويجوز أن يكون جَزاؤُهُ مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فيقول لك: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو، يرجع الضمير الأوّل إلى من، والثاني إلى الأخ، ثم تقول «فهو أخوه» مقيما للمظهر مقام المضمر. ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدإ محذوف، أى: المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم: من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول: من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم، ثم يقول: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
[سورة يوسف (12) : آية 76]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قيل: قال لهم من وكل بهم: لا بدّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال:
ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه. وقرأ الحسن: وعاء أخيه، بضم الواو، وهي لغة. وقرأ سعيد ابن جبير: إعاء أخيه، بقلب الواو همزة. فإن قلت: لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت:
قالوا رجع بالتأنيث على السقاية، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعا كَذلِكَ كِدْنا مثل ذلك الكيد العظيم كدنا لِيُوسُفَ يعنى علمناه إياه وأوحينا به إليه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
__________
(1) . قوله «من استحقاقه وتلزمه. ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ» سيذكر أن حكم السارق في دين ملك مصر:
أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد. (ع)(2/491)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
أى ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرئ: يرفع بالياء. ودرجات بالتنوين وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا. فإن قلت:
ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أى وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قلت: هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة، لأنّ قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: هي أختى، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.
[سورة يوسف (12) : آية 77]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
أَخٌ لَهُ أرادوا يوسف. روى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخى فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم.
واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة، فقيل: كان أخذ في صباه صنما لجدّه أبى أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل: كانت في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف- وهي عمته- بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت: فقدت منطقة إسحاق،(2/492)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت: إنه لي سلم أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت فَأَسَرَّها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وإنما أنث لأنّ قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والمعنى: قال في نفسه:
أنتم شر مكاناً، لأنّ قوله قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من أسرَّها. وفي قراءة ابن مسعود: فأسرَّه، على التذكير، يريد القول أو الكلام. ومعنى شَرٌّ مَكاناً أنتم شر منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أحاكم من أبيكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخى سرقة، وليس الأمر كما تصفون.
[سورة يوسف (12) : آية 78]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان، «1» وأنه مستأنس بأخيه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها.
[سورة يوسف (12) : آية 79]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
مَعاذَ اللَّهِ هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه: إنّ الله أمرنى وأوحى إلىّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرنى بأخذه كنت ظالماً وعاملا على خلاف الوحى. ومعنى مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من. وإِذاً جواب لهم وجزاء، «2» لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا.
__________
(1) . قوله «قد هلك وهو عليه ثكلان» أى حزين أسيف على فقد ولده. (ع)
(2) . قوله «وإذاً جواب لهم وجزاء» أى لقولهم فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ. (ع)(2/493)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
[سورة يوسف (12) : آية 80]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)
اسْتَيْأَسُوا يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم. و «النجي» على معنيين: يكون بمعنى المناجى، كالعشير والسمير بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا: وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل: قوم نجى، كما قيل وَإِذْ هُمْ نَجْوى تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجى، كما قيل: هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال:
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ «1»
ومعنى خَلَصُوا اعتزلوا وانفردوا عن النسا خالصين لا يخالطهم سواهم نَجِيًّا ذوى نجوى، أو فوجا نجياً، أى مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً، لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه يجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أىّ صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور كَبِيرُهُمْ في السنّ وهو روبيل. وقيل:
رئيسهم وهو شمعون: وقيل: كبيرهم في العقل والرأى وهو يهوذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فيه وجوه: أن تكون «ما» صلة، أى: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم.
وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو مِنْ قَبْلُ
__________
(1) .
إنى إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
وشد فوق بعضهم بالأرويه ... هناك أوصينى ولا توصى بيه
من أبيات الحماسة. و «ما» زائدة. والأنجية. جمع نجى بمعنى المناجى، كالسمير والجليس والعشير، بمعنى المفاعل.
أو النجي: مصدر كالدوى والأزيز والنشيج والنئيج والصهيل، كلها أنواع من الصوت، فيكون على حد «زيد عدل» ولو قلت: إنه جمع نجاء مصدر ناجاه، كقتال مصدر قاتله لجاز، وكان كالأرشية جمع رشاء وهو حبل الاستقاء، والأروية جمع رواء وهو حبل الارتواء والاستقاء أيضا، أى: كانوا فرقا متناجين ومتشاورين فيما نزل بهم واضطربوا قياما وقعوداً وذهابا وإيابا، كاضطراب الأرشية على الماء. ويروى: واضطربت أعناقهم كالأرشية. وشد: مبنى للمجهول، أى: شد بعضهم بعضا وشمره وحزمه بحبال الاستقاء، كناية عن استعدادهم للحرب. ويبعد كونه كناية عن الاستعداد للاستقاء في الزمن الجدب هناك، أى: في ذلك الزمان أو المكان.
قيل: أو فيهما أكون شجاعا صبوراً، فأوصينى بغيري ولا توصى غيرى بيه. وظاهر البيت جواز الاخبار عن اسم إن بجملة إنشائية وليس كذلك، بل هو على التأويل كما ترى. والخطاب لمؤنثة. ويجوز: أنه لمذكر. وثبوت الياء في الفعلين للإشباع. والهاء في «بيه» للسكت. فهذا كناية عن شجاعته وتجلده. أو كناية عن كرمه على البعد.(2/494)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفاً على مفعول أَلَمْ تَعْلَمُوا وهو أَنَّ أَباكُمْ كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أى قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخى، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق.
[سورة يوسف (12) : آية 81]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وقرئ سَرَقَ أى نسب إلى السرقة وَما شَهِدْنا عليه بالسرقة إِلَّا بِما عَلِمْنا من سرقته «1» وتيقناه، لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق «2» . أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ سَرَقَ فمعناه: وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، وما كنا للغيب: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر.
[سورة يوسف (12) : الآيات 82 الى 83]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
__________
(1) . قال: محمود «معناه وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه من سرقته ... الخ» قال أحمد: إما أن يكون مقتضى شرعهم حينئذ أن مجرد وجود الشيء بيد المدعى عليه بعد إنكاره يوجب له أحكام السارق فيكون العلم على ظاهره إذا. وإما أن لا يكون كذلك، فهذا القدر من مجرد وجوده في رحله لا يوجب علم كونه سارقا. وغايته أن يفيد ظناً بيناً، فيكون المراد بالعلم هاهنا الظن. وقد ورد مثله، ويكون قولهم وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ تنبيها على أن مستندهم فيما قالوه ظن بمقتضى ظاهر الحال. وأما كشف باطن الأمر الموجب للعلم فليسوا يدعونه عليه.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقولهم وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ معناه: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق ...
الخ» قال أحمد: وإنما تلتئم القراءتان على التأويل الذي ذكرته، وهو أنهم إنما أضافوا إليه السرقة ظنا بمقتضى ظاهر الحال، واحترزوا أن يعتقد أنهم علموا ذلك حقيقة فقالوا: وما كنا للغيب حافظين فالقراءتان على التأويل المذكور يقتضيان تبرئتهم من دعوى العلم الجازم عليه. وأما على غيره من التأويلات المذكورة فلا تنتظم القراءتان لأن مقتضى الأولى الجزم عليه بالسرقة علما. ومقتضى الثانية التبري من الجزم، والله أعلم.(2/495)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها هي مصر، أى أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأصحاب العير، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه «1» وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن والأسف الْحَكِيمُ الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة.
[سورة يوسف (12) : آية 84]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به يا أَسَفى أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ، مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لم تعط أمة من الأمم- إنا لله وإنا إليه راجعون- عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله
__________
(1) . قال محمود: «إن هذا شيء أردتموه ... الخ» قال أحمد: وهذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانياً بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً كما قال لهم أولا، وإذا ورد السؤال على هذا التقرير فلا بد من زيد بسط في الجواب فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن بإتمامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده لا من دين غيره من الناس ولا من عادتهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعى عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة اليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه، فان كان شرعهم مثل شرعنا في ذلك ففتواهم إذاً غير محررة، وهو إشعار بأنهم كانوا حراصا على ثبوت السرقة عليه، ويؤكد ذلك قولهم إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يؤكدون بذلك ثبوت السرقة عليه، والله أعلم. وقوله لهم بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضى ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول، والله المستعان.(2/496)
عليه وسلم «1» . ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى» فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت: هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا.
وَلَمْ تُنْسِنِى أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ «2»
ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمى بصره. وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفاً. قرئ من الحزن.
ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف «3» ؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط. فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من حديث محمد بن سعيد الهادي عن إسحاق بن الربيع بن سفيان بن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بهذا مرفوعا وأخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر عن سفيان بن زياد. ورواه عبد الرزاق من طريق الطبري عن الثوري عن سفيان عن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير أقول وكذا رواه البيهقي في الشعب من رواية أبى عامر عن الثوري قال: ورفعه بعض الضعفاء وليس بشيء.
(2) .
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين ملآن مترع
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكأ القرح بالقرح أوجع
لهشام بن عقبة العذرى، يرثى أخاه ذى الرمة، واسمه غيلان بن عقبة. ويرثى أوفى بن دلهم. وقيل: يرثى أخويه.
يقول: تعزيت أى تسليت عن أوفى بموت غيلان بعده، أى نابني ما يوجب النسيان الأول ولم أنسه، والحال أن جفن عينى ممتلئ بالدموع. أو المعنى: تكلفت التسلي فلم أقدر. ويقال: أترع الحوض إذا ملئ بالماء في المترع توكيد. ويجوز تشبيه الجفن بالحوض على طريق المكنية والاتراع تخييل، فلم تنسني أو في المصيبات التي أصابتنى بعده موت أخى غيلان، ولكن زادتنى حزنا على حزنى. والقرح: الجرح إذا اندمل ويبست جلبته. والنكاء:
كشط تلك الجلبة. ويروى: ولكن نكأ بتشديد النون. والنكأ: التي منها وزن الضرب، فشبه حال مصيبته الأولى التي طرأ عليها غيرها فزادها بحال ذلك الجرح على سبيل التمثيلية، أى: ولكن نكأ القرح أوجع به من الحالة الأولى. وأظهر محل المضمر لإظهار التوجع والتفجع. أو المعنى: ولكن نكأ القرح الأول بقرح غيره أوجع بالإنسان مما كان، فبالقرح متعلق بأوجع، أو بنكاء.
(3) . لم أجده مرفوعا، وأخرجه الطبري من رواية عيسى بن يزيد عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بلغ ... فذكره.(2/497)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
إبراهيم وقال: «القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون «1» » وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكى وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح «2» : وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب فَهُوَ كَظِيمٌ فهو مملوة من الغيظ «3» على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله وَهُوَ مَكْظُومٌ من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس.
يقال: أخذ بأكظامه.
[سورة يوسف (12) : آية 85]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)
تَفْتَؤُا أراد: لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام والنون. ونحوه:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً «4»
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس.
(2) . قال المخرج: عزاه الطيبي إلى الصحيحين فلم يصب. ولم يرد هذا في ولد بعض بناته وإنما ورد في ولده إبراهيم كما أخرجه الترمذي وابن أبى شيبة وإسحاق وعبد بن حميد وغيرهما من حديث جابر. وأخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن ابن عوف نحوه. والذي ورد في بعض بناته متفق عليه من حديث أسامة وفيه «ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» قلت والأول إنما هو بلفظ «قال عبد الرحمن بن عوف:
أتبكي، أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند مصيبة، وخمش وجوه، ورنة شيطان، وشق جيوب. وصوت نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان» .
(3) . قوله «فهو مملوء من الغيظ» أى الغضب الكامن. أفاده الصحاح. قوله «ولا يظهر ما يسوؤهم» أى لما صنعوا بيوسف وأخيه. (ع) [.....]
(4) .
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
لامرئ القيس. يقول: سموت إلى محبوبتى سلمى بعد نوم أهلها، ولم يسمع لي أحد صوتا، ولم تشعر بى هي إلا وأنا عندها، كسمو حباب الماء فوقه بسهولة. وحباب الماء- بالضم: اسم لثعبان الماء. وحباب الماء- بالفتح-:
فقاقعه التي تعلوه. وقوله: «حالا على حال» واقع موقع الحال المؤكدة للتشبيه، أى: حالا منطبقا على حال ومساويا له، كقولك «سواء بسواء» وهاهنا حذف، أى: فخوفتنى بالقوم، فقلت: يمين الله أبرح، أى: لا أبرح قاعدا.
وحذف «لا» النافية للمضارع بعد القسم كثير لأمن اللبس، ولأنه لولا تقديرها لوجب اقتران الفعل بلام جواب القسم أو بنون التوكيد أو بهما. ويمين: نصب بمحذوف، أى أحلف يمين الله، فهو كالمصدر النائب عن فعله.
وبقية القصة تقدمت.(2/498)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ومعنى تَفْتَؤُا لا تزال. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين.
يقال: ما فتئ يفعل. قال أوس:
فَما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِى ... وَيَلْحَقُ مِنهَا لَاحِقٌ وَتَقَطعُ «1»
حَرَضاً مشفياً على الهلاك مرضاً، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة: حَرِض، بكسر الراء. ونحوهما: دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعاً. وقرأ الحسن: حرضاً، بضمتين، ونحوه في الصفات: رجل جنب وغرب.
[سورة يوسف (12) : آية 86]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أى ينشره. ومنه: باثه أمره، وأبثه إياه. ومعنى نَّما أَشْكُوا
إنى لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربى داعياً له وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أى فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. وقيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال: هشمنى وأفنانى ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه:
يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله. وروى أنه أوحى إلى يعقوب: إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلىّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جارية مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أى أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظنى به أنه يأتينى بالفرج من حيث لا أحتسب. وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال، لا والله هو حىّ فاطلبه. وقرأ الحسن: وحزنى، بفتحتين. وحزنى، بضمتين: قتادة.
[سورة يوسف (12) : آية 87]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
__________
(1) . لأوس بن حجر، وكنى بالخيل عن أصحابها. ويقال: ثاب وثوب. إذا لوح بطرف ثوبه عند النداء من بعيد. وتدعى: تفتعل من الدعاء أى يدعو بعضهم بعضا. ويحتمل أن تثوب بمعنى ترجع، أى تذهب وترجع.
ومعنى «تدعي» تلاحق وينتسب بعضها إلى بعض مجازاً، فيجوز أن الخيل حقيقة. أو شبه الخيل بالناس على طريق المكنية، والادعاء بمعنى التنادى تخييل، وهذان الوجهان أنسب بقوله «ويلحق» أى يسبق منها سابق. وتقطع:
أى تتقطع وينقطع بعضها عن بعض قطعا قطعا، فهي تجتمع وتفترق: صور الحرب من أولها إلى آخرها في هذا البيت، أى: فما زالت الخيل تفعل كذلك حتى انتهت الحرب.(2/499)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه. وقرأ الحسن وقتادة: من روح الله، بالضم: أى من رحمته التي يحيا بها العباد.
[سورة يوسف (12) : آية 88]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
الضُّرُّ الهزال من الشدّة والجوع مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجى السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمنا. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط.
وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ الذي هو حقنا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أراد أنها كانت حلالا لهم.
والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة: العطية التي تبتغى بها المثوبة من الله: ومنه قول الحسن- لمن سمعه يقول: اللهمّ تصدق علىّ: - إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغى الثواب، قل: اللهم أعطنى، أو تفضل علىّ، أو ارحمني.
[سورة يوسف (12) : آية 89]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقاً،»
فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: هل علمتم قبح ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ
__________
(1) . قال محمود: «أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح ... الخ» قال أحمد: ومن تلطفه بهم قوله إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ كالاعتذار عنهم، لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه أسهل من فعله على علم، وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما اعتذر عن نفسه لم يرد على أن قال: فعلتها إذاً وأنا من الضالين.(2/500)
لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعنى: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً، إيثاراً لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، «1» ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها «2» ولله حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها. وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل «3» ، سماهم جاهلين. وقيل:
معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا: مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه: ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدّى، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته علىّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟
قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل «4» بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.
__________
(1) . قوله «وينفث المصدور ... الخ» المصدور: الذي يشتكى صدره. والمحنق: المغيظ. والموتور: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ما أوطأها وأسجحها» أى ما أسهلها وما أرفقها، أفاده الصحاح. وفيه: فلان ذو حصاة، أى ذو عقل ولب، فحصا عقولهم: إضافة بيانية. (ع)
(3) . قوله «ولا يقدم عليه إلا جاهل» لعله عطف على المعنى لأن قوله «لم يفعلوا ... الخ» بمعنى فعلوا مالا يقتضيه العلم. (ع)
(4) . والثكل: فقدان المرأة ولدها، كما في الصحاح. والمراد هنا الحزن. (ع)(2/501)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
[سورة يوسف (12) : الآيات 90 الى 93]
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قرئ أَإِنَّكَ على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب. وفي قراءة أبىّ: أإنك أو أنت يوسف، على معنى أإنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه «1» وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلوماً لهم. قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه مَنْ يَتَّقِ من يخف الله وعقابه وَيَصْبِرْ عن المعاصي وعلى الطاعات فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أى فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع «2» ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ «3» قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في عَلَيْكُمُ
__________
(1) . قوله «قلت رأوا في روائه» بالضم، أى منظره. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والقرع» في الصحاح «القرع» بالتحريك: بثر أبيض، يخرج بالنصال. والتقريع: معالجة الفصيل من القرع، وينزع ذلك منه. (ع)
(3) . قال: «فان قلت بم تعلق اليوم في قوله لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا المعنى إنما يتوجه على الاعراب الأول وهو الأوجه. ألا ترى إلى قولهم بعد ذلك يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ وقوله سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي دل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب، ولو كان متعلقا بيغفر للزم أن يقطعوا بغفران ذنبهم حينئذ باخبار النبي الصديق. ويحتمل أن يقال: إنما أراد مغفرة ما يرجع إلى حقه دون حق أبيه، إذ الإثم كان مشتركا بينهما، والله أعلم.(2/502)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال:
غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً. ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم» والْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيراً، أخ كريم وابن أخر كريم، وقد قدرت. فقال: أقول ما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم «1» . وروى أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك ولمن علمك «2» . ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه:
إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف:
إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إلىّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتى، وأنى من حفدة إبراهيم اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أَمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي يَأْتِ بَصِيراً يصر بصيراً، كقولك: جاء البناء محكما، بمعنى صار. ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيراً أو يأت إلىّ وهو بصير. وينصره قوله وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أى يأتنى أبى، ويأتنى آله جميعاً وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته. وقيل: حمله وهو حاف حاسر «3» من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 96]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)
__________
(1) . أخرجه النسائي والبيهقي من رواية ثابت عن عبد الرحمن بن رباح عن أبى هريرة بمعناه وأتم منه. وأخرجه الثعلبي من رواية سمعان عن عطاء عن ابن عباس بهذا اللفظ وأتم منه. وكذا ذكره ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وقال فيه «قدرت فاسمح» وكذا أخرجه الواقدي في المغازي من حديث برة بنت تجراة. ورواه أبو عبيد في الأموال عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين.
(2) . لم أجده
(3) . قوله «وهو حاف حاسر» أى لا مغفر له ولا درع، أفاده الصحاح. (ع)(2/503)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس: فلما انفصل العير قالَ لولد ولده ومن حوله من قومه:
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد:
النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياى لصدقتمونى لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات أَلْقاهُ طرح البشير القميص على وجه يعقوب.
أو ألقاه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً فرجع بصيراً. يقال: ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يعنى قوله إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو قوله وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وقوله إِنِّي أَعْلَمُ كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
ورى: أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر:
فقال: ما أصنع بالملك؟ على أن دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل: ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه: إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروى أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يغنى عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)(2/504)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشى يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقيل إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت علىّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبى إسحاق: كانت أمّه تحيى، وقيل: هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين، لأنّ الرابة تدعى أمّاً، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب «1» أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير وَخَرُّوا لَهُ يعنى الإخوة الأحد عشر والأبوين سُجَّداً ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر. فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفاً بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازى: ارجع سالما غانما إن شاء الله. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقا، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة، مكيفا بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذى الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله
__________
(1) . قوله «في مضرب» عبارة النسفي: مضرب خيمة. (ع) [.....](2/505)
إِنْ شاءَ اللَّهُ من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في كلام يعقوب، وما أدرى ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد.
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل: معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضا فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه. قال:
أَسِيئِى بِنَا أَوْ أَحْسِنِى لَا مَلُومَةً «1»
مِنَ الْبَدْوِ من البادية، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع نَزَغَ أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال، نزغه ونسغه، إذا نخسه لَطِيفٌ لِما يَشاءُ لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحلىّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنىّ، ما أعقك: عندك هذه القراطيس وما كتبت إلىّ على ثمان مراحل؟
قال: أمرنى جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منى فسله. قال جبريل عليه السلام:
الله تعالى أمرنى بذلك لقولك وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قال: فهلا خفتنى؟ وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبىّ قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيبا طاهراً، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه: كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأى أن عملوا له صندوقا من مر مر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً «2» ، وولد له:
إفراثيم وميشا، وولد لإفراثيم نون، ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد صفحة 279 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً» في الصحاح: الناس في هذا الأمر شرع، أى سواء، يحرك ويسكن. (ع)(2/506)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
«من» في مِنَ الْمُلْكِ ومِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل أَنْتَ وَلِيِّي أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي تَوَفَّنِي مُسْلِماً طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز: أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له:
صنع الله على يديك خيراً كثيراً: أحييت سننا وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال: توفني مسلماً وألحقنى بالصالحين. فإن قلت: علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله رَبِّ كقولك أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء.
[سورة يوسف (12) : آية 102]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء. وقوله مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر إنّ. ويجوز أن يكون اسماً موصولا بمعنى الذي، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ صلته ونُوحِيهِ الخبر. والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحى، لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر، كقوله وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقى فيها أحداً ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقصّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحى، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية: ونحوه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف ويبغون له الغوائل.
[سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 104]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)(2/507)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ يريد العموم، كقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وعن ابن عباس رضى الله عنه. أراد أهل مكة، أى وما هم بمؤمنين وَلَوْ حَرَصْتَ وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم وَما تَسْئَلُهُمْ على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.
[سورة يوسف (12) : آية 105]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)
مِنْ آيَةٍ من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده يَمُرُّونَ عَلَيْها ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرئ «والأرض» بالرفع على الابتداء، ويمرون عليها: خبره. وقرأ السدّى «والأرض» بالنصب على: ويطؤن الأرض يمرّون عليها.
وفي مصحف عبد الله: والأرض يمشون عليها، برفع الأرض، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.
[سورة يوسف (12) : آية 106]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الذين يشبهون الله بخلقه.
[سورة يوسف (12) : آية 107]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
غاشِيَةٌ نقمة تغشاهم. وقيل: ما يغمرهم من العذاب ويجللهم. وقيل: الصواعق.
[سورة يوسف (12) : آية 108]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
هذِهِ سَبِيلِي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق: يذكران ويؤنثان، ثم فسر سبيله بقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أى أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء. وأَنَا تأكيد للمستتر في أَدْعُوا. وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه. يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتبعنى. ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ، وعَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدّما، ومَنِ اتَّبَعَنِي عطفاً على أَنَا إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة(2/508)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
وبرهان، لا على هوى. ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ حالا من أَدْعُوا عاملة الرفع في أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ وأنزهه من الشركاء «1» .
[سورة يوسف (12) : آية 109]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، لأنهم كانوا يقولون لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد ليست فيهم امرأة. وقيل: في سجاح المتنبئة
وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا «2»
وقرئ: نوحى إليهم، بالنون «3» . مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة وَلَدارُ الْآخِرَةِ ولدار الساعة، أو الحال الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ: أفلا تعقلون، بالتاء والياء.
[سورة يوسف (12) : آية 110]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
__________
(1) . قوله «وأنزهه من الشركاء» لعله «عن» . (ع)
(2) .
أضحت نبيتنا أنثى نساء بها ... ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا.
أعنى مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا
لقيس بن عاصم. ويروى: نطيف بها، بدل نساء بها. وطاف به يطوف: دار حوله. وطاف به يطيف: أتى عليه ونزل به. وهذا مبنى للمجهول منه، عطف على أضحت. ويروى بدل الشطر الأول، فما سمعت بأنثى قط أرسلها، فالفاعل ضمير الله وإن لم يتقدم له مرجع لظهوره. ويروى بدل الثاني: وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا.
وسجاح: علم امرأة من سجح إذا سمح وعفا، وهي بنت المنذر، كانت شريفة في قومها بنى حنيفة، فادعت النبوة، ثم تزوجت بمسيلمة الكذاب فاتبعه قومها، ثم حاربه أبو بكر رضى الله عنه فقتل على يدي وحشى قاتل حمزة، فأسلمت بعده وحسن إسلامها. ويروى «باللؤم» بدل الافك. ولا سقيت: جملة دعائية. والأصداء: جمع صدى، وهو ذكر اليوم: كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة تزقو وتصيح: أدركونى أدركونى، حتى يؤخذ بثأره، وهي هنا مجاز عن جثته كلها. والمزن واحده مزنة وهو السحاب، أى: اللهم اجعل قبره حارا عليه لا يناله غيث.
(3) . قوله «وقرئ نُوحِي إِلَيْهِمْ بالنون مبنيا للمعلوم، فتكون القراءة الأصلية بالياء، مبنيا للمجهول. (ع)(2/509)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
حَتَّى متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا فتراخى نصرهم حتى استيأسوا عن النصر وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أى كذبتهم أنفسهم «1» حين حدّثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم: رجاء صادق، ورجاء كاذب. والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر «2» وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ فإن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظنّ: ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح؟ وقيل: وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا، أى: أخلفوا. أو: وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أى: كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه. وقرئ: كذبوا، بالتشديد على: وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد: كذبوا، بالتخفيف، على البناء للفاعل، على: وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة، إمّا على تأويل ابن عباس، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم:
إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا.
ولو قرئ بهذا مشدّداً، لكان معناه، وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. قرئ:
فننجي، بالتخفيف والتشديد، من أنجاه ونجاه. وفنجى، على لفظ الماضي المبنى للمفعول.
وقرأ ابن محيصن: فنجا. والمراد ب مَنْ نَشاءُ المؤمنون، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
[سورة يوسف (12) : آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
__________
(1) . قال محمود: «معناه يئسوا من النصر وظنوا أن أنفسهم كذبتهم ... الخ» قال أحمد: ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا، بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن إخبار ووحى،
(2) . عاد كلامه. قال: «ونقل عن ابن عباس أنه قال: فظنوا حين ضعفوا وغلبوا ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا تأويل حسن ينظم بين القراءتين، لأن ظن الأمم كذب رسلهم تكذيب لهم، فيؤدى مؤدى قراءة التشديد.(2/510)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
الضمير في قَصَصِهِمْ للرسل، وينصره قراءة من قرأ فِي قَصَصِهِمْ بكسر القاف. وقيل:
هو راجع إلى يوسف وإخوته. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن، أى: ما كان القرآن حديثاً يفترى وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى قبله من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد لكِنْ للعطف على خبر كان. وقرئ «ذلك» بالرفع على: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هؤن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً «1» .
سورة الرعد
( [مدنية، وقيل] مختلف فيها وهي ثلاث وأربعون آية [نزلت بعد سورة محمد] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)
تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة، أى: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن كله هو الْحَقُّ الذي لا مزيد عليه، لا هذه السورة وحدها، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة «2» المفرعة، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة.
__________
(1) . تقدم إسناده في تفسير آل عمران وهو في آخر آل عمران، وفي آخر الكتاب أيضا.
(2) . قوله «الأنمارية هم كالحلقة» أى في أولادها. (ع)(2/511)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
[سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 3]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
اللَّهُ مبتدأ. والَّذِي خبره، بدليل قوله وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ويجوز أن يكون صفة. وقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خبر بعد خبر. وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. وقيل هي صفة لعمد. ويعضده قراءة أبىّ. ترونه. وقرئ: عمد، بضمتين يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يدبر أمر ملكوته وربوبيته يُفَصِّلُ آياته في كتبه المنزلة لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن: ندبر، بالنون جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل:
أراد بالزوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً. وقرئ: يغشى، بالتشديد.
[سورة الرعد (13) : آية 4]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بقاع مختلفة، مع كونها متجاورة متلاصقة: طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، «1» وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية. وذلك دليل على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجه.
وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع، مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها.
__________
(1) . قوله «زهيدة» في الصحاح: واد زهيد قليل الأخذ للماء، وأرض زهاد: أى لا تسيل إلا عن مطر كثير. (ع)(2/512)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
وفي بعض المصاحف: قطعاً متجاورات على: وجعل. وقرئ: وجنات، بالنصب للعطف على زوجين. أو بالجرّ على كل الثمرات. وقرئ: وزرع ونخيل، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان: جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان، وأصلهما واحد. وقرئ بالضم. والكسر: لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بنى تميم وقيس يُسْقى بالتاء والياء وَنُفَضِّلُ
بالنون. وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً فِي الْأُكُلِ بضم الكاف وسكونها.
[سورة الرعد (13) : آية 5]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وصف بالإصرار، كقوله إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا. ونحوه:
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ «1»
أو هو من جملة الوعيد
[سورة الرعد (13) : آية 6]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالنقمة قبل العافية، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أى عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة:
__________
(1) .
ضلوا وإن سبيل الغى مقصدهم ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
سبيل الغى: مجاز عما هم عليه من الأحوال الخبيثة. والغل: ما تشد به اليد إلى العنق والقيد للرجلين «وهما مجاز عن الغفلة واتباع رأى النفس. يقول: سلكوا طريق الهوى وتركوا طريق الهدى.(2/513)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
العقوبة، بوزن السمرة. والمثلة لما بين «1» العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال: القصاص. وقرئ الْمَثُلاتُ بضمتين لإتباع الفاء العين. والمثلات، بفتح الميم وسكون الثاء، كما يقال: السمرة «2» . والمثلات بضم الميم وسكون الثاء، تخفيف المثلات بضمتين. والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات «3» لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أى مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب. ومحله الحال، بمعنى ظالمين لأنفسهم «4» وفيه أوجه. أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر. أو الكبائر بشرط التوبة. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. وروى أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» «5»
[سورة الرعد (13) : آية 7]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى، من انقلاب العصاحية، وإحياء الموتى، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل أرسالات منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة، وناصحاً كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطى كل نبى آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً «6» في آيات مخصوصة. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أنهم
__________
(1) . قوله «المثلة لما بين» عبارة النسفي «والمثلة العقوبة لما بين ... الخ. (ع)
(2) . قوله «كما يقال السمرة» لعله السمرة والسمرات. (ع)
(3) . قوله «كركبة وركبات» في الصحاح الركبة معروفة وجمع القلة ركبات وركبات وركبات. وفي هامشه عن مرتضى: أى بسكون الكاف وضمها وفتحها، والراء مضمومة فيهن. (ع) [.....]
(4) . قال محمود: «ومحل على ظلمهم الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم ... الخ» قال أحمد: والوجه الحق بقاء الوعد على إطلاقه إلا حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فان ظلمه أعنى شركه لا يغفر وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. والزمخشري يبنى على عقيدته التي وضح فسادها، في استحالة الغفران لصاحب الكبائر وإن كان موحدا إلا بالتوبة، فيقيد مطلقا، ويحجر واسعا، والله الموفق.
(5) . أخرجه ابن أبى حاتم والثعلبي من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب: لما نزلت وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
(6) . قوله «ولم يجعل الأنبياء شرعا واحدا» أى سواء، كذا في الصحاح. (ع)(2/514)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم، ولست بقادر عليه، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء، وهو الله تعالى. ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره: أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم، العالم بأى طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره.
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 9]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)
اللَّهُ يَعْلَمُ يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وأن يكون المعنى: هو الله، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير، ثم ابتدئ فقيل يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى «وما» في ما تَحْمِلُ، وَما تَغِيضُ، وَما تَزْدادُ. إما موصولة، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة، فالمعنى: أنه يعلم ما تحمله من الولد على أن حال هو. من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج «1» ، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة، ويعلم ما تغيضه الأرحام: أى تنقصه. يقال:
غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى وَغِيضَ الْماءُ وما تزداده: أى تأخذه زائداً، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا. ومنه قوله تعالى وَازْدَادُوا تِسْعاً ويقال: زدته فزاد بنفسه وازداد، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبى حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك. وقيل: إنّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمى هرما. ومنه الدم، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أنّ الفعلين غير متعدّيين، ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن تزيد
__________
(1) . قوله و «خداج» في الصحاح: خدجت الناقة خداجا: ألقت ولدها قبل تمام الأيام، فهي خادج، وهو خديج، أو أخدجت: إذا جاءت به ناقص الخلق، فهو مخدج، وهو مخدج اه. (ع)(2/515)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
على تسعة أشهر. وعنه. الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام بِمِقْدارٍ بقدر وحدّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلى على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
[سورة الرعد (13) : الآيات 10 الى 11]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
سارِبٌ ذاهب في سربه- بالفتح- أى في طريقه ووجهه. يقال: سرب في الأرض سروبا. والمعنى: سواء عنده من استخفى: أى طلب الخفاء في مختبإ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت: كان حق العبارة أن يقال:
ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار «1» ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفى والسارب، وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ قوله وَسارِبٌ عطف على من هو مستخف، لا على مستخف، والثاني أنه عطف على مستخف، إلا أن مَنْ في معنى الاثنين، كقوله:
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ «2»
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كان من حق الكلام أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ...
الخ» قال أحمد: فمقتضى السؤال الذي أورده الزمخشري أن تكون الواو عاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى، ومقتضى ما أجاب به أن يعطف أحد الموصوفين على الآخر، وتحتمل الآية وجها آخر: وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية. والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، وخصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا، ومنه قوله تعالى وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ والأصل: ولا ما يفعل بكم، وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه، لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهى موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة. ومنه:
فمن بهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أى ومن يمدحه وينصره، والله أعلم.
(2) .
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكا ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعال فان عاهدتني لا تخوننى ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان
للفرزدق، يصف ذئبا أتاه في مفازة فبات يقطع الزاد ويقسمه بينه وبينه، حال كونهما مشرفين على ضوء نار تارة وعلى دخانها أخرى، دلالة على تكرر إيقادها. وتكشر: أبدى أنيابه كالضاحك. وقائم سيفي: أى والحال أن مقبض سيفي بمكان عظيم من يدي، دلالة على الحرص والجرأة. تعال: أى أقبل إلى نتعاهد. ويروى تعش أى كل العشاء، فان عاهدتني بعد ذلك والتزمت أنك لا تخوننى: نكن مثل من يصطحبان يا ذئب. ومعنى «من» مثنى، فعاد عليه الرابط كذلك. والنداء. اعتراض بين الصلة والموصول. وأ أنت: استفهام توبيخي. وتكرير النداء فيه نوع توبيخ أيضا. وأخيين: مصغر أخوين. واللبان: لبن المرأة خاصة. شبه الذئب والغدر بتوأمين نشئا معا من صغرهما ترضعهما أم واحدة، دلالة على كمال التلازم والتآلف. وتسمية الذئب امرأ، مبنية على تنزيله منزلة العاقل المصحح لخطابه. وشبههما بالأخوين من نوع الإنسان، كما دل على ذلك لفظ اللبان، لأن التآلف فيه أكمل وأظهر منه في غيره.(2/516)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
كأنه قيل: سواء منكم اثنان: مستخف بالليل، وسارب بالنهار. والضمير في لَهُ مردود على مِنْ كأنه قيل: لمن أسرّ ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب مُعَقِّباتٌ جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ بمعنى المعتذرون. ويجوز معقبات، بكسر العين ولم يقرأ به. أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه، كما يقال: قفاء، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً. أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ هما صفتان جميعاً، «1» وليس مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بصلة للحفظ، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله، أى: من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة على رضى الله عنه وابن عباس وزيد بن على وجعفر بن محمد وعكرمة: يحفظونه بأمر الله. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، كقوله قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ وقيل: المعقبات الحرس والجلاوزة «2» حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أى من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به، وقرئ له معاقيب جمع معقب أو معقبة.
والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحال الجميلة بكثرة المعاصي مِنْ والٍ ممن يلي أمرهم ويدفعه عنهم.
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 13]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: ومعنى قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ هما صفتان جميعا وليس من أمر الله بصلة الحفظ كأنه قيل له ... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا الوجه أنهم يحفظونه من الأمر الذي علم الله أنه يدفعه عنه بسبب دعائهم. ولولا هذا السبب لكان في علم الله أن النقمة تحل عليه، لأن الله عز وجل يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وسع ربنا كل شيء علما.
(2) . قوله «والجلاوزة» في الصحاح «الجلواز» الشرطي، والجمع الجلاوزة. (ع)(2/517)
خَوْفاً وَطَمَعاً لا يصح أن يكونا مفعولا لهما «1» لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوف وطمع. أو على معنى إخافة وإطماعاً. ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على: ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين، أى: خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع: أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب:
فَتى كَالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَا مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ «2»
وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف «3» ، ومن البلاد مالا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، ويطمع فيه من له فيه نفع، ويحيا به السَّحابَ اسم الجنس، والواحدة سحابة. والثِّقالَ جمع ثقيلة، لأنك تقول سحابة ثقيلة، وسحاب ثقال، كما تقول: امرأة كريمة ونساء كرام، وهي الثقال بالماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أى يضجون بسبحان الله والحمد لله. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «سبحان من يسبح الرعد بحمده» «4» وعن على رضى الله عنه: سبحان من سبحت له. وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» «5» وعن ابن عباس أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من
__________
(1) . قال محمود: «خوفا وطمعا لا يصح أن يكون مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل ... الخ» قال أحمد: أو مفعولا لهما، على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى، لأنه إذا أراهم فقد رأوا، والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً، أى: ترقبونه وتتراءونه، تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع، والله أعلم.
(2) . يقول: هو فتى شجاع جواد، يخشى شره، ويرجى خيره، فهو كالسحاب الأسود. والجون: الأسود:
ويطلق على الأبيض. ورواه ابن جنى بالضم ليكون جمعا، أى السود المظلمات، لأن السحاب جمع في المعنى. يرتجى الحياء: أى المطر، منها. ونخشى صواعقها، وهي قطع النار التي تنزل منها.
(3) . قوله «ومن له بيت يكف» وكف البيت يكف: قطر يقطر، كذا في الصحاح. (ع)
(4) . أخرجه الطبري من رواية إسرائيل عن ليث عن رجل عن أبى هريرة رفعه «أنه كان إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده» ورواه البخاري في الأدب المفرد، موقوفا على كعب بن مالك.
(5) . أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وأبو يعلى والحاكم من رواية الحجاج بن أرطاة عن أبى مضر عن سالم ابن عبد الله عن أبيه قال الترمذي: غريب.(2/518)
الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق «1» من نار يسوق بها السحاب» «2» وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملك. ومن بدع المتصوّفة. الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله.
ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده، وما دلّ على قدرته الباهرة ووجدانيته ثم قال وَهُمْ يعنى الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ويردّون الواحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم «الملائكة بنات الله» فهذا جدالهم بالباطل، كقولهم وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وقيل: الواو للحال. أى: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم. وذلك أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حين وفد عليه معه عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير «3» وموت في بيت سلولية، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته- أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ «4» الْمِحالِ المماحلة، وهي شدّة المماكرة والمكايدة. ومنه: تمحل لكذا، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث: «ولا تجعله علينا ماحلا «5» مصدّقا» وقال الأعشى:
__________
(1) . قوله «معه مخاريق من نار» في الصحاح المخراق: منديل يلف ليضرب به. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد من رواية بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أخبرنا يا أبا القاسم عن الرعد. فذكره- وزاد: قالوا: فما هذا الصوت قال: زجره للسحاب قالوا: صدقت» وفي الطبراني والأوسط من رواية أبى عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصارى «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد. فقال: هو ملك بيده مخراق إذا رفع برق وإذا زجر رعدت وإذا ضرب صعقت،.
(3) . قوله «بغدة كغدة البعير» في الصحاح: غدة البعير: طاعونه. (ع)
(4) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني وابن مردويه عنه من رواية زيد بن أسلم عن عطاء عنه «أن أريد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة- فذكر الحديث مطولا» وأخرجه النسائي والطبري والعقيلي وأبو يعلى من رواية على بن أبى سارة عن ثابت عن أنس قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى رجل من خزاعة العرب فقال: ادعه قال: يا رسول الله هو أخى من ذلك. قال: اذهب فادعه.
فأتاه. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. قال: وما الله؟ أمن ذهب هو أو من فضة، أم من نحاس- الحديث. وفيه: فأنزل الله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ ... الآية قال العقيلي: لا مانع على حديثه إلا ممن هو دونه.
وقد رواه البزار والبيهقي في الدلائل من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت نحوه.
(5) . قلت: الذي في الحديث «القرآن شافع مشفع وما حل مصدق» أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر والحاكم من حديث معقل بن يسار، والطبراني من حديث ابن مسعود عن أنس. أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن.(2/519)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ فِى غُصُنِ الْمَجْ ... دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ «1»
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث. لا يحتسبون. وقرأ الأعرج بفتح الميم، على أنه مفعل، من حال يحول محالا إذا احتال. ومنه: أحول من ذئب، أى أشدّ حيلة. ويجوز أن يكون المعنى: شديد الفقار «2» ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء:
فساعد الله أشدّ، وموساه أحدّ، لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه.
[سورة الرعد (13) : آية 14]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
دَعْوَةُ الْحَقِّ فيه وجهان، أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق «3» الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك: كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدى دعاؤه. والثاني: أن
__________
(1) . فرع كل شيء أعلاه. والنبع: شجر تتخذ منه القسي. والهش من كل شيء: ما فيه رخاوة وليونة. وهش إليه، من باب تعب وضرب: ضحك وانبسط إليه، أى هو كفرع النبع في العلو وللصلابة في الحروب. وشبه المجد بشجرة طيبة على طريق المكنية، فاضافة الغصن إليه تخييل لذلك. ويحتمل أنه شبه قومه بأغصان الشجرة المثمرة على طريق التصريحية، وإضافتها للمجد قرينة على ذلك. وفيها دلالة على أن المجد منهم كالثمر من الأغصان، غزير الندى كثير العطاء شديد المحال، أى المماحلة والمكايدة، وهو كالتفسير التشبيه الأول، وغزير الندى كالتفسير الثاني، وهو من بديع الكلام.
(2) . قوله «ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار» في الصحاح: والمحالة أيضا: الفقارة، وفيه «الفقارة» واحدة فقار الظهر. (ع)
(3) . قال محمود: «فيه وجهان: أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق ... الخ» قال أحمد: دس تحت تأويل الأول نبذة من الاعتزال على وجه الاختزال. فحجر واسعاً من لطف الله واستجابته أدعية عباده، وحتم رعاية المصالح، وجعل معنى إضافة الدعوة إلى الحق التباسها بالمصلحة، وقد انكشف الغطاء وتبين أن الله تعالى لا تعلل أفعاله ولا تقف استجابته على الشرط المذكور، وغرضنا إيقاظ المطالع لهذه المواضع من غفلة يتحيز بها إلى بدعة وضلالة، والله الموفق.(2/520)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى: دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب.
وعن الحسن: الحق هو الله، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت: ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله «1» ؟ قلت. أما على قصة أربد فظاهر، لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله: اللهمّ اخسفهما بما شئت، فأجيب فيهما «2» ، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ والآلهة الذين يدعوهم الكفار مِنْ دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أى كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه.
وقرئ: تدعون، بالتاء. كباسط كفيه، بالتنوين إِلَّا فِي ضَلالٍ إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
[سورة الرعد (13) : آية 15]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ أى ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له ظِلالُهُمْ أيضاً، حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ: بالغدوّ والإيصال، من آصلوا: إذا دخلوا في الأصيل.
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
__________
(1) . قوله «اتصال هذين الوصفين بما قبله» عبارة النسفي: واتصال شَدِيدُ الْمِحالِ ولَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ بما قبله. (ع)
(2) . ذكره الواحدي في الأسباب عن ابن عباس في القصة المذكورة. ولم أره فيها في الطريقين المتقدمين من رواية الكلبي وغيره.(2/521)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قُلِ اللَّهُ حكاية لاعترافهم وتأكيد لم عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك، فإذا قال: هذا قولي قال:
هذا قولك، فيحكى إقراره تقريراً له عليه واستيثاقا منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً، أى: إن كعوا عن الجواب «1» فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضررا، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكم! أَمْ جَعَلُوا بل اجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار «2» وخَلَقُوا صفة لشركاء، يعنى أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله فَتَشابَهَ عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالربوبية الْقَهَّارُ لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور.
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
__________
(1) . قوله «أى إن كعوا عن الجواب» أى امتنعوا جبناً أو احتبسوا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «أم مقدرة ببل والهمزة ومعناها هاهنا الإنكار ... الخ» قال أحمد: وفي قوله تعالى خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار تهكم بهم، لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله- تقدس عن التشبيه- ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفى في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كَخَلْقِهِ تهكم يزيد الإنكار تأكيداً. والزمخشري لا يطيق التنبيه على هذه النكتة مع كونه أفطن من أن تستتر عنه، لأن معتقده أن غير الله يخلق وهم العبيد يخلقون أفعالهم على زعمه، ولكن لا يخلقون كخلق الله، لأن الله تعالى يخلق الجواهر والأعراض، والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم لا غير. وفي قوله عز من قائل اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إلقام لأفواه المشركين الأولين، ثم لأفواه التابعة لهم في هذه الضلالة كالقدرية، فان الله تعالى بت هذه البتة أن كل شيء يصدق عليه أنه مخلوق جوهراً كان أو عرضا، فعلا لعبيده أو غيره، فالله خالقه، فلا يبقى بقية يحتمل معها الاشتراك إلا عند كل أثيم أفاك، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم، فلأمر ما تقاصر لسان الزمخشري عند هذه الآية وقرن شقاشقه، والله الموفق.(2/522)
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به «1» في صوغ الحلىّ منه واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزيد السيل الذي يرمى به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت: فما معنى قوله بِقَدَرِها؟
قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف «2» . فإن قلت: فما فائدة قوله ابْتِغاءَ حلية أو متاع؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله بِقَدَرِها لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ لأنّ المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ و «من» لابتداء الغاية. أى: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل، أى يرمى به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج: جفالا. وعن أبى حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ:
يوقدون، بالياء: أى يوقد الناس.
__________
(1) . قوله «وبالفلز الذي ينتفعون به» في الصحاح «الفلز» بالكسر وتشديد الزاى: ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض اه فليحرر، ولعله ما يبقيه الكير ... الخ. (ع)
(2) . قوله «السيول الجواحف» في الصحاح «سيل جحاف» بالضم: إذا جرف كل شيء وذهب به. (ع)(2/523)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
[سورة الرعد (13) : آية 18]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا اللام متعلقة بيضرب، أى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أى: هما مثلا الفريقين. والْحُسْنى صفة لمصدر استجابوا، أى: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل: قد تم الكلام عند قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ وما بعده كلام مستأنف. والحسنى: مبتدأ، خبره لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا والمعنى: لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ خبره. «لو» مع ما في حيزه وسُوءُ الْحِسابِ المناقشة فيه. وعن النخعي: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء
[سورة الرعد (13) : آية 19]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله أَفَمَنْ يَعْلَمُ لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أى الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا.
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)(2/524)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ. وأُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خبره كقوله: والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولى الألباب، والأوّل أوجه.
وعهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه: من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أى يخشون وعيده كله وَيَخافُونَ خصوصاً سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا صَبَرُوا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف ابْتِغاءَ وَجْهِ الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله:
وَتَجَلُّدِى لِلشّامِتِينَ أُرِيهِمُ «1»
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت، كقوله:
مَا إنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلَعْ ... تُ وَلَا يَرُدُّ بُكَاىَ زَنْدَا «2»
__________
(1) .
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع
لأبى ذؤيب خويلد بن خالد المخزومي، يرثى بنيه. روى أن معاوية مرض، فعاده الحسن بن على رضى الله عنهما فقال: كحلونى وألبسونى عمامتي، وأظهر القوة وأنشد له البيت الثاني، فأجابه الحسن بغتة بالأول. وشبه المنية بالسبع على طريق المكنية. وإنشاب الأظفار: تخييل. ومنى له: قدر له. والمنية: الموت لأنه مقدر.
والانشاب: الغرز والتعليق. ألفيت: أى وجدت كل تميمة لا تنفع، وهي ما يعلق على الولدان خوف الجن والحسد. وتجلدي: أى تصبرى وتصلبي. مبتدأ. وأريهم: خبره، أى أظهر لهم به أنى لا أتضعضع وأتخشع وأضعف لأجل ريب الدهر، أى حدثانه الطارئ من حيث لا أشعر. [.....]
(2) .
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت برداً
إن الجمال معادن ... ومناقب أورثن مجداً
أعددن للحدثان سا ... بقة وعداء علندى
نهداً وذا شطب يقد ... البيض والأبدان قدا
كم من أخ لي صالح ... بوأته بيدي لحدا
ما إن هلعت ولا جز ... عت ولا يرد بكاى زندا
لعمرو بن معد يكرب. يقول: ليس الجمال بفاخر الثياب. وفاعلم: اعتراض. والخطاب لغير معين، أى ليس كذلك وإن ألبستها والبرد، ثوب سابغ يرتدى به إن الجمال خصال حميدة أكسبت أصحابها الشرف. والحدثان: مكروه الدهر المنقلب. والسابغة الدرع، وكانت له درع من ذهب. والعداء: الفرس الكثير العدو. والعلندى- بالفتح-: الغليظ الشديد السريع. وشيء علند: صلب- واعلندى البعير: اشتد. والنهد: الضخم الطويل. والشطب- بالضم-:
طرائق السيف. والأبدان: الدروع القصيرة، وإذا قطع البيضة والبدن مع أنهما من الحديد، قطع غيرهما بالأولى:
مدح نفسه بالشجاعة، ثم بالصبر فقال: كثير من إخوانى أنزلتهم اللحود بيدي، ومع ذلك ما جزعت لا قليلا ولا كثيراً فان زائدة. والهلع: شدة الجزع. وفي الحديث «من شر ما أوتى العبد: شح هالع، وجبن خالع» أى يهلع فيه وكأنه يخلع فؤاده. وتزند فلان. ضاق بالجواب وغضب. والمزند: مثل في الشيء. ويقال للحقير: زندان في مرقعة، فالزند: الشيء الحقير. ويروى: زيدا: بالياء، على أنه زيد بن الخطاب أخو عمر رضى الله عنه، كان صديقا له في الجاهلية. ويروى: وهل يرد بكائي؟ أى: لم أجزع، لعلمي أنه لا ينفع.(2/525)
وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعل كلا فعل مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا «1» ولا يسند إلى الله «2» سِرًّا وَعَلانِيَةً يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل- والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعونها. عن ابن عباس:
يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم. وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها «3» . وجَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار. وقرئ: فنعم، بفتح النون.
__________
(1) . قوله «لأن الحرام لا يكون رزقا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيكون رزقا كالحلال. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد مما رزقناهم من الحلال، لأن الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله تعالى» قال أحمد:
الحق أن لا رازق إلا الله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ كما أنه لا خالق إلا الله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ فإذا اقتضى العقل والسمع جميعاً أن لا رازق إلا الله فأى مقال بعد ذلك يبقى للقدرى الزاعم أن أكثر العبيد يرزقون أنفسهم لأن الغالب الحرام وهو مع ذلك مصمم على معتقده الفاسد لا يدعه ولا تكفه القوارع السمعية والعقلية ولا تردعه فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون.
(3) . قال محمود: «المراد عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ... الخ» قال أحمد: قد تكرر مجيء العاقبة المطلقة مثل وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والمراد في جميع ذلك: عقبى الخير والسعادة، والزمخشري يستنبط من تكرار مجيء العاقبة المطلقة والمراد عاقبة الخير أنها هي التي أرادها الله فهي الأصل والعاقبة الأخرى لما لم تكن مرادة بل عارضة على خلاف المراد والأصل لم يكن من حقها أن يعبر عنها إلا بتقييد يفهمها كقوله وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ كل ذلك من الزمخشري تهالك على أن ينسب إلى الله إرادة ما لم يقع ومشيئة ما لم يكن مصادمة لما أنطق الله به ألسنة حملة الشريعة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس في مجيء ذلك على الإطلاق ما يعين أنه الأصل باعتبار الارادة، ففعله الأصل باعتبار الأمر، ونحن نقول: إن المؤدى إلى حمد العاقبة مأمور به، والمؤدى إلى سوئها منهى عنه، فمن ثم كانت عاقبة الخير هي الأصل، والله الموفق.(2/526)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
والأصل: نعم. فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرى:
يَدْخُلُونَها على البناء للمفعول. وقرأ ابن أبى عبلة صَلَحَ بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوى كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ في موضع الحال، لأنّ المعنى: قائلين سلام عليكم، أو مسلمين. فإن قلت: بم تعلق قوله بِما صَبَرْتُمْ؟ قلت: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم. والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله:
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا «1»
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» «2» ويجوز أن يتعلق بسلام، أى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول سُوءُ الدَّارِ يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار،. ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها.
[سورة الرعد (13) : آية 26]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أى الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط
__________
(1) .
أرى الوحش ترعي اليوم في ساحة الحما ... بما قد أرى فيها أوانس بدنا
يقول: أرى الوحش ترعى في ساحة الحما في هذا الزمان، بدل ما كنت أرى فيها الأحبة، فقد أرى: حكاية حال ماضية، وقد لتقريبها. والأوانس: جمع آنسة. والبدن: جمع بادنة، أى سمينة البدن.
(2) . أخرجه عبد الرزاق والطبري من رواية سهيل بن أبى صالح عن محمد بن إبراهيم التيمي قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره» وزاد «كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك» .(2/527)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
رزق أهل مكة ووسعه عليهم وَفَرِحُوا بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.
[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 29]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
فإن قلت: كيف طابق قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ؟ قلت: هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبىّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه فط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم: إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ كان على خلاف صفتكم أَنابَ أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، والَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنابَ. وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، وطُوبى لَهُمْ خبره. ويجوز أن يكون بدلا من القلوب، على تقدير حذف المضاف، أى: تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، وطوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى. ومعنى «طوبى لك» أصبت خيراً وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك:
طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك. والقراءة في قوله وَحُسْنُ مَآبٍ بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في لَهُمْ للبيان مثلها في سقيا لك، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر. وقرأ مكوزة الأعرابى: طيبي لهم، فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل: بيض ومعيشة.(2/528)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ مثل ذلك الإرسال أرسلناك، يعنى: أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، ثم فسر كيف أرسله فقال فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أى أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وَهُمْ يَكْفُرُونَ وحال هؤلاء أنهم يكافرون بِالرَّحْمنِ بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم قُلْ هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً جوابه محذوف، كما تقول لغلامك: لو أنى قمت إليك، وتترك الجواب والمعنى: ولو أن قرآنا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتى تتصدع وتتزايل قطعاً أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف، كما قال لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هذا يعضد ما فسرت به قوله لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. وقيل: معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية. وقيل: إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع،(2/529)
كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام. أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا: منهم قصى بن كلاب «1» فنزلت. ومعنى تقطيع الأرض على هذا: قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء: هو متعلق بما قبله. والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وما بينهما اعتراض، وليس ببعيد من السداد. وقيل قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ شققت فجعلت أنهارا وعيونا بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً على معنيين، أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ يعنى مشيئة الإلجاء والقسر «2» لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ومعنى أَفَلَمْ يَيْأَسِ أفلم يعلم. قيل: هي لغة قوم من النخع. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أنِّى ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ «3»
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبين، وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ وقيل: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق، وقد روى ابن ربيعة عن أبى أسامة عن مجالد عن الشعبي قال قالت قريش النبي صلى الله عليه وسلم «إن كنت نبياً كما تزعم فباعد بين جبلي مكة- أحسبها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة حتى تزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرون أنك نبى، أو احملنا إلى الشام، أو إلى اليمن، أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلت. فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً- الآية وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق عطية بن أبى سعيد قال قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: «لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه الريح» وروى أبو يعلى من حديث الزبير بن العوام يقول «لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا آل قريش، فجاءته قريش. فحذرهم وأنذرهم فقالوا: تزعم أنك نبى وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيى الموتى. فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال وتنفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذها محارث فنزرع ونأكل أو ادع الله أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا أو ادع الله أن يصبر هذه الصخرة التي بجنبك ذهبا فننحت منها ويغنينا قال: فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحى. فلما سرى عنه قال: والذي نفسي بيده، لقد أعطانى ما سألتم ولو شئت كان ولكن أخبرنى أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم. فنزلت» .
(2) . قوله «أن لو يشاء الله يعنى مشيئة الإلجاء» هذا عند المعتزلة دون أهل السنة. (ع)
(3) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 261 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/530)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام. وكان متقلبا في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق أَنْ لَوْ يَشاءُ بآمنوا، على: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولهداهم تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارِعَةٌ داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو موتهم، أو القيامة. وقيل: ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا «1» فتغير حول مكة وتختطف منهم، وتصيب من مواشيهم. أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك، كما حل بالحديبية، حتى يأتى وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
الإملاء: الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن، كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم. استهزاء به وتسلية له.
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعنى أفا الله الذي هو قائم رقيب عَلى كُلِّ نَفْسٍ صالحة أو طالحة بِما كَسَبَتْ يعلم خيره وشره، ويعدّ لكل جزاءه،
__________
(1) . قلت: هو موجود في المغازي لابن اسحق. والواقدي، وطبقات ابن سعد في عدة سرايا منها سرية زيد ابن حارثة ليلقى عير قريش، وسرية على الحر بن سعد بن بكر وغيرهما.(2/531)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدإ ويعطف عليه وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وَجَعَلُوا له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أى جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ على أم المنقطعة، كقولك للرجل: قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف، ومعناه: بل أتنبؤونه بشركاء «1» لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفى أن يكون له شركاء. ونحوه: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كقوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة «2» التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ «أتنبئونه» بالتخفيف مَكْرُهُمْ كيدهم للإسلام بشركهم وَصُدُّوا قرئ بالحركات الثلاث. وقرأ ابن أبى إسحاق:
وصدّ بالتنوين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدى فَما لَهُ مِنْ هادٍ فما له من أحد يقدر على هدايته لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر، ولذلك سماه عذابا وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته.
[سورة الرعد (13) : آية 35]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
مَثَلُ الْجَنَّةِ صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه، أى فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره: الخبر تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تقول: صفة زيد أسمر. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة تجرى من تحتها الأنهار، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ على رضى الله عنه: أمثال الجنة، على
__________
(1) . قال محمود: «معناه بل أننبئونه بشركاء ... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء، وأن الله لا يعلمهم كذلك، لأنهم ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة، ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع، لا تكنه بلاغنه وبراعته، ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء، فلم يكن بهذا الموقع التي اقتضته التلاوة.
(2) . عاد كلامه. قال: «وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ... الخ» قال أحمد: هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلا، لأنه يعرض فيها بخلق القرآن فتنبه لها، وما أسرع المطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه وهو غافل عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ، والله أعلم.(2/532)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
الجمع، أى صفاتها أُكُلُها دائِمٌ كقوله لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَظِلُّها دائم لا ينسخ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس.
[سورة الرعد (13) : آية 36]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، هؤلاء يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ يعنى ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفى نجران وأشياعهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع. فإن قلت: كيف اتصل قوله قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بما قبله؟
قلت: هو جواب للمنكرين معناه: قل إنما أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله ولا أشرك به.
فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وقرأ نافع في رواية أبى خليد: ولا أشرك بالرفع على الاستئناف كأنه قال: وأنا أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: أمرت أن أعبد الله غير مشرك به. إِلَيْهِ أَدْعُوا خصوصاً لا أدعو إلى غيره وَإِلَيْهِ لا إلى غيره مرجعي، وأنتم تقولون مثل ذلك، فلا معنى لإنكاركم.
[سورة الرعد (13) : آية 37]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء حُكْماً عَرَبِيًّا حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها، فقيل له: لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك(2/533)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
فلا يقيك منه واق، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان.
[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ. فقيل: كان الرسل قبله بشراً مثله ذوى أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أى: يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل وَيُثْبِتُ عيره. وقيل. يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسى وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه. وقرئ: ويثبت.
[سورة الرعد (13) : آية 40]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم. أو توفيناك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم.
[سورة الرعد (13) : آية 41]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض الكفر نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتح على(2/534)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تبهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. وقرئ: ننقصها، بالتشديد لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا رادّ لحكمه. والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله. وحقيقته: الذي يعقبه أى يقفيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد:
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقّهُ الْمَظْلُومُ «1»
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت: ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت: هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، تريد حاسراً.
[سورة الرعد (13) : آية 42]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وصفهم بالمكر، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ثم فسر ذلك بقوله يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ لأنّ من علم ما تكسب كل نفس، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ: الكفار. والكافرون. والذين كفروا. والكفر:
أى أهله، والمراد بالكافر الجنس: وقرأ جناح بن حبيش، وسيعلم الكافر، من أعلمه أى سيخبر.
[سورة الرعد (13) : آية 43]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
__________
(1) .
حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم
للبيد بن ربيعة، يصف حمار وحش خرج في الهاجرة وراء أنانه، وهاجها: أى بعثها على السير ونشطها لسرعة سيره في طلبها، كما يطلب المعقب المظلوم حقه ودينه ممن هو عليه، فالمظلوم بالرفع صفة للمعقب، لأنه فاعل في المعنى.
ومعناه الذي رجع إلى حقه الذي كان أعطاه للدين، فكأنه رجع على عقبه، أو لأنه يعقب المدين ويتبعه.(2/535)
كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لما أظهر من الأدلة على رسالتي وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ والذي عنده علم القرآن «1» وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر. وقيل: ومن هو من علماء أهل الكتاب «2» الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم: وقيل هو الله عز وعلا «3» والكتاب: اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله. والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب، على من الجارّة، أى. ومن لدنه علم الكتاب، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرئ: ومن عنده علم الكتاب على من الجارّة. وعلم، على البناء للمفعول. وقرئ:
وبمن عنده علم الكتاب. فإن قلت: بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت: في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف، فيكون فاعلا، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقرّ في الدار أخوه. وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالابتداء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الرعد أعطى من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله «4»
__________
(1) . قال محمود: «المراد والذي عنده علم القرآن ... الخ» قال أحمد: فيكون المراد حينئذ: جنس المؤمنين. [.....]
(2) . قال محمود: «وقيل ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم» قال أحمد: فالكتاب على التأويل الأول مراد به القرآن خاصة، وعلى الثاني جنس الكتب المتقدمة عليه.
(3) . قال محمود: «وقيل هو الله عز وجل، والكتاب، اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ على من الجارة» قال أحمد: وإنما قدر الزمخشري في المعطوف عليه اسم الله بالذي يستحق العبادة، حذراً من عطف الصفة على الموصوف، وعدولا إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى تقديراً وإنما أخذ الحصر حيث يقول: ومن لا يعلم علم الكتاب إلا هو من أنه قدم الخبر الذي هو عنده على مبتدئه، وشأن الزمخشري أخذ الحصر من التقديم، والله الموفق للصواب.
(4) . تقدم إسناده في آل عمران.(2/536)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
سورة إبراهيم
(مكية، [إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان] وآياتها 52 [نزلت بعد سورة نوح] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)
كِتابٌ هو كتاب، يعنى السورة. وقرئ: ليخرج الناس. والظلمات والنور:
استعارتان للضلال والهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل، كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أى نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله اللَّهِ عطف بيان للعزيز الحميد، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو الله. الويل: نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ بالويل؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون:
يا ويلاه، كقوله دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ مبتدأ خبره: أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين، ومنصوبا على الذمّ، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر(2/537)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: ويصدّون، بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صدّه عن كذا، وأصدّه. قال:
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ «1»
والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
[سورة إبراهيم (14) : آية 4]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله «2»
__________
(1) .
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواني في أنوف الحوايم
لذي الرمة، أنشده عنه الفراء، يقال: صده عن كذا، ولغة كلب: أصده عنه إذا منعه، فوضع الصدود موضع الأصداد. والسيافى- بالفاء-: الرياح، لأنها تسفو التراب. وقيل: هي بالقاف جمع ساق أو ساقية، وهي فوق الجدول. والحوايم: الجمال العطاش، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم، ويطلق على طير إذا اشتد عطشه حام حول الماء، فإذا ناله سقط ريشه فيغرق فيه. وجمعه حوايم أيضا. ويجوز أن يراد هنا، أو الجبال لأنها لارتفاعها تشرف من بعد كأنها حائمة، أو لأن الطير يحوم فوقها فنسبة الفعل إليها مجاز لأنها محله، يقول: قوم منعوا الناس عن أنفسهم بالسيف لمنع الرياح وضربها في أنوف. الجمال، أو في أعالى الجبال، أو كمنع السقاة إبل غيرهم عن إبلهم في السقي، أو كمنع الأنهار لبعد مائها الإبل العطاش أو الطيور العطاش عن الشرب، لأن الطيور تخاف الغرق فيه.
ويروى: عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف، أو السيوف بالرياح ضمنا.
(2) . قال محمود: «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة ... الخ» قال أحمد: جميع الفصل مرضى، لكن في هذه الخاتمة نظر، لأن فيها إشعاراً بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه، لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به، وهذا فيه نظر، والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين، هذا هو التحقيق، والله أعلم. والزمخشري يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى، وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.(2/538)
ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ.
فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، «1» والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربىّ كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً- لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغة قومه. وقرئ:
بلسن قومه. واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ كقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن.
ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف «2» ، وبالهداية:
التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف
__________
(1) . قوله «والأقطار المتنازحة» أى المتباعدة جداً. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)(2/539)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
[سورة إبراهيم (14) : آية 5]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
أَنْ أَخْرِجْ بمعنى أى أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر.
وكذلك التقدير بأن أخرج قومك وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذى قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نعماؤه وبلاؤه.
فإهلاك القرون لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم.
[سورة إبراهيم (14) : آية 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
إِذْ أَنْجاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين «1» الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله، أى: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة يُذَبِّحُونَ وفي الأعراف يُقَتِّلُونَ وهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على
__________
(1) . قوله «ويتبين» لعله: وتبيين. (ع)(2/540)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا، قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وقال زهير:
فَأَبْلَاهُمَا خَيرَ البَلَاءِ الذِى يَبْلُوا «1»
[سورة إبراهيم (14) : آية 7]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
ومعنى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ: أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا بليغا تنتفى عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ أو أجرى تَأَذَّنَ مجرى، قال، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: «وإذ قال ربكم لئن شكرتم» ، أى لئن شكرتم يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ وغمطتم «2» ما أنعمت به عليكم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لمن كفر نعمتي.
[سورة إبراهيم (14) : آية 8]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
وَقالَ مُوسى إن كفرتم أنتم يا بنى إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج، اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.
[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 208 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «وغمطتم ما أنعمت به عليكم» في الصحاح «غمط الشيء» بطره وحقره. (ع)(2/541)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة من مبتدإ وخبر، وقعت اعتراضا: أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. ولا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ اعتراض. والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل «1» ، كقوله عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وهذا قول قوى. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل:
الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله. وقرئ: «تدعونا» ، بإدغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب «2» الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
[سورة إبراهيم (14) : آية 10]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
__________
(1) . قال محمود: «معناه عضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ... الخ» قال أحمد: وأقوى هذه الوجوه هذا الوجه الذي نبه المصنف على اختصاصه بالقوة، وإنما كان كذلك لأن إقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم، هو المناسب لحسدهم في الكفر. وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد وليس السياق بمناسب الضحك ولا الغيظ ولا لتصميت الرسل كمناسبته لاقناطهم من القبول. ألا ترى أنهم لما أعادوا للرسل القول ولم ينكروا عليهم عودهم إلى المجادلة، دل على أنهم لم يسكتوهم أولا، ولا كان غرضهم ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «وأراب الرجل» لعله: أو أراب. (ع)(2/542)
أى يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله: دعوته لينصرنى، ودعوته ليأكل معى، وقال:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِى مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَىْ مِسْوَرِ «1»
فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: من ذنوبكم؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وقال في خطاب المؤمنين: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد. وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة «2» دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة «3» بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا.
__________
(1) . لأعرابى من بنى أسد. ولبى: بمعنى أجاب، ورسمه ابن حبيب بالألف وإن كان يائيا للفرق بينه وبين المثنى بعده. ولبى من الأسماء اللازمة للاضافة إلى الضمير، وشذ إضافته للظاهر كما هنا، من لب بالمكان لبا أقام به والمراد ملازمة إجابته إجابة بعد إجابة لا اثنين فقط، وهو منصوب على المصدرية بفعل محذوف. هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أنه مفرد مقصور، قلبت ألفه مع الضمير ياء كلدى وعلى، فرد عليه سيبويه بأنه لو كان كذلك لم تنقلب ألفه مع الظاهر ياء كلدى وعلى، لكنهم لما أضافوه للظاهر قلبوها ياء كما في البيت. يقول: دعوت مسورا لما أصابنى، فأجابنى فلبى يديه، أى أجاب الله دعاءه بعد إجابة، وأقحم اليدين لأنهما يرفعان عند الدعاء، فكأنهما المجابتان، أو لأن نصره حصل بهما، ففيه إشارة إلى أنه أنقذه. وقيل: إنه دعاه ليغرم عنه الدية، فأجابه، فذكر يديه لأنه بذل بهما. قيل: وكانت عادة العرب ذلك فنهى عنه. وروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال. إذا دعا أحدكم أخاه فقال: لبيك، فلا يقولن لبى يديك، وليقل أجابك الله بما تحب.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقولهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا: معناه فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» ؟ قال أحمد: ومن تهالكه على الانتصار لاعتقاده تفضيل الملائكة على الرسل من البشر، يستعين حتى يحمل الكفار على أنهم كانوا يعتقدون كمعتقد القدرية في تفضيل الملك على الرسول، لأنه يدعى ذلك أمراً مركوزاً في الطباع معلوما ضرورة، والله الموفق. [.....]
(3) . قوله «لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» هذا على مذهب المعتزلة، أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)(2/543)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 12]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم، واقتصروا على قولهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومعناه: وأىّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وَقَدْ هَدانا وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت: كيف كرّر الأمر بالتوكل «1» ؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 12 الى 14]
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)
لَنُخْرِجَنَّكُمْ، أَوْ لَتَعُودُنَّ ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين «2» على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف كرر ذلك بعد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ... الخ» قال أحمد: وبهذا يخرج عن وادى «من قتل قتيلا فله سلبه» والله أعلم.
(2) . قوله «حالفين» حال من فاعل قال. وعبارة النسفي «وحلفوا» . (ع)(2/544)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
صار، ولكن عاد، ما عدت أراه عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة: «ليهلكنّ» ، و «ليسكننكم» بالياء اعتباراً لأوحى، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك: أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن.
والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من آذى جاره ورثه الله داره «1» » ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكراً لله ذلِكَ إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أى ذلك الأمر حق لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف «2» فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 الى 17]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله على أعدائهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وهو معطوف على فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وقرئ: «واستفتحوا» ، بلفظ الأمر. وعطفه على لَنُهْلِكَنَّ أى: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم ولم يفلح باستفتاحه مِنْ وَرائِهِ من بين يديه. قال:
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «يقف فيه عباده» في الصحاح: يتعدى ولا يتعدى. (ع)(2/545)
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِى أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ «1»
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فان قلت: علام عطف وَيُسْقى؟ قلت:
على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال وَيُسْقى مِنْ ماءٍ فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله صَدِيدٍ وهو ما يسيل من جلود أهل النار يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ دخل كاد للمبالغة. يعنى: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها أى لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه «2» وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة وَمِنْ وَرائِهِ ومن بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أى في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أى استمطروا- والفتح المطر- في سنى القحط التي أرسالات عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. وَاسْتَفْتَحُوا- على هذا التفسير-:
__________
(1) .
يؤرقنى اكتئاب أبى نمير ... فقلبي من كآبته كئيب
فقلت له هداك الله مهلا ... وخير القول ذو اللب المصيب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
لهدبة بن خشرم العذرى. ويروى: خرشم. وكان مسجونا للقتل. والتأريق: التسهير، والاكتئاب: الانكسار وتغير اللون من الحزن، والكآبة كذلك. وأبو نمير كان صديقا له، فزاره لك السجن وحزن عليه. ومهلا: مصدر بدل من اللفظ بفعله. وخبر القول: جملة اعتراضية في أثناء مقول القول. واللب: العقل. وعسى الكرب: تتمة مقول القول. ويروى: أمسيت، بالضم والفتح. وقال الجوهري «وراء» يأتى بمعنى خلف، وقد يأتى بمعنى قدام، فهو من الأضداد اه، لأنه ما وراء الشخص بجرمه عن نفسه أو عن غيره، ومواراته عن نفسه لا يمكن إلا في الخلف، فكثر فيه. أو هو مكان المواراة مطلقا، وهو في الخلف أكثر. واسم «يكون» ضمير الكرب، ووراءه متعلق بمحذوف خبر ليكون، و «فرج» فاعل بالظرف. ويجوز أن «فرج» مبتدأ و «وراءه» متعلق بمحذوف خبر له، والجملة خبر ليكون، ويجب كون المحذوف كونا تاما لا ناقصا، لئلا يحتاج إلى تقدير محذوف أيضا، فيتسلسل التقدير، ولم يجعل «فرج» مرفوع بيكون، لأن خبر أفعال المقاربة لا يرفع الأجنبى عن أسمائها. وجملة «يكون» خبر ليس «وتجريد خبرها من «أن» قليل أى عسى أن يحصل الفرج بعد الكرب.
(2) . قوله «قد تألبت عليه» أى تجمعت. أفاده الصحاح. (ع)(2/546)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدإ، أى صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون أعمالهم بدلا من مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر. وقرئ: الرياح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها «1» وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْءٍ أى لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب بِالْحَقِّ بالحكمة والغرض الصحيح «2» والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وقرئ: خالق السموات والأرض إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أى هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر،
__________
(1) . قوله «وإنما السكور لريحها» في الصحاح: سكرت الريح، تسكر سكورا: سكنت بعد الهبوب. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه خلقها بالحكمة والغرض الصحيح ... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي وقد تقدمت أمثاله.(2/547)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
بل هو هين عليه يسير «1» ، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف، تكوّن من غير توقف: كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف. وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء.
[سورة إبراهيم (14) : آية 21]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ ونظائر له. ومعنى بروزهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له- أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت: لم كتب «الضعفؤا» بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره «علمؤا بنى إسرائيل» والضعفاء:
الأتباع والعوام. والذين استكبروا: ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم تَبَعاً تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب «2» أو ذوى تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعا. فان قلت: أى فرق بين من في مِنْ عَذابِ اللَّهِ وبينه في مِنْ شَيْءٍ؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معا، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أى: بعض بعض عذاب الله
__________
(1) . عاد كلامه. قال: معناه وما ذلك على الله بعزيز، أى: هين عليه، لأنه قادر بالذات الخ ... قال أحمد: وهذا اعتزال صراح لهم يتقنع في إبرازه، وما أبشع قوله عن الله جل جلاله، خلص له الداعي وأمضى الصارف، وما أنباه عن سمع المحققين العارفين بآداب الله تعالى وبما يجب في حق جلاله، وقد تقدم ما فيه كفاية.
(2) . قوله «خادم وخدم وغائب وغيب» في الصحاح: وإنما ثبتت فيه الياء في التحريك، لأنه شبه بصيد وإن كان جمعا، وصيد مصدر قولك «بعير أصيد» لأنه يجوز أن ينوى به المصدر. (ع)(2/548)
فإن قلت: فما معنى قوله لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم «1» وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا من باب التبكيت، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم: بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب «2» في ضلالهم وإضلالهم على الله، كما حكى الله عنهم وقالوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا، لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ. وإما أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل: معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أى: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه:
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ وروى أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: سواء علينا. فإن قلت: كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أى منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً، كأنه قيل: قالوا جميعا سواء علينا، كقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
__________
(1) . قال محمود: «الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم ... الخ» قال أحمد: لما استشعر دلالة الآية لعقيدة السنة المشتملة على أن الله تعالى مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن هد آية المشركين مما لم يشأه، ولو شاءها لاهتدوا. وإنما تنشأ هذه الدلالة من إيراد هذا الكلام عن الكفار في دار الحق حين حقت لهم الحقائق وانكشف الغطاء. والمقصود من اقتصاصه: إنذار أمثالهم في الدنيا، وتحذيرهم من الحسرة والندم في الآخرة إذا حق عليهم العذاب واعترفوا بالحق وقالوا القول المذكور، وهذا يرشد إلى أنه كلام صحيح المعنى، فلما فطن الزمخشري لذلك شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا، ليتم له اعتقاد أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، ومن ذلك هد آية الكفار فان الله تعالى يشاؤها في الدنيا، لكنها لم تكن. وأنى له ذلك، وسياق الآية يصوب الكلام المذكور وينذر الغافلين عنه في الدنيا، ويحذرهم من التورط فيما يؤدى إلى هذا الندم، حيث لا ينفع ويجر إلى هذه الحسرة، إذ لا ينجع، كما أورد كلام الشيطان عقيب ذلك حين يعترف بالحق في دار الحق، وحيث لا ينفعه إيمانه، فيقول: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ... الخ. وإنما سيق تحذيراً وإنذارا اتفاقا، والله الموفق.
(2) . قوله «موركين الذنب» في الصحاح: ورك فلان ذنبه على غيره، أى: قرفه به اه، أى: اتهمه به. (ع)(2/549)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
والمحيص يكون مصدراً، كالمغيب والمشيب. ومكانا، كالمبيت والمصيف. ويقال: حاص عنه وجاض، بمعنى واحد.
[سورة إبراهيم (14) : آية 22]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروى أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً «1» في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم وَوَعَدْتُكُمْ خلاف ذلك فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اغتررتم بى وأطعتمونى إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم. وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، «2» وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت:
__________
(1) . قال محمود: «روى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا ... الخ» قال أحمد: قد حمل قول الكفار في الآية الأولى على إبطال الانتحال، لأنه لا يلائم معتقده، واستشهد على أن الكذب حينئذ غير ممتنع ولا متعذر بقول تعالى فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ثم لما ظن أن قول الشيطان هذا يلائم معتقده، اجتهد في الاستدلال على تصويبه وتصحيحه وإن كان قائله الشيطان، كل ذلك منه اتباع للهوى حيثما توجه وأية سلك. ونحن معاشر أهل السنة الملقبين عنده بالمجبرة نقول: إن الله تعالى إنما أورد هذا الكلام غير راد له، ولا مخطئ فيه الشيطان، كما اقتص كلام الكفار في الآية الأولى كذلك. ونحن نعتقد أن الملامة إنما تتوجه على المكلف وأما الله تعالى فمقدس عن ذلك.
وحجته البالغة، وقضاؤه الحق. وذلك أنا نعترف بما خلقه الله تعالى للعبد من الاختيار الذي يجده من نفسه عند تجاذب طرفى الأفعال الارادية ضرورة، وبذلك قامت الحجة له على خلقه، وإن سلبنا عن قدرة الخلق تأثيرها في الفعل، فلا تناقض إذاً بين عقيدة السنة وبين صرف الملامة إلى المكلف، والله الموفق. [.....]
(2) . قوله «يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه» هذا مذهب المعتزلة، وقوله «المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم أن الله هو الخالق لأسباب السعادة وأسباب الشقاوة، لكن العبد له فيها الكسب. ومن هذا يتوجه عليه اللوم، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لها، وهو الذي يحصل لنفسه. وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)(2/550)
قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به. قلت: لو كان هذا القول منه باطلا لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وهو مثل قول الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لا ينجى بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ: الإغاثة. وقرئ: بمصرخي، بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِىِّ ... قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِى «1»
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. «ما» في بِما أَشْرَكْتُمُونِ مصدرية، ومِنْ قَبْلُ متعلقة بأشركتمونى، يعنى: كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم، أى في الدنيا، كقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وقيل: مِنْ قَبْلُ يتعلق بكفرت.
وما موصولة، أى: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أَشركتمونيه وهو الله عز وجل، تقول: شركت زيداً، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أَشركنيه فلان، أى: جعلني له شريكا.
ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم: سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم
__________
(1) .
قال لها هل لك يا تافىّ ... قالت له ما أنت بالمرضى
ماض إذا ما هم بالمضي
قائله مجهول. وتا: اسم إشارة، أى: هل لك يا هذه المرأة رغبة في. وأصل ياء المتكلم السكون، فان حركت فبالفتح، لكن لما التقت هنا ساكنة مع الياء قبلها ساغ كسرها، على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
وقالت: استئناف، كأنه قيل له: فماذا قالت؟ فقال: قالت له لست مرضيا، فإنك رجل ماض في كل أمرتهمّ فيه، فماض: خبر لمبتدإ محذوف. والجملة: استئناف جواب للسؤال عن علة عدم الرضا. وعبر بضمير الغيبة في قوله: هم نظراء للخير. ويجوز تقدير المبتدأ لفظ «هو» فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة، دلالة على الاعراض عنه، وذكر السبب لغيره.(2/551)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قوله إبليس. وقوله إِنَّ الظَّالِمِينَ قول الله عزّ وجلّ. ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. وقرئ: فلا يلومونى، بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ.
[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا، «1» على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قوله إبليس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل، أى:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. فإن قلت: فبهم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك:
وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله:
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بما بعده، أى تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ بإذن ربهم، يعنى: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 25]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
قرئ أَلَمْ تَرَ ساكنة الراء، كما قرئ: من يتق، وفيه ضعف ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد مثلا ووضعه. وكَلِمَةً طَيِّبَةً نصب بمضمر، أى: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو
__________
(1) . قال محمود: «وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا على فعل المتكلم ... الخ» قال أحمد:
فان قلت: ما الذي صرف الزمخشري عن حمله على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وألجأه إلى تعليقه بما بعده، وقد كانت له في ذلك مندوحة، والالتفات على هذا الوجه كثير مستفيض. ألا ترى إلى قوله تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ثم قال تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ ولم يقل تنزيلا منا. قلت: لأمر ما صرف الكلام عن هذا الوجه، وهو أن ظاهر أُدْخِلَ بلفظ المتكلم، يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة، بل من الله تعالى مباشرة، وظاهر الاذن يشعر باضافة الدخول إلى الواسطة، فبينهما تنافر، ولكن يحسن عندي أن يعلق بخالدين، والخلود غير الدخول، فلا تنافر، والله أعلم.(2/552)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كقولك: شرّف الأمير زيداً: كساه حلة، وحمله على فرس.
ويجوز أن ينتصب مَثَلًا وكَلِمَةً بضرب، أى: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا ثم قال كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة أَصْلُها ثابِتٌ يعنى في الأرض ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها وأعلاها ورأسها فِي السَّماءِ ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها فإن قلت: أىّ فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل:
كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة النمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبرونى ما هي» «1» فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبيا، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروى: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنىّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إلىّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: شجرة في الجنة وقوله فِي السَّماءِ معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ تعطى ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها بتيسير خالقها وتكوينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.
[سورة إبراهيم (14) : آية 26]
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كمثل شجرة خبيثة، أى: صفتها كصفتها. وقرئ: ومثل كلمة بالنصب، عطفا على كلمة طيبة. والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث «2» ونحو ذلك. وقوله اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ في مقابلة قوله أَصْلُها ثابِتٌ ومعنى اجْتُثَّتْ استؤصلت. وحقيقة الاجتثاث
__________
(1) . متفق عليه وله ألفاظ.
(2) . قوله «والكشوث» في الصحاح الكشوث نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض.
قال الشاعر:
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع)(2/553)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
أخذ الجثة كلها ما لَها مِنْ قَرارٍ أى استقرار. يقال: قرّ الشيء قراراً، كقولك: ثبت ثباتا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم: الباطل لجلج «1» . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة.
[سورة إبراهيم (14) : آية 27]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة «2» والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فيقول: ربى الله، ودينى الإسلام، ونبيي محمد، فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» «3» وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أى ما توجبه الحكمة، لأن مشيئة الله تابعة
__________
(1) . قوله «من قولهم الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج، والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفذ. (ع)
(2) . قوله «القول الثابت الذي ثبت بالحجة» لما فسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد والخبيثة بكلمة الشرك، فالمتجه تفسير القول الثابت بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وإضلال الظالمين بابقائهم على كلمة الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وأما التمسك بالحجة وتقليد الشيوخ فبعيد عن السياق. وفيه رد على أهل السنة المكتفين بالتقليد في تحقق الايمان. (ع)
(3) . هذا طرف من حديث له طويل أخرجه أبو داود وأبو عوانة والحاكم وأحمد وابن راهويه وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية سعد بن عبيدة عند البخاري مرفوعا في قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ قال: نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك ومن نبيك؟ فيقول: ربى الله. ونبى محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية.(2/554)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 30]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أى شكر نعمة الله كُفْراً لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا، ونحوه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أى شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقا في أعناقهم. وعن عمر رضى الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين.
وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم على الكفر دارَ الْبَوارِ دار الهلاك. وعطف جَهَنَّمَ على دار البوار عطف بيان. قرئ لِيُضِلُّوا بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد، فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمنى، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب تَمَتَّعُوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة.
والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ.
[سورة إبراهيم (14) : آية 31]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)(2/555)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
المقول محذوف، «1» لأن جواب قُلْ يدل عليه، وتقديره قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى:
ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو قُلْ عوض منه، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز.
فإن قلت: علام انتصب سِرًّا وَعَلانِيَةً؟ قلت: على الحال، أى: ذوى سرّ وعلانية، بمعنى:
مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أى وقتى سر وعلانية، أو على المصدر، أى: إنفاق سر وإنفاق علانية، المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب: والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ؟ «2» قلت:
من قبل أنّ الناس يخرجون أَموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أَمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أى: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أَموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرئ: لا بيع فيه ولا خلال، بالرفع.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 33]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33)
__________
(1) . قال محمود: «المقول محذوف ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الاعراب نظر، لأن الجواب حينئذ يكون خبراً من الله تعالى، بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا الصلاة وأنفقوا، لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم، وخبر الله تعالى يجل عن الخلف، وهذه النكتة هي الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الاعراب من تبادره فيما ذكر بادى الرأى، ويمكن تصحيحه بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق، ويقوى بوجهين لطيفين، أحدهما: أن هذا النظم لم يرد إلا لموصوف بالايمان الحق المنوه بإيمانه عند الأمر، كهذه الآية وكقوله وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الثاني: تكرر مجيئه للموصوفين بأنهم عباد الله المشرفون باضافتهم إلى اسم الله، وقد قالوا إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين، وخصوصاً إذا انضاف إليه تعالى إضافة التشريف، فالحاصل من ذلك أن المأمور في هذه الآي من هو بصدد الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة، فالخبر في أمثالهم حق وصدق، إما على العموم إن أريد، أو على الغالب، والله أعلم.
(2) . قوله «بأنه لا بيع فيه ولا خلال» هذه القراءة بالبناء على الفتح. (ع)(2/556)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
اللَّهُ مبتدأ، والَّذِي خَلَقَ خبره، ومِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون مِنَ الثَّمَراتِ مفعول أخرج، ورِزْقاً حالا من المفعول، أَو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق بِأَمْرِهِ بقوله كن دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم «1» وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ من كلّ بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال لا تُحْصُوها لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها كَفَّارٌ شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 36]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
هَذَا الْبَلَدَ يعنى البلد الحرام، زاده الله أَمناً، وكفاه كل باغ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام آمِناً ذا أمن. فإن قلت: أَى فرق بين قوله اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وبين قوله اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟ قلت: قد سأل في الأوّل أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً وَاجْنُبْنِي وقرئ: وأجنبنى، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد
__________
(1) . قوله «وسباتكم» في الصحاح: السبات النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. (ع)(2/557)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
جنبني وأجنبنى، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها وَبَنِيَّ أراد بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا:
البيت حجر، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فأعوذ بك أن تعصمني «1» وبنىّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات، لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أى افتتنوا بها واغتروا بسببها فَمَنْ تَبِعَنِي على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي فَإِنَّهُ مِنِّي أى هو بعضى لفرط اختصاصه بى وملابسته لي، وكذلك قوله «من غشنا فليس منا» «2» أى ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.
[سورة إبراهيم (14) : آية 37]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
مِنْ ذُرِّيَّتِي بعض أولادى وهم إسماعيل ومن ولد منه بِوادٍ هو وادى مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت المحرم، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار، كالشىء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه، أو لأنه حرّم على الطوفان أى منع منه، كما سمى عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام متعلقة بأسكنت، أى: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا
__________
(1) . قوله «فأعوذ بك أن تعصمني» لعله أن لا تعصمني. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وابن حبان من حديث ابن مسعود وإسحاق والبزار من حديث ابن عمر. والبخاري في التاريخ. والطبراني في الأوسط من حديث البراء. والبزار من حديث عائشة. وابن أبى شيبة من حديث أبى الحمراء. والحاكم من رواية عمير بن سعيد النخعي وابن أبى شيبة من رواية جميع بن عمير عن خالد بن برزة والطبراني من حديث أبى موسى والبيهقي في الشعب من طريق حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، كذلك أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه. فلم يذكر عليا. وأخرجه أبو نعيم عن أنس وعن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبى ربيعة عن جده به.(2/558)
الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روى عن مجاهد: لو قال أَفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل مِنْ لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند. ويجوز أن يكون مِنْ للابتداء، كقولك: القلب منى سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرى: آفدة، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر. والثاني:
أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أى، جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: أفدة، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله:
يَهْوِى مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ «1»
وقرئ: تهوى إليهم، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوى إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم
__________
(1) .
فإذا نبذت له الحصاة رأيته ... ينزو لوقعتها طمور الأخبل
وإذا يهب من المنام رأيته ... كرتوب كعب الساق ليس بزمل
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى مخارمها هوى الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتبلل
لأبى كبير الهذلي، يصف تأبط شراً بالتيقظ والشجاعة، يقول: إذا رميت له الحصاة مجرباً له هل هو نائم أو صاح، ينزو: أى يثب بسرعة، طمور الأخيل: أى وثوب الأخيل، أى ينهض كنهوضه: وهو طير تتشاءم منه العرب، وأصله من التخيل، وقيل من الخيلاء. ورتب رتوباً: انتصب انتصاباً وارتفع ارتفاعاً، أى: رأيته يرتفع عن الأرض كارتفاع كعب الساق. والزمل والزمال والزميل- بتشديد الميم فيها-: هو الضعيف الملتف بثيابه، ثم قال:
وإذا قذفته في نواحي الأمكنة المتسعة، رأيته يهوى مخارمها، أى: يسرع في سلوك مسالكها الضيقة، كهوى الأجدل وهو الصقر، أى كاسراعه في الطيران. ويروى: الجندل وهو الحجر. والأسرة: خطوط الجبهة جمع سرار. والعارض: السحاب المعترض في الأفق. والمتهلل: اللامع، أو المرتفع الذي سيمطر. وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كنت قاعدة أغزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخصف نعله، فنحضر جبينه عرفا، فتولد في عينى نوراً، فجعلت أنظر إليه فقال: ما تنظرين؟ فقلت له ذلك، وقلت: أما والله لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، فقال: وما قال: قلت: وإذا نظرت ... البيت. فوضع ما في يده وقام فقبل ما بين عينى وقال:
جزاك الله خيرا، ما سررت كسرورى بكلامك. [.....](2/559)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
واديا ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم «1» ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أى بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذى زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه «2» المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 38 الى 39]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما نخفى من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق، وما نعلن:
يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أو من كلام إبراهيم، يعنى:
وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. «ومن» للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه
__________
(1) . قوله «في واد يباب ليس فيه نجم» أى خراب. والنجم: نبات لا ساق له، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وهي اجتماع البواكير والفواكه» الباكورة: أول الفاكهة، كما في الصحاح. (ع)(2/560)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
شيء ما. عَلَى في قوله عَلَى الْكِبَرِ بمعنى مع، كقوله:
إنِّى عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ «1»
وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه: سمع الله لمن حمده. وفي الحديث «2» «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن «3» » فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازى.
والمراد سماع الله.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 الى 41]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وبعض ذرّيتى، عطفا على المنصوب في اجعلنى، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أى
__________
(1) . ترين: أصله ترأيين كتفعلين، نقلت فتحة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت وحذفت الياء الأولى بعد قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. يقول. إنى مع ما تنظرينه من كبرى وهرمى الموجب للخرف عادة، عارف بالأمور متيقظ لها. وكنى عن ذلك بقوله: أعرف من أين تؤكل الكتف، أى: أعرف جواب هذا الاستفهام، ويروى:
من حيث، فلعل من زائدة. قال بعضهم: تؤكل الكتف من أسفلها ويشق أكلها من أعلاها، وهو مثل يضرب للجرب المتفطن للأمور.
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(3) . قوله «كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» في الصحاح: كاذنه لمن يتغنى ... الخ. (ع)(2/561)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
عبادتي وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في قراءة أبىّ: ولأبوىّ. وقرأ سعيد بن جبير:
ولوالدي، على الإفراد، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى الله عنهما: ولولدىّ، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ: لولدي، بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف: ولذرّيتى. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوّزات العقل «1» لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام. ويأباه قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحا لا مقال فيه، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أى يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازيا، أو يكون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وعن مجاهد: قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ الآية، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)
فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا؟ قلت: إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا، كقوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كما جاء في الأمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والثاني: أنّ المراد بالنهى عن حسبانه غافلا، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة
__________
(1) . قوله «هو من مجوزات العقل» يعنى على مذهب المعتزلة أن العقل قد يدرك الحكم بدون شرع، ومذهب أهل السنة أن لا حكم قبل الشرع حتى يدرك بدونه، فافهم. (ع)(2/562)
الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلا، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه. وقرئ: يؤخرهم، بالنون والياء تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أى أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي. وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى:
لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير:
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ «1»
لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان:
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ «2»
__________
(1) .
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
أصك مصلم الأذنين أجنى ... له بالسن تنوم وآء
لزهير بن أبى سلمى يصف ناقته. والصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس. والظلمان: جمع ظليم وهو ولد النعام، والجؤجؤ: الصدر. والهواء: الخالي الفارغ، وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير إلى طعامه. والأصك:
الذي تصطك ركبتاه عند المشي لطول رجليه. وصلمه: قطعه. والتصليم: مبالغة. ويقال: أجنى الثمر إذا أدرك، وأجنت الأرض: كثر كلؤها وخصيها. والسن، المكان المستوى واسم موضع بعينه. والتنوم- وزن تنور-:
شجر تنفلق كمامه عن حب صغير تأكله أهل البادية، يغلب على لونه السواد. قيل: وهو شجر الشهدانج. والآء: جنس من الشجر واحده آءة. وقيل: ثمر ذلك الشجر يطلق على نوع من الصوت: والتنوم: فاعل أجنى، أى كثر له في ذلك المكان هذان النوعان.
(2) .
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... فأنت مجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركت عبيداً ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فان أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
لحسان يهجو أبا سفيان قبل إسلامه. وألا التنبيه، والمأمور بالابلاغ غير معين، وكان الظن أن يقول: فانه، أى: أبا سفيان، لكن خاطبه بالذم لأنه أغيظ. ويجوز أن المأمور أبو سفيان، فهو منادى بحذف حرف النداء.
والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف، أو فارغ القلب من العقل والشجاعة. وروى بدل هذا الشطر «مغلغلة فقد برح الخفاء» والمغلغلة: الحارة من الغلة بالضم، وهي شدة العطش والحرارة. وقيل. المنقولة من مكان لآخر، وبرح كسمع: ذهب وزال. وقيل: ظهر واتضح من براح الأرض وهو البارز منها، فالخفا بمعنى التستر أو السر.
وإسناد الترك للسيوف مجاز عقلى، لأنها آلة للفعل. وعبيد بالتصغير قبيلة، وكذلك عبد الدار، وسادتها مبتدأ.
والإماء خبره، والجملة في محل المفعول الثاني لتركت، أى صيرت عبيداً لا سادة لها إلا النساء، وصيرت عبد الدار كذلك، يعنى: أننا أفنينا رجالهما الرؤساء الأشراف، فأشرافهما النساء لا غير، بل يجوز أنهم سواء الحرائر أيضاً، فلم يبق إلا الرقائق. وأتهجوه: استفهام توبيخي، والواو بعده للحال، أى: لا ينبغي ذلك شر وخير، من قبيل أفعل التفضيل، واختصا بحذف همزتهما تخفيفاً لكثرة استعمالهما، لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان، والجملة دعائية، دعا عليه بأن يكون فداء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام، ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا نصف بيت قالته العرب، فعليك بالانصاف وأمن يهجو: استفهام إنكارى، أى ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين. ويحتمل أن الهمزة للتنبيه، أو للنداء، والمنادى محذوف، أى: يا قوم أبى سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما وروى: فمن، ولا بد من تقدير، أى: من يهجوه ويخذله منكم ليقابل الخذلان النصر كالهجو والمدح، ثم إن في هذا دليلا على جواز حذف الموصول، وقد أجازه الكوفيون والأخفش، وتبعهم أبو مالك، وشرط كونه معطوفا على موصول آخر كما هنا. وقوله: ووالده، أى والد أمى. ويروى:
ووالدتي. والوقاء: ما يتوقى به المكروه، كالترس وزن الحزام والرباط للمفعول به الفعل، فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم الآلة، ورأيت في كلام الزمخشري ما يفيد تسمية هذا الوزن باسم المفعول. وفي الهمع ما يفيد أنه جاء شاذا من أوزان الآلة، كأراث لما تؤرث به النار، أى تضرم به، وسراد لما يسرد به، أى يحزز به. ولما سمع صلى الله عليه وسلم قوله «وعند الله في ذلك الجزاء» قال: جزاك الله الجنة بإحسان. ولما سمع قوله «فان أبى» قال: وقال الله حر النار بإحسان. وتقريره صلى الله عليه وسلم على المكافأة بالذم، يدل على الجواز.(2/563)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
وعن ابن جريج أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 44 الى 47]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة(2/564)
دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً. وما لَكُمْ جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله أَقْسَمْتُمْ ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا مِنْ زَوالٍ والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث، كقوله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ يقال: سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بفي، كقولك: قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوّأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: سكنوا «1» ، من السكون، أى: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقى الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بالإخبار والمشاهدة كَيْفَ أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرئ: ونبين لكم، بالنون وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ أى صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أى مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ لا يخلوا إمّا أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم «2» به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أى:
وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معداً لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن
__________
(1) . قوله «ويجوز أن يكون سكنوا» لعله: سكنتم. (ع)
(2) . قوله «وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به» الذي في الصحاح المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به.
والمكر أيضاً: المغرة، وقد مكره فامتكر، أي خضبه فاختضب اه، وهو يفيد أن المكر بمعنى الاحتيال لا يتعدى بنفسه، فتدبر. (ع)(2/565)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
مسعود: وما كان مكرهم. وقرئ: لتزول، بلام الابتداء، على: وإن كان مكرهم من الشدّة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ على وعمر رضى الله عنهما: وإن كاد مكرهم مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعنى قوله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأوّل «1» ؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم قال رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً- وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟
وقرئ: مخلف وعده رسله، بجرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم» . عَزِيزٌ غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 الى 51]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام.
والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. ومنه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم المفعول الثاني على الأول ... الخ» ؟ قال أحمد: وفيما قاله نظر، لأن الفعل متى تقيد بمفعول انقطع إطلاقه، فليس تقديم الوعد في الآية دليلا على إطلاق الفعل باعتبار الموعود، حتى يكون ذكر الرسل بائناً كالأجنبى من الإطلاق الأول، ولا فرق في المعنى الذي ذكره بين تقديم ذكر الرسل وتأخيره ولا يفيد تقديم المفعول الثاني إلا الإيذان بالعناية في مقصود المتكلم والأمر بهذه المثابة في الآية، لأنها وردت في سياق الانذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله تعالى به على ألسنة الرسل، فالمهم في التهديد ذكر الوعيد. وأما كونه على ألسنة الرسل فذلك أمر لا يقف التخويف عليه ولا بد، حتى لو فرض التوعد من الله تعالى على غير لسان رسول، لكان الخوف منه حسبياً كافياً، والله أعلم.(2/566)
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ ... وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِى كُنْتَ تَعْلَمُ «1»
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبوابا.
وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى الله عنه: تبدّل أرضا من فضة، وسموات من ذهب.
وعن الضحاك: أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: يوم نبدّل الأرض، بالنون «2» .
فإن قلت: كيف قال الْواحِدِ الْقَهَّارِ؟ قلت: هو كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين.
أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله فِي الْأَصْفادِ إمّا أن يتعلق بمقرّنين، أى:
يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرّنين مصفدين. والأصفاد:
القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل:
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَاداً ... بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ «3»
القطران: فيه ثلاثة لغات: قطران، وقطران، وقطران: بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربي، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه.
وقرئ: من قطران، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآنى: المتناهي حرّه وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ كقوله تعالى أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ
__________
(1) . يقول: ليس الناس اليوم هم الناس الذين عهدتهم سابقا، لفناء الأحياء من بينهم، وليست الدار اليوم هي الدار التي كنت تعلمها، لتبدل أحوالها وتغير أوصافها.
(2) . قوله «وقرئ نبدل الأرض بالنون» لعله ونصب الأرض والسماوات، فلتحرر. القراءة. (ع)
(3) . لسلامة بن جندل. وزيد الخيل: هو الذي سماء النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير. قد لاقى: أى نال من أعدائه صفادا، أى قيدا وغلا. واستعار العض لقرص الصفاد اليابس الصلب على طريق التصريحية، والباء للإلصاق، وأقحم لفظ العظم للمبالغة في العض حتى وصل العظم. [.....](2/567)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ولذلك قال تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ وقرئ: وتغشى وجوههم، بمعنى تتغشى: أى يفعل بالمجرمين ما يفعل لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ
مجرمة ما كَسَبَتْ أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.
[سورة إبراهيم (14) : آية 52]
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية في التذكير والمواعظة، يعنى بهذا ما وصفه من قوله فَلا تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسابِ. وَلِيُنْذَرُوا معطوف على محذوف، أى لينصحوا ولينذروا بِهِ بهذا البلاغ. وقرئ: ولينذروا، بفتح الياء، من نذر به إذا علمه «1» واستعدّ له وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» «2»
__________
(1) . قوله «من نذر به إذا علمه» في الصحاح: نذر القوم بالعدو- بكسر الذال- إذا علموا. (ع)
(2) . يأتى إسناده في آخر الكتاب.(2/568)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
سورة الحجر
(مكية [إلا آية 87 فمدنية] وهي تسع وتسعون آية [نزلت بعد سورة يوسف] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والكتاب، والقرآن المبين: السورة.
وتنكير القرآن للتفخيم. والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأى قرآن مبين، كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.
[سورة الحجر (15) : الآيات 2 الى 3]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قرئ: ربما، وربتما. بالتشديد. وربما، وربما: بالضم والفتح مع التخفيف. فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت: لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ودّ. فإن قلت: متى تكون ودادتهم؟ قلت:
عند الموت، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين. وقيل: إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار، وهذا أيضاً باب من الودادة. فإن قلت: فما معنى التقليل؟ «1» قلت: هو وارد على
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى تقليل ودادتهم ... الخ» ؟ قال أحمد: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدى عكس مقصوده كثيراً، ومنه قوله:
قد أترك القرآن مصفراً أنامله
وإنما يمتدح بالإكثار من ذلك، وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، ومنه والله أعلم. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ والمقصود توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك، فمنهم من وجهه بما ذكره الزمخشري آنفا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد، وذلك شأن كل ما انتهى لنهايته أن يعود إلى عكسه. وقد أفصح أبو الطيب ذلك بقوله:
ولجدت حتى كدت تنخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام، لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيراً، فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع بأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، والله أعلم.(2/569)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل، ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا: لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه، كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة، فبالحرى أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ حكاية ودادتهم، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم، كقولك: حلف بالله ليفعلنّ. ولو قيل: حلف بالله لأفعلنّ، ولو كنا مسلمين، لكان حسناً سديداً. وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكوتهم تمنوا، فلذلك قلل ذَرْهُمْ يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم عن النهى عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم «1» وتنفيذ شهواتهم، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
سوء صنيعهم.
والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة. وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه. وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّى إليه طول الأمل. وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.
[سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وَلَها كِتابٌ جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. كتاب مَعْلُومٌ مكتوب معلوم،
__________
(1) . قوله «ويتمتعوا بدنياهم» في الصحاح: سميت الدنيا لدنوها، والجمع دنى، مثل الكبرى والكبر، والصغرى والصغر. (ع)(2/570)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين، ألا ترى إلى قوله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها في موضع كتابها، وأنث الأمّة أوّلا ثم ذكرها آخرا، حملا على اللفظ والمعنى: وقال وَما يَسْتَأْخِرُونَ بحذف «عنه» لأنه معلوم.
[سورة الحجر (15) : آية 6]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قرأ الأعمش: يا أيها الذي ألقى عليه الذكر، «1» وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء، كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون. والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع. وقد جاء في كتاب الله في مواضع، منها فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وقد يوجد كثيراً في كلام العجم، والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أنّ الله نزل عليك الذكر.
[سورة الحجر (15) : آية 7]
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
«لو» ركبت مع «لا» و «ما» لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض: قال ابن مقبل:
لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى «2»
والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أو: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟.
[سورة الحجر (15) : آية 8]
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
قرئ: تنزل، بمعنى تتنزل وتنزل على البناء للمفعول من نزل، وننزل الملائكة: بالنون ونصب الملائكة إِلَّا بِالْحَقِّ إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار. ومثله قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وقيل: الحق
__________
(1) . قوله «الذي ألقى عليه الذكر» لعله: إليه. (ع)
(2) . لابن مقبل، ولولا ولو ما: أصلهما «لو» التي تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره، فركبت مع «لا» و «ما» النافيتين. فأفادت معهما امتناع الشيء لوجود غيره، لأن نفى النفي إثبات، فان لم يكن لها جواب أفادت معهما في المضارع التحضيض، وفي غيره التنديم أو التوبيخ، يقول: لولا الحياء موجود، ولو ما الدين موجود لعبتكما ببعض ما فيكما من العيوب، لأنكما عبتمانى بعورى، أو عدد تموه عيبا.(2/571)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
الوحى أو العذاب. وإِذاً جواب وجزاء، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره:
ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم.
[سورة الحجر (15) : آية 9]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد لإنكارهم واستهزائهم «1» في قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ولذلك قال: إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها. وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رداً لإنكارهم واستهزائهم، فكيف اتصل به قوله وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ؟ قلت: قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية، لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه. وقيل: الضمير في لَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)
فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في فرقهم وطوائفهم. والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة. ومعنى أرسلناه فيهم: نبأناه فيهم وجعلناه رسولا فيما بينهم وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية، لأنّ «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.
[سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 13]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
يقال: سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته. وقرئ: نسلكه،
__________
(1) . قال محمود: «هذا رد لانكارهم واستهزائهم ... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن يراد حفظه مما يشينه من تناقض واختلاف لا يخلو عنه الكلام المفترى، وذلك أيضا من الدليل على أنه من عند الله، كما قال تعالى في آية أخرى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.(2/572)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
للذكر، أى: مثل ذلك السلك، ونحوه: نسلك الذكر في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ على معنى أنه يلقيه في قلوبهم «1» مكذباً مستهزآً به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت:
كذلك أنزلها باللئام، تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. ومحل قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ النصب على الحال، أى غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ. سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قرئ يَعْرُجُونَ بالضم والكسر. وسُكِّرَتْ حيرت أو حبست من الإبصار، من السكر أو السكر. وقرئ: سكرت بالتخفيف «2» أى حبست كما يحبس النهر من الجري. وقرئ:
سكرت من السكر، أى حارت كما يحار السكران. والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد: أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك. وقيل:
الضمير للملائكة، أى: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك. وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: إنما، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار.
__________
(1) . قال محمود: «معناه يلقيه في قلوبهم مكذبا به ... الخ» قال أحمد: والمراد والله أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين، فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن، فأعلمهم الله تعالى من الآن وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين، والله أعلم. ولذلك عقبه الله تعالى بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أى هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه، وولج ذلك في قلوبهم ووقر، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وشيمتهم اللدد، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الايمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يفتح لهم بابا في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منه نهارا. وإلى ذلك الاشارة بقوله فَظَلُّوا لأن الظلول إنما يكون نهارا، لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف:
إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد، وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها، فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب، وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كله حاصل لهم وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غير والله أعلم.
(2) . قوله: وقرئ سُكِّرَتْ بالتخفيف: لعل هذا من السكر بالفتح كما أن ما يأتى من السكر بالضم. (ع)(2/573)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 20]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
مَنِ اسْتَرَقَ في محل النصب على الاستثناء. وعن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين مَوْزُونٍ وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل: ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها مَعايِشَ بياء صريحة، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما، فإن تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين.
وقد قرئ: معايش، بالهمزة على التشبيه وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش، أو على محل لكم، كأنه قيل: وجعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم من لستم له برازقين، أو: وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين. وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإنّ الله هو الرزاق، يرزقهم وإياهم، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة، مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون. ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفاً على الضمير المجرور في لَكُمْ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور.
[سورة الحجر (15) : آية 21]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
ذكر الخزائن تمثيل. والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.
[سورة الحجر (15) : آية 22]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)
لَواقِحَ فيه قولان، أحدهما: أنّ الريح لا قح إذا جاءت بخير، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل التي لا تأتى بخير: ريح عقيم. والثاني: أن اللواقح بمعنى الملاقح، كما قال:(2/574)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ «1»
يريد المطاوح جمع مطيحة. وقرئ: وأرسلنا الريح، على تأويل الجنس فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فجعلناه لكم سقيا وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ كأنه قال: نحن الخازنون للماء، على معنى: نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها، وما أنتم عليه بقادرين: دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 23 الى 25]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أى الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت، لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه «واجعله الوارث منا» «2» وَلَقَدْ عَلِمْنَا من استقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين.
أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة
__________
(1) .
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
لضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد بن نهشل. وقيل: غير ذلك. وليبك: مبنى للمفعول، واللام للطلب، ويزيد نائب الفاعل، وضارع فاعل لفعل محذوف، وفي الكلام سؤال مقدر، كأنه قيل: من يبكيه؟ فقيل يبكيه ضارع وهو الدليل، ومختبط وهو السائل، كأنه يختبط أبواب المسئولين. وما مصدرية، وتطيح تهلك. وقال الجوهري: طوحته الطوايح قذفته القواذف، ولا يقال: المطوحات، وهو من النوادر، والقياس المطيحات من أطاح. أو المطوحات من طوح.
وقال الأصمعى: هو جمع طائحة. يقال: ذهبت طائحة من العرب أى طائفة منها. أى: يبكيه المختبط من أجل إهلاك الطوائح ماله، فما متعلق بمختبط. وقيل: يجوز تعلقه بالفعل المقدر، كقوله الخصومة. ونقل العصام عن العارف الرومي: أن يزيد منادى، وحرف النداء محذوف، وضارع نائب الفاعل، لأن الضارع والمختبط أحق بالبكاء عليهما بعد يزيد الذي كان يغيثهما. وروى ليبك يزيد بالبناء للفاعل ونصب يزيد، فضارع فاعل للفعل المذكور، ولو ضم يزيد على النداء لجاز هنا أيضا، أى: ليبك عليك يا يزيد ضارع ومختبط.
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والبزار. والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال «فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات: اللهم اقسم لنا من خشيتك- الحديث» وفيه «واجعله الوارث منا» قال الترمذي: حديث حسن وقال البزار: تفرد به عبد الله بن رواحة. وهو واهى الحديث، وأخرج من رواية حبيب بن أبى ثابت عن عروة عن عائشة «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم عافني في جسدي، وعافني في بصرى، واجعله الوارث منى» وأخرجه أبو يعلى أيضا، وفي الترمذي والحاكم من حديث أبى هريرة قال «كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متعني بسمعي وبصرى واجعلهما الوارث منى» وفي الطبراني والأوسط عن على رضى الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو- فذكر مثله.(2/575)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
ومن تأخر. وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين. وروى أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت «1» هُوَ يَحْشُرُهُمْ أى هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ باهر الحكمة واسع العلم، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب، وقد أحاط علماً بكل شيء.
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة. وقيل: هو تضعيف «صل» إذا أنتن. والحمأ: الطين الأسود المتغير. والمسنون: المصوّر، من سنة الوجه «2» ، وقيل: المصبوب المفرغ، أى: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. وقيل: المنتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين، ولا يكون إلا منتنا مِنْ حَمَإٍ صفة لصلصال، أى: خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق مَسْنُونٍ بمعنى مصور، أن يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر وَالْجَانَّ للجن كآدم للناس. وقيل: هو إبليس. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: والجأن، بالهمز مِنْ نارِ السَّمُومِ من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام. قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 44]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأبو يعلى وأحمد والبزار والطبري وابن أبى حاتم من رواية أبى الجوزاء أوس بن عبد الله عن ابن عباس. قال «كانت امرأة حسناء من أحسن الناس تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لأن لا يراها أو يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف الآخر. فإذا ركع نظر من تحت إبطه. فأنزل الله هذه الآية. قال البزار: لا نعلم رواه ابن عباس ولا له طريق إلا هذه. وقال الترمذي: روى عن أبى الجوزاء مرسلا، وهو أشبه اه.
(2) . قوله «من سنة الوجه» في الصحاح: سنة الوجه صورته. (ع)(2/576)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ واذكر وقت قوله سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها. ومعنى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. واستثنى إبليس من الملائكة، لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب كقولك: رأيتهم إلا هنداً. وأَبى استئناف على تقدير قول قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه. وقيل: معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع «أن» محذوف. وتقديره «مالك» في أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ بمعنى أىّ غرض لك في إبائك السجود. وأى داع لك إليه. اللام في لِأَسْجُدَ لتأكيد النفي.
ومعناه: لا يصحّ منى وينافي حالى. ويستحيل أن أسجد لبشر رَجِيمٌ شيطان من الذين يرجمون بالشهب، أو مطرود من رحمة الله، لأن من يطرد يرجم بالحجارة. ومعناه: ملعون، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها. والضمير في مِنْها راجع إلى الجنة أو السماء، أو إلى جملة الملائكة. وضرب يوم الدين حداً للعنة، إما لأنه غاية يضربها الناس في كلامهم، كقوله ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ في التأبيد. وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت(2/577)
بما ينسى اللعن معه. ويَوْمِ الدِّينِ ويَوْمِ يُبْعَثُونَ ويَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ في معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة البلاغة. وقيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت، لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم. و «ما» مصدرية وجواب القسم لَأُزَيِّنَنَّ المعنى:
أقسم بإغوائك إياى لأزينن لهم. ومعنى إغوائه إياه: تسبيبه لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه «1» ومن إرادته والرضا به، ونحو قوله بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ: قوله فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ في أنه إقسام، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله، وقد فرق الفقهاء بينهما. ويجوز أن لا يكون قسما، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك لإغوائى أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بى من التسبيب لإغوائهم، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم فِي الْأَرْضِ في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أو أراد أنى أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا علىّ التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، ولأوقعن تزييني فيها، أى: لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها. ونحوه:
يَجْرَحْ فِى عَرَاقِيبِهَا نَصْلِى «2»
__________
(1) . قوله «والله تعالى بريء من غيه» هذا على مذهب المعتزلة: أن الله لا يريد الشر ولا يخلقه. ومذهب أهل السنة: أن كل كائن فهو يخلقه تعالى وإرادته، خيراً كان أو شرا، وإن كان لا يرضى الشر من العبد، وتفصيله في التوحيد. (ع) [.....]
(2) .
وما لام من يوم أخ وهو صادق ... إخالى ولا اعتلت على ضيفها إبلى
إذا كان فيها الرسل لم تأت دونه ... فصالى ولو كانت عجافا ولا أهلى
وإن تعتذر بالمحل عن ذى ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى
لذي الرمة يمدح نفسه، والإخاء مصدر آخاه، كالوفاق مصدر وافقه، والصحاب مصدر صاحبه، وزنا ومعنى.
يقول: وما لام أخ من يوم أى في يوم. وعبر بمن لإشعارها بالاستغراق. أى: لم يلم، والحال أنه صادق في لومه، أو في أخوته مصاحبة لي معه، وقصر الإخاء للوزن، وضمن لام معنى عاب، فعداه إليه. ويجوز أن إيقاع اللوم عليه مجاز عقلى، لأن الإخاء كأنه محل اللوم، ولا اعتلت أى أبدت لضيفها علة في التأخر عن قراه، وإسناد الفعل للإبل وإضافة الضيف إليها لأنها محل قراه، وذلك كناية عن غاية كرمه، ويجوز أن إسناد الفعل إليها مجاز عقلى، لأنها سبب في اعتلال صاحبها للضيف عنها إذا كان بخيلا، وإضافة الضيف إليها ترشيح لذلك. ويحتمل أنه شبه الإبل بالكرماء على طريق المكنية، فذلك تخييل، وبين عدم الاعتلال بقوله «إذا كان فيها الرسل» وهو اللبن القليل، ويطلق على الجمل السهل، لم تأت دونه: أى قريبا من اللبن.
فصالى: جمع فصيل، وهو ولد الناقة. ونفى قربها كناية عن نفى ارتضاعها له، ولو كانت عجافا: أى مهازيل، ولا أهلى: ولا جياعا، وإن تعتذر الإبل بالمحل والجدب، عن ذى ضروعها: كناية عن اللبن، لأنه ملازم للضروع يجرح نصلى: أى سيفي أو سهمي في عراقيبها، وهي بمنزلة الركب للإنسان، وإسناد الاعتذار إليها مجاز، وكذلك إسناد الجرح للنصل، لأنه آلته. ومعنى الجرح في العراقيب: أنه يجعلها مكانا معداً له، ولو قال: يجرح عراقيبها، لفات ذلك المعنى. وقيل: ضمنه معنى يعثو أى يفد، وكانت عادة العرب أن يفصدوا الإبل ويجمعوا دماءها ويضعوها على النار فتصير كالكبد، ويقرون بها الضيفان في الجدب، فحرمه الله: ويجوز أنه كناية عن نحرها، لأنهم كانوا يعقرون الجمل الصعب قبل نحره ليسهل عليهم، وهذا هو الذي يقتضيه مقام المدح.(2/578)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
استثنى المخلصين، لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أى هذا طريق حق عَلَيَّ أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته: وقرئ علىّ، وهو من علو الشرف والفضل لَمَوْعِدُهُمْ الضمير للغاوين. وقيل:
أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين. وقرئ: جزء، بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الزهري: جزّ، بالتشديد، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاى، كقولك: خبّ في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد، كقولهم: الرجل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
المتقى على الإطلاق: من يتقى ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما:
اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ادْخُلُوها على إرادة القول.
وقرأ الحسن: أدخلوها بِسَلامٍ سالمين أو مسلما عليكم: تسلم عليكم الملائكة. الغل: الحقد الكامن في القلب، من انغل في جوفه وتغلغل، أى: إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم. وعن علىّ رضى الله عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وعن الحرث الأعور: كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له علىّ:(2/579)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
مرحبا بك يا ابن أخى. أما والله إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فقال له قائل: كلا، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: فلمن هذه الآية لا أمّ لك «1» ؟ وقيل: معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التوادّ والتحاب. وإِخْواناً نصب على الحال. وعَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ كذلك. وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه نَبِّئْ عِبادِي تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: غفور لمن تاب، وعذابه لمن لم يتب. وعطف وَنَبِّئْهُمْ على نبئ عبادي، ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
سَلاماً أى نسلم عليك سلاماً، أو سلمت سلاماً وَجِلُونَ خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت. وقرأ الحسن: لا توجل، بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرئ: لا تأجل. ولا تواجل، من واجله بمعنى أوجله.
وقرئ نُبَشِّرُكَ بفتح النون والتخفيف إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهى عن
__________
(1) . أخرجه الطبراني في الأوسط والعقيلي وابن سعد من طريق الحارث الأعور قال: كنت عند على بن أبى طالب إذ جاءه عمران بن طلحة فذكره- وفيه «فقال الحرث- يعنى الراوي-: الله أجل وأعدل من ذلك وله طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق ربعي بن خراش قال «إنى لعند على جالس إذ جاءه ابن طلحة، فسلم عليه فرحب به، فقال: ترحب بى يا أمير المؤمنين، وقد قلت والدي، وأخذت مالى؟ قال: أما مالك فهو معزول في بيت المال، أعد إليه فخذه. وأما أبوك فانى أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الآية فقال رجل من همدان، فذكره. ورواه الحاكم أيضا والطبري من طريق أبى حبيبة مولى طلحة قال: دخل عمران بن طلحة على على رضى الله عنه. وذكر نحوه.(2/580)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
الوجل: أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. يعنى أَبَشَّرْتُمُونِي مع مس الكبر، بأن يولد لي. أى: أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ هي ما الاستفهامية، دخلها معنى التعجب، كأنه قال: فبأى أعجوبة تبشروني. أو أراد: أنكم تبشروننى بما هو غير متصوّر في العادة، فبأى شيء تبشرون، يعنى: لا تبشروننى في الحقيقة بشيء، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا يكون صلة لبشر، ويكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعنى: بأى طريقة تبشروننى بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة. وقوله بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ يحتمل أن تكون الباء فيه صلة، أى: بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وقرئ: تبشرون، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع، والأصل تبشرونن، وتبشرونِّ «1» بإدغام نون الجمع في نون العماد. وقرئ: من القنطين، من قنط يقنط. وقرئ:
ومن يقنط، بالحركات الثلاث في النون، أراد: ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون، كقوله لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ يعنى: لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله.
[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فإن قلت قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء متصل أو منقطع؟ «2» . قلت، لا يخلو من من أن يكون استثناء من قوم، فيكون منقطعاً، لأنّ القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين، فيكون متصلا، كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم، كما قال فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فإن قلت: فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت: نعم، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا.
ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمىّ. في أنه في معنى التعذيب
__________
(1) . قوله «وتبشرون» بكسر النون والتشديد. قاله النسفي. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت هل الاستثناء الأول متصل ... الخ» قال أحمد: وجعله الأول منقطعاً أولى وأمكن، وذلك أن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعداً، من حيث أن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهذا الدخول متعذر من التنكير، ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفى، لأنها حينئذ أعم، فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثم لم يحسن رأيت قوماً إلا زيداً وحسن ما رأيت أحداً إلا زيداً، والله أعلم.(2/581)
والإهلاك، كأنه قيل: إنا أهلكنا قوما مجرمين، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، فلا يكون الإرسال مخلصا «1» بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل. فإن قلت:
فقوله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ بم يتعلق على الوجهين؟ قلت: إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكنّ» في الاتصال بآل لوط، لأنّ المعنى. لكن آل لوط منجون، وإذا اتصل كان كلاما مستأنفاً، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم: فما حال آل لوط، فقالوا: إنا لمنجوهم. فإن قلت:
فقوله إِلَّا امْرَأَتَهُ ممّ استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لَمُنَجُّوهُمْ وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق:
أنت طالق ثلاثاً، إلا اثنتين، إلا واحدة. وفي قول المقرّ: لفلان علىّ عشرة دراهم، إلا ثلاثة، إلا درهما. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ إِلَّا آلَ لُوطٍ متعلق بأرسلنا، أو بمجرمين.
وإِلَّا امْرَأَتَهُ قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ لَمُنَجُّوهُمْ بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ «2» والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم. فإن قلت: فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده- إلى أنفسهم، ولم يقولوا: قدّر الله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم، كما
__________
(1) . قوله «فلا يكون الإرسال مخلصا» لعله: مختصا. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الخ» قال أحمد: وهذه أيضاً من دفائنه الاعتزالية في جحد القضاء والقدر، واعتقاد أن الأمر أنف، لأنهم لا يعتقدون أن الله تعالى مريد لأكثر أفعال عبيده من معصية ومباح ونحوهما ولا مقدر لها على العبيد، بمعنى أنه مريد ولكنه عالم بما سيفعلونه على خلاف مشيئته وإرادته. فالتقدير عندهم هو العلم لا الارادة، ثم استدل على أن التقدير هو العلم بتقدير فعله عن العمل، وذلك من خواص فعل العلم وأخواته، فانظر إلى بعد غوره ودقة فطنته في ابتغاء آية يلفقها ويعاند بها البراهين الواضح فلقها، وفي كلامه شاهد على رده، فان التقدير عنده مضمن معنى العلم، ومن شأن الفعل المضمن معنى آخر: أن يبقى على معناه الأصلى، مضافا إليه المعنى الطارئ فيفيدهما جميعاً، فالتقدير إذاً كما أفاد العلم الطارئ يفيد الارادة أصلا ووضعاً. والله أعلم، على أن من الناس من جعل قوله تعالى قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة، وهو الظاهر، فان الذي يجعله من قول الملائكة يحتاج في نسبتهم التقدير إلى أنفسهم إلى تأويل، ويجعله من باب قول خواص الملك: دبرنا كذا، وأمرنا بكذا، وإنما يعنون دبر الملك وأمر، وبذلك أولة الزمخشري. وإن كان أصله لا يحتاج معه إلى التأويل، لأنه إذا جعل قدرنا بمعنى علمنا إنها لمن الغابرين، فلا غرو في علم الملائكة ذلك باخبار الله تعالى إياهم به، وإنما يحتاج إلى التأويل: من جعل قدرنا بمعنى أردنا وقضينا وجعله من قول الملائكة، والله أعلم.(2/582)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه. وقرئ: قدرنا، بالتخفيف.
[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 66]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
مُنْكَرُونَ أى تنكركم نفسي وتنفر منكم، فأخاف أن تطرقوني بشرّ، بدليل قوله بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أى ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون فيه ويكذبونك بِالْحَقِّ باليقين من عذابهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في الإخبار بنزوله بهم. وقرئ:
فأسر، بقطع الهمزة ووصلها، من أسرى وسرى. وروى صاحب الإقليد: فسر، من السير والقطع في آخر الليل. قال:
افْتَحِى الْبَابَ وَانْظُرِى فِى النُّجُومِ ... كَمْ عَلَيْنَا مِن قِطعِ لَيْلٍ بَهِيمِ «1»
وقيل: هو بعد ما يمضى شيء صالح من الليل. فإن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم «2» ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم
__________
(1) . يقول لصاحبته وكان يحب طول الليل ويدعيه: افتحي باب البيت وانظري وتأملى في النجوم، أمالت جهة الغرب أم لا؟ وكم: يحتمل أنها خبرية التكثير، ويحتمل أنها استفهامية، ثم يحتمل أنها مستأنفة، ويحتمل أن الفعل قبلها معلق عن العمل في لفظها لأن لها الصدارة. والمراد من هذا الأمر طلب إخباره بما تعلمه بعد النظر من جواب الاستفهام المذكور. وقطع الليل: ظلمته. وقال في الصحاح: ظلمة آخره، والمراد به هنا جزء الليل.
والبهيم: شديد الظلام لانبهام الأشياء فيه، ووصفه بذلك ملائم للمقام.
(2) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم ... الخ» قال أحمد: ولبعض هذه المقاصد عاتب الله تعالى نبيه موسى عليه السلام حيث تقدم قومه فقال وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى
والله أعلم.(2/583)
أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب «1» فيرقوا لهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة «2» ويطيبوها عن مساكنهم، ويمضوا قدماً «3» غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى إليه أخادعه، كما قال:
تَلَفَّتُّ نَحْوَ الحَىّ حَتّي وَجَدتُنِى ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا «4»
أو جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل: هو مصر، وعدّى وَامْضُوا إلى حَيْثُ تعديته إلى الظرف المبهم، لأن حَيْثُ مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في تُؤْمَرُونَ وعدى قَضَيْنا بإلى لأنه ضمن معنى: أوحينا، كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً. وفسر ذلِكَ الْأَمْرَ بقوله أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش: إن، بالكسر على الاستئناف، كأن قائلا قال: أخبرنا عن ذلك
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب ... الخ» قال أحمد:
ولقد شملت هذه الآية على وجازتها آداب المسافرين لمهم دينى أو دنيوى، من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.
(2) . قوله «وليوطنوا نفوسهم عل المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم» لعل فيه تقديما، والأصل: على المهاجرة عن مساكنهم ويطيبوها، فليحرر. (ع)
(3) . قوله «ويمضوا قدما» في الصحاح «مضى قدماء بضم الدال: لم يعرج ولم ينثن. (ع)
(4) .
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحنن نزعا
بكت عينى اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث، والبشر: السرور وما به السرور، وأعرض: ظهر أمامنا، وحالت- بالمهملة- أى صارت حائلا بيننا وبين البشر ومنعتنا عنه، وبكت: جواب لما، وخص اليسرى أولا، لأنه كان أعور. ويروى: جالت، بالجيم أى حامت خواطر القلب الناشئة من الشوق في قلبي، حال كونها نحن إلى المحبوبة، نازعات شائقات إليها، يقال: نزع نزوعا إذا مال قلبه واشتاق إلى حبه. والنزع: جمع نازع، فشبه الخواطر بالبنات على طريق التصريحية، لتولدها من الشوق وإثبات الجولان والحنين، والنزوع ترشيح، لأن الأول خاص بالمحسوس، والأخيران بالمدرك. وإسناد الحنين والنزوع إليها مجاز عقلى، لأنهما في الحقيقة لمحلها وهو القلب، بل الشخص وهو سببها. والجهل ضد الحلم. أسبلتا: سالت دموعهما، وإسناد البكاء للعين مجازاً، ومعناه دمعت عينى، فيجوز تشبيهها بالإنسان على طريق المكنية، وزجرها ترشيح، وجهلها وحلمها تخييل، وتلفت: أى أكثرت الالتفات جهة الحي، حتى وجع ليتى وأخدعى. يقال: وجع وجعا كتعب تعبا. والليت- بالكسر-: صفحة العنق. والأخدع: عرق فيها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، وذلك مبالغة في كثرة التلفت.(2/584)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
الأمر، فقال: إنّ دابر هؤلاء. وفي قراءة ابن مسعود: وقلنا إنّ دابر هؤلاء. ودابرهم: آخرهم، يعنى: يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.
[سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 77]
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
أَهْلُ الْمَدِينَةِ أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور، مستبشرين بالملائكة فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي، لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم وَلا تُخْزُونِ ولا تذلونِ بإذلال ضيفي، من الخزي وهو الهوان. أو ولا تشوّروا «1» بى، من الخزاية وهي الحياء عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحداً، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهى عن المنكر، والحجر بينهم وبين المتعرّض له، فأوعدوه وقالوا: لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين. وقيل: عن ضيافة الناس وإنزالهم، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط هؤُلاءِ بَناتِي إشارة إلى النساء، لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته، فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ، وخلوا بنىّ فلا تتعرضوا لهم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله، كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم لَعَمْرُكَ على إرادة القول، أى قالت الملائكة للوط عليه السلام: لعمرك إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أى غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم، من ترك البنين إلى البنات يَعْمَهُونَ
__________
(1) . قوله «ولا تشوروا بى» في الصحاح «الشوار» فرج المرأة والرجل. ومنه قيل: شور به، أى كأنه أبدى عورته (ع)(2/585)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
يتحيرون، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له، والعمرو العمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم، ولذلك حذفوا الخبر، وتقديره: لعمرك مما أقسم به، كما حذفوا الفعل في قولك: بالله. وقرئ: في سكرهم وفي سكراتهم الصَّيْحَةُ صيحة جبريل عليه السلام مُشْرِقِينَ داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس مِنْ سِجِّيلٍ قيل: من طين، عليه كتاب من السجل. ودليله قوله تعالى:
حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ أى معلمة بكتاب لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرّسين المتأملين.
وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال: توسمت في فلان كذا، أى عرفت وسمه فيه. والضمير في عالِيَها سافِلَها لقرى قوم لوط وَإِنَّها وإنّ هذه القرى يعنى آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار، وهو تنبيه لقريش كقوله وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قوم شعيب وَإِنَّهُما يعنى قرى قوم لوط والأيكة. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح، والامام اسم لما يؤتم به، فسمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه، لأنها مما يؤتم به.
[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أَصْحابُ الْحِجْرِ ثمود، والحجر واديهم، وهو بين المدينة والشأم الْمُرْسَلِينَ يعنى بتكذيبهم صالحاً، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنهما كذبهم جميعاً، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين، كما قيل: الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم «1» على الحجر
__________
(1) . لم أجده من حديث جابر، وهو في الصحيح من حديث ابن عمر بهذا اللفظ دون قوله «ناقته» وفي رواية:
أن ذلك كان في غزوة تبوك. [.....](2/586)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
فقال لنا «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء» ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها آمِنِينَ لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد.
[سورة الحجر (15) : آية 85]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
إِلَّا بِالْحَقِّ إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة، لا باطلا وعبثاً. أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك فَاصْفَحِ فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلا بحلم وإغضاء. وقيل: هو منسوخ بآية السيف.
ويجوز أن يراد به المخالقة «1» فلا يكون منسوخاً.
[سورة الحجر (15) : آية 86]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك وخلقهم، وهو الْعَلِيمُ بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجرى بينكم وهو يحكم بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وفي مصحف أبىّ وعثمان: إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير، والخلاق للكثير لا غير، كقولك: قطع الثياب، وقطع الثوب والثياب.
[سورة الحجر (15) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
سَبْعاً سبع آيات وهي الفاتحة. أو سبع سور وهي الطوال، واختلف في السابعة فقيل:
الأنفال وبراءة، لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية. وقيل سورة يونس. وقيل: هي آل حم، أو سبع صحائف وهي الأسباع. والْمَثانِي من التثنية وهي التكرير، لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله، الواحدة مثناة أو مثناة أو مثنية صفة للآية. وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير
__________
(1) . قوله «يراد به المخالقة» أى المعاملة بحسن الخلق. وفي الصحاح: يقال خالص المؤمن، وخالق الفاجر اه (ع)(2/587)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء، كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. و «من» إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إدا أردت الأسباع. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثنى عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها، فإن قلت: كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عنى بالسبع للفاتحة أو الطوال، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعنى سورة يوسف، وإذا عنيت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أى: الجامع لهذين النعتين، وهو الثناء أو التثنية والعظم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 88 الى 89]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
أى: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافاً من الكفار. فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟ «1» قلت: يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم، فعليك أن تستغني به، ولا تمدّن عينيك إلى متاع الدنيا. ومنه الحديث «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، «2» وحديث أبى بكر «من أوتى القرآن فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيما وعظم صغيراً «3» » وقيل: وافت من بصرى وأذرعات: سبع قوافل ليهود
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف وصل هذا بما قبله ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا هو الصواب في معنى الحديث، وقد حمله كثير من العلماء على الغناء، وادعى هؤلاء أن «تغنى» إنما يبنى من الغناء الممدود لا من الغنى المقصور، وأن فعله استغنى خاصة، وقد وجدت بناء تغنى من الغنى المقصور في الحديث الصحيح في الخيل. وأما التي هي ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا، وإنما هذا من الغنى المقصور قطعا واتفاقا، وهو مصدر تعنى، فدل ذلك على أنه مستعمل من البناءين جميعاً على خلاف دعوى المخالف، والله الموفق.
(2) . أخرجه البخاري من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة وفي الباب عن سعد وأبى لبابة عند أبى داود. قال المخرج ذهل النووي وقبله المذرى، ثم الطيبي فعزوه لأبى داود ولم يعزوه للبخاري وأخطأ القرطبي فعزاه لمسلم لا للبخاري، ولم يذكره صاحب جامع الأصول، وعزاه الحاكم للشيخين والذي في الصحيحين حديث أبى هريرة «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» «فائدة» قال البيهقي في السنن في كتاب الشهادات، أخبرنا الحاكم عن أبى الأصم سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. فقال له رحل: يستغن؟ قال: ليس هذا معناه، أى معناه يقرأه تحزينا.
(3) . لم أجده عن أبى بكر، وأخرجه ابن عدى في ترجمة حمزة النصيبي عن زيد بن رفيع عن أبى عبيدة عن ابن مسعود رفعه «من تعلم القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد حقر عظيما وعظم صغيرا» وحمزة اتهموه بالوضع.
وأخرجه إسحاق والطبري من حديث عبد الله بن عمر بلفظ «من أعطى القرآن فرأى أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله- الحديث»(2/588)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
بنى قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم الله عز وعلا: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أى لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء وَقُلْ لهم إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 91]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فإن قلت: بم تعلق قوله كَما أَنْزَلْنا؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بقوله:
وَلَقَدْ آتَيْناكَ أى أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعضوه «1» . وقيل: كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن:
ما يقرءونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم، وقولهم سحر وشعر وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني أن يتعلق بقوله: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أى: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين، يعنى اليهود، وهو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير، أى: أنذر المعضين الذين يجزءون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر.
ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات، كالوليد بن المغيرة،
__________
(1) . قوله «وعضوه» في الصحاح: عضيت الشاة تعضية، إذا جزأتها أعضاء. وعضيت الشيء تعضية، إذا فرقته. (ع)(2/589)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام، والاقتسام بمعنى التقاسم. فإن قلت: إذا علقت قوله: كَما أَنْزَلْنا بقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ فما معنى توسط لا تَمُدَّنَّ إلى آخره بينهما؟ قلت: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية. من النهى عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين عِضِينَ أجزاء، جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء. قال رؤبة:
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِىِ
وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهته «1» . وعن عكرمة: العضة السحر، بلغة قريش، يقولون للساحرة عاضهة. ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة «2» والمستعضهة، نقصانها على الأوّل واو، وعلى الثاني هاء.
[سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 93]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
لَنَسْئَلَنَّهُمْ عبارة عن الوعيد. وقيل. يسألهم سؤال تقريع. وعن أبى العالية: يسأل العباد عن خلتين: عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.
[سورة الحجر (15) : آية 94]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فاجهر به وأظهره. يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، كقولك: صرح بها، من الصديع وهو الفجر، والصدع في الزجاجة: الإبانة. وقيل:
فَاصْدَعْ فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر، والمعنى: بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ، كقوله:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ «3»
__________
(1) . قوله «إذا بهته» أى اتهمته. (ع)
(2) . أخرجه أبو يعلى وابن عدى من حديث ابن عباس. وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وهما ضعيفان. وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية عن ابن جريج عن عطاء.
(3) .
فقال لي قول ذى رأى ومقدرة ... محرر نزه خال من الريب
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
لخفاف بن ندبة، وقيل: لعباس بن مرداس. وقيل: لعمرو بن معديكرب. وقيل: لا ياس بن موسى، والمقدرة:
مثلث الدال: القوة، والمحرر النزه- كحذر-: الخالص من الغش. والريب، أى الشبه، وهو نعت لذي رأى.
ولو جعلته نعتا للرأى لكان فيه الفصل بين النعت والمنعوت بالعطف. ويجوز رفعه على أنه نعت مقطوع للقول.
والنشب: المال الأصل صامتا أو ناطقا، فهو من عطف الخاص على العام. ويروى: ذا نسب، بالمهملة: أى نسب عظيم، وأمر: يتعدى للثاني بالباء. ويقال: أمرتك الخير على التوسع، أو تضمين التكليف، وجمعهما الشاعر في البيت.(2/590)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ويجوز أن تكون بِما مصدرية، أى بأمرك مصدر من المبنى للمفعول.
[سورة الحجر (15) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
عن عروة بن الزبير في المستهزئين: هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحرث بن الطلاطلة.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: ماتوا كلهم قبل بدر. قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظماً لأخذه، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أحمص العاص بن وائل، فدخلت فيها شوكة، فقال: لدغت لدغت وانتفخت رجله، حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عينى الأسود بن المطلب، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس، فامتخط قيحاً فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات «1» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 99]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
بِما يَقُولُونَ من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن فَسَبِّحْ فافزع فيما نابك إلى الله. والفزع إلى الله: هو الذكر الدائم وكثرة السجود، يكفك ويكشف عنك الغم. ودم
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق. وأخرجه الطبراني في معجميه. وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لهما. وابن مردويه كلهم من طريق جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قال: هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وأبو زمعة والحرث بن عيطل السهمي قال أتاه جبريل فشكاهم إليه. فأراه الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أكحله. فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته. فساق الحديث. قال: فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود ابن المطلب فعمى. وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما العاص بن وائل فركب إلى الطائف فربط به حماره على شبرقة يعنى شوكة. فدخلت في أخمص قدمه فقتلته. وأما الحرث بن عيطل فأخذه ألم الأصفر في بطنه حتى خرج خرءه من فيه فمات منها»(2/591)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
على عبادة ربك حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أى الموت، أى ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «1» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم» «2»
سورة النحل
(مكية، غير ثلاث آيات في آخرها وتسمى سورة النعم، وهي مائة وثمان وعشرون آية [نزلت بعد سورة الكهف] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (16) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
كانوا يستمجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيباً بالوعد، فقيل لهم أَتى أَمْرُ اللَّهِ الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ روى أنه لما نزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا:
ما نرى شيئاً، فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به، فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا وقرئ: تستعجلوه، بالتاء والياء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء. أو عن إشراكهم، على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية. فإن قلت: كيف اتصل
__________
(1) . تقدم في البقرة.
(2) . رواه الثعلبي من طريق أبى الخليل عن على بن زيد عن زر بن حبيش عن أبى بن كعب. وقد تقدمت أسانيده في آخر آل عمران.(2/592)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
هذا باستعجالهم؟ قلت: لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك. وقرئ: تشركون، بالتاء والياء.
[سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قرئ يُنَزِّلُ بالتخفيف والتشديد. وقرئ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ أى تنزل بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، وأَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح، أى ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره: بأنه أنذروا، أى: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن» مفسرة، لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول.
ومعنى أنذروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا أعلموا بأنّ الأمر ذلك، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى:
يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فَاتَّقُونِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بدّ له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرئ: تشركون، بالتاء والياء فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فيه معنيان، أحدهما: فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة، بعد ما كان نطفة من منىّ جماداً لا حس به ولا حركة، دلالة على قدرته. والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: من يحيى العظام وهي رميم، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة.
وقيل نزلت في أبىّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ «1»
[سورة النحل (16) : آية 5]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5)
الْأَنْعامَ الأزواج الثمانية، وأكثر ما تقع على الإبل، وانتصابها بمضمر يفسره
__________
(1) . يأتى في صورة يس.(2/593)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
الظاهر، كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ ويجوز أن يعطف على الإنسان، أى: خلق الإنسان والأنعام، ثم قال خَلَقَها لَكُمْ أى ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. والدفء: اسم ما يدفأ به، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. وقرئ:
دفّ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء وَمَنافِعُ هي نسلها ودرّها وغير ذلك. فإن قلت:
تقديم الظرف في قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت:
الأكل منها هو الأصل «1» الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجارى مجرى التفكه. ويحتمل أن طعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها.
[سورة النحل (16) : آية 6]
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة- فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء «2» - أنست أهلها وفرحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً. فإن قلت: لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأنّ الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة:
حينا تريحون وحينا تسرحون، على أن تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وصف للحين. والمعنى: تريحون فيه وتسرحون فيه، كقوله تعالى يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ.
[سورة النحل (16) : آية 7]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
قرئ: بشق الأنفس، بكسر الشين وفتحها. وقيل: هما لغتان في معنى المشقة، وبينهما فرق:
وهو أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم المجرور وأجاب بأن الأكل منها هو الأصل ... الخ» ؟ قال أحمد:
ومدار هذا التقرير على أن تقديم معمول الفعل يوجب حصره فيه فكأنه قال وإنما تأكلون منها.
(2) . قوله «وتجاوب فيها الثغاء والرغاء» الثغاء صوت الشاء والمعز وما شاكلهما. والرغاء صوت ذوات الخف، كذا في الصحاح. [.....](2/594)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وأما الشق فالنصف، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت: ما معنى قوله: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ كأنهم كانوا زمانا يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت:
معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت: كيف طابق قوله: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ قوله:
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ وهلا قيل: لم تكونوا حامليها إليه «1» ؟ قلت: طباقه من حيث أن معناه:
وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى: لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل:
أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة: البلد مكة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.
[سورة النحل (16) : آية 8]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الأنعام، أى: وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت: لم انتصب وَزِينَةً؟ قلت: لأن مفعول له، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت: فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد «2» ؟ قلت: لأنّ الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ: لتركبوها زينة، بغير واو، أى: وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها، أى: وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف طابق قوله لم تكونوا بالغيه قوله وتحمل أثقالكم ... الخ» ؟ قال أحمد:
ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغنى عن أثقال يستصحبها والمعنى الأول أعلى، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «إن قلت هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد ... الخ» ؟ قال أحمد: يعنى فجاز أن ينتصب مجرداً من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول، ويعينه اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين، ومتى لم يتحد الفاعل تعين لحاق اللام، وفي هذا الجواب نظر، فان لقائل أن يقول: كان من الممكن مجيئهما معا باللام فيأتيان على سنن واحد. ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم، والجواب العتيد عنه: أن المقصود المعتبر الأصلى في هذه الأصناف هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب «فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة التعليل، تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب، والله أعلم(2/595)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
له في طيه، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار، مما لم يبلغه وهم أحد، ولا خطر على قلبه.
[سورة النحل (16) : آية 9]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
المراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال وَمِنْها جائِرٌ. والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال: سبيل قصد وقاصد، أى: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أنّ هداية الطريق الموصل «1» إلى الحق واجبة عليه، «2» كقوله إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله وَمِنْها جائِرٌ؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة «3» لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله:
ومنكم جائر، يعنى: ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قسراً وإلجاء «4» .
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
__________
(1) . قال محمود: «ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة ... الخ» قال أحمد: أين يذهب به عن تتمة الآية. وذلك قوله تعالى وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولو كان الأمر كما تزعم القدرية لكان الكلام: وقد هداكم أجمعين. وما كأنهم إلا يؤمنون ببعض الكتاب ويكافرون ببعض، فان ذهبوا إلى تأويل الهداية بالقسر والإلجاء، فما كأنهم إلا يحرفون الكلم من بعد مواضعه. وأما المخالفة بين الأسلوبين، فلأن سياق الكلام لاقامة حجة الله تعالى على الخلق بأنه بين السبيل القاصد والجائر، وهدى قوما اختاروا الهدى، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. وقد تقدم في غير ما موضع أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران، هو من حيث كونه موجوداً مخلوق لله تعالى ومضاف إليه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وبتأتيه له وتيسره عليه يضاف إلى العبد، وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل، فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها، وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له، والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر، ليناسب ذلك إقامة الحجة قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ والله الموفق للصواب.
(2) . قوله «الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه» هذا مذهب المعتزلة ولا وجوب عليه تعالى عند أهل السنة، بل ذلك فضل منه تعالى، لكن الكريم يبرز الوعد بالخير في صورة الواجب. (ع)
(3) . قوله «ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل» يعنى أهل السنة من أنه تعالى يخلق الشر كالخير. وقوله «لقيل» الخ: الملازمة ممنوعة لأن الكريم يحب الخير دون الشر، وإن كان كل منهما من عنده قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. (ع)
(4) . قوله «ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً وإلجاء» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فانه لو شاء لهدى الكل اختياراً، وذلك أن المعتزلة أوجبوا على الله الصلاح، وهداية الكل صلاح، فظاهر الآية يخالف مذهبهم. ولذا قالوا: إنه أراد هداية الكل، لكن إرادة لا تنافى تخيير العبد، لئلا يبطل تكليفه. وهذه الارادة لا تستلزم وقوع المراد. وأهل السنة لم يوجبوا على الله تعالى شيئا، وكل ما أراده الله لا بد من وقوعه. وهذه الارادة لا تنافى اختيار العبد عندهم لما تقرر له من الكسب، كما بين في علم التوحيد. (ع)(2/596)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
لَكُمْ متعلق بأنزل، أو بشراب، خبراً له. والشراب ما يشرب شَجَرٌ يعنى الشجر الذي ترعاه المواشي. وفي حديث عكرمة: لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت «1» . يعنى الكلأ تُسِيمُونَ من سامت الماشية إذا رعت، فهي سائمة، وأسامها صاحبها، وهو من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض. وقرئ: ينبت، بالياء والنون. فإن قلت:
لم قيل وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؟ قلت: لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة يَتَفَكَّرُونَ ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته.
والآية: الدلالة الواضحة. وعن بعضهم: ينبت، بالتشديد. وقرأ أبىّ بن كعب: ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، بالرفع.
[سورة النحل (16) : آية 12]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
قرئت كلها بالنصب على: وجعل النجوم مسخرات. أو على أنّ معنى تسخيرها للناس:
تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر.
وقرئ: والنجوم مسخرات، بالرفع. وما قبله بالنصب، وقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فجمع الآية. وذكر العقل، لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.
[سورة النحل (16) : آية 13]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في الأحوال عنه موقوفا. وزاد نحوه. وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن منبه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا السحت قالوا: وما السحت؟ قال: بيع الشجر، وثمن الخمر، وإجارة الأمة المساحقة.(2/597)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
وَما ذَرَأَ لَكُمْ معطوف على الليل والنهار. يعنى: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيئات والمناظر.
[سورة النحل (16) : آية 14]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
لَحْماً طَرِيًّا هو السمك، ووصفه بالطراءة، «1» لأنّ الفساد يسرع إليه، «2» فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت: ما بال الفقهاء قالوا: إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً، فأكل سمكا، لم يحنث. والله تعالى سماء لحماً كما ترى؟ قلت: مبنى الإيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك، وإذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك، كان حقيقاً بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله: إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث. حِلْيَةً هي اللؤلؤ والمرجان»
. والمراد بلبسهم: لبس نسائهم، لأنهنّ من جملتهم، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر: شق الماء بحيزومها. وعن الفراء: هو صوت جرى الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل: التجارة.
[سورة النحل (16) : الآيات 15 الى 16]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم وتضطرب. والمائد: الذي يدار به إذا ركب البحر.
قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أَحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة ممّ خلقت وَأَنْهاراً وجعل فيها أنهاراً، لأن أَلْقى فيه معنى: جعل. ألا ترى إلى قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً. وَعَلاماتٍ
__________
(1) . قوله «بالطراءة» في الصحاح: طرو اللحم. وطرى طراوة وطراء وطراة. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «هو السمك، ووصفه بالطراءة لأن الفساد يسرع إليه ... الخ» قال أحمد: فكأن ذلك تعليم لأكله وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «الحلية هي اللؤلؤ والمرجان ... الخ» قال أحمد: ولله در مالك رضى الله عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل المرأة من مالها وزينتها حلية له، فعبر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء، مؤيدا بالحديث المروي في الباب، والله أعلم.(2/598)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك. والمراد بالنجم: الجنس، كقولك. كثر الدرهم في أيدى الناس. وعن السدى: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدى. وقرأ الحسن: وبالنجم، بضمتين، وبضمة وسكون، وهو جمع نجم، كرهن ورهن، والسكون تخفيف. وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً. فإن قلت: قوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مخرج عن سنن الخطاب، مقدم فيه بِالنَّجْمِ، مقحم فيه هُمْ، كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فمن المراد ب هُمْ؟ قلت: كأنه أراد قريشاً: كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم، والاعتبار ألزم لهم، فخصصوا.
[سورة النحل (16) : آية 17]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)
فإن قلت: كَمَنْ لا يَخْلُقُ أريد به الأصنام، «1» فلم جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟ قلت:
فيه أوجه، أحدها: أنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ والثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث: أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده، كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها يعنى أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا. فإن قلت: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان «2» وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ
[سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 19]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام ... الخ» قال أحمد: هو تحوم على أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن المراد إظهار التفاوت بين من يخلق منهم ومن لا يخلق كالعاجزين والزمنى، حتى يثبت التفاوت بين من يخلق منهم وبين الأصنام بطريق الأولى، ولقد تمكن منه الطمع حتى اعتقد أنه يثبت خلق العبد لأفعاله بتنزيله الآية على هذه التأويل، ويتمنى لو تم له ذلك.
وما كل ما يتمنى المرء يدركه
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله تعالى وكان من حق الإلزام ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فجدد بها عهدا.(2/599)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
لا تُحْصُوها لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من أعمالكم، وهو وعيد.
[سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 21]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ والآلهة الذين يدعوهم الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ وقرئ بالتاء. وقرئ:
يدعون، على البناء للمفعول. نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب. ومعنى أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أى غير جائز عليها الموت كالحىّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في يُبْعَثُونَ للداعين، أى لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها، غير أحياء يعنى أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة، كالنطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها، لأنّ شعور الجماد محال، «1» فكيف بشعور ما لا يعلمه حىّ إلا الحىّ القيوم سبحانه. ووجه ثالث: وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة، وكان ناس منهم يعبدونهم، وأنهم أموات: أى لا بدّ لهم من الموت، غير أحياء: غير باقية حياتهم. وما يشعرون: ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.
__________
(1) . قوله «لأن شعور الجماد محال» أى شعوره بما يشعر به الحيوان محال، فكيف بشعوره بما لا يعلمه حيوان وإنما يعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث. ولعل في عبارة المصنف سقطاً تقديره: شعور الجماد بما يشعر به الحيوان. (ع)(2/600)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
[سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 23]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعنى أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها: استمرارهم على شركهم، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها لا جَرَمَ حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو وعيد إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعنى المشركين. ويجوز أن يعمّ كل مستكبر، ويدخل هؤلاء تحت عمومه.
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 25]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)
ماذا منصوب بأنزل، بمعنى: أى شيء أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أو مرفوع بالابتداء، بمعنى:
أىّ شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين، وإذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين، كقوله ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ فيمن رفع. فإن قلت: هو كلام متناقض، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت: هو على السخرية كقوله:
إنّ رسولكم «1» وهو كلام بعضهم لبعض، أو قول المسلمين لهم. وقيل: هو قول المقتسمين:
الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا أَحاديث الأوّلين وأباطيلهم لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ أى قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا أوزار ضلالهم كامِلَةً وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضلّ والضال شريكان: هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر. ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً، كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول أى يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل.
__________
(1) . قوله «على السخرية كقوله إن رسولكم» لعله: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. (ع) [.....](2/601)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
[سورة النحل (16) : الآيات 26 الى 29]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس. وهذا تمثيل، يعنى: أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا «1» بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين «فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا. ومعنى إتيان الله: إتيان أمره مِنَ الْقَواعِدِ من جهة القواعد مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون. وقرئ: فأتى الله بيتهم. فخرّ عليهم السقف، بضمتين يُخْزِيهِمْ بذلهم بعذاب الخزي رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ يعنى هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة شُرَكائِيَ على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم. وقرئ: تشاقون، بكسر النون، بمعنى: تشاقوننى، لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه. وقيل: هم الملائكة. قرئ: تتوفاهم، بالتاء والياء.
وقرئ: الذين توفاهم، بإدغام التاء في التاء فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ.
__________
(1) . قوله «ليمكروا بها الله ورسوله» لعل تعدية فعل المكر إلى مفعول لتضمنه معنى الخديعة. (ع)(2/602)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
خَيْراً أنزل خيراً. فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال، فقالوا خيراً: أى أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء. وروى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الواقد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيراً لك، فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبىّ مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً. وقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وما بعده بدل من خيراً، حكاية لقوله الذين اتقوا، أى: قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه.
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم وبحمدوا عليه حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها، كقوله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره. وجَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
ْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
قرئ بالتاء والياء، يعنى: أن تأتيهم لقبض الأرواح. ومْرُ رَبِّكَ(2/603)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
العذاب المستأصل، أو القيامةذلِكَ
أى مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتدميرهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم. أو هو كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
[سورة النحل (16) : آية 35]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعنى: أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه «1» كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى أشركوا وحرموا حلال الله «2» ، فلما نبهوا على قبح فعلهم
__________
(1) . قوله «وقالوا لو شاء الله لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه» يعنى أهل السنة، وليس كما قال، بل قاله المشركون استهزاء، وأهل السنة اعتقادا، كما أفاده النسفي. وكل ما شاء، الله كان، وما لم يشأ لم يكن، شرا كان أو خيرا. وكل أمر بقضائه تعالى وقدره، شرا كان أو خيراً. وهو الخالق لأفعال العباد وإن كانت بكسبهم واختيارهم، خلافا للمعتزلة في جميع ذلك، كما أطال به فيما سيأتى هنا انتصارا للمعتزلة. (ع)
(2) . قال محمود: «يعنى أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله ... الخ» قال أحمد: قد تكرر منه مثل هذا الفصل في أخت الآية المتقدمة في سورة الأنعام، وقد قدمنا حينئذ ما فيه مقنع إن شاء الله، والذي زاده هنا يثبت معتقده على زعمه بقوله تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ووجه تمسكه به أن الله تعالى قسم العبادة إلى قسمين: مأمور به ومنهى عنه. والأمر والنهى عند المصنف راجعان إلى المشيئة بناء على زعم القدرية في إنكار كلام النفس وحمل الاقتضاء على الارادة، فالحاصل حينئذ من هذه التتمة أن الله شاء عبادة الخلق له وشاء اجتنابهم عبادة الطاغوت، ولم يشأ منهم أن يشركوا به، وأخبر بهذه المشيئة على لسان كل رسول بعثه إلى أمة من الأمم، فجاءت التتمة مترجمة عن معنى صدر الآية، مؤكدة بمقتضاها. هذا هو الذي زاده المصنف هاهنا، وقد بينا أن مبناه على إنكار كلام النفس الثابت قطعا، فهو باطل جزما. والعجب أن الله تعالى أوضح في الآيتين جميعاً أن الذي أنكره من القائلين لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا إنما هو احتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة لهم فيها، مع ما خلق لهم من الاختيار بقوله هاهنا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وبقوله في آخر آية الأنعام فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فتبين فيهما أنه هو الذي شاء منهم الاشراك والضلالة، ولو شاء هدايتهم أجمعين لاهتدوا عن آخرهم. وحصل من هذا البيان: صرف الإنكار عليهم إلى غير نسبة المشيئة لله تعالى، وذلك هو الذي قدمناه في إقامتهم الحجة على الله بمشيئته، مع أن حجتهم في ذلك داحضة، ولله عليهم الحجة البالغة الواضحة، والله الموفق.(2/604)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
ورّكوه على ربهم «1» فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه.
[سورة النحل (16) : آية 36]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أى لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أى ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتى منه خير فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنى لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.
[سورة النحل (16) : آية 37]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أى لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. وقرئ: لا يهدى «2» ، أى:
لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ دليل على أنّ المراد بالإضلال: الخذلان الذي هو نقيض النصرة. ويجوز أن يكون لا يَهْدِي بمعنى لا يهتدى. يقال: هداه الله فهدى. وفي قراءة أبىّ: فإنّ الله لا هادى لمن يضل، ولمن أضلّ «3» ، وهي معاضدة لمن قرأ لا يَهْدِي على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله: يهدى، بإدغام تاء يهتدى، وهي معاضدة للأولى. وقرئ «يضل» بالفتح. وقرأ النخعي: إن تحرص، بفتح الراء، وهي لغية.
__________
(1) . قوله «وركوه على ربهم» أى اتهموه به. (ع)
(2) . قوله «وقرئ لا يهدى» أى بالبناء المجهول، كما أفاده النسفي. (ع)
(3) . قوله «وفي قراءة أبى: فان الله لا هادى لمن يضل ولمن أضل» ظاهره أن هذه قراءة أخرى لأبى، فليحرر. (ع)(2/605)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 39]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ معطوف على وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا: توريك ذنوبهم على مشيئة «1» الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه. وبَلى إثبات لما بعد النفي، أى: بلى يبعثهم. ووعد الله: مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى. لأن يبعث موعد من الله، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب «2» على الله، لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه «بلى» أى يبعثهم ليبين لهم. والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذي اختلفوا فيه هو الحق وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كذبوا في قولهم:
لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أى بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على الله الكذب.
[سورة النحل (16) : آية 40]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قَوْلُنا مبتدأ، وأَنْ نَقُولَ خبره. كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أى: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم، والمعنى: أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات. وقرئ: فيكون، عطفاً على نَقُولَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
__________
(1) . قوله «توريك ذنوبهم على مشيئة الله» أى نسبة ذنوبهم إلى مشيئته تعالى واتهامها بها. (ع)
(2) . قوله «أو أنه وعد واجب على الله ... الخ» الكلام في الكفار. وعرض فيه المصنف بأهل السنة تعصبا للمعتزلة في قولهم بوجوب الصلاح عليه تعالى فافهم. (ع)(2/606)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين. ومنهم من هاجر إلى المدينة. وقيل: هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم: منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار. وعن صهيب أنه قال لهم: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال له: ربح البيع يا صهيب. وقال له عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، وهو ثناء عظيم: يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه «1» ، فكيف فِي اللَّهِ في حقه ولوجهه حَسَنَةً صفة للمصدر، أى لنبو أنهم تبوئة حسنة. وفي قراءة على رضى الله عنه: لنثوّينهم. ومعناه: أثوأة حسنة. وقيل: لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر. وقيل: لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة، حيث آواهم أهلها ونصروهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفار، أى: لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أى: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم الَّذِينَ صَبَرُوا على:
هم الذين صبروا. أو أعنى الذين صبروا، وكلاهما مدح، أى: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله.
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قالت قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فقيل وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ على ألسنة الملائكة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً. فإن قلت: بم تعلق قوله بِالْبَيِّناتِ؟ قلت: له متعلقات شتى، فاما أن يتعلق مما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أى: وما أرسلنا
__________
(1) . قوله «لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه فكيف» أى فكيف لا يطيعه. وقد خلقها لمن عصى. (ع)(2/607)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصله: ضربت زيداً بالسوط وإما برجالا، صفة له: أى رجالا ملتسين بالبينات. وإما بأرسلنا مضمراً، كأنما قيل: بم أرسلوا؟ فقلت بالبينات، فهو على كلامين، والأوّل على كلام واحد. وإما بيوحى، أى:
يوحى إليهم بالبينات. وإما بلا تعلمون، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطنى حقي. وقوله فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدّمة، وأهل الذكر: أهل الكتاب. وقيل للكتاب الذكر، لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعنى ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أى المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» فِي تَقَلُّبِهِمْ متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم عَلى تَخَوُّفٍ متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ وقيل: هو من قولك: تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته:
قال زهير:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعة السَّفَنُ «2»
أى يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا. وعن عمر رضى الله عنه. أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوّف
__________
(1) . قوله «وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم» ضمن المكر معنى الخدع، فعدى إلى المفعول. (ع)
(2) . لأبى كبير الهذلي. وقيل لزهير. والتخوف: التنقص شيئا فشيئا. والتامك: السنام المرتفع. والقرد:
الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. أو الذي تنقب وفسد من الرحل في السفر. والنبعة: واحدة النبع، وهو شجر تتخذ منه القسي. ويروى: ظهر النبعة. والسفن: المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب، يقول: تنقص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر، كما تنقص المبرد عود النبعة. وفيه تشبيه بها في الصلابة. وروى أن عمر قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فسكتوا، فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا، التخوف: التنقص، وأنشد البيت، فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فان فيه تفسير كتابكم.(2/608)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
التنقص. قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا. وأنشد البيت.
فقال عمر: أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم.
[سورة النحل (16) : آية 48]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
قرئ: أو لم يروا. ويتفيؤا، بالياء والتاء. وما موصولة بخلق الله، وهو مبهم بيانه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ واليمين، بمعنى الأيمان. وسُجَّداً حال من الظلال. وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أى عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبى الشيء، أى: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع.
[سورة النحل (16) : الآيات 49 الى 50]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
مِنْ دابَّةٍ يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أنّ في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسى في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات: الملائكة. وكرّر ذكرهم على معنى: والملائكة خصوصا من بين الساجدين، لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم. ويجوز أن يراد بما في السموات: ملائكتهنّ.
وبقوله والملائكة: ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، «1» فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت: المراد بسجود
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا ما يتمسك به لمن اختار تناول اللفظ الواحد لحقيقته ومجازه شمولا ولم يرد ذلك متناقضا، فان السجود يتناول هل المكلف حقيقة يتناول حال غير المكلف بطريق مجاز التشبيه، وقد أريد جميعا من الآية، والزمخشري ينكر ذلك في مواضع مررت عليها من كتابه، هذا وظاهر مراده هاهنا أن السجود عبارة عن قدر مشترك بين فعل المكلف وحال غير المكلف، وهو عدم الامتناع عند القدرية، وغرضه من ذلك أن يكون اللفظ متواطئا فيهما جميعا، ليسلم من الجمع بين الحقيقة والمجاز، لأنه يأبى ذلك، ولا ينم له هذا المقصد في الآية- والله أعلم- لأن كونها آية سجدة يدل على أن المراد من السجود المذكور فيها منسوبا للمكلفين هو الفعل الخاص المتعارف شرعا، الذي يكون ذكره سببا لفعلة سببية معتادة في عزائم السجود، لا القدر الأعم المشترك، والله أعلم.(2/609)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
المكلفين: طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم: انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت:
فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم يَخافُونَ يجوز أن يكون حالا من الضمير «1» في لا يَسْتَكْبِرُونَ أى: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيداً له، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته مِنْ فَوْقِهِمْ إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا، كقوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء.
[سورة النحل (16) : آية 51]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين «2» ؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعنايه به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد: لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
__________
(1) . قال محمود: «يجوز أن يكون حالا من الضمير ... الخ» قال أحمد: هذا الثاني هو الوجه ليس الأول، وأما الحال فيعطى انتقالا، ويوهم تقيد العدم استكبارهم، مع أن الواقع أو عدم استكبارهم مطلق غير مقيد بحال، والله الموفق.
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة قوله اثنين مع إغناء التثنية عن ذلك ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من حسناته التي لا يدافع عنها، والله الموفق. [.....](2/610)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
[سورة النحل (16) : آية 52]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
الدِّينُ الطاعة واصِباً حال عمل فيه الظرف. والواصب: الواجب الثابت، لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه. ويجوز أن يكون من الوصب، أى: وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا. أو: وله الجزاء ثابتا دائما سرمدا لا يزول، يعنى الثواب والعقاب.
[سورة النحل (16) : الآيات 53 الى 55]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ وأىّ شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من الله فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا «1»
وقرئ: تجرون، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف الضرّ على:
فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة. فإن قلت: فما معنى قوله إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ؟ قلت: يجوز أن يكون الخطاب في قوله وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ عاما، ويريد بالفريق: فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال فإذا فريق كافر، وهم أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم،
__________
(1) .
وما آبلى على هيكل ... بناء وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات الملي ... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
بأعظم منك تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
للأعشى. والآبلى: الراهب، نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة. والهيكل: بيت الصنم. وصلب: أى صور الصليب.
وألف صارا للإطلاق. ويراوح: خبره، وإن لزم عليه التضمين مراعاة لجزالة المعنى، والمراوحة في العمل:
الانتقال من حالة إلى أخرى. والصلوات: الدعوات. والسجود: الانخفاض والخشوع. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء. وبأعظم: خبر آبلى. وتقى: تمييز. يقول: ليس الراهب العاكف على هيكله الذي صور فيه الصليب، وصار يتابع ويتنقل من بعض دعوات الله إلى بعض، فتارة يسجد سجوداً، وتارة يجأر جؤارا، تقاه أعظم من تقاك يوم الحساب إذا قام الناس من قبورهم، فنفضهم الغبار، كناية عن ذلك.(2/611)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تخلية ووعيد. وقرئ:
فيمتعوا، بالياء مبنيا للمفعول، عطفا على لِيَكْفُرُوا ويجوز أن يكون: ليكفروا فيمتعوا، من الامر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر.
[سورة النحل (16) : آية 56]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
لِما لا يَعْلَمُونَ أى لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذاً جاهلون بها. وقيل: الضمير في لا يَعْلَمُونَ للآلهة. أى: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر اجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا إليهم لَتُسْئَلُنَّ وعيد عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.
[سورة النحل (16) : الآيات 57 الى 59]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعنى البنين. ويجوز في ما يَشْتَهُونَ الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات، أى: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. وظَلَّ بمعنى صار «1» كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة. ويجوز أن يجيء ظل، لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه «2» من الكآبة والحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ مملوء حنقاً على المرأة يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفى منهم مِنَ أجل سُوءِ المبشر به، ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به عَلى هُونٍ
__________
(1) . قال محمود: «ظل بمعنى صار» قال أحمد: وجاز أن يراد الظلول نهاراً لقصد المبالغة في وصفهم بالعناد والإصرار وأنهم لو عرجوا نهارا في الوقت الذي لا يتغابى على البصر فيه شيء إلى السماء لتمادوا على كفرهم وتكذيبهم، والله أعلم.
(2) . قوله «ويجوز أن يجيء ظل ... الخ» أى يرد ويستعمل في الآية بمعناه الأصلى، وهو اتصاف الشيء بصفة نهاراً فقط، لأن أكثر الوضع ... الخ. ومربد الوجه: متعبسه من الغضب، كما يفيده الصحاح. (ع)(2/612)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
على هوان وذل أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يئده «1» . وقرئ: أيمسكها على هون أم يدسها، على التأنيث. وقرئ: على هوان أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف.
[سورة النحل (16) : آية 60]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء: وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وهو الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم.
[سورة النحل (16) : آية 61]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
بِظُلْمِهِمْ بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها أى على الأرض مِنْ دَابَّةٍ قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين. وعن أبى هريرة: أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى أنّ الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم «2» . وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم «3» . أو من دابة ظالمة. وعن ابن عباس مِنْ دَابَّةٍ من مشرك يدب عليها. وقيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
[سورة النحل (16) : آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم «4»
__________
(1) . قوله «أم يئده» أى يدفنه في القبر حيا. (ع)
(2) . أخرجه الطبري والبيهقي في الشعب التاسع والأربعين. وفي إسناده محمد بن جابر التمامى. وهو متروك.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة والحاكم والطبراني من طريق أبى الأحوص قال: قرأ ابن مسعود وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ- الآية قال: كاد الجعل يعذب في جحره يذنب ابن آدم» .
(4) . قال محمود: «المراد بما يكرهونه البنات، وشركاء في رياستهم، واستخفاف برسلهم ... الخ» قال أحمد:
ونقيض هؤلاء من إذا أعجبه شيء من ماله جعله لله، بل إذا أحب أمة له أعتقها، وإذا اشتهى طعاما قدم إليه تصدق به على حبه، وإنما ينقل مثل هذا عن السلف الصالح من الصحابة، كابن عمر ونظرائه ومن تابعهم فيها، ويجعلون لله ما يشتهون. اللهم إن لم ننل رتبة أوليائك فأنلنا محبتهم، فمن أحب قوما حشر معهم.(2/613)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
والتهاون برسالاتهم. ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ مع ذلك أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عند الله كقوله وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوى اليسار: كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى: هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة. وإذا قال: هاتوا ما دفع إلىّ فيؤتى بالكسر والخرق ومالا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية.
وعن مجاهد: أنّ لهم الحسنى، هو قول قريش: لنا البنون، وأن لهم الحسنى: بدل من الكذب.
وقرئ الْكَذِبَ جمع كذوب، صفة للألسنة مُفْرَطُونَ قرئ مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلانا، وفرّطته في طلب الماء، إذا قدمته. وقيل. منسيون متروكون، من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته.
والمكسور المخفف، من الإفراط في المعاصي. والمشدّد، من التفريط في الطاعات وما يلزمهم.
[سورة النحل (16) : آية 63]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. ومعنى وَلِيُّهُمُ قرينهم وبئس القرين. أو يجعل فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أى فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولى وهؤلاء، لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أى: فهو ولى أمثالهم اليوم.
[سورة النحل (16) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على لتبين: لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل. وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل. والذي اختلفوا فيه: البعث، لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(2/614)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
سماع إنصاف وتدبر، لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع.
[سورة النحل (16) : آية 66]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)
ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم:
ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً. وأمّا فِي بُطُونِها في سورة المؤمنين، فلأنّ معناه الجمع. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان، أحدهما: أن يكون تكثير نعم «1» كأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله:
فِى كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ «2»
وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم. وأنه في معنى الجمع. وقرئ نُسْقِيكُمْ بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل: كيف العبرة، فقيل نسقيكم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ أى يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. والكبد مسلطة على هذه الأصناف
__________
(1) . قوله «أن يكون تكثير نعم» لعله «تكسير» بالسين. (ع)
(2) .
في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه ... ولا يلاقون طعانا دونه
أنعم الأبناء تحسبونه ... هيهات هيهات لما ترجونه
لصبي من بنى أسد اسمه قيس بن الحصين الحارثي. والنعم: أسم جمع يعامل معاملة المفرد. وقد يراعى معناه فيعامل كالجمع. والأنعام عده سيبويه من المفردات المبنية على أفعال، كأخلاق وأمشاج، فيعامل بالتذكير تارة اعتباراً بلفظه، وبالتأنيث أخرى اعتباراً بمعناه. وقيل: هو جمع نعم كأسباب وسبب، والكلام تحسر وتحزن في صورة الاخبار، ويحتمل تقدير همزة الاستفهام التوبيخي أو التعجبي قبل في، أى: أفى كل عام تفعلون ذلك. وروى:
أكل عام، بالاستفهام. وكل: نصب على الظرفية. وفيه الاخبار بالزمان عن اسم العين وهو نعم. إما لأنه يشبه المعنى لتجدده كل عام كما قاله ابن مالك وغيره في مثله. أو على تقدير مضاف كما ذهب إليه جمهور البصريين» أى:
نهب نعم. وجملة تحوونه: صفة نعم، ويجوز أنها خبره، وكل عام: ظرف لتحوونه، وقدم لأنه محط الاستفهام.
وعليه فالمسوغ للابتداء بنعم وقوعه في حيز الاستفهام. أو تقديم معمول الخبر عليه لأنه كتقديم الخبر. ويلقحه قوم أى يطلقون فحوله على إناثه فتحمل عندهم. وتنتجونه أنتم: أى تستولدونه عندكم، كناية عن نهبه منهم. والأرباب الأصحاب. والنوكى: جمع أنوك كحمقى جمع أحمق وزنا ومعنى. والطعان: المطاعنة بالرماح، أى: لا يحاربون أمامه ويصبرون للحرب. وقوله أنعم: استفهام إنكارى توبيخي، أى: لا تحسبوا نعمنا نعم أولئك الحمقى الضعاف.
وهيهات بمعنى بعد، وكرره للتوكيد وقطع الأطماع. وقوله «لما ترجونه» متعلق بمحذوف، أى: أقول ذلك لما ترجونه، واللام فيه لتبيين الفاعل. ويجوز أنها زائدة فيه، والرجا: الطمع، ويجوز أنه الظن.(2/615)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش.
فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائِغاً سهل المرور في الحلق.
ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: سيغاً، بالتشديد. وسيغاً، بالتخفيف. كهين ولين.
فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك: سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله لَبَناً مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أى: كائناً من بين فرث ودم.
ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبناً من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً.
[سورة النحل (16) : آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
فإن قلت: بم تعلق قوله وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ؟ قلت: بمحذوف تقديره:
ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أى: من عصيرها، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو يتعلق بتتخذون، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك: زيد في الدار فيها. ويجوز أن يكون تَتَّخِذُونَ صفة موصوف محذوف، كقوله:
... بِكَفّىْ كَانَ مِنْ أرْمَى الْبَشَرْ «1»
__________
(1) .
مالك عندي غير سوط وحجر ... وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفى كان من أرمى البشر
السوط: آلة للضرب، معمولة من الجلد. وكبداء صفة لمحذوف، أى قوس كبداء غليظة الكبد، أى المقبض.
وقيل: واسعته. والوتر: حبل تشد به القوس. وجادت: صارت جيدة. ويروى بدله: ترمى. وشبه الرمي لها مجاز عقلى. وكفى مضاف لمحذوف قامت صفته في اللفظ مقامه، وهي جملة «كان» وحذف المنعوت الأول مطرد، والثاني ضرورة، لأنه لا يجوز حذف المنعوت إلا إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو «في» ، أو صلح نعته لمباشرة العامل. و «كان» هنا ليس للمضى، بل لمجرد الثبوت والدوام، أى: بكفى رجل متصف بأنه دائما من أشد الناس رميا، يعنى نفسه. ففيه تجريد. يقول لعدوه: ليس لك عندي غير هذه الأشياء، وهو ضرب من التهديد والتقريع: هدده بالسوط عند القرب، وبالحجر عند المفارقة، وبالسهم عند البعد: ويروى «سهم» بدل سوط، فيضيع الترتيب.(2/616)
تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقا حسناً، لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفا مكرّراً؟
قلت: إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى أَوْ هُمْ قائِلُونَ إلى الأهل المحذوف، والسكر: الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً. نحو رشد رشداً ورشداً. قال:
وَجَاؤُنَا بهم سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى اليَوْمُ وَالسَّكْرَانُ صَاحِى «1»
وفيه وجهان: أحدهما أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها: الشعبي والنخعي. والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة. وقيل: السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتدّ، وهو حلال عند أبى حنيفة إلى حدّ السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم «الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب» «2» وبأخبار جمة. ولقد صنف شيخنا أبو على الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ، فلما شيخ «3» وأخذت منه السنّ العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوى به، فأبى. فقيل له: فقد صنفت في تحليله، فقال:
تناولته الدعارة «4» فسمج في المروءة. وقيل: السكر الطعم «5» وأنشد:
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَا
أى تنقلت بأعراضهم «6» . وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك «7» في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن: الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً، كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء ص 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . أخرجه النسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا. ورواه العقيلي من وجه آخر عن على مرفوعا. وفيه محمد بن الفرات الكوفي، وهو منكر الحديث.
(3) . قوله «فلما شيخ وأخذت منه السن العالية» في الصحاح: شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك، وشيخ تشييخا: أى شاخ. (ع)
(4) . قوله «فقال تناولته الدعارة» في الصحاح: الدعارة الفسق والخبث. (ع) [.....]
(5) . قوله «وقيل السكر الطعم» في الصحاح: الطعم بالضم: الطعام. (ع)
(6) . قوله «أى تنقلت بأعراضهم» في الصحاح: النقل بالضم ما ينتقل به على الشراب. (ع)
(7) . قوله «وإنه إذا ابترك» في الصحاح: ابترك، أى أسرع في العدو وجد. (ع)(2/617)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيقتها «1» في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها، كما أولى أولى العقول عقولهم. وقرأ يحيى بن وثاب إِلَى النَّحْلِ بفتحتين. وهو مذكر كالنخل، وتأنيثه على المعنى أَنِ اتَّخِذِي هي أن المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. وقرئ: «بيوتا» بكسر الباء لأجل الياء. ويَعْرِشُونَ بكسر الراء وضمها: يرفعون من سقوف البيوت. وقيل: ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها. والضمير في يَعْرِشُونَ للناس. فإن قلت: ما معنى «من» في قوله أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها «2» في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل «3» وتعتاد أكلها، أى ابني البيوت، ثم كلى من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أى الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أى في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها،
__________
(1) . قوله «وإلا فنيقتها» أى تأنقها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «قلت أريد معنى البعضية وأن لا تبنى بيوتها ... الخ» قال أحمد: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض، لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع، ولهذا المعنى دخلت ثم لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات، كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أى شيء شئت، فتوسط ثم لتفاوت الحجر والإطلاق، فسبحان اللطيف الخبير.
(3) . قوله «بالثمرات التي تجرسها النحل» في الصحاح «الجرس» الصوت الخفي، وجرست النحل العرفط إذا أكلته. وفيه أيضا «العرفط» شجر من العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك. (ع)(2/618)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله ثُمَّ كُلِي ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك ذُلُلًا جمع ذلول، وهي حال من السبل، لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أو من الضمير في فَاسْلُكِي أى: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة شَرابٌ يريد العسل، لأنه مما يشرب مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقلّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك.
وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخى يشتكى بطنه، فقال: «اذهب واسقه العسل» فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع، فقال: «اذهب واسقه عسلا» فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال «1» . وعن عبد الله بن مسعود:
العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل «2» .
ومن بدع تأويلات الرافضة: أن المراد بالنحل علىّ وقومه: وعن بعضهم أنه قال عند المهدى:
إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدى وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.
[سورة النحل (16) : آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن علىّ رضى الله عنه.
وتسعون سنة عن قتادة، لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى سعيد وغفل الحاكم فاستدركه.
(2) . لم أره هكذا. وفي الكامل لابن عدى من رواية لابن إسحاق عن أبى الأحوص عن عبد الله رفعه «عليكم بالشفاءين: العسل: شفاء من كل داء. والقرآن شفاء لما في الصدور» وقال: لم يرفعه عن وكيع عن الثوري إلا سفيان بن وكيع. قال ورواه زيد بن الحباب عن الثوري أيضا مرفوعا اه وأخرجه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم من رواية زيد بن الحباب بهذا الاسناد مرفوعا بلفظ «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» وابن أبى شيبة عن وكيع مرفوعا ولفظه «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم والثعلبي أيضا. قال ابن أبى شيبة: وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حيية عن الأسود عن عبد الله قال «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل» .(2/619)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً: وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه.
[سورة النحل (16) : آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أى: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكى عن أبى ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما هم إخوانكم، فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون «1» فما رئي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من عير تفاوت «2» أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء. وقيل المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق. فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. وقرئ: يجحدون، بالتاء والياء.
[سورة النحل (16) : آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم. وقيل: هو خلق حواء من ضلع آدم. والحفدة: جمع حافد، وهو الذي يحفد، أى يسرع في الطاعة والخدمة. ومنه قول القانت. وإليك نسعى ونحفد وقال:
حَفَدَ الْوَلَائِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ «3»
واختلف فيهم فقيل: هم الأختان على البنات «4» وقيل: أولاد الأولاد. وقيل: أولاد المرأة
__________
(1) . متفق عليه. وأخرجه أصحاب السنن.
(2) . لم أره.
(3) . يقول، حفد من باب ضرب، أى أسرع. الولائد: جمع وليدة وهي البنت الصغيرة، بينهن: أى بين النساء الطاعنات. وأسلمت: مبنى للمجهول، أى تركت في أكف الظعائن والولائد. أزمة الأجمال: جمع زمام، وذلك دليل على حفظهن وصونهن، حتى لا يتخلل ركبهن إلا الولائد.
(4) . قوله «فقيل هم الأختان على البنات» في الصحاح: الحفدة الأعوان والخدم. وفيه أيضا: الخبّن بالتحريك كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ، وهم الأختان، كذا عند العرب وأما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته اه فلعله أيضا ضمن الأختان معنى الأعوان أو الخلفاء فعداء بعلى. وفي الخازن عن ابن مسعود: الحفدة أختان الرجل على بناته. (ع)(2/620)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
من الزوج الأوّل. وقيل: المعنى وجعل لكم حفدة، أى خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ويجوز أن يراد بالحفدة: البنون أنفسهم، كقوله سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً كأنه قيل: وجعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أى جامعون بين الأمرين مِنَ الطَّيِّباتِ يريد بعضها، لأنّ كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به، كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز: هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول.
وقيل: الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما. ونعمة الله: ما أحل لهم.
[سورة النحل (16) : آية 73]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)
الرزق يكون بمعنى المصدر، وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به شَيْئاً كقوله أَوْ إِطْعامٌ...... يَتِيماً على: لا يملك أن يرزق شيئاً. وإن أردت المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا. ويجوز أن يكون تأكيداً للا يملك: أى لا يملك شيئاً من. الملك. ومِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى: لا يرزق من السموات مطرا، ولا من الأرض نباتاً. أو صفة إن كان اسما لما يرزق. والضمير في وَلا يَسْتَطِيعُونَ لما، لأنه في معنى الآلهة، بعد ما قيل لا يَمْلِكُ على اللفظ. ويجوز أن يكون للكفار، يعنى: ولا يستطيع هؤلاء- مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب- من ذلك شيئا، فكيف بالجماد الذي لا حسن به.
فإن قلت: ما معنى قوله وَلا يَسْتَطِيعُونَ بعد قوله لا يَمْلِكُ؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت:
ليس في لا يَسْتَطِيعُونَ تقدير راجع، وإنما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلا، لأنهم موات، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفى الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد: أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم.
[سورة النحل (16) : آية 74]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به «1» ، لأنّ من يضرب الأمثال
__________
(1) . قال محمود: «تمثيل للاشراك بالله والتشبيه به ... الخ» قال أحمد: فعلى تفسيره الأول يكون قوله لِلَّهِ متعلقا بالأمثال، كأنه قيل: فلا تمثلوا الله ولا تشبهوه. وعلى الثاني يكون متعلقا بالفعل الذي هو تضربوا، كأنه قيل: فلا تمثلوا لله الأمثال، فان ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم، ليبين له ما خفى عنه، والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون، فتمثيل غير العالم للعالم عكس الحقيقة، والله أعلم.(2/621)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
مشبه حالا بحال وقصة بقصة إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كنه ما تفعلون وعظمه، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم، لأنّ العقاب على مقدار الإثم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ كنهه وكنه عقابه، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه، فهو تعليل للنهى عن الشرك. ويجوز أن يراد: فلا تضربوا لله الأمثال، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون.
[سورة النحل (16) : آية 75]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
ثم علمهم كيف تضرب فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان: مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء.
فإن قلت: لم قال مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ «1» وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف؟
قلت: أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا، لأنهما من عباد الله.
وأما لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له، لأنهما يقدران على التصرف.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم قال مملوكا لا يقدر على شيء ... الخ» قال أحمد: والقول بصحة ملكه هو مذهب الامام مالك رضى الله عنه. وفي هذه الآية له معتصم، لأن الله تعالى مثل بالمملوك لأنه مظنة العجز وعدم الملك والتصرف غالبا، ثم أفصح عن المعنى المقصود: وهو أن هذا المملوك ليس بمن اتفق أن ملكة سيده فملك وقدر، بل هو على الأصل المعهود في المماليك عاجز غير قادر، ولو لم يكن ملك العبد متصورا ومعهودا شرعا وعرفا، لكان قوله تعالى لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ كالتكرار لما فهم من قوله عَبْداً مَمْلُوكاً وقول القائل يقول إنه احتراز من المكاتب، بعيد من فصاحة القرآن: فانه لو كان العبد لا يصح منه ملك البتة إلا في حال الكتابة، لكانت إرادته حينئذ من إطلاق اللفظ، كالألغاز الذي لا يعهد مثله في بيان القرآن واستيلائه على صنوف البلاغة. ومثل هذا أنكره الامام أبو المعالي على من حمل قوله عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» على المكاتبة لبعد القصد إليها على شذوذها.
وأما الاحتراز به عن المأذون له فيبنى على القول بأن المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف، وإن لم يكن المأذون له مالكا عند هذا القائل. وهذا بعيد عن مطابقة قوله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فإنها توجب أن يكون المراد بقوله لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لا يملك شيئاً من الرزق، كما تقول في الحر المفلس: فلان لا يقدر على شيء، أى لا يملك شيئاً يقدر على التصرف فيه. فتلخص من هذا البحث أن في الآية مجالا لنصرة مذهب مالك، وإن كان لقائل أن يقول: هذه الصفة لازمة كالإيضاح لفائدة ضرب المثل بالمملوك، كأنه قيل: وإنما ضربنا المثل بالمملوك، لأن صفته اللازمة له وسمته المعروفة به، أنه لا يقدر على شيء. أى لا يصح منه ملك، وكثيراً ما يجيء الحال والصفة لا يقصد بواحد منهما تقييده ولا تخصيص، ولكن إيضاح وتفسير. ومن ذلك قوله تعالى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فقوله لا برهان له به. لا يقصد به تمييز له سوى اللَّهُ من «إله» لأن كل مدعو إلها غير الله تعالى، لا برهان به. وإنما أريد أن عدم البرهان من لوازم دعاء إله غير الله تعالى، فهذا أقصى ما يمكن أن ينتصر به للقائل بعدم صحة ملك العبد. ولنا أن نقول في دفعه أن الأصل في الصفة والحال وشبههما التخصيص والتقييد. وأما الوارد من ذلك لازما فنادر على خلاف الأصل، والله الموفق. [.....](2/622)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له. فإن قلت: مَنْ في قوله وَمَنْ رَزَقْناهُ ما هي؟ قلت: الظاهر أنها موصوفة، كأنه قيل: وحراً رزقناه، ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة. فإن قلت: لم قيل يَسْتَوُونَ على الجمع؟ قلت: معناه:
هل يستوي الأحرار والعبيد؟
[سورة النحل (16) : آية 76]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
الأبكم الذي ولد أخرس، فلا يَفهم ولا يُفهم وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ هو سليم الحواس نفاعا ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو يَأْمُرُ الناس بِالْعَدْلِ والخير وَهُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرئ: أينما يوجه، بمعنى أينما يتوجه، من قولهم: أينما أوجه ألق سعداً: وقرأ ابن مسعود:
أينما يوجه، على البناء للمفعول.
[سورة النحل (16) : آية 77]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفى عليهم علمه. أو أراد بغيب السموات والأرض: يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أى هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه.
ونحوه قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أى هو عنده دان وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه «1» ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
__________
(1) . قوله «وأوحاه» أى: وأسرعه. أفاده الصحاح. (ع)(2/623)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. ثم دل على قدرته بما بعده.
[سورة النحل (16) : آية 78]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قرئ أُمَّهاتِكُمْ بضم الهمزة وكسرها، والهاء مزيدة في أمات، كما زيدت في أراق، فقيل: أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة قال:
أُمَّهَتِى خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبىِ «1»
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال. ومعناه: غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون، وسوّاكم وصوّركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله وَجَعَلَ لَكُمُ معناه:
وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقي إلى ما يسعدكم. والأفئدة في فؤاد، كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير، فجرت ذلك المجرى.
[سورة النحل (16) : آية 79]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قرئ: لم يروا، بالتاء والياء مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية «2» لذلك. والجوّ: الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك «3»
__________
(1) .
إنى لدى الحرب رخى اللبب ... معتزم الصولة عالى النسب
أمهتى خندف وإلياس أبى
لقصي بن كلاب بن مرة جد النبي صلى الله عليه وسلم. ورخى اللبب. رحب الصدر واسع البال. واللبب في الأصل جبل في صدر المطية يمنع الرحلة من الاستئخار، أطلق على ذلك للمجاورة. ومعتزم: مصمم. والصولة: تجشم المكروه واقتحامه. وزيادة الهاء في أمهة شاذ. وخندف، بكسر الخاء والدال: امرأة إلياس بن مضر، وهذا لقبها، واسمها ليلى. والخندفة: مشية كالهرولة. وإطلاق الأم والأب على الجدة والجد: مجاز لمطلق الأصالة.
(2) . قوله «والأسباب المواتية لذلك» في الصحاح آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة إذا وافقته والعامة تقول:
وأتيته. (ع)
(3) . قوله «والسكاك أبعد منه» في الصحاح السكاك والسكاكة الهواء الذي يلاقي أعنان السماء وفيه أيضاً أعنان السماء صفائحها وما اعترض من أقطارها. والعنان بالفتح السحاب. (ع)(2/624)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
أبعد منه، واللوح مثله ما يُمْسِكُهُنَّ في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته.
[سورة النحل (16) : آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها. والسكن: فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف بُيُوتاً هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع تَسْتَخِفُّونَها ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أى يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها «1» ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعاً، على أنّ اليوم بمعنى الوقت وَمَتاعاً وشيئاً ينتفع به إِلى حِينٍ إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى أن تموتوا. وقرئ: يوم ظعنكم، بالسكون.
[سورة النحل (16) : آية 81]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
مِمَّا خَلَقَ من الشجر وسائر المستظلات أَكْناناً جمع كنّ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف سَرابِيلَ هي القمصان والثياب من الصوف والكتان «2» والقطن وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ لم يذكر البرد، لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملا. وقيل: ما يقي من الحرّ يقي من البرد «3» فدل ذكر الحرّ
__________
(1) . قال محمود: «المراد يخف عليكم حملها ونقلها ... الخ» قال أحمد: والتفسير الأول أولى، لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر. وأما المستوطن فغير مثقل، وما أحسن قول الزمخشري في يوم إقامتكم:
أن المراد خفة ضربها وسهولة ذلك عليهم، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «هي القمصان والثياب من الصوف والكتان وغيرها ... الخ» قال أحمد: يعنى عند العرب وخصوصا قطان الحجاز، وهم الأصل في هذا الخطاب.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقيل إن ما بقي الحر بقي البرد فدل ذكره عليه» قال أحمد: والأول أظهر. ألا ترى إلى تقديم المنة بالظلال التي تقى من الضحا، في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فدل على أن الأهم عند المخاطبين وقاية الحر، فامتن الله عليهم بأعظم نعمه موقعا عندهم. وقول القائل «إن ما يقي الحر يقي البرد» مشهود عليه بالعرف، فان الذي يتقى به الحر من القمصان رقيقها ورفيعها، وليس ذلك من البوس البرد، بل لو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين- القيظ والبرد- لباس الآخر، يعد من الثقلاء.(2/625)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
على البرد وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يريد الدروع والجواشن «1» والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أى تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له. وقرئ: تسلمون، من السلامة: أى تشكرون فتسلمون من العذاب. أو تسلم قلوبكم من الشرك. وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
[سورة النحل (16) : الآيات 82 الى 83]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم: هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وقيل: قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله. وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أى الجاحدون غير المعترفين. وقيل نِعْمَتَ اللَّهِ نبوّة محمد عليه السلام، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة، لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 85]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
شَهِيداً نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق، والكفر والتكذيب ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار. والمعنى. لا حجة لهم، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر، وكذا عن الحسن وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا هم يسترضون، أى: لا يقال لهم أرضوا ربكم:
لأن الآخرة ليست بدار عمل. فإن قلت: فما معنى ثم هذه؟ قلت: معناها أنهم يمنون «2» بعد
__________
(1) . قوله «والجواشن» في الصحاح: الجوشن الصدر. والجوشن الدرع. (ع)
(2) . قوله «يمنون» في الصحاح: منوته ومنيته إذا ابتليته. (ع)(2/626)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
شهادة الأنبياء بما هو أطم منها، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة. وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره: واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ كقوله بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ... الآية.
[سورة النحل (16) : الآيات 86 الى 87]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم، فمعنى شُرَكاؤُنَا آلهتنا التي دعوناها شركاء. وإن أرادوا الشياطين، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغىّ: ونَدْعُوا بمعنى نعبد. فإن قلت: لم قالوا إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت: لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة. والدليل عليه قول الملائكة كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، فهم المعبودون دوننا. أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك. وإن أريد بالشركاء الشياطين، جاز أن يكون «كاذبين» في قولهم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ كما يقول الشيطان: إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل وَأَلْقَوْا يعنى الذين ظلموا. وإلقاء السلم: الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ وبطل عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن لله شركاء، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم.
[سورة النحل (16) : آية 88]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم، وحملوا غيرهم على الكفر: يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم. وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها «1» أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله.
__________
(1) . قوله «حمتها» حمة العقرب بالتخفيف، والهاء عوض عن اللام وهي سمها. واما حمة الحر، فبالتشديد، وهي معظمه، أفاده الصحاح. (ع)(2/627)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[سورة النحل (16) : آية 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى نبيهم، لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك تِبْياناً بيانا بليغاً ونظير «تبيان» «تلقاء» في كسر أوله، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لِكُلِّ شَيْءٍ؟
قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقيل: وما ينطق عن الهوى. وحثاً على الإجماع في قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وقد رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه، والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» «1» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد، مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثمّ كان تبيانا لكل شيء.
[سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
العدل هو الواجب، «2» لأن الله تعالى عدل فيه على عباده «3» فجعل ما فرضه عليهم واقعاً
__________
(1) . أخرجه الدارقطني في المؤتلف من رواية سلام بن سليم عن الحرث بن غصن عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر مرفوعا. وسلام ضعيف. وأخرجه في غرائب مالك من طريق حميد بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في أثناء حديث: وفيه «فبأى قول أصحابى أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابى مثل النجم من أخذ بنجم منها اهتدى» وقال: لا يثبت عن مالك. ورواته دون مالك مجهولون. ورواه عبد بن حميد والدارقطني في الفضائل من حديث حمزة الحريري عن نافع عن ابن عمر. وحمزة اتهموه بالوضع. ورواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبى هريرة وفيه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وقد كذبوه. ورواه ابن طاهر من رواية بشر بن الحسين عن الزبير بن عدى عن أنس. وبشر كان متهما أيضاً. وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس وجويبر متروك. ومن رواية جويبر أيضا عن حواب بن عبد الله مرفوعا وهو مرسل، قال البيهقي هذا المتن مشهور وأسانيده كلها ضعيفة. وروى في المدخل أيضا عن عمر ورفعه «سألت ربى فيما يختلف فيه أصحابى من بعدي. فأوحي إلى: يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هو عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى» وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد السهمي، وهو متروك.
(2) . قال محمود: «العدل: الواجب. والإحسان: الندب» قال أحمد: وفي جمعهما تحت الأمر ما يدل لمن قال إن صيغة الأمر- أعنى هذه المبنية من الهمزة والميم والراء لا صيغة أفعل- تتناول القبيلين بطريق التواطؤ وموضعها القدر المشترك بينهما من الطلب والله أعلم.
(3) . عاد كلامه. قال: «وإنما كان الواجب عدلا لأن الله تعالى عدل فيه على عباده ... الخ» قال أحمد:
وهذه وليجة من الاعتزال. ومعتقد المعتزلة استحالة تكليف ما لا يطاق لأنه ظلم وجور، وذلك على الله محال.
والحق والسنة أن كل قضاء الله عدل، وأن تكليف ما لا يطاق جائز عليه وعدل منه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ بل التكاليف كلها على خلاف الاستطاعة، على مقتضى توحيد أهل السنة، المعتقدين أن كل موجود بقدرة الله تعالى حدث ووجد، لا شريك له في ملكه، وكيف يكون شريكه عبداً مسخراً في قبضة ملكه، هذا هو التوحيد المحض.
وإذا كان العبد مكلفا بما هو من فعل الله، فهذا عين التكليف بما لا يطاق، ولكن ذلك عدل من الله تعالى، وحجته البالغة قائمة على المكلف بما خلقه له من التأتى والتيسر في الأفعال الاختيارية التي هي محال التكاليف،(2/628)
تحت طاقتهم وَالْإِحْسانِ الندب، وإنما علق أمره بهما جميعاً، لأنّ الفرض لا بدّ من أن يقع فيه تفريط «1» فيجبره الندب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- لمن علمه الفرائض فقال: والله لا زدت فيها ولا نقصت-: «أفلح إن صدق» «2» فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى الله عليه وسلم «استقيموا ولن تحصوا» «3» فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط ممن النوافل. والفواحش: ما جاوز حدود الله وَالْمُنْكَرِ ما تنكره العقول «4» وَالْبَغْيِ طلب التطاول بالظلم، «5» وحين أسقطت من الخطب «6» لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه، أقيمت هذه الآية مقامها. ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالا وخزيا، إجابة لدعوة نبيه:
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وإنما قرنهما في الأمر، لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب ...
الخ» قال أحمد: وهذه نكتة حسنة يجاب بها عن قول القائل: لم حكم عليه الصلاة والسلام بفلاح المصر على ترك السنن، فيقال: المحكوم بفلاحه لأجله إنما هو الصدق في سلامة الفرائض من خلل النقص والزيادة، والله أعلم. [.....]
(2) . متفق عليه من رواية طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضى الله عنهم.
(3) . أخرجه ابن ماجة والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي وأبو يعلى من رواية سالم بن أبى الجعد عن ثوبان. وهو منقطع. ورواه ابن حبان والطبراني من وجه آخر عن ثوبان. ورواه الحاكم من رواية الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. ورواه الطبراني والعقيلي من حديث سلمة بن الأكوع وفيه الواقدي. وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والبزار والطبراني عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، وليث ضعيف. وأشار البزار إلى أنه تفرد به.
(4) . عاد كلامه. قال: «والفواحش ما جاوز حدود الله، والمنكر ما تنكره العقول» قال أحمد: وهذه أيضا لفتة إلى الاعتزال، ولو قال: والمنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق، ولكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، والله الموفق.
(5) . عاد كلامه. قال: «والبغي طلب التطاول بالظلم» قال أحمد: وأصل موضوعه الطلب، ومنه ابتغاء وجه الله، ابتغاء مرضاة الله، ولكن صار مطلقه خاصا بطلب الظلم عرفا.
(6) . عاد كلامه. قال: «وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجه ... الخ» قال أحمد: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهناة، لاحظ التطبيق بين ذكر النهى عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد: في أن المناصب لعلى باغ، حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعمار وكان من حزب على:
تقتلك الفئة الباغية، والله أعلم، فقتل مع على يوم صفين.(2/629)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
«وعاد من عاداه» «1» وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون.
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 92]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
عهد الله: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ. وَلا تَنْقُضُوا أيمان البيعة بَعْدَ تَوْكِيدِها أى بعد توثيقها باسم الله. وأكد ووكد: لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل كَفِيلًا شاهداً ورقيباً، لأن الكفيل
__________
(1) . هذا طرف من حديث غدير خم الوارد في فضل على بن أبى طالب رضى الله عنه. وقد أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن الطفيل عن زيد بن أرقم. وفيه هذا اللفظ.
ورواه النسائي أيضا من رواية شريك: قلت لأبى إسحاق: أسمعت البراء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قال: نعم. وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من وجه آخر عن شريك عن إدريس بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبى هريرة وتابعه عكرمة بن إبراهيم عن إدريس عند الطبراني، ورواه الطبري أيضا من طريق سليمان بن قوم عن أبى إسحاق عن حبشي بن جنادة. وأخرجه النسائي أيضا من طريق مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم «أخذ بيد على يوم غدير خم فقال: من كنت وليه فهذا وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وأخرجه الحاكم من رواية مسلم الملائى عن حثمة بن عبد الرحمن عن سعد بن مالك نحوه وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني من طريق عطية عنه والبزار من طريق جميل بن عمارة عن سالم عن أبيه وعن أنس وغيره أخرجه الطبراني في الصغير من رواية طلحة بن مصرف عن عميرة بن سعد قال: شهدت علياً على المنبر ناشد الصحابة: من سمعه يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشرة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس» وعن جرير أخرجه الطبراني مطولا: وعن طلحة أخرجه الحاكم من رواية رفاعة بن إياس العمى عن أبيه عن جده قال «كنا مع على يوم الجمل فبعث إلى طلحة فقال له: نشدتك الله، ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- فذكره، فقال: نعم. قال:
فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكره وانصرف طلحة» وعن جابر أخرجه أبو يعلى، والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن قبيصة بن ذؤيب وأبى سلمة عن جابر، وعن حذيفة بن أسيد أخرجه الطبراني وجمع ابن عقدة طرف حديث غدير خم. فأخرجه من رواية جماعة آخرين من الصحابة مع هؤلاء: منهم عمار بن ياسر، والعباس وابنه، والحسن بن على والحسين بن على، وعبد الله بن جعفر، وسلمان الفارسي، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن حارثة. وأبو رافع، وزيد بن ثابت الأنصارى، ويعلى بن مرة وآخرون.(2/630)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
مراع لحال المكفول به مهيمن عليه وَلا تَكُونُوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أَن أحكمته وأبرمته فجعلته أَنْكاثاً جمع نكث وهو ما ينكث فتله. قيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن تَتَّخِذُونَ حال ودَخَلًا أحد مفعولي اتخذ. يعنى: ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا بَيْنَكُمْ أى مفسدة ودغلا «1» أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ بسبب أن تكون أمة يعنى جماعة قريش هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ هي أزيد عدداً وأوفر مالا. من أمة من جماعة المؤمنين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير لقوله: أن تكون أمة، لأنه في معنى المصدر، أى: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحيل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
[سورة النحل (16) : آية 93]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، «2» وهو قادر على ذلك وَلكِنْ الحكمة اقتضت أن يضلّ مَنْ يَشاءُ وهو أن يخذل من علم أنه يختار «3» الكفر ويصمم عليه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان.
يعنى: أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
__________
(1) . قوله «ودغلا» في الصحاح «الدغل» بالتحريك: الفساد، مثل الدخل (ع)
(2) . قال محمود: «معناه على طريقة الإلجاء والقسر» قال أحمد: وهذا تفسير اعتزالى قد قدم أمثاله في أخوات هذه الآية، وغرضه الفرار من الحق المستفاد من تعليق المشيئة بلو، الدالة على أن مشيئة الله تعالى لايمان الخلق كلهم ما وقعت، وأنه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فايمان وكفر، وتصدق وتكذيب كما وقع منهم، ولو شاء شمولهم بالايمان لوقع، فيصادم الزمخشري هذا النص ويقول: قد شاء جعلهم أمة واحدة حنيفة مسلمة، ولكن لم يقع مراده. فإذا قيل له: فعلام تحمل المشيئة في الآية؟ قال: على مشيئة إيمانهم قسراً لا اختياراً، وهذه المشيئة لم تقع اتفاقا.
(3) . قوله «وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة، فالاضلال:
خلق الضلال في القلب، لأنه يجوز على الله خلق الشر عندهم دون المعتزلة، كما بين في محله. (ع)(2/631)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال «1» والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه «2» .
[سورة النحل (16) : آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
ثم كرر النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وَتَذُوقُوا السُّوءَ في الدنيا بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وخروجكم من الدين. أو بصدّكم غيركم، لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
[سورة النحل (16) : آية 95]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان- لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد- أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم الله، وَلا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا بِعَهْدِ اللَّهِ وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَناً قَلِيلًا عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة خَيْرٌ لَكُمْ.
[سورة النحل (16) : آية 96]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد.
وقرئ لَنَجْزِيَنَّ بالنون والياء الَّذِينَ صَبَرُوا على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام. فإن
__________
(1) . قوله «ولو كان هو المضطر إلى الضلال» على معنى اسم الفاعل، أى الذي يضطر العباد ويلجئهم. وقوله «لما أثبت ... الخ» مسلم، ولكنه لم يضطرهم ولم يلجئهم ولو كان هو الخالق لأعمالهم في الحقيقة، لما لهم فيها من الكسب كما قرره أهل السنة في علم التوحيد، فلينظر. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال محمود: ومما يدل على أن الله لم يبن الأمر على الإجبار وإنما بناه على الاختيار قوله تعالى وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولو كان هو المضطر للهداية والضلال لما أثبت لهم ما يسألون عنه» قال أحمد:
أما أهل السنة الذين يسميهم المصنف مجبرة فهم من الإجبار بمعزل، لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختياراً وأفعالا، وهم مع ذلك يوحدون الله حق توحيده، فيجعلون قدرته تعالى هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، تمييزاً بين الاختياري والقسري وتقوم بها حجة الله على عبده، والله الموفق.(2/632)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قلت: لم وحدت القدم ونكرت؟ «1» قلت: لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
فإن قلت: مَنْ متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على التبيين، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً حَياةً طَيِّبَةً يعنى في الدنيا وهو الظاهر، لقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ وعده الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً، فلا مقال فيه. وإن كان معسراً، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله. وأمّا الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحياة الطيبة: الرزق الحلال.
وعن الحسن: القناعة. وعن قتادة: يعنى في الجنة. وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وكقولك: إذا أكلت فسمّ الله. فإن قلت: لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم وحدت القدم ونكرت ... الخ» قال أحمد: ومن جنس إفادة التنكير هاهنا التقليل: إفادته له في قوله تعالى وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ وفي قوله عز وجل اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ فنكر الأذن والنفس تقليلا للواعى من الناس لما يقضى بسداده، وللناظر من الخلق في أمر معاده، والله الموفق.(2/633)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
فقال لي: «يا ابن أمّ عبد. قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ» «1» لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أى تسلط وولاية على أولياء الله، يعنى:
أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته إِنَّما سُلْطانُهُ على من يتولاه ويطيعه بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير يرجع إلى ربهم. ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى:
بسببه وغروره ووسوسته.
[سورة النحل (16) : آية 101]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته. وهذا معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟
قلت: فيه أن قرآناً ينسخ بمثله وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.
[سورة النحل (16) : آية 102]
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
في يُنَزِّلُ ونَزَّلَهُ وما فيهما من التنزيل شيئاً فشيئاً على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وأنّ ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. ورُوحُ الْقُدُسِ جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال:
حاتم الجود وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس: المطهر
__________
(1) . رواه الثعلبي مسلسلا عن شيخه أبى الفضل محمد بن جعفر الخزاعي إلى ابن مسعود. ورواه الواحدي في الوسيط عن الثعلبي.(2/634)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
من المآثم. وقرئ: بضم الدال وسكونها بِالْحَقِّ في موضع الحال، أى نزله ملتبساً بالحكمة، يعنى أن النسخ من جملة الحق لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ليبلوهم بالنسخ، حتى إذا قالوا فيه: هو الحق من ربنا والحكمة، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب وَهُدىً وَبُشْرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت. والتقدير: تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. وقرئ: ليثبت، بالتخفيف.
[سورة النحل (16) : آية 103]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
أرادوا بالبشر: غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب. وقيل: هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل عبدان: جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال: بل هو يعلمني.
وقيل: هو سلمان الفارسي. واللسان: اللغة. ويقال: ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا:
ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه. ومنه الملحد، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أَعْجَمِيٌّ غير بين وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة ردّا لقولهم وإبطالا لطعنهم. وقرئ يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء. وفي قراءة الحسن: اللسان الذي يلحدون إليه بتعريف اللسان.
فإن قلت: الجملة التي هي قوله لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ما محلها؟ قلت: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم. ومثله قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بعد قوله وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 105]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أى يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ ردّ لقولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ يعنى: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يترقب عقاباً عليه وَأُولئِكَ إشارة إلى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ أى هم(2/635)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون. أى أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب: أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
مَنْ كَفَرَ بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله، على أن يجعل وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراضاً بين البدل والمبدل منه. والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه.
واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أى طاب به نفسا واعتقده فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ويجوز أن يكون بدلا من المبتدإ الذي هو أُولئِكَ على: ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو الكاذبون، على: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه. ويجوز أن ينتصب على الذمّ. وقد جوّزوا أن يكون مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ شرطاً مبتدأ، ويحذف جوابه، لأنّ جواب مَنْ شَرَحَ دال عليه، كأنه قيل: من كفر بالله فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب. روى أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه- ياسر وسمية- وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم: عذبوا، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين وو جيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل يا رسول الله، إن عماراً كفر، فقال: «كلا، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: «مالك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي، أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه(2/636)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا «1» . فإن قلت: أى الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت: بل فعل أبويه، لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام. وقد روى أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فىّ؟
قال أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فىّ؟
قال أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله. وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له «2» » ذلِكَ إشارة إلى الوعيد، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم، لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى:
إنّ ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم، كما يكون الملك الرجل لا عليه، فيكون محمياً منفوعا غير مضرور مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بالعذاب والإكراه على
__________
(1) . هكذا أورده الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وروى الحاكم من حديث زر عن ابن مسعود قال: «أول من أظهر إسلامه سبعة: فذكرهم إلى أن قال: فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد- الحديث» ورواه ابن سعد من طريق منصور عن مجاهد قال «أول من أظهر فذكر مثله- وزاد فجاء أبو جهل يشتم سمية ويرفث ثم طعنها فقتلها. فهي أول شهيد في الإسلام. قلت قوله صلى الله عليه وسلم «إن عماراً مليء إيمانا» رواه [بياض في الأصلين] وقوله «اختلط الايمان بلحمه ودمه» رواه [بياض في الأصلين] وقوله «إن عادوا لك فعد لهم» رواه [بياض في الأصلين] [.....]
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن «أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه وقال: إنى أصم، فأعاد عليه، فقال مثله، فأمر بقتله. وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت.
فقال: وما شأنك؟ فأخبره بقصته وقصة صاحبه فقال أما صاحبك فمضى على إيمانه. وأما أنت فأخذت بالرخصة.
وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر قال: سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين فذكره بنحوه. وذكر الواحدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان في الساقة. وذكروا أنه قطعه عضواً عضواً وأحرقه بالنار.(2/637)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
الكفر. وقرئ فُتِنُوا على البناء للفاعل، أى: بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمى وأشباهه مِنْ بَعْدِها من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر يَوْمَ تَأْتِي منصوب برحيم. أو بإضمار اذكر. فإن قلت: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول:
نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها كقوله هؤُلاءِ أَضَلُّونا، ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ونحو ذلك.
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أى جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها مُطْمَئِنَّةً لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف رَغَداً واسعاً. والأنعم: جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع.
أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث. نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى:
«إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا «1» » . فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه «2» ؟ قلت:
__________
(1) . لم أجده هكذا.
(2) . قال محمود: «إن قلت الاذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحة إيقاع الاذاقة على اللباس ... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر، وقد نظر إليهما جميعاً في قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى، وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها، ثم جاء ملاحظا الشراء المستعار قوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء، ثم جاء ملاحظا الحقيقة الأصلية المستعار لها قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فانه مجرد عن الاستعارة، إذ لو قيل أولئك الذين ضلوا وما كانوا مهتدين، لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه، كترشيح المجاز في بابه. ومنه:
إذا الشيطان قصع في قفاها ... تنفقناه بالحبل التؤام
فجعل الشيطان في قفاها قاصعاً ثم نافقاً، ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره، والشوط في هذا الفن البديع فطين، والله الموفق.(2/638)
أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب: شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع «1» . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس: ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما، أحدهما:
أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه هاهنا. ونحوه قول كثير:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكاً ... غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ «2»
استعارة الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف «3» والنوال، لا صفة الرداء، نظر إلى المستعار له. والثاني:
أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله:
يُنَازِعُنِى رِدَائِى عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْر
لِىَ الشّطْرُ الَّذِى مَلَكَتْ يَمِينِى ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ «4»
__________
(1) . قوله «بما يدرك من الطعم المر والبشع» عبارة غيره: طعم المر والبشع، ولعله المر البشع بدون واو. (ع)
(2) . لكثير. والغمر: الكثير. وشبه العطاء بالرداء، لأنه يصون عرض صاحبه أو يستر فقر السائل، فاستعاره له على سبيل التصريحية وإضافة الغمر إليه تجريد، لأنه يلائم المشبه. هذا وقد يقال الغمر، يطلق على الماء الذي يغمر قامة المنغمس فيه، فيجوز أنه يشبه العطاء من حيث صونه عرض صاحبه بالرداء، فيكون استعارة مصرحة، وتكون إضافة الغمر إليه من إضافة المشبه به للمشبه، يجامع عموم كل ونفعه، والقرينة على كل ذلك قوله: إذا تبسم. شارعا في الضحك: غلقت لضحكته رقاب المال: يقال: غلق الرجل إذا ضجر وغضب، وغلق الرهن إذا ملكه المرتهن ولم يقدر صاحبه على فكه، وكانت تلك عادتهم. فالمعنى: إذا ضحك غضبت الأموال لعلها أنها ستؤخذ ويملكها غيره، أو ثبتت في أيدى السائلين وملكوها. ورقاب المال: مجاز مرسل، أى أعيانه.
(3) . قوله «ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف» في الصحاح الغمر الماء الكثير. وفيه «الاعتجار» لف العمامة على الرأس، وفيه «الضافي» السابغ. (ع)
(4) . استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما، كالشىء يتجاذبه اثنان. واستعار الرداء السيف بجامع حفظ كل لصاحبه وعدم الاستغناء عنه. والاعتجار ترشيح، ومعناه: التعمم أو التلفع، فهو ملائم الرداء. ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو: فاعل. ورويدك: اسم فعل، بمعنى أمهل، والكاف حرف خطاب، قاله الجوهري. وبالنظر لأصله فهو مصدر، والكاف مضاف إليه، وفيه التفات. وبكر:
أبو قبيلة. والشطر الذي ملكته يمينه: هو مقبض السيف. ودونك: اسم فعل بمعنى خذ» أى خذه فتلفع منه بالشطر الآخر وهو صدره، والأمر للاباحة، وفيه نوع تهكم»(2/639)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
أراد بردائه سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافى الرداء إذا تبسم ضاحكا وَهُمْ ظالِمُونَ في حال التباسهم بالظلم، كقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرئ وَالْخَوْفِ عطفاً على اللباس، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أصله: ولباس الخوف. وقرئ: لباس الخوف والجوع.
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 115]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، وصل بذلك بالفاء في قوله فَكُلُوا صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب، وشكر إنعامه بذلك، وقال إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعنى تطيعون. أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة، لأنها شفعاؤكم عنده. ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.
[سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
وانتصاب الْكَذِبَ بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحى من الله أو إلى قياس مستند إليه. واللام مثلها في قولك:
ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أى: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم،(2/640)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
فتقول هذا حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب الكذب بتصف، وتجعل «ما» مصدرية، وتعلق هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بلا تقولوا، على: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أى: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم: ووجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر، وقرئ «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى بِدَمٍ كَذِبٍ والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرئ «الكذب» جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابا، ذكره ابن جنى.
واللام في لِتَفْتَرُوا من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.
[سورة النحل (16) : آية 118]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يعنى في سورة الأنعام.
[سورة النحل (16) : آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
بِجَهالَةٍ في موضع الحال، أى: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة.
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 122]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
كانَ أُمَّةً فيه وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمّة من الأمم «1» لكماله في جميع صفات
__________
(1) . قال محمود: «في قوله أمة وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمة من الأمم ... الخ» قال أحمد: ويقوى هذا الثاني قوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى كان أمة تؤمه الناس ليقتبسوا منه الخيرات ويقتفوا بآثاره المباركات، حتى أنت على جلالة قدرك قد أوحينا إليك أن اتبع ملته ووافق سبرته، والله أعلم.(2/641)
الخير، كقوله:
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِى وَاحِدِ «1»
وعن مجاهد: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. والثاني: أن يكون أمّة بمعنى مأموم، أى: يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة «2» والنخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعى عن ابن مسعود أنه قال: إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله، فقلت: غلطت، إنما هو إبراهيم. فقال: الأمّة: الذي يعلم الخير. والقانت المطيع لله ورسوله «3» ، وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال- حين قيل له: ألا تستخلف؟ -: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته. ولو كان سالم حيا لاستخلفته فإنى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: «أبو عبيدة أمين هذه الأمّة، ومعاذ أمّة قانت لله، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون، وسالم شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله لم يعصه «4» . وهو ذلك المعنى، أى: كان إماما في الدين، لأنّ الأئمة معلمو الخير.
__________
(1) .
قولا لهارون إمام الهدى ... عند احتفال المجلس الحاشد
أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواحد
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
لأبى نواس يعطف هرون الرشيد على الفضل البرمكي حين توعده بالقتل، غيرة منه لما سمع من نهايته في الكرم، وخاطب الاثنين تأسيا بعادة العرب، والاحتفال: الاجتماع. والحاشد الجامع، وعلى بمعنى مع، أى: أنت مع كونك في غاية الاقتدار لست واجداً مثل الفضل في العالم كله، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما فيه خبره من رائحة الشرط، أى: وإن كنت قادراً، ودخلت الباء في خبر ليس لتوكيد النفي، واستدل على ذلك بقوله: ليس مستنكراً على الله جمعه خصال العالم كلها في رجل واحد كالفضل، هذا ما يتبادر منه ظاهر النظم، لكنه خلاف مقتضى مقام الاستعطاف، فالمعنى ولا يكن منك غيرة من الفضل، فان كرمه بعض صفاتك، فان الله قادر على جمع صفات العالم كلها فيك، وقد فعل. ويروى: من الله بدل على الله. ويروى: بمستبدع، بدل بمستنكر.
(2) . قوله «كالرحلة» في الصحاح «الرحلة» بالضم: الوجه الذي تريده، وبالكسر: الارتحال. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية. من رواية علية عن منصور عن عبد الرحمن عن الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعى قال قال ابن مسعود. فذكره. لكن ليس فيه: فقلت له «غلطت» بل فيه فقيل له: إن ابراهيم. وفيه «وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير. وكان مطيعا لله ورسوله» ورواه الحاكم أيضاً من رواية شعبة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال «إن معاذا كان أمة قانتا لله» فقال رجل من أشجع يقال له: فروة ابن نوفل: إنما ذاك ابراهيم. فقال عبد الله: إنا كنا نشبهه بإبراهيم- الحديث» وأخرجه عبد الرزاق. ومن طريق الحاكم قال أخبرنا الثوري عن فراس نحوه.
(4) . لم أجده(2/642)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
والقانت: القائم بما أمره الله. والحنيف: المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم شاكِراً لِأَنْعُمِهِ روى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً، فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال: الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم اجْتَباهُ اختصه واصطفاه للنبوّة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى ملة الإسلام حَسَنَةً عن قتادة: هي تنوبه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: الأموال والأولاد، وقيل: قول المصلى منا: كما صليت على إبراهيم لَمِنَ الصَّالِحِينَ لمن أهل الجنة.
[سورة النحل (16) : آية 123]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله»
صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجلّ ما أولى من النعمة: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
[سورة النحل (16) : آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
السَّبْتُ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه.
والمعنى في ذكر ذلك، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا، وغير ما ذكر، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت:
ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت: معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: «وفي ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ... الخ» قال أحمد:
وإنما تفيد ذلك ثم لأنها في أصل وضعها لتراخى المعطوف عليه في الزمان، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً وأرفع رتبة وأبعد رفعة، وهو أن النبي الأمى الذي هو سيد البشر متبع لملة إبراهيم، مأمور باتباعه بالوحي، متلو أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا، لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه، والله الموفق للصواب.(2/643)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر: وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شر ذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة، فكانوا لا يصيدون فيه، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك، وهو يحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيجازى كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت: فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه. وقرئ: إنما جعل السبت، على البناء للفاعل. وقرأ عبد الله: إنا أنزلنا السبت.
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى الإسلام بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوز أن يريد القرآن، أى: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
سمى الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة. والمعنى: إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرئ: وإن عقبتم فعقبوا، أى: وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم.
روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد: بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به، وروى:(2/644)
فرآه مبقور البطن فقال: «أما والذي أحلف به، لئن أظفرنى الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك «1» » فنزلت، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده، ولا خلاف في تحريم المثلة. وقد وردت الأخبار بالنهى عنها «2» حتى بالكلب العقور. إما أن رجع الضمير في لَهُوَ إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم. ويراد بالصابرين: المخاطبون، أى: ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة. وإما أن يرجع إلى جنس الصبر- وقد دل عليه صبرتم- ويراد بالصابرين جنسهم، كأنه قيل: وللصبر خير للصابرين. ونحوه قوله تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَاصْبِرْ أنت فعزم عليه بالصبر وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أى بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أى على الكافرين، كقوله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ وقرئ: ولا تكن في ضيق، أى: ولا يضيقن صدرك من مكرهم. والضيق: تخفيف الضيق، أى في أمر ضيق. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين، كالقيل والقول إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أى هو ولىّ الذين اجتنبوا المعاصي وَولى الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم. وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين احتضر: أوص.
فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» «3»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بغير سند. وقصة حمزة أخرجها البزار والطبراني من رواية سليمان التيمي عن ابن عثمان عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوم أحد إلى حمزة وقد قتل ومثل به. فرأى منظراً لم يرقط أوجع لقلبه منه. وذكر باقى الحديث أتم مما ذكره هنا ورواية صالح فهو عن سليمان. وصالح ضعيف. وله طريق أخرى أخرجها الدارقطني من رواية إسماعيل بن عباس قال «لما انصرف المشركون عن قتلى أحد فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه حمزة منظراً أساءه، وقد شق بطنه واصطلم أنفه- فذكر القصة «وفيها: لأمثلن مكانه بسبعين رجلا. وذكر الصلاة عليه وعلى القتلى. قال: فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الآية فصبر ولم يمثل بأحد» قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل وهو ضعيف عن غير الشاميين، قلت: وأما أول الكلام فذكره. [.....]
(2) . قلت روى ذلك عن جماعة من الصحابة.
(3) . رواه الثعلبي وابن مردويه. وقد تقدم سنده في آل عمران.(2/645)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سورة الإسراء
(مكية [إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57، ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية] وآياتها 111 [نزلت بعد القصص] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سُبْحانَ علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره:
أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله «1» . وأَسْرى وسرى لغتان. ولَيْلًا نصب على الظرف.
فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟ «2» قلت: أراد بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله
__________
(1) . قوله «القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» يريد بهم أهل السنة القائلين بأنه تعالى هو الخالق لجميع الحوادث من أفعال العباد وغيرها، خيراً كانت أو شراً، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لفعل نفسه حتى يكون مقدوراً له، فيصح تكليفه به، ولكن استند أهل السنة لمثل قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وهذا لا ينافي اختيار العباد في أفعالهم، لأنهم أثبتوا لهم الكسب فيها، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: الاسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل ... الخ» ؟ قال أحمد وقد قرن الاسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا، كقوله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وكقوله تعالى فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا فالظاهر- والله أعلم- أن الغرض من ذكر الليل وإن كان الاسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع، وكأن الاسراء لما دل على أمرين، أحدهما: السير، والآخر: كونه ليلا. أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب، وتنبيها على أنه مقصود بالذكر. ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموماً لغيره قوله تعالى وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد، فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ولو اقتصر على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ لأوهم أن المهم إثبات الالهية له، والغرض من الكلام ليس إلا الإثبات للوحدانية، والله أعلم.(2/646)
وحذيفة: من الليل، أى: بعض الليل، كقوله وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً يعنى الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل: هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل عليه السلام بالبراق «1» » وقيل: أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد. وروى أنه كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به «2» ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ، وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر بنى كعب بن لؤي، هلم فحدّثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً.
وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبى بكر رضى الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إنى لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمى الصدّيق.
وفيهم من سافر إلى ما ثمّ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال:
تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقى الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» «3» وعن معاوية: إنما عرج بروحه. وعن الحسن، كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر
__________
(1) . متفق عليه من حديث مالك بن صعصعة مطولا.
(2) . ذكره الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وكأنه من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه، ثم رأيته من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. أخرجه الحاكم والبيهقي عنه. لكن لم يسبق لفظه، وقد رواه النسائي باختصار عن هذا من رواية عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس. وأورده ابن سعد وأبو يعلى والطبراني من حديث أم هانئ مطولا.
(3) . قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني بعض آل أبى بكر عن عائشة بهذا «لكن أسرى» بدل «عرج» قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة عن ابن معاوية قال: كانت رؤيا من الله صادقة.(2/647)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
الأقاويل بخلاف ذلك. والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد بارَكْنا حَوْلَهُ يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحى، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقرأ الحسن: ليريه بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم «فقيل: أسرى ثم باركنا ثم ليريه، على قراءة الحسن، ثم من آياتنا، ثم إنه هو، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال محمد الْبَصِيرُ بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
أَلَّا تَتَّخِذُوا قرئ بالياء على: لئلا يتخذوا، وبالتاء على: أى لا تتخذوا، كقولك:
كتبت إليه أن أفعل كذا وَكِيلًا ربا تكلون إليه أموركم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا نصب على الاختصاص. وقيل: على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهى، يعنى: قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مَعَ نُوحٍ وقد يجعل وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مفعولي تتخذوا، أى لا تجعلوهم أرباباً كقوله وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام. وقرئ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا بالرفع بدلا من واو تَتَّخِذُوا وقرأ زيد بن ثابت: ذرية، بكسر الذال. وروى عنه أنه قد فسرها بولد الولد، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق إِنَّهُ إن نوحاً كانَ عَبْداً شَكُوراً قيل: كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنى، ولو شاء أجاعنى. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأنى. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كسانى، ولو شاء أعرانى. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى، ولو شاء أحفانى. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى أذاه في عافية، ولو شاء حبسه. وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجاً آثره به. فإن قلت: قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت: كأنه قيل: لا تتخذوا من دوني وكيلا، ولا تشركوا بى، لأنّ نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم.
ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد.(2/648)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 6]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وأوحينا إليهم وحيا مقضيا، أى مقطوعا مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أى: يتعظمون ويبغون فِي الْكِتابِ في التوراة، ولَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجرى القضاء المبتوت مجرى القسم، فيكون لَتُفْسِدُنَّ جوابا له، كأنه قال: وأقسمنا لتفسدن. وقرئ: لتفسدنّ، على البناء للمفعول. ولتفسدن، بفتح التاء من فسد مَرَّتَيْنِ أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم عِباداً لَنا وقرئ عبيداً لنا. وأكثر ما يقال:
عباد الله وعبيد الناس: سنحاريب وجنوده «1» وقيل بخت نصر. وعن ابن عباس: جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفاً. فإن قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة «2» على ذلك ويسلطهم عليه «3» . قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه، فهو كقوله تعالى وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء. وقرئ: فجوّسوا. وخلل الديار. فإن قلت:
ما معنى وَعْدُ أُولاهُما؟ قلت: معناه وعد عقاب أولاهما وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعنى:
وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أى الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل: هي قتل بخت نصر واستنقاذ بنى إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وقيل: هي قتل داود جالوت أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم.
__________
(1) . قوله «سنحاريب وجنوده» كان ملك بابل، وبخت نصر هو ابن ابنه، وكان من كتابه. وكذا في الخازن. (ع)
(2) . قوله «فان قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك» مبنى على أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة كل كائن فهو فعله ومراده ولو شرا، فلا سؤال. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يبعث الله الكفرة ... الخ» قال أحمد: هذا السؤال إنما يتوجه على قدرى يوجب على الله تعالى بزعمه رعاية ما يتوهمه بعقله مصلحة، وأما السنى إذا سئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ والله الموفق.(2/649)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
والنفير، من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نفر كالعبيد والمعيز.
[سورة الإسراء (17) : آية 7]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)
أى الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن علىّ رضى الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرّة الْآخِرَةِ بعثناهم «1» لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرئ: ليسوء والضمير لله تعالى، أو للوعد، أو للبعث. ولنسوء: بالنون. وفي قراءة علىّ: لنسوأنّ: وليسوأنّ وقرئ لنسوأن، بالنون الخفيفة. واللام في لِيَدْخُلُوا على هذا متعلق بمحذوف وهو:
وبعثناهم ليدخلوا. ولنسوأن: جواب إذا جاء ما عَلَوْا مفعول ليتبروا، أى ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى: مدة علوّهم.
[سورة الإسراء (17) : آية 8]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرّة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي وَإِنْ عُدْتُمْ مرة ثالثة عُدْنا إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن: عادوا فبعث الله محمدا، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحىّ من العرب، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة حَصِيراً محبسا يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن:
بساطا كما يبسط الحصير المرمول «2»
__________
(1) . قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرة الْآخِرَةِ بعثناهم: أى عبادنا وهم في هذه المرة، الفرس والروم، بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خروش. حتى دخل الشام بجنود فقتل وسبى، حتى كاد يفنى بنى إسرائيل، وبقي منهم بقايا حتى كثروا، وكانت لهم الرياسة في بيت المقدس إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس بن أسبيانوس الرومي فخرب بلادهم وطردهم عنها، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب، فعمره المسلمون بأمره. اه من الخازن. (ع)
(2) . قوله كما يبسط الحصير المرمول» أى المنسوج، أفاده الصحاح. (ع)(2/650)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرئ: ويبشر، بالتخفيف، فإن قلت: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقى، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة «1» بين المنزلتين بعد ذلك. فإن قلت: علام عطف وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ؟ قلت:
على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً على معنى: أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابهم، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون.
[سورة الإسراء (17) : آية 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
أى: ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، كما يدعوه لهم بالخير، كقوله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ. وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا، فأقبل يئن بالليل، فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم «2» القدّ، فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلى رحمة لأنى بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها «3» » ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة. وكان
__________
(1) . قوله «وإنما حدث أصحاب المنزلة» يعنى الفسقة. وإثبات الواسطة مذهب المعتزلة دون أهل السنة، فان الفسق لا يزيل الايمان عندهم. (ع)
(2) . قوله «فشكا ألم القد» في الصحاح «القد» بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع) [.....]
(3) . لم أجده من هذه الجهة. وقد أخرجه الواقدي في المغازي من رواية ذكوان عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير، وقال لها: احتفظي به. قالت: فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر. فدخل يسأل عنه فقلت والله ما أدرى. فقال: قطع الله يدك، فذكر نحو ما تقدم. ورويناه في الجزء التاسع من حديث المخلص تخريج البقال. قال: حدثنا ابن أبى داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن ابن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان بهذا.(2/651)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
الإنسان عجولا: يعنى أن العذاب آتيه لا محالة، فما هذا الاستعجال، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو النضر بن الحرث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية، فأجيب له، فضربت عنقه صبرا.
[سورة الإسراء (17) : آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
فيه وجهان، أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر. فمحونا آية الليل: أى جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلما، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ، وجعلنا النهار مبصرا أى تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا باختلاف الجديدين عَدَدَ السِّنِينَ وَجنس الْحِسابَ وما تحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات، ولتعطلت الأمور وَكُلَّ شَيْءٍ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ بيناه بيانا غير ملتبس، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 14]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
طائِرَهُ عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة: هو من قولك:
طار له سهم، إذا خرج، يعنى: ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه، ومنه مثل العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك: وقرئ فِي عُنُقِهِ بسكون النون. وقرئ نُخْرِجُ بالنون. ويخرج، بالياء، والضمير لله عز وجل.
ويخرج، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج، والضمير للطائر. أى: يخرج الطائر كتاباً، وانتصاب كِتاباً على الحال. وقرئ: يلقاه، بالتشديد مبنيا للمفعول. ويَلْقاهُ مَنْشُوراً(2/652)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
صفتان للكتاب. أو يَلْقاهُ صفة ومَنْشُوراً حالٌ من يلقاه اقْرَأْ على إرادة القول. وعن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وبِنَفْسِكَ فاعل كفى. وحَسِيباً تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه. وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا. ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّى بعلى لأنّ الشاهد يكفى المدّعى ما أهمه. فإن قلت: لم ذكر حسيبا؟ قلت: لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير، لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا. ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس. وكان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك.
[سورة الإسراء (17) : آية 15]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
أى: كل نفس حاملة وزرا، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب «1» قوما إلا بعد أن نَبْعَثَ إليهم رَسُولًا فتلزمهم الحجة. فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الايمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا:
كنا غافلين فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل.
[سورة الإسراء (17) : آية 16]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
__________
(1) . قال محمود: «معناه وما صح مناصحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوما حتى تلزمهم الحجة ببعث الرسول ...
الخ» قال أحمد: وهذا السؤال أيضاً إنما يتوجه على قدرى يزعم أن العقل يرشد إلى وجوب النظر وإلى كثير من أحكام الله تعالى، وإن لم يبعث رسول فيكلف بعقله ويرتب على ترك امتثال التكليف استيجاب العذاب، إذ العقل كاف عندهم في إيجاب المعرفة بل في جميع الأحكام، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. وأما السنى فلا يتوجه عليه هذا السؤال، فان العقل عنده شرط في وجوب عموم الأحكام، ولا تكليف عنده قبل ورود الشرائع وبعث الأنبياء، وحينئذ يثبت الحكم وتقوم الحجة، كما أنبأت عنه هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نعم العقل عمدة في حصول المعرفة لا في وجوبها، وبين الحصول والوجوب بون بعيد، والله الموفق.(2/653)
وَإِذا أَرَدْنا
وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم «1» فَفَسَقُوا
أى أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم:
افسقوا، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازاً «2» ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشرّ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض.
يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمرى. لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأموراً به، وكأنه يقول: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطى ويمنع، ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصحّ ذلك، لأن قوله فَفَسَقُوا
يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعى إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه، ونظير «أمر» شاء: في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد: لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت- وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة- لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم أَمَرْنا
بكثرنا، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته
__________
(1) . قوله «أمرناهم ففسقوا» في النسفي: أمرنا مترفيها: متنعميها وجبابرتها. (ع)
(2) . قال محمود: «حقيقة أمرهم أن يقول لهم: افسقوا. ولا يكون هذا، فقى أن يكون مجازا ... الخ» قال أحمد: نص حسن إلا قوله أنهم خولوا النعم ليشكروا، فانه فرعه، على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر، ففسقوا وكفروا على خلاف الأمر، والأمر غير الارادة على قاعدة أهل الحق، والله الموفق.(2/654)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
ففعل. كثبرته فثبر. وفي الحديث: «خير المالك سكة «1» مأبورة ومهرة مأمورة «2» » أى كثيرة النتاج. وروى أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أرى أمرك هذا حقيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيأمر «3» . أى سيكثر وسيكبر.
[سورة الإسراء (17) : آية 17]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
وقرئ: آمرنا من أمر وأمره غيره. وأمّرنا بمعنى أمرنا، أو من أمر إمارة، وأمره الله.
أى: جعلناهم أمراء وسلطناهم كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتمييز له، كما يميز العدد بالجنس، يعنى عاد وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا. ونبه بقوله وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 19]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة «4» ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال: ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأمّا
__________
(1) . قوله «كثبرته فثبر، وفي الحديث خير المال سكة مأبورة» في الصحاح «ثبرته» أى حبسته. وفيه «السكة» الطريقة من النخل. وفيه «أبر نخله» أى لقحه وأصلحه. (ع)
(2) . أخرجه حميد وإسحاق وابن أبى شيبة والحرث والطبراني وأبو عبيد من رواية مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير مال المرء ميرة مأمورة أو سكة مأثورة. قال ابن إسحاق ومعه النضر بن شميل وغيره يرفعه.
(3) . لم أجده.
(4) . قال محمود: «أى من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ... الخ» قال أحمد: ومثل ذلك التقييد ورد في الآية الأخرى، وهو قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فأدخل «من» المبعضة على حرث الدنيا، ونحل الطالب حرث الآخرة مراده، وزاد عليه.(2/655)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
المؤمن التقى فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالى: أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتى فيها وإلا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده. وقوله لِمَنْ نُرِيدُ بدل من له، وهو بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة. وقرئ:
يشاء. وقيل: الضمير لله تعالى، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا، وأن ذلك لواحد من الدهماء «1» يريد به الله ذلك. وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة، كالمنافق، والمرائى، والمهاجر للدنيا، والمجاهد للغنيمة والذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه «2» » مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله سَعْيَها حقها من السعى وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعى مشكورا: إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعى فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله:
الثواب على الطاعة.
[سورة الإسراء (17) : آية 20]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
كُلًّا كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه نُمِدُّ هم: نزيدهم من عطائنا، ونجعل الآنف منه مددا للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ وفضله مَحْظُوراً أى ممنوعا، لا يمنعه من عاص لعصيانه
[سورة الإسراء (17) : آية 21]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
انْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروى أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضى الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق على أبى سفيان، فقال سهيل بن عمرو: إنما أُتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر
__________
(1) . قوله «لواحد من الدهماء» في الصحاح «دهماء الناس» جماعتهم. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عمر.(2/656)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ: وأكثر تفضيلا. وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟
[سورة الإسراء (17) : آية 22]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
فَتَقْعُدَ من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت، كأنها حربة بمعنى صارت، يعنى: فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 24]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
وَقَضى رَبُّكَ وأمر أمراً مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا أن مفسرة ولا تعبدوا نهى. أو بأن لا تعبدوا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأحسنوا بالوالدين إحسانا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وقرئ: وأوصى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ووصى. وعن بعض ولد معاذ بن جبل:
وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان، لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته إِمَّا هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنه.
وأَحَدُهُما فاعل يبلغنّ، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين.
وكِلاهُما عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان كلاهما، كان كلاهما توكيدا لا بد لا، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلا، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل:
كلاهما، فحسب، فلما قيل: أحدهما أو كلاهما، علم أنّ التوكيد غير مراد، فكان بدلا مثل الأول أُفٍّ صوت يدل على تضجر. وقرئ: أف، بالحركات الثلاث منوناً وغير منون: الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم، والضم إتباع كمنذ. فإن قلت: ما معنى عندك؟
قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلا عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية(2/657)
بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة وَلا تَنْهَرْهُما ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهى والنهر والنهم: أخوات وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة. وقيل:
هو أن يقول: يا أبتاه، يا أماه، كما قال إبراهيم لأبيه: يا أبت، مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعار «1» . قالوا: ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضى الله عنها: نحلنى أبو بكر كذا «2» . وقرئ: جناح الذل، والذل: بالضم والكسر فإن قلت: ما معنى قوله جَناحَ الذُّلِّ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك كما قال وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فأضافه إلى الذل أو الذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحا خفيضا، كما جعل لبيد للشمال «3» يداً، وللقوّة زماما، مبالغة في التذلل والتواضع لهما مِنَ الرَّحْمَةِ من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فان قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت: وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الايمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد، ومن الناس من قال: كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار. ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما «4» » وروى «يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل
__________
(1) . قوله «وسوء الأدب وعادة الدعار» من الدعارة وهي الفسق والخبث والفساد. كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه في الموطأ عن الزهري عن عائشة قالت «إن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا من ماله بالعالية.
فلما حضرته الوفاة. قال: ما من الناس أحب إلى منك» .
(3) . قوله «كما جعل لبيد الشمال يدا» في قوله:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (ع)
(4) . أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: روى موقوفا. ورواه البزار وقال: لا نعلم أحداً أسنده إلا خالد بن الحرث. وفيه نظر، لأن الحاكم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة مرفوعا وكذا أخرجه الطبراني والبيهقي من رواية القاسم بن سليم عن شعبة مرفوعا. وللبيهقي أيضا من رواية الحسين بن الوليد عن شعبة مرفوعا. قال: وروينا أيضا من رواية أبى إسحاق الفزاري وزيد بن أبى الرها وغيرهم مرفوعا. ورواية أبى إسحاق عند أبى يعلى. وقال البخاري. في الأدب المفرد: حدثنا آدم بن أبى إياس حدثنا شعبة فذكره موقوفا وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار وقال: تفرد به عصمة بن محمد الأنصارى عن يحيى بن سعيد. [.....](2/658)
العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة «1» » وروى سعيد بن المسيب: إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أبوىّ بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا منى في الصغر، فهل قضيتهما؟ قال: لا، فإنهما كان يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما»
. وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قوى، وفقيراً وأنا غنىّ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالى، واليوم أنا ضعيف وهو قوى، وأنا فقير وهو غنىّ، ويبخل علىّ بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد:
أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك «3» . وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال «4» : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟
قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جزيتها ولو طلقة «5» وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمّه ويقول:
إنِّى لَهَا مَطِيَّةٌ لَا تُذْعَرُ ... إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ
مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِى أَكْثَرُ ... اللَّهُ رَبِّى ذُو الْجَلَالِ الأَكْبَرُ «6»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن السماك عن عابد بن شريح عن عطاء عن عائشة. وفيه أحمد بن محمد بن غالب غلام الخليل. وهو كذاب، لكن رواه أبو نعيم في الحلية من وجه آخر عن سحنون السماك بلفظ «فانى سأغفر لك» وبلفظ «فانى لا أغفر لك» .
(2) . لم أجده.
(3) . لم أجده. قلت أخرجه في معجم الصحابة من طريق.
(4) . لم أجده.
(5) . قوله «قال ما جزيتها ولو طلقة» في الصحاح الطلق وجع الولادة اه فالطلقة المرة منه. (ع)
(6) . أنشده ابن عمر عن رجل يحمل أمه في الحج: شبه نفسه بالمطية تشبيهاً بليغا، و «إذا الركاب نفرت» صفة لها، يعنى أنه خافض لها جناح الذل من الرحمة، ولا يسأم منها كغيره، فان حملها إياه وإرضاعها إياه أكثر من بره بها، وذعر يذعر كتعب يتعب: خاف وفزع، والمراد لازم الفزع والنفرة وهو الجزع والضجر وعدم إقراره على ظهره، ثم كبر لأنه شعار الحج من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.(2/659)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
تظننى جازيتها يا ابن عمر «1» ؟ قال: لا ولو زفرة واحدة «2» . وعنه عليه الصلاة والسلام «إياكم وعقوق الوالدين، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام «3» ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء، إنّ الكبرياء لله رب العالمين» وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة «4» ، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر. ويأخذ الإناء منه إذا شربها. وعن أبى يوسف: إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد.
وعن حذيفة أنه استأذن النبىّ صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال:
دعه يليه غيرك «5» . وسئل الفصيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال: أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شرراً إليهما «6» ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما. فعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه «7» » .
[سورة الإسراء (17) : آية 25]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
بِما فِي نُفُوسِكُمْ بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر، ثم فرطت منكم- في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر، أو لحمية الإسلام- هنة تؤدّى إلى أذاهما، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها، فإن الله غفور لِلْأَوَّابِينَ للتوّابين. وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب: الأوّاب الرجل
__________
(1) . قوله «تظننى جازيتها يا ابن عمر» لعله ثم قال تظننى. (ع)
(2) . أخرجه ابن المبارك في البر والصلة: أخبرنا سعيد بن سعيد بن أبى بردة عن أبيه قال كان ابن عمر يطوف بالبيت فرأى رجلا- فذكره. وهذا إسناد صحيح وأخرجه البيهقي في الشعب في الخامس والخمسين وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن آدم عن سعيد مختصرا.
(3) . أخرجه ابن عدى من رواية محمد بن الفرات عن أبى إسحاق عن الحرث عن على بهذا وأتم منه. وفيه مسيرة خمسمائة بدل ألف. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر بن عبد الله فذكره بلفظ «ألف عام» وجابر ومحمد بن الفرات متروكان.
(4) . قوله «لا يذهب بأبيه إلى البيعة» في الصحاح: البيعة بالكسر للنصارى. (ع)
(5) . لم أجده: ولا يصح عن والد حذيفة أنه كان في صف المشركين: فانه استشهد بأحد مع المسلمين بأبدى المسلمين خطأ. وهم يحسبونه من الكفار، كما في صحيح البخاري لكن نحو القصة المذكورة وردت لأبى عبيدة ابن الجراح.
(6) . قوله «ولا تنظر شررا إليهما» هو نظر الغضبان بمؤخر العين، كذا في الصحاح. (ع)
(7) . أخرجه مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا وفيه قصة.(2/660)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
كلما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامّاً لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته، لوروده على أثره.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 27]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، وأن يؤتوا حقهم: وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد، وفقراء عاجزين عن الكسب، وكان الرجل موسراً: أن ينفق عليهم عند أبى حنيفة. والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب.
وإن كانوا مياسير، أو لم يكونوا محارم: كأبناء العمّ، فحقهم صلتهم بالمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعنى وآت هؤلاء حقهم من الزكاة. وهذا دليل على أن المراد بما يؤتى ذوى القرابة من الحق: هو تعهدهم بالمال. وقيل: أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التبذير. تفريق المال فيما لا ينبغي. وإنفاقه على وجه الإسراف. وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرّب منه ويزلف. وعن عبد الله: هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد:
لو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمرو: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو في الوضوء سرف؟ قال. نعم وإن كنت على نهر جار «1» إِخْوانَ الشَّياطِينِ أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمّة، لأنه لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف.
أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً فما ينبغي أن يطاع، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. وقرأ الحسن: إخوان الشيطان.
[سورة الإسراء (17) : آية 28]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
وإن أعرضت عن ذى القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الردّ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم «2» إذا سئل شيئاً وليس عنده
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من حديثه. وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. [.....]
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم عن أنس: قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت وفيه قصة: وفي الطبراني الأوسط عن على رضى الله عنه «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئا فأراد أن يفعله قال: نعم. وإذا أراد أن لا يفعل سكت ولم يقل قط لشيء: لا. فذكر قصة. وإسناده ضعيف.(2/661)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
أعرض عن السائل وسكت حياء. قوله ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ إمّا أن يتعلق بجواب الشرط مقدّما عليه، أى: فقل لهم قولا سهلا ليناً وعدهم وعداً جميلا، رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم، ابتغاء رحمة من ربك، أى: ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم. وإما أن يتعلق بالشرط، أى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فسمى الرزق رحمة، فردّهم ردّاً جميلا، فوضع الابتغاء موضع الفقد، لأنّ فاقد الرزق مبتغ له، فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه، فوضع المسبب موضع السبب. ويجوز أن يكون معنى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ وإن لم تنفعهم ولم ترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك، لأن من أبى أن يعطى: أعرض بوجهه. يقال: يسر الأمر وعسر، مثل سعد الرجل ونحس «1» فهو مفعول، وقيل معناه: فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، كأن معناه: قولا ذا ميسور، وهو اليسر «2» ، أى:
دعاء فيه يسر.
[سورة الإسراء (17) : آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
هذا تمثيلٌ لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله، لأنّ المسرف غير مرضى عنده وعند الناس، يقول المحتاج: أعطى فلاناً وحرمني. ويقول المستغنى: ما يحسن تدبير أمر المعيشة. وعند نفسك:
إذا احتجت فندمت على ما فعلت مَحْسُوراً منقطعاً بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة، وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبى فقال: إنّ أمى تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت له قل له: إن أمى تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة «3» . وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن «4» ، فجاء عباس بن مرداس، وأنشأ يقول:
__________
(1) . قوله «مثل سعد الرجل ونحس» في الصحاح: سعد الرجل بالكسر فهو سعيد: مثل سلم فهو سليم.
وسعد بالضم فهو مسعود. (ع)
(2) . قوله «قولا ذا ميسور وهو اليسر» في الصحاح: المعسور ضد الميسور. وهما مصدران. وقال سيبويه:
هما صفتان. (ع)
(3) . لم أجده
(4) . قوله «مائة من الإبل وعيينة بن حصن» لعل بعده سقطا تقديره: مائة.(2/662)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
أَتَجْعَلُ نَهْبِى وَنَهْبَ الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ ... وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ جَدِّىَ فِى مَجْمَعِ ... وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِىءٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْم لَا يُرْفَعِ «1»
فقال: يا أبا بكر، اقطع لسانه عنى، أعطه مائة من الإبل «2» فنزلت.
[سورة الإسراء (17) : آية 30]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة، بأنّ ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدّرها «3» تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعى أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته.
[سورة الإسراء (17) : آية 31]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
__________
(1) . للعباس بن مرداس رضى الله عنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، روى أنه أعطى كلا من الأقرع بن حابس رعيبنة بن حصن مائة من الإبل تأليفا لقلوبهما، فأنشأ العباس ذلك، فرفعه أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقطعوا عنى لسانه، ففزع وفزع أناس، وإنما أراد إعطاءه تأليفا لقلبه أيضا. والاستفهام للتعجب.
ويحتمل أنه للإنكار، لكنه بعيد من الصحابي، أى: أتقسم نهى ونهب العبيد فرسي بين هذين، والحال أن أبويهما ما كانا يفوقان أبى مرداس بمنع الصرف للضرورة. وقد يروى «العبيد» مصغرا. ويروى بدله «جدي» وبروى «شيخي في مجمع» من مجامع الحرب، وأنا لست أقل من واحد منهما، فنحن سواء أصلا وفرعا، فكيف تفاوت بيننا الآن؟ مع أن من تخفض قدره لا يرتفع عمره. وروى «منهمو» أى من الأربعة. وروى «ومن يخفض» مبنيا للمجهول. وفي ذكر حصن وحابس بعد عيينة والأقرع: لف ونشر مرتب.
(2) . أخرجه مسلم من رواية عتبة بن رفاعة بن رافع عن رافع بن خديج قال «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل.
وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك. فقال عباس- فذكر الشعر. قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبى بكر بن حزم وغيره- فذكر القصة وقال في آخرها:
ارهبوا فاقطعوا لسانه. فزادوه حتى رضى» وكذا ذكره موسى بن عقبة والواقدي وابن سعد وليس في شيء من طرقهم أن المخاطب بذلك كان أبا بكر
(3) . قوله «في بسط الأرزاق وقدرها» أى تضييقها. أفاده الصحاح. (ع)(2/663)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قتلهم أولادهم: هو وأدهم بناتهم «1» ، كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة وهي الاملاق، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم. وقرئ خَشْيَةَ بكسر الخاء. وقرئ خِطْأً وهو الإثم، يقال: خطئ خطأ، كاثم إثما، وخطأ وهو ضدّ الصواب، اسم من أخطأ. وقيل: هو والخطء كالحذر والحذر، وخطاء بالكسر والمدّ. وخطاء بالفتح والمد. وخطأ بالفتح والسكون. وعن الحسن: خطا بالفتح وحذف الهمزة كالخب. وعن أبى رجاء: بكسر الخاء غير مهموز.
[سورة الإسراء (17) : آية 32]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)
فاحِشَةً قبيحة زائدة على حد القبح وَساءَ سَبِيلًا وبئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله «2» .
[سورة الإسراء (17) : آية 33]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث: إلا بأن تكفر، أو تقتل مؤمنا عمدا، أو تزنى بعد إحصان. مَظْلُوماً غير راكب واحدة منهنّ لِوَلِيِّهِ الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولى فالسلطان وليه سُلْطاناً تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه فَلا يُسْرِفْ الضمير للولي. أى: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية: كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب «3» . وقال:
كُلُّ قَتِيلٍ فِى كُلَيْبٍ غُرَّهْ ... حَتَّي يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ «4»
وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن بواء. وقيل: الإسراف المثلة. وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرف، بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر. وفيه مبالغة ليست في الأمر. وعن
__________
(1) . قوله «هو وأدهم بناتهم» وأد البنت: دفنها في القبر وهي حية، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وهو الصهر الذي شرعه الله» أى التزوج. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بؤ بشع نعل كليب» في الصحاح يقال بؤ به أى كن ممن يقتل به وفيه البواء: السواء. وفيه الشسع: واحد شسوع النعل التي تشد إلى زمامها. وفيه الغرة: العبد أو الأمة. (ع)
(4) . الغرة: الرقيق، يعنى: كل قتيل قتلناه في هذه القبيلة ليس كفؤا لمن قتلوه منا، حتى يصل قتلنا آل مرة فهم كفؤه.(2/664)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
مجاهد: أنّ الضمير للقاتل الأوّل. وقرئ: فلا تسرف، على خطاب الولي أو قاتل المظلوم.
وفي قراءة أبىّ: فلا تسرفوا، ردّه على: ولا تقتلوا إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الضمير إمّا للولي، يعنى حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأنّ الله قد نصره «1» بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإمّا للمظلوم، لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
[سورة الإسراء (17) : آية 34]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أى مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به «2» . ويجوز أن يكون تخييلا، كأنه يقال للعهد: لم نكثت؟ وهلا وفي بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للموءودة: بأى ذنب قتلت؟ ويجوز أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسئولا.
[سورة الإسراء (17) : آية 35]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وقرئ بِالْقِسْطاسِ بالضم والكسر، وهو القرسطون «3» . وقيل: كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرهما وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن عاقبة، وهو تفعيل، من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه.
[سورة الإسراء (17) : آية 36]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
__________
(1) . قوله «وبأن الله قد نصره» لعله أو أن. (ع)
(2) . قال محمود: «أى يطلب من المعاهد أن يفي به ولا ينكثه ... الخ» قال أحمد، كلام حسن إلا لفظة التخييل فقد تقدم إنكارها عليه، وينبغي أن يعوض بالتمثيل. والظاهر التأويل الأول، ويكون المجرور الذي هو «عنه» حذف تخفيفا، وقد ذكر في بقية الآي كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا والله أعلم. وبعضد تأويل سؤال العهد نفسه على وجه التمثيل وقوف الرحم بين يدي الله وسؤالها فيمن وصلها وقطعها. وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح، والله الموفق. [.....]
(3) . قوله «بالقسطاس بالضم والكسر وهو القرسطون» أى القبان، كذا في النسفي. (ع)(2/665)
وَلا تَقْفُ ولا تتبع. وقرئ: ولا تقف، يقال: قفا أثره وقافه، ومنه: القافة، يعنى: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد: النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهى عن التقليد دخولا ظاهرا. لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده. وعن ابن الحنفية: شهادة الزور وعن الحسن: لا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك، فتقول: هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل، وسمعته، ولم تر ولو تسمع. وقيل: القفو شبيه بالعضيهة «1» . ومنه الحديث «من قفى مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال «2» حتى يأتى بالمخرج «3» » وأنشد:
وَمِثْلُ الدُّمى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا «4»
أى التقاذف. وقال الكميت:
وَلَا أرْمِى البَرِيَّ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الحَوَاصِنَ إنْ قُفِينَا «5»
__________
(1) . قوله «وقيل القفو شبيه بالعضيهة» في الصحاح العضيهة البهيتة، وهي الافك والبهتان. (ع)
(2) . قوله «حبسه الله في ردغة الخبال» في الصحاح الردغة- بالتحريك-: الماء والطين والوحل الشديد وكذلك الردغة بالتسكين. وفيه الخبال: العناء والفساد وأما الذي في الحديث من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يجيء بالمخرج منه، فيقال: هو صديد أهل النار.
(3) . لم أره بهذا اللفظ مرفوعا. وإنما ذكره أبو عبيد في الغريب من قول حسان بن عطية. فقال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعى عنه بهذا. وروى أحمد والطبراني من رواية معاذ بن أنس- رفعه «من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وفي مسند الشاميين للطبراني من طريق مطر الوراق عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر «من قذف مؤمنا أو مؤمنة حبس في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج، وهو عند أبى داود من رواية يحيى بن راشد عن ابن عمر بلفظ «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج. وهو يخرج مما قال» وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه «من قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج» .
(4) . يصف نساء بأنهن جميلات مثل الدمى، جمع دمية بالضم، وهو الصنم والصورة من العاج المرصعة بالجواهر والشم، جمع شماء كحمر وحمراء، والعرانين: الأنوف، أى مرتفعات الأنوف كناية عن شرفهن وارتفاع قدرهن.
أو كناية عن كونهن كرائم حرائر، لأن انخفاض الأنف خاص بالعبيد والماء. وشبههن بالبيوت. وشبه الحياء بقوم يسكنونها على طريق المكنية والسكنى تخييل لذلك، وهو كناية ومبالغة في ملازمة الحياء لهن، لا يشعن: أى لا يظهرن التقافى، أى المتابعة بالقذف، من قفوته إذا أتبعته بالغيبة. وفي إشاعته: كناية عن نفيه، لأنها لازمة له، حيث أنه لا يكون إلا بين اثنين فأكثر.
(5) . يقال: حصنت المرأة بالضم حصانة، فهي حاصن وحصناء وحصان. والحواصن: جمع حاصن: أى عفت فهي عفيفة، يقول: لا أتهم البريء بشيء زور، بل بذنب محقق. والظاهر أن هذا في معنى الاستثناء المنقطع، لأن البريء ما دام بريئا لا ذنب له، ولا أتبع العفائف وأتكلم فيهن بفحش ما دمن عفائف إن قفاهن الناس، فتكلموا فيهن فكيف إذا لم يتكلم فيهن أحد؟.(2/666)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح، لأنّ ذلك نوع من العلم، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم، وأمر بالعمل به أُولئِكَ إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، كقوله:
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ «1»
وعَنْهُ في موضع الرفع بالفاعلية، أى: كل واحد منها كان مسئولا عنه، فمسئول: مسند إلى الجار والمجرور، كالمغضوب في قوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يقال للإنسان: لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرئ وَالْفُؤادَ بفتح الفاء والواو، قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 37 الى 38]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
مَرَحاً حال، أى: ذا مرح. وقرئ مَرَحاً وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا «2» بدوسك لها وشدّة وطأتك.
__________
(1) .
لولا مراقبة العيون أريننا ... مقل المها وسوالف الآرام
هل ينهينك أن قتلن مرقشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
لجرير بن عطية يخاطب نفسه على طريق التجريد، يقول: لولا مراقبة النساء للعيون، أى الرقباء المتطلعين علينا، لبرزن لنا وأريننا عيونهن التي هي كعيون بقر الوحش، فمقل المها: استعارة مصرحة، وكذلك سوالف الآرام.
والسالفة: مقدم العنق وصفحته. والآرام: جمع رئم بالكسر والهمز، وهو الغزال الأبيض، وأصله «أرآم» بهمز ممدود بعد الراء وزن أحمال، فقلب إلى ما قبلها. ويجوز أنه جمع ريم بالفتح وهو الغزال الأبيض، فهمز وقلب. وهل بمعنى قد. أو للتقرير. أى: أنه ينهاك عنهن مقتلهن مرقشا العاشق المشهور. أو فعلهن بعروة العاشق أيضا. وذم: فعل أمر، كأنه نذكر محبوبته في تلك الديار وتلك الأيام، فقال: ذم المنازل كلها حال كونها بعد، أى: غير منزلة اللوى. أو بعد مجاوزتك منزلة اللوى بلازم. واللوى: موضع بعينه من الرمل الملتوى، وذم الحياة كلها بعد حياتنا في تلك الأيام، أو ذم مدة الحياة كلها بعد تلك الأيام السابقة، وأشار لها بما للعقلاء لعظمتها عنده، ولأن تخصصه بالعقلاء طارئ في الاستعمال كما قيل ويجوز أن بعد ظرف المنازل والعيش وبعض النحاة جعل «ذم» مبنيا للمجهول، وما بعده مرفوع به على النيابة.
(2) . قال محمود: «معناه لن تجعل فيها خرقا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية كفاية في الانزجار عنها، ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا، بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدا طرفا من رياسة الدنيا، إذ هو يتبختر في مشيه ويترجع، ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل، والله ولى التوفيق.(2/667)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
وقرئ. لن تخرق، بضم الراء وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بتطاولك. وهو تهكم بالمختال. قرئ سيئة وسيئه، على إضافة سيئ إلى ضمير كل، وسيئا في بعض المصاحف. وسيئات. وفي قراءة أبى بكر الصديق رضى الله عنه: كان شأنه. فإن قلت: كيف قيل سيئه مع قوله مكروها؟ قلت:
السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه. ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئا. ألا تراك تقول: الزنا سيئة، كما تقول: السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. فإن قلت: فما ذكر من الخصال بعضها سيئ وبعضها حسن، ولذلك قرأ من قرأ سَيِّئُهُ بالإضافة، فما وجه من قرأ سيئة؟ قلت: كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.
[سورة الإسراء (17) : آية 39]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من قوله لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية. وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى، أوّلها، لا تجعل مع الله إلها آخر، قال الله تعالى وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وهي عشر آيات في التوراة. ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهى عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء «1» وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم.
[سورة الإسراء (17) : آية 40]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
أَفَأَصْفاكُمْ خطاب للذين قالوا «الملائكة بنات الله» والهمزة للإنكار. يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ أدونهم وهي البنات؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردأها وأدونها للسادات إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم «2» أدون
__________
(1) . قوله «وإن بذ فيها الحكماء» في الصحاح «بذه» غلبه وفاقه. (ع)
(2) . قوله «وهم أعلى خلق الله وأشرفهم» هذا على مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل من الملاك. (ع)(2/668)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
خلق الله وهم الإناث.
[سورة الإسراء (17) : آية 41]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات، لأنه مما صرفه وكرّر ذكره، والمعنى: ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير. ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد. ولقد صرفناه، يعنى هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم. وقرئ: صرفنا بالتخفيف وكذلك لِيَذَّكَّرُوا قرئ مشدّدا ومخففاً، أى: كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً عن الحق وقلة طمأنينة إليه. وعن سفيان: كان إذا قرأها قال. زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 43]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
قرئ: كما تقولون، بالتاء والياء. وإِذاً دالة على أن ما بعدها وهو لَابْتَغَوْا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو» . ومعنى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، كقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وقيل: لتقرّبوا إليه، كقوله أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. عُلُوًّا في معنى تعاليا. والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة. ومعنى وصف العلوّ بالكبر: المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.
[سورة الإسراء (17) : آية 44]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
والمراد أنها تسبح له بلسان الحال «1» ، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها
__________
(1) . قال محمود: «المراد تسبيحها بلسان الحال من حيث تدل على الصانع ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن يقول: فما يصنع بقوله كانَ حَلِيماً غَفُوراً وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وكفرهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين المؤمنون، والظاهر أن المخاطب المؤمنون. وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه- والله أعلم- من عدم العمل بمقتضى ذلك، فان الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون تسبح الله وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعمر خاطره بهذا الفهم، لكان ذلك يشغله عن القوت فضلا عن فضول الكلام والأفعال، والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا هذا، لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة وجوهر من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه، مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإرهاب جبروته، وتيقظ لذلك حق التيقظ، لكاد أن لا يتكلم بقية عمره، فالظاهر والله أعلم أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب في أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين، والله الموفق.
فالحمد لله الذي كان حليما غفورا.(2/669)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
تنطلق بذلك، وكأنها تنزه الله عز وجلّ مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. فإن قلت: فما تصنع بقوله وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وهذا التسبيح مفقوه معلوم؟ قلت: الخطاب للمشركين، وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا: الله، إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يقرّوا، لأنّ نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق. فإن قلت: من فيهنّ يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة «1» والثقلان، وقد عطفوا على السموات والأرض، فما وجهه؟ قلت: التسبيح المجازى حاصل في الجميع فوجب الحمل عليه، وإلا كانت الكلمة الواحدة في حالة واحدة محمولة على الحقيقة والمجاز إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
حِجاباً مَسْتُوراً ذا ستر كقولهم. سيل مفعهم ذو إفعام. وقيل: هو حجاب لا يرى فهو مستور. ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب، فهو مستور بغيره. أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: إن قلت «من فبهن يسبحون حقيقة وهم الملائكة ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم نقلى عنه أنه يأبى حمل اللفظ على حقيقته ومجازه دفعة واحدة عند آية السجدة في النحل، ولكن ظهر من كلامه ثم جعل السجود عبارة عن الانقياد وعدم الامتناع على القدرة، ليكون متناولا للمكلفين وغير المكلفين بطريق التواطؤ، وقد يكون أراد ثم المجاز، والله الموفق.(2/670)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ كأنه قال: وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه. أو لأنّ قوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً فيه معنى المنع من الفقه، فكأنه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه. يقال: وحد يحد وحدا وحدة، نحو وعد يعدو عدا وعدة، ووَحْدَهُ من باب رجع عوده على بدئه، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا، وحده. والنفور: مصدر بمعنى التولية. أو جمع نافر كقاعد وقعود، أى: يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ من الهزؤ بك وبالقرآن، ومن اللغو: كان يقوم عن يمينه إذا قرأ رجلان من عبد الدار، ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وبِهِ في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزؤ، أى هازئين. وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بأعلم، أى:
أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذْ هُمْ نَجْوى وبما يتناجون به، إذ هم ذو ونجوى إِذْ يَقُولُ يدل من إذ هم مَسْحُوراً سحر فجنّ. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، أى: هو يشر مثلكم ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره لا يدرى ما يصنع.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 51]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
لما قالوا: أئذا كنا عظاما قيل لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فردّ قوله: كونوا، على قولهم: كنا، كأنه قيل: كونوا حجارة أو حديدا ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحىّ وغضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أنّ العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردّها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحىّ ومن جنس ما ركب منه البشر- وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديدا مع أن طباعها الجسارة والصلابة- لكان قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعنى أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه. وقيل: ما يكبر في صدورهم الموت. وقيل: السموات والأرض فَسَيُنْغِضُونَ(2/671)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
فسيحرّكونها نحوك تعجبا واستهزاء.
[سورة الإسراء (17) : آية 52]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
والدعاء والاستجابة كلامهما مجاز. والمعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله بِحَمْدِهِ حال منهم، أى حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتفسير قسرا حتى أنك تلين لين المسمح «1» الراغب فيه الحامد عليه، وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وَتَظُنُّونَ وترون الهول، فعنده تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا، وتحسبونها يوما أو بعض يوم. وعن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 54]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)
وَقُلْ لِعِبادِي وقل للمؤمنين يَقُولُوا للمشركين الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وألين ولا يخاشنوهم، كقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن. وفسر التي هي أحسن بقوله رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يعنى يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعتراض، يعنى يلقى بينهم الفساد ويغرى بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أى ربا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة، وذلك قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر رضى الله عنه: شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: الكلمة التي هي أحسن: أن يقولوا يهديكم الله، يرحمكم الله. وقرأ طلحة:
ينزغ، بالكسر وهما لغتان، نحو يعرشون ويعرشون.
[سورة الإسراء (17) : آية 55]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
__________
(1) . قوله «المسمح» في الصحاح «أسمحت قرونته» أى ذلت نفسه وتابعته على الأمر. (ع)(2/672)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
هو ردّ على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبى طالب نبيا، وأن تكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم، يعنى: وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم. وقوله وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم، لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود. قال الله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم محمد وأمته. فإن قلت: هلا عرّف الزبور كما عرّف في قوله وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ؟ قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس، والفضل وفضل، وأن يريد: وآتينا داود بعض الزبر وهي الكتب، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسمى ذلك زبورا، لأنه بعض الزبور، كما سمى بعض القرآن قرآنا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
هم الملائكة. وقيل: عيسى ابن مريم، وعزير. وقيل نفر من الجن، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا، أى: ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه. وأُولئِكَ مبتدأ، والَّذِينَ يَدْعُونَ صفته، ويَبْتَغُونَ خبره، يعنى: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. وأَيُّهُمْ بدل من واو ببتغون، وأى موصولة، أى: يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبىّ مرسل، فضلا عن غيرهم.
[سورة الإسراء (17) : آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)(2/673)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
نَحْنُ مُهْلِكُوها بالموت والاستئصال أَوْ مُعَذِّبُوها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل:
الهلاك للصالحة، والعذاب للطالحة. وعن مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فيخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فعذابها ضروب، ثم ذكرها بلدا بلدا فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ.
[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و «أن» الأولى منصوبة والثانية مرفوعة، تقديره: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. والمراد: الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهبا ومن إحياء الموتى وغير ذلك: وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى: وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسالات لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل. وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. ثم ذكر من تلك الآيات- التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسالات فأهلكوا- واحدة: وهي ناقة صالح، لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم مُبْصِرَةً بينة. وقرئ: مبصرة، بفتح الميم فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدّمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة.
[سورة الإسراء (17) : آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش، يعنى: بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم. وذلك قوله سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ،(2/674)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ وغير ذلك، فجعله كأن قد كان ووجد، فقال: أحاط بالناس على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبى بكر رضى الله عنه كان يدعو ويقول: «اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك» ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول «سيهزم الجمع ويولون الدبر» «1» ولعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه، فقد كان يقول حين ورد ماء بدر «والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» «2» وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر يوم بدر وما أرى في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء وحين سمعوا بقوله: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم» «3» جعلوها سخرية وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر. وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وما أنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار! فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل، إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار. وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها، فما أنكروا أن يخلق «4» في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى: أنّ الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. فما كان ما أَرَيْناكَ منه في منامك بعد الوحى إليك إِلَّا فِتْنَةً لهم حيث اتخذوه سخريا وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم، ثم قال فيهم وَنُخَوِّفُهُمْ أى نخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فكيف يخاف قوم هذه خالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات. وقيل: الرؤيا هي الإسراء «5» ، وبه تعلق من يقول: كان الإسراء في
__________
(1) . لم أجده هكذا فأما أوله ففي البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبته يوم بدر: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم. فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبه. فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» [.....]
(2) . أخرجه مسلم من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا مصرع فلان ويضع يده على الأرض هاهنا. قال: فما ماط أحد عن موضع يده،
(3) . قال محمود: «افتتانهم بالشجرة أنهم حين سمعوا بقوله، إن شجرة الزقوم ... الخ» قال أحمد: والعمدة في ذلك أن النار لا تؤثر إحراقا في شيء، ولكن الله تعالى أجرى العادة أنه يخلق الحرق عند ملاقاة جسم النار لبعض الأجسام، فإذا كان ذلك من فعل الله لا من فعل النار فلله تعالى أن لا يفعل الحرق في الشجرة التي في أصل الجحيم.
(4) . قوله «فما أنكروا أن يخلق» عبارة النسفي: فجاز أن يخلق. (ع)
(5) . عاد كلامه. قال: «وأما الرؤيا فقيل الاسراء، وتعلق من جعله مناما بهذه الآية. وقيل: إنما سماها رؤيا على زعم المكذبين ... الخ» قال أحمد: ويبعد ذلك قوله تعالى طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ وقوله فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها والله أعلم.(2/675)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
المنام، ومن قال: كان في اليقظة، فسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له: لعلها رؤيا، رأيتها، وخيال خيل إليك، استبعاداً منهم، كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة، نحو قوله: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ، أَيْنَ شُرَكائِيَ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقيل: هي رؤياه أنه سيدخل مكة. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة. فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ قلت: لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة، لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل: وصفها الله باللعن، لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل: تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وسألت بعضهم فقال: نعم الطعام الملعون القشب الممحوق «1» . وعن ابن عباس: هي الكشوث التي تتلوى بالشجر يجعل في الشراب. وقيل: أبو جهل. وقرئ: والشجرة الملعونة بالرفع، على أنها مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
طِيناً حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على: أأسجد له وهو طين، أى أصله طين.
__________
(1) . قوله «الطعام الملعون القشب الممحوق» الخلط الضار يمزج بالطعام أو الشراب كالسم. والممحوق المذاب حتى يذهب عينه. أفاده الصحاح. وفيه «الكشوث» نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض، قال الشاعر:
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع)(2/676)
أو من الراجع إليه من الصلة على: أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا أَرَأَيْتَكَ الكاف للخطاب. وهذَا مفعول به. والمعنى: أخبرنى عن هذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أى فضلته، لم كرمته علىّ وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال لَئِنْ أَخَّرْتَنِ واللام موطئة للقسم المحذوف لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلتهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أى أكلهما. فإن قلت: من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت: إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهوانى. وقيل: قال ذلك لما علمت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة اذْهَبْ ليس من الذهاب للذي هو نقيض المجيء، إنما معناه:
امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ كما قال موسى عليه السلام للسامري فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ. فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب جَزاءً مَوْفُوراً بما في فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال، لأنّ الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال: فر لصاحبك عرضه فرة.
استفزّه: استخفه. والفز: الخفيف وَأَجْلِبْ من الجلبة وهي الصياح «1» . والخيل: الخيالة.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» «2» . والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره:
__________
(1) . قوله «من الجلبة وهي الصباح» في الصحاح: جلب على فرسه وأجلب عليه: صاح به من خلفه واستحثه السبق اه. (ع)
(2) . أخرجه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ من طريق أبى حمزة السكرى عن عبد الكريم: حدثني سعيد بن جير عن قصة المحاربين قال «كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: نبايعك على الإسلام- وذكر القصة وفيها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: يا حيل الله اركبي: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا. روى ابن عائد في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى يوم قريظة يوم الأحزاب مناديا ينادى: يا خيل الله اركبي» وعزا السهيلي في الروض في غزوة حنين هذه اللفظة في صحيح مسلم. فينظر فيه. وقال أبو داود في السنن: باب النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي وساق في الباب حديث سمرة بن جندب «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله» قلت أشكل هذا على المخرج فقال: فيه نظر لمن تأمله. فكأنه لم يتجه له مطابقة الحديث للترجمة. وهو ظاهرها لأن المراد صحة هذه الاضافة. وقد وردت عن على وخالد بن الوليد. ففي المستدرك للحاكم في قصة أويس من حديث أبى نضرة عن أسيد بن جابر فذكر القصة. فقال في آخرها فنادى على: يا خيل الله اركبي» وفي الردة للواقدي من رواية عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن خالد بن الوليد قال لأصحابه يوم اليمامة «يا خيل الله اركبي فركبوا وساروا إلى بنى حنيفة.(2/677)
الركب والصحب. وقرئ: ورجلك، على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب وتاعب. ومعناه: وجمعك الرجل، وتضم جيمه أيضا، فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس «1» ، وأخوات لهما.
يقال: رجل رجل. وقرئ: ورجالك ورجالك. فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر. وخيله ورجله:
كلّ راكب وماش من أهل العيث «2» . وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك وَعِدْهُمْ المواعيد الكاذبة «3» ، من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمما «4» ، وإيثار العاجل على الآجل إِنَّ عِبادِي يريد الصالحين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أى لا تقدر أن تغويهم وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغويا مضلا، داعيا إلى الشر، صادّا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: اعملوا ما شئتم.
__________
(1) . قوله «مثل حدث وحدث، وندس وندس» في الصحاح: رجل حدث وحدث، بضم الدال وكسرها أى حسن الحديث. وفيه: رجل ندس وندس، أى: فهم. (ع)
(2) . قوله «العيث» في الصحاح «العيث» الإفساد. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد وعدهم المواعيد الكاذبة ... الخ» قال أحمد: وهذا من تجرى المصنف على السنة ومتبعيها، فانه جعل المغفرة المقرونة بالمشيئة وإن لم تكن توبة للمؤمنين من مواعيد الشيطان، مع العلم بأنها ثابتة بقواطع القرآن وعدا من الرحمن، وكذلك الشفاعة المتفق عليها بين أهل السنة والجماعة التي وعد بها الصادق المصدوق، وميزه الله تعالى بها على كل مخلوق، من مواعيد الشيطان الباطلة وأمانيه الماحلة. اللهم ارزقنا الشفاعة، واحشرنا في زمرة السنة والجماعة.
(4) . قوله «بعد أن يصيروا حمما» في الصحاح: الحمم: الرماد والفحم: الواحدة حممة، ثم ما أفاده من توقف المغفرة على التوبة وعدم الشفاعة في الكبائر، وعدم خروج أهلها من النار بعد احتراقهم هو مذهب المعتزلة. وأهل السنة على خلاف ذلك، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)(2/678)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 67]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)
يُزْجِي يجرى ويسبر. والضرّ: خوف الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين. ويجوز أن يراد: ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده «1» على الاستثناء المنقطع.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 68 الى 69]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض. فإن قلت: بم انتصب جانِبَ الْبَرِّ؟ قلت: بيخسف مفعولا به، كالأرض في قوله فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. وبِكُمْ حال. والمعنى: أن يخسف جانب البر، أى يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت. فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهي الريح التي تحصب أى ترمى بالحصباء، يعنى: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر وَكِيلًا من يتوكل بصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أن يقوّى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا
__________
(1) . قوله «ولكن الله وحده هو الذي ترجونه وحده» كأنه تكرار، وأسقطه الخازن في عبارته. (ع)(2/679)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل عَلَيْكُمْ قاصِفاً وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أى تتكسر. وقيل: التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته فَيُغْرِقَكُمْ وقرئ بالتاء، أى الريح. وبالنون، وكذلك: نخسف، ونرسل، ونعيدكم.
قرئت بالياء والنون. التبيع: المطالب، من قوله فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أى مطالبة. قال الشماخ:
كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ «1»
يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أى مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله وَلا يَخافُ عُقْباها. بِما كَفَرْتُمْ بكفرانكم النعمة، يريد: إعراضهم حين نجاهم.
[سورة الإسراء (17) : آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم.
وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم. وعن الرشيد: أنه أحضر طعاما فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، «2» وحسب بنى آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم
__________
(1) .
يلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع
الشماخ، يصف عقابا تهرب منها ثعالب الشرقين، وهو اسم موضع، أو جهة الجنوب وجهة الشمال، كالمشرقين، كما لاذ: أى هرب والتجأ، الغريم: أى المدين، من التبيع: أى الدائن المطالب.
(2) . قال محمود: «المراد فضلناهم على ما سوى الملائكة ... الخ» قال أحمد: وقد بلغ إلى حد من السفه يوجب الحد، ولسنا لمساجلته إلا من حيث العلم، لا من حيث السفه. والقدر الذي تختص به هذه الآية أن حمل كثير على الجميع غير مستبعد ولا مستنكر. ألا ترى أنه ورد حمل القليل على العدم. والزمخشري يختار ذلك في قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ وأشباهه كثير. وقد لمح الشاعر ذلك في قوله.
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أى لا أصوات بها، ولنا أن نبقيه على ما هو عليه، ونقول: إن المخلوق قسمان: بنو آدم أحدهما وغيرهم من جميع المخلوقين القسم الآخر، ولا شك أن غيرهم أكثر منهم وإن لم يكونوا أكثر منهم كثيرا، فمعنى قوله وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا أى على غيرهم من جميع المخلوقين، وتلك الأغيار كثير بلا مراء، وذلك مرادف لقولك: وفضلناهم على جميع من عداهم ممن خلقنا، فظاهر الآية إذا مع الأشعرية الذين سماهم مجبرة، وتمشدق في سبهم وشقشق العبارات في ثلهم، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، والله ولى التوفيق والتسديد. [.....](2/680)
ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا «1» في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا وأخبارا منها: قالت الملائكة «2» : ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان «3» . ورووا عن أبى هريرة أنه قال: لمؤمن «4» أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا كَثِيرٍ بمعنى «جميع» في هذه الآية، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم «على
__________
(1) . قوله «والعجب من المجبرة كيف عكسوا» يعنى أهل السنة. وقوله «تفضيل الإنسان» يعنون المؤمن.
ويدل لمذهبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وأما الذين كفروا فهم شر البرية، ودعوى العكس من فرط التعصب للمعتزلة. (ع)
(2) . قوله «قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا» صدره كما في الخازن: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة، وقوله «خلقت بيدي» في الخازن: ونفخت فيه من روحي. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن ماهان حدثنا طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الملائكة قالت رب أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون: ونحن نسبح بحمدك لا نأكل ولا نشرب ولا نلهو. فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له. كن فكان» قال: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان تفرد به طلحة محمد بن ماهان. وعن أبى غسان حجاج الأعور أخرج طريق حجاج في المعجم الكبير ورجاله ثقات. وله شاهد عند عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن زيد بن أسلم قال قالت الملائكة فذكر نحوه موقوفا عليه. وقال الدارقطني في العلل: روى عبد المجيد بن أبى داود عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر. فذكر نحوه قال: ورواه شريح بن يونس عن عبد المجيد موقوفا. وهو أصح. وله شاهد آخر أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في الأسماء والصفات من رواية عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويح أنه سمعه يحدث عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان» ومنها ما رواه عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال «لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» البيهقي في الشعب من رواية حماد بن سلمة عن أبى المهزم عن أبى هريرة موقوفا. وأخرجه ابن ماجة من هذه الطريق موقوفا. وأبو المهزم متروك: وله شاهد أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من رواية عبيد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من بنى آدم. قيل:
ولا الملائكة. قال: ولا الملائكة. الملائكة مجبورون كالشمس والقمر» قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن تمام يروى أحاديث معاوية وهو ضعيف.
(4) . قوله «قال لمؤمن أكرم على من الملائكة» في الخازن: المؤمن. (ع)(2/681)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
جميع ممن خلقنا» أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم «1»
[سورة الإسراء (17) : آية 71]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
قرئ: يدعو، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: يدعوا كل أناس، على قلب الألف واوا في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر.
ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا والرفع مقدّر كما في:
يدعى، ولم يؤت بالنون، قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبىّ أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين «2» ، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن: بكتابهم. ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ فَمَنْ أُوتِيَ من هؤلاء المدعوّين كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع.
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت:
بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أما التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
__________
(1) . قوله «فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم» في الصحاح «السخيمة» الضغينة والموجدة في النفس. (ع)
(2) . قال محمود: «بإمامهم معناه بمن ائتموا به من نبى أو كتاب أو دين ... الخ» قال أحمد: ولقد استبدع بدعا لفظا ومعنى، فان جمع الأم المعروف أمهات، أما رعاية عيسى عليه السلام بذكر أمهات الخلائق ليذكر بأمه، فيستدعى أن خلق عيسى من غير أب غميزة في منصبه، وذلك عكس الحقيقة، فان خلقه من غير أب كان آية له، وشرفا في حقه، والله أعلم.(2/682)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، كقوله وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً.
[سورة الإسراء (17) : آية 72]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك وَأَضَلُّ سَبِيلًا من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدى إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل «1» . ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل مما لا، والثاني مفخما «2» ، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام «3» ، كقولك: أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 75]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
روى أنّ ثقيفا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا نجبى «4» في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرنى
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل ... الخ» قال أحمد: أى لأنه من عمى القلب لا من عمي البصر، فجاز أن ينبنى منه أفعل.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومن ثم أمال أبو عمرو الأولى وفخم الثانية ... الخ» قال أحمد: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى، أى: فمن أوتى كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه، ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين، والله أعلم.
(3) . قوله «الواقعة في وسط الكلام» لعله الكلمة، كعبارة النسفي. (ع)
(4) . قوله «لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى» في الصحاح «التجبية» أن يقوم الإنسان قيام الراكع. وقال أبو عبيدة: تكون في حالين، أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه، والآخر ينكب على وجهه باركا وهو السجود، وفيه «وجّ» بلد الطائف: وفيه أيضا: عضدت الشجر، أى قطعته. (ع)(2/683)
به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف:
لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمدا «1» . فنزلت. وروى أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أى يخدعوك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا لتقول علينا ما لم نقل، يعنى ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أى ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خَلِيلًا ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إِذاً لو قاربت تركن اليهم أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات «2» . ثم حذف الموصوف
__________
(1) . لم أجده. وذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند.
(2) . قال محمود: «المراد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ... الخ» قال أحمد: أما تقليل الكيدودة فالذي ينبغي أن يحمل عليه كونه الواقع في علم الله تعالى، لأن الله عز وجل يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فعلم تعالى أن الركون الذي كاد يحصل منه عليه السلام وإن كان ما حصل أمر قليل وخطب يسير، فذلك إخبار من الله تعالى عن الواقع في علمه تقديرا، فلا يليق أن يحمل على المبالغة والتنبيه. فان ذلك لا يكون في الاخبار.
ألا ترى أنه لو كان الواقع كيدودة ركون كثير، لكان تقليله خلفا في الخبر، ولا ينكر أن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأما نقل الزمخشري عن مشايخه استعظام نسبة الفواحش والقبائح إلى الله عز وجل، فلقد استعظموا عظيما حق على كل مسلم أن يستفظعه، ولكنهم جهلوا باعتقاد القبح وصفا ذاتيا للقبيح، فلزمهم على ذلك أن كل فعل استقبح من العبد استقبح من الله تعالى، وهم غالطون في ذلك، فمعنى كون الفعل قبحا أن الله تعالى نهى عنه عبده، وإن كان لله تعالى أن يفعله، وهو حسن بالنسبة إليه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ألا ترى أن الملك يصح منه أن يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك، ونهاه عن ذلك، ولا يستقبح ذلك من نفسه، بل هو منه حسن جميل. ولقد كان لمشايخه شغل باستعظام ما لزمهم من الاشراك، عن استعظام غيره مما هو توحيد محض وإيمان صرف، ولكنهم زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسنا، والله الموفق.(2/684)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف. ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات، كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة:
عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار. والمعنى:
لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين- دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد «1» رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» «2»
[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
وَإِنْ كادُوا وإن كاد أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكة وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ لا يبقون بعد إخراجك إِلَّا زمانا قَلِيلًا فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. وقيل: معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه. وقيل: من أرض العرب. وقيل: من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فاجتمعوا إليه وقالوا: يا أبا القاسم، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة، حتى يجتمع إليه
__________
(1) . قوله «ومن ثم استعظم مشايخ العدل» يعنى المعتزلة. ويريد بالمجبرة: أهل السنة، حيث قالوا: إن الخير والشر كلاهما من عند الله بخلقه وإرادته، ولو كان من فعل العبد ظاهرا. (ع)
(2) . لم أجده، وذكره الثعلبي عن قتادة مرسلا [.....](2/685)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين «1» الله، فنزلت، فرجع. وقرئ: لا يلبثون. وفي قراءة أبىّ: لا يلبثوا على إعمال «إذا» . فإن قلت:
ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبىّ ففيها الجملة برأسها التي هي إذا لا يلبثوا، عطف على جملة قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. وقرئ: خلافك «2» . قال:
عفت الدّيار خلافهم فكأنّما ... بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا «3»
أى بعدهم سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا يعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ونصبت نصب المصدر المؤكد، أى: سن الله ذلك سنة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 79]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
دلكت الشمس: غربت. وقيل: زالت. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «4» : أتانى جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بى الظهر. واشتقاقه من الدلك، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الفجر، سميت قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعا وسجودا
__________
(1) . لم أجده. وذكره السهيلي في الروض عن عبد المجيد بن بهرام بن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقا أنك نبى فالحق بالشام- فذكر نحوه، لكن قال: فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى- فذكره- وزاد: وأمره بالرجوع «وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث» .
(2) . قوله «وقرئ خلافك» كانت القراءة التي سبق تفسيرها: خلفك. (ع)
(3) . عفت: درست وهلكت، خلافهم: أى بعدهم. والشواطب: النساء يشققن شطب النخل: أى سعفه الأخضر، يعملنه حصيرا: بصف ديارهم بعدهم بدروسها وكثرة قمامتها لعدم كنسها.
(4) . أخرجه البيهقي من طريق أيوب بن عتبة عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة عن ابن مسعود قال «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين دلكت الشمس- يعنى حين زالت- فقال: قم فصل: فقام فصلى الظهر» قال إسحاق في مسنده: حدثنا بشر بن عمر حدثنا سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد حدثني أبو بكر بن حزم عن ابن مسعود قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قم فصل. وذلك لدلوك الشمس حين مالت. فقام فصلى الظهر أربعا ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه. وهذا منقطع.(2/686)
وقنوتا. وهي حجة على ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن مَشْهُوداً يشهده ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء، ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة. أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة. ويجوز أن يكون وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مكثورا عليها، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة وَمِنَ اللَّيْلِ وعليك بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ والتهجد ترك الهجود للصلاة، ونحوه التأثم والتحرّج. ويقال أيضا في النوم: تهجد نافِلَةً لَكَ عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع نافلة موضع تهجدا، لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم مَقاماً مَحْمُوداً نصب على الظرف، أى: عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا. أو ضمن يبعثك معنى يقيمك. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود. ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات. وقيل: المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق:
تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتى «1» . وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم نفس، فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشرّ ليس إليك، والمهدىّ من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا قوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» .
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة والترمذي من طريق داود بن يزيد الأودى عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وسئل عنه فقال: هي الشفاعة» وفي الباب عن أنس عند البخاري في التوحيد وعن ابن عمر عنده في الزكاة. وعن ابن مسعود عند النسائي والحاكم وله طريق آخر عند أحمد والحاكم مطولا. وعن كعب بن مالك عند الحاكم. وأصله عند مسلم وعن جابر عند أحمد والحاكم واختلف في وصله وإرساله على الزهري. عن على بن الحسين. وعن أبى سعيد عند الترمذي وابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن مردويه مطولا. وعن سعد بن أبى وقاص عند ابن مردويه من رواية محمد بن الحسن عن أبى حنيفة عن عبد العزيز بن ربيع عن مصعب بن سعد عن أبيه قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة»
(2) . أخرجه النسائي والحاكم وابن أبى شيبة والطبري وأبو يعلى والبزار وأبو نعيم في ترجمة حذيفة في الحلية كلهم من طريق شعبة وإسرائيل كلاهما عن أبى إسحاق سمعت عتبة بن زفر يقول سمعت حذيفة يقول «يجمع الناس» فذكره.(2/687)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
[سورة الإسراء (17) : آية 80]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)
قرئ: مدخل ومخرج بالضم والفتح: بمعنى المصدر. ومعنى الفتح: أدخلنى فأدخل مدخل صدق، أى: أدخلنى القبر مدخل صدق: إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجنى منه عند البعث إخراجا مرضيا، ملقى بالكرامة، آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث.
وقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر- وهو النبوّة- وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: الطاعة. وقيل: هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان سُلْطاناً حجة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر مظهرا له عليه، فأجيبت دعوته بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ووعده لينزعنّ ملك فارس والروم، فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديدا على المريب، لينا على المؤمن وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافياً، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنى رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب «1» فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير» .
[سورة الإسراء (17) : آية 81]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما صنم كل قوم بحيالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله عز وجل فقال:
أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك، فأوحى الله إلى البيت: إنى سأحدث لك
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بإسناده عن الكلبي. قال سُلْطاناً نَصِيراً عتاب بن أسيد. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، فذكره سواء. وأخرجه ابن مردويه من طريق إسماعيل بن خليفة الكلبي عن أبى صالح. عن ابن عباس. دون الحديث الذي في آخره.(2/688)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
نوبة جديدة، فأملأك خدودا سجدا، يدفون إليك دفيف النسور «1» ، يحنون إليك حنين الطير إلى بيضها. لهم عجيج حولك بالتلبية. ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال: يا على، ارم به، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون:
ما رأينا رجلا أسحر من محمد «2» صلى الله عليه وسلم. وشكاية البيت والوحى إليه: تمثيل وتخييل وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب وهلك، من قولهم: زهقت نفسه، إذا خرجت. والحق: الإسلام.
والباطل: الشرك كانَ زَهُوقاً كان مضمحلا غير ثابت في كل وقت.
[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَنُنَزِّلُ قرئ بالتخفيف والتشديد مِنَ الْقُرْآنِ من للتبيين، كقوله: من الأوثان.
أو للتبعيض، أى: كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله «3» » ولا يزداد به الكافرون إِلَّا خَساراً أى نقصانا لتكذيبهم به وكفرهم، كقوله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 84]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعة أَعْرَضَ عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه
__________
(1) . قوله «يدفون إليك دفيف النسور» في الصحاح «الدفيف» الدبيب. وهو السير اللين، وفيه «العج» رفع الصوت، وقد عج يعج عجيجا. (ع)
(2) . قال: لم أجده. وروى النسائي والحاكم من طريق ابن أبى مريم عن على. قال «انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة فقال لي اجلس فجلست. وصعد على منكبى فنهضت به. فذكر الحديث» وليس فيه أن ذلك كان في فتح مكة. ولا تلاوة الآية. وروى النسائي [كذا بالأصلين اه مصححه]
(3) . أخرجه الثعلبي من طريق أحمد بن الحرث الغساني. حدثنا ساكنة بنت الجعد، قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.(2/689)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
مستبدّ بنفسه وَنَأى بِجانِبِهِ تأكيد للإعراض، لأنّ الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأى بالجانب: أن يلوى عنه عطفه ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأنّ ذلك من عادة المستكبرين وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ. وقرئ: وناء بجانبه، بتقديم اللام على العين، كقولهم «راء» في «رأى» ويجوز أن يكون من «ناء» بمعنى «نهض» قُلْ كُلٌّ أحد يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أى على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه، والدليل عليه قوله فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أى أسدّ مذهبا وطريقة.
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أى مما استأثر بعلمه. وعن ابن أبى بريدة. لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح «1» .
وقيل: هو خلق عظيم روحانى أعظم من الملك. وقيل: جبريل عليه السلام. وقيل: القرآن.
ومِنْ أَمْرِ رَبِّي أى من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر، بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبىّ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبىّ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم «2» وَما أُوتِيتُمْ الخطاب أم أنت معناه فيه؟ فقال:
بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك: ساعة تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وساعة تقول هذا «3» ، فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
__________
(1) . ذكره الواحدي في الوسيط عن عبد الله بن بريدة بهذا في حديث لم يسبق إسناده
(2) . لم أجده هكذا. وذكره ابن هشام في السيرة عن زياد عن أبى إسحاق. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه «أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم سلوه عن ثلاث، فإذا عرفها فهو نبى: سلوه عن أقوام ذهبوا في الأرض فلم يدر ما صنعوا ... القصة بطولها»
(3) . ذكره الثعلبي في تفسير لقمان بغير سند ولا راو. وروى ابن مردويه من طريق على بن عاصم عن داود ابن أبى هند عن عكرمة. لا أعلمه إلا عن ابن عباس. قال «لما نزلت هذه الآية وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا. أوتينا التوراة ومن يؤت التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا. فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ.(2/690)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
وليس ما قالوه بلازم، لأنّ القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: هو خطاب لليهود خاصة، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة، وقد تلوت وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 87]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
لَنَذْهَبَنَّ جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط. واللام الداخلة على إن موطئة للقسم. والمعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدرى ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بعد الذهاب بِهِ من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه، فعلى كل ذى علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ. وعن ابن مسعود:
إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء. فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب «1» .
[سورة الإسراء (17) : آية 88]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
لا يَأْتُونَ جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة، لجاز أن يكون جوابا للشرط، كقوله:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني، وأخرجه ابن أبى شيبة وابن مردويه كلهم من طريق شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود وزاد في آخره ثم قرأ عبد الله وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. [.....](2/691)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
يقول لا غائب مالى ولا حرم «1»
لأن الشرط وقع ماضيا، أى: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله، والعجب من النوابت «2» ومن زعمهم أن القرآن قديم «3» مع اعترافهم بأنه معجز «4» ، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة، فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه. وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه كثانى القديم، فلا يقال للفاعل: قد عجز عنه، ولا هو معجز. ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال، فإن رأس ما لهم «5» المكابرة وقلب الحقائق.
[سورة الإسراء (17) : آية 89]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا ردّدنا وكرّرنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه.
والكفور: الجحود. فإن قلت: كيف جاز فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ولم يجوز ضربت إلا زيدا؟ قلت: لأن أبى متأوّل بالنفي، كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 537 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «النوابت» في الصحاح «النوابت من الأحداث» الأغمار. وفيه: رجل غمر: لم يجرب. (ع)
(3) . قال محمود: «والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ... الخ» قال أحمد:
ومما يدلك على حيد المصنف عن سنن المنصف أنه تدلس على الضعفة في مثل هذه المسألة التي طبقت طبق الأرض ظهورا وشيوعا، ومع ذلك يرضى لنفسه أن يتجاهل فيها عن معتقد القوم، وذلك أن عقيدة أهل السنة أن مدلول العبارات صفة قديمة قائمة بذات الباري تعالى، يطلق عليها قرآن، ويطلق أيضا على أدلتها وهي هذه الكلمات الفصيحة والآي الكريمة قرآن، وأن المعجز عندهم الدليل لا المدلول، لكنهم يتحرزون من إطلاق القول بأنه مخلوق لوجهين. أحدهما: أنه إطلاق موهم. والثاني: أن السلف الصالح كفوا عنه فاقتفوا آثارهم واقتبسوا أنوارهم.
وكم من معتقد لا يطلق القول به خشية إيهام غيره مما لا يجوز اعتقاده، فلا ربط بين الاعتقاد والإطلاق، ولا كرامة لمعتقد ذلك والمتعنت بالزامه، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(4) . قوله «ومن زعمهم أن القرآن قديم» يريد بهم أهل السنة حيث يقولون: إن القرآن قديم، لكن لا بمعنى اللفظ الذي يسمعه بعضنا من بعض، فان هذا حادث بل بمعنى كلام الله الذي هو صفة له قائمة بذاته تعالى، فهذا هو القديم، كعلمه تعالى وإرادته. (ع)
(5) . قوله «فان رأس ما لهم المكابرة» ليس كما قال غفر الله له، بل رأس ما لهم التمسك بالكتاب والسنة، وتحرى الحقائق. (ع)(2/692)
لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات: فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لك حتى ... وحتى تَفْجُرَ تفتح. وقرئ: تفجر، بالتخفيف مِنَ الْأَرْضِ يعنون أرض مكة يَنْبُوعاً عينا غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع: «يفعول» من نبع الماء، كيعبوب من عب الماء كَما زَعَمْتَ يعنون قول الله تعالى إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ. قرئ: كسفا، بسكون السين جمع كسفة، كسدرة وسدر. وبفتحه قَبِيلًا كفيلا بما تقول شاهدا بصحته. والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا، وبالملائكة قبيلا، كقوله:
... كنت منه ووالدي ... بريّا «1» ...
فإنّى وقيّار بها لغريب «2»
أو مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر، ونحوه لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أو جماعة حالا من الملائكة مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب فِي السَّماءِ في معارج السماء، فحذف المضاف.
يقال: رقى في السلم وفي الدرجة وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ولن نؤمن لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً
__________
(1) .
رمانى بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن جول الطوى رمانى
للفرزدق. يقول: قذفني بأمر أنا بريء منه ووالدي، فكان: مجردة عن المضي، وحذف خبر الوالد للدلالة عليه، والعطف من عطف الجمل. وبريا: في نية التقديم، فلم يلزم تقدم شيء من المعطوف عليه على المعطوف: هذا رأى الجمهور. وأجاز بعضهم أن «والدي» عطف على اسم كان، فيكون «بريا» خبره، وخبر اسمها محذوفا أو بالعكس، والعطف من عطف المفردات. ويجوز أن «بريا» خبر عنهما، لأن فعيلا يقال للواحد والمتعدد، لموازنته المصدر:
كصهيل وضجيج ونحيب ونسيب، وإن كان استعماله كذلك بمعنى فاعل قليلا. وجول الطوى- بالضم-: جانب البئر المطوى. والمعنى: أنه رمانى بأمر يرجع عليه هو، كأنه رمانى وهو في أسفل البئر بحجر فيرجع عليه، كناية عن مكافأته بأمر أعظم مما رماه به. ويجوز أن الأمر الذي رماه به متصف به الرامي، وهو أنسب بالتشبيه.
ويروى ومن أجل الطوى. فليحرر.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 629 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/693)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
من السماء فيه تصديقك. عن ابن عباس رضى الله عنهما: قال عبد الله بن أبى أمية:
لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما. ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتى معك بصك منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا: هذا سحر، كما قال عز وجل وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه- بل هي أعظم- لم يكن إلى تبصرتهم سبيل قُلْ سُبْحانَ رَبِّي وقرئ: قال سبحان ربى، أى قال الرسول. وسُبْحانَ رَبِّي تعجب من اقتراحاتهم عليه هَلْ كُنْتُ إِلَّا رسولا كسائر الرسل بَشَراً مثلهم، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إلىّ، وإنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها علىّ.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 95]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)
أَنْ الأولى نصب مفعول ثان لمنع. والثانية رفع فاعل له. والْهُدى الوحى، أى:
وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في أَبَعَثَ اللَّهُ للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء، ثم قرر ذلك بأنه لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على أقدامهم كما يمشى الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء «1» فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين في الأرض قارّين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم الخير ويهديهم المراشد. فأما الإنس فما هم بهذه المثابة، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون بشرا وملكا، منصوبين على الحال من رسولا؟ قلت: وجه حسن، والمعنى له أجوب.
[سورة الإسراء (17) : آية 96]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
__________
(1) . قال محمود: «معناه لو كانوا يمشون مشى الانس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء ... الخ» قال أحمد:
وقد اشتمل كلامه هذا على جواب حسن عن سؤال مقدر، وهو قول القائل: إن مجرد وجود الملائكة في الأرض يناسب إرسال الملك إليهم، فما فائدة هذه الزيادة؟ فيكون جوابه ما تقدم، والله الموفق.(2/694)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على أنى بلغت ما أرسالات به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ المنذرين والمنذرين خَبِيراً عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة. وشهيدا: تمييز أو حال.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 98]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ ومن يوفقه ويلطف به فَهُوَ الْمُهْتَدِي لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذل فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أنصارا. عَلى وُجُوهِهِمْ كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
» عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم «2» ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤفى الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون كُلَّما خَبَتْ كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله ذلِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً.
__________
(1) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق والبزار من حديث أبى هريرة بهذا في حديث. وفيه على بن مرثد وهو ضعيف. قال البزار لا نعلمه من حديث أبى هريرة إلا بهذا الاسناد. ورواه ابن مردويه من رواية أبى داود نفيع عن أنس مثله. وأصله في الصحيحين عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟
قال: «أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ؟.
(2) . قوله «ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم» الذي في الصحاح: لذذت الشيء- بالكسر-: وجدته لذيذا. (ع)(2/695)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
[سورة الإسراء (17) : آية 99]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
فإن قلت: علام عطف قوله وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا؟ قلت: على قوله أَوَلَمْ يَرَوْا لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن كما قال: أأنتم أشد خلقا أم السماء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحودا.
[سورة الإسراء (17) : آية 100]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
لَوْ حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلا بد من فعل بعدها في لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ وتقديره لو تملكون، فأضمر تملك إضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو أنتم، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، وتملكون: تفسيره! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأمّا ما يقتضيه علم البيان، فهو: أنّ أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم:
لو ذات سوار لطمتنى
وقول المتلمس:
ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى «1»
وذلك لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، وبرز الكلام في صورة المبتدإ والخبر. ورحمة الله: رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم.
وقيل: هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها قَتُوراً ضيقا بخيلا. فإن قلت: هل يقدر لَأَمْسَكْتُمْ مفعول؟
قلت: لا، لأن معناه: لبخلتم، من قولك للبخيل: ممسك.
__________
(1) .
ولو غير إخوانى أرادوا نقيصتى ... جعفت لهم فوق العرانين ميسما
وهل كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى عليه تقدما
للمتلمس خال طرفة بن العبد، و «لو» من حروف الشرط، فمتى كان في حيزها فعل فهي أحق به، فغير إخوانى فاعل لمحذوف يفسره المذكور، أى: ولو أراد غير إخوانى. ويروى: أخوالى، نقيصتى: أى ظلمى، لوسمتهم بالذل وسما ظاهرا، كأنه فوق الأنوف، وخصها لأنها لا تخفى. والميسم: آلة الوسم بالنار، والمراد أثره وهو السمة.
وهل: استفهام إنكارى، أى: لو كافأت إخوانى لا أكون إلا مثل من قطع كفه بكفه الأخرى، والكف يذكر ويؤنث، فلذلك وصفه بأنه تقدم على الكف الآخر واعتدى عليه ووصفه بأخرى. والمقابلة بين الكفين تؤيد رواية إخوانى بالنون.(2/696)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
[سورة الإسراء (17) : آية 101]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)
عن ابن عباس رضى الله عنهما: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات: مكان الحجر، والبحر، والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس «1» ، فقال له عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا، أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم «2» وحمص وعدس، كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أنّ بعض اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أوحى الله إلى موسى: أن قل لبنى إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت «3» فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فقلنا له: سل بنى إسرائيل، أى: سلهم من فرعون «4» وقل له: أرسل معى بنى إسرائيل. أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم. أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدلّ عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسال بنى إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش. وقيل:
فسل يا رسول الله المؤمنين من بنى إسرائيل، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقينا وطمأنينة قلب، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. فإن قلت: بم تعلق إِذْ جاءَهُمْ؟ قلت: أمّا على الوجه الأول فبالقول المحذوف، أى فقلنا لهم سلهم حين جاءهم، أو بسأل في القراءة الثانية. وأمّا على الأخير فبآتينا. أو بإضمار
__________
(1) . قوله «فذكر اللسان والطمس» لعله العقدة التي كانت بلسانه فحلها كما عده الخازن. وأما الطمس: فهو إجابة دعائه في قوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ويشير إلى ذلك ذكر ما في الجواب. (ع)
(2) . قوله «وفوم» في الصحاح «الفوم» الثوم. ويقال له: الحنطة. (ع)
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبراني: كلهم من رواية عبد الله بن سلام عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله: فقال لا تقل له نبى فان سمعك صارت له أربعة أعين. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه. فذكر الحديث. ولم يقل أحد منهم «أوحى إلى موسى أن قل لبنى إسرائيل» والباقي سواء، عبد الله بن سلام كبر فساء حفظه وكان المسئول عنه العشر كلمات، لأن عددها عشرة لا التسع آيات. لأن العشر وصايا كهذه، والتسع حجج على فرعون وقومه. [.....]
(4) . قوله «سلهم من فرعون» يعنى اطلبهم منه. (ع)(2/697)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
اذكر، أو يخبروك. ومعنى إِذْ جاءَهُمْ إذ جاء آباءهم مَسْحُوراً سحرت فخولط عقلك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 102 الى 104]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات إلا الله عز وجل بَصائِرَ بينات مكشوفات، ولكنك معاند مكابر: ونحوه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا وقرئ «علمت» بالضم، على معنى: إنى لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر.
وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك مَثْبُوراً هالكا، وظنى أصح من ظنك، لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها. وأما ظنك فكذب بحت، لأن قولك مع علمك بصحة أمرى، إنى لأظنك مسحورا قول كذاب. وقال الفرّاء: مَثْبُوراً مصروفا عن الخير مطبوعا على قلبك، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أى: ما منعك وصرفك؟
وقرأ أبىّ بن كعب: وإن إخالك يا فرعون لمثبورا، على: إن المخففة واللام الفارقة فَأَرادَ فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد فرعون أن يستفزكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعنى قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً جمعا مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم: واللفيف: الجماعات من قبائل شتى.
[سورة الإسراء (17) : آية 105]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير. أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين وَما أَرْسَلْناكَ إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك.
[سورة الإسراء (17) : آية 106]
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)(2/698)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
وَقُرْآناً منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ وقرأه أبىّ: فرّقناه، بالتشديد، أى: جعلنا نزوله مفرّقا منجما. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قرأ مشدّدا وقال: لم ينزل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوّله وآخره عشرون سنة، يعنى: أن فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب «على مكت» بالفتح والضم: على مهل وتؤدة وتثبت وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث
[سورة الإسراء (17) : الآيات 107 الى 109]
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل- وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحى وما الشرائع- قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربىّ الموعود في كتبهم، فإذا تلى عليهم خرّوا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشربه من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا...... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أى يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين- فإن قلت: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأوّل: إن لم تؤمنوا به لقد آمن «1» به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه؟ قال:
فخرّ صريعا لليدين وللفم «2»
__________
(1) . قوله «لقد آمن» لعله «فقد» . (ع)
(2) .
فيوم الكلاب قد أزالت رماحنا ... شرحبيل إذ آلى آلية مقسم
لينتزعن أرماحنا فأزاله ... أبو حنش عن ظهر شنقاء صلدم
تناوله بالرمح ثم انثنى له ... فخر صريعا لليدين وللفم
لجابر الثعلبي. وقيل: البيت الثالث لشريح العبسي. وقيل: لزهير. والكلاب بالضم اسم موضع الواقعة. وآلي:
أى حلف. والشنقاء: الطويلة من الخيل، والصلدم- بكسر المهملتين-: القوية. ويروى: ثم اثنى له. وأصله:
انثنى، فأدغمت النون بعد قلبها ثاء في الثاء. ولو قرئ: ثم ائتني، من أتانى وتمهل لجاز. ويروى: دلفت له بالرمح من تحت بزه. ويروى: شقفت له بالرمح جيب قميصه. ولعل اختلاف الروايات لاختلاف القائل. والتناول:
الأخذ، فالمعنى: لحقه فطعنه بالرمح، كأنه أخذه، ثم انثنى له: أى طعنه مرة أخرى، فسقط مطروحا، وجعل ذلك ليديه وفمه، لأنها التي يستقبل بها الأرض أولا حين سقوطه على وجهه، واللام هنا بمعنى على كما ذكره النحاة، وإن أنكره النحاس. ودلف دلفا كتعب تعبا: إذا تقدم بسرعة وقارب بين خطاه. وجيب قميصه: كناية عن صدره، لأنه إذا شق طوق القميص بالرمح فقد شق الصدر.(2/699)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به، لأن اللام للاختصاص. فإن قلت: لم كرّر يخرون للأذقان؟ قلت: لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين.
[سورة الإسراء (17) : آية 110]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)
عن ابن عباس رضى الله عنهما سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيدا. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في أَيًّا عوض من المضاف إليه. وما صلة للإبهام المؤكد لما في أىّ، أى: أىّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والضمير في فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى، لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء. أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم بِصَلاتِكَ بقراءة صلاتك على حذف المضاف، لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين وَلا تُخافِتْ حتى لا تسمع من خلفك وَابْتَغِ بَيْنَ الجهر المخافتة سَبِيلًا وسطا. وروى أنّ أبا بكر رضى الله عنه كان يخفى صوته بالقراءة في صلاته ويقول:(2/700)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
أناجى ربى وقد علم حاجتي، وكان عمر رضى الله عنه يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض «1» قليلا. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار. وقيل بِصَلاتِكَ بدعائك. وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.
[سورة الإسراء (17) : آية 111]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد «2» ؟ قلت: لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس الحمد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية «3» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة بنى إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» . رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم.
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من رواية يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبى قتادة بمعناه. وليس فيه قوله «قد علم حاجتي» وفيه أن كلام كل منهما كان لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال الترمذي. رواه أكثر الناس فلم يذكروا أبا قتادة. وقال ابن أبى حاتم عن أبه لفظا فيه يحيى بن إسحاق والصواب مرسلا، وفي الباب عن على أخرجه البيهقي في الشعب. وعن أبى هريرة أخرجه أبو داود من رواية محمد بن عمر. وعن أبى سلمة عنه مختصرا. وأخرجه الطبري من رواية محمد بن سيرين قال «نبئت أن أبا بكر فذكره» وقال فيه: أناجى ربى وقد علم حاجتي»
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك ... الخ» قال أحمد: وقد لاحظ الزمخشري هاهنا ما أغفله عند قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وقد رددت هذا الوجه فيما تقدم، بأن هذه الجملة لا يليق اقترانها بكلمة التحميد ولا تناسبها، فإنك لو قلت ابتداء: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، لم يكن مناسبا، والله أعلم.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق. قالا أخبرنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(2/701)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
سورة الكهف
(مكية [إلا آية 38 ومن آية 83 إلى غاية آية 101 فمدنية] وآياتها 110 [نزلت بعد الغاشية] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن معانيه، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه. فإن قلت: بم انتصب قَيِّماً؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب، لأنّ قوله وَلَمْ يَجْعَلْ معطوف على أنزل، فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذى الحال ببعض الصلة، وتقديره: ولم يجعل له عوضا جعله قيما، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الاخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السير والتصفح. وقيل: قيما على سائر الكتب مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع. وقرئ قيما.
«أنذر» متعدّ إلى مفعولين، كقوله نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
فاقتصر على أحدهما، وأصله(2/702)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
لِيُنْذِرَ الذين كفروا بَأْساً شَدِيداً والبأس من قوله بِعَذابٍ بَئِيسٍ وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة مِنْ لَدُنْهُ صادرا من عنده. وقرئ: من لدنه، بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون وَيُبَشِّرَ بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم اقتصر على أحد مفعولي أنذر؟ قلت: قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه، فوجب الاقتصار عليه.
والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بالمنذرين من غير ذكر المنذر به، كما ذكر المبشر به في قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً استغناء بتقدّم ذكره.
والأجر الحسن: الجنة ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أى بالولد أو باتخاذه، يعنى أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء، وقد اشتملته «1» آباؤهم من الشيطان وتسويله.
فإن قلت: اتخاذ الله ولدا في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم به من علم «2» ؟ قلت: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. قرئ: كبرت كلمة، وكلمة: بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية، والنصب أقوى وأبلغ. وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أكبرها كلمة.
وتَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا «3» من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ كبرت بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت: إلى قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها.
[سورة الكهف (18) : آية 6]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا
__________
(1) . قوله «وقد اشتملته» لعله: استملته، بإهمال السين وسكون الميم. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل لهم ... الخ» قال أحمد: قد مضى له في قوله تعالى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أن ذلك وارد على سبيل التهكم، وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل. ونظيره:
ولا يرى الضب بها ينجحر
وقد قدمت حينئذ أن الكلام وارد على سبيل الحقيقة والأصل، وأن نفى إنزال السلطان تارة يكون لاستحالة إنزاله ووجوده، وتارة يكون، لأنه لم يقع وإن كان ممكنا، والله أعلم.
(3) . قوله «تشورا من إظهاره» أى تباعدا من إظهاره، كأنه عورة. وفي الصحاح «الشوار» الفرج.
ومنه قيل: شور به، كأنه أبدى عورته. (ع)(2/703)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
على فراقهم. وقرئ: باخع نفسك، على الأصل، وعلى الإضافة: أى قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ: إن لم يؤمنوا. وللمضى فيمن قرأ: أن لم يؤمنوا، بمعنى: لأن لم يؤمنوا بِهذَا الْحَدِيثِ بالقرآن أَسَفاً مفعول له، أى: لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالا.
والأسف: المبالغة في الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف.
[سورة الكهف (18) : الآيات 7 الى 11]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)
ما عَلَى الْأَرْضِ يعنى ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وحسن العمل: الزهد فيها وترك الاغترار بها، ثم زهد في الميل إليها بقوله وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها من هذه الزينة صَعِيداً جُرُزاً يعنى مثل أرض بيضاء لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة: من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق «1» فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال أَمْ حَسِبْتَ يعنى أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة. والكهف: الغار الواسع في الجبل وَالرَّقِيمِ اسم كلهم. قال أمية ابن أبى الصلت:
وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا ... وصيدهم والقوم في الكهف همّد «2»
وقيل: هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. وقيل: إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل: الجبل. وقيل:
__________
(1) . قوله «مما خلق» لعله بما «خلق» . (ع)
(2) . لأمية بن أبى الصلت، والرقيم: كلب أصحاب الكهف. والوصيد: فناء البيت وبابه وعتبته، والبيت يحتملها. والهمد: جمع هامد، أى: راقد. والقوم: عطف على الرقيم. ويقول: ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حال كونه مجاورا لفناء غارهم، وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف: أى الغار.(2/704)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قريتهم. وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين كانُوا آية عَجَباً من آياتنا وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أى رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار رَشَداً حتى تكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله، كقولك: رأيت منك أسدا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أى ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، يعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته، يريدون: بنى عليها القبة سِنِينَ عَدَداً ذوات عدد، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة، لأن الكثير قليل عنده، كقوله: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. وقال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد
[سورة الكهف (18) : آية 12]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
أَيُّ يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه لِنَعْلَمَ فلم يعمل فيه. وقرئ، ليعلم، وهو معلق عنه أيضا، لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد «يعلم» إليه، وفاعل «يعلم» مضمون الجملة، كما أنه مفعول «نعلم» أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين منهم في مدّة لبثهم، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو أى الحزبين المختلفين من غيرهم، وأَحْصى فعل ماض أى أيهم ضبط «1» أَمَداً لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس، ونحو «أعدى من الجرب» ، و «أفلس من ابن المذلق» شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن أَمَداً لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل «2» فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أنى
__________
(1) . قال محمود «أحصى فعل ماض، أى: لنعلم أيهم ضبط أمدا ... الخ» قال أحمد: وقد جعل بعض النحاة بناء افعل من المزيد فيه الهمز قياسا، وادعى ذلك مذهبا لسيبويه، وعلله يأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة، وإنما هو تعويض همزة بهمزة.
(2) . عاد كلامه. قال: وأيضا فلو كان للتفضيل لم يخل انتصاب أمدا إما بأفعل ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن ينصبه على التمييز، كانتصاب العدد تمييزا في قوله تعالى أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ويعضد حمله على أفعل التفضيل وروده في نظير الواقعة واختلاف الأحزاب في مقدار اللبث، وذلك في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فأمثلهم طريقة: هو أحصاهم لما لبثوا عددا. وكلا الوجهين جائز، والله أعلم.(2/705)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى، كما أضمر في قوله:
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا «1»
على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت: كيف جعل الله تعالى العلم بإحصائهم المدّة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت: الله عز وجل لم يزل عالما بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيمانا واعتبارا، ويكون لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
__________
(1) .
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمي للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرماح المداعسا
إذا الخيل حالت عن صريع نكرها ... عليهم فما يرجعن إلا عوابسا
للعباس بن مرداس السلمى، والحي بنو زبيد من اليمن. وأكر: أشد كرا. وأحمى: أشد حماية. والحقيقة:
ما يستحق الذب عنه من عرض ومال. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الفارس وأعلى رأس الفرس.
والمذاكي: الخيل العناق العتاق التي أتى عليها بعد قروحها سنة، جمع المذاكي اسم مفعول. والمداعس: الرماح الصم التي يطعن بها. والدعس بالتحريك الأثر، والمداعسة المطاعنة. والمدعس: الرمح الأصم الذي يطعن به.
ويروى: جالت، بدل حالت أى: مالت إلى جول بالجيم أى ناحية. وأما الحول بالحاء فهو التحول. والصريع:
الطريح على الأرض، ونكرها: نرجعها، والعوابس: كالحات الوجوه من الجري في الغبار. وحيا مصبحا، أى:
مأتيا في الصباح مفعول. ومثل الحي: حال، على أن رأى بصرية. أو مفعول ثان، على أنها علمية، وأكر: بدل من حيا، ولا يصح جعله صفة أو مفعول ثان، لأنك لو قلت: ما رأيت مثل زيد رجلا أفضل منه لم يستقم المعنى إلا على البدلية، لأن المماثلة تنافى المفاضلة، إلا أن تكون المماثلة في صفة والمفاضلة في أخرى، فلا مانع منه حينئذ. وأضرب: أفعل تفضيل، بدل من فوارس على ما تقدم، فهو لف ونشر مرتب. وأفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، بل حكى الإجماع على ذلك، فالقوانس نصب بمحذوف، أى: يضرب القوانس أى الرؤوس، لكن قال محمد بن مسعود في كتابه البديع: غلط من قال: إن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، واستشهد بهذا البيت وغيره. وبين مدح الفريقين بقوله: إذا شددنا عليهم مرة قابلونا بالخيل العتاق والرماح الجيدة، فهم شجعان.
وبقوله: إذا مالت خيلنا أو تحولت عن قتيل منا، نرجعها عليهم لأجل الثأر، فما ترجع إلا كوالح، فنحن أشجع منهم. [.....](2/706)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
وَزِدْناهُمْ هُدىً بالتوفيق والتثبيت وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام إِذْ قامُوا بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... شَطَطاً قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه، من شط: إذا بعد. ومنه: أشط. في السوم وفي غيره هؤُلاءِ مبتدأ، وقَوْمُنَا عطف بيان واتَّخَذُوا خبر وهو إخبار في معنى إنكار لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ هلا يأتون على عبادتهم، فحذف المضاف بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ وهو تبكيت، لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه.
[سورة الكهف (18) : آية 16]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم وَما يَعْبُدُونَ نصب، عطف على الضمير، يعنى: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا، على ما روى: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل: هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله مِرفَقاً قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به: أى ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبىّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا.
[سورة الكهف (18) : آية 17]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)
تَتَزاوَرُ أى تمايل، أصله: تتزاور، فخفف بإدغام التاء في الزاى أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ: تزورّ. وتزوارّ: بوزن تحمرّ وتحمارّ، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين تَقْرِضُهُمْ تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة:(2/707)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس «1»
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أنّ الله يحجبها عنهم. وقيل: في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسبون كرب الغار ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أى ما صنعه الله بهم- من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة- آية من آياته، يعنى: أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم، اختصاصا لهم بالكرامة. وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش، فهم في مقنأة «2» أبدا. ومعنى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرّض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله.
[سورة الكهف (18) : آية 18]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَتَحْسَبُهُمْ بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد. والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل: لكثرة تقلبهم
__________
(1) .
نظرت بجرعاء السبية نظرة ... ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
لذي الرمة. وجرعاء السبية: اسم موضع، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الفاعل. وضحى: ظرف، وسواد العين ... الخ. جملة حالية، في الماء، أى: الدمع شامس، أى كثير الحركة والاضطراب. يقال: شمس الفرس والرجل شموسا، إذا ساء خلقه، والظعينة: المرأة في الهودج أو المطية عليها امرأة أولا، أو الهودج فيه امرأة أولا. والجمع ظعن وظعن وأظعان وظعانى ويقرضن أى يقطعن. وأقواز مشرف: أعالى جبل مشرف. ويروى أجواز جمع جوز بمعنى المجاز والطريق، أى: يفصلناه عنهن، وشمالا: جهة الشمال، والفوارس: اسم موضع، وجعله جمع فارس، كما قيل: تبعده المقابلة.
(2) . قوله «فهم في مقنأة» في الصحاح: قال أبو عمرو «المقنأة، والمقنؤة» الذي لا تطلع عليه الشمس.
وقال: غير مقناة. ومقنوة. بغير همز: نقيض المضحاة. (ع)(2/708)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وقرئ: ويقلبهم. بالياء والضمير لله تعالى. وقرئ: وتقلبهم، على المصدر منصوبا، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً كأنه قيل: وترى وتشاهد تقلبهم. وقرأ جعفر الصادق: وكالبهم أى وصاحب كلبهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ حكاية حال ماضية، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة، كغلام زيد، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد: الفناء، وقيل: العتبة. وقيل: الباب. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر «1»
وقرئ: ولملئت، بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ بتخفيف الهمزة وقلبها ياء. ورُعْباً بالتخفيف والتثقيل، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أى يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل:
لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم. وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضى الله عنه:
ليس لك ذلك، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فقال معاوية، لا أنتهى حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم «2» . وقرئ: لو اطلعت، بضم الواو.
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إذكارا بقدرته على الإنامة والبعث
__________
(1) . لزهير. والوصيد: الفناء والباب والعتبة. يقول: نزلت في أرض خالية من البناء، تصلني فيها الضيفان والقفاة، ليس فيها بناء له وصيد. فيسد على فتنحجب عنى الضيفان كأهل الحضر، فنفى السد كناية عن نفى الوصيد من أصله، وإحسانى بها معروف لا ينكره أحد من الناس.
(2) . أخرجه ابن أبى حاتم وعبيد بن محمد وأبو بكر بن أبى شيبة من رواية يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده صحيح.(2/709)
جميعا، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ جواب مبنى على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله. وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فَابْعَثُوا بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب «1» فاتخذ أنفا من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب «2» . وقرئ:
بورقكم، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير: بورقكم، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف. وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضى الله عنها- لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه-: أوثق عليك نفقتك «3» . وما حكى عن بعض صعاليك العلماء»
أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شدّ الهميان، والتوكل على الرحمن أَيُّها أىّ أهلها، فحذف الأهل كما في قوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، أَزْكى طَعاماً أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف والنيقة «5» فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
__________
(1) . قوله «يوم الكلاب» في وقعة الكلاب، وهو بالضم: اسم ماء كانت عنده الوقعة، أفاده الصحاح، (ع)
(2) . أخرجه أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن طرفة. عن عرفجة. وفي رواية بعضهم «أن عرفجة» .
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عنها بذلك.
(4) . قوله «عن بعض صعاليك العلماء» أى فقرائهم. (ع)
(5) . قوله «والنيقة» أى: الإتقان. (ع)(2/710)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
يعنى: ولا يفعلنّ ما يؤدى من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعارا منه بهم، لأنه سبب فيه الضمير في إِنَّهُمْ راجع إلى الأهل المقدر في أَيُّها. يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم، وكانت عادتهم أَوْ يُعِيدُوكُمْ أو يدخلوكم فِي مِلَّتِهِمْ بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم، يقولون: ما عدت أفعل كذا. يريدون ابتداء الفعل وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن دخلتم في دينهم.
[سورة الكهف (18) : آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ وكما أنمناهم وبعثناهم، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهو البعث، لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. وإِذْ يَتَنازَعُونَ متعلق بأعثرنا. أى: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث، فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح، ليرتفع الخلاف، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت فَقالُوا حين توفى الله أصحاب الكهف ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أى على يأب كهفهم. لئلا يتطرّق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم لَنَتَّخِذَنَّ على باب الكهف مَسْجِداً يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم أى: يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم، فقالوا: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. روى أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها، وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله فقال:
ما تريدون منى، أنا أحبّ أحباء الله، فناموا وأنا أحرسكم. وقيل: مرّوا براع معه كلب فتبعهم «1»
__________
(1) . قوله «وقيل: مروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم» لعل بعده سقطا تقديره: وتبعهم الكلب، كما في الخازن. (ع)(2/711)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
على دينهم، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه، ثم ضرب الله على آذانهم، وقيل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن. وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس:
اتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث، ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدا. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلام المتنازعين، كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.
[سورة الكهف (18) : آية 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
سَيَقُولُونَ الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارا بما سيجرى بينهم من اختلافهم في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عباس رضى الله عنه: أنا من أولئك القليل. وروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب وكان نسطوريا:
كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين.
وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبريل عليه السلام. وعن علىّ رضى الله عنه: هم سبعة نفر أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا: هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره.(2/712)
والسابع: الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس. واسم مدينتهم: أفسوس.
واسم كلبهم: قطمير. فإن قلت: لم جاء بسين الاستقبال في الأوّل دون الآخرين؟ قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له رَجْماً بِالْغَيْبِ رميا بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أى يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنه قيل: ظنا بالغيب، لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجّم «1»
أى المظنون. وقرئ: ثلاتّ رابعهم، بإدغام الثاء في تاء التأنيث. وثَلاثَةٌ خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلاثة. وكذلك خَمْسَةٌ وسَبْعَةٌ ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ جملة من مبتدإ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأوّلين «2» ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حال عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر. ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت
__________
(1) .
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
لزهير من معلقته، ينهى عبسا وذبيان عن القتال. يقول: ليست الحرب إلا التي علمتموها وجربتموها، وشبهها بمطعوم مكروه على طريق الكناية والذوق تخييل، وما هو: أى الحديث عن الحرب، ولما كان الضمير عائدا على المصدر في المعنى صح تعلق المجرور به، ويبعد تعلقه بما بعده. والترجيم: الرمي بالرجام وهي الحجارة الصغار، استعير لالقاء الكلام بلا روية ولا فكر على طريق التصريحية.
(2) . قال محمود: إن قلت «لم دخلت الواو في الجملة الأخيرة ... الخ» ؟ قال أحمد: وهو الصواب، لا كمن يقول: إنها واو الثمانية فان ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بخلاف أبواب النار، فانه قال فيها فُتِحَتْ أَبْوابُها قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة.
وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو، وربما عدوا من ذلك وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو الثامن من قوله التَّائِبُونَ وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة، لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف، لما بينهما من التناسب والربط.
ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما، كقوله يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وكقوله وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وربما عد بعضهم من ذلك الواو في قوله ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً لأنه وجدها مع الثامن، وهذا غلط فاحش، فان هذه واو التقسيم، ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا، لم يسند الكلام، فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق.(2/713)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم. والدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وأتبع القول الثالث قوله ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وقال ابن عباس رضى الله عنه: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، أى: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها. وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. وقيل: إلا قليل من أهل الكتاب. والضمير في سَيَقُولُونَ على هذا لأهل الكتاب خاصة، أى: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم، وأكثرهم على ظنّ وتخمين فَلا تُمارِ فِيهِمْ فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم، كما قال وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَلا تَسْتَفْتِ ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له، حتى يقول شيئا فتردّه عليه وتزيف ما عنده، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد، لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أى فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد الغد خاصة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ متعلق بالنهى لا بقوله: إنى فاعل، لأنه لو قال: إنى فاعل كذا إلا أنّ يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون «1» فعله، وذلك مما لا مدخل فيه للنهى، وتعلقه بالنهى على وجهين، أحدهما: ولا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه. والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله، أى: إلا بمشيئة الله، وهو في موضع الحال، يعنى: إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا:
__________
(1) . قال محمود: «كان معناه إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ... الخ» قال أحمد: ولا بد من حمل الكلام على أحد الوجهين المذكورين، ولولا ذلك لكان المعنى على الظاهر ببادئ الرأى: ولا تقولون لشيء إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول، وليس الغرض ذلك، وإنما الغرض النهى عن هذا القول إلا مقرونا بقول المشيئة، وليت شعري ما معنى قول الزمخشري في تفسير الآية، كأن المعنى: إلا أن تعترض المشيئة دونه، معتقدا أن مشيئة الله تعالى لا تعترض على فعل أحد، فكم شاء من الأفعال فتركت، وكم شاء من التروك ففعلت على زعم القدرية، فلا معنى على أصلهم الفاسد لتعليق الفعل بالمشيئة قولا وهو غير متعلق بها وقوعا، حتى أن قول القائل: لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أن أفعله: كذب وخلف بتقدير فعله إذا كان من قبيل المباح، لأن الله تعالى لا يشاؤه على زعمهم الفاسد، فما أبعد عقدهم من قواعد الشرع: فسحقا سحقا.(2/714)
إن شاء الله وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» في معنى كلمة تأبيد، كأنه قيل ولا تقولنه أبدا. ونحوه قوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله.
وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وذى القرنين. فسألوه فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش وَاذْكُرْ رَبَّكَ أى مشيئة ربك وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك. والمعنى:
إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنه:
ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة. وعن طاوس: هو على ثنياه «3» ما دام في مجلسه. وعن الحسن نحوه. وعن عطاء: يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضى الله عنه في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه: فقال أبو حنيفة: هذا يرجع عليك، إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضى عنه. ويجوز أن يكون المعنى:
واذكر «4» ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل: واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل: واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسى، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وهذا إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف. ومعناه: لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبىّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلّ، والظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربك.
وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربى أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسى أقرب منه رَشَداً وأدنى خيرا ومنفعة. ولعل النسيان كان خيرة، كقوله أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها.
__________
(1) . قوله «إن شاء الله» لعله أن يشاء الله. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «وقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أى كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها، فتداركها بالذكر.
وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم تحنث إلى قوله: وعند عامة الفقهاء ... الخ» قال أحمد: أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها، والله أعلم
(3) . قوله «هو على ثنياه» في الصحاح «الثنيا» بالضم: الاسم من الاستثناء. (ع)
(4) . قال محمود: «ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح ... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا التأويل بقوله تعالى أول القصة أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً فافتتح ذكر القصة بتقليل شأنها وإنكار عده من عجائب آيات الله، ثم ختمها بأمره عليه الصلاة والسلام بطلب ما هو أرشد وأدخل في الآية والله أعلم.(2/715)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
[سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ يريد لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة، وهو بيان لما أجمل في قوله فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ومعنى قوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدّة لبثهم، والحق ما أخبرك الله به. وعن قتادة: أنه حكاية لكلام أهل الكتاب. وقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ رد عليهم. وقال في حرف عبد الله:
وقالوا لبثوا. وسنين: عطف بيان لثلثمائة. وقرئ: ثلاثمائة سنين، بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا وفي قراءة أبىّ: ثلاثمائة سنة. تِسْعاً تسع سنين، لأن ما قبله يدل عليه. وقرأ الحسن: تسعا بالفتح، ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفى فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به. وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يذرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر ما لَهُمْ الضمير لأهل السموات والأرض مِنْ وَلِيٍّ من متول لأمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه أَحَداً منهم. وقرأ الحسن: ولا تشرك، بالتاء والجزم على النهى.
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فقيل له وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكلمات ربك، أى: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، إنما يقدر على ذلك هو وحده وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ. وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)(2/716)
وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحّ هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن، وهم: صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين، حتى نجالسك كما قال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ فنزلت: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ واحبسها معهم وثبتها. قال أبو ذؤيب:
فصبرت عارفة لذلك حرّة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلّع «1»
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ دائبين على الدعاء في كل وقت. وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر. وقرئ:
بالغدوة، وبالغداة أجود، لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال، وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال:
...... والزّيد زيد المعارك «2»
ونحوه قليل في كلامهم. يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم. عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيدا. وإنما عدى بعن، لتضمين عدا معنى نبا وعلا، في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه:
إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أى غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ.
ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أى ولا تضموها إليها أكلين لها. وقرئ: ولا تعد عينيك، ولا تعدّ عينيك، من أعداه وعدّاه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو. ومنه قوله:
فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له «3»
__________
(1) . لأبى ذؤيب في مرثية بنيه، وصبرت: أى حبست نفسا عارفة لذلك البلاء، وضمن عارفة معنى صابرة فعداه باللام، جسرة: أى قوية صلبة. ويروى: حرة، بضم الحاء، أى جيدة. ترسو: تطمئن وتسكن، إذا تطلع نفس الجيان وتجزع كأنها تريد الفرار وأصله تتطلع، حذف منه إحدى التاءين تخفيفا.
(2) .
وقد كان منهم حاجب وابن أمه ... أبو جندل والزيد زيد المعارك
دخلت «أل» المعرفة على «زيد» وهو علم لتأويله بالمسمى بزيد، ولذلك أضافه للمعارك، أى أمكنة الحروب.
يقول: وقد كان من هؤلاء القوم حاجب بن لقيط بن زرارة وابن أمه، أى أخوه أبو جندل والمسمى يزيد، المعد للحروب. وفيه إشارة إلى أنه يعرف بذلك فيما بين الناس.
(3) .
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وأتم القتود على عيرانة أحد
للنابغة الذبياني. ونما ينمى نميا: زاد وارتفع. ونماه ينميه نميا: رفعه وزاده. ونما ينمو نموا من باب دخل.
ونماه ينموه نموا أيضا، لكن الواوي قليل. والقتود: جمع أقتاد، جمع قتد: وهي عيدان الرحل بلا أداة.
والعيرانة: الشبيهة بالعير في سرعة السير. والأجد: الصلبة الموثقة الخلق. يقول: انصرف عما ترى من آثار الديار، أو عما تظن رجوعه، لأنه لا تدارك له أو لا رجوع له، وارفع عيدان الرحل على ناقة سريعة صلبة، كناية عن أمره بالسفر، لأن شد الرحال لا يكون إلا له.(2/717)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
لأن معناه: فعد همك عما ترى. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى زىّ الأغنياء وحسن شارتهم «1» تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا في مرضع الحال مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ من جعلنا قلبه غافلا «2» عن الذكر بالخذلان «3» .
أو وجدناه غافلا عنه، كقولك: أجبنته وأفحمته «4» وأبخلته، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها «5» بغير سمة، أى: لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة «6» بقوله وَاتَّبَعَ هَواهُ وقرئ: أغفلنا قلبه، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين، من أغفلته إذا وجدته غافلا فُرُطاً متقدّما للحق والصواب «7» نابذا له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدّم للخيل.
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
__________
(1) . قوله «وحسن شارتهم» في الصحاح: الشوار والشارة: اللباس والهيئة. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه جعلنا قلبه غافلا عن الذكر ... الخ» قال أحمد: هو يشمر للهرب من الحق، وهو أن المراد خلقنا له، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه، فان حمل «أغفل» على بابه صرفه إلى الخذلان، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة، ولا يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم.
(3) . قوله «غافلا عن الذكر بالخذلان» يتحاشى بذلك عن خلق الغفلة في قلبه، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، وأهل السنة على خلاف ذلك كما أشار إليه بقوله: توهم المجبرة. ثم إن اتباعه هواه لا ينافي خلق الله الغفلة في قلبه، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن الغفلة. (ع)
(4) . قوله «كقولك أجبنته وأفحمته» في الصحاح «أفحمته» وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(5) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا ... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى، وغرضه منه الخلاص مما قدمناه، لأنه وإن أبى خلق الله الغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الايمان، وإنما غرضنا التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر وهو عندنا ممكن، فوجب الاعتصام به، والله الموفق.
(6) . عاد كلامه. قال: «وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: واتبع هواه» قال أحمد: قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له، وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره، ولا تنافى بين الاضافتين، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية توجه، فلا محيص له عنها بوجه.
(7) . قوله «متقدما للحق والصواب» أى سابق له ومجاوز له، وفي الصحاح: أمر فرط، أى مجاوز فيه الحد.
ومنه قوله تعالى وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.(2/718)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الحق خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: جاء الحق وزاحت العلل «1» فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين. شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط، وبيت مسردق: ذو سرادق وقيل: هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار. وقيل: حائط من نار يطيف بهم «2» يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ كقوله:
...... فأعتبوا بالصّيلم «3»
وفيه تهكم. والمهل: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردىّ الزيت يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو كعكر الزيت «4» ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه بِئْسَ الشَّرابُ ذلك وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً متكا من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء، إلا أن يكون من قوله:
إنىّ أرقت فبتّ اللّيل مرتفقا ... كأنّ عينى فيها الصّاب مذبوح «5»
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
__________
(1) . قوله «والمعنى جاء الحق وزاحت العلل» في الصحاح «زاح الشيء» بعد وذهب. وأزحت علته فزاحت. (ع) [.....]
(2) . قوله «يطيف بهم» الذي يفيده الصحاح: طاف يطوف حول الشيء: دار حوله، وطاف يطيف بالشيء:
جاءه وأ لم به، فتدبر. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد. عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد.
واستغربه. وقال: لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد وتعقب قوله: بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث.
(5) . لأبى ذؤيب الهذلي. ويروى بدل الشطر الأول: مقام الخلى وبت الليل مشتجرا. والارتفاق: الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد. والاشتجار: وضع اليد تحت الشجر وهو ما بين اللحيين والاتكاء عليها، وهي هيئة المتحزن المتحسر. والأرق، السهر. والصاب: نبت مر كالحنظل. والمذبوح: المشقوق. وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع.(2/719)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
أُولئِكَ خبر إن وإِنَّا لا نُضِيعُ اعتراض، ولك أن تجعل إِنَّا لا نُضِيعُ وأُولئِكَ خبرين معا. أو تجعل أُولئِكَ كلاما مستأنفا بيانا للأجر المبهم. فإن قلت: إذا جعلت إِنَّا لا نُضِيعُ خبرا، فأين الضمير الراجع منه إلى المبتدأ؟ قلت: مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ينتظمهما معنى واحد، فقام مَنْ أَحْسَنَ مقام الضمير. أو أردت: من أحسن عملا منهم، فكان كقولك: السمن منوان بدرهم. من الأولى للابتداء، والثانية للتبيين.
وتنكير أَساوِرَ لإبهام أمرها في الحسن. وجمع بين السندس: وهو ما رقّ من الديباج، وبين الإستبرق: وهو الغليظ منه، جمعا بين النوعين. وخص الاتكاء، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 34]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أى ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين وكانا أخوين في بنى إسرائيل: أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل:
هما المذكوران في سورة والصافات في قوله قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف، فقال المؤمن: اللهم إن أخى اشترى أرضا بألف دينار، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف، فتصدّق به. ثم بنى أخوه دارا بألف، فقال: اللهم إنى أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدّق به. ثم تزوّج أخوه امرأة بألف، فقال: اللهم إنى جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إنى اشتريت منك الولدان المخلدين بألف، فتصدّق به ثم أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه، فتعرّض له، فطرده ووبخه على التصدّق بماله. وقيل:
هما مثل لأخوين من بنى مخزوم: مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد جَنَّتَيْنِ مِنْ(2/720)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
أَعْنابٍ
بستانين من كروم وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجعلنا النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين «1» في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة. يقال: حفوه، إذا أطافوا به: وحففته بهم. أى جعلتهم حافين حوله، وهو متعدّ إلى مفعول واحد «فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه، وغشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً جعلناها أرضا جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بما وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو السيح بالنهر الجاري فيها.
والأكل: الثمر. وقرئ بضم الكاف وَلَمْ تَظْلِمْ ولم تنقص. وآتت: حمل على اللفظ، لأنّ كِلْتَا لفظه لفظ مفرد، ولو قيل: آتتا على المعنى، لجاز. وقرئ: وفجرنا، على التخفيف. وقرأ عبد الله: كل الجنتين آتى أكله بردّ الضمير على كل وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أى أنواع من المال، من ثمر ماله «2» إذا كثر. وعن مجاهد: الذهب والفضة، أى: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة «3» من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكنا من عمارة الأرض كيف شاء وَأَعَزُّ نَفَراً يعنى أنصارا وحشما. وقيل: أولادا ذكورا، لأنهم ينفرون معه دون الإناث. يحاوره: يراجعه الكلام، من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 35 الى 36]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
يعنى قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه. فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو معجب بما أوتى مفتخر به كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. إخباره عن نفسه
__________
(1) . قوله «الدهاقين» واحدة دهقان. (ع)
(2) . قوله «من تمر ماله» الذي في الصحاح: أن الثمر جمع ثمار، ككتب وكتاب. وأن الثمر أيضا: المال المثمر، ويخقف ويثقل. وأثمر الرجل: إذا كثر ماله، وثمر الله ماله، أى: كثره. وعبارة الخازن: وكان له ثمر. قرئ بالفتح جمع ثمرة، وقرئ بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما. وفي النسفي: له ثمر، وأحيط بثمره بفتح الميم والثاء وبضم الثاء وسكون الميم، وبضمهما. (ع)
(3) . قوله «الأموال الدثرة» الكثيرة. أفاده الصحاح. (ع)(2/721)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
بالشك في بيدودة جنته: لطول أمله واستيلا الحرص عليه وتمادى غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله. وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه، ليجدنّ في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه، كقوله إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. وقرئ: خيرا منهما، ردّا على الجنتين مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة.
وانتصابه على التمييز، أى: منقلب تلك، خير من منقلب هذه، لأنها فانية وتلك باقية.
[سورة الكهف (18) : آية 37]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أى خلق أصلك، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له سَوَّاكَ عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث، كما يكون المكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم كافرا
[سورة الكهف (18) : آية 38]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل:
وترميننى بالطّرف أى أنت مذنب ... وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى «1»
أى: لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن، والشأن الله ربى، والجملة خبر أنا، والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعا، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة. وغيره لا يثبتها إلا في الوقف. وعن أبى عمرو أنه وقف بالهاء:
__________
(1) . يقول: وترميننى يا محبوبة بطرفك، أى: تشيرين إلى به. فالرمى: استعارة مصرحة، لأنه شبه إطلاق البصر بإطلاق الحجر. ويجوز أن الباء للالة، فالمرمى محذوف فسره بقوله: أى أنت مذنب، فأى تفسيرية، يعنى أن ما رمته به هو ادعاؤها أنه مذنب. وقلاه يقليه، وقليه يقلاه. وقد يقال: قلاه يقلاه بمعنى بغضه أشد البغض، ولكن أصله: ولكن أنا، فنقلت حركة الهمزة إلى النون ثم حذفت، ثم أدغمت النون في النون بعدها، وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ. ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت، وقدم المفعول وهو «إياك» للاهتمام ببراءتها من فلاء وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء.(2/722)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
لكنه. وقرئ: لكن هو الله ربى، بسكون النون وطرح أنا. وقرأ أبىّ بن كعب: لكن أنا على الأصل. وفي قراءة عبد الله: لكن أنا لا إله إلا هو ربى. فإن قلت: هو استدراك لماذا؟
قلت: لقوله أَكَفَرْتَ قال لأخيه: أنت كافر بالله، لكنى مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب، لكن عمرا حاضر.
[سورة الكهف (18) : الآيات 39 الى 41]
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
ما شاءَ اللَّهُ يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدإ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله. أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أى شيء شاء الله كان. ونظيرها في حذف الجواب لَوْ في قوله وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ والمعنى:
هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها، وقلت لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى. وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب، فيدخل من شاء. وكان إذا دخله ردّد هذه الآية حتى يخرج. من قرأ أَقَلَّ بالنصب فقد جعل أنا فصلا، ومن رفع جعله مبتدأ وأقلّ خبره، والجملة مفعولا.
ثانيا لترنى. وفي قوله وَوَلَداً نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله وَأَعَزُّ نَفَراً والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى، فيرزقنى لإيمانى جنة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أى: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسبانا مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق صَعِيداً زَلَقاً أرضا بيضاء يزلق عليها لملامتها زلقا.
وغَوْراً كلاهما وصف بالمصدر.(2/723)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
[سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 43]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)
وَأُحِيطَ به عبارة عن إهلاكه. وأصله من أحاط به العدوّ، لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ومثله قولهم:
أتى عليه، إذا أهلكه، من أتى عليهم العدوّ: إذا جاءهم مستعليا عليهم. وتقليب الكفين: كناية عن الندم والتحسر، لأنّ النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن، كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عدّى تعديته بعلى، كأنه قيل: فأصبح يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أى أنفق في عمارتها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يعنى أنّ كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم. قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها يا لَيْتَنِي تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان. وقرئ: وَلَمْ تَكُنْ بالياء والتاء، وحمل يَنْصُرُونَهُ على المعنى دون اللفظ، كقوله فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ. فإن قلت: ما معنى قوله يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قلت: معناه يقدرون على نصرته من دون الله، أى: هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل وَما كانَ مُنْتَصِراً وما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام الله.
[سورة الكهف (18) : آية 44]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
الْوَلايَةُ بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما. والمعنى هنالك، أى: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه، تقريرا لقوله وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أو: هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطرّ. يعنى أنّ قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم، ويشفى صدورهم من أعدائهم، يعنى: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وصدّق قوله فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ ويعضده قوله خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أى لأوليائه. وقيل هُنالِكَ إشارة إلى الآخرة أى في تلك الدار(2/724)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
الولاية لله، كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. وقرئ «الحق» بالرفع والجرّ صفة للولاية والله «1» .
وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. وقرئ عُقْباً بضم القاف وسكونها، وعقبى على فعلى، وكلها بمعنى العاقبة.
[سورة الكهف (18) : آية 45]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا. وقيل: نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روى ورف «2» رفيفا، وكان حق اللفظ على هذا التفسير:
فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه.
والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة. وقرئ: تذروه الريح. وعن ابن عباس: تذريه الرياح، من أذرى: شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفا «3» ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً.
[سورة الكهف (18) : آية 46]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا. وقيل هي الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله خَيْرٌ ثَواباً أى ما يتعلق بها من
__________
(1) . قال محمود: «قرئ بالرفع والجر صفة الولاية والله تعالى ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم الإنكار عليه في مثل هذا القول فانه يوهم أن القراآت موكولة إلى رأى الفصحاء واجتهاد البلغاء، فتتفاوت في الفصاحة لتفاوتهم فيها، وهذا منكر شنيع. والحق: أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه فوعاه متصلا بفلق إليه صلى الله عليه وسلم منزلا كذلك من السماء، فلا وقع لفصاحة الفصيح، وإنما هو ناقل كغيره، ولكن الزمخشري لا يفوته الثناء على رأس البدعة ومعدن الفتنة، فان عمرو بن عبيد أول مصمم على إنكار القدر وهلم جرا إلى سائر البدع الاعتزالية، فمن ثم أثنى عليه.
(2) . قوله «ورف رفيفا «في الصحاح: رف لونه رفا ورفيفا: برق وتلألأ. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه. (ع)
(3) . قوله «بحال النبات يكون أخضر وارفا» في الصحاح: ورف النبت، أى: اهتز من نضارته، فهو وارف، أى: ناضر رفاف شديد الخضرة. (ع)(2/725)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
الثواب وما يتعلق بها من الأمل، لأنّ صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله، ويصيبه في الآخرة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 48]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
قرئ: تسير، من سيرت- ونسير، من سيرنا. وتسير، من سارت، أى: تسير في الجو. أو يذهب بها، بأن تجعل هباء منبثا. وقرئ: وترى الأرض على البناء للمفعول بارِزَةً ليس عليها ما يسترها مما كان عليها وَحَشَرْناهُمْ وجمعناهم إلى الموقف. وقرئ: فلم نغادر، بالنون والياء، يقال:
غادره وأغدره إذا تركه. ومنه الغدر. ترك الوفاء. والغدير: ما غادره السيل. وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان فًّا
مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداقَدْ جِئْتُمُونا
أى قلنا لهم: لقد جئتمونا. وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير. ويجوز أن ينصب بإضمار اذكر. والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم وَّلَ مَرَّةٍ
وقيل جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أوّلا، كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى. فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك وْعِداً
وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور.
[سورة الكهف (18) : آية 49]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
الْكِتابُ للجنس وهو صحف الأعمال يا وَيْلَتَنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً هنة صغيرة ولا كبيرة، وهي عبارة عن الإحاطة، يعنى: لا يترك شيئا من المعاصي إلا أحصاه، أى: أحصاها كلها كما تقول: ما أعطانى قليلا ولا كثيرا، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار. ويجوز أن يريد: وإما كان عندهم صغائر وكبائر. وقيل: لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة. وعن ابن عباس:
الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس، والكبيرة الزنا.
وعن الفضيل: كان إذا قرأها قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر إِلَّا أَحْصاها(2/726)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
إلا ضبطها وحصرها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً في الصحف عتيدا. أو جزاء ما عملوا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فيكتب عليه ما لم يعمل. أو يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم، كما يزعم من ظلم الله «1» في تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 51]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف «2» جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ والفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه، لأنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله، لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم. فما أبعد البون بين ما تعمده الله، وبين قول من ضادّه وزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة، فعصى، فلعن ومسخ شيطانا، ثم ورّكه «3» على ابن عباس. ومعنى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عما أمره به ربه من السجود. قال:
فواسقا عن قصدها جوائرا «4»
أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله اسْجُدُوا لِآدَمَ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ الهمزة للإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه تتخذونه وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وتستبدلونهم بى، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته ما أَشْهَدْتُهُمْ وقرئ: ما أشهدناهم، يعنى: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما كانوا يكونون شركاء
__________
(1) . قوله «كما يزعم من ظلم الله» لعله بالتشديد، أى: نسب إليه الظلم. (ع)
(2) . قال محمود: «قوله تعالى كان من الجن مستأنف تعليل لفسوقه ... الخ» قال أحمد: والحق معه في هذا الفعل غير أن قوله «تعمده الله تعالى» لفظة لا تروق ولا تليق، فان التعمد إنما يوصف به عرفا من يفعل في بعض الأحيان خطأ وفي بعضها تعمدا، فاجتنابها في حق الله تعالى واجب، والله الموفق.
(3) . قوله «ثم ورّكه» أى اتهمه به. (ع) [.....]
(4) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 119 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/727)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
فيها لو كانوا شركاء في الإلهية، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأعتضد بهم في خلقها «1» وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أى ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ بمعنى وما كنت متخذهم عَضُداً أى أعوانا، فوضع المضلين موضع الضمير ذمّا لهم بالإضلال، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟ وقرئ: وما كنت، بالفتح: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ على رضى الله عنه: وما كنت متخذا المضلين، بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن: عضدا، بسكون الضاد، ونقل ضمتها إلى العين. وقرئ: عضدا، بالفتح وسكون الضاد. وعضدا، بضمتين وعضدا بفتحتين: جمع عاضد، كخادم وخدم، وراصد ورصد، من عضده: إذا قواه وأعانه،
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 53]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
يَقُولُ بالياء والنون. وإضافة الشركاء إليه على زعمهم: توبيخا لهم وأراد الجن.
والموبق: المهلك، من وبق يبق وبوقا، ووبق يوبق وبقا: إذا هلك. وأو بقه غيره. ويجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد، يعنى: وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا. وعن الحسن مَوْبِقاً عداوة. والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاك، كقوله: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا. وقال الفراء: البين الوصل أى:
وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. ويجوز أن يريد الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم، وبالموبق: البرزخ البعيد، أى: وجعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان فَظَنُّوا فأيقنوا مُواقِعُوها مخالطوها واقعون فيها مَصْرِفاً معدلا. قال.
أزهير هل عن شيبة من مصرف «2»
__________
(1) . قوله «لأعتضد بهم في خلقها» أى لأستعين بهم. (ع)
(2) .
أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف
لأبى كبير الهذلي. والهمزة للنداء. وزهير ترخيم زهيرة اسم امرأة. والاستفهام إنكارى، أى: لا انصراف عن الشيب أولا مهرب ولا مفر منه. وأم للاضراب الانتقالى والاستفهام الإنكاري، أى: بل لا ينتفي خلود الكريم الباذل لما عنده المتكلف غير طاقته في قرى الضيفان، لأن البذل لا يمنع الخلود كأنها كانت لامته على البذل مع الشيب والعقر، فأجابها بذلك. وفيه دلالة على غاية الكرم.(2/728)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
[سورة الكهف (18) : آية 54]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحدا بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب جَدَلًا على التمييز، يعنى: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
[سورة الكهف (18) : آية 55]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)
أَنْ الأولى نصب. والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره وَما مَنَعَ النَّاسَ الإيمان والاستغفار إِلَّا انتظار أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهي الإهلاك أَوْ انتظار أن يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يعنى عذاب الآخرة قُبُلًا عيانا. وقرئ «قبلا» أنواعا: «1» جمع قبيل. و «قبلا» بفتحين: مستقبلا.
[سورة الكهف (18) : آية 56]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
لِيُدْحِضُوا ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن، موطئها وَما أُنْذِرُوا يجوز أن تكون ما موصولة، ويكون الراجع من الصلة محذوفا، أى:
وما أنذروه من العذاب. أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم. وقرئ: هزأ، بالسكون، أى: اتخذوها موضع استهزاء. وجدالهم: قولهم للرسل ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وما أشبه ذلك.
[سورة الكهف (18) : آية 57]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)
بِآياتِ رَبِّهِ بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكرا في قوله أَنْ يَفْقَهُوهُ.
__________
(1) . قوله «قبلا عيانا. وقرئ قبلا أنواعا» هذه القراءة بكسر ففتح. والثانية بضمتين، كما يفيده الصحاح. (ع)(2/729)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر وَنَسِيَ عاقبة ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي، غير مفكر فيها ولا ناظر في أنّ المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء. ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، وجمع بعد الافراد حملا على لفظ من ومعناه فَلَنْ يَهْتَدُوا فلا يكون منهم اهتداء البتة، كأنه محال منهم لشدة تصميمهم أَبَداً مدة التكليف كلها. وإِذاً جزاء وجواب، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله: مالى لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.
[سورة الكهف (18) : آية 58]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
الْغَفُورُ البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا منجى ولا ملجأ. يقال:
«وأل» إذا نجا، و «وأل إليه» إذا لجأ إليه.
[سورة الكهف (18) : آية 59]
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
وَتِلْكَ الْقُرى يريد قرى الأوّلين من ثمود وقوم لوط وغيرهم: أشار لهم إليها ليعتبروا.
تِلْكَ مبتدأ، والْقُرى صفة، لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، وأَهْلَكْناهُمْ خبر. ويجوز أن يكون تِلْكَ الْقُرى نصبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. والمعنى:
وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا مثل ظلم أهل مكة وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر. والمهلك:
الإهلاك ووقته. وقرئ لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم، واللام مفتوحة أو مكسورة، أى: لهلاكهم أو وقت هلاكهم. والموعد: وقت، أو مصدر.
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 65]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)(2/730)
لِفَتاهُ لعبده. وفي الحديث: ليقل أحدكم فتاي وفتأتي، ولا يقل: عبدى «1» وأمتى.
وقيل: هو يوشع ابن نون. وإنما قيل: فتاه، لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. فإن قلت: لا أَبْرَحُ إن كان بمعنى لا أزول- من برح المكان- فقد دل على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بد من الخبر. قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر، لأنّ الحال والكلام معا يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون.
المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام، وهو ملتقى بحرى فارس والروم مما يلي المشرق. وقيل: طنجة. وقيل: إفريقية. ومن بدع التفاسير: أن البحرين موسى والخضر، لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ مَجْمَعَ بكسر الميم، وهي في الشذوذ من يفعل، كالمشرق والمطلع من يفعل أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أو أسير زمانا طويلا.
والحقب ثمانون سنة. وروى أنه لما ظهر موسى على مصر مع بنى إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه. فقالوا له: قد علمنا هذا، فأى الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذى القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إنّ موسى سأل ربه: أىّ عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأىّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأىّ عبادك
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه به وأتم منه.(2/731)
أعلم؟ قال: الذي يبتغى علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى، أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال:
أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرنى، فذهبا يمشيان، فرقد موسى، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوبه، فسلم عليه موسى، فقال:
وأنى بأرضنا السلام، فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى، أنا على علم علمنّيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمى وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر نَسِيا حُوتَهُما أى نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة. وقيل:
نسى يوشع أن يقدّمه، ونسى موسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل:
إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، ونام موسى، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت. وروى: أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء سَرَباً أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق، وحصل منه في مثل السرب «1» معجزة لموسى أو للخضر فَلَمَّا جاوَزا الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه.
ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وقيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر، وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك، فتذكر الحوت وطلبه. وقوله مِنْ سَفَرِنا هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. فإن قلت: كيف نسى يوشع ذلك، ومثله لا ينسى «2» لكونه أمارة لهما على الطلبة التي
__________
(1) . قوله «في مثل السرب» في الصحاح «السرب» بيت في الأرض. تقول منه. انسرب الوحش في سربه.
وانسرب الثعلب في جحره. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف نسى يوشع ذلك ومثله لا ينسى ... الخ» ؟ قال أحمد: وقد ورد في الحديث:
أن موسى عليه السلام لم ينصب ولم يقل لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له، فلعل الحكمة في إنساء الله تعالى ليوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات: أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة، وموقع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته بونابينا، والله أعلم. وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إذا قص عليهم القصة، فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلا وآجلا، والله أعلم.(2/732)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين ثنتين: وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها- وقيل:
ما كانت إلا شق سمكة- وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمرّ به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب، حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضرى بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، واستأنسا بإخوانه فأعان الإلف «1» على قلة الاهتمام أَرَأَيْتَ بمعنى أخبرنى. فإن قلت:
ما وجه التئام هذا الكلام؟ فإن كل واحد من أَرَأَيْتَ وإِذْ أَوَيْنا وفَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى عليه السلام الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإنى نسيت الحوت، فحذف ذلك. وقيل:
هي الصخرة التي دون نهر الزيت. وأَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أَنْسانِيهُ أى: وما أنسانى ذكره إلا الشيطان. وفي قراءة عبد الله: أن أذكركه. وعَجَباً ثانى مفعولي اتخذ، مثل سَرَباً يعنى: واتخذ سبيله سبيلا عجبا، وهو كونه شبيه السرب. أو قال: عجبا في آخر كلامه، تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين، وقوله وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن عَجَباً حكاية لتعجب موسى عليه السلام، وليس بذاك ذلِكَ إشارة إلى اتخاذه سبيلا، أى: ذلك الذي كنا نطلب، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام. وقرئ نَبْغِ بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبى عمرو، وأمّا الوقف، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لخط المصحف فَارْتَدَّا فرجعا في أدراجهما «2» قَصَصاً يقصان قصصا، أى: يتبعان آثارهما اتباعا. أو فارتدّا مقتصين رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي الوحى والنبوة مِنْ لَدُنَّا مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب.
[سورة الكهف (18) : آية 66]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)
رُشْداً قرئ بفتحتين، وبضمة وسكون، أى: علما ذا رشد، أرشد به في دينى. فإن قلت:
أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه- كما قيل- موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران
__________
(1) . قوله «فأعان الالف على قلة الاهتمام» لعل المراد إلف يوشع، لرؤيته العجائب عند موسى. (ع)
(2) . قوله «فرجعا في أدراجهما» الدرج: الطريق، والجمع الأدراج. ومنه قولهم: رجعت أدراجى، أى:
رجعت في الطريق الذي جئت منه، كذا في الصحاح. (ع)(2/733)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
لأنّ النبىّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت:
لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبىّ مثله: وإنما بغض منه أن يأخذه ممن دونه. وعن سعيد ابن جبير أنه قال لابن عباس: إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى، وأنّ موسى هو موسى بن ميشا، فقال: كذب عدوّ الله «1» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 67 الى 68]
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، «2» كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكير. والرجل الصالح- فكيف إذا كان نبيا- لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار. وخُبْراً تمييز، أى: لم يحط به خبرك بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر.
[سورة الكهف (18) : آية 69]
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
وَلا أَعْصِي في محل النصب، عطف على صابِراً أى: ستجدني صابرا وغير عاص.
أولا في محل، عطفا على ستجدني. رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله، علما منه بشدّة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، برىّ من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لا بد لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم.
[سورة الكهف (18) : آية 70]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي عن الحسن بن عمارة عن الحاكم عن سعيد بن جبير بهذا. وساق القصة كلها في الصحيحين بغير هذا اللفظ من رواية عمرو بن دينار عن سعيد.
(2) . قال محمود: «نفى الاستطاعة على وجه التأكيد ... الخ» قال أحمد: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق: أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها، ولم يقل لتغرقنا، فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول نفسي نفسي، لا يلوى على مال ولا ولد، وتلك حالة الغرق، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(2/734)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
قرئ فَلا تَسْئَلْنِي بالنون الثقيلة، يعنى: فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت منى شيئا- وقد علمت أنه صحيح إلا أنه غبي عليك وجه صحته فحميت «1» وأنكرت في نفسك- أن لا تفاتحنى بالسؤال ولا تراجعني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك. وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمتبوع مع التابع.
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 72]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72)
فَانْطَلَقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فلما ركبا قال أهلها: هما من اللصوص، وأمروهما بالخروج، فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه ويقول أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وقرئ: لتغرّق، بالتشديد. وليغرق أهلها.
من غرق وأهلها مرفوع جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت شيئا عظيما، من أمر الأمر: إذا عظم، قال:
داهية دهياء إدّا إمرا «2»
[سورة الكهف (18) : آية 73]
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)
بِما نَسِيتُ بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني: أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسي. أو أخرج الكلام في معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان، يوهمه أنه قد نسى ليبسط عذره في الإنكار، وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذب، مع التوصل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختى، وإنى سقيم. أو أراد بالنسيان: الترك، أى: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرّة. يقال: رهقه إذا غشيه، وأرهقه إياه. أى: ولا تغشني عُسْراً من أمرى، وهو اتباعه إياه، يعنى: ولا تعسر علىّ متابعتك، ويسرها علىّ بالإغضاء وترك المناقشة. وقرئ: عسرا، بضمتين.
__________
(1) . قوله «فحميت» في الصحاح «حميت عليه» بالكسر. غضبت. (ع)
(2) .
لقد لقى الأقوام منى نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا
النكر: المنكر. والداهية: الحادثة المكروهة من شدائد الدهر. والدهياء: مبالغة في شدتها. والاد: المنكر كل الإنكار. والامر: الشيء العظيم. يقال: أمر الشيء- بالكسر-: عظم، يصف نفسه بشدة النكاية للأعداء.
ويجوز أن الكلام من قبيل التجريد.(2/735)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
[سورة الكهف (18) : الآيات 74 الى 75]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
فَقَتَلَهُ قيل: كان قتله قتل عنقه. قيل: ضرب برأسه الحائط، وعن سعيد بن جبير:
أضجعه ثم ذبحه بالسكين. فإن قلت: لم قيل حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها بغير فاء؟ وحَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفا عليه، والجزاء قالَ أَقَتَلْتَ. فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لقاء الغلام. وقرئ: زاكية، وزكية، وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت، وإما لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث بِغَيْرِ نَفْسٍ يعنى لم تقتل نفسا فيقتص منها. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه: كيف جاز قتله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل «1» نُكْراً وقرئ بضمتين وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. وقيل:
معناه جئت شيئا أنكر من الأوّل، لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا سبيل إلى تداركه. فإن قلت: ما معنى زيادة لَكَ؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.
[سورة الكهف (18) : آية 76]
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
بَعْدَها بعد هذه الكرة أو المسألة فَلا تُصاحِبْنِي فلا تقاربنى، وإن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وقرى «فلا تصحبنى» فلا تكن صاحبي. وقرئ «فلا تصحبنى» أى فلا تصحبنى إياك ولا تجعلني صاحبك مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قد أعذرت. وقرئ: لدنى، بتخفيف النون. ولدني، بسكون الدال وكسر النون، كقولهم في عضد: عضد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رحم الله أخى موسى استحيا فقال «2» ذلك، وقال: رحمة الله علينا وعلى أخى موسى، لو لبث
__________
(1) . أخرج ابو يعلى نحوه وقال في آخره «وكان لك ذلك» وفي رواية له «فقلت ولكنك لا تعلم» فاجتنبهم وأصله في مسلم بغير هذا السياق. وأوله: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس يسأله عن قتل الولدان- الحديث» وفيه «وسألتنى عن قتل الوالدان، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم إلا أن يعلم منهم ما علم صاحب موسى من الغلام الذي قتله. [.....]
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية داود بن أبى هند عن عبد الله بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر القصة. وفيها «رحمة الله علينا وعلى موسى استحيا عند ذلك. فقال إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي- الآية» .(2/736)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب «1» .
[سورة الكهف (18) : آية 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)
أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية. وقيل: الأبلة، وهي أبعد أرض الله من السماء أَنْ يُضَيِّفُوهُما وقرئ: يضيفوهما. يقال: ضافه إذا كان له ضيفا. وحقيقته: مال إليه، من ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره، من الازورار. وأضافه وضيفه: أنزله وجعله ضيفه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما «2» . وقيل شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهمّ والعزم لذلك. قال الراعي:
في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردن نصولا «3»
وقال:
يريد الرّمح صدر أبى براء ... ويعدل عن دماء بنى عقيل «4»
وقال حسان:
إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان «5»
__________
(1) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان. من رواية حمزة الزيات. عن أبى إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبى. في أثناء حديث. وأصله في مسلم.
(2) . أخرجه النسائي من رواية إسرائيل عن ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبى عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما. قال «كانوا أهل قرية لئاما» وهو في مسلم بلفظ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ لئاما.
(3) . للراعي يصف الإبل بأنها في مهمه: أى مفازة، قلقت: أى تحركت فيه هاماتها: أى رءوسها. قلق الفئوس: أى كتحرك الفئوس جمع فأس وهي آلة الحفر، إذا أردن: أى الفئوس، نصولا: أى قربن منه، فالارل مجاز مرسل، ونصولها: خروج الحديدة من المقبض. والنصول في كل شيء: الخروج، والانصال: الإخراج، ولقد شبه رءوس الإبل مع أعناقها بالفئوس.
(4) . الارادة هنا مجاز عن التوجه. ويجوز أن الاسناد مجاز، لأن المريد صاحب الرمح. والأوجه أنه شبه الرمح بإنسان على طريق المكنية، وإسناد الارادة والعدول إليه تخييل، أى: يريد أن يشرب من صدر أبى براء، لا من دماء هؤلاء.
(5) . لحسان بن ثابت، ولففت الشيء: طويته وأدرجته، من باب رد. والشمل. المتفرق، ويطلق على المجتمع من الأمور. وجمل: اسم محبوبته. ويروى: بسعدى. يقول: إن الدهر الذي يجمع شملى بمحبوبتى لدهريهم بالإحسان ويريده، وهم من باب رد أيضا، أى: دهر يريد الإحسان لا الاساءة كعادة الدهر، فشبه الزمان بإنسان يصح منه إرادة الإحسان على طريق المكنية، والهم تخييل. ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلى كاسناد اللف، وهما في الحقيقة لله.(2/737)
وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعارة للجماد ولما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ قال:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق «1»
تقول سنّى للنّواة طنّى
لا ينطق الّلهو حتّي ينطق العود «2»
وشكا إلىّ بعبرة وتحمحم «3»
فإن يك ظنّى صادقا وهو صادقي «4»
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 181 من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
لأبى نواس، شبه صوت العود على وجه الاستقامة والحسن بالنطق بالغناء على طريق التصريحية. أو شبه العود بإنسان على طريق المكنية والنطق تخييل، والسين والتاء للطلب، والسكوت ترشيح لذلك، لأنه ضد التكلف. والمراد بنطق اللهو زيادته وحسنه، فهو من باب المشاكلة، وهل هي حقيقة أو مجاز أو كناية أو قسم رابع؟ خلاف بين القوم بين في البيان.
(3) .
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعبرة وتحمحم
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
لعنترة بن شداد من معلقته، يصف فرسه بأنه ازور أى مال من وقوع الرماح بلبانه، وهو موضع اللبب من صدره، وشبهه بالعاقل على طريق المكنية والشكاية تخييل، والعبرة: البكاء. والحمحمة: صوت الصهيل يشبه الحنين، لو كان يعلم ما هي المحاورة والمخاطبة لاشتكى إلىّ وخاطبني حقيقة، وإنما يشكو إلى بالعبرة والتحمحم فقط.
وفسره بقوله: ولكان مكلما لي لو علم الكلام، وذلك مبالغة في شدة الحرب.
(4) .
لهفي على القوم الذين تجمعوا ... بذي السيد لم يلقوا عليا ولا عمرا
فان يك ظنى صادقا وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبسا وعرا
لكنز أم شملة بن برد المنقري، وذو السيد- بالكسر-: موضع المعركة، والسيد: الذئب. وقولها «وهو صادقي» اعتراض. وبشملة: متعلق بظنى. تقول: يا تلهفى على القوم الذين اجتمعوا في ذلك الموضع ولم يلاقهم أحد هذين الفارسين، فقتلوا بردا أبا شملة. فان يك ظنى به صادقا مع أن عادته يصدقني، يحبسهم شملة في تلك المعركة حبسا صعبا فيأخذ ثأر أبيه. ويجوز أن محبسا ظرف يدل من بها. وشبهت الظن بمن يصح منه الصدق في الخبر على طريق الكناية، والصدق تخييل لذلك. أو المعنى: فان يك ظنى مطابقا للواقع.(2/738)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
تمرّد مارد وعزّ الأبلق «1»
ولبعضهم:
يأبى على أجفانه إغفاءه ... همّ إذا انقاد الهموم تمرّدا»
أبت الرّوادف والثّدىّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا «3»
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم، كان يجعل الضمير للخضر، لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتحمل ليردّه إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز.
وانقض: إذا أسرع سقوطه، من انقضاض الطائر وهو يفعلّ، مطاوع قضضته. وقيل: افعلّ
__________
(1) .
وقد قالت الزبا لحصن سموأل ... تمرد مارد وعز الأبلق
مارد: هو حصن دومة الجندل. والأبلق: حصن سموأل، قصدتهما الزبا ملكة الجزيرة فاستصعبا عليها، فقالت ذلك، وصار يضرب مثلا. وقوله: لحصن سموأل، أى: ولحصن دومة الجندل. تمرد: صار أملس ناعما، ومرد مردا ومرودة، إذا كان أملس لا شعر فيه والمكان لا نبات فيه، أو تمرد بمعنى تشيطن، وفعل أهله فعل المردة من الجن، فهو لا يستطيع أحد طلوعه. وعز إن كان مضارعه بضم العين كان متعديا بمعنى غالب، وإن كان بكسرها كان لازما بمعنى امتنع. والمعنى: أنها لم تقدر على بلوغ مرادها منهما لشجاعة أهلهما.
(2) . للزمخشري. والهم: ما يهتم به، وهو فاعل. والاغفاء. النوم الخفيف، وهو مفعول، وذلك مجاز عن تسبب الهم في منع النوم. وانقياد الهموم: مجاز عن سكونها، وتمرد الهم مجاز عن تزايده وكثرة خطوره بالبال.
أو شبه الهموم بحيوانات يصح منها الانقياد والتمرد على طريق المكنية، والتمرد ضد الانقياد، وهما تخييل.
(3) .
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشى تناوحت ... نيهن حاسدة وهجن غيورا
الاباء: المنع الاختياري فشبه الروادف والثدي لكبرها بمن يصح منه ذلك على طريق المكنية والاباء تخييل.
والأقرب أنه مجاز مرسل، والمراد به مطلق المنع، والكلام بعد ذلك كناية عن نهود ثدييها وكبر رد فيها وضمور خصريها. وفيه لف ونشر غير مرتب، لأن مس البطون يرجع للثدي، ومس الظهور يرجع للروادف. وعبر بالجمع عن غيره مجازا. أو اعتبر الأجزاء، فالتجوز في مفرد الجمع. والثدي بالتشديد: جمع ثدي بالتخفيف.
والقمص: جمع قميص. وتناوح الجبلان. تقابلا، فالمراد بالتناوح: التقابل، بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها، فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره، فتنبه الحاسدة لها، ويهيج الغيور لكراهة ذلك من الرياح. وهاج الشيء: هام، وهاجه: هيمه، وهيجه: هيمه. وما هنا من الوسط. ويجوز أنه شبه على طريق المكنية. أو شبه أصواتها اللينة بالتناوح على طريق التصريحية، ثم جعل ذلك كناية عن تقابلها لأنها إنما يكون لها أصوات إذا تقابلت فاضطربت، ومع: بمعنى في.(2/739)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
من النقض، كاحمرّ من الحمرة. وقرئ: أن ينقض من النقض، وأن ينقاص، من انقاصت السن إذا انشقت طولا. قال ذو الرمة:
......... منقاص ومنكثب «1»
بالصاد غير معجمة فَأَقامَهُ قيل: أقامه بيده. وقيل: مسحه بيده فقام واستوى. وقيل:
أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وقيل كان طول الجدار في السماء مائة ذراع، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وطلبت على عملك جعلا حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرئ: لتخذت، والتاء في تخذ، أصل كما في تبع، واتخذ افتعل منه، كاتبع من تبع، وليس من الأخذ في شيء.
[سورة الكهف (18) : آية 78]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصوّر فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة إلى غير الأخ ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث، أى: هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل: هذا فراق بيني وبينك. وقد قرأ به ابن أبى عبلة، فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به.
[سورة الكهف (18) : آية 79]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
لِمَساكِينَ قيل كانت لعشرة إخوة، خمسة منهم زمنى، وخمسة يعملون في البحر وَراءَهُمْ أمامهم، كقوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ وقيل: خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره، فأعلم الله به الخضر وهو «جلندى» «2» . فإن قلت: قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها
__________
(1) .
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه ... من هائل الرمل منقاص ومنكثب
لذي الرمة يصف ثورا وحشيا. والكناس: بيت الوحش. وروقاه: قرناه. والمنقاص- كالمختار-: المتساقط من جانب طول الكناس. والمنكثب- بالمثلاثة-: المجتمع. وروى: منقاض، بالمعجمة. والمعنى واحد، أى:
يحفر الكناس بقرينه، ليستتر من المطر، ويهدمه المتساقط المجتمع من الرمل الرخو الهايل. [.....]
(2) . قوله «وهو جلندى» : في الخازن: وكان اسمه الجلندى الأزدى، وكان كافرا. وقيل: كان اسمه حرد ابن برد. (ع)(2/740)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب «1» ، فلم قدّم عليه؟ قلت:
النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظنى مقيم. وقيل في قراءة أبىّ وعبد الله: كل سفينة صالحة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 80 الى 82]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
وقرأ الجحدري: وكان أبواه مؤمنان، على أن «كان» فيه ضمير الشأن فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغيانا عليهما، وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرا وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أيعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان وإنما خشي الخضر منه ذلك، لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره. وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبىّ: فخاف ربك. والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله فَخَشِينا حكاية لقول الله تعالى، بمعنى: فكرهنا، كقوله لِأَهَبَ لَكِ
. وقرئ: يبدّلهما، بالتشديد. والزكاة: الطهارة والنقاء من الذنوب. والرحم: الرحمة والعطف. وروى أنه ولدت لهما جارية تزوّجها نبىّ، فولدت نبيا هدى الله على يديه أمّة من الأمم. وقيل: ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما. قيل:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها ... الخ» قال أحمد: وكأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدما والنية تأخيره، والله أعلم. ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما وفَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد ثم عيب، فتأدب ثم نسب الاعابة إلى نفسه. وإما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور، فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، أو دبرنا كذا، وإنما يعنون أمر الملك ودبر، ويدل على ذلك قوله في الثالثة فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير.(2/741)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
اسما الغلامين: أصرم، وصريم. والغلام المقتول: اسمه الحسين. واختلف في الكنز، فقيل:
مال مدفون من ذهب وفضة «1» . وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله «2» . وقيل: صحف فيها علم. والظاهر لإطلاقه: أنه مال.
وعن قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا، وحرّمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا: أراد قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً اعتداد بصلاح أبيهما وحفظ لحقه فيهما. وعن جعفر بن محمد الصادق: كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء. وعن الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما. قال: فأبى وجدّى خير منه: فقال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون رَحْمَةً مفعول له. أو مصدر منصوب بأراد ربك، لأنه في معنى رحمهما وَما فَعَلْتُهُ وما فعلت ما رأيت عَنْ أَمْرِي عن اجتهادي ورأيى، وإنما فعلته بأمر الله.
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والحاكم والبزار والطبراني وابن عدى من طريق مكحول. عن أم الدرداء عن أبى الدرداء وفيه يزيد بن الصنعاني وهو ضعيف.
(2) . أخرجه البزار من رواية ابن حجيرة عن أبى ذر مرفوعا بهذا، وأتم منه. وقال لا نعلمه عن أبى ذر إلا بهذا الاسناد. وروى الدارقطني في غرائب مالك من طريق محمد بن صالح بن فيروز عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال «سئل ابن عباس عن الكنز. فذكره- وقال: هذا باطل عن مالك. وروى ابن عدى. ومن رواية أبين ابن سفيان والطبراني في الدعاء. من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن أبى حازم عن ابن عباس نحوه وعن على مثل لفظ المصنف أخرجه البيهقي في الشعب من رواية جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عنه. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن على مرفوعا. ورواه ابن شاهين في الجنائز. والواحدي من رواية محمد بن مروان السدى الصغير:
عن أيان عن أنس مرفوعا أيضا. وأبان والسدى الصغير متروكان.(2/742)
ذو القرنين: هو الإسكندر الذي ملك الدنيا. قيل: ملكها مؤمنان: ذو القرنين، وسليمان وكافران: نمروذ، وبخت نصر «1» ، وكان بعد نمروذ. واختلف فيه فقيل: كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل: نبيا. وقيل: ملكا من الملائكة. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفرا ما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. وعن علىّ رضى الله عنه. سخر له السحاب، ومدّت له الأسباب، وبسط له النور وسئل عنه فقال، أحبه الله فأحبه. وسأله ابن الكوّا: ما ذو القرنين؟ أملك أم نبىّ فقال:
ليس بملك ولا نبىّ، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمى ذا القرنين وفيكم مثله. قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا «2» يعنى جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان، أى ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب: لأنه ملك الروم وفارس. وروى: الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين.
ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره. والسائلون: هم اليهود سألوه على جهة الامتحان. وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه، والخطاب في عَلَيْكُمْ لأحد الفريقين مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أى من أسباب كل شيء، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه سَبَباً طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق، فأتبع سببا، وأراد بلوغ السدّين فاتبع سببا. وقرئ: فأتبع. قرئ: حمئة، من حمئت البئر إذا صار فيها الحمأة. وحامية بمعنى حارّة. وعن أبى ذرّ: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل، فرأى الشمس حين غابت فقال. «يا أبا ذرّ، أتدري أين تغرب هذه؟
فقلت: الله ورسوله أعلم «3» . قال: فإنها تغرب في عين حامية، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق مجاهد. قال «لم يملك الأرض كلها إلا أربعة: مؤمنان، وكافران فذكره» .
(2) . لم أجده مرفوعا وإنما رواه الدارقطني في المؤتلف. من رواية عبد العزيز بن عمران. عن سليمان بن أسيد عن الزهري قال: إنما سمى ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها.
(3) . كذا في نسخ الكشاف على جمل. والذي في كتب الحديث «على حمار» ولم يصرح فيه بالارداف. عن أبى داود والحاكم من طريق الحكم بن عيينة عن إبراهيم التيمي عن أبيه. عن أبى ذر رضى الله عنه قال «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار. والشمس عند غروبها فقال: هل تدرى أين تغرب هذه؟ قلت:
الله ورسوله أعلم. قال فإنها تغرب في عين حامية» زاد الحاكم غير مهموزة. ورواه ابن أبى شيبة. وأحمد وأبو يعلى والبزار وزاد «وتنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش، فإذا كان خروجها أذن الله لها وإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها، فيقول. اطلعى من حيث غربت. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» وقال تفرد به سفيان بن حسين عن الحاكم. ورواه الجماعة عن إبراهيم التيمي. وهو في الصحيحين دون قوله «تغرب في عين حامية» وأوله «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا» الحديث.(2/743)
وابن عمر وابن عمرو والحسن. وقرأ ابن عباس: حمئة. وكان ابن عباس عند معاوية، فقرأ معاوية: حامية فقال ابن عباس: حمئة. فقال معاوية لعبد الله بن عمرو: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار. كيف تجد الشمس تغرب؟ قال. في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة. وروى: في ثأط، فوافق قول ابن عباس، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع.
فرأى مغيب الشّمس عند مآبها ... في عين ذى خلب وثاط حرمد «1»
أى في عين ماء ذى طين وحمإ أسود، ولا تنافى بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا. كانوا كفرة فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإسلام، فاختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم فقال: أمّا من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم الذي هو الشرك: فذلك هو المعذب في الدارين وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ ما يقتضيه الإيمان فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وقيل: خيره بين القتل والأسر، وسماه إحسانا في مقابلة القتل فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى فله أن يجازى المثوبة الحسنى. أو فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة. وقرئ: فله جزاء الحسنى، أى: فله الفعلة الحسنى جزاء. وعن قتادة: كان يطبخ من كفر في القدور،
__________
(1) .
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغى ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغار الشمس عند مآبها ... في عين ذى خلب وثأط حرمد
لتبع الأكبر اليماني المذكور في القرآن، يفتخر بجده إسكندر ذى القرنين ابن فيلسوف اليونانى. ويروى: مر، بدل جدي. وتدين أى تنقاد. وروى بدله: «علا في الأرض غير مفند» أى غير مكذب، فلا عيب في القافية والخلب- بضمتين-: الحمأة وهي الطين. والثأط: الحمأة المختلطة بالماء، فتزيد رطوبة وتفسد. والحرمد: الطين الأسود. مدح ذا القرنين ثم قال: إنه بلغ مواضع غروب الشمس ومواضع شروقها، يبتغى من الله أسبابا توصله لمقصده، فرأى محلى غيار الشمس عند مآبها، أى رجوعها إليه. ويروى مآب الشمس عند مغيبها: أى غيبوبتها.
وفي عين: متعلق بغار. أو بمحذوف، أى: رآها تغرب في عين. ويجوز أنه حال من المغار، لأن العين أوسع منه، أى في عين ماء ذى طين أسود مختلط بماء، وهذا موافق لظاهر الآية. وأولها أبو على الجبائي بأن ذلك على سبيل التخييل، كما أن من لم ير الشاطئ الغربي من البحر المتسع يرى الشمس تغرب فيه، وفي الحقيقة تغرب في ظلمة وراء الأبيض، لأن الأرض كروية.(2/744)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
وهو العذاب النكر. ومن آمن أعطاه وكساه مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أى لا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك، وتقديره: ذا يسر، كقوله قَوْلًا مَيْسُوراً وقرئ: يسرا، بضمتين.
[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
وقرئ: مطلع، بفتح اللام وهو مصدر. والمعنى: بلغ مكان مطلع الشمس، كقوله:
كأنّ مجرّ الرّامسات ذيولها «1»
يريد: كأن آثار مجرّ الرامسات عَلى قَوْمٍ قيل: هم الزنج. والستر: الأبنية، وعن كعب:
أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوها. فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. وعن بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى، ومعى صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة «2» فغشى علىّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وقيل: الستر اللباس. وعن مجاهد:
من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض كَذلِكَ أى أمر ذى القرنين كذلك، أى كما وصفناه تعظيما لأمره وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً تكثيرا لذلك. وقيل: لم نجعل لهم من دونها سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من
__________
(1) .
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع
للنابغة، والمجر ليس مكان الجر، وإنما هو مصدر بمعنى الجر، لأنه لو كان اسم مكان لما عمل النصب، ثم يجب تقدير مضاف ليصح الاخبار عنه بأنه قضيم أى موضع مجر، أى كان المحل الذي تجر الرياح الرامسات ذيولها عليه قضيم، أى جلد أبيض نمقته وحسنته الصوانع للكتابة. وسميت الرياح رامسات من الرمس أى التغييب، لأنها تحمل التراب وتلقيه على الآثار فيدفنها. واستعار الذيول لما يلي الأرض من الرياح على طريق التصريح. ويجوز أن تشبه الرياح بنساء لثيابهن ذيول طويلة يجررنها على الأرض، والذيول تخييل.
(2) . قوله «إذ سمعنا كهيئة الصلصلة» في الصحاح «الصلة» واحدة الصلال، وهي القطع من الأمطار المتفرقة يقع منها الشيء بعد الشيء، وصلصلة اللجام: صوته إذا ضوعف. (ع)(2/745)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
كل صنف. وقيل: بلغ مطلع الشمس مثل ذلك، أى: كما بلغ مغربها. وقيل: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، يعنى أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر، وإحسانه إلى من آمن منهم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 93]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93)
بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما. قرئ: بالضم والفتح.
وقيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح، لأنّ السد بالضم فعل بمعنى مفعول، أى: هو مما فعله الله تعالى وخلقه. والسدّ- بالفتح-: مصدر حدث يحدثه الناس. وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به مبلوغ، كما انجرّ على الإضافة في قوله هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وكما ارتفع في قوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق مِنْ دُونِهِما قَوْماً هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم البكم. وقرئ: يفقهون، أى: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لأنّ لغتهم غريبة مجهولة.
[سورة الكهف (18) : آية 94]
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقرئا: مهموزين. وقرأ رؤبة: آجوج ومأجوج، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم «1» مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يلقون منهم قتلا وأذى شديدا. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم في صفتهم: لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح «2» . وقيل: هم على صنفين، طوال مفرط والطول،
__________
(1) . قوله «من الجيل والديلم» كذا عبارة النسفي أيضا، ولعله «من جيل الديلم» وفي الصحاح: جيل من الناس، أى: صنف، الترك جيل، والروم جيل. وفيه: الديلم جيل من الناس. (ع)
(2) . أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط وابن مردويه. والثعلبي وغيرهم من رواية يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، عن شقيق. عن حذيفة قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج أمة. ومأجوج أمة. كل أمة أربعة آلاف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح» قال ابن عدى: هذا موضوع. ومحمد بن إسحاق هذا ليس هو صاحب المغازي. وإنما هو العكاش وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه فلم يصب فان له طريقا أخرى ففي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود مرفوعا «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفا» وفي النسائي عن عمرو بن أوس عن أبيه رفعه «أن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا. ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا. وفي المستدرك عن عبد الله ابن عمرو رفعه «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولن يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا»(2/746)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
وقصار مفرطو القصر. قرئ: خرجا وخراجا، أى جعلا نخرجه من أموالنا: ونظيرهما:
النول والنوال. وقرئ: سدا، وسدا بالفتح والضم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 95 الى 97]
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار، خير مما تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة بى إليه، كما قال سليمان صلوات الله عليه فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ قرئ بالإدغام وبفكه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل، وبالآلات رَدْماً حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السدّ، من قولهم: ثوب مردم، رقاع فوق رقاع. قيل: حفر الأساس «1» حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد، بينهما الحطب «2» والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وقرئ: سوّى، وسووى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ رجلا أخبره به فقال: كيف رأيته؟ قال كالبرد «3» المحبر
__________
(1) . قوله «قيل حفر الأساس» لعله: للأساس. (ع)
(2) . قوله «بينهما الحطب» لعله: بينها. (ع) [.....]
(3) . أخرجه الطبري من رواية سعيد بن أبى عروبة عن قتادة. قال «ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال انعته لي قال، كالبرد المحبر. طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته» ورواه ابن أبى عمر عن سفيان بن عيينة عن سعيد عن قتادة عن رجل من أهل المدينة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم» رأيت الردم فذكر نحوه، ورواه الطبراني في مسند الشاميين. وابن مردويه عنه من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبى بكرة الثقفي «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، لكن قال. طريقة حمراء من نحاس: وطريقة سوداء من حديد» وأخرج البزار من وجه آخر عن يوسف بن أبى مريم الحنفي. قال «بينما أنا قاعد مع أبى بكرة إذ جاء رجل فسلم عليه. فقال له أبو بكرة من أنت «قال تعلم رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الردم. فقال له أبو بكرة: وأنت هو؟ قال: نعم. قال: اجلس حدثنا. قال: انطلقت حتى أتيت أرضا ليس لهم إلا الحديد يعلمونه. فذكر القصة والحديث. وقال: لا نعلم له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبى بكرة.(2/747)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال «قد رأيته» والصدفان- بفتحتين-: جانبا الجبلين، لأنهما يتصادفان أى يتقابلان، وقرئ: الصدفين، بضمتين. والصدفين، بضمة وسكون. والصدفين، بفتحة وضمة. والقطر: النحاس المذاب لأنه يقطر وقِطْراً منصوب بأفرغ. وتقديره.
آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وقرئ: قال ائتوني، أى جيئوني فَمَا اسْطاعُوا بحذف التاء للخفة، لأنّ التاء قريبة المخرج من الطاء. وقرئ: فما اصطاعوا بقلب السين صادا. وأما من قرأ بإدغام التاء في الطاء، فملاق بين ساكنين على غير الحدّ أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه، أى: لا حيلة لهم فيه من صعود، لارتفاعه وانملاسه، ولا نقب لصلابته وثخانته.
[سورة الكهف (18) : آية 98]
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
هذا إشارة إلى السد، أى: هذا السد نعمة من الله ورَحْمَةٌ على عباده. أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يعنى فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتى جعل السد دَكَّاءَ أى مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك. ومنه: الجمل الأدك: المنبسط السنام. وقرئ: دكاء، بالمد: أى أرضا مستوية وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا آخر حكاية قول ذى القرنين.
[سورة الكهف (18) : آية 99]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)
وَتَرَكْنا وجعلنا بَعْضَهُمْ بعض الخلق يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أى يضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى. ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج، وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. وروى: يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر، ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم «1» فيدخل في آذانهم فيموتون.
[سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 101]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
__________
(1) . قوله «ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم» أى دودا، أفاده الصحاح. (ع)(2/748)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ وبرّزناها لهم فرأوها وشاهدوها عَنْ ذِكْرِي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم. أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها، ونحوه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يعنى وكانوا سمعا عنه، إلا أنه أبلغ، لأنّ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم «1» فلا استطاعة بهم للسمع.
[سورة الكهف (18) : آية 102]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ هو الملائكة، يعنى: أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكى عنهم سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ. وقرأ ابن مسعود: أفظن الذين كفروا. وقراءة على رضى الله عنه أفحسب الذين كفروا، أى: أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر. أو على الفعل والفاعل، لأنّ اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل، كقولك: أقائم الزيدان. والمعنى أنّ ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
وهي قراءة محكمة جيدة. النزل: ما يقام للنزيل وهو الضيف، ونحوه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
ضَلَّ سَعْيُهُمْ ضاع وبطل وهم الرهبان. عن على رضى الله عنه، كقوله عامِلَةٌ ناصِبَةٌ وعن مجاهد: أهل الكتاب. وعن على رضى الله عنه: أنّ ابن الكوّا سأله عنهم؟ فقال: منهم أهل حروراء. وعن أبى سعيد الخدري: يأتى ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان، لأنّ الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين. وقرئ: فلا يقيم، بالياء. فإن قلت: الذين ضل سعيهم في أى محل هو؟ قلت:
__________
(1) . قوله «كأنهم أصميت أسماعهم» في الصحاح في مادة صمم: أصمه الله فصم. وفي مادة صما بالألف:
أصميت الصيد إذا رميته فقتلته، فقوله: أصميت، لعله بمعنى أهلكت بالمرة بحيث لا يمكن أن تسمع. (ع)(2/749)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
الأوجه أن يكون في محل الرفع، على: هم الذين ضل سعيهم، لأنه جواب عن السؤال. ويجوز أن يكون نصبا على الذم، أو جرّا على البدل جَهَنَّمُ عطف بيان لقوله جَزاؤُهُمْ «1» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
الحول: التحوّل. يقال: حال من مكانه حولا، كقولك: عادني حبها عودا، يعنى:
لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم. وهذه غاية الوصف، لأن الإنسان في الدنيا في أى نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه. ويجوز أن يراد نفى التحوّل وتأكيد الخلود.
[سورة الكهف (18) : آية 109]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)
المداد: اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مدادا لها، والمراد بالبحر الجنس لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الكلمات وَلَوْ جِئْنا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا.
والكلمات غير نافدة. ومَدَداً تمييز، كقولك: لي مثله رجلا. والمدد مثل المداد، وهو ما يمدّ به. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بمثله مدادا. وقرأ الأعرج: مددا، بكسر الميم جمع مدّة، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به. وقرئ: ينفد بالياء. وقيل: قال حيىّ بن أخطب:
في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فنزلت، يعنى: أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
[سورة الكهف (18) : آية 110]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول.
وقد فسرنا اللقاء. أو: أفمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهى عن الإشراك بالعبادة:
__________
(1) . قوله «عطف بيان لقوله جزاؤهم الحول» كذا في النسفي أيضا، لكن المتجه أنه بيان لقوله «ذلك» الذي هو إشارة لما مر في قوله إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا. (ع)(2/750)
أن لا يرائى بعمله، وأن لا يبتغى به إلا وجه ربه خالصا لا يخلط به غيره. وقيل: نزلت في جندب ابن زهير، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنى أعمل العمل لله، فإذا اطلع عليه سرني، فقال:
«إن الله لا يقبل ما شورك «1» فيه» وروى أنه قال: «لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية» «2» وذلك إذا قصد أن يقتدى به. وعنه صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال «الرياء» «3» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء «4» » وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ» «5» والله أعلم.
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن عباس ولم يسق سنده.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان- وأبو يعلى. والبزار عن أبى هريرة. قال قال رجل «يا رسول الله، إنى أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني. قال لك أجران. أجر السرّ. وأجر العلانية» أخرجوه كلهم من حديث ابن سنان سعيد بن سنان عن حرب بن أبى ثابت عن أبى صالح عنه. قال الترمذي رواه الأعمش عن حبيب عن أبى صالح مرسلا. وقال ابن أبى حاتم قال أبى الصحيح عندي مرسل، رواه يوسف بن أسباط عن الثوري عن حبيب.
عن أبى صالح عن أبى ذر وأخرجه أبو نعيم في الحلية. وقال: لم يقل أحد عن أبى ذر إلا ابن أسباط. ورواه يحيى بن يمان عن الثوري فقال عن ابن مسعود. أخرجه الطبراني، قال أبو نعيم. ورواه قبيصة عن الثوري فقال عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه.
(3) . أخرجه ابن مردويه من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بهذا ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي. وأبو قاسم الطلحي في الترغيب. وفي الباب عن محمود بن لبيد. ورفعه «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء» أخرجه أحمد والدارقطني. في غرائب مالك والبيهقي. في الشعب من رواية عمرو بن أبى عمرو بن قتادة عنه. وعن شداد بن أوس قال «كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر» أخرجه الطبراني وابن مردويه. وفي إسناده ابن لهيعة.
(4) . أخرجه أحمد والنسائي من حديث معاذ بن أنس. وفي إسناده ابن لهيعة. أخرجه الطبراني من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن زياد بن فايد وهم من الضعفاء.
(5) . أخرجه إسحاق والبزار من رواية النضر بن شميل. حدثنا أبو فررة الأسدى رجل من أهل البادية. سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رفعه «من قرأ في ليلته فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. الآية كان له نور من عدن إلى مكة حشوه الملائكة» ورواه الثعلبي من هذا الوجه. «وزاد يصلون عليه ويستغفرون له» ورواه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب باللفظ الأول وقد سبق سنده في آل عمران.(2/751)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
الجزء الثالث
سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم مكية [إلا آيتي 58 و 71 فمدنيتان] وآياتها 98 [نزلت بعد سورة فاطر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)
كهيعص قرأ بفتح الهاء «1» وكسر الياء حمزة، وبكسرهما عاصم، وبضمهما الحسن.
وقرأ الحسن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ أى: هذا المتلوّ من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ: ذكر، على الأمر «2» . راعى سنة الله في إخفاء دعوته، لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيان، فكان الإخفاء أولى، لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن: نداء لا رياء فيه، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة «3» . أو أسره من مواليه الذين خافهم. أو خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات، وسمعه تارات.
__________
(1) . قوله «كهيعص قرأ بفتح الهاء» عبارة النسفي. قرأ على ويحيى بكسر الهاء والياء، ونافع بين الفتح والكسر، وإلى الفتح أقرب. وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء. وحمزة بعكسه. وغيرهم بفتحهما. (ع)
(2) . قوله «وقرأ الحسن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ أى هذا الخ» يحتاج إلى تحرير، فان الرفع قراءة الجمهور. وقوله «ذكر على الأمر» أى ورَحْمَةِ رَبِّكَ بالنصب. (ع)
(3) . قوله «في إبان الكبرة والشيخوخة» في الصحاح: الكبر في السن، والاسم الكبرة بالفتح. وفيه أيضا:
شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك: جاء على أصله، وشيخوخة اه وليس فيه شيوخة. وفيه أيضا: إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته وأوانه. (ع)(3/3)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
واختلف في سنّ زكريا عليه السلام، فقيل: ستون، وخمس وستون، وسبعون، وخمس وسبعون، وخمس وثمانون.
[سورة مريم (19) : آية 4]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قرئ وَهَنَ بالحركات الثلاث، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبى عمرو. شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس: اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلىّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته.
[سورة مريم (19) : الآيات 5 الى 6]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
كان مواليه- وهم عصبته إخوته وبنو عمه- شرار بنى إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه مِنْ وَرائِي بعد موتى. وقرأ ابن كثير: من وراي، بالقصر، وهذا الظرف لا يتعلق بخِفْتُ لفساد المعنى، ولكن بمحذوف. أو بمعنى الولاية في الموالي: أى خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي.
وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضى الله عنهم. خفت الموالي من ورائي، وهذا على معنيين، أحدهما: أن يكون وَرائِي بمعنى خلفي وبعدي، فيتعلق الظرف بالموالي: أى قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولىّ يرزقه. والثاني: أن يكون(3/4)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
بمعنى قدامى، فيتعلق بخِفْتُ، ويريد أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وليا مرضيا، بكونه مضافا إلى الله تعالى وصادرا من عنده، وإلا- فهب لي وليا يرثني- كاف، أو أراد اختراعا منك بلا سبب لأنى وامرأتى لا نصلح للولادة يَرِثُنِي وَيَرِثُ الجزم جواب الدعاء، والرفع صفة. ونحوه رِدْءاً يُصَدِّقُنِي وعن ابن عباس والجحدري: يرثنى وارث آل يعقوب، نصب على الحال. وعن الجحدري: أو يرث، على تصغير وارث، وقال: غليم صغير. وعن على رضى الله عنه وجماعة: وارث من آل يعقوب:
أى يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم، لأنّ الأنبياء لا تورّث المال. وقيل يرثني الحبورة وكان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال:
ورثته وورثت منه لغتان. وقيل «من» للتبعيض لا للتعدية، لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل: هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود.
[سورة مريم (19) : آية 7]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
سَمِيًّا لم يسمّ أحد بيحيى قبله، وهذا شاهد على أنّ الأسامى السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، حتى قال القائل في مدح قوم:
سنع الأسامى مسبلى أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب «1»
وقال رؤبة للنسابة البكري- وقد سأله عن نسبه-: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت.
وقيل: مثلا وشبيها عن مجاهد، كقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وإنما قيل للمثل «سمىّ» لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمىّ لصاحبه، ونحو «يحيى» في أسمائهم «يعمر، ويعيش» إن كانت التسمية عربية، وقد سموا بيموت أيضا، وهو يموت ابن المزرع، قالوا: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، وأنه كان حصورا.
__________
(1) . يقال سنع الرجل كظرف، فهو سنيع أى جميل، وأسنع، والمرأة سنعاء، وسنع جمع أسنع: أى أسماؤهم حسنة، فهي أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، والحمر: صفة الأزر، وتمس: صفة أخرى لها. وهدب الشيء: طرفه، والمناسب للمعنى أن المراد به الجمع، ويمكن أن يكون ضمنه مفردا كقفل، وجمعا كفلك. ويجوز أنه اسم جمع، ولذلك جاء في واحده هدية. ومس الأرض بالأطراف: كناية عن طولها، بل عن غناهم وثروتهم اللازم له ذلك.(3/5)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
[سورة مريم (19) : آية 8]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
أى كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السبيان جميعا أرزقه؟ فإن قلت: لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتىّ والعقر «1» ، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد: في أنّ الله غنى عن الأسباب، أى بلغت عتيا: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل «2» .
يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا. وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين، وكذلك صليا، وابن مسعود بفتحهما «3» فيهما. وقرأ أبىّ ومجاهد: عسيا «4» .
[سورة مريم (19) : آية 9]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
كَذلِكَ الكاف رفع، أى الأمر كذلك تصديق له، ثم ابتدأ قالَ رَبُّكَ أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ونحوه وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وقرأ الحسن: وهو على هين، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول:
أى الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر: وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله، لا إلى قول زكريا. و «قال» محذوف في كلتا القراءتين: أى قال هو علىّ هين قال وهو علىّ هين، وإن شئت لم تنوه، لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده
__________
(1) . قال محمود: «ان قلت لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتي ... الخ» قال أحمد: وفيما أجاب به نظر، لأنه التزم أن زكريا استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه، ولا يجوز للنبي النطق بما لا يسوغ، لمثل هذه الفائدة التي عينها الزمخشري ويمكن حصولها بدونه، فالظاهر في الجواب- والله أعلم- أن طلبة زكريا إنما كانت ولدا من حيث الجملة، وبحسب ذلك أجيب، وليس في الاجابة ما يدل على أنه يولد له وهو هرم، ولا أنه من زوجته وهي عاقر، فاحتمل عنده أن يكون الموعود وهما بهذه الحالة، واحتمل أن تعاد لهما قوتهما وشبابهما، كما فعل الله ذلك لغيرهما.
أو أن يكون الولد من غير زوجته العاقر، فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما، فاستخبر أيكون وهما كذلك، فقيل:
كذلك، أى: يكون الولد وأنتما كذلك، فقد انصرف الإيعاد إلى عين الموعود فزال الاشكال، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «كالعود القاحل» أى اليابس، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بفتحهما» لعله بفتحها. (ع)
(4) . قوله «عسيا» في الصحاح: عسى الشيخ يعسو عسيا: ولى وكبر، مثل عتا. (ع)(3/6)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
وقوله الحق شَيْئاً لأن المعدوم ليس بشيء. أو شيئا يعتدّ به «1» ، كقولهم: عجبت من لا شيء، وقوله:
إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا «2»
وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب: خلقناك.
[سورة مريم (19) : آية 10]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
أى اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال: علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح سوىّ الخلق، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن.
[سورة مريم (19) : آية 11]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
أوحى: أشار عن مجاهد، ويشهد له إِلَّا رَمْزاً. وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض سَبِّحُوا صلوا، أو على الظاهر، وأن: هي المفسرة.
[سورة مريم (19) : آية 12]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
أى خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد الْحُكْمَ الحكمة. ومنه:
واحكم كحكم فتاة الحي «3»
__________
(1) . قال محمود: «إنما قيل ذلك لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به ... الخ» قال أحمد: قسر أولا على ظاهر النفي الصرف وهو الحق، لأن المعدوم ليس شيئا قطعا، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم الممكن شيء.
ومن ثم كافح الزمخشري عن البقاء على التفسير الأول إلى الثاني بوجه من التأويل يلائم معتقد المعتزلة. فجعل المنفي الشيئية المعتد بها، وإن كانت الشيئية المطلقة ثابتة عنده للمعدوم، والحق بقاء الظاهر في نصابه.
(2) .
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
يقول: وضاقت الأرض على أعدائنا، لأن كل مسلك يريدونه يظنون أحدا منا فيه فيرجعون، فاستعير الضيق الحسى لذلك على طريق التصريح، حتى كان الهارب منهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا منا، فيرجع خوفا، والشيء هو الموجود وغيره هو المعدوم، ولكن استعير للشيء الحقير التافه لعدم الاعتداد بكل على طريق التصريح، وذلك ليصح وقوع الرؤية عليه.
(3) .
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحبسوه فألفوه كما وجدت ... ستا وستين لم تنقص ولم تزد
للنابغة واسمه زياد، يخاطب النعمان بن المنذر، والفتاة: زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في حدة البصر، نظرت إلى حمام مسرع إلى الماء فقالت: ليت الحمام ليه. إلى حمامتيه. ونصفه قديه. ثم الحمام مية. فوقع في شبكة صياد، فوجدوه ستا وستين حمامة، ونصفه ثلاثة وثلاثون، فإذا ضم الكل إلى حمامتها صار مائة، والحمام: كل ذى طوق من الطيور. وسراع: جمع سريع، وصفه به لأنه جمع في المعنى، وبوارد لأنه مفرد في اللفظ. ويروى «شراع» بالشين المشالة جمع شارع. والثمد: الماء القليل. وروى الحمام ونصفه بالرفع، على إهمال ليتما. وبالنصب على إعمالها، لأن «ما» زائدة لا كافة، وإلا وجب الإهمال. وروى «أو نصفه» فأو بمعنى الواو، والكلام على تقدير مضاف، لأنها تمنت أن يكون هذا الحمام ومقدار نصفه لها. وإلى حمامتنا: متعلق بمحذوف، أى: منضما إليها. وقد: اسم بمعنى حسب، أضيفت إلى ياء المتكلم بغير نون الوقاية، كما يقال: حسبي: ويحتمل أن الياء حرف إطلاق، فلا إضافة ولكنها متعينة في كلام زرقاء، والهاء فيه للسكت، وهو يرجح الاضافة في كلام النابغة، والفاء فيه زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط، وكلاهما بمعنى انته، وكأنها فاء الجواب، أى: إذا بلغت هذا الحد فانته كما أفاده السعد في مطوله، وحبسوه ينبغي تشديده ليسلم الشعر من الخبل، وهو نوع من الزحاف يقبح دخوله هنا.
ويروى «حسبوه» بتقديم السين على الباء.(3/7)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
يقال حكم حكما كحلم، وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس. وقيل: دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبى فقال: ما للعب خلقنا، عن الضحاك. وعن معمر: العقل، وقيل النبوّة، لأنّ الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه.
[سورة مريم (19) : الآيات 13 الى 14]
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
حَناناً رحمة لأبويه وغيرهما، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف «1»
وقيل: حنانا من الله عليه. وحنّ: في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة، وقيل لله «حنان» كما قيل «رحيم» على سبيل الاستعارة. والزكاة: الطهارة، وقيل الصدقة، أى:
يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم:
[سورة مريم (19) : آية 15]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
__________
(1) .
وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
لمنذر بن درهم الكلبي، يقول: وأقرب عهد: أى لقاء ورؤية لأمينة محبوبتى تصغير آمنة، هو نظرة منى لها بجانب تلك البقعة، إذ أنا واقف هناك: أى حين وقوفي بها. وفيه إشعار بأنه كان واقفا يترقب رؤيتها، فلما رأته هي قالت له: حنان أى أمرى حنان ورحمة لك، وهو من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لنيابة الخبر عن الفعل، لأنه مصدر محول عن النصب. وقولها «ما أتى بك هاهنا» استفهام تعجبي. أذو نسب: أى أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي؟ ويجوز أن «أذو نسب» بدل من ما الاستقامية: أى الذي حملك على المجيء هنا أو الذي ذلك عليه صاحب قرابة من الحي أى معرفتك به؟ ويجوز أن الاستفهام حقيقى حكته على لسان غيرها، لتلقنه الجواب بقولها:
أذو نسب ...
الخ، مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها، ربما يسأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين.(3/8)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
سلم الله عليه في هذه الأحوال، قال ابن عيينة: إنها أوحش المواطن.
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 17]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17)
إِذِ
بدل من مَرْيَمَ
بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقى بيت المقدس، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل:
قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوىّ الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك.
وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل: إنّ النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح: جبريل، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقرأ أبو حيوة: روحنا، بالفتح، لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الرّوح عند الله الذي هو عدّة المقرّبين في قوله فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أو لأنه من المقرّبين وهم الموعودون بالروح، أى: مقرّبنا وذا روحنا.
[سورة مريم (19) : آية 18]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به، فإنى عائدة به منك كقوله تعالى بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[سورة مريم (19) : الآيات 19 الى 20]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)(3/9)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
أى إنما أنا رسول من استعذت به لِأَهَبَ لَكِ
لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع «1» . وفي بعض المصاحف: إنما أنا رسول ربك أمرنى أن أهب لك. أو هي حكاية لقول الله تعالى.
[سورة مريم (19) : آية 21]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه، كقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغىّ: الفاجرة التي تبغى الرجال، وهي فعول عند المبرد «بغوى» فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل «بغوّ» كما قيل: فلان نهوّ عن المنكر وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً تعليل معلله محذوف أى: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أى لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وقوله وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ. مَقْضِيًّا مقدّرا مسطورا في اللوح لا بدّ لك من جريه عليك. أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة الله، وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح. فهو جدير بالتكوين.
[سورة مريم (19) : آية 22]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
عن ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: كانت مدّة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل:
حملته في ساعة، وصوّر في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. وقيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشر، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا: ما من
__________
(1) . قوله «في الدرع» في الصحاح «درع المرأة» قميصها. (ع)(3/10)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
مولود إلا يستهلّ غيره «1» فَانْتَبَذَتْ بِهِ أى اعتزلت وهو في بطنها، كقوله:
تدوس بنا الجماحم والتّريبا «2»
أى تدوس الجماجم ونحن على ظهورها، ونحوه قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أى تنبت ودهنها فيها: الجار والمجرور في موضع الحال قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف، فلما قيل: حملت من الزنا، خاف عليها قتل الملك، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها، فأتاه جبريل فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها.
[سورة مريم (19) : آية 23]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)
فَأَجاءَهَا أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية الْمَخاضُ بالكسر. يقال: مخضت الحامل مخاضا ومخاضا، وهو تمخض الولد في بطنها «3» .
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أى: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. قرئ مِتُّ بالضم والكسر. يقال: مات يموت ومات يمات. النسىّ: ما من حقه أن يطرح وينسى، كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح: اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وعن
__________
(1) . قوله «ما من مولود إلا يستهل غيره» في الصحاح «استهل الصبى» أى صاح عند الولادة. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 138 من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «وهو تمخض الولد في بطنها» في الصحاح «تمخض اللبن واستمخض» أى تحرك في الممخضة، وكذلك الولد إذا تحرك في بطن الحامل. (ع)(3/11)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
يونس: العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا: انظروا أنساءكم، أى: الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ «1» . تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر «2» من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم الله، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها «3» وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص نَسْياً بالفتح. قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر، والجسر والجسر. ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر. كالحمل. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء، ينسؤه أهله لقلته ونزارته. وقرأ الأعمش مَنْسِيًّا بالكسر على الإتباع، كالمغيرة والمنخر.
[سورة مريم (19) : آية 24]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
مِنْ تَحْتِها هو جبريل عليه السلام. قيل: كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل: هو عيسى، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل تَحْتِها أسفل من مكانها، كقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، فصاح بها أَلَّا تَحْزَنِي وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص مِنْ تَحْتِها وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة: الضمير في تحتها للنخلة. وقرأ زرّ وعلقمة: فخاطبها من تحتها.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السرىّ فقال: «هو الجدول «4» » . قال لبيد:
__________
(1) . قوله «والشظاظ» في الصحاح «الشظاظ» العود الذي يدخل في عروة الجوالق. وفيه «الجوالق» وعاء: (ع)
(2) . قوله «من فرط الحيا والتشور من الناس» خوف إظهار العورة. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «إذا بهتوها وهي عارفة ... الخ» اتهموها بما ليس فيها. وقرفت: اتهمت. (ع) [.....]
(4) . أخرجه الطبراني في الصغير وابن عدى من رواية أبى سنان سعيد بن سنان عن أبى إسحاق عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم. في قوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قال: السرى النهر. قال الطبراني لم يرفعه عن أبى إسحاق إلا أبو سنان رواه عنه معاوية بن يحيى وهو ضعيف وأخرجه عند الرزاق عن الثوري عن أبى إسحاق عن البراء موقوفا، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع عن إسرائيل عن أبى إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل كذلك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبى إسحاق موقوفا. وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «إن السرى الذي قال الله تعالى لمريم: نهر أخرجه الله لتشرب منه، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر. ورواية عن أيوب بن نهيك، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.(3/12)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فتوسّطا عرض السّري فصدّعا ... مسجورة متجاورا قلّامها «1»
وقيل: هو من السرو «2» . والمراد: عيسى. وعن الحسن: كان والله عبدا سريا. فإن قلت.
ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب؟ قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
[سورة مريم (19) : الآيات 25 الى 26]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
تُساقِطْ فيه تسع قراآت: تساقط، بإدغام التاء. وتتساقط، بإظهار التاءين. وتساقط، بطرح الثانية. ويساقط، بالياء وإدغام التاء. وتساقط، وتسقط، ويسقط، وتسقط، ويسقط: التاء للنخلة، والياء للجذع. ورطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد:
جواز انتصابه بهزّى وليس بذاك. والباء في بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلة للتأكيد، كقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أو على معنى: افعلي الهزّ به، كقوله:
يجرح في عراقيبها نصلى «3»
قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة.
وقيل: ما للنفساء خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم
__________
(1) .
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها
فتوسطا عرض السرى فصدعا ... مسجورة متجاورا قلامها
للبيد من معلقته، يصف حمارا وحشيا بأنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه. وأقدامها: اسم كان، وألحقه التاء لاكتساب الأقدام التأنيث من الضمير المضاف إليه. وقيل: لأنه بمعنى التقدمة التي هي مصدر قدمها المضاعف كالتقديم. وعادة خبر كان. و «إذا هي عردت» بالتضعيف أى تأخرت وجبنت، فتوسطا: أى الحمار والأتان، عرض السرى: أى ناحية النهر الصغير وجانبه، فصدعا: أى شقا عينا مسجورة مملوءة، وكان المقام للاضمار، فأظهر ليتأتى الوصف. أو للتجربة، أو العين من النهر، وليست هي هو وهذا أوجه. والقلام- كرمان-:
القاقلى، وقيل مطلق النبات، وتجاوزه: كناية عن كثرته.
(2) . قوله «وقيل هو من السرو» في الصحاح «السرو» سخاء في مروءة. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 578 فراجعه إن شئت اه مصححه.(3/13)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
يكن لها خير من الرطب. عن طلحة بن سليمان جَنِيًّا بكسر الجيم للإتباع، أى جمعنا لك في السرىّ والرطب فائدتين، إحداهما: الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين، وهو معنى قوله فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أى وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك. وقرئ: وَقَرِّي بالكسر لغة نجد فَإِمَّا تَرَيِنَّ بالهمز: ابن الرومي. عن أبى عمرو: وهذا من لغة من يقول: لبأت بالحج، وحلأت السويق «1» ، وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال صَوْماً صمتا. وفي مصحف عبد الله: صمتا. وعن أنس بن مالك مثله. وقيل: صياما، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت «2» ، لأنه نسخ في أمته، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المنهمين لها في الكلام لمعنيين، أحدهما: أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافها. قيل: أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة.
وقيل: سوغ لها ذلك بالنطق إِنْسِيًّا أى أكلم الملائكة دون الإنس
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 28]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
الفرىّ: البديع، وهو من فرى الجلد يا أُخْتَ هارُونَ كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل: هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما عنوا هرون النبىّ «3» » وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة، بينها وبينه ألف سنة وأكثر. وعن السدى: كانت من أولاده، وإنما قيل: يا أخت هرون، كما يقال يا أخا همدان، أى: يا واحدا منهم. وقيل: رجل صالح أو طالح في زمانها، شبهوها به، أى: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، ولم ترد إخوة النسب، ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى
__________
(1) . قوله «يقول لبأت بالحج وحلأت السويق» والكثير: لبيت بالحج، وحليت السويق، أى: جعلته حلوا. (ع)
(2) . لم أره هكذا وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ «لا صمت يوم إلى الليل» وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ولأبى داود من حديث على مثله. وقد تقدم في تفسير النساء.
(3) . لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ورواه الطبري عن السدى. قوله وليس بصحيح. فان عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة. قال «بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئا يقرءونه يا أُخْتَ هارُونَ وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين فلم أدر ما أجيبهم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم» وروى الطبري من طريق ابن سيرين «نبئت أن كعبا قال إن قوله تعالى يا أُخْتَ هارُونَ ليس بهارون أخى موسى فقالت له عائشة «كذبت. فقال لها يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم وإلا فأنا أجد بينهما ستمائة سنة» .(3/14)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
هرون تبركا به وباسمه، فقالوا: كنا نشبهك بهرون هذا. وقرأ عمر بن لجاء التيمي ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وقيل احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار، فلبثوا فيه أربعين يوما حتى تعلت من نفاسها «1» ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل:
هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها.
[سورة مريم (19) : آية 29]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أى هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها. وروى أنه كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان كانَ لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده، وهو هاهنا لقريبه خاصة، والدال عليه مبنى الكلام، وأنه مسوق للتعجب. ووجه آخر: أن يكون نُكَلِّمُ حكاية حال ماضية، أى: كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا.
[سورة مريم (19) : الآيات 30 الى 33]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
أنطقه الله أوّلا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى الْكِتابَ هو الإنجيل. واختلفوا في نبوّته، فقيل: أعطيها في طفوليته: أكمل الله عقله، واستنبأه طفلا نظرا في ظاهر الآية.
وقيل: معناه إنّ ذلك سبق في قضائه. أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفاعا حيث كنت «2» » وقيل: معلما للخير.
__________
(1) . قوله «حتى تعلت من نفاسها» في الصحاح «تعلى» أى علا في مهلة. وتعلت المرأة من نفاسها: أى سلمت، وتعلى الرجل من علته. (ع)
(2) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبى هريرة بهذا وأتم منه. وقال تفرد به هشيم عن يونس وعنه شعيب بن محمد الكوفي ورواه ابن مردويه من هذا الوجه.(3/15)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
وقرئ وَبَرًّا عن أبى نهيك، جعل ذاته برا لفرط بره. أو نصبه بفعل في معنى أوصانى وهو كلفنى، لأن أوصانى بالصلاة وكلفنيها واحد وَالسَّلامُ عَلَيَّ قيل: أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى: ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلىّ. والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متهمى مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود. وتحقيقه أن اللام للجنس، فإذا قال:
وجنس السلام علىّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم. ونظيره قوله تعالى وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام منا كرة وعناد، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.
[سورة مريم (19) : آية 34]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
قرأ عاصم وابن عامر قَوْلَ الْحَقِّ بالنصب. وعن ابن مسعود: قال الحق، وقال الله- وعن الحسن: قول الحق، بضم القاف، وكذلك في الأنعام قَوْلُهُ الْحَقُّ والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق، كقولك: هو عبد الله حقا. والحق لا الباطل، وإنما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله كُنْ من غير واسطة أب، تسمية للسبب باسم السبب، كما سمى العشب بالسماء، والشحم بالنداء ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون الحق اسم الله عزّ وجل، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده قوله الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أى أمره حق يقين وهم فيه شاكون يَمْتَرُونَ يشكون. والمرية: الشك. أو يتمارون: يتلاحون «1» ، قالت اليهود: ساحر كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه:
تمترون، على الخطاب. وعن أبىّ بن كعب: قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون.
[سورة مريم (19) : آية 35]
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه، وأنه مما لا يتأتى ولا يتصور في العقول وليس بمقدور عليه، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه
__________
(1) . قوله «يتلاحون» التلاحي بمعنى التنازع كما في الصحاح. وعبارة النسفي: أو يختلفون، من المراء، فقالت اليهود ... الخ. (ع)(3/16)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
الولد، ثم بين إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده بكن، كان منزها من شبه الحيوان الوالد. والقول هاهنا مجاز، ومعناه: أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.
[سورة مريم (19) : آية 36]
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن. ومعناه: ولأنه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً والأستار وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبىّ: إن الله، بالكسر بغير واو، وبأن الله، أى: بسبب ذلك «1» فاعبدوه.
[سورة مريم (19) : آية 37]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
الْأَحْزابُ اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أى من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه.
[سورة مريم (19) : الآيات 38 الى 40]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
لا يوصف الله تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعنى الظالمين موقع الضمير: إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى
__________
(1) . قوله «وبأن الله أى بسبب ذلك» لعله: أى بأن الله. ويمكن أنه عطف على أن الله، ويكون في حرف أبى القراءتان. (ع) (2- كشاف- 3)(3/17)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
الله عليه وسلم أنه سئل عنه أى عن قضاء الأمر فقال: «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» «1» وإذ بدل من يوم الحسرة. أو منصوب بالحسرة وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ متعلق بقوله في ضلال مبين عن الحسن. وأنذرهم: اعتراض. أو هو متعلق بأنذرهم، أى: وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها.
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 45]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
الصدّيق: من أبنية المبالغة. ونظيره الضحيك والنطيق. والمراد، فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أى: كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أو كان بليغا في الصدق، لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حرىّ أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. وإِذْ قالَ
نحو قولك: رأيت زيدا، ونعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا، أى: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات.
والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله. التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة، ولا يقال يا أبتى، لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل: يا أبتا، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة.
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح- الحديث» وفيه وكلهم قد رآه فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» ثم قرأ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ الآية وأخرجاه عن ابن عمر نحوه دون قراءة الآية. وفي الباب عن أبى هريرة عند ابن حبان والحاكم والنسائي. وأخرجه البخاري دون ذكر الذبح. وأخرجه أبو يعلى والبزار من حديث أنس.
وفي آخره «فيأمن هؤلاء. وينقطع رجاء هؤلاء» .(3/18)
الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة: كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق «1» ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدّث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام:
إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»
، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وذلك أنه طلب منه أو لا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق: لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره- وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان- الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم- هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان
__________
(1) . قوله «في أحسن اتساق وساقه أرشق» في الصحاح «الاتساق» الانتظام. وفيه أيضا «رجل رشيق» أى حسن القد لطيفه. (ع)
(2) . أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدى، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبى هريرة وفيه مؤمل ابن عبد الرحمن الثقفي عن أبى أمية بن يعلى الثقفي وهما ضعيفان [.....](3/19)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره «1» ما هو فيه من التبعة والوبال، ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لا صق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه، وسماه الله تعالى المشهود له «2» بالفوز العظيم حيث قال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله، أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا أَبَتِ توسلا إليه واستعطافا. ف ما
في ما لا يَسْمَعُ
وما لَمْ يَأْتِكَ يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار شَيْئاً
يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أى: شيئا من الغناء، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فيه تجدد العلم عنده.
[سورة مريم (19) : آية 46]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل يا أَبَتِ بيا بنىّ، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه لَأَرْجُمَنَّكَ لأرمينك بلساني، يريد الشتم والذمّ، ومنه الرَّجِيمِ المرمىّ باللعن. أو لأقتلنك، من رجم الزاني. أو لأطردنك رميا بالحجارة.
وأصل الرجم: الرمي بالرجام «3» مَلِيًّا زمانا طويلا من الملاوة: أو مليا بالذهاب عنى
__________
(1) . قوله «وبما يجره» لعله وما يجره، فيكون عطفا على سوء العاقبة. (ع)
(2) . قوله «وسماه الله تعالى المشهود له» لعله «مشهود له بأن رضوانه أكبر من الثواب» فليحرر. (ع)
(3) . قوله «وأصل الرجم الرمي بالرجام» أى الحجارة الضخام، كذا في الصحاح. (ع)(3/20)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
والهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتى لا تقدر أن تبرح. يقال: فلان ملىّ بكذا، إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف وَاهْجُرْنِي؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه لَأَرْجُمَنَّكَ أى فاحذرنى واهجرني، لأن لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد وتقريع.
[سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 48]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع ومتاركة، كقوله تعالى لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده «1» ذلك؟ قلت:
قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب.
وقالوا: إنما استغفر له بقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ لأنه وعده أن يؤمن.
واستشهدوا عليه بقوله تعالى وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أى: ما قال وَاغْفِرْ لِأَبِي إلا عن قوله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وتشهد له قراءة حماد الرواية: وعدها أباه. والله أعلم حَفِيًّا الحفىّ: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به وَأَعْتَزِلُكُمْ أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة «2» » ويدل
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم استغفر لأبيه وهو كافر ... الخ» قال أحمد: وهذه لمظ من الاعتزال، مستطيرة من شرر شر قاعدة التحسين والتقبيح. والحق أن العقل لا مدخل له في أن يحكم بحكم الله تعالى قبل ورود الشرع به، ثم لم يوف الزمخشري بها، فانه جعل العقل يسوغ الاستغفار، وجعل الشرع مانعا منه، ولا يتصور هذا على قاعدتهم المهدمة، كما لا يتصور ورود الشرع بما يخالف العقل في الإلهيات، نعم قد يحكم الشرع بما لا يظهر العقل عندهم خلافه. وأما ما يظهر العقل خلافه. فلا.
(2) . أخرجه أبو داود وبقية أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني وابن ابى حاتم والطبري من حديثه وأخرجه ابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما.(3/21)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
عليه قوله تعالى فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء. عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا مع التواضع لله بكلمة عَسى وما فيه من هضم النفس.
[سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوّضه أولادا مؤمنين أنبياء مِنْ رَحْمَتِنا هي النبوّة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامّة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال:
إنى أتتنى لسان لا أسر بها «1»
يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فصيره قدوة حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وأعطى ذلك ذرّيته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
[سورة مريم (19) : آية 51]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)
المخلص- بالكسر-: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. وبالفتح: الذي أخلصه الله. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبىّ:
الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع.
[سورة مريم (19) : آية 52]
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)
__________
(1) .
إنى أتتنى لسان لا أسر به ... من علو لا كذب فيه ولا سحر
فجاشت النفس لما جاء فلهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر
للأعشى الباهلي، لما جاء الناعي بقتل المنتشر أخيه. عبر باللسان عن الكلام مجازا، لأنه آلته. وأنث الفعل لتأويل الفاعل بالكلمة أو الرسالة، وذكر فيما بعد نظرا للظاهر، من علو بالبناء على الفتح، أى: من أعلى نجد، والسخر: مصدر سخر كتعب. وجاشت القدر: غلت وارتفع ما فيها. والتجوز بالجيشان عن حرارة القلب مشهور والفل: الفئة. وتثليث: اسم موضع ممنوع من الصرف. وراكب: عطف على «فلهم» ، و «معتمر» نعته، وجاء الثاني بدل.(3/22)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
الأيمن من اليمين: أى من ناحيته اليمنى. أو من اليمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قرّبه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك. وعن أبى العالية قرّبه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة.
[سورة مريم (19) : آية 53]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
مِنْ رَحْمَتِنا من أجل رحمتنا له وترأفنا عليه: وهبنا له هرون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا. وأَخاهُ على هذا الوجه بدل. وهارُونَ عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته كذا عن ابن عباس رضى الله عنه.
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأوّاه، والصدّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم، فالإحسان الديني أولى. وقيل أَهْلَهُ أمته كلهم من القرابة وغيرهم، لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك.
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
قيل: سمى إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عزّ وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان أفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون،(3/23)
ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى إِدْرِيسَ في تلك اللغة قريبا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. المكان العلى: شرف النبوّة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه إنه رفع إلى السماء الرابعة «1» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إلى السماء السادسة «2» . وعن الحسن رضى الله عنه. إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وعن النابغة الجعدي: أنه لما أنشد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره:
بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «3»
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى أين يا أبا ليلى» قال: إلى الجنة «4» .
__________
(1) . أخرجه الترمذي من رواية شيبان عن قتادة عن أنس بهذا. وقال هو عندي مختصر من حديث الاسراء الذي رواه سعيد وهمام عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة.
(2) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عطية عنه.
(3) .
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بواد وتحمى صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
للنابغة الجعدي، أنشده أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة بك يا رسول الله، فقال: لا يفضض الله فاك. فعمر فوق مائتي عام، وكان إذا سقطت له سن نبت بدلها. والحلم: الأناة والعقل. والبادرة: الكلمة تصدر حال الغضب. وشبه الحلم بالماء على طريق المكنية. والصفاء والتكدير:
تخييل، والمراد بالجهل: عجلة الاقدام على عظائم الأمور. والإيراد جعل الشيء واردا. والإصدار: جعله صادرا. والمراد تسبب في وجوده وإعظامه وفي تحقيره وإعدامه. ويحتمل أنه شبه الأمر المعضل بحيوان يورده صاحبه إلى الماء تارة ويرجعه أخرى، على طريق المكنية، والإيراد والإصدار تخييل. ويجوز أن فاعل أورد ضمير الجهل، وفاعل أصدر ضمير الحليم، أى: إذا تسبب الجهل والشجاعة في أمر خطاء أرجعه الحليم وأبطله، فلا بد من اجتماع الحلم والجرأة معا حتى يكمل الرجل. ومجدنا وسناؤنا بالرفع بدلا من فاعل بلغنا. وقيل: هما مفعولان فهما بالنصب. وانظر ما وجهه، ولعله أنهما ظرفان اعتباريان، أى: بلغنا السماء في المجد والسناء. أو بدلان من السماء، بأن شبههما بها، ثم أطلقها عليهما وأبدلهما منها، وهو أوجه من الظرفية. ولو قيل على النصب: أنهما تمييزان، كان وجيها، لكنه على رأى الكوفيين القائلين بجوازه معرفة، ولما ادعى بلوغ السماء بنى عليه ما يبنى على المحسوس فقال: وإنا لنرجو مظهرا فوق ذلك.
(4) . أخرجه البزار وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لها من طريق يعلى بن الأشرف عنه وله طريق أخرى عند البيهقي وذكر القصيدة.(3/24)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و «من» في مِنَ النَّبِيِّينَ للبيان مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. ومن الثانية للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبى نوح. وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح:
لأنه من ذرية سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم. وموسى وهرون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل. وكذلك عيسى: لأنّ مريم من ذرّيته وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى والثانية. إن جعلت الذين خبرا لأولئك كان إِذا تُتْلى كلاما مستأنفا. وإن جعلته صفة له كان خبرا. قرأ شبل بن عباد المكي: يتلى، بالتذكير، لأن التأنيث غير حقيقى مع وجود الفاصل. البكى: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا «1» » وعن صالح المري رضى الله عنه: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: «هذه القراءة يا صالح، فأين البكاء» ؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن القرآن أنزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا «2» » وقالوا: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.
[سورة مريم (19) : آية 59]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
__________
(1) . أخرجه إسحاق والبزار من طريق عبد الرحمن بن أبى مليكة عن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن بن السائب عن سعيد بلفظ «إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فان لم تبكوا فتباكوا- الحديث» ومن هذا الوجه أخرجه أو يعلى والحارث. والبيهقي في الشعب. وإسماعيل أيضا لين.
(2) . أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بلفظ «فاقرؤه بحزن» وإسناده ضعيف. ورواه أبو يعلى والعقيلي. وأبو نعيم في ترجمة رباح بن عمرو العبسي من حديث أبى بريدة عن أبيه بلفظ «اقرءوا القرآن بحزن فانه نزل بحزن» .(3/25)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
خلفه: إذا عقبه، ثم قيل في عقب الخير «خلف» بالفتح، وفي عقب السوء: خلف، بالسكون، كما قالوا «وعد» في ضمان الخير، و «وعيد» في ضمان الشر. عن ابن عباس رضى الله عنه: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب.
وعن إبراهيم ومجاهد رضى الله عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ يعنى الكفار. وعن على رضى الله عنه في قوله وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة رضى الله عنه: هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى الله عنهم: الصلوات، بالجمع.
كل شر عند العرب: غىّ، وكل خير: رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما «1»
وعن الزجاج: جزاء غىّ، كقوله تعالى يَلْقَ أَثاماً أى مجازاة أثام. أو غيا عن طريق الجنة.
وقيل «غىّ» واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وقرأ الأخفش يُلْقُونَ.
[سورة مريم (19) : آية 60]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)
قرئ: يدخلون، ويدخلون: أى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف لهم، بيانا لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا، بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم.
[سورة مريم (19) : آية 61]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت مها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و «عدن» معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس
__________
(1) .
أمن حلم أصبحت تنكت واجما ... وقد تعترى الأحلام من كان تائما
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما
للمرقش الأصغر صاحب فاطمة بنت المنذر، والأكبر عم الأصغر وعم طرفة، وهو صاحب أسماء، والاستفهام للتوبيخ، والحلم- بضمتين-: ما يراه النائم. والنكت: التخطيط والنقر في الأرض بإصبع، أو عود، كما يفعل المهموم المتفكر. والواجم: الحزين، والواو للحال، أى: والحال أن أضغاث الأحلام قد تعترى النائم، فكان مجردة عن المعنى، فمن يلق: أى يصادف خيرا في أفعاله، يحمد الناس فعله، أو شأنه. وإيقاع الحمد عليه لأنه سببه، ومن يفعل غيا لا يعدم لائما يلومه على غيه. وقيل: أراد بالخير الغنى، الفقر، ويبعده مقام اللوم وعدم مناسبته لما قبله. وغوى يغوى: من باب ضرب: انهمك في الجهل، وعدم يعدم- من باب علم-: فقده.(3/26)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
- فيمن لم يصرفه- أعلاما لمعانى: الفينة، «1» والسحر، والأمس، فجرى مجرى العدن لذلك.
أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي. وقرئ: جنات عدن. وجنة عدن بالرفع على الابتداء. أى: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. قيل في مَأْتِيًّا مفعول بمعنى فاعل.
والوجه أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أى: كان وعده مفعولا منجزا.
[سورة مريم (19) : آية 62]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أى: إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب «2»
أو لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع «3» .
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة «4» . ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
__________
(1) . قوله «لمعانى الفينة» في الصحاح «لقيته الفينة بعد الفينة» أى الحين بعد الحين. وإن شئت حذفت الألف واللام فقلت: لقيته فينة، كما قالوا لقيته الندرى: وفي ندرى. (ع) [.....]
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 142 من الجزء الثاني فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قال محمود: «يجوز أن يكون من قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وأن يكون استثناء منقطعا» قال أحمد: والفرق بين الوجهين أنه جعل الفلول عيبا على سبيل التجوز، بتا لنفى العيب بالكلية، كأنه يقول: إن كان فلول السيوف من القراع عيبا فإنهم ذوو عيب، معناه: وإن لم يكن عيبا فليس فيهم عيب البتة، لأنه لا شيء سوى هذا، فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل.
(4) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون متصلا على أن يكون السلام هو الدعاء بالسلامة ... الخ» قال أحمد:
وهذا يجعله من المتصل على أصل الحقيقة. لا كالأول الناشئ عن المجاز. وفي هذا الباب بعد، لأنه يقتضى البت بأن الجنة يسمع فيها لغو وفضول، وحاش لله، فلا غول فيها ولا لغو.(3/27)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
من الناس من يأكل الوجبة «1» . ومنهم من يأكل متى وجد- وهي عادة المنهومين.
ومنهم من يتغدى ويتعشى- وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، يريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
[سورة مريم (19) : آية 63]
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
نُورِثُ وقرئ: نورّث، استعارة، أى: نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
[سورة مريم (19) : آية 64]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
وَما نَتَنَزَّلُ حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك. قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى «2» . والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
__________
(1) . قوله «من الناس من يأكل الوجبة» أى يأكل كل يوم وليلة مرة، وقد وجب نفسه توجيبا إذا عودها ذلك، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل والكلبي. فقالوا، احتبس، فذكره سواء، وكأنه ملفق عندهم، فقد ذكره ابن إسحاق في السيرة. قال حدثني شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس «أن قريشا جاءوا فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول- فذكر القصة- وفيها «فمكث فيما يذكرون خمسة عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وصار لا يأتيه جبريل. فذكره بتغير وزيادة ونقص. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريقه ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس نحوه. وقال أبطأ عنه خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء.(3/28)
فلست لإنسىّ ولكن لملأك ... تنزّل من جو السّماء يصوب «1»
لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صوابا وحكمة، وله ما قدامنا وَما خَلْفَنا من الجهات والأماكن وَما بَيْنَ ذلِكَ وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل:
الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى:
أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل معنى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وما كان تاركا لك، كقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أى: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أى: وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة
__________
(1) .
تعاليت أن تعزى إلى الانس جلة ... وللانس من يعزوك فهو كذوب
فلست باء نسى ولكن ملأكا ... تنزل من جو السماء يصوب
لرجل من عبد القيس، يمدح النعمان بن المنذر. وقيل لأبى وجرة يمدح عبد الله بن الزبير. وتعزى: أى تنسب، والجلة- بالضم وعاء التمر، وبالكسر: الجماعة العظيمة، جمع جليل، وبالفتح: البعرة، وهو تمييز محول من نائب عن الفاعل، أى: تعاليت عن أن ينسب وعاءك أى: أصلك إلى الانس. وقوله: وللانس من يعزوك، فيه تقديم معمول الصلة على الموصول. والمشهور منعه: لأنهم يتوسعون في الظروف، وزيدت الفاء في خبر الموصول لأنه يشبه الشرط، ولو جعل شرطا لكان فيه إثبات حرف العلة بعد الجازم للضرورة. والملأك معفل، بتقديم العين من الألوكة بالفتح وهي الرسالة، وقال أبو عبيدة: هو مفعل على اسم المكان، من لأك إذ أرسل، ولعله جاء على مفعل لتصوير أن الرسول مكان الرسالة. وقال ابن كيسان: هو فعأل من الملك، فالهمزة زائدة، وعلى كل يخفف بالنقل فيقال فيه تلك. والصوب: القصد أو الميل عند النزول، ونصب ملأكا لأنه اسم لكن، وما بعده صفته، أى: ولكن ملأكا نازلا من السماء أنت. وفيه: أن المحدث عنه الممدوح لا الملك، ويمكن أنه قلب للمبالغة كما قالوه في التشبيه المقلوب. ويحتمل أن تقديره: ولكنك كنت ملأكا، وفيه بعد. والأوجه رواية الصحاح:
فلست لانسى ولكن لملأك
أى: فلست منسوبا لانسى ولكن لملك، وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء، يصوب: أى يقصد إلى جهة.(3/29)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال الله تعالى- تقريرا لقولهم-: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذى ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى الله عنه: وما يتنزل، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إلا بقول ربك. يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في البغي.
[سورة مريم (19) : آية 65]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أى هو رب السموات والأرض فَاعْبُدْهُ كقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم «1»
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: هلا عدى اصْطَبِرْ بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى وَاصْطَبِرْ عَلَيْها؟
قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى اثبت له فيما يورد عليك من شدائد أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحى عليك مدة وشماتة المشركين بك. أى: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه.
__________
(1) .
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا
شاعره مجهول. أى: ورب قائلة. وخولان بالفتح اسم قبيلة باليمن، وهو مبتدأ خبره ما بعده، والفاء زائدة فيه على رأى الأخفش والفراء، ومنع سيبويه زيادتها هنا، لأن المبتدأ لم يشبه الشرط، فخبره محذوف، أى: خولان كرام فانكح أى تزوج فتاتهم، أو هو خبر لمحذوف، أى: هؤلاء خولان المعروفون بالكرم، فتزوج بفتاتهم.
وبنى «أكرومة» من الكرم للدلالة على كثرة السكرم، كما أن أعجوبة من التعجب للدلالة على كثرته، والجملة حالية، فيحتمل أنها مانعة من نكاح الفتاة، أى قالت لي ذلك، والحال أن أكرومة الحيين أى كريمة حى أبى وحى أمى خلو بالضم: خالية من الأرواح كما كانت، فهي أولى من الفتاة بالزواج لقرابتها منى. ويحتمل أنها داعية إليه، فالمعنى: قالت لي ذلك والحال أن الفتاة التي هي أكرومة الحيين، أى حى أبيها وحى أمها من خولان، على ما هي عليه من البكارة، أو من الخلو من الأزواج لم تتزوج أحدا قبلي، فهي حقيقة بأن أتزوجها لكرم طرفيها، فعلم أن الكاف بمعنى على. ويجوز أن يشبه حالها الآن بحالها فيما مضى، فالكاف على أصلها. ويحتمل أن الواو للعطف، أى: قالت ذلك، وقالت: إنها خالية لم يطمثها أحد قبلك، فهي حقيقة بالزواج لذلك، لكنه بعيد.(3/30)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية. وقيل:
مثلا وشبيها، أى: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 67]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة. فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق:
فسيف بنى عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد «1»
فقد أسند الضرب إلى بنى عبس مع قوله «نبا بيدي ورقاء» وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي.
فإن قلت: بم انتصب إِذا وانتصابه بأخرج ممتنع لأجل اللام، لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت:
بفعل مضمر يدل عليه المذكور. فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ «2» قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في إِذا ما للتوكيد أيضا، فكأنهم قالوا:
أحقا أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد.
والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالما، وخرج
__________
(1) . للفرزدق وهذا لقبه، واسمه همام أو هميم، يريد: ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، أمره سليمان بن عبد الملك بضرب أعناق بعض أسرى الروم، وأعطاه سيفا لا يقطع فقال: بل أضربهم بسيف أبى رغوان مجاشع، يعنى نفسه، فضرب عنق خالد فانحرف السيف وارتفع عن المضرب، فضحكوا منه. ونسب السيف والضرب إلى بنى عبس مع أنهما لواحد منهم، تعظيما لهما وتفخيما. وجعله في اليدين إشارة إلى أنه كان مجمعا أمره وحازما عزمه غير متهاون..
والمعنى: أن الحذر لا ينفع من القدر كما وقع لورقاء، مع أنه في غاية الحرص، لا سيما أمام الملك. ويجوز أنه يريد ذم بنى عبس.
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف اجتمعت اللام وهي للحال مع حرف الاستقبال ... الخ» قال أحمد:
ولاعتقاد تناقض الحرفين: منع الكوفيين اجتماعهما، وإنما جردت اللام من معناها لتلائم «سوف» دون أن تجرد سوف لتلائم اللام، لأنه لو عكس هذا للغت سوف، إذ لا معنى لها سوى الاستقبال. وأما اللام إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد، فلم تلغ، فتعين، والله أعلم.(3/31)
شجاعا: إذا كان نادرا في ذلك، يريد: سأخرج حيا نادرا على سبيل الهزؤ. وقرأ الحسن وأبو حيوة:
لسوف أخرج. وعن طلحة بن مصرف رضى الله عنه: لسأخرج، كقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: ولسيعطيك، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسىء إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه: الواو عطفت لا يَذْكُرُ على يَقُولُ ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى «1» فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق، حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى وَلَمْ يَكُ شَيْئاً دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ على أن رب العزة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، وكشفا عن صفحة جهله. القراء كلهم على لا يَذْكُرُ بالتشديد إلا نافعا وابن عامر
__________
(1) . قال محمود: «ذكر الله الإنسان النشأة الأولى ليعترف بالأخرى ... الخ» قال أحمد: مذهب أهل السنة أن إعادة المعدوم جائزة عقلا، ثم واقعة نقلا، والمعتزلة وإن وافقت على ذلك، إلا أنها تزعم أن المعدوم له ذات ثابتة في العدم، يقضى عليها بأنها شيء فليس عندهم عدم صرف ونفى محض قبل الوجود ولا بعده، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة الذين هم مختصرهم، ولأنكروا إعادة المعدوم كما أنكره القدماء. وعقيدة أهل السنة هي المطابقة للآية، لأن النشأة الأولى لم يتقدمها وجود، ولأن المنشأ ابتداء لم يكن شيئا قبل ذلك. وأما النشأة الثانية فقد تقدمها وجود، وكان المنشأ قبلها شيئا في زمان وجوده، ثم عدم وبطلت شيئيته، فظهر فرق ما بين النشأتين كما نطق به القرآن، وأما المعتزلة فان قالوا: إن الأجسام يعدمها الله ثم يوجدها، فقد قالوا الحق، لكن لا يتم على أصلهم فرق بين النشأتين، لأن المعدوم فيهما كان شيئا قبل النشأة، فان قالوا لا تنعدم الأجسام، وإنما تتفرق ثم تجمع كما صرح به الزمخشري، لأنه تفطن لأن القول بأن الأجسام تنعدم ثم يوجدها الله تعالى مع القول بأن المعدوم شيء- يبطل الفرق بين النشأتين ولم يطق ذلك، وقد نطق به القرآن فالتزم أن الأجسام لا تنعدم ليتم له الفرق بين النشأة الثانية- وإنما هي على هذا التقرير جمع وتأليف لموجود- وبين النشأة الأولى التي هي إيجاد معدوم، فتنبه لبعد غوره، ولكن هرب من القطر فوقع تحت الميزاب، فهو والحالة هذه كالمستغيث من الرمضاء بالنار، والله ولى التوفيق. ومعنى تفريق الله تعالى بين النشأتين: أن الجاحد متهافت لأنه اعترف بالأولى وهي أصعب بالنسبة إلى قياس العقل، وأنكر الثانية وهي أسهل وأهون، لأن ذلك راجع إلى قدرته تعالى. فان الكل لدى قدرة الله تعالى هين على سواه.(3/32)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
وعاصما رضى الله عنهم، فقد خففوا. وفي حرف أبىّ: يتذكر مِنْ قَبْلُ من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه.
[سورة مريم (19) : الآيات 68 الى 70]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
في إقسام الله تعالى باسمه تقدست أسماؤه مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ والواو في وَالشَّياطِينَ يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى مع، وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت:
هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسى على العموم «1» فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين.
فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسرورا إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يقبلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا «2» على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو. قال الله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، من تجاثى أهلها على الركب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «والإنسان يحتمل أن يراد به العموم ... الخ» قال أحمد: التبست عليه إرادة العموم بتناول العموم وبينهما بون، ومن ثم خلت عبارته هذه عن التحرز والصون، فصرح بأن الله تعالى أراد بالإنسان العموم، ومعنى إرادة العموم: أن يريد الله تعالى نسبة كلمة الشك والكفر إلى كل فرد من أفراد الإنسان، ومعاذ الله. وقد صرح الزمخشري بأن الناطق بكلمة الشك بعض الجنس، ففي العبارة خلل كما ترى. والعبارة الصحيحة أن يقال: يحتمل أن يكون التعريف جنسيا، فيكون عهديا، فيكون اللفظ من أول وهلة خاصا، والله أعلم.
(2) . قوله «عتلا» العتل: الجذب العنيف. أفاده الصحاح- (ع)(3/33)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، فيحبون على ركبهم حبوا. وإن فسر بالعموم، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم، على أن جثيا حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين، لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب. والمراد بالشيعة- وهي «فعلة» كفرقة وفتية- الطائفة التي شاعت «1» ، أى تبعت غاويا من الغواة. قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً يريد: نمتاز من كل طائفة من طوائف الغىّ والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم.
أو أراد بالذين هم أولى به صليا: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالين، ودركاتهم أسفل، وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يريد بأشدّهم عتيا: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا ومضلين. قال الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ واختلف في إعراب أَيُّهُمْ أَشَدُّ فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لتنزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبنى على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعا على مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، كقوله سبحانه وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أى لننزعن بعض كل شيعة، فكأنّ قائلا قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتيا. وأيهم أشد: بالنصب عن طلحة ابن مصرف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. فإن قلت: بم يتعلق على والباء، فإنّ تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا الصلة. أو يتعلقان بأفعل، أى: عتوّهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.
[سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
وَإِنْ مِنْكُمْ التفات إلى الإنسان، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهما:
وإن منهم. أو خطاب للناس «2» من غير التفات إلى المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها وهي جامدة، فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم. عن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . قوله «شاعت» في الصحاح: شاعه شياعا: تبعه. (ع)
(2) . قال محمود: «يحتمل أن يكون استئنافا خطابا للناس، ويحتمل أن يكون التفاتا» قال أحمد: احتمال الالتفات مفرع على إرادة العموم من الأول، فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا، إلا أن الخطاب الأول بلفظ الغيبة، والثاني بلفظ الحضور. وأما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا، فالثاني ليس التفاتا، وإنما هو عدول إلى خطاب العامة عن خطاب خاص لقوم معينين، والله أعلم. [.....](3/34)
عنه: يردونها كأنها إهالة. وروى دواية»
. وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة «2» . وعنه رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إنّ للنار ضجيجا من بردها» «3» وأما قوله تعالى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد عن عذابها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط، لأنّ الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله، كقوله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ووردت القافلة البلد، وإن لم تدخله ولكن قربت منه. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا، لقوله عليه السلام «الحمى من فيح جهنم» «4» وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار» «5» ويجوز أن يراد بالورود: جثوّهم حولها. وإن أريد الكفار خاصة، فالمعنى بين.
الحتم: مصدر حتم الأمر إذا أوجبه، فسمى به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير، أى: كان ورودهم واجبا على الله، أوجبه على نفسه وقضى به، وعزم على أن لا يكون غيره. قرئ نُنَجِّي وننجي، وينجى وينجى، على ما لم يسم فاعله. إن أريد الجنس بأسره فهو
__________
(1) . قوله «كأنها إهالة وروى دواية» في الصحاح «الاهالة» الودك. وفيه أيضا «الدواية» الجليدة التي يوضع فيها اللبن والمرق. (ع)
(2) . روى عن جابر هكذا. قلت المحفوظ عن جابر ما سيأتى بعد. وروى ابن إسحاق وأبو عبيد في الغريب وابن المبارك في الزهد من طريق ومعه خالد بن معدان. قال «إذا جاز المؤمنون الصراط نادى بعضهم بعضا: ألم يعدنا ربنا» فذكره، ولم يذكره الواحدي والبغوي إلا من هذا الوجه.
(3) . رواه أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد. قالوا حدثنا سليمان بن حرب وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكيم في النوادر. السادس عشر، كلهم من طريق سليمان. قال حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبى سمية قال «اختلفنا في الورود، فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم منه» وخالفهم كلّهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الاسناد فقال: عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبى سمية- عن جابر.
(4) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(5) . أخرجه البزار عن عائشة بهذا. وقال: تفرد برفعه عثمان بن مخلد عن هشيم بن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عنها. وقال الدارقطني: عثمان لا بأس به، لكن خولف في رفع هذا الحديث فرواه ببدل عن هشيم موقوفا. قلت: وقد روى مرفوعا من وجه آخر. أخرجه القضاعي من مسند الشهاب من طريق أحمد بن رشد الهلالي عن حميد بن عبد الرحمن الروالى عن الحسن بن صالح عن الحسن بن عمرو عن إبراهيم به. وزاد «وحمى ليلة تكفر خطايا سنة» في الباب عن أبى هريرة عن ابن ماجة والحاكم، وعن أبى ريحانة عند الطبراني، وعن أبى أمامة عند أحمد. وعن عثمان عند القتيلى وعن سعد بن معاذ عند ابن سعد في الطبقات وعن أنس عند الطبراني بالأوسط. وكلها ضعيفة وهي بمعناه لا بلفظه.(3/35)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
ظاهر، وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أنّ المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس والجحدري وابن أبى ليلى: ثم ننجي، بفتح الثاء، أى هناك. وقوله وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا دليل على أنّ المراد بالورود الجثوّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد تجاثيهم، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
[سورة مريم (19) : آية 73]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججا لِلَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أنهم يناطقون المؤمنون بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. قرأ ابن كثير مَقاماً بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد المكان والموضع.
والندىّ: المجلس ومجتمع القوم، وحيث ينتدون «1» . والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أىّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص، والرفعة والضعة. ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم.
[سورة مريم (19) : آية 74]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74)
كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنْ تبيين لإبهامها، أى: كثيرا من القرون أهلكنا.
وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. وهُمْ أَحْسَنُ في محل النصب صفة لكم.
ألا ترى أنك لو تركت هُمْ لم يكن لك بدّ من نصب أَحْسَنُ على الوصفية.
الأثاث: متاع البيت. وقيل: هو ماجد من الفرش. والخرثي: ما ليس منها. وأنشد الحسن بن على الطوسي:
__________
(1) . قوله «حيث ينتدون» في الصحاح «ندوت» أى حضرت الندى. وانتديت: مثله. (ع)(3/36)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
تقادم العهد من أمّ الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثيّا «1»
قرئ على خمسة أوجه رِءْياً وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول، من رأيت. وريئا، على القلب كقولهم راء في رأى. وريا، على قلب الهمزة ياء والإدغام، أو من الرىّ الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم. وريا، على حذف الهمزة رأسا، ووجهه أن يخفف المقلوب وهو «رينا» بحذف همزته وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها. وزيا، واشتقاقه من الزىّ وهو الجمع: لأن الزىّ محاسن مجموعة، والمعنى: أحسن من هؤلاء.
[سورة مريم (19) : آية 75]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75)
أى مدّ له الرحمن، يعنى: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أو كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً أو مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدّة حياته. في هذه الآية وجهان. أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أى قالوا: أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أى لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم. وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم شر مكانا وأضعف جندا، لا خير مقاما وأحسن نديا، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لا صق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها. فإن قلت: حتى هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة
__________
(1) . أثاث البيت: أمتعته ولوازمه: والخرئى كالكرسى: العتيق من ذلك، يقول: تقادم وتطاول بنا اللقاء من أم الوليد، أى: تباعد زمنه. فدهرا: تمييز. ويجوز أنه ظرف، أى: تباعد عهد اللفاء من محبوبتى زمنا طويلا وصار متاع البيت عتيقا قديما. وفيه تحسر على عدم اللقاء.(3/37)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
الشرطية واقعة بعدها وهي قوله إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندىّ:
المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند: هم الأنصار والأعوان.
[سورة مريم (19) : آية 76]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وَيَزِيدُ معطوف على موضع فليمدد، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمدّ له الرحمن. ويزيد: أى يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الآخرة كلها. وقيل: الصلوات. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أى هي خَيْرٌ ثَواباً من مفاخرات الكفار وَخَيْرٌ مَرَدًّا أى مرجعا وعاقبة، أو منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ:
وهل يرد بكاى زندا «1»
فإن قلت: كيف قيل خير ثوابا كأنّ لمفاخراتهم ثوابا، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت:
كأنه قيل:
ثوابهم النار. على طريقة قوله: ... فأعتبوا بالصّيلم «2»
وقوله:
شجعاء جرّتها الذّميل تلوكه ... أصلا إذا راح المطي غراثا «3»
وقوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع «4»
ثم بنى عليه خير ثوابا. وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركا فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم، يقولون: الصيف أحرّ من الشتاء، أى: أبلغ من الشتاء في برده.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 525 فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه
(3) . الشجع: سرعة نقل القوائم. والشجعاء: السريعة السير. والجرة- بالكسر-، ما يجتره البعير من كرشه يمضغه. والذميل: نوع من السير. واللوك: المضغ. والأصل: جمع أصيل، وهو من العصر للغروب. والرواح:
من الظهر إليه. والغراث: الجياع. يصف ناقته بسرعة السير، وشبه السير عندها بجرتها، يجامع سرعة الحركة وانطباع الناقة واستلذاذها لكل. وجعلها تبرزه شيئا فشيئا كالجرة للمبالغة. وفيه دلالة على خلو بطنها من العلف إذا راح، أى: إذا كان غيرها لا يجد قوة على السير، فالغرث: استعارة. ويجوز أن المعنى أنها سريعة في السير ولو كانت جائعة كغيرها من المطايا، فالغرث حقيقته.
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 60 فراجعه إن شئت اه مصححه(3/38)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا «أرأيت» في معنى «أخبر» والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك أَطَّلَعَ الْغَيْبَ من قولهم:
أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع «1» الثنية. قال جرير:
لاقيت مطّلع الجبال وعورا «2»
ويقولون: مرّ مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول:
أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ حمزة والكسائي: ولدا، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر: ولدا، بالكسر. وقيل في العهد:
كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فافتضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد. قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك «3» . وقيل:
__________
(1) . قوله «وطلع الثنية» في الصحاح «طلعت الجبل» بالكسر: علوته. (ع)
(2) .
إنى إذا مضر علىّ تحدثت ... لاقيت مطلع الجبال وعورا
لجرير. ومضر: اسم قبيلة صرف للضرورة. ومطلع- بتشديد الطاء-: اسم مكان على صورة المفعول، من اطلع المشدد، وأصله: اطتلع، بتاء الافتعال، قلبت طاء وأدغمت فيها ما قبلها، وهو نصب على الظرفية. والوعور:
جمع وعر، أى: صعب مفعول لاقيت، أو المفعول هو مطلع. ووعورا: حال، لا سيما على رواية فتح واوه على أنه صيغة مبالغة، يقول: إذا تقولت على مضر ما لا أرتضيه، أو تكلمت في قتلى، وجدت في مطالع الجبال أشياء صعابا فأعجز عن الهرب. أو المعنى: أنه يقتحم الصعاب ولا يبالى بها ويهرب منهم. وعلى الحالية: لاقيت مطلع الجبال حال كونه أماكن صعبة، والمطلع متعدد لإضافته لمتعدد، وعلى فتح الواو فظاهر.
(3) . متفق عليه من طريق مسروق عن خباب أتم منه. [.....](3/39)
صاغ له خباب حليا فاقتضاه الأجر، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، فأنا أقضيك ثم، فإنى أوتى مالا وولدا حينئذ كَلَّا ردع وتنبيه على الخطأ أى: هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه. فإن قلت: كيف قيل سَنَكْتُبُ بسين التسويف، وهو كما قاله كتب من غير تأخير، قال الله تعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «1»
أى تبين وعلم بالانتساب أنى لست بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أى نطوّل له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزءون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علىّ بن أبى طالب: ونمد له بالضم. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب الله، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أى نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى ما يَقُولُ وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته «2» أن تألى على ذلك في قوله لَأُوتَيَنَّ لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه، فيقول الله عز وجل هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ... الآية فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول
__________
(1) .
رمتني عن قوس العدو وباعدت ... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدى من أن تقرى بها بدا
لزائد بن صعصعة النقعسى، كانت له امرأة اسمها عبيدة فطمحت عليه وكانت أمها سرية، فعرض لها بذلك، يقول:
رمتني بأمر قبيح كأنه نبلة صادرة عن قوس العدو، أو أبعدتنى عنها بعد النبلة عن القوس: أى تسببت في ذلك وبالغت في بعد الرمي، و «زاد الله» جملة دعائية، ثم قال: إذا أظهرنا نسبنا يتبين أنى لم تلدني لئيمة بخلافك، ولم تجدى مفرا ولا غنى من إقرارك بتلك القضية. ويجوز أن المعنى: أنه لا بد من إقرارك بأمك اللئيمة، وعلم مرجع الضمير من ذكر المقابلة وهو أمه، وهذا أدق في التبكيت. ويروى: به، أى: بذلك النسب. وفي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب نوع من التشنيع والتوبيخ، كأنه عجب الناس أولا من حالها، ثم التفت يبكتها بلؤم أمها وأنها رقيقة.
(2) . قوله «أشعبيته» في الصحاح «أشعب» اسم رجل كان طماعا. وفي المثل: أطمع من أشعب اه. ومنه:
أخذت الأشعبية، بمعنى: خصلة أشعب، وهي الطمع. (ع)(3/40)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به وَيَأْتِينا على فقره ومسكنته فَرْداً من المال والولد، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه، فيجتمع عليه الخطبان: تبعة قوله ووباله، وفقد المطموع فيه. فردا على الوجه الأول: حال مقدرة نحو فَادْخُلُوها خالِدِينَ لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى، ثم يتفاوتون بعد ذلك.
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 82]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أى ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب كَلَّا ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أى سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي محتسب ابن جنى: كلا بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا. والضمير في سَيَكْفُرُونَ للآلهة، أى: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أو للمشركين: أى ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا في مقابلة لَهُمْ عِزًّا والمراد ضدّ العز وهو الذل والهوان، أى:
يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضدّ: العون. يقال من أضدادكم: أى أعوانكم وكأن العون سمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه السلام: «وهم يد على من سواهم «1» » لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها
__________
(1) . هذا طرف من حديث لعلى رضى الله عنه، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق والحاكم من طريق قيس بن عباد عن على رضى الله عنه «أنه أخرج من قراب سيفه كتابا عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه- وذكره. وفيه هذا» وروى ابن ماجة من حديث ابن عباس رفعه قال «المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهم يد على من سواهم- الحديث» وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبزار والطبراني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه، وعن عبد الله بن عمر، أخرجه ابن حبان. وعن معقل ابن يسار أخرجه ابن ماجة.(3/41)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
وإن رجعت الواو في سيكفرون ويكونون إلى المشركين، فإن المعنى: ويكونون عليهم- أى أعداءهم- ضدا، أى: كفرة بهم، بعد أن كانوا يعبدونها.
[سورة مريم (19) : آية 83]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
الأز، والهزّ، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أى: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم «1» ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين:
من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم،
[سورة مريم (19) : آية 84]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أى: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
[سورة مريم (19) : آية 85]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
نصب يَوْمَ بمضمر، أى يوم نَحْشُرُ ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب بلا يملكون. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن علىّ رضى الله عنه: ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت «2» .
__________
(1) . قوله «والمعنى خلينا بينهم وبينهم» هذا هو الموافق لمذهب المعتزلة، من أنه تعالى لا يفعل الشر. أما على مذهب أهل السنة من أنه تعالى يفعل الشر كالخير، فالمناسب: سلطناهم عليهم. (ع)
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبري وابن أبى حاتم من رواية عبد الرحمن ابن إسحاق بن النعمان بن سعد بن على نحوه، وأخرجه ابن أبى داود في كتاب البعث من هذا الوجه مرفوعا. ورواه ابن عدى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا أيضا.(3/42)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
[سورة مريم (19) : آية 86]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)
وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال:
ردى ردى ورد قطاة صمّا ... كدريّة أعجبها برد الما «1»
فسمى به الواردون. وقرأ الحسن: يحشر المتقون، ويساق المجرمون.
[سورة مريم (19) : آية 87]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
الواو في لا يَمْلِكُونَ إن جعل ضميرا «2» فهو للعباد، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل مَنِ اتَّخَذَ لأنه في معنى الجمع، ومحل مَنِ اتَّخَذَ رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أى: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا
__________
(1) . يخاطب ناقته. وردى: أمر من الورود، وتكريره للتوكيد. والورد: اسم مصدر منه أيضا، أو اسم للماء المورود، أى: ردى الماء كورود قطاء صماء لا تسمع صوت القانص فلا تنفر عن الماء: والكدر- بالضم- نوع من القطار مادى اللون، والكدرية: نسبة إليه، من نسبة الجزئى إلى كليه، وهذه الياء هي الفارقة بين اسم الجنس وواحده، كروم ورومي. وفيه تشبيه ناقته ضمنا بالقطاة في الخفة والسرعة. وصما والما: بالقصر، فان رويا بالمد والسكون على أن الشعر من مشطور المنسرح الموقوف، فمحله حرف الألف.
(2) . قال محمود: «يحتمل أن تكون الواو في لا يملكون ضميرا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه تعسف من حيث أنه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناها وأفصح بأنها متناولة جمعا، ثم أعاد على لفظها بالافراد ضمير اتخذ، ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك، وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح، وذلك تعكيس في طريق البلاغة، وإنما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال. والواو على إعرابه، وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد له، فتنبه لهذا العقد، فانه أروج من النقد:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد(3/43)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة، «1» وقيل: كلمة الشهادة. أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به، أى لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا.
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 91]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91)
قرئ إِدًّا بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإدّ والأدّ: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علىّ إدّا تَكادُ قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ «ينفطرن» «2» الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود: ينصدعن، أى تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى: لأنها تهدّ. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟
ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول:
كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض «3» والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من
__________
(1) . أخرجه الثعلبي قال: روى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود- فذكره بتمامه، وروى ابن مردويه في تفسير الأحزاب من طريق عوف بن عبد الله عن رجل من بنى سليم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العهد أن تقول: اللهم فاطر السموات والأرض- الحديث أصغر مما ذكر» ورواه الحاكم من وجه آخر عن عون عن ابن ماجة عن الأسود عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال الله تعالى يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، قال فقلنا: فعلمنا يا أبا عبد الرحمن قال: فاقرؤا:
اللهم فاطر السموات والأرض- فذكره مختصرا، وفي الباب عن أبى بكر رضى الله عنه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والسبعين بعد المائة.
(2) . قوله «وقرئ ينفطرن» يفيد أن القراءة المشهورة «يتفطرن» بالتاء. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه: كدت أهدّ السموات وأفطر الأرض ... الخ» قال أحمد: ويظهر لي وراءها معنى آخر والله أعلم، وذلك أن الله تعالى قد استعار لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له، أن جعلها تسبح بحمده. قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها: أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إلى الله تعالى قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله وتقديسه، فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها، إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق «فسبحان من قسم عباده، فجعل العباد، تستلذ فتسبح بتسبيح داود، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود.(3/44)
تفوّه بها، لولا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات: أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله لَقَدْ جِئْتُمْ وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في أَنْ دَعَوْا ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه، كقوله:
على حالة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم «1»
ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أى: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل هذا، أى هدها دعاء الولد للرحمن. وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه «2» » وقول الشاعر:
إنّا بنى نهشل لا ندّعى لأب «3»
أى لا ننتسب إليه.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 438 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . لم أره بلفظ «من ادعي» وإنما هو عند مسلم بلفظ «انتمى» أخرجه من حديث على بن أبى طالب رفعه «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه- الحديث»
(3) .
إنا بنى نهشل لا ندعى لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
يكفيه إن نحن متنا أن يسر بنا ... وهو إذا ذكر الآباء يكفينا
لبشامة بن حزن النهشلي، ويقال: ادعى فلان في بنى هاشم ولهم وإليهم، أى: انتسب إليهم وادعى عنهم إذا انتسب لغيرهم. وعدل عنهم يقول: إنا لا ننتسب لأب غير نهشل، وبنى نهشل: نصب على الاختصاص يفيد المدح ولا هو يشرينا، أى يبيعنا ويستبدلنا بأبناء غيرنا، ثم قال: يكفيه منا سروره بنا إن متنا ولحقناه، حيث أوجبنا له ولنا الثناء الجميل من شجاعتنا وحسن خصالنا. و «إن» بمعنى «إذا» لأن الموت لا شك فيه. ويروى «أن يسب» بباء، ولعل معناه: لا مسبة له غير موتنا في القتال، يعنى: إن كان ذلك مسبة وليس كذلك، ويمكن أن تعبيره بالكفاية ليفيد أنه مستغن عن المدح من جهة أبنائه عند التفاخر. وعند عد مآثر الآباء لا نحتاج لغيره، فننتسب له لنشرف بشرفه.(3/45)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
[سورة مريم (19) : آية 92]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
انبغى: مطاوع «بغى» إذا طلب، أى: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[سورة مريم (19) : الآيات 93 الى 95]
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
مَنْ موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة، وقوعها بعد رب في قوله:
ربّ من أنضجت غيظا صدره «1»
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة آتِي الرَّحْمنِ على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير
__________
(1) .
رب من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع
ويرانى كالشجا في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع
ويحيينى إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمى رتع
لسويد بن أبى كاهل اليشكري، ويتعين أن «من» نكرة موصوفة، لأن رب لا تجر إلا النكرة، ونضج اللحم والعنب ونحوهما نضجا فهو نضيج وناضج: أدرك وبلغ أوانه واستوى، أى: رب شخص طبخت قلبه من حر غيظه منى ولم يطع، أى لا يستطاع تحمل سببه. والشجا: ما نشب في الحلق من عظم ونحوه. وعسرا الخ: حال منه. ومخرجه أى خروجه مرفوع بالوصف، لم يضرني شيئا من الضرر غير الحسد، من ضاره يضيره ضيرا إذا ضره، فهو يزقو أى يصيح مثل صياح الضوع: وهو ذكر اليوم، وكثر تشبيه العرض المطعون فيه باللحم المأكول على طريق التصريحية، ثم شبهه الشاعر بالمرعى المخصب ترتع فيه البهائم. أو شبه المغتاب بهيمة في المرعي على طريق المكنية والرتع تخبيل. ويحتمل استعارته للأكل الملائم للحم، ثم للطعن الملائم للعرض على طريق التصريح، أى: إذا يخلو له عرضي اغتاب كما يريد. [.....](3/46)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
أنهم أولاد الله، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني:
إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أى: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.
[سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
قرأ جناح بن حبيش وُدًّا بالكسر: والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه: «يا علىّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة «1» » فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يحبهم الله ويحبهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إنّ الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له المحبة في أهل الأرض»
» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والطبراني في مسند حمزة الزيات، وابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما وفيه إسحاق بن بشر عن خالد بن زيد، وهما متروكان.
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة بمعناه.(3/47)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
[سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه بِلِسانِكَ أى بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ وتنذر.
واللدّ: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة.
وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا تخويف لهم وإنذار. وقرئ تُحِسُّ من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة تَسْمَعُ مضارع أسمعت. والركز: الصوت الخفي.
ومنه: ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبىّ.(3/48)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
سورة طه
مكية [إلا آيتي 130 و 131 فمدنيتان] وهي 135 آية [نزلت بعد مريم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
طه أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضى الله عنه: طه، وفسر بأنه أمر بالوطء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه «1» معا، وأن الأصل طأ، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في يطأ فيمن قال:
لا هناك المرتع «2»
ثم بنى عليه الأمر، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما
__________
(1) . أخرجه عبد بن حميد في تفسيره قال: حدثنا هاشم بن القاسم بن أبى جعفر عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله طه يعنى طأ الأرض» وروى ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن قطر بن خليفة عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية عن على «لما نزل يا أيها المزمل قام الليل كله حتى ورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع الأخرى فهبط عليه جبريل، فقال «طه طأ الأرض بقدميك يا محمد» وأخرجه البزار من وجه آخر عن على «كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» ومن طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى طه قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله طأها برجليك» وأخرجه البيهقي في الشعب الرابع عشر من وجه آخر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه الوحى كان يقوم على صدور قدميه إذا صلى. فأنزل الله طه.
(2) .
نزع ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
للفرزدق، يهجو عمرو بن زهرة الفزاري، وقد ولى العراق بعد عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان على البصرة ومحمد ابن عمرو بن الوليد بن عقبة، وكان على الكوفة. يقول: ذهب ابن بشر وابن عمرو، وأخو هراة أى صاحبها وواليها. وهراة من بلاد العراق أيضا. يتوقع: أى يترقب وينتظر مثل حاله من قبله. راحت، وروى: مضت، أى ذهبت البغال بمسلمة بن عبد الملك كما يفيد شرح المراح، وكان يمنع بنى فزارة من الرعي في أرض العراق، ففر إلى الشام وترك الملك، فارعى يا فزارة ما شئت يخاطب القبيلة بذلك، وإشارة إلى أنه كان محرما عليهم، فأبيح بعد مسلمة. وأرعى: بفتح العين وسكون الياء لأن مضارعه مفتوح العين. ولا هناك المرتع: دعا عليهم. يقال:
هناك الطعام ومراك، بتخفيف الهمز: انهضم في بطنك وأراحك ونفعك، فإذا انفرد الثاني قلت: أمراك الطعام، وتخفيف الهمزة بقبلها ألفا: صرفه كما هنا شاذ، وقياس تخفيفها في مثل هذا جعلها بين بين لعدم سكون ما قبلها.(3/49)
على المسميين، والله أعلم بصحة ما يقال: إن «طاها» في لغة عك «1» في معنى يا رجل، ولعل عكا تصرفوا في «يا هذا» كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في «يا» : «طا» ، واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:
إنّ السّفاهة طاها في خلائقكم ... لا قدّس الله أخلاق الملاعين «2»
والأقوال الثلاثة في الفواتح: أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون ما أَنْزَلْنا إن جعلت طه تعديدا لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ، والْقُرْآنَ ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ: ما نزل عليك القرآن لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل:
أشقى من رائض مهر، أى ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إنك شقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمعدت «3» قدماه، فقال له جبريل عليه السلام: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا «4» . أى: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وكل واحد من لِتَشْقى وتَذْكِرَةً علة للفعل، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى، كقوله تعالى أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ؟ قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة،
__________
(1) . قوله «في لغة عك» في الصحاح عك بن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. (ع)
(2) . السفاهة: الجهل والحمق والخفة. و «طه» في لغة عك، معناه يا هذا، فكأنهم قلبوا الياء طاء وحذفوا ذا. قال الزمخشري: ولا يخفى التصنع في البيت. والخلائق: الطبائع، ودعا عليهم بأن الله لا يطهر أرواحهم، ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة الذم والتشنيع. وقيل: للدلالة على سبب الدعاء، أى: فإنهم ملعونون، ولعل معناه: فإنهم مستحقين للعن وفاعلون سببه.
(3) . قوله «حتى اسمغدت» بالغين المعجمة، أى: تورمت. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . لم أره هكذا. وفي الدعوات الكبير للبيهقي عن عائشة قالت «لما كانت ليلة النصف من شعبان- فذكر حديثا طويلا- وفيه: فما زال يصلى قائما وقاعدا حتى أصبح وحتى اسمغدت قدماه. فقمت أغمزها- الحديث- وليس فيه كلام جبريل.(3/50)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
كالنصبة في وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وأما النصبة في تذكره فهي كالتي في ضربت زيدا، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون تَذْكِرَةً بدلا من محل لِتَشْقى؟ قلت: لا، لاختلاف الجنسين، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي «إلا» فيه بمعنى «لكن» ويحتمل أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل «1» متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوّة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له لِمَنْ يَخْشى لمن يؤول أمره إلى الخشية، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب تَنْزِيلًا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا، لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمرا، وأن ينصب بأنزلنا، لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بيخشى مفعولا به، أى: أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرىّ: تنزيل، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد تَنْزِيلًا إلى قوله لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تعظيم وتفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته. ولا يخلو من أن يكون متعلقه إما تَنْزِيلًا نفسه فيقع صلة له، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا أَنْزَلْنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين: ويجوز أن يكون أَنْزَلْنا حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه.
وصف السموات بالعلى: دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها.
[سورة طه (20) : الآيات 5 الى 6]
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
قرئ الرَّحْمنُ مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير: هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. فإن قلت: الجملة التي هي
__________
(1) . قال محمود: «ويحتمل أن يكون المعنى إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه الثاني بعد، فان فيه إثبات كون الشقاء سببا في نزوله عكس الأول وإن لم تكن اللام سببية فكانت للصيرورة مثلا ولم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن الشقاء والحزن عليهم وضيق الصدر بهم، وكان مضمون هذه الآية متباينا عن قوله تعالى فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ ولا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وأمثاله كثيرة فالظاهر والله أعلم هو التأويل الأول(3/51)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ما محلها- إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلت: إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع الرحمن خبرين للمبتدإ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤدّاه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر.
ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: هو جواد. ومنه قول الله عز وجل وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أى هو بخيل، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أى هو جواد، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام وَما تَحْتَ الثَّرى ما تحت سبع الأرضين: عن محمد بن كعب وعن السدى: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.
[سورة طه (20) : الآيات 7 الى 8]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
أى يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما أسررته في نفسك وَأَخْفى منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم: أن أخفى فعل «1» يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه، هو كقوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك، فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وإما تعليما للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر الْحُسْنى تأنيث الأحسن، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث
__________
(1) . قال محمود: «هو أفعل التفضيل، ومنهم من قال إن أخفى فعل ماض ... الخ» قال أحمد: لا يخفى أن جعله فعلا قاصر لفظا ومعنى: أما لفظا فانه يلزم منه عطف الجملة الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه الجملة الكبرى، أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الصغرى، وكلاهما دون الأحسن. وأما معنى، فان المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث أن الله تعالى يعلم السر وما هو أخفى منه، فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر. وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق وإن اشتمل على فائدة أخرى، وليس هذا كقوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لأن بين السياقين اختلافا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/52)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
كقولك: الجماعة الحسنى، ومثلها مَآرِبُ أُخْرى، ومِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 10]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)
قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب إِذْ ظرفا للحديث، لأنه حدث. أو لمضمر، أى: حين رَأى ناراً كان كيت وكيت. أو مفعولا لا ذكر استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده «1» فرأى النار عند ذلك. قيل: كانت ليلة جمعة. امْكُثُوا أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال لَعَلِّي ولم يقطع فيقول: إنى آتِيكُمْ لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس: النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل: المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها هُدىً أى قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في عَلَى النَّارِ أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: أنه لصوق بمكان يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى:
وبات على النّار النّدى والمحلّق «2»
__________
(1) . قوله «فصلد زنده» في الصحاح «صلد الزند» إذا صوت ولم يخرج نارا. (ع)
(2) .
لعمري لقد لا حت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع يخرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا تتفرق
للأعشى يمدح المحلق- بكسر اللام- سمى بذلك لأن بعيره عضه في وجهه فبقى أثر العضة مثل الحلقة، وهو من نبى عكاظ، كان فقيرا وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن، فانعزل بهن إلى بعض المهامة فنزل به الأعشى فنحر له ناقته ولم يكن عنده غيرها وأحسن قراه. فعظم عند الأعشى، فلما أصبح واستوى على راحلته قال له: ألك حاجة؟
قال: نعم، أن تسير بذكرى في بنى عكاظ، لعل أحدا يرغب في بناتي فقد مسهن العنس. فمدحه في عكاظ فلم يلبث حتى خطبت بناته. ولاحت: لمحت وتشوفت، واليفاع: المشرف من الأرض. يخرق: أى يخترق ذلك الضوء وينتشر في الأرض. ويروى: تحرق، بالحاء المهملة، والضمير للنار. وتشب. منى للمجهول، يقال: شبيت النار أشبها شبا وشبوبا: أو قدتها. والمقروران: اللذان أصابهما القر أي البرد، وأراد بهما الندى والمحلق، يعنى أنه هو وكرمه ملازمان لنار القرى ملازمة المقرور لنار التدفؤ، وبين ذلك بقوله: وبات على النار الندى والمحلق.
ويجوز أن الأعشى أراد نفسه والمحلق، لكل الأول أوقع في المدح. ومعنى كونهما عليها: أنهما على جانبيها ولأن المتدفئ يكون أعلى منها بحيث يمد يده فوقها. وعطف المحلق على الندى دلالة على أنهما متلازمان متقارنان، وبين ذلك بقوله: رضيعي لبان، وهو حال منهما، شبههما بالتوأمين دلالة على غاية التلازم حتى في الرحم بل وقبله.
واللبان: لبن المرأة خاصة، وهو مضاف إلى ثدي أم، وتنوينها للافراد وإضافته له لأنه منه. ويجوز تنوينه.
فثدى: بدل منه. والأسحم: الأسود الداجي المظلم، أى تحالفا كما هو رواية أيضا في ليل مظلم. أو في الرحم المظلم.
وعوض: ظرف مستقبل، نصب بما بعده. لا نتفرق: جواب التحالف، وكى بذلك كله عن شدة التلازم بينه وبين الكرم.(3/53)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
[سورة طه (20) : الآيات 11 الى 14]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
قرأ أبو عمرو وابن كثير إِنِّي بالفتح، أى: نودي بأنى أَنَا رَبُّكَ وكسر الباقون، أى:
نودي فقيل يا موسى. أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في إِنِّي أَنَا رَبُّكَ لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روى أنه لما نودي يا مُوسى قال:
من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وأن إبليس وسوس إليه فقال: لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأنى أسمعه من جميع جهاتى الست، وأسمعه بجميع أعضائى. وروى أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد «1» ، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وبهت، فألقيت عليه السكينة ثم نودي، وكانت الشجرة عوسجة. وروى: كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت.
وعن ابن إسحاق: لما دنا استأخرت عنه، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم. قيل: أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير
__________
(1) . قوله «كأنها نار بيضاء تتقد ... الخ» عبارة الخازن «أطافت بها نار ... الخ» وعبارة النسفي بدل قوله «رأى شجرة ... الخ» : «وجد نارا بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها وكانت شجرة العناب أو العوسج» (ع) [.....](3/54)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
مدبوغ «1» عن السدى وقتادة. وقيل: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل: لأن الحفوة تواضع لله، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلا تصدق، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها. وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي طُوىً بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة. وقيل: مرتين، نحو ثنى «2» ، أى نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة. وقرأ حمزة: وإنا اخترناك.
لِما يُوحى للذي يوحى. أو للوحى. تعلق اللام باستمع، أو باخترتك لِذِكْرِي لتذكرني فإن ذكرى أن أعبد ويصلى لي. أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. أو:
لأنى ذكرتها في الكتب وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق.
أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وطلب وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، كما قال لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة، كقوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً واللام مثلها في قولك: جئتك لوقت كذا، وكان ذلك لست ليال خلون. وقوله تعالى يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه السلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها «3» » وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكرها» ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله. أو بتقدير حذف المضاف، أى: لذكر صلاتي. أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذكرى.
[سورة طه (20) : آية 15]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)
__________
(1) . لم أره هكذا وفي الترمذي والحاكم عن عبد الله بن مسعود رفعه «يوم كلم الله موسى كان عليه جبة صوف ونعلان من جلد حمار ميت غير ذكى» .
(2) . قوله «وقيل مرتين نحو ثنى» في الصحاح: وقال يعنى بعضهم في قوله تعالى بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً طوى مرتين، أى قدس. وفيه أيضا «الثني» مقصور: الأمر يعاد مرتين اه، فلعل أصل عبارته أيضا: وقيل طوى مرتين يعنى قدس وطهر مرتين. وظاهر العبارة أن طوى مثل ثنى بمعنى مرتين، أى: نودي موسى مرتين، أو قدس الوادي مرتين فهو منصوب بنودى أو بالمقدس. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة النوم عن الصلاة. وفي آخره: من نسى صلاة فليصلها إذا اذكرها فان الله تعالى قال أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وفي رواية «لذكرى» وهو أيضا متفق عليه من حديث أنس مرفوعا بلفظ «من نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» زاد البخاري في رواية «أقم الصلاة لذكرى» .(3/55)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
أى أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية «1» لفرط إرادتى إخفاءها ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غرهم منه أن في مصحف أبى: أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير: أخفيها بالفتح، من خفاه إذا أظهره، أى: قرب إظهارها كقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقد جاء في بعض اللغات: أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس:
فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد «2»
فأكاد أخفيها محتمل للمعنيين لِتُجْزى متعلق بآية بِما تَسْعى بسعيها.
[سورة طه (20) : آية 16]
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
أى: لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن قلت: العبارة لنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب، كقولهم: لا أرينك هاهنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب، كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم «3» ، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، يعنى: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير
__________
(1) . قال محمود: «معناه قاربت أن لا أقول هي آتية ... الخ» قال أحمد: ولا يقنع في رد هذا التأويل بالهوينا، فانه بين الفساد، وذلك أن خفاءها عن الله تعالى محال عقلا، فكيف يوصف المحال العقلي بقرب الوقوع.
وأحسن ما في محامل الآية ما ذكره الأستاذ أبو على حيث قال: المراد أكاد أزيل خفاءها، أى: أظهرها، إذ الخفاء الغطاء، وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق ثيابها يسترها، ثم تقول العرب: أخفيته، إذا أزلت خفاءه، كما تقول أشكيته وأعتبته، إذا أزلت شكايته وعتبه، وحينئذ يلتئم القراءتان: أعنى فتح الهمزة وضمها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . يقال: خفاه، إذا كتمه. وخفاه أيضا: أظهره، وماهنا منه. والمعنى: إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها. شبه الضغينة والعداوة بالداء بجامع نشأة الضرر عن كل على طريق التصريحية.
وشبه الحرب بحيوان على طريق المكنية، والبعث تخييل. أو استعمل البعث في التسبب مجازا مرسلا أو استعارة تصريحية. والمعنى: وإن تظهروا البغضاء وتوقدوا الهيجاء نغلبكم كما تعلمون منا.
(3) . قوله «صليب المعجم» في الصحاح عجمت العود: إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره. ورجل صلب المعجم:
إذا كان عزيز النفس. (ع)(3/56)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه، لا البرهان وتدبره. وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله.
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 18]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى كقوله تعالى وَهذا بَعْلِي شَيْخاً في انتصاب الحال بمعنى الإشارة: ويجوز أن تكون تِلْكَ اسما موصولا صلته بِيَمِينِكَ إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة «1» وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزرّاد زبرة من حديد ويقول لك: ما هي؟ فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبى إسحاق: عصىّ، على لغة هذيل.
ومثله يا بُشْرى أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه، فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة وقرأ الحسن عَصايَ بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وهو مثل قراءة حمزة بِمُصْرِخِيَّ وعن ابن أبى إسحاق: سكون الياء أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة «2» . هش الورق: خبطه، أى: أخبطه على رؤس غنمي تأكله. وعن لقمان ابن عاد: أكلت حقا وابن لبون وجذع. وهشة نخب وسيلا دفع، والحمد لله من غير شبع، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب: واد قريب من الطائف كثير السدر. وفي قراءة النخعي: أهش، وكلاهما من هش الخبز يهش: إذا كان ينكسر لهشاشته. وعن عكرمة: أهس بالسين، أى: أنحى عليها زاجرا لها. والهس: زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه. ويجوز أن يريد عزّ وجلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة، كأنه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل
__________
(1) . قوله «حية نضناضة» أى تحرك لسانها في فمها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «الطفرة» أى الوثبة. (ع)(3/57)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
بشأنها، وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته. وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه، وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل، وقالوا: اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب: كانت ذات شعبتين ومحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين «1» على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظلّ وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا، وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه، ويركزها فينبع الماء، فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام.
[سورة طه (20) : الآيات 19 الى 20]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20)
السعى: المشي بسرعة وخفة حركة. فإن قلت: كيف ذكرت بألفاظ مختلفة: بالحية، والجان، والثعبان؟ قلت: أمّا الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير. وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف، لأنّ الثعبان العظيم من الحيات، والجان الدقيق. وفي ذلك وجهان:
أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا، فأريد يا لجان أوّل حالها، وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. والدليل عليه قوله تعالى: فلما رآها تهترّ كأنها جانّ. وقيل كان لها عرف كعرف الفرس. وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعا.
[سورة طه (20) : آية 21]
قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر. وعن بعضهم: إنما خافها لأنه عرف ما لفي آدم منها. وقيل: لما قال له ربه لا تَخَفْ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها. السيرة من السير: كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأوّلين، فيجوز أن ينتصب على الظرف، أى: سنعيدها في طريقتها الأولى، أى: في حال ما كانت عصا، وأن يكون. أعاد» منقولا من «عاده» بمعنى عاد
__________
(1) . قوله «عرض الزندين» في الصحاح «الزند» العود الذي بقدح به النار وهو الأعلى والزند السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعا قيل زندان ولم يقل زندتان، والجمع زناد وأزند وأزناد. ح(3/58)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
إليه. ومنه بيت زهير:
وعادك أن تلاقيها عداء «1»
فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث حسن: وهو أن يكون سَنُعِيدُها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أوّل ما أنشئت عصا، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أوّلا. ونصب سيرتها بفعل مضمر، أى: تسير سيرتها الأولى: يعنى سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.
[سورة طه (20) : الآيات 22 الى 23]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
قيل لكل ناحيتين: جناحان، كجناحى العسكر لمجنبتيه، وجناحا الإنسان: جنباه، والأصل المستعار منه جناحا الطائر. سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران. والمراد إلى جنبك تحت العضد، دل على ذلك قوله تَخْرُجْ. السوء: الرداءة والقبح في كل شيء، فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكان جذيمة صاحب الزباء «2» أبرص فكنوا عنه بالأبرش «3» والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.
يروى أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشى البصر.
بَيْضاءَ وآيَةً حالان معا. ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ من صلة لبيضاء، كما تقول ابيضت من غير سوء، وفي نصب آيَةً وجه آخر، وهو أن يكون بإضمار نحو: خذ، ودونك، وما أشبه
__________
(1) .
فصرم حبلها إذ صرمته ... وعادك أن تلاقيها عداء
لزهير. أى: اقطع مودتها حيث قطعت مودتك، شبه المودة بالحبل على طريق الاستعارة التصريحية، والتصريم ترشيح وتقوية للتشبيه. وعادك: يحتمل أنه من عاد إذا رجع، فالمعنى: رجعك وردك، يحتمل أنه مقلوب من عداه إذا صرفه، كما في «ناء» مقلوب «نأى» فالمعنى صرفك. قال أبو عمير: وعادك بمعنى شغلك. وقال الأصمعى:
بمعنى: عاد إليك، وبمعنى صرفك. ومن المعلوم أن الفعل إذا كان لازما تعدى بالهمزة إلى المفعول قياسا، وإذا تعدى بنفسه إلى مفعول واحد تعدى بدخول الهمزة عليه إلى مفعولين. واختلف هل هو قياس أو سماعي؟
وأعاد منه، فيجري فيه ما ذكر. وأما تعديته إلى أن تلاقيها أيضا فهو بإسقاط الخافض توسعا. والعداء: الشغل أو البعد: ويطلق على الجور، من عدا عليه. قال الجوهري: العداء- بالفتح- الظلم، ويجوز كسره بمعنى المانع، لأن العداء هو ما يعدى به أى يصرف به. كاللواذ لما يلاذ به. والرباط لما يربط به. والمعنى: اقطع مودتها حيث قطعت مودتك. وصرفك عن ملاقاتها صارف عظيم، ونسبة الصرف إليه مجاز عقلى من قبيل الاسناد إلى السبب أو الآلة.
ويحتمل أن أصله «عدا» بالكسر والقصر جمع عدو. فمد للضرورة، أى: منعك الأعداء عن لقائها فالاسناد حقيقى
(2) . قوله «وكان جذيمة صاحب الزباء» جذيمة ملك الحيرة والزباء ملكة الجزيرة كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فكنوا عنه بالأبرش» في الصحاح البرش في الفرس نقط صغار تخالف سائر لونه والفرس أبرش. (ع)(3/59)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
ذلك، حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف لِنُرِيَكَ أى خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصاحية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا.
أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك.
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش «1» رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت: لِي في قوله اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ما جدواه «2» والكلام بدونه مستتب «3» ؟ قلت:
قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمرى على الإيضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال
__________
(1) . قوله «ذو جأش» في الصحاح يقال فلان رابط الجأش أى يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة لي والكلام مستتب بدونها.. الخ، قال أحمد: ويحتمل عندي والله أعلم أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر راجعة إليه وعائدة عليه، فان الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره، تعالى وتقدس، على خلاف رسول الملك إذا طلب منه أن يريح عليه فإنما يطلب منه ما يعود نفعه على مرسله، ويحصل له غرضه من رسالته، والله أعلم. [.....]
(3) . قوله «مستتب» في الصحاح: استتب الأمر تهيأ واستقام. (ع)(3/60)
والتفصيل. عن ابن عباس: كان في لسانه رتة «1» لما روى من حديث الجمرة «2» . ويروى أن يده احترقت، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ، ولما دعاه قال: إلى أى رب تدعوني؟ قال:
إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة. واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل: ذهب بعضها وبقي بعضها، لقوله تعالى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وقوله تعالى وَلا يَكادُ يُبِينُ وكان في لسان الحسين بن على رضى الله عنهما رتة «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ورثها من عمه موسى. وقيل: زالت بكمالها لقوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وفي تنكير العقدة- وإن لم يقل عقدة لساني-: أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا، ولم يطلب الفصاحة الكاملة. ومِنْ لِسانِي صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني.
الوزير من الوزر، لأنه يتحمل عن الملك أو زاره ومؤنة. أو من الوزر «4» ، لأن الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره. أو من المؤازرة وهي المعاونة. عن الأصمعى قال: وكان القياس أزيرا، فقلبت الهمزة إلى الواو، ووجه قلبها أنّ فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيئا صالحا، كقولهم: عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظرا إلى يوازر وأخواته، وإلى الموازرة. وَزِيراً وهارُونَ مفعولا قوله اجْعَلْ قدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة. أو لِي وَزِيراً مفعولاه، وهرون عطف بيان للوزير. وأَخِي في الوجهين بدل من هرون، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن.
قرءوا جميعا اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ على الدعاء. وابن عامر وحده: اشدد. وأشركه، على الجواب.
__________
(1) . قوله «كان في لسانه رتة» في الصحاح «الرتة» بالضم: العجمة في الكلام. وحديث الجمرة: أن موسى كان يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب، فضرب به رأسه، فغضب وهمّ بقتله، فقالت له امرأته. إنه صبى لا يعقل وجربه إن شئت، فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر، فمد موسى يده إلى الجوهر، فحولها جبريل إلى الجمر فوضع جمرة في فمه فاحترق لسانه. (ع)
(2) . لم أره هكذا، وإنما وقع في حديث القنوت الطويل الذي أخرجه النسائي وغيره من طريق القاسم بن أبى أيوب عن سعيد بن جبير «سألت ابن عباس رضى الله عنهما عن قوله تعالى وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً- فذكره بطوله في أربع ورقات- فذكر فيه قصة آسية وفرعون. وقولها: قرب إليه جمرتين ولؤلؤتين وأنه أخذ الجمرتين فانتزعتهما منه مخافة أن يحرقا يده. وهذا يدل على أنه لم يرفعهما إلى فيه. وهو أصح ما ورد في ذلك. وروى الحاكم من طريق وهب بن منبه فذكر قصة وفيها قالت: جربه. إن شئت اجعل في هذا جمرة وذهبا فانظر أيهما يقبض. قال: فأخذ الجمرة وألقاها في فيه ثم قذفها حين وجد حرارتها» ويقال: إن العقدة التي كانت في لسان موسى من أثر تلك الجمرة التي التقمها.
(3) . لم أجده.
(4) . قوله «الوزير من الوزر» أى الثقل. وقوله «أو من الوزر» أى الملجأ. أفاده الصحاح. (ع)(3/61)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
وفي مصحف ابن مسعود: أخى واشدد. وعن أبى بن كعب: أشركه في أمرى، واشدد به أزرى.
ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر: أن يجعل أَخِي مرفوعا على الابتداء: واشْدُدْ بِهِ خبره، ويوقف على هارُونَ. الأزر: القوة. وأزره: قواه، أى: اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك، فإن التعاون- لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أى عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا، وأن هرون نعم المعين والشادّ لعضدى، بأنه أكبر منى سنا وأفصح لسانا.
[سورة طه (20) : آية 36]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)
السؤل: الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك: خبز، بمعنى مخبوز. وأكل، بمعنى مأكول.
[سورة طه (20) : الآيات 37 الى 39]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
الوحى إلى أم موسى: إما أن يكون على لسان نبىّ في وقتها، كقوله تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة، كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه. أو يلهمها كقوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أى أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحى ولا يخل به، أى: هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم، مثله يحق بأن يوحى «أن» هي المفسرة لأن الوحى بمعنى القول. القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع. ومنه قوله تعالى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وكذلك الرمي قال:
غلام رماه الله بالحسن يافعا «1»
__________
(1) .
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالى فواسى وما هجر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداء سابغ الذيل واتزر
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرا وفي خده القمر
لأسيد بن عنقاء الفزاري، كان من أكبر أهل زمانه وأعلمهم بالأدب، فطال به عمره ونكبه دهره، فلقيه عميلة الفزاري فسلم عليه وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: يخل مثلك بماله، وصون وجهى عن مسألة الناس.
فقال: لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما بك، فلما كان وقت السحر سمع رغاء الإبل وصهيل الخيل تحت الأموال. فقال:
ما هذا؟ قالوا عميلة شطر ماله بينك وبينه، فأنشأ يقول ذلك، وشبه ماله بعاقر على طريق المكنية. والشكوى إليه تخييل. وضمير: واسى، بمعنى أعطى لعميلة. ويجوز أنه للمال، بناء على التشبيه السابق. وثياب المجد مجاز عن المكارم والإحسان على طريق التصريح، واستعارتها ترشيح. ومعناه أخذها من أربابها وذهابها من أصحابها، وذلك كله كناية عن يخل ذوى الأموال. وسابغ الذيل: طويله. واتزر: لبس الإزار. ويقرأ بتشديد التاء. ويجوز فتحها مع همرة ساكنة قبلها على الأصل والمجاز كما تقدم. وذلك كناية عن كثرة جوده. ويجوز أن المعنى لما رأى الناس تفتخر بمفاخر غيرهم فقط صنع هو المكارم بنفسه لنفسه، ورماه الله بالحسن: وضعه فيه بكثرة، كأنه قذفه فيه بغير حساب. واليافع: الشاب وهو حال. والسيمياء: العلامة لا تشق على البصر كناية عن ظهورها فلا تحتاج إلى تأمل، كظهور الكواكب. والنحر: أعلى الصدر وأسفل العنق. والشعرا: نجم كثير الضوء. والبيت الثاني بيان للأول. وروى «حباء الله» وروى «علقت في جبينه» وروى: «وفي جيده القمر» وحباه: أعطاه. والجيد:
العنق، وهذه الرواية أقعد.(3/62)
أى حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى. ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت: فيه هجنة، لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت، وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت: المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن. والقانون الذي وقع عليه التحدّى، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وجصصته وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون تهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح، فإذا صبى أصبح الناس وجها، فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، لأنّ الماء يسحله أى يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة مِنِّي لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت، فيكون المعنى على: أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أى: محبة حاصلة أو واقعة منى، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.
روى أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصير عنه من رآه عَلى عَيْنِي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع: اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتي. ولتصنع:
معطوف على علة مضمرة، مثل: ليتعطف عليك وترأم «1» ونحوه. أو حذف معلله، أى:
__________
(1) . قوله «وترأم» أى تحب وتؤلف. أفاده الصحاح. (ع)(3/63)